► ◄  


بسم الله الرحمن الرحيم


المقدمة

عدل

بسم الله الرحمن الرحيم وبه المستعان وعليه التكلان.

الحمد لله عالم الغيب والشهادة نافذ الفضاء والإرادة المتفرد بتدبير الإنشاء والإعادة وتقدير الشقاء والسعادة خلق فريقا للإختلاف وفريقا للعبادة وقسم المنزلين بين الفريقين للذين أساءوا السوءى وللذين أحسنوا الحسنى وزيادة وصلى الله على سيدنا محمد المصطفى وآله صلاة يشرف بها معاده. أما بعد فإني أحببت أن أذكر مذهب السلف ومن اتبعهم بإحسان رحمة الله عليهم في أسماء الله تعالى وصفاته ليسلك سبيلهم من أحب الإقتداء بهم والكون معهم في الدار الآخرة إذا كان كل تابع في الدنيا مع متبوعه في الآخرة وسالك حيث سلك موعودا بما وعد به متبوعه من خير وشر دل على هذا قوله تعالى {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} [التوبة 100] وقوله سبحانه {والذين آمنوا واتبعهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} [الطور 21] وقال حاكيا عن إبراهيم عليه السلام {فمن تبعني فإنه مني} [إبراهيم 36] وقال في ضد ذلك {من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى} [النساء 115] وقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم} [المائدة 51] وقال {فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار} [هود 97 98] فجعلهم أتباعا له في الآخرة إلى النار حين اتبعوه في الدنيا. وجاء في الخبر أن الله يمثل لكل قوم ما كانوا يعبدون في الدنيا من حجر أو شجر أو شمس أو قمر أو غير ذلك ثم يقول أليس عدلا مني أن أولي كل إنسان ما يتولاه في الدنيا ثم يقول لتتبع كل أمة ما كانت تعبد في الدنيا فيتبعونهم حتى يهوونهم في النار. فكذلك كل من اتبع إماما في الدنيا في سنة أو بدعة أو خير أو شر كان معه في الآخرة فمن أحب الكون مع السلف في الآخرة وأن يكون موعودأ بما وعدوا به من الجنات والرضوان فليتبعهم بإحسان ومن اتبع غير سبيلهم دخل في عموم قوله تعالى {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى} الآية [النساء 115].

وجعلت هذا الكتاب على ثلاثة أبواب:

  • الباب الأول في بيان مذهبهم وسبيلهم.
  • والثاني في الحث على اتباعهم ولزوم أثرهم.
  • والثالث في بيان صواب ما صاروا إليه وأن الحق فيما كانوا عليه.

ونسأل الله تعالى أن يهدينا وسائر المسلمين إلى صراطه المستقيم ويجعلنا وإياهم من ورثة جنة النعيم برحمته آمين

في بيان مذهبهم في صفات الله تعالى

عدل

ومذهب السلف رحمة الله عليهم الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه التي وصف بها نفسه في آياته وتنزيله أو على لسان رسوله من غير زيادة عليها ولا نقص منها ولا تجاوز لها ولا تفسير ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها ولا تشبيه بصفات المخلوقين ولا سمات المحدثين بل أمروها كما جاءت وردوا علمها إلى قائلها ومعناها إلى المتكلم بها.

وقال بعضهم ويروى ذلك عن الشافعي رحمة الله عليه آمنت بما جاء عن الله على مراد الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله . وعلموا أن المتكلم بها صادق لا شك في صدقه فصدقوه ولم يعلموا حقيقة معناها فسكتوا عما لم يعلموه وأخذ ذلك الآخر والأول ووصى بعضهم بعضا بحسن الإتباع والوقوف حيث وقف أولهم وحذروا من التجاوز لهم والعدول عن طريقهم وبينوا لهم سبيلهم ومذهبهم و نرجوا أن يجعلنا الله تعالى ممن اقتدى بهم في بيان ما بينوه وسلوك الطريق الذي سلكوه.

والدليل على أن مذهبهم ما ذكرناه أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم وأخبار الرسول نقل مصدق لها مؤمن بها قابل لها غير مرتاب فيها ولا شاك في صدق قائلها ولم يفسروا ما يتعلق بالصفات منها ولا تأولوه ولا شبهوه بصفات المخلوقين إذ لو فعلوا شيئا من ذلك لنقل عنهم ولم يجز أن يكتم بالكلية إذ لا يجوز التواطؤ على كتمان ما يحتاج إلى نقله ومعرفته لجريان ذلك في القبح مجرى التواطؤ على نقل الكذب وفعل ما لا يحل بل بلغ من مبالغتهم في السكوت عن هذا إنهم كانوا إذا رأوا من يسأل عن المتشابه بالغوا في كفه تارة بالقول العنيف وتارة بالضرب وتارة بالإعراض الدال على شدة الكراهة لمسألته.

ولذلك لما بلغ عمرا رضي الله عنه أن صبيغا يسأل عن المتشابه أعد له عراجين النخل فبينما عمر يخطب قام فسأله عن {الذاريات ذروا فالحاملات وقرا} [الذاريات 12] وما بعدها فنزل عمر فقال ما اسمك قال أنا عبد الله صبيغ قال عمر وأنا عبد الله عمر إكشف رأسك فكشفه فرأى عليه شعرا فقال له لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك بالسيف ثم أمر فضرب ضربا شديدا وبعث به إلى البصرة وأمرهم أن لا يجالسوه فكان بها كالبعير الأجرب لا يأتي مجلسا إلا قالوا عزمة أمير المؤمنين فتفرقوا عنه حتى تاب وحلف بالله ما بقي يجد مما كان في نفسه شيئا فأذن عمر في مجالسته فلما خرجت الخوارج أتي فقيل له هذا وقتك فقال لا نفعتني موعظة العبد الصالح.

