رسالة ابن فضلان (ت. سامي الدهان) /تمهيد

ملاحظات: مطبوعات المجمع العلمي العربي - دمشق (1959)، الصفحات 8–10


 
بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

      في صيف سنة 1951، زرتُ أستاذنا العلَّامة الرئيس الجليل محمد كرد علي - رحمه الله وطيب ثراه – في بيته بدمشق وكان يتصفح المجلات والصحف التي ترد الى المجتمع العلمي يطلّع على ما فيها ويقرأ مقالات المستشرقين والعلماء العرب لا تفوته صفحة أو إشارة، فاذا به يدفع إليّ مجلة هنغارية، صدرت في بودابست قبل شهر، وفيها مقالة بالألمانية عن رحلة ابن فضلان، كتبها أحد المستشرقين معلقاً ما نشر أو ترجم من الرحلة، يصحِّح ما يرى من وجوه التصحيح، ويقترح روايات جديدة، مشيراً في ذلك إلى نصّ الرحلة بالعربية وقد أثبته في صور شمسية مع المقال.

      قلبتُ المجلةَ بين يديّ، ورددتها الى أستاذنا الفقيد، ولم أدرك سرّ توجيهي إلى المقال، فإذا بالرئيس يحدّثني عن أهمية هذه الرسالة وعن حاجة المثقفين العرب إلى قراءتها وفهمها، واستخراج العبر منها وإكبار الأجداد في همتهم وسعيهم وثقافتهم، فهي تصف بلاد الروس والبلغار والأتراك في القرن العاشر للميلاد، وصفاً لا يكاد يقع إلاّ في هذا المصدر، والروسُ أنفسهم عادوا اليه وقرؤه ودرسوه ونشروا منه وترجموه منذ مئة عام، وجعلوه في مصادرهم الثمينة، كمرجع أساسي لا غنى عنه. وهم ما يزالون منذ سنين عديدة يعودون إليه، في مقالات وفي دراسات، ليزدادوا به فهماً ومعرفة، ففيه أسماء وأعلام، وفيه ألبسة وأطعمة، وعادات وتقاليد، تتكشف رموزها وإشاراتها عن أشياء جديدة كلَما أنعم المستشرقون نظرَهم في قراءة النص وفي تقليب غوامضه وحلّ مشكلاته.

      وهذه الدراسات والمقالات وصل إلينا بعضُها، وضل السبيل بعض آخر، فلم يعرف أكثرُ العرب ما كان من هذه الذخيرة الدفينة ولم يقفوا على أثرها في أدب القرن الرابع للهجرة، بل في آدابنا كلّها، وذلك لأن أقساماً من الرحلة طُبعتْ في الغرب، وتُرجمت، ولكن هذه الطبعات لم تصل إلى خزائننا العربية العامة، بله خزائن الأفراد فهي على هذا مجهولة لم تر النور في مطابعنا العربية وهي نادرة الوجود.

      وهنا حثَّني الرئيس الجليل – رحمه الله – على العناية بها وإخراجها كاملة وتحقيقها والتعليق عليها. ففرحتُ بالثقة، وظننت أن الأمر هيّن ليّن، وعدتُ من دار الرئيس بالغنيمة كما كنتُ أعود دائماً.

      فلما أقبلت على الصورة الشمسية أقرؤها، وأنعم النظر في عباراتها وقفت طويلا دون الفهم، وتعثرت طويلا في التخريج، وأدركني بعد الإعادة والتكرار يأس من فهمها ونشرها، وعرفت سبب عزوف الناشرين العرب عن تحقيقها، فهي نسخة مفردة وحيدة يتيمة مصحّفة أشد التصحيف، مبتورة في كثير من تعابيرها، تغصّ بأسماء الألبسة والأعلام والأماكن، فكأنَّ كل كلمة من كلماتها موضعُ الريبة والشك، تحوج إلى المراجعة والتثبّيت والتعليق. وكدتُ أنصرف عن العناية بها لولا أنَّ صديقي المستشرق «نيكيتا أليسيف١» – وهو يجيد الروسية – أرشدني الى المصادر الروسية والألمانية وأرادني كذلك على المضيّ في العناية بها وقد كان هو نفسهُ يعني بها كرسالة للدكتورية فإذا به ينصرف عنها إلى غيرها ويعلّق عليَّ الأمل في إخراجها.

      ولقيتُ بعد ذلك في كمبريج المستشرق الإنكليزي (دنلوب) فحدثته في أمرها، فإذا هو مّعنيٌ كذلك بتوضيح بعض ما فيها، وإذا به يدفع إليّ مقالاً نشره في التعليق على بعض عباراتها، مما يخصّ قبائل الترك فيها، فرجعتُ إليه وأفدتُ منه ولكنه يلمّ بناحية واحدة من نواح ما تزال غامضة صعبة.

      وحين زرتُ جامعة هارفارد في الولايات المتحدة ١٩٥٤ قدّم إليّ الأستاذ «ريتشارد فراي» رسالة وقَّعها مع صديقه الأستاذ «بلاك» وجعلها في التعليق على ما في رسالة ابن فضلان كذلك، وخصّ عنايته بتصحيح بعض كلمات في أوراق معدودة من الرسالة.

     وفي السنة نفسها أبلغني سيادةُ رئيس المجمع الأستاذ خليل مردم بك شرف اختياري في الوفد المجمعي إلى الاتحاد السوفياتي، بدعوة من أعضاء المجمع العلمي هناك، فكان أول همي أن أفوز بنسخة من الرسالة مترجمة إلى الروسية مع التعليقات، وقد تفضل علي بها الأستاذ (ف . بيلايف) مشكوراً، وفيها الصورة الشمسية الواضحة لرسالة ابن فضلان وكانت تعليقاتها منارة لي وهدى.

      وعكفتُ منذ ذلك الحين على هذه الرسالة أقرأ سطورها الغامضة وعباراتها الناقصة وأقابلُ ما فيها على ما نقل ياقوت الحموي وما أورده غيرُه من الجغرافيّين العرب، حتىَّ تم لي إنجازُها وأنا على مثل الشّك في بعض عباراتها، فإنْ خَلَت من الأخطاء فقد سدّد الله خطاي، وإنْ أصابني فيها بعضُ العِثَار فالمعذرة ممن يؤمن بضعف الإنسان عن أدراك الكمال، والفضلُ الأول للرئيس المرحوم الأستاذ محمد كرد علي، فقد هيأ لبعثها ونشرها لأول مرة في الدنيا العربية، والفضل كذلك لسيادة رئيس المجمع الجليل الأستاذ خليل مردم بك، أطال الله في عمره٢ ومتعه بالصحة، فهو خير خلف لخير سلف، رحب بالرسالة كما رحّب سلفُه فجعلها في مطبوعات مجمعنا العلمي، مشكوراً.

      فالحمد لله الذي أعان على إتمام تحقيقها وتقديمها على هذا الوجه وله الشكر والدعاء في البدء والختام.



  1. Mr. Nikita Elisséeff
  2. لقي الأستاذ الجليل وجه ربه خلال طبع هذه الصفحات ، فأورثنا حسرة وحزنا وفراغاً لا يعوض - رحمه الله رحمة واسعة -.