رسالة الغفران الجزء الثاني
أريد أن أتعلم منك كل شيئ
العجّاج
عدلفهمت قوله: جعلني الله فداءه، لا يذهب به إلى النِّفاق، وبعد ابن آدم من الوفاق، وهذه غريزةٌ خصَّ بها الشيخ دون غيره، وتعايش العالم بخداع، وأضحوا من الكذب في إبداع. لو قالت شيرين الملكة لكسرى: جعلني الله فداءك في إقامة أو سرى، لخالبته في ذلك ونافقته، وإن راقته بالعطل ووافقته، على أنَّه أخذها من حالٍ دنيَّة، فجعلها في النُّعمى السَّنَّية، وعتبه في ذلك الاحبَّاء، وجرت لهم في ذلك قصصٌ وأنباءٌ، وقيل له، فيما ذكر، والله معالم بمن جدب أو شكر: كيف تطيب نفس الملك لهذه المومس، وهي الوالجة في المغمِّس؟ فضرب لهم المثل بالقدح، وإذا حظيت الغانية فليست بالمفتقرة إلى الصَّدح، جعل في الإناء الشَّعر والدم، وقال للحاضر ولا ندم: أتجيب نفسك لشرب ما فيه؟ وإنَّما يجنح إلى تلافيه. إنَّها لا تطيب، وهي بالأنجاس قطيب. فأراق ذلك الشيء وغسله، وهذَّب وعاءه ثمَّ عسله، وجعل فيه من بعد مداما، وعرضها على النَّدامى، فكلّهم بهش أن يشرب، ومن يعاف العاتقة والغرب؟ فقال: هذا مثل شيرين، فلا تكونوا في السَّفه مسيرين. كم من شبل نافق أسدا، وأضمرا له غلاًّ وحسداً؟ ولبوءةٍ تداجي هرماساً، تنبذ إليه المقة وتبغض له لماساً؟ وضيغمٍ نقم على فرهود، وودَّ لو دفنه بالوهود؟ والفرهود ولد الأسد بلغة أسد شنوءة، وهو، آنس الله الإفليم بقربه، أجلُّ من أن يشرح له مثل ذلك، وإنَّما أفرق من وقوع هذه الرِّسالة في يد غلامٍ مترعرعٍ، ليس إلى الفهم بمتسرِّع، فتستعجم عليه اللَّفظة، فيظلُّ معها في مثل القيد، لا يقدر على العجل ولا الرُّويد. وكم خالبت الذِّئاب السَّلق، وفي الضّمائر تُكنُّ الفلق أي الدَّواهي، ومنه قول خلفٍ: موت الإمام فلقةٌ من الفلق والسَّلق، جمع سلقةٍ: وهي أنثى الذئب. وملكٍ سانى ملكةً، ثمَّ صنعت له مهلكةً؟؟! يقول القائل: بأبي أنت، جاد عملك وأتقنت!ولو قدر لبتَّ الودج، وإنَّما جامل وسدج. ولعل بعض العتارف يلفظ إلى البائضة حبَّة البرِّ، ويأنس بها في حرٍّ وقرّ، وفي فؤاده من الضِّغن أعاجيب، وتكثر وتقلُّ المناجيب، والمناجيب ها هنا تحتمل أمرين: أحدهما من النَّجابة، والآخر من قولهم: مناجيب أي ضعافٌ، من قول الهذليّ:
والمعنى: أنَّ المناجيب من النَّجابة تقلُّ، والمناجيب