ولما سئل مالك بن أنس رضي الله عنه فقيل له يا أبا عبد الله {الرحمن على العرش استوى} [طه 5] كيف استوى؟ فأطرق مالك وعلاه الرحضاء يعني العرق وانتظر القوم ما يجئ منه فيه فرفع رأسه إليه وقال الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وأحسبك رجل سوء وأمر به فأخرج. وقد نقل عن جماعة منهم الأمر بالكف عن الكلام في هذا وإمرار أخبار الصفات كما جاءت ونقل جماعة من الأئمة أن مذهبهم مثل ما حكينا عنهم.

أخبرنا الشيخ أبو بكر عبد الله بن محمد بن أحمد النقور أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي بن الحسن الطريثيثي إذنا قال أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحسن الطبري قال أنبأنا أحمد بن محمد بن حفص أنبأنا أحمد بن محمد بن المسلمة حدثنا سهل بن عثمان بن سهل قال سمعت إبراهيم بن المهتدي يقول سمعت داود بن طلحة يقول سمعت عبد الله بن أبي حنيفة الدوسي يقول سمعت محمد بن الحسن يقول اتفق الفقهاء كلهم من الشرق إلى الغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله في صفة الرب تعالى من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه فمن فسر شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي وفارق الجماعة فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا ولكن آمنوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة لأنه وصفه بصفة لا شيء.

وقال محمد بن الحسن في الأحاديث التي جاءت إن الله يهبط إلى السماء الدنيا ونحو هذا من الأحاديث إن هذه الأحاديث قد روتها الثقات فنحن نرويها ونؤمن بها ولا نفسرها.

أخبرنا المبارك بن علي الصيرفي إذنا أنبأنا أبو الحسن محمد بن مرزوق ابن عبد الرازق الزعفراني أنبأنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الطيب قال أما الكلام في الصفات فإن ما روي منها في السنن الصحاح مذهب السلف رضي الله عنهم إثباتها وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله فإذا كان معلوما أن إثبات رب العالمين تعالى إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف فإذا قلنا لله تعالى يد وسمع وبصر فإنما هو إثبات صفات أثبتها الله تعالى لنفسه ولا نقول إن معنى اليد القدرة ولا أن معنى السمع والبصر العلم ولا نقول إنها الجوارح ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات الفعل ونقول إنما ورد إثباتها لأن التوقيف ورد بها ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تبارك وتعالى {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى 11] وقوله تعالى {ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص 4].

أخبرنا محمد بن حمزة بن أبي الصقر قال أنبأنا أبو الحسن علي بن أحمد ابن منصور بن قبيس الغساني أنبأنا أبي قال قال أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني إن أصخاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة يعرفون ربهم تبارك وتعالى بصفاته التي نطق بها كتابه وتنزيله وشهد له بها رسوله على ما وردت به الأخبار الصحاح ونقله العدول الثقات ولا يعتقدون تشبيها لصفاته بصفات خلقه ولا بكيفونها تكييف المشبهة ولا يحرفون الكلم عن مواضعه تحريف المعتزلة والجهمية وقد أعاذ الله أهل السنة من التحريف والتكييف ومن عليهم بالتفهيم والتعريف حتى سلكوا سبيل التوحيد والتنزيه وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه واتبعوا قوله عز من قائل {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى 11].

وذكر الصابوني الفقهاء السبعة ومن بعدهم من الأئمة وسمى خلقا كثيرا من الأئمة وقال كلهم متفقون لم يخالف بعضهم بعضا ولم يثبت عن واحد منهم واحد منهم ما يضاد ما ذكرناه.

أخبرنا الشريف أبو العباس مسعود بن عبد الواحد بن مطر الهاشمي قال أنبأنا الحافظ أبو العلاء صاعد بن سيار الهروي أنبأنا أبو الحسن علي ابن محمد الجرجاني أنبأنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي أنبأنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي قال اعملوا رحمنا الله وإياكم أن مذهب أهل الحديث أهل السنة والجماعة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وقبول ما نطق به كتاب الله تعالى وصحت به الرواية عن رسول الله لا معدل عما ورد به ولا سبيل إلى رده إذ كانوا مأمورين باتباع الكتاب والسنة مضمونا لهم الهدى فيهما مشهودا لهم بأن نبيهم يهدي إلى صراط مستقيم محذرين في مخالفته الفتنة والعذاب الأليم ويعتقدون أن الله تعالى مدعو بأسمائه الحسنى وموصوف بصفاته التي سمى ووصف بها نفسه ووصفه بها نبيه خلق آدم بنفسه {و يداه مبسوطتان ينفق كيف يشآء} [المائدة 64] بلا اعتقاد كيف وأنه تعالى استوى على العرش ولم يذكر كيف كان استواؤه.

وقال يحيى بن عمار في رسالته نحن وأئمتنا من أصحاب الحديث وذكر الأئمة وعد منهم ومن قبلهم من الصحابة ومن بعدهم لا يستحل أحد منا ممن تقدم أو تأخر أن يتكلف أو يقصد إلى قول من عنده في الصفات أو في تفسير كتاب الله تعالى أو معاني حديث رسول الله أو زيادة على ما في النص أو نقصان منه ولا نغلو ولا نشبه ولا نزيد على ما في الكتاب والسنة.

وقال الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة: إن الأخبار في صفات الله موافقة لكتاب الله تعالى نقلها الخلف عن السلف قرنا بعد قرن من لدن الصحابة والتابعين إلى عصرنا هذا على سبيل الصفات لله تعالى والمعرفة والإيمان به والتسليم لما أخبر الله تعالى في تنزيله ونبيه الرسول عن كتابه مع اجتناب التأويل والجحود وترك التمثيل والتكييف.

أخبرنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أحمد قال أنبأنا أبو بكر الطريثيثي إجازة أنبأنا أبو القاسم هبة الله أنبأنا محمد بن أحمد بن عبيد أنبأنا محمد بن الحسن أنبأنا أحمد بن زهير حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي حدثنا بقية حدثنا الأوزاعي قال كان الزهري ومكحول يقولان أمروا هذه الأحاديث كما جاءت.

قال أبو القاسم حدثنا محمد بن رزق الله حدثنا عثمان بن أحمد حدثنا عيسى بن موسى قال سمعت أبي يقول سمعت سفيان بن عيينة يقول كل ما وصف الله تعالى به نفسه في القرآن فقراءته تفسيره ولا كيف ولا مثل.

وعن أحمد بن نصر أنه سأل سفيان بن عيينة فقال حديث عبد الله أن الله يجعل السماء على اصبع وحديث إن قلوب العباد بين اصبعين من أصابع الرحمن وإن الله يعجب أو يضحك ممن يذكره في الأسواق وأنه تعالى ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة ونحو هذه الأحاديث فقال هذه الأحاديث نرويها ونقربها كما جاءت بلا كيف.

وقال أبو بكر الخلال أخبرني أحمد بن محمد بن واصل المقرئ حدثنا الهيثم بن خارجة حدثنا الوليد بن مسلم قال سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي في الصفات فقالوا أمروها كما جاءت.

قال يحيى بن عمار وهؤلاء أئمة الأمصار فمالك إمام أهل الحجاز والثوري إمام أهل العراق والأوزاعي إمام أهل الشام والليث إمام أهل مصر والمغرب.

وقال أبو عبيد ما أدركنا أحدا يفسر هذه الأحاديث ونحن لا نفسرها.

وذكر عباس الدوري قال سمعت يحيى بن معين يقول شهدت زكريا ابن عدي سأل وكيع بن الجراح فقال يا أبا سفيان هذه الأحاديث يعني مثل الكرسي موضع القدمين فقال أدركنا إسماعيل بن أبي خالد وسفيان ومسعرا يحدثون بهذه الأحاديث ولا يفسرون شيئا.

قال أبو عمر بن عبد البر: روينا عن مالك بن أنس وسفيان الثوري وسفيان ابن عيينة والأوزاعي ومعمر بن راشد في حديث الصفات أنهم كلهم قالوا أمروها كما جاءت.

قال رجل من فقهاء المدينة إن الله تبارك وتعالى علم علما علمه العباد وعلم علما لم يعلمه العباد فمن يطلب العلم الذي لم يعلمه العباد لم يزدد منه إلا بعدا والقدر منه.

وقال سعيد بن جبير ما لم يعرفه البدريون فليس من الدين.

قال أبو عمر ما جاء عن النبي من نقل الثقات أو جاء عن الصحابة رضي الله عنهم فهو علم يدان به وما أحدث بعدهم ولم يكن له أصل فيما جاء عنهم فبدعة وضلالة وما جاء في أسماء الله وصفاته عنهم سلم له ولم يناظر فيه كما لم يناظروا فيه.

وقال أبو بكر الخلال أخبرنا المروذي قال سألت أبا عبد الله عن أخبار الصفات فقال نمرها كما جاءت.

قال وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم قال سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى إن الله تبارك وتعالى ينزل كل ليلة إلى السمآء الدنيا و أن الله يرى وإن الله يضع قدمه وما أشبهه فقال أبو عبد الله نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى ولا نرد منها شيئا ونعلم أن ما جاء به الرسول حق إذا كانت بأسانيد صحاح ولا نرد على رسول الله قوله ولا يوصف الله تعالى بأكثر مما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله بلا حد ولا غاية {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى 11] ولا يبلغ الواصفون صفته وصفاته منه ولا نتعدى القرآن والحديث فنقول كما قال ونصفه كما وصف نفسه ولا نتعدى ذلك نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعث.

وذكر شيخ الإسلام أبو الحسن علي بن أحمد بن يوسف القرشي الهكاري قال أنبأنا أبو القاسم عبد الله بن الحسن بن محمد بن الخلال حدثنا محمد بن العباس المخلص أنبأنا أبو بكر بن أبي داود حدثنا الربيع بن سليمان قال سألت الشافعي رضي الله عنه عن صفات من صفات الله تعالى فقال حرام على العقول أن تمثل الله تعالى وعلى الأوهام أن تحده وعلى الظنون أن تقطع وعلى النفوس أن تفكر وعلى الضمائر أن تعمق وعلى الخواطر أن تحيط وعلى العقول أن تعقل إلا ما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان نبيه.

وقال يونس بن عبد الأعلى سمعت أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي يقول وقد سئل عن صفات الله تعالى وما يؤمن به فقال لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه لا يسع أحدا من خلق الله تعالى قامت عليه الحجة ردها لأن القرآن نزل بها وصح عن رسول الله القول بها فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر بالله تعالى فأما قبل ثبوت الحجة عليه من جهة الخبر فمعذور بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالرؤية ولا بالفكر.

وقال ابن وضاح كل من لقيت من أهل السنة يصدق بها لحديث التنزل وقال ابن معين صدق به ولا تصفه وقال أقروه ولا تحدوه.

وروي عن الحسن البصري أنه قال لقد تكلم مطرف على هذه الأعواد بكلام ما قيل قبله ولا يقال بعده قالوا وما هو يا أبا سعيد قال قال الحمد لله الذي من الإيمان به الجهل بغير ما وصف به نفسه.

وقال سحنون: من العلم بالله السكوت عن غير ما وصف به نفسه.

