دمعة وابتسامة (1914)/جمال الموت


جمال الموت

***
مرفوعة الى .M. E. H

دعوني انم، فقد سكرت نفسي بالمحبة.

دعوني ارقد، فقد شبعت روحي من الأيام والليالي. اشعلوا الشموع واوقدوا المباخر حول مضجعي، وانثروا أوراق الورد والنرجس على جسدي، وعفروا بالمسك المسحوق شعري وأهرقوا الطيوب على قدمي ثم انظروا واقرأوا ما تخطه يد الموت على جبهتي ·

خلوني غارقا بين ذراعي الكرى، فقد تعبت اجفاني من هذه اليقظة.

اضربوا على القيثارات ودعوا رنات أوتارها الفضية تتمايل في مسامعي.

انفخوا الشبابات والنايات وحيكوا من انغامها العذبة نقابا حول قلبي المتسارع نحو الوقوف.

ترنموا بالأغاني الرهاويّة وابسطوا من معانيها السحرية فراشاً لعواطفي ثم تأملوا وانظر واشعاع الامل في عيني".

امسحوا الدموع يا رفاقي، ثم ارفعوا رؤوسكم مثلا ترفع الازهار تيجانهـا عند قدوم الفجر وانظروا عروسة الموت منتصبة كعمود النور بين مضجعي والفضـاء...

امسكوا انفاسكم واصغوا هنيهة واسمعوا معي حفيف اجنحتها البيضاء.

تعالوا ودعوني يا بني أمي ! قبلوا جبهتي بشفـاه مبتسمة. قبلوا شفتي بأجفانكم وقبلوا اجفاني بشفاهكم.

قربوا الأطفال الى فراشي ودعوهم يلامسوا عنقي بأصابعهم الوردية الناعمة. قربوا الشيوخ ليباركوا جبهتي بأيديهم الذابلة المتجمدة. دعوا بنات الحي يقتر بن وينظرن خيال الله في عيني ويسمعن صدى نغمة الأبدية متسارعة مع أنفاسي.

(الانفصال)

ها قد بلغت قمة الجبل فسبحت روحي ف فضاء الحرية والانعتاق.

قد صرت بعيداً بعيداً يا بني امي، فانحجبت عن بصيرتي جبهات الطلول وراء الضباب، وغمرت خلايا الاودية بحر السكون، وامحت السبل والمرات بأكف النسيان، وتوارت المروج والغابات والعقبات وراء اشباح بيضاء كغيوم الربيع، وصفراء كشعاع الشمس، وحمراء كوشاح المساء.

قد تضعضعت أغاني أمواج البحر واضمحلت ترنيمة السواقي في الحقول وسكنت الأصوات المتصاعدة من جوانب الاجتماع، فلم اعد اسمع سوى انشودة الخلود متألفة مع اميال الروح.

( الراحة )

اخلعوا نسيج الكتان عن جسدي وكفنوني بأوراق الفل والزنبق ·

انتشلوا بقاياي من تابوت العاج ومددوها على وسائد من زهر البرتقال والليمون. لا تندبوني يا بني امي، بل انشدوا اغنية الشباب والغبطة. لا تذرفي الدموع يا ابنة الحقول، بل ترنمي بموشحات أيام الحصاد والعصير ·

لا تغمر واصدري بالتأوه والتنهيد، بل ارسموا عليه بأصابعكم رمز المحبة ووسم الفرح.

لا تزعجوا راحة الاثير بالتعزيم والتكهين، بل دعوا قلوبكم تتهلل معي بتسبيحة البقاء والخلود.

لا تلبسوا السواد حزنا علي، بل تردوا بالبياض فرحا معي.

ولا تتكلموا عن ذهابي بالغصات، بل اغمضوا عيونكم تروني بينكم الان وغداً و بعده.

مددوني على اغصان مورقة وارفعوني على الاكتاف وسيروا بي ببطيء الى البرية الخالية.

لا تحملوني الى الجبانة، لان الزحام يزعج راحتي، وقضقضة العظام والجماجم تسلب سكينة رقادي·

احملوني الى غابة السرو واحفروا لي قبرا سيف تلك البقعة حيث ينبت البنفسج بجوار الشقيق.

احفروا قبراً عميقا كيلا تجرف السيول عظامي الى الوادي.

احفروا قبراً وسيعا لكي تجي اشباح الليل وتجلس بجانبي اخلعوا هذه الاثواب ودلوني عاريا الى قلب الأرض.

مددوني ببطء وهدو على صدر امي.

اغمروني بالتراب الناعم والقوا مع كل حفنة قبضة من بذور السوسن والياسمين والنسرين فتنبت على قبري ممتصة عناصر جسدي، وتنمو ناشرة في الهواء رائحة قلبي، وتتعالى رافعة في وجه الشمس سرائر راحتي، وتتمايل مع النسيم مذكرة عابر الطريق بماضي اميالي واحلامي.

اتركوني الآن يا بني امي – أتركوني وحدي وسيروا بأقدام خرساء مثلما تسير السكينة في الاودية الخالية·

دعوني وحدي وتفرقوا عني بهدوء مثلما تتفرق از اهر اللوز والتفاح عندما تنثرها انفاس نيسان.

ارجعوا إلى منازلكم فتجدوا هناك ما لم يستطع الموت ان يأخذه مني ومنكم.

اتركوا هذا المكان، فالذي تطلبونه صار بعيداً بعيداً عن هذا العالم....