المشهد المنسوب إلى الحسين بمدينة القاهرة

(حولت الصفحة من رأس الحسين)
المشهد المنسوب إلى الحسين بمدينة القاهرة
  ► ◄  
بسم الله الرحمن الرحيم

ما تقول السادة العلماء أئمة الدين وهداة المسلمين -رضي الله عنهم أجمعين، وأعانهم على تحقيق الحق المبين، وإخماد شغب المبطلين- في المشهد المنسوب إلى الحسين رضي الله عنه بمدينة القاهرة: هل هو صحيح أم لا؟ وهل حمل رأس الحسين إلى دمشق، ثم إلى مصر، أم حمل إلى المدينة من جهة العراق؟

وهل لما يذكره بعض الناس من جهة المشهد الذي كان بعسقلان من صحة أم لا؟

ومن ذكر أمر رأس الحسين ونقله إلى المدينة النبوية دون الشام ومصر؟

ومن جزم من العلماء المتقدمين والمتأخرين بأن مشهد عسقلان ومشهد القاهرة مكذوب، وليس بصحيح؟

وليبسطوا القول في ذلك، لاجل مسيس الضرورة والحاجة إليه، مثابين مأجورين إن شاء الله تعالى.

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم،

الحمد لله، بل المشهد المنسوب إلى الحسين بن علي - رضي الله عنهما - الذي بالقاهرة كذب مختلق، بلا نزاع بين العلماء المعروفين عند أهل العلم، الذين يرجع إليهم المسلمون في مثل ذلك، لعلمهم وصدقهم. ولا يعرف عن عالم مسمى معروف بعلم وصدق أنه قال: إن هذا المشهد صحيح.

وإنما يذكره بعض الناس قولا عمن لا يعرف، على عادة من يحكي من مقالات الرافضة وأمثالهم من أهل الكذب. فإنهم ينقلون أحاديث وحكايات، ويذكرون مذاهب ومقالات. وإذا طالبتهم بمن قال ذلك ونقله؟ لم يكن لهم عصمة يرجعون إليها. ولم يسموا أحدا معروفا بالصدق في نقله، ولا بالعلم في قوله. بل غاية ما يعتمدون عليه أن يقولوا: أجمعت الطائفة الحقة. وهم عند أنفسهم الطائفة الحقة، الذين هم عند أنفسهم المؤمنون، وسائر الأمة كفار.

ويقولون: إنما كانوا على الحق لأن فيهم الإمام المعصوم، والمعصوم عند الرافضة الإمامية الاثني عشرية هو الذي يزعمون أنه دخل سرداب سامرا بعد موت أبيه الحسن بن علي العسكري سنة ستين ومائتين؛ وهو إلى الآن لم يعرف له خبر، ولا وقع له أحد على عين ولا أثر.

وأهل العلم بأنساب أهل البيت يقولون: إن الحسن بن علي العسكري لم يكن له نسل ولا عقب.

ولا ريب أن العقلاء كلهم يعدون مثل هذا القول من أسفه السفه. واعتقاد الإمامة والعصمة في مثل هذا: مما لا يرضاه لنفسه إلا من هو أسفه الناس وأضلهم وأجهلهم. وبسط الرد عليهم له موضع غير هذا.

والمقصود هنا: بيان جنس المقولات والمنقولات عند أهل الجهل والضلالات.

فإن هذا المنتظر عند الجهال الضلال يزعمون أنه عند موت أبيه كان عمره إما سنتين، أو ثلاثا، أو خمسا؛ على اختلاف بينهم في ذلك.

وقد علم بنص القرآن والسنة المتواترة وإجماع الأمة أن مثل هذا يجب أن يكون تحت ولاية غيره في نفسه وماله.

فتكون نفسه محضونة مكفولة لمن يستحق كفالته الشرعية، تحت من يستحق النظر في ماله من وصي أو غيره. وهو قبل السبع لا يؤمر بالصلاة. فإذا بلغ السبع أمر بها، فإذا بلغ العشر ولم يصل أُدب على فعلها.

فكيف يكون مثل هذا إماما معصوما، يعلم جميع الدين، ولا يدخل الجنة إلا من يؤمن به؟

ثم بتقدير وجوده، وإمامته وعصمته؛ إنما يجب على الخلق أن يطيعوا من يكون قائما بينهم يأمرهم بما أمرهم الله به ورسوله، وينهاهم عما نهاهم عنه الله ورسوله. فإذا لم يروه ولم يسمعوا كلامه، لم يكن لهم طريق إلى العلم بما يأمر به وما ينهى عنه؛ فلا يجوز تكليفهم طاعته، إذ لم يأمرهم بشئ؛ وطاعة من لا يأمر ممتنعة لذاتها.

وإن قدر أنه يأمر، ولم يصل إليهم أمره ولا يتمكنون من العلم بذلك، كانوا عاجزين غير مطيقين لمعرفة ما أمروا به؛ والتمكن من العلم شرط في الأمر، لا سيما عند الشيعة المتأخرين، فإنهم من أشد الناس منعا لتكليف ما لا يطاق، لموافقتهم المعتزلة في القدر والصفات أيضا.

وإن قيل: إن ذلك بسبب ذنوبهم، لأنهم أخافوه أن يظهر.

قيل: هب أن أعداءه أخافوه، فأي ذنب لأوليائه ومحبيه، وأي منفعة لهم من الإيمان به، وهو لا يعلمهم شيئا ولا يأمرهم بشئ؟

ثم كيف جاز له - مع وجوب الدعوة عليه - أن يغيب هذه الغيبة التي لها الآن أكثر من أربعمائة وخمسين سنة.

وما الذي يسوغ له هذه الغيبة، دون آبائه الذين كانوا موجودين قبل موتهم: كعلي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسين بن علي العسكري؟

فإن هؤلاء كانوا موجودين يجتمعون بالناس. وقد أُخذ عن علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد من العلم ما هو معروف عند أهله. والباقون لهم سير معروفة، وأخبار مشكوفة.

فما باله استحل هذا الاختفاء هذه المدة الطويلة أكثر من أربعمائة سنة، وهو إمام الأمة؛ بل هو على زعمهم هاديها وداعيها ومعصومها، الذي يجب عليها الإيمان به، ومن لم يؤمن به فليس بمؤمن عندهم؟

فإن قالوا: الخوف.

قيل: الخوف على آبائه كان أشد بلا نزاع بين العلماء، وقد حبس بعضهم.

ثم الخوف إنما يكون إذا حارب. فأما إذا فعل كما كان يفعل سلفه من الجلوس مع المسلمين وتعليمهم لم يكن عليه خوف.

وبيان ضلال هؤلاء طويل.

وإنما المقصود بيانه هنا: أنهم يجعلون هذا أصل دينهم.

ثم يقولون: إذا اختلفت الطائفة الحقة على قولين، وأحدهما يعرف قائله، والآخر لا يعرف قائله؛ كان القول الذي لا يعرف قائله الحق. هكذا وجدته في كتب شيوخهم. وعللوا ذلك بأن القول لا يعرف هو قائله يكون من قائليه الإمام المعصوم. وهذا نهاية الجهل والضلال.