أخبرنا أبو الحسن سعد الله بن نصر بن الدجاجي الفقيه قال أنبأنا الإمام الزاهد أبو منصور محمد بن أحمد الخياط أنبأنا أبو طاهر عبد الغفار بن محمد بن جعفر أنبأنا أبو علي بن الصواف أنبأنا بشر بن موسى أنبأنا أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي قال أصول السنة فذكر أشياء ثم قال وما نطق به القرآن والحديث مثل {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم} [المائدة 64] ومثل {والسموات مطويات بيمينه} [الزمر 67] وما أشبه هذا من القرآن والحديث لا نزيد فيه ولا نفسره ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة ونقول الرحمن على العرش استوى ومن زعم غير هذا فهو معطل جهمي.

أخبرنا يحيى بن محمود إجازة قال أنبأنا جدي الحافظ أبو القاسم قال ما جاء في الصفات في كتاب الله تعالى أو روي بالأسانبد الصحيحة فمذهب السلف رحمة الله عليهم إثباتها وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية عنها لأن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات وإثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية فكذلك إثبات الصفات وعلى هذا مضى السلف كلهم وقد سبق ذكرنا لقول مالك حين سئل عن كيفية الاستواء.

وروى قرة بن خالد عن الحسن عن أمه عن أم سلمة أنها قالت في قول الله تعالى الرحمن على العرش استوى الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإقرار به إيمان والجحود له كفر.

وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ومن الله الرسالة ومن الرسول البلاغ وعلينا التصديق.

وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى واللفظ فمن المحتمل أن يكون ربيعة ومالك بلغهما قول أم سلمة فاقتديا بها وقالا مثل قولها لصحته وحسنه وكونه قول إحدى أزواج النبي ومن المحتمل أن يكون الله تعالى وفقهما للصواب وألهمهما من القول السديد مثل ما ألهمهما.

وقولهم الاستواء غير مجهول أي غير مجهول الوجود لأن الله تعالى أخبر به وخبره صدق يقينا لا يجوز الشك فيه ولا الإرتياب فيه فكان غير مجهول لحصول العلم به وقد روي في بعض الألفاظ الاستواء معلوم. وقولهم الكيف غير معقول لأنه لم يرد به توقيف ولا سبيل إلى معرفته بغير توقيف. والجحود به كفر لأنه رد لخبر الله وكفر بكلام الله ومن كفر بحرف متفق عليه فهو كافر فكيف بمن كفر بسبع آيات ورد خبر الله تعالى في سبعة مواضع من كتابه والإيمان به واجب لذلك. والسؤال عنه بدعة لأنه سؤال عما لا سبيل إلى علمه ولا يجوز الكلام فيه ولم يسبق في ذلك في زمن رسول الله ولا من بعده من أصحابه. فقد ثبت ما ادعيناه من مذهب السلف رحمة الله عليهم بما نقلناه عنهم جملة وتفصيلا واعتراف العلماء من أهل النقل كلهم بذلك ولم أعلم عن أحد منهم خلافا في هذه المسألة بل قد بلغني عمن يذهب إلى التأويل لهذه الأخبار والآيات الاعتراف بأن مذهب السلف فيما قلناه ورأيت لبعض شيوخهم في كتابه قال اختلف أصحابنا في أخبار الصفات فمنهم من أمرها كما جاءت من غير تفسير ولا تأويل مع نفي التشبيه عنها وهو مذهب السلف فحصل الإجماع على صحة ما ذكرناه والحمد لله.

الباب الثاني: في بيان وجوب اتباعهم والحث على لزوم مذهبهم وسلوك سبيلهم وبيان ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة

عدل

وأما الكتاب فقول الله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا النساء 115 فتوعد على اتباع غير سبيلهم بعذاب جهنم ووعد متبعهم بالرضوان والجنة فقال تعالى {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} [التوبة 100] فوعد المتبعين لهم بإحسان بما وعدهم به من رضوانه وجنته والفوز العظيم.

ومن السنة قول النبي (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة). فأمر بالتمسك بسنة خلفائه كما أمر بالتمسك بسنته وأخبر أن المحدثات بدع وضلالة وهو ما لم يتبع فيه سنة رسول الله ولا سنة أصحابه.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله : (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذوا النعل بالنعل حتى لو كان فيهم من يأتي أمه علانية لكان في أمتي من يفعل ذلك إن بني إسرائيل افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة ويزيدون عليها ملة وفي رواية وأمتي ثلاثا وسبعين ملة كلها في النار إلا واحدة قالوا يا رسول الله من الواحدة قال ما أنا عليه وأصحابي وفي رواية الذي أنا عليه وأصحابي). فأخبر النبي أن الفرقة الناجية هي التي تكون على ما كان عليه هو وأصحابه فمتبعهم إذا يكون من الفرقة الناجية لأنه على ما هم عليه ومخالفهم من الاثنتين والسبعين التي في النار ولأن من لم يتبع السلف رحمة الله عليهم وقال في الصفات الواردة في الكتاب والسنة قولا من تلقاء نفسه لم يسبقه إليه السلف فقد أحدث في الدين وابتدع. وقد قال النبي : (كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة).

وروى جابر قال كان رسول الله يقول: (أما بعد فأحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة) أخرجه مسلم في صحيحه. وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله : (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) يعني مردود.

