رجوم الشياطين/المقدمة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ورهطه المخلصين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

وبعد، يقول العبد الأثيم كريم بن إبراهيم: إن هذه رسالة كريمة وكلمات عظيمة، بل هي درة يتيمة وجوهرة ثمينة، بل هي تذكرة للمتقين وتبصرة للمؤمنين، بل هي وسيلة للنجاة ووصلة إلى الجنّات، حبل للمتمسكين، وعروة وثقى للمستمسكين، مصباح للسالكين، ودليل للمتحيرين، صراط مستقيم، وسبيل قويم؛ كتبتها في رجم الشياطين وطرد الأبالسة عن قلوب المؤمنين، ينبغي مطالعتها في كل وقت وحين على كل من لم يبلغ درجة الكاملين.

وذلك أن الإنسان أنموذج هذا العالم، وفيه من كل شيء في هذا العالم شيء وحصة وقبضة، فكما أن في هذا العالم سماوات وأرضين، وكانت الشياطين يصعدون إلى السماوات ويقعدون منها مقاعد للسمع، وكان ذلك ديدنهم إلى أن خرج رسول الله ﵆ الذي هو عقل الكل؛ استنارت السماوات بنوره، فمُنعت الشياطين المخلوقة من الظلمة عنها لغلبة نورانيتها، فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً، ويكونون في الأرض ويتصرفون فيها إلى رجوع رسول الله ﵆ في الكرة، فيقتل إبليس وجنوده بأجمعهم، فينفيهم عن الأرض أيضاً كما نفوا في خروجه أول عن السماوات، فيطهر السماوات والأرضون عن دنسهم ورجسهم، وتشرق الأرض بنور ربها كما أشرقت السماوات، ويظهر باطن باطن الله، نور السموات والأرض، فكذلك الإنسان الذي هو أنموذج هذا العالم، له سموات وأرضون؛ فله عرش وهو قلبه، و كرسي هو نفسه، وفلك شمس وهو طبعه، وفلك زحل هو عاقلته، وفلك مشتري وهو عالمته، وفلك مريخ هو واهمته، وفلك زهرة وهو متخيلته، وفلك عطارد وهو متفكرته، وفلك قمر وهو حياته، وأرض أولى وهي جسده، وأرض ثانية وهي عادته، وأرض ثالثة وهي طبيعته، وأرض رابعة وهي شهوته، وأرض خامسة هي غضبه، وأرض سادسة هي إلحاده، وأرض سابعة هي شقاوته، وفي هذه الأراضي أبالسة وشياطين مفسدة مغوية، ويصعدون إلى سماوات وجوده في الأوايل ويقعدون منها مقاعد للسمع، ويتعلمون الوحي المذكورة في تلك السماوات من العلوم، فيمزجون بها حشواً رثّاً من وساوسهم الباطلة، ويصرفون تلك الوحي إلى مراداتهم، فينفثون بها في روع الإنسان كما كانوا في العالم، ينفثون في روع الكهنة، فإذا بُعث العقل الذي هو النبي الباطن في بدن الإنسان، وهو الذي يُعبد به الرحمن ويُكتسب به الجنان، واستنار بنوره سماوات وجوده، يطرد الشياطين عنها بنوره الذي أشرقت به سماوات وجوده، فرُجمت تلك الشياطين بالكواكب العلمية ونجوم المعارف واليقين والعلوم، واحترقت بضوئها، فلا يصعدون بعد ذلك إلى سماواته، ولكن يكونون في الأرض ويفسدون فيها بالوسوسة في الأعمال، وعقايده محفوظة صحيحة بنور العقل إلى أن يكرّ العقل ويظهر باطنه الذي هو العقل المرتفع والفؤاد الشامل نوره الأرضين والسموات، فيحرق نوره جميع الأبالسة من أراضي وجوده أيضاً، ويظهر فيه تأويل قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا}، وقوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، ويصير مثل نور الله سبحانه، اطعني فيما أمرتك أجعلك مثلي، ولله المثل الأعلى في السموات والأرض، فيصير بدنه مشكاة فيها مصباح عقله، المصباح في زجاجة قلبه الذي كأنه كوكب دري، يوقد ذلك المصباح من شجرة الزيتونة المباركة العقل الكلي، لا شرقية ولا غربية، فإنها فوق جهات الآثار، يكاد زيت تلك الشجرة يضيء فيستقل بوجوده، لو لم تمسسه نار مشيّة الله سبحانه، نور على نور، أي نور الشجرة على نور المصباح أو نور المصباح على نور الزجاجة على نور المشكاة، يهدي الله لنوره من يشاء، فيصير حينئذٍ مصداق قوله : «ألقى في هويتها مثاله، فأظهر عنها أفعاله»، ويكون مثلاً لله سبحانه مضروباً للناس. بالجملة، ما لم يبلغ الإنسان هذا المقام، يكون فيه أبالسة مفسدة، يوسوسون في قلبه وصدره، في عقائده وأعماله دائماً، فلمّا عرفتُ ذلك، أردت أن أهيّء للمؤمنين رجوماً للشياطين، مهما صعد فيهم شيطان إلى سماوات وجودهم لاستراق السمع للتلبيس والوساوس؛ يرجموه بنجم من هذه النجوم الطالعة وبشهاب من هذه الشهب الثاقبة ليحفظ سماوات عقايدهم وأفكارهم وخيالاتهم وأوهامهم وعلومهم وعاقلتهم وصدورهم وقلوبهم من الوساوس والشكوك والشبهات، وأعد لهم معارف وحقايق مختصرة تكون سبباً لكرور العقل وظهور باطنه، عسى الله أن ينفي الأبالسة وأتباعهم عن أرض وجودهم أيضاً، فأسأل الله سبحانه أن يوفّقني لإتمام هذه الرسالة، بحيث يكون عقلاً تدوينياً يتقوّى به العقول التكوينية، فيبعث في الصدور ويكرّ في القلوب، فينفي الشياطين عن سماوات وجودهم وأرضيها، فينبغي للمؤمن الخائف على نفسه من الوساوس والخطرات أن يلازم مطالعة هذا الكتاب في كل يوم مرة حذراً من تطرّق الأبالسة، فإن تهاون بذلك؛ ففي كل أسبوع مرة، وإن تهاون بذلك؛ ففي كل شهر مرة أو أقل أو أكثر، وإن تهاون بذلك؛ فعند هجوم الشياطين - نعوذ بالله - فيطالع هذا الكتاب، ويقرع به قلبه حتى يثبت ويستقر، وذلك أنه رُوي عن أبي عبد الله : «أن القلب ليزجّج فيما بين الصدر والحنجرة حتى يعقد على الإيمان، فإذا عقد على الإيمان قرّ، وذلك قول الله عزّ و جل: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}»، وفي رواية أخرى بهذا المعنى واستدل بقوله سبحانه: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ} إلى قوله سبحانه: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}.