وهكذا كل ما ينقلونه من هذا الباب، ينقلون سيرا وحكايات وأحاديث؛ إذا ما طالبتهم بإسنادها لم يحلوك على رجل معروف بالصدق، بل حسب أحدهم أن يكون سمع ذلك من آخر مثله، أو قرأه في كتاب ليس فيه إسناد معروف. وإن سموا أحدا كان من المشهورين بالكذب والبهتان. لا يتصور قط أن ينقلوا شيئا مما لا يعرفه علماء السنة إلا عن مجهول لا يعرف أو عن معروف بالكذب.

ومن هذا الباب نقل الناقل أن هذا مشهد الحسين رضي الله عنه، بل وكذلك مشاهد غير هذا مضافة إلى قبر الحسين رضي الله عنه. فإنه معلوم باتفاق الناس أن هذا المشهد بني عام بضع وأربعين وخمسمائة وأنه نقل من مشهد بعسقلان، وأن ذلك المشهد - بعسقلان - كان قد أحدث بعد التسعين والأربعمائة.

فأصل هذا المشهد القاهري هو ذلك المشهد العسقلاني. وذلك العسقلاني محدث بعد مقتل الحسين بأكثر من أربعمائة وثلاثين سنة، وهذا القاهري بعد مقتله بقريب من خمسمائة سنة. وهذا مما لم يتنازع فيه اثنان ممن تكلم في هذا الباب من أهل العلم، على اختلاف أصنافهم، كأهل الحديث، ومصنفي أخبار القاهرة، ومصنفي التواريخ، وما نقله أهل العلم طبقة عن طبقة. فمثل هذا مستفيض عندهم، وهذا بينهم مشهور متواتر، سواء قيل: إن إضافته إلى الحسين صدق أو كذب - لم يتنازعوا أنه نقل من عسقلان في أواخر الدولة العبيدية.

وإذا كان أصل هذا المشهد القاهري هو ما نقل عن ذلك المشهد العسقلاني باتفاق الناس وبالنقل المتواتر، فمن المعلوم أن قول القائل إن ذلك الذي بعسقلان هو مبني على رأس الحسين رضي الله عنه قول بلا حجة أصلا. فإن هذا لم ينقله أحد من أهل العلم الذين من شأنهم نقل هذا؛ لا من أهل الحديث، ولا من علماء الأخبار والتواريخ، ولا من العلماء المصنفين في النسب، نسب قريش أو نسب بني هاشم ونحوه.

وذلك المشهد العسقلاني أحدث في آخر المائة الخامسة، لم يكن قديما. ولا كان هناك مكان قبله أو نحوه مضاف إلى الحسين، ولا حجر منقوش ولا نحوه مما يقال إنه علامة على ذلك.

فتبين بذلك أن إضافة المضيف مثل هذا إلى الحسين قول بلا علم أصلا. وليس مع قائل ذلك ما يصلح أن يكون معتمدا، لا نقل صحيح ولا ضعيف، بل لا فرق بين ذلك وبين أن يجئ الرجل إلى بعض القبور التي بأمصار المسلمين، فيدعي أن في واحد منها رأس الحسين أو يدعي أنه قبر نبي من الأنبياء، أو نحو ذلك مما يدعيه كثير من أهل الكذب والضلال.

ومن المعلوم أن مثل هذا القول غير مقبول باتفاق المسلمين.

وغالب ما يستند إليه الواحد من هؤلاء: أن يدعي أنه رأى مناما، أو أنه وجد بذلك القبر علامة تدل على صلاح ساكنه: إما رائحة طيبة، وإما توهم خرق عادة ونحو ذلك، وإما حكاية عن بعض الناس: أنه كان يعظم ذلك القبر.

فأما المنامات فكثير منها، بل أكثرها كذب. وقد عرفنا في زماننا بمصر والشام والعراق من يدعي أنه رأى منامات تتعلق ببعض البقاع إنه قبر نبي، أو أن فيه أثر نبي، ونحو ذلك، ويكون كاذبا. وهذا الشئ منتشر. فرائي المنام قد يكون كاذبا، وبتقدير صدقه: فقد يكون الذي أخبره بذلك الشيطان.

والرؤيا المحضة التي لا دليل يدل على صحتها لا يجوز أن يثبت بها شيء بالاتفاق، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: «الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله، ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه، ورؤيا من الشيطان».

فإذا كان جنس الرؤيا تحته أنواع ثلاثة، فلا بد من تمييز نوع منها من نوع.

ومن الناس - حتى من الشيوخ الذين لهم علم وزهد - من يجعل مستنده في مثل ذلك: حكاية يحكيها عن مجهول، حتى يقول: حدثني أخي الخضر أن قبر الحسين بمكان كذا وكذا. ومن المعلوم الذي بيناه في غير هذا الموضع أن الخضر قد مات، أو رأى شخصا يقول: إني الخضر، أو ظن الرائي أنه الخضر، أن كل ذلك لا يجوز إلا على الجهلة المخرفين، الذين لا حظ لهم من علم ولا عقل ولا دين، بل هم من الذين لا يفقهون ولا يعقلون.

وأما ما يذكر من وجود رائحة طيبة، أو خرق عادة أو نحو ذلك مما يتعلق بالقبر: فهذا لا يدل على تعينه، وأنه فلان أو فلان. بل غاية ما يدل عليه - إذا ثبت - أن ذلك دليلا على صلاحه، وأنه قبر رجل صالح أو نبي.

وقد تكون تلك الرائحة مما صنعه بعض المكتسبين من القبر، فإن هذا مما يفعله من هؤلاء، كما حدثني بعض أصحابنا أنه ظهر بشاطئ الفرات رجلان، كان عند أحد هما قبر تجبى عليه أموال ممن يزوره وينذر له من الضلال، فعمد الآخر إلى قبر - زعم أنه رأى في المنام أنه قبر عبد الرحمن بن عوف - وجعل فيه من أنواع الطيب ما ظهرت له رائحة عظيمة.

وقد حدثني جيران القبر الذي بجبل لبنان بالبقاع - الذي يقال إنه قبر نوح، وكان قد ظهر قريبا في أثناء المائة السابعة - وأصله أنهم شموا من قبر رائحة طيبة ووجدوا عظاما كبيرة، فقالوا: هذه تدل على كبر خلق البنية فقالوا بطريق الظن: هذا قبر نوح، وكان بالبقعة موتى كثيرون من جنس ذلك الميت.

وكذلك هذا المشهد العسقلاني قد ذكر طائفة أنه قبر بعض الحواريين أو غيرهم من أتباع عيسى بن مريم.

وقد يوجد عند قبور الوثنيين أشياء من جنس ما يوجد عند قبور المؤمنين من أمتنا. بل إن زعم الزاعم أنه قبر الحسين ظن وتخرص. وكان من الشيوخ المشهورين بالعلم والدين بالقاهرة من ذكرو عنه أنه قال: هو قبر نصراني.