وروى عبد الله بن عكيم قال كان عمر يعني بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إن أصدق القيل قيل الله ألا وإن أحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة ضلالة. وعن الأسود بن هلال قال قال عبد الله يعني بن مسعود رضي الله عنه: إن أحسن الهدي هدي محمد وإن أحسن الكلام كلام الله وإنكم ستحدثون ويحدث لكم وكل محدثة ضلالة وكل ضلالة في النار. وقال عبد الله: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وكل بدعة ضلالة. وقال إنا نقتدي ولا نبتدي ونتبع ولا نبتدع ولن نضل ما تمسكنا بالأثر. وقال: رحمة الله عليه عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه أن يذهب أهله وإنكم ستجدون قوما يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم وإياكم والبدع وإياكم والتنطع وإياكم والتعمق وعليكم بالعتيق. وقال أنا لغير الدجال أخوف عليكم من الدجال أمور تكون من كبرائكم فأيما مرية أو رجيل أدركه ذلك الزمان فالسمت الأول فإنا اليوم على السنة. وقال ابن مسعود: من كان منكم متأسيا فليتأسى بأصحاب رسول الله فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها هديا وأحسنها حالا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.

وذكر الحسن البصري أصحاب رسول الله فقال: إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فإنهم ورب الكعبة على الهدى المستقيم.

وقال إبراهيم لم يدخر لكم شيء خبئ عن القوم لفضل عندككم.

وقال حذيفة يا معشر القراء خذوا طريق من قبلكم فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم بعيدا ولئن تركتموه يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا.

وروى نوح الجامع قال قلت لأبي حنيفة رخمه الله ما تقول فيما أحدث الناس من كلام في الأعراض والأجسام فقال مقالات الفلاسفة عليك بالأثر وطريقة السلف وإياك وكل محدثة فإنها بدعة.

أخبرنا علي بن عساكر المقرئ حدثنا الأمين أبو طالب اليوسفي أنبأنا أبو إسحاق البرمكي أنبأنا أبو بكر بن بخيت أنبأنا عمر بن محمد الجوهري أنبأنا الأثرم أنبأنا عبد الله بن صالح عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة أنه قال عليك بلزوم السنة فإنها لك بإذن الله عصمة فإن السنة إنما جعلت عصمة ليستن بها ويقتصر عليها فإنما سنها من قد علم ما في خلافها من الزلل والخطأ والحمق والتعميق فارض لنفسك بما رضوا به لأنفسهم فإنهم على علم وقفوا وببصر نافذ كفوا ولهم على كشفها كانوا أقوى وبفضل لو كان فيها أحرى وإنهم لهم السابقون فلئن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه ولئن حدث حدث بعدهم فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم ولقد وصفوا منه ما يكفي وتكلموا منه بما يشفي فما دونهم مقصر ولا فوقهم محسر لقد قصر دونهم أناس فجفوا وطمع آخرون فغلوا وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم.

أخبرنا أبو الفتح محمد بن عبد الباقي أنبأنا حمد بن أحمد الحداد أنبأنا الحافظ أبو نعيم بإسناده عن عمر بن عبد العزيز بنحو من هذا الكلام.

وقال الأوزاعي رحمه الله عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوها لك بالقول.

وقال أبو إسحاق سألت الأوزاعي فقال اصبر نفسك على السنة وقف حيث وقف القوم وقل بما قالوا وكف عما كفوا عنه واسلك سبيل سلفك الصالح فإنه يسعك ما وسعهم ولو كان هذا يعني ما حدث من البدع خيرا ما خصصتهم به دون أسلافكم فإنه لم يدخر عنهم خير خبئ لكم دونهم لفضل عندكم وهم أصحاب رسول الله الذي اختارهم الله لصحبة نبيه وبعثه فيهم ووصفهم به فقال {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا} [الفتح 29].

وقال الإمام: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله والإقتداء بهم وترك البدع وكل بدعة فهي ضلالة. وقال علي بن المديني مثل ذلك.

فقد ثبت وجوب اتباع السلف رحمة الله عليهم بالكتاب والسنة والإجماع والعبرة دلت عليه فإن السلف لا يخلوا من أن يكونوا مصيبين أو مخطئين فإن كانوا مصيبين وجب اتباعهم لأن اتباع الصواب واجب وركوب الخطأ في الاعتقاد حرام ولأنهم إذا كانوا مصيبين كانوا على الصراط المستقيم ومخالفهم متبع لسبيل الشيطان الهادي إلى صراط الجحيم وقد أمر الله تعالى باتباع سبيله وصراطه ونهى عن اتباع ما سواه فقال {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} [الأنعام 153].

وإن زعم زاعم أنهم مخطئون كان قادحا في حق الإسلام كله لأنه إن جاز أن يخطئوا في هذا جاز خطؤهم في غيره من الإسلام كله وينبغي أن لا تنقل الأخبار التي نقلوها ولا تثبت معجزات النبي التي رووها فتبطل الرواية وتزول الشريعة ولا يجوز لمسلم أن يقول هذا ولا يعتقده ولأن السلف رحمة الله عليهم لا يخلوا إما أن يكونوا علموا تأويل هذه الصفات أو لم يعلموه فإن لم يعلموه فكيف علمناه نحن وإن علموه فوسعهم إن يسكتوا عنه وجب أن يسعنا ما وسعهم ولأن النبي من جملة سلفنا الذين سكتوا عن تفسير الآيات والأخبار التي الصفات وهو حجة الله على خلق الله أجمعين يجب عليهم اتباعه ويحرم عليهم خلافه وقد شهد الله تعالى بأنه على الصراط المستقيم وأنه يهدي إليه وأن من اتبعه أحبه الله ومن عصاه فقد عصا الله {ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا} [الأحزاب 36] {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} [النساء 14].