بل ينبغي مراجعة هذا الكتاب متي ما وجد في قلبه سهواً وغفلة، لما روي عنه «أن القلب ليكون الساعة من الليل والنهار ما فيه كفر ولا إيمان كالثوب الخلق، ثم قال للراوي: أما تجد ذلك من نفسك؟ ثم قال: ثم تكون النكتة من الله في القلب بما يشاء من إيمان وكفر»، انتهى.

وذلك أن معالجة الغفلة بالذكر، وهذا الكتاب أجلّ الأذكار - إن شاء الله - فإنه تبصرة وذكرى لمن راض نفسه بالعلوم، ألم تسمع ما روي عن أبي الحسن موسى : «إن الله خلق قلوب المؤمنين مطوية مبهمة على الإيمان، فإذا اراد استثارة ما فيها؛ نضّحها بالحكمة وزرعها بالعلم، وزارعها والقيّم عليها رب العالمين»، انتهى.

وأرجو أن يكون هذا الكتاب نضح الحكمة وزرع العلم من الله سبحانه في قلوب المؤمنين، يستثار به أيمانهم، والزارع هو الله سبحانه. قال سبحانه: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}، بل هو الزارع، فإنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء، فها ذلك أبان الشروع في المقصود والتوكل على الله الودود، وسميت كتابي هذا بـ«رجوم الشياطين»، ورتّبته على إشراقين.