وكذلك بدمشق بالجانب الشرقي مشهد، يقال إنه قبر أُبي بن كعب. وقد اتفق أهل العلم على أن أبيا لم يقدم دمشق، وإنما مات بالمدينة. فكان بعض الناس يقولون: إنه قبر نصراني. وهذا غير مستبعد. فإن اليهود والنصارى هم السابقون في تعظيم القبور والمشاهد، ولهذا قال النبي في الحديث المتفق عليه: «لعن الله اليهود والنصارى: اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، يحذر ما فعلوا.

والنصارى أشد غلوا في ذلك من اليهود، كما في الصحيحين عن عائشة: أن النبي ذكرت له أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما كنيسة بأرض الحبشة، وذكرنا من حسنها وتصاوير فيها. فقال: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة».

والنصارى كثيرا ما يعظمون آثار القديسين منهم. فلا يستعبد أنهم ألقوا إلى بعض جهال المسلمين أن هذا قبر بعض من يعظمه المسلمون، ليوافقوهم على تعظيمه. كيف لا وهم قد أضلوا كثيرا من جهال المسلمين حتى صاروا يعمدون أولادهم، ويزعمون أن ذلك يوجب طول العمر للولد، وحتى جعلوهم يزورون ما يعظمونه من الكنائس والبيع، حتى صار كثير من جهال المسلمين ينذرون للمواضع التي يعضمها النصارى كما قد صار كثير من جهالهم يزورون كنائس النصارى ويلتمسون البركة من قسيسيهم ورهبانهم ونحوهم.

والذين يعظمون القبور والمشاهد لهم شبه شديد بالنصارى، حتى إنه لما قدمت القاهرة اجتمع بي بعض فضلاء الرهبان وناظرني في المسيح ودين النصارى، حتى بينت له فساد ذلك، وأجبته عما يدعيه من الحجة. وبلغني بعد ذلك أنه صنف كتابا في الرد على المسلمين، وإبطال نبوة محمد ، وأحضره بعض المسلمين، وجعل يقرؤه علي لأجيب عن حجج النصارى وأبين فسادها. وكان من أواخر ما خاطبت به النصراني أن قلت له: أنتم مشركون، وبينت من شركهم ما هم عليه من العكوف على التماثيل والقبور وعبادتها والاستغاثة بها. فقال لي: نحن ما نشرك بهم ونعبدهم، وإنما نتوسل بهم، كما يفعل المسلمون إذا جاءوا إلى قبر الرجل الصالح، فيتعلقون بالشباك الذي عليه ونحو ذلك. فقلت له: وهذا أيضا من الشرك، وليس هذا من المسلمين، وإن فعله الجهال. فأقر أنه شرك، حتى إن قسيسا كان حاضرا في هذا المسألة، فلما قرأها قال: نعم، على هذا التقدير نحن مشركون.

وكان بعض النصارى يقول لبعض المسلمين: لنا سيد وسيدة، ولكم سيد وسيدة، لنا السيد المسيح والسيدة المريم، ولكم السيد حسين والسيدة نفيسة.

فالنصارى يفرحون بما يفعله أهل البدع والجهل من المسلمين مما يوافق دينهم ويشابهونهم فيه، ويحبون أن يقوى ذلك ويكثر، ويحبون أن يجعلوا رهبانهم مثل عباد المسلمين وقسيسيهم مثل قضاة المسلمين، ويضاهؤون المسلمين. فإن عقلاءهم لا ينكرون صحة دين الإسلام، بل يقولون: هذا طريق إلى الله، وهذا طريق إلى الله.

ولهذا يسهل إظهار الإسلام على كثير من المنافقين الذين أسلموا منهم. فإن عندهم أن المسلمين والنصارى كأهل المذاهب من المسلمين، بل يسمون الملل مذاهب. ومعلوم أن أهل المذاهب - كالحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية - دينهم واحد. وكل من أطاع الله ورسوله منهم بحسب وسعه كان مؤمنا سعيدا باتفاق المسلمين.

فإذا اعتقد النصارى مثل هذا في الملل يبقى انتقال أحدهم عن ملته كانتقال الإنسان من مذهب إلى مذهب. وهذا كثيرا ما يفعله الناس لرغبة أو رهبة. فإذا بقي عقاربه وأصدقاؤه على المذهب الأول لم ينكر ذلك، بل يحبهم ويودهم في الباطن. لأن المذهب كالوطن، والنفس تحن إلى الوطن إذا لم تعتقد أن المقام به محرم أو به مضرة وضياع دنيا.

فلهذا يوجد كثير ممن أظهر الإسلام من أهل الكتاب لا يفرق بين المسلمين وأهل الكتاب.

ثم منهم من يميل إلى المسلمين أكثر، ومنهم من يميل إلى ما كان عليه أكثر. ومنهم من يميل إلى أولئك من جهة الطبع والعادة، أو من جهة الجنس والقرابة والبلد، والمعاونة على المقاصد. ونحو ذلك.

وهذا كما أن الفلاسفة ومن سلك سبيلهم من القرامطة والاتحادية ونحوهم، يجوز عندهم أن يتدين الرجل بدين المسلمين واليهود والنصارى.

ومعلوم أن هذا كله كفر باتفاق المسلمين.

فمن لم يقر باطنا وظاهرا بأن الله لا يقبل دينًا سوى الإسلام، فليس بمسلم.

ومن لم يقر بأن بعد مبعث محمد ليس مسلم إلا من آمن به واتبعه باطنا وظاهرا، فليس بمسلم.

ومن لم يحرم التدين - بعد مبعثه - بدين اليهود والنصارى، بل من لم يكفرهم ويبغضهم، فليس بمسلم باتفاق المسلمين.

والمقصود هنا أن النصارى يحبون أن يكون المسلمين ما يشابهونهم به ليقوى بذلك دينهم، ولئلا ينفر المسلمون عنهم وعن دينهم.

ولهذا جاءت الشريعة الإسلامية بمخالفة اليهود والنصارى، كما قد بسطناه في كتابنا (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم).

وقد حصل للنصارى من الجهال كثير من مطلوبهم، لا سيما من الغلاة من الشيعة، وجهال النساك والغلاة في المشايخ، فإن فيهم شبها قويا بالنصارى في الغلو والبدع في العبادات ونحو ذلك. فلهذا يلبسون على المسلمين في مقابر تكون من قبورهم، حتى يتوهم الجهال أنها من قبور صالحي المسلمين ليعظموها.

وإذا كان ذلك المشهد العسقلاني قد قال طائفة: إنه قبر بعض النصارى أو بعض الحواريين - وليس معنا ما يدل على أنه قبر مسلم - فضلا عن أن يكون قبرا لرأس الحسين - كان قول من قال: إنه قبر مسلم - الحسين أو غيره - قولا زورا وكذبا مردودا على قائله.

فهذا كاف في المنع من أن يقال هذا مشهد الحسين.

فصل

ثم نقول: بل نحن نعلم ونجزم بأنه ليس فيه رأس الحسين، ولا كان ذلك المشهد العسقلاني مشهدا للحسين، من وجوه متعددة.