الباب الثالث: في بيان أن الصواب ما ذهب إليه السلف رحمة الله عليهم بالأدلة الجلية والحجج المرضية وبيان ذلك من الكتاب والسنة والإجماع والمعنى

عدل

أما الكتاب: فقوله تعالى {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله} [آل عمران 7] فذم مبتغي تأويل المتشابه وقرنه بمبتغي الفتنة في الذم ثم أخبر أنه لا يعلم تأويله غير الله تعالى فإن الوقف الصحيح عند أكثر أهل العلم على قوله إلا الله ولا يصح قول من زعم أن الراسخين يعلمون تأويله لوجوده أحدها أن الله ذم مبتغي التأويل ولو كان معلوما للراسخين لكان مبتغيه ممدوحا غير مذموم.

الثاني: أن النبي قال: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فهم الذين عنى الله فاحذروهم) يعني كل من اتبع المتشابه فهو من الذين في قلوبهم زيغ فلو علمه الراسخون لكانوا باتباعه مذمومين زائغين والآية تدل على مدحهم والتفريق بينهم وبين الذين في قلوبهم زيغ وهذا تناقض.

الثالث: أن الآية تدل على أن الناس قسمان لأنه قال فأما الذين في قلوبهم زيغ وأما لتفصيل الجمل فهي دالة على تفصيل فصلين أحدهما الزائغون المتبعون للمتشابه والثاني الراسخون في العلم ويجب أن يكون كل قسم مخالفا للآخر فيما وصف به فيلزم حينئذ أن يكون الراسخون مخالفين للزائغين في ترك اتباع المتشابه مفوضين إلى الله تعالى بقولهم آمنا به كل من عند ربنا تاركين لابتغاء تأويله وعلى قولنا يستقيم هذا المعنى ومن عطف الراسخين في العلم أخل بهذا المعنى ولم يجعل الراسخين قسما آخر ولا مخالفين للقسم المذموم فيما وصفوا به فلا يصح.

الرابع: أنه لو أراد العطف لقال ويقولون بالواو لأن التقدير والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون.

الخامس: أن قولهم آمنا به كل من عند ربنا كلام يشعر بالتفويض والتسليم لما لم يعلموه لعلمهم بأنه من عند ربهم كما أن المحكم المعلوم معناه من عنده.

السادس: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا رأوا من يتبع المتشابه ويسأل عنه استدلوا على أنه من أهل الزيغ ولذلك عد عمر صبيغا من الزائغين حتى استحل ضربه وحبسه وأمر الناس بمجانبته ثم أقرأ صبيغ بعد بصدق عمر في فراسته فتاب وأقلع وانتفع وعصم بذلك من الخروج مع الخوارج ولو كان معلوما للراسخين لم يجز ذلك.

السابع: أنه لو كان معلوما للراسخين لوجب أن لا يعلمه غيرهم لأن الله تعالى نفى علمه عن غيرهم فلا يجوز حينئذ أن يتناول إلا من ثبت أنه من الراسخين ويحرم التأويل على العامة كلهم والمتعلمين الذين لم ينتهوا إلى درجة الرسوخ والخصم في هذا يجوز التأويل لكل أحد فقد خالف النص على كل تقدير.

فثبت بما ذكرناه من الوجوه أن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى وأن متبعه من أهل الزيغ وأنه محرم على كل أحد ويلزم من هذا أن يكون المتشابه هو ما يتعلق بصفات الله تعالى وما أشبهه دون ما قيل فيه أنه المجمل أو الذي يغمض علمه على غير العلماء المحققين أو الحروف المقطعة لأن بعض ذلك معلوم لبعض العلماء وبعضه قد تكلم ابن العباس وغيره في تأويله فلم يجز أن يحمل عليه والله أعلم.

وأما السنة فمن وجهين: أحدهما قول النبي : (شر الأمور محدثاتها) وهذا من المحدثات فإنه لم يكن في عصر النبي ولا عصر أصحابه وكذلك قوله كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وقوله من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ وإن أصاب وهذا قول في القرآن بالرأي وقوله في الفرقة الناجية ما أنا عليه وأصحابي مع إخباره أن ما عداها في النار وقوله عليه السلام كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد وهذا ليس عليه أمر.

الثاني: أن النبي تلا هذه الآيات وأخبر بالأخبار وبلغها أصحابه وأمرهم بتبليغها و لم يفسرها ولا أخبر بتأويلها ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة بالإجماع فلو كان لها تأويل لزمه بيانه ولم يجز له تأخيره ولأنه عليه السلام لما سكت عن ذلك لزمنا اتباعه في ذلك لأمر الله تعالى إيانا بإتباعه وأخبرنا بأن لنا فيه أسوة حسنة فقال تعالى {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب 21] ولأنه عليه السلام على صراط الله المستقيم فسالك سبيله سالك صراط الله المستقيم لا محالة فيجب علينا اتباعه والوقوف حيث وقف والسكوت عما عنه سكت لنسلك سبيله فإنه سبيل الله الذي أمرنا الله باتباعه فقال تعالى {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ونهى عن اتباع ما سواه فقال ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام 153].

