دمعة وابتسامة (1914)/مناجاة أرواح



مناجاة ارواح


***

استيقظي يا حبيبتي! استيقظي لان روحي تناديك من وراء الابحار الهائلة، ونفسي تمد جنحيها نحوك فوق الامواج المزبدة الغضوبة. استيقظي، فقد سكنت الحركة واوقف الهدوء ضجة سنابك الخيل ووقع اقدام العابرين وعانق النوم ارواح البشر، فبقيت وحدي مستيقظاً، لان الشوق ينتشلني كلما اغرقني النعاس، والمحبة تدنيني اليك عندما تقصيني الهواجس. قد تركت مضجعي يا حبيبتي خوفاً من خيالات السلو المختبئة بين طيات اللحف ورميت بالكتاب، لان تأوهي قد اباد السطور من صفحاته، فأصبحت خالية بيضاء امام عيني. استيقظي! استيقظي يا حبيبتي واسمعيني. - هاءنذا يا حبيبي! قد سمعت نداءك من ورآء الابحار وشعرت بملامس جناحيك فانتبهت وتركت مخدعي وسرت على الاعشاب، فتبلت قدماي واطراف ثوبي من ندى الليل. ها انا واقفة تحت اغصان اللوز المزهرة اسمع نداء نفسك يا حبيبي!

ـ تكلمي يا حبيبتي! ودعي انفاسك تسيل مع الهواء القادم نحوي من اودية لبنان. تكلمي، فلا سامع غيري، لان الظلمة قد دحرت جميع المخلوقات الى أوكارها، والنعاس اسكر سكان المدينة وبقيت وحدي صاحياً

***

- قد نسجت السماء نقاباً من اشعة القمر والقته على جسد لبنان يا حبيبي!

- قد حاكت السماء من ظلمة الليل رداءً كثيفاً مبطناً بدخان المعامل وانفاس الموت وسترت بهِ اضلع المدينة يا حبيبتي!

***

- قد رقد سكان القرى بن اكواخهم القائمة بين اشجار الجوز والصفصاف وتسابقت نفوسهم نحو مراسح الاحلام يا حبيبي!

- قد اناخت احمال الذهب قامات البشر، واوهنت عقبات المطامع ركبهم، واثقلت المتاعب اجفانهم، فارتموا على الفرش واشباح الخوف والقنوط تعذب قلوبهم يا حبيبتي

***

- قد سرت في الأودية خيالات الاجيال الغابرة، وحامت على الروابي ارواح الملوك والانبياء، فانثنت فكرتي نحو مسارح الذكرى وارتني عظائم الكلدانيين ونفخامة الاشوريين ونبالة العرب - قد سرت في الازقة أرواح اللصوص القاتمة، وظهرت من بين شقوق النوافذ رؤُوس افاعي الشهوات، وجرت في منعطفات الشوارع انفاس الأمراض ممزوجة بلهاث المنايا، فازاحت الذكرى ستائر النسيان وارتني مكاره صادوم واثام عاموره

***

- قد تمايلت الاغصان يا حبيبي وتحالف حفيفها مع خرير ساقية الوادي ورددت على مسامعي نشيد سليمان ورنات قيثارة داود واغاني الموصلي

- قد ارتعشت نفوس اطفال الحي واقلقهم الجوع، وتسارعت تنهدات الامهات المضطجعات على اسرة الهم واليأْس، واراعت احلام العوز قلوب الرجال المقعدين، فسمعت نواحاً مرّاً وزفيراً متقطعاً يملأ الضلوع ندباً ورثاءً

***
- قد فاحت روائح النرجس والزنبق وعانقت عطر

الياسمين والبيلسان ثم تمازجت بانفاس الارز الطيبة وسرت مع تموجات النسيم فوق الطلول المتشعبة والممرات الملتوية، فملأت النفس انعطافاً ومنحتها حنيناً الى الطيران

- قد تصاعدت روائح الازقة الكريهة واختمرت بجراثيم العلل، ومثل اسهم دقيقة خافية قد خدشت الحس وسممت الهواء

****

- ها قد جاء الصباح يا حبيبي وداعبت اصابع اليقظة اجفان النيام وفاضت الاشعة البنفسجية من وراء الجبل وازالت غشاء الليل عن عزم الحياة ومجدها، فاستفاقت القرى المتكئة بهدوء وسكينة على كتفي الوادي وترنمت اجراس الكنائس وملأت الاثير نداءً مستحباً معلنة بدء صلاة الصباح، فارجعت الكهوف صدى رنينها، كأن الطبيعة باسرها قامت مصلية. قد غادرت العجول مرابضها وتركت قطعان الغنم والماعز حظائرها وانثنت نحو الحقول ترتعي رؤُوس الاعشاب المتلمعة بقطر الندى ومشى امامها الرعاة ينفخون الشبابات ووراءها الصبايا المتأهلات مع العصافير بقدوم الصباح

- قد جاء الصباح يا حبيبتي وانبسطت فوق المنازل المكردسة اكف النهار الثقيلة، فازيحت الستائر عن النوافذ وانفتحت مصاريع الابواب، فبانت الوجوه الكالحة والعيون المعروكة، وذهب التعساء الى المعامل وداخل اجسادهم يقطن الموت في جوار الحياة، وعلى ملامحهم المنقبضة قد بان ظل القنوط والخوف، كأنهم منقادون قهراً الى عراك هائل مهلك. ها قد غصت الشوارع بالمسرعين الطامعين وامتلأ الفضاء من قلقلة الحديد ودوي الدواليب وعويل البخار واصبحت المدينة ساحة قتال يصرع فيها القوي الضعيف ويستأثر الغني الظلوم باتعاب الفقير المسكين

***

- ما اجمل الحياة ههنا يا حبيبي، فهي مثل قلب الشاعر المملوء نوراً ورقة

- ما أقسى الحياة ههنا يا حبيبتي، فهي مثل قلب المجرم المفعم بالاثم والمخاوف