منها: أنه لو كان رأس الحسين هناك لم يتأخر كشفه وإظهاره إلى ما بعد مقتل الحسين بأكثر من أربعمائة سنة، ودولة بني أمية انقرضت قبل ظهور ذلك بأكثر من ثلاثمائة وبضع وخمسين سنة. وقد جائت خلافة بني العباس وظهر في أثنائها من المشاهد بالعراق وغير العراق ما كان كثير منها كذبا. وكانوا عند مقتل الحسين بكربلاء قد بنوا هنالك مشهدا. وكان ينتابه أمراء عظماء. حتى أنكر ذلك عليهم الأئمة، وحتى إن المتوكل لما تقدموا له بأشياء يقال إنه بالغ في إنكار ذلك، وزاد على الواجب.

دع خلافة بني العباس في أوائلها، وفي حال استقامتها، فإنهم حينئذ لم يكونوا يعظمون أبدا المشاهد، سواء كانت صدقا أو كذبا، كما حدث فيما بعد. لأن الإسلام كان حينئذ ما يزال في قوته وعنفوانه.

ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم في شيء في بلاد الإسلام، لا الحجاز، ولا اليمن، ولا الشام، ولا العراق، ولا مصر، ولا خراسان، ولا المغرب - ولم يكن قد أحدث مشهد، لا على قبر نبي، ولا صاحب، ولا أحد من أهل البيت، ولاصالح أصلا.

بل عامة المشاهد محدثة بعد ذلك. وكان ظهورها وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس وتفرقت الأمة وكثر فيهم الزنادقة الملبسون على المسلمين، وفشت فيهم كلمة أهل البدع. وذلك من دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة، فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القداحية بأرض الغرب. ثم جاءوا بعد ذلك إلى أرض مصر.

وقريبا من ذلك يقال إنه حدثت المكوس في الإسلام.

وقريبا من ذلك ظهر بنو بويه الأعاجم، وكان في كثير منهم زندقة وبدع قوية. وفي دولتهم قوي بنو عبيد القداح بأرض مصر، وفي دولتهم أظهر المشهد المنسوب إلى علي رضي الله عنه بناحية النجف؛ وإلا فقبل ذلك لم يكن أحد يقول إن قبر علي هناك، وإنما دفن علي رضي الله عنه بقصر الإمارة بالكوفة، وإنما ذكروا أن بعضهم حكى عن الرشيد أنه جاء إلى بقعة هناك، وجعل يعتذر إلى المدفون فيها، فقالوا: إنه علي، وإنه اعتذر إليه مما فعل بولده، فقالوا: هذا هو قبر علي. وقد قال قوم: إنه قبر المغيرة بن شعبة. والكلام عليه مبسوط في غير هذا الموضع.

فإذا كان بنو بويه وبنو عبيد - مع ما كان في الطائفين من الغلو في التشيع، حتى إنهم كانوا يظهرون في دولتهم ببغداد يوم عاشوراء من شعار الرافضة ما لم يظهر مثله، مثل تعليق المسوح على الأبواب، وإخراج النوائح بالأسواق، وكان الأمر يفضي في كثير من الأوقات إلى قتال تعجز الملوك عن دفعه.

وبسبب ذلك خرج الخرقي صاحب المختصر في الفقه من بغداد، لما ظهر بها سب السلف.

وبلغ من أمر القرامطة الذين كانوا بالمشرق في تلك الأوقات: أنهم أخذوا الحجر الأسود، وبقي معهم مدة، وأنهم قتلوا الحجاج وألقوهم ببئر زمزم.

فإذا كان مع هذا لم يظهر حتى مشهد للحسين بعسقلان، مع العلم بأنه لو كان رأسه بعسقلان لكان المتقدمون أعلم بذلك من المتأخرين؛ فإذا كان مع توفر الهمم والدواعي والتمكن والقدرة لم يظهر ذلك، علم أنه باطل مكذوب؛ مثل من يدعي أنه شريف علوي، وقد علم أنه لم يدع هذا أحد من أجداده، مع حرصهم على ذلك لو كان صحيحا، فإنه بهذا يعلم كذب هذا المدعي. وبمثل ذلك علمنا كذب من يدعي النص على علي، أو غير ذلك مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ولم ينقل.

الوجه الثاني: أن الذين جمعوا أخبار الحسين ومقتله - مثل أبي بكر بن أبي الدنيا وأبي القاسم البغوي وغيرهما - لم يذكر أحد منهم أن الرأس حمل إلى عسقلان ولا إلى القاهرة.

وقد ذكر نحو ذلك أبو الخطاب بن دحية في كتابه الملقب بالعلم المشهور في فضائل الأيام والشهور، ذكر أن الذين صنفوا في مقتل الحسين أجمعوا على أن الرأس لم يغترب، وذكر هذا بعد أن ذكر أن المشهد الذي بالقاهرة كذب مختلق: وأنه لا أصل له، وبسط القول في ذلك، كما ذكر في يوم عاشوراء ما يتعلق بذلك.

الوجه الثالث: أن الذي ذكره من يعتمد عليه من العلماء والمؤرخين أن الرأس حمل إلى المدينة ودفن عند أخيه الحسن.

ومن المعلوم: أن الزبير بن بكار، صاحب كتاب الأنساب، ومحمد بن سعد كاتب الواقدي، صاحب الطبقات ونحوهما من المعروف بالعلم والثقة والاطلاع: أعلم بهذا الباب وأصدق فيما ينقلونه من المجاهيل والكذابين، ومن بعض أهل التواريخ الذين لا يوثق بعلمهم ولا صدقهم. بل قد يكون الرجل صادقا، ولكن لا خبرة له بالأسانيد، حتى يميز بين المقبول والمردود، أو يكون سئ الحفظ أو متهما بالكذب، أو بالتزيد في الرواية، كحال كثير من الإخبارين والمؤرخين، لا سيما إذا كان مثل أبي مخنف لوط بن يحيى وأمثاله.

ومعلوم أن الواقدي نفسه خير عند الناس من مثل هشام بن الكلبي وأبيه محمد بن السائب وأمثالها، وقد علم كلام الناس في الواقدي، فإن ما يذكره هو وأمثاله يعتضد به ويستأنس به. وأما الاعتماد عليه بمجرده في العلم فهذا لا يصلح.

فإذا كان المعتمد عليهم يذكرون أن رأس الحسين دفن بالمدينة، وقد ذكر غيرهم أنه إما أن يكون عاد إلى البدن، وإما أنه بحلب، أو بدمشق، أو نحو ذلك من الأقوال التي لا أصل لها، ولم يذكر من يعتمد عليه أنها بعسقلان - علم أن ذلك باطل، إذ يمتنع أن يكون أهل العلم والصدق على الباطل، وأهل الجهل والكذب على الحق، في الأمور النقلية التي تؤخذ عن أهل العلم والصدق، لا عن أهل الجهل والكذب.

الوجه الرابع: الذي ثبت في صحيح البخاري: أن الرأس حمل إلى قدام عبيد الله بن زياد، وجعل ينكت بالقضيب على ثناياه بحضرة أنس بن مالك. وفي المسند أن ذلك كان بحضرة أبي برزة الأسلمي. ولكن بعض الناس روى بإسناد منقطع أن هذا النكت كان بحضرة يزيد بن معاوية، وهذا باطل. فإن أبا برزة وأنس بن مالك كانا بالعراق، لم يكونا بالشام، ويزيد بن معاوية كان بالشام، لم يكن بالعراق حين مقتل الحسين. فمن نقل أنه نكث بالقضيب بحضرة هذين قدامه فهو كاذب قطعا كذبا معلوما بالنقل المتواتر.