وأما الإجماع: فإن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ترك التأويل بما ذكرناه عنهم وكذلك أهل كل عصر بعدهم ولم ينقل التأويل إلا عن مبتدع أو منسوب إلى بدعة. والإجماع حجة قاطعة فإن الله لا يجمع أمة محمد عليه السلام على ضلالة ومن بعدهم من الأئمة قد صرحوا بالنهي عن التفسير والتأويل وأمروا بإمرار هذه الأخبار كما جاءت وقد نقلنا إجماعهم عليه فيجب اتباعه ويحرم خلافه ولأن تأويل هذه الصفات لا يخلوا إما أن يكون علمه النبي وخلفاؤه الراشدون وعلماء أصحابه أو لم يعلموه فإن لم يعلموه فكيف يجوز أن يعلمه غيرهم وهل يجوز أن يكون قد خبأ عنهم علما وخبأ للمتكلمين لفضل عندهم. وإن كانوا قد علموه ووسعهم السكوت عنه وسعنا ما وسعهم ولا وسع الله على من لم يسعه ما وسعهم ولأن هذا التأويل لا يخلوا من أن يكون داخلا في عقد الدين بحيث لا يكمل إلا به أو ليس بداخل فمن ادعى أنه داخل في عقد الدين لا يكمل إلا به فيقال له هل كان الله تعالى صادقا في قوله اليوم أكملت لكم دينكم المائدة 3 قبل التأويل أو أنت الصادق في أنه كان ناقصا حتى أكملته أنت ولأنه إن كان داخلا في عقد الدين ولم يقبله النبي ولا أصحابه وجب أن يكونوا قد أخلوا ودينهم ناقص ودين هذا المتأول كامل ولا يقول هذا مسلم ولأنه إن كان داخلا في عقد الدين ولم يبلغه النبي أمته فقد خانهم وكتم عنهم دينهم ولم يقبل أمر ربه في قوله تعالى {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} الآية [المائدة 67] وقوله {فاصدع بما تؤمر} [الحجر 94] ويكون النبي ومن شهد له بالبلاغ غير صادق وهذا كفر بالله تعالى ورسوله.

ومن المعنى أن صفات الله تعالى وأسماءه لا تدرك بالعقل لأن العقل إنما يعلم صفة ما رآه أو رأى نظيره والله تعالى لا تدركه الأبصار ولا نظير له ولا شبيه فلا تعلم صفاته وأسماؤه إلا بالتوقيف والتوقيف إنما ورد بأسماء الصفات دون كيفيتها وتفسيرها فيجب الإقتصار على ما ورد به السمع لعدم العلم بما سواه وتحريم القول على الله تعالى بغير علم بدليل قول الله تعالى {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطل والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف 33].

ومن وجه آخر هو أن اللفظة إذا احتملت معاني فحملها على أحدها من غير تعيين احتمل أن يحمل على غير مراد الله تعالى منها فيصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه ويسلب عنه صفة وصف الله بها قدسه ورضيها لنفسه فيجمع بين الخطأ من هذين الوجهين وبين كونه قال على الله ما لم يعلم وتكلف ما لا حاجة إليه ورغبته عن طريق رسول الله وصحابته وسلفه الصالح وركوبه طريق جهنم وأصحابه من الزنادقة الضلال. ولأن التأويل ليس بواجب بالإجماع لأنه لو كان واجبا لكان النبي وأصحابه قد أخلوا بالواجب وأجمعوا على الباطل.

ولأنه لا خلاف في أن من قرأ القرآن ولم يعلم تفسيره ليس بآثم ولا تارك لواجب وإذا لم يجب على قارئ القرآن فعلى من لم يقرأه أولى، ولأنه لو وجب على الجميع لكان فيه تكليف ما لا يطاق وإيجاب على العامة أن يقولوا على الله ما لا يعلمون وإن وجب على البعض فما ضابط ذلك النص، ولأن هذا مما لا يحتاج إلى معرفته لأنه لا عمل تحته ولا يدعوا إلى الكلام فيه حاجة ضرورية أو غير ضرورية وإذا لم يجب لم يجز أن يكون جائزا لوجوه:

  • أحدها: أنه إذا كان جائزا كان السكوت عنه جائزا فيكون الساكت سالما بيقين الإجماع على جوازه والمتأول مخاطرا خطرا عظيما من غير حاجة إليه وهذا غير جائز ولأن الساكت عن التأويل لم يقل على الله إلا الحق و المتأول يحتمل أنه قال على الله غير الحق ووصفه بما لم يصف به نفسه وسلب صفته التي وصف بها نفسه وهذا محرم فيتعين السكوت ويتعين تحريم التأويل.
  • ومن وجه آخر: وهو أن اللفظ إذا احتمل معاني فحمله على علم منها من غير واحد بتعيينه تخرص وقول على الله تعالى بغير علم وقد حرم الله تعالى ذلك فقال {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف 33]، ولأن تعيين أحد المحتملات إذا لم يكن توقيف يحتاج إلى حصر المحتملات كلها ولا يحصل ذلك إلا بمعرفة جميع ما يستعمل اللفظ فيه حقيقة أو مجازا ثم تبطل جميعها إلا واحدا وهذا يحتاج إلى الإحاطة اللغات كلها ومعرفة لسان العرب كله ولا سبيل إليه فكيف بمن لا علم له باللغة ولعله لا يعرف مجملا سوى مجملين أو ثلاثة بطريق التقليد.

ثم معرفة نفي المحتملات يقف على ورود التوقيف به فإن صفات الله تعالى لا تثبت ولا تنفى إلا بالتوقيف وإذا تعذر هذا بطل تعيين مجمل منها على وجه الصحة ووجب الإيمان بها بالمعنى الذي أراده المتكلم بها كما روي عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه إنه قال آمنت بما جاء عن الله على مراد الله وآمنت بما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله. وهذه طريقة مستقيمة ومقالة صحيحة سليمة ليس على صاحبها خطر ولا يلحقه عيب ولا ضرر لأن الموجود منه هو الإيمان بلفظ الكتاب والسنة وهذا أمر واجب على خلق الله أجمعين فإن جحد كلمة من كتاب الله متفق عليها كفر بإجماع المسلمين وسكوته عن تأويل لم يعلم صحته والسكوت عن ذلك واجب أيضا بدليل الكتاب والسنة والإجماع ثم لو لم يكن واجبا لكان جائزا بغير خلاف. ثم فيه الإقتداء بسنة رسول الله واتباع الراسخين في العلم والسلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المرضيين والسلامة من أن يقول على الله ما لا يعلم أو أن يقول في كتاب الله وصفة ربه تعالى برأيه وأن يصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه ولا وصفه به رسوله وأن يسلب عنه صفة رضيها لنفسه ورضيها له رسوله .

