ذهب الصبا و تولت الأيام

ذهبَ الصبا وَ تولتِ الأيامُ

​ذهبَ الصبا وَ تولتِ الأيامُ​ المؤلف محمود سامي البارودي


ذهبَ الصبا، وَ تولتِ الأيامُ
فعلى الصبا، وَ علىَ الزمانِ سلامُ
تَاللَّهِ أَنْسَى مَا حَيِيتُ عُهُودَهُ
ولِكُلِّ عَهْدٍ فِي الْكِرَامِ ذِمَامُ
إذْ نحنُ في عيشٍ ترفُّ ظلالهُ
وَلَنَا بِمُعْتَرَكِ الْهَوَى آثامُ
تَجْرِي عَلَيْنَا الْكَأْسُ بَيْنَ مَجَالِسٍ
فيها السلامُ تعانقُ وَ لزامُ
فِي فِتْيَةٍ فَاضَ النَّعِيمُ عَلَيْهِمُ
وَ نماهمُ التبجيلُ وَ الإعظامُ
ذَهَبَتْ بِهِمْ شِيَمُ الْمُلُوكِ، فَلَيْسَ فِي
تلعابهمْ هذرٌ، وَ لاَ إبرامُ
لاَ يَنْطِقُونَ بِغَيْرِ آدَابِ الْهَوَى
سُمُحُ النُّفُوسِ، عَلَى الْبَلاءِ كِرَامُ
منْ كلَّ أبلجَ يستضاءُ بنورهِ
كالبدرِ حلى صفحتيهِ غمامُ
سهلُ الخليقةِ، لا يسوءُ جليسهُ
بَيْنَ الْمَقَامَةِ، وَاضِحٌ، بَسَّامُ
متواضعٌ للقومِ، تحسبُ أنهُ
مولى في الدارِ وَ هوَ همامُ
تَرْنُو الْعُيُونُ إِلَيْهِ فِي أَفْعَالِهِ
وَتَسِيرُ تَحْتَ لِوَائِهِ الأَقْوَام
فإذا تكلمَّ فالرؤسُ خواضعٌ
وَإِذَا تَنَاهَضَ فَالصُّفُوفُ قيَامُ
نلهو وَ نلعبُ بينَ خضرِ حدائقٍ
لَيْسَتْ بِغَيْرِ خُيُولِنَا تُسْتَامُ
حتى انتبهنا بعدَ ما ذهبَ الصبا
إنَّ اللذاذةَ وَ الصبا أحلامُ
لاَ تَحْسَبَنَّ الْعَيْشَ دَامَ لِمُتْرَفٍ
هَيْهَاتَ، لَيْسَ عَلَى الزَّمَانِ دَوَامُ
تأتي الشهورُ، وَ تنتهي ساعاتها
لَمْعَ السَّرَابِ، وَتَنْقَضِي الأَعْوَامُ
وَالنَّاسُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَارِدٌ
أَوْ صَادِرٌ، تَجْرِي بِهِ الأَيَّامُ
لاَ طائرٌ ينجو، وَ لاَ ذو مخلبٍ
يَبْقَى، وَعَاقِبَةُ الْحَيَاةِ حِمَامُ
فَادْرَأْ هُمُومَ النَّفْسِ عَنْكَ إِذَا اعْتَرَتْ
بالكأسِ؛ فهيَ على الهمومِ حسامُ
فالعيشُ ليسَ يدومُ في ألوانهِ
إِلاَّ إِذَا دَارَتْ عَلَيْهِ الْجَامُ
مِنْ خَمْرَةٍ تَذَرُ الْكَبِيرَ إِذَا انْتَشَى
بعدَ اشتعالِ الشيبِ وَ هوَ غلامُ
لعبَ الزمانُ بها، فغادرَ جسمها
شبحاً تهافتُ دونهُ الأوهامُ
حَمْرَاءُ، دَارَ بِهَا الْحَبَابُ؛ فَصَوَّرَتْ
فلكاً تحفُّ سماءهُ الأجرامُ
لا تَسْتَقِيمُ الْعَيْنُ فِي لَمَعَانِهَا
وَ تزولُّ عندَ لقائها الأقدامُ
تَعْشُو الرِّكَابُ، فَإِنْ تَبَلَّجَ كَأْسُهَا
سَارُوا، وَإِنْ زَالَ الضِّيَاءُ أَقَامُوا
حُبِسَتْ بِأَكْلَفَ، لَمْ يَصِلْ لِفِنَائِهِ
نورٌ، وَ لمْ يسرحْ عليهِ ظلامُ
حتى إذا اصطفقتْ، وَ طارَ فدامها
وَثَبَتْ، فَلَمْ تَثْبُتْ لَهَا الأَجْسَامُ
وَقَدَتْ حَمِيَّتُهَا، فَلَوْلاَ مَزْجُهَا
بالماءِ بعدَ الماءِ، شبَّ ضرامُ
تَسِمُ الْعُيُونَ بِنُورِهَا، لَكِنَّهَا
بردٌ على شرابها وَ سلامُ
فاصقلْ بها صدأَ الهمومِ، وَ لاَ تكنْ
غراً تطيشُ بلبهِ الالامُ
وَ اعلمْ بأنَّ المرءَ ليسَ بخالدِ
و الدهرُ فيهِ صحةٌ وَ سقامُ
يهوى الفتى طولَ الحياةِ، وإنها
دَاءٌ لَهُ ـ لوْ يَسْتَبِينُ ـ عُقَامُ
فاطمحْ بطرفكَ، هلْ ترى منْ أمةٍ
خَلَدَتْ؟ وَهَلْ لابْنِ السَّبِيلِ مُقَامُ؟
هذي المدائنُ قد خلتْ منْ أهلها
بَعْدَ النِّظَامِ، وَهَذِهِ الأَهْرَامُ
لا شيءَ يخلدُ، غيرَ أنَّ خديعةً
فِي الدَّهْرِ تَنْكُلُ دُونَهَا الأَحْلاَمُ
وَ لقدَ تبينتُ الأمورَ بغيرها
وَ أتى علىَّ النقضُ والإبرامُ
فإذا السكونُ تحركٌ، وَ إذا الخمو
دُ تلهبٌ، وَ إذا السكوتُ كلامُ
وَ إذا الحياةُ - وَ لاَ حياةَ - منيةٌ
تَحْيَا بِهَا الأَجْسَادُ وَهْيَ رِمَامُ
هذا يحلُّ، وَ ذاكَ يرحلُ كارهاً
عنهُ، فصلحٌ تارةً، وَ خصامُ
فالنورُ - لوْ بينتَ أمركَ - ظلمةٌ
والْبَدْءُ ـ لَوْ فَكَّرْتَ فِيهِ ـ خِتَامُ