ومعلوم بالنقل المتواتر: أن عبيد الله بن زياد كان هو أمير العراق حين مقتل الحسين، وقد ثبت بالنقل الصحيح أنه هو الذي أرسل عمر بن سعد مقدما على الطائفة التي قاتلت الحسين، وكان عمر قد امتنع من ذلك، فأرغبه ابن زياد وأرهبه حتى فعل ما فعل.

وقد ذكر المصنفون من أهل العلم بالأسانيد المقبولة أنه لما كتب أهل العراق إلى الحسين، وهو بالحجاز: أن يقدم عليهم، وقالوا: إنه قد أميتت السنة وأحييت البدعة، وأنه، وأنه، حتى يقال: إنهم أرسلوا إليه كتبا ملء صندوق وأكثر، وأنه أشار عليه الأحباء الألباء، فلم يقبل مشورتهم، فإنه كما قيل:

وما كل ذي لب بمؤتيك نصحه ** وما كل مؤت نصحه بلبيب

فقد أشار عليه مثل عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وغيرهما بأن لا يذهب إليهم.

وذلك كان قد رآه أخوه الحسن. واتفقت كلمتهم على أن هذا لا مصلحة فيه، وأن هؤلاء العراقيين يكذبونه ويخذلونه، إذ هم أسرع الناس إلى فتنة وأعجزهم فيها عن ثبات، وأن أباه كان أفضل منه وأطوع في الناس وكان جمهور الناس معه، ومع هذا فكان فيهم من الخلاف عليه والخذلان له ما الله به عليم. حتى صار يطلب السلم بعد أن كان يدعو إلى الحرب، وما مات إلا وقد كرهم كراهة الله بها عظيم، وقد دعا عليهم وتبرم بهم.

فلما ذهب الحسين رضي الله عنه وأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل إليهم، واتبعه طائفة.

ثم لما قدم عبيد الله بن زياد الكوفة قاموا مع ابن زياد، وقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وغيرهما. فبلغ الحسين ذلك فأراد الرجوع، فوافته سرية عمر بن سعد وطلبوا منه أن يستأسر لهم فأبى، وطلب أن يردوه إلى يزيد ابن عمه حتى يضع يده في يده، أو يرجع من حيث جاء، أو يلحق ببعض الثغور، فامتنعوا من إجابته إلى ذلك، بغيا وظلما وعدوانا. وكان من أشدهم تحريضا عليه: شمر بن الجوشن. ولحق بالحسين طائفة منهم، ووقع القتل، حتى أكرم الله الحسين ومن أكرمه من أهل بيته بالشهادة، رضي الله عنهم وأرضاهم. وأهان بالبغي والظلم والعدوان من أهانه بما انتهكه من حرمتهم، واستحله من دمائهم، {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء}.

وكان ذلك من نعمة الله على الحسين وكرامته له، لينال منازل الشهداء، حيث لم يحصل له من أول الأسلام من الابتلاء والامتحان ما حصل لسائر أهل بيته، كجده وأبيه وعمه وعم أبيه رضي الله عنهم.

فإن بني هاشم أفضل قريش، وقريشا أفضل العرب، والعرب أفضل بني آدم، كما صح ذلك عن النبي ، مثل قوله في الحديث الصحيح: «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم بني إسماعيل، واصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم ».

وفي صحيح مسلم عنه أنه قال يوم غدير خم: «أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي».

وفي السنن: أنه شكا إليه العباس أن بعض قريش يحقرونهم، فقال: «والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتي».

وإذا كانوا أفضل الخلائق فلا ريب أن أعمالهم أفضل الأعمال. وكان أفضلهم رسول الله ، الذي لا عدل له من البشر. ففاضلهم أفضل من كل فاضل من سائر قبائل قريش والعرب، بل ومن بني إسرائيل وغيرهم.

ثم علي وحمزة وجعفر وعبيدة بن الحارث هم من السابقين الأولين من المهاجرين. فهم أفضل من الطبقة الثانية من سائر القبائل.

ولهذا لما كان يوم بدر أمرهم النبي بالمبارزة لما برز عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة، فقال النبي : «قم يا حمزة، قم يا عبيدة، قم يا علي» فبرز إلى الثلاثة ثلاثة من هاشم.

وقد ثبت في الصحيح أن فيهم نزل قوله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} الآية. وإن كان في الآية عموم.

ولما كان «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»، وكانا قد ولدا بعد الهجرة في عز الإسلام، ولم ينلهما من الأذى والبلاء ما نال سلفهما الطيب، فأكرمهما الله بما أكرمهما به من الابتلاء ليرفع درجاتهما؛ وذلك من كرامتهما عليه لا من هوانهما عنده، كما أكرم حمزة عليا وجعفرا وعمر وعثمان وغيرهم بالشهادة.

وفي المسند وغيره عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين عن النبي أنه قال: «ما من مسلم يصاب بمصيبة فيذكر مصيبة وإن قدمت فيحدث لها استرجاعا إلا أعطاء الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها».

فهذا الحديث رواه الحسين، وعنه بنته فاطمة التي شهدت مصرعه؛ وقد علم الله أن مصيبته تذكر على طول زمان.

فالمشروع إذا ذكرت المصيبة وأمثالها أن يقال: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إليه رَاجِعونَ}، «اللهم آجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرا منها». قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إليه رَاجِعونَ}، قال تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.

والكلام في أحوال الملوك على سبيل التفصيل متعسر أو متعذر، لكن ينبغي أن نعلم من حيث الجملة أنهم هم وغيرهم من الناس ممن له حسنات وسيئات يدخلون بها في نصوص الوعد أو نصوص الوعيد.

وتناول نصوص الوعد للشخص مشروط بأن يكون عمله خالصا لوجه الله، موافقا للسنة.

فإن النبي قيل له: الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، وقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل لله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل لله».

وكذلك شمول نصوص الوعيد له مشروط بأن لا يكون متأولا تأويلا مخطئا. فإن الله عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان.

وكثير من تأويلات المتقدمين ومن يعرض لها فيها من الشبهات معروفة بما يحصل بها من الهوى والشهوات، فيأتون ما يأتونه بشبهة وشهوة. والسيئات التي يرتكبها أهل الذنوب تزول بالتوبة، وقد تزول بحسنات ماحية ومصائب مكفرة. وقد تزول بصلاة المسلمين عليه، وبشفاعة النبي يوم القيامة في أهل الكبائر.

فلهذا كان أهل العلم يختارون فيمن عرف بالظلم ونحوه مع أنه مسلم له أعمال صالحة في الظاهر - كالحجاج بن يوسف وأمثاله - أنهم لا يلعنون أحدا بعينة، بل يقولون كما قال الله تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}، فيلعنون من لعنه الله ورسوله عاما، كقوله : «لعن الله الخمر وعاصرها ومعتصرها، وبائعها ومشتريها، وساقيها وشاربها، وحاملها والمحمولة إليه، وآكل ثمنها». ولا يلعنون المعين، كما ثبت في صحيح البخاري وغير: أن رجلا - كان يدعى حمارا - وكان يشرب الخمر، وكان النبي يجلده، فأتي به مرة، فلعنه رجل، فقال النبي : «لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله».

وذلك لأن اللعنة من باب الوعيد، والوعيد العام قد ينتفي في حق المعين لأحد الأسباب المذكورة، من توبة أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة، وغير ذلك.

وطائفة من العلماء يلعنون المعين، كيزيد. وطائفة بإزاء هؤلاء يقولون: بل نحبه، لما فيه من الإيمان الذي أمرنا الله أن نوالي عليه، إذ ليس كافرا.

والمختار عند الأئمة: أنا لا نلعن معينا، ولا نحب معينا مطلقًا. فإن العبد قد يكون فيه سبب هذا وسبب هذا إذا اجتمع فيه من حب الأمرين.

إذ كان من أصول أهل السنة التي فارقوا بها الخوارج والمعتزلة والمرجئة: أن الشخص الواحد تجتمع فيه حسنات وسيئات، فيثاب على حسناته ويعاقب على سيئاته، ويحمد على حسناته ويذم على سيئاته، وأنه من وجه مرضي محبوب، ومن وجه بغيض مسخوط. فلذا كان لأهل الأحداث هذا الحكم.

وأما أهل التأويل المحض، الذي يسوغ تأويلهم، فأولئك مجتهدون مخطئون خطؤهم مغفور لهم. وهم مثابون على ما أحسنوا فيه من حسن قصدهم واجتهادهم في طلب الحق واتباعه. كما قال النبي : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر».

ولهذا كان الكلام في السابقين الأولين ومن شهد له بالجنة، كعثمان وعلي وطلحة والزبير ونحوهم، له حكم آخر، بل ومن هو دون هؤلاء، مثل أكابر أهل الحديبية الذين بايعوا تحت الشجرة، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة. وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة».

فنقول في هؤلاء ونحوهم فيما شجر بينهم: إما أن يكون عمل أحدهم سعيا مشكورا أو ذنبا مغفورا أو اجتهادا قد عفي لصاحبه عن الخطأ فيه. فلهذا كان من أصول أهل العلم أنه لا يمكن أحد من الكلام في هؤلاء بكلام يقدح في عدالتهم وديانتهم، بل يعلم أنهم عدول مرضيون، وأن هؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم، لا سيما والمنقول عنهم من العظائم كذب مفترى، مثلما كان طائفة من شيعة عثمان يتهمون عليا بأنه أمر بقتل عثمان أو أعان عليه، وكان بعض من يقاتله يظن ذلك به، وكان ذلك من شبههم التي قاتلوا عليا بها. وهي شبهة باطلة.

وكان علي يحلف - وهو الصادق البار -: أني ما قتلت عثمان، ولا أعنت على قتله؛ ويقول: اللهم شتت قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل. وكانوا يجعلون امتناعه من تسليم قتله عثمان من شبههم في ذلك. وعلي لم يكن ممكنا من أن يعمل كل ما يريده، من إقامة الحدود ونحو ذلك، لكون الناس مختلفين عليه، وعسكره وأمراء عسكره غير مطيعين له في كل ما كان يأمرهم به. فإن التفرق والاختلاف يقوم فيه من الشر والفساد وتعطيل الأحكام ما يعلمه من يكون من أهل العلم العارفين بما جاء من النصوص في فضل الجماعة والإسلام.

ويزيد بن معاوية: قد أتى أمورا منكرة. منها وقعة الحرة. وقد جاء في الصحيح عن علي رضي الله عنه عن النبي قال: «المدينة حرام ما بين عائر إلى كذا. من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» وقال: «من أراد أهل المدينة بسوء أماعه الله كما ينماع الملح في الماء».

ولهذا قيل للإمام أحمد: أتكتب الحديث عن يزيد؟ فقال: لا، ولا كرامة، أوليس هو الذي فعل بأهل الحرة ما فعل؟

وقيل له، أي في ما يقولون: أما نحب يزيد، فقال: وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقيل: فلماذا لا تلعنه؟ فقال: ومتى رأيت أباك يلعن أحدا. انتهى.

ومذهب أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أهل القبلة بمجرد الذنوب ولا بمجرد التأويل، بل الشخص الواحد إذا كانت له حسنات وسيئات فأمره إلى الله تعالى.

وهذا الذي ذكرناه هو المتفق عليه بين الناس في مقتل الحسين رضي الله عنه.

وقد رويت زيادات: بعضها صحيح، وبعضها ضعيف، وبعضها كذب موضوع.

والمصنفون من أهل الحديث في ذلك - كالبغوي وابن أبي الدنيا ونحوهما - كالمصنفين من أهل الحديث في سائر المنقولات، هم ذلك أعلم وأصدق بلا نزاع بين أهل العلم. لأنهم يسندون ما ينقلونه عن الثقات، أو يرسلونه عمن يكون مرسله مقارب الصحة. بخلاف الإخباريين، فإن كثيرا مما يسندونه يسندونه عن كذاب أو مجهول. أما ما يرسلونه، فظلمات بعضها فوق بعض. وهؤلاء لعمري ممن ينقل عن غيره مسندا أو مرسلا.

وإما أهل الأهواء ونحوهم، فيعتمدون على نقل لا يعرف له قائل أصلا، لا ثقة ولا معتمد، وأهون شيء عندهم الكذب المختلق. وأعلم من فيهم لا يرجع فيما ينقله إلى عمدة، بل إلى سماعات عن المجاهيل والكذابين وروايات عن أهل الإفك المبين.

فقد تبين أن القصة التي يذكرون فيها حمل الرأس إلى يزيد ونكته بالقضيب: كذبوا فيها؛ وإن كان الحمل إلى ابن زياد وهو الثابت بالقصة. فلم ينقل بإسناد معروف أن الرأس حمل إلى قدام يزيد. ولم أر في ذلك إلا إسنادا منقطعا، قد عارضه من الروايات ما هو أثبت منه وأظهر - نقلوا فيها أن يزيد لما بلغه مقتل الحسين أظهر التألم من ذلك، وقال: لعن الله أهل العراق، لقد كنت أرضى من طاعتهم بدون هذا. وقال في ابن زياد: أما إنه لو كان بينه وبين الحسين رحم لما قتله. وأنه ظهر في داره الندب لقتل الحسين. وأنه لما قدم عليه أهله وتلاقى النساء تباكين. وأنه خير ابنه عليا بين المقام عنده والسفر إلى المدينة، فاختار السفر إلى المدينة، فجهزه إلى المدينة جهازا حسنا.

فهذا ونحوه مما نقلوه بالأسانيد التي هي أصح وأثبت من ذلك الإسناد المنقطع المجهول يبين أن يزيد لم يظهر الرضى بقتل الحسين، وأنه أظهر الألم لقتله. والله أعلم بسريرته.