فبان بحمد الله وجوب سلوك هذه الطريقة المحمودة واجتناب ما سواها وتحقق أنها صراط الله المستقيم الذي أمرنا الله تعالى باتباعه وما عداها فهي سبل الشيطان التي نهانا الله سبحانه عن اتباعها ثم أكد ذلك بوصيته به بعد أمره ونهيه فقال تعالى {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} [الأنعام 153]

فإن قيل فقد تأولتم آيات وأخبارا فقلتم في قوله تعالى {وهو معكم أينما كنتم} [الحديد 4] أي بالعلم ونحو هذا من الآيات والأخبار فيلزمكم ما لزمنا. قلنا نحن لم نتأول شيئا وحمل هذه اللفظات على هذه المعاني ليس بتأويل لأن التأويل صرف اللفظ عن ظاهره وهذه المعاني هي الظاهر من هذه الألفاظ بدليل أنه المتبادر إلى الأفهام منها. وظاهر اللفظ هو ما يسبق إلى الفهم منه حقيقة كان أو مجازا ولذلك كان ظاهر الأسماء العرفية المجاز دون الحقيقة كاسم الراوية و الظعينة وغيرهما من الأسماء العرفية فإن ظاهر هذا المجاز دون الحقيقة وصرفها إلى الحقيقة يكون تأويلا يحتاج إلى دليل وكذلك الألفاظ التي لها عرف شرعي وحقيقة لغوية كالوضوء والطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج إنما ظاهرها العرف الشرعي دون الحقيقة اللغوية.

وإذا تقرر هذا فالمتبادر إلى الفهم من قولهم الله معك أي بالحفظ و الكلاءة ولذلك قال الله تعالى فيما أخبر عن نبيه {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [التوبة 40] وقال لموسى {إنني معكما أسمع وأرى} [طه 46]. ولو أراد أنه بذاته مع كل أحد لم يكن لهم بذلك اختصاص لوجوده في حق غيرهم كوجوده فيهم ولم يكن ذلك موجبا لنفي الحزن عن أبي بكر ولا علة له. فعلم أن ظاهر هذه الألفاظ هو ما حملت عليه فلم يكن تأويلا ثم لو كان تأويلا فما نحن تأولنا وإنما السلف رحمة الله عليهم الذي ثبت صوابهم ووجب اتباعهم هم الذين تأولوه فإن ابن عباس والضحاك ومالكا وسفيان وكثيرا من العلماء قالوا في قوله وهو معكم أي علمه ثم قد ثبت بكتاب الله والمتواتر عن رسول الله وإجماع السلف أن الله تعالى في السماء على عرشه وجاءت هذه اللفظة مع قرائن محفوفة بها دالة على إرادة العلم منها وهو قوله ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض المجادلة 7 ثم قال في آخرها إن الله بكل شيء عليم فبدأها بالعلم وختمها به ثم سياقها لتخويفهم بعلم الله تعالى بحالهم و أنه ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ويجازيهم عليه. وهذه قرائن كلها دالة على إرادة العلم فقد اتفق فيها هذه القرائن ودلالة الأخبار على معناها ومقالة السلف وتأويلهم فكيف يلحق بها ما يخالف الكتاب والأخبار ومقالات السلف. فهذا لا يخفى على عاقل إن شاء الله تعالى وإن خفي فقد كشفناه وبيناه بحمد الله تعالى ومع هذا لو سكت إنسان عن تفسيرها وتأويلها لم يحرج ولم يلزمه شيء فإنه لا يلزم أحدا الكلام في التأويل إن شاء الله تعالى.

فصل

عدل

ينبغي أن يعلم أن الأخبار الصحيحة التي ثبتت بها صفات الله تعالى هي الأخبار الصحيحة الثابتة بنقل العدول الثقات التي قبلها السلف ونقلوها ولم ينكروها ولا تكلموا فيها وأما الأحاديث الموضوعة التي وضعتها الزنادقة ليلبسوا بها على أهل الإسلام أو الأحاديث الضعيفة إما لضعف رواتها أو جهالتهم أو لعلة فيها لا يجوز أن يقال بها ولا اعتقاد ما فيها بل وجودها كعدمها وما وضعته الزنادقة فهو كقولهم الذي أضافوه إلى أنفسهم. فمن كان من أهل المعرفة بذلك وجب عليه اتباع الصحيح واطراح ما سواه ومن كان عاميا ففرضه تقليد العلماء وسؤالهم لقول الله تعالى {فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل 43] وإن أشكل عليه علم ذلك ولم يجد من يسأله فليقف وليقل آمنت بما قاله رسول الله ولا يثبت به شيئا فإن كان هذا مما قاله رسول الله فقد آمن به وإن لم يكن منه فما آمن به ونظير هذا قول النبي (ما حدثكم به أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بما أنزل إلينا وأنزل إليكم). فمنعهم من التصديق خشية أن يكون كذبا ومن التكذيب خشية أن يكون حقا وأمرهم بالعدل إلى قول يدخل فيه الإيمان بالحق وحده وهذا كذلك. وليست هذه الأحاديث مما يحتاج إليها لعمل فيها ولا لحكم يتلى منها يحتاج إلى معرفته ويكفي الإنسان الإيمان بما عرف منها. وليعلم أن من أثبت لله تعالى صفة بشيء من هذه الأحاديث الموضوعة فهو أشد حالا ممن تأول الأخبار الصحيحة ودين الله تعالى هو بين الغالي فيه والمقصر عنه وطريقة السلف رحمة الله عليهم جامعة لكل خير وفقنا الله وإياكم لاتباعها وسلوكها والحمد لله رب العالمين.