وقد علم أنه لم يأمر بقتله ابتداء، لكنه مع ذلك ما انتقم من قاتليه ولا عاقبهم على ما فعلوا، إذ كانوا قتلوه لحفظ ملكه، الذي كان يخاف عليه من الحسين وأهل البيت رضي الله عنهم أجمعين. [ولم يظهر له من العدل وحسن السيرة ما يوجب حمل أمره على أحسن المحامل، ولا نقل أحد أنه كان على أسوإ الطرائق التي توجب الحد، ولكن ظهر من أمره في أهل الحرة ما لا نستريب أنه عدوان محرم. وكان له موقف في القسطنطينية - وهو أول جيش غزاها - ما يعد من الحسنات].

والمقصود هنا أن نقل رأس الحسين إلى الشام لا أصل له في زمن يزيد. فكيف بنقله بعد زمن يزيد؟ وإنما الثابت هو نقله إلى أمير العراق عبد الله بن زياد بالكوفة. والذي ذكر العلماء أنه دفن بالمدينة.

وأما ما يرويه من لا عقل له يميز به ما يقول، ولا له إلمام بمعرفة المنقول: من أن أهل البيت سبوا، وأنهم حملوا على البخاتي، وأن البخاتي نبت لها من ذلك الوقت سنامان: فهذا الكذب الواضح الفاضح لمن يقوله. فإن البخاتي قد كانت من يوم خلقها الله قبل ذلك ذات سنامين، كما كان غيرها من أجناس الحيوان. والبخاتي لا تستر امرأة. ولا سبى أهل البيت أحد، ولا سبي منهن أحد.

بل هذا كما يقولون: إن الحجاج قتلهم. وقد علم أهل النقل كلهم أن الحجاج لم يقتل أحدا من بني هاشم، كما عهد إليه خليفته عبد الملك. وأنه لما تزوج بنت عبد الله بن جعفر، شق ذلك على بني أمية وغيرهم من قريش، ورأوه ليس بكفء لها، ولم يزالوا به حتى فرقوا بينه وبينها.

بل بنو مروان على الإطلاق لم يقتلوا أحدا من بني هاشم، لا آل علي ولا آل عباس، إلا زيد بن علي المصلوب بكناسة الكوفة وابنه يحيى.

الوجه الرابع: أنه لو قدر أنه حمل إلى يزيد، فأي غرض كان لهم في دفنه بعسقلان، وكانت إذ ذاك ثغرًا يقيم به المرابطون؟ فإن كان قصدهم تعفية خبره، فمثل عسقلان تظهره لكثرة من ينتابها للرباط. وإن كان قصدهم بركة البقعة فكيف يقصد هذا من يقال إنه عدو له مستحل لدمه ساعٍ في قتله؟ ثم من المعلوم أن دفنه قريبًا عند أمه وأخيه بالبقيع أفضل له.

الوجه الخامس: أن دفنه بالبقيع هو الذي تشهد له عادة القوم، فإنهم كانوا في الفتن إذا قتل الرجل فيهم لم يكن منهم سلموا رأسه وبدنه إلى أهله، كما فعل الحجاج بابن الزبير لما قتله وصلبه ثم سلمه إلى أمه.

وقد علم أن سعي الحجاج في قتل ابن الزبير وأن ما كان بينه وبينه من الحروب أعظم بكثير مما كان بين الحسين وبين خصومه. فإن ابن الزبير ادعى الخلافة بعد مقتل الحسين وبايعه أكثر الناس، وحاربه يزيد حتى مات وجيشه محاربون له بعد وقعة الحرة.

ثم تولى عبد الملك غلبه على العراق مع الشام، ثم بعث إليه الحجاج بن يوسف، فحاصره الحصار المعروف حتى قتل، ثم صلبه، ثم سلمه إلى أمه.

وقد دفن بدن الحسين بمكان مصرعه بكربلاء، ولم ينبش، ولم يمثل به. فلم يكونوا يمتنعون من تسليم رأسه إلى أهله، كما سلموا بدن ابن الزبير إلى أهله. وإذا تسلم أهله رأسه فلم يكونوا ليدعوا دفنه عندهم بالمدينة المنورة عند عمه وأمه وأخيه، وقريبا من جده ، ويدفنونه بالشام حيث لا أحد إذ ذاك ينصرهم على خصومهم، بل كثير منهم كان يبغضه ويبغض أباه. هذا لا يفعله أحد.

والقبة التي على العباس بالبقيع، يقال إن فيها مع العباس الحسن وعلي بن الحسين وأبا جعفر محمد بن علي وجعفر بن محمد. ويقال إن فاطمة تحت الحائط أو قريبا من ذلك، وإن رأس الحسين هناك أيضا.

الوجه السادس: أنه لم يعرف قط أن أحدا، لا من السنة ولا من الشيعة، كان ينتاب ناحية عسقلان لأجل رأس الحسين، ولا يزورونه ولا يأتونه، كما أن الناس لم يكونوا ينتابون الأماكن التي تضاف إلى الرأس في هذا الوقت، كموضع بحلب.

فإذا كانت تلك البقاع لم يكن الناس ينتابونها ولا يقصدونها، وإنما كانوا ينتابون كربلاء، لأن البدن هناك: كان دليلا على أن الناس فيما مضى لم يكونوا يعتقدون أن الرأس في شيء من هذه البقاع، ولكن الذي عرفوه واعتقدوه هو وجود البدن بكربلاء، حتى كانوا ينتابونه في زمن أحمد وغيره، حتى إن في مسائله مسائل فيما يفعل عند قبره، ذكرها أبو بكر الخلال في جامعة الكبير في زيارة المشاهد.

ولم يذكر أحد من العلماء أنهم كانوا يرون موضع الرأس في شيء من هذا البقاع غير المدينة.

فعلم أن ذلك لو كان حقا لكان المتقدمون به أعلم. ولو اعتقدوا ذلك لعملوا ما جرت عادتهم بعلمه ولأظهروا ذلك وتكلموا به، كما تكلموا في نظائره.

فلما لم يظهر عن المتقدمين بقول ولا فعل ما يدل على أن الرأس في هذه البقاع، علم أن ذلك باطل. والله أعلم.

الوجه السابع: أن يقال: ما زال أهل العلم في كل وقت وزمان يذكرون في هذا المشهد القاهري المنسوب إلى الحسين أنه كذب ومين، كما يذكرون ذلك في أمثاله من المشاهد المكذوبة، مثل المشاهد المنسوبة بدمشق إلى أبي بن كعب وأويس القرني، أو هود أو نوح أو غيرهما، والمشهد المنسوب بحران إلى جابر بن عبد الله، وبالجزيرة إلى عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمر ونحوهما. وبالعراق إلى علي رضي الله عنه ونحوهما، وكذلك ما يضاف إلى الأنبياء غير قبر نبينا محمد ، وإبراهيم الخليل عليه السلام.

فإنه لما كان كثير من المشاهد مكذوبا مختلقا كان أهل العلم في كل وقت يعلمون أن ذلك كذب مختلق. والكتب والمصنفات المعروفة عن أهل العلم بذلك مملوءة من مثل هذا. يعرف ذلك من تتبعه وطلبه.

وما زال الناس في مصنفاتهم ومخاطباتهم يعلمون أن هذا المشهد القاهري من المكذوبات المختلقات، ويذكرون ذلك في المصنفات، حتى من سكن هذا البلد من العلماء بذلك.

فقد ذكر أبو الخطاب بن دحية في كتابه العلم المشهور في هذا المشهد فصلا مع ما ذكره في مقتل الحسين من أخبار ثابتة وغير ثابتة، ومع هذا فقد ذكر أن المشهد كذب بالإجماع، وبين أنه نقل من عسقلان في آخر الدولة العبيدية، وأنه وضع لأغراض فاسدة، وأنه بعد ذلك بقليل أزال الله تلك الدولة وعاقبها بنقيض قصدها.

وما زال ذلك مشهورا بين أهل العلم حتى أهل عصرنا من ساكني الديار المصرية، القاهرة وما حولها.

فقد حدثني طائفة من الثقات، عن الشيخ أبي عبد الله محمد بن علي القشيري المعروف بابن دقيق العيد، وطائفة عن الشيخ أبي محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي، وطائفة عن الشيخ أبي محمد بن القسطلاني، وطائفة عن الشيخ أبي عبد الله محمد القرطبي، صاحب التفسير وشرح أسماء الله الحسنى، وطائفة عن الشيخ عبد العزيز الديريني - كل من هؤلاء حدثني عنه من لا أتهمه، وحدثني عن بعضهم عدد كثير، كل يحدثني عمن حدثه من هؤلاء: أنه كان ينكر أمر هذا المشهد ويقول: إنه كذب وإنه ليس فيه الحسين ولا رأسه. والذين حدثوني عن ابن القسطلاني ذكروا عنه أنه قال: إن فيه نصرانيا. بل القرطبي والقسطلاني ذكروا بطلان أمر هذا المشهد في مصنفاتهما، وبينا فيها أنه كذب، كما ذكره أبو الخطاب بن دحية.

وابن دحية هو الذي بنى له الكامل دار الحديث الكاملية، وعنه أخذ أبو عمرو بن الصلاح ونحوه كثيرا مما أخذوه من ضبط الأسماء واللغات، وليس الاعتماد في هذا على واحد بعينه، بل هو الإجماع من من هؤلاء.

ومعلوم أنه لم يكن بهذه البلاد من يعتمد عليه في مثل هذا الباب أعلم ولا أدق من هؤلاء ونحوهم. فإذا كانوا متفقين على أن هذا كذب ومين، علم أن الله قد برأ منه الحسين.

وحدثني من حدثني من الثقات: أن من هؤلاء من كان يوصي أصحابه بأن لا يظهروا ذلك عنه خوفا من شر العامة بهذه البلاد، لما فيهم من الظلم والفساد. إذ كانوا في الأصل رعية للقرامطة الباطنيين، الذين استولوا عليها مائتي سنة، فزرعوا فيهم من أخلاق الزنادقة المنافقين وأهل الجهل المبتدعين وأهل الكذب الظالمين ما لم يمكن أن ينقلع إلا بعد حين، فإنه قد فتحها بإزالة ملك العبيديين أهل الإيمان والسنة في الدولة النورية والصلاحية، وسكنها من أهل الإسلام والسنة من سكنها، وظهرت بها كلمة الإيمان والسنة نوعا من الظهور؛ لكن كان النفاق والبدعة فيها كثيرا مستورا، وفي كل وقت يظهر الله فيها من الإيمان والسنة ما لم يكن مذكورا، ويطفئ فيها من النفاق والجهل ما كان مشهورا.

والله هو المسؤول أن يظهر بسائر البلاد ما يحبه ويرضاه من الهدى والسداد، ويعظم على عباده الخير بظهور الإسلام والسنة، ويحقق ما وعد به في القرآن من علو كلمته وظهور أهل الإيمان.

وكثير من الناس قد اعتقد وتخلق بأخلاق هي في الأصل من أخلاق الكفار والمنافقين، وإن لم يكن بذلك من العارفين، كما أن كثيرا منهم يشارك النصارى في أعيادهم، ويعظم ما يعظمونه من الأمكنة والأزمنة والأعمال، وهو لا يقصد بذلك تعظيم الكفر، بل ولا يعرف أن ذلك من خصائصهم، فإذا عرف ذلك انتهى عنه وتاب منه.

وكذلك كثير من الناس تخلق بشيء من أخلاق أهل النفاق، وهو لا يعرف أنها من أخلاق المنافقين؛ وإذا عرف ذلك كان إلى الله من التائبين. والله يتوب علينا وعلى جميع المذنبين من المؤمنين.

وهذا كله كلام في بطلان دعوى وجود رأس الحسين رضي اللّه عنه في القاهرة أو عسقلان، وكذبه.

ثم نقول: سواء كان صحيحا أو كذبا، فإن بناء المساجد على المقابر ليس من دين المسلمين، بل هو منهي عنه بالنصوص الثابتة عن النبي واتفاق أئمة الدين. بل لا يجوز اتخاذ القبور مساجد، سواء كان ذلك ببناء المسجد عليها، أو بقصد الصلاة عندها. بل أئمة الدين متفقون على النهي عن ذلك وأنه ليس لأحد أن يقصد الصلاة عند قبر أحد، لا نبي ولا غير نبي. وكل من قال: إن قصد الصلاة عند قبر أحد أو عند مسجد بني على قبر أو مشهد أو غير ذلك أمر مشروع، بحيث يستحب ذلك ويكون أفضل من الصلاة في المسجد الذي لا قبر فيه: فقد مرق من الدين وخالف إجماع المسلمين. والواجب أن يستتاب قائل هذا ومعتقده، فإن تاب وإلا قتل.

بل ليس لأحد أن يصلي في المساجد التي على القبور، ولو لم يقصد الصلاة عندها؛ فلا يفعل ذلك لا اتفاقا ولا ابتغاء، لما في ذلك من التشبه بالمشركين والذريعة إلى الشرك، ووجوب التنبيه عليه وعلى غيره، كما قد نص على ذلك أئمة الإسلام من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم. منهم من صرح بالتحريم. ومنهم من أطلق الكراهة. وليست هذه المسألة عندهم مسألة الصلاة في المقبرة العامة. فإن تلك منهم من يعلل النهي عنها بنجاسة التراب، ومنهم من يعلله بالتشبه بالمشركين.

وأما المساجد المبنية على القبور، فقد نهوا عنه، معللين بخوف الفتنة بتعظيم المخلوق، كما ذكر ذلك الشافعي وغيره من سائر أئمة المسلمين.

وقد نهى النبي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وقال إنه «حينئذ يسجد لها الكفار»، فنهى عن ذلك لما فيه من المشابهة لهم، وإن لم يقصد المصلي السجود إلا للواحد المعبود.

فكيف بالصلاة في المساجد التي بنيت لتعظيم القبور؟ وهذه المسألة قد بسطناها في غير هذا الجواب.

وإنما كان المقصود تحقيق مكان رأس الحسين رضي الله عنه، وبيان أن الأمكنة المشهورة عند الناس بمصر والشام، أنها مشهد الحسين وأن فيها رأسه، فهي كذب واختلاق وإفك وبهتان. والله أعلم. وكتبه أحمد بن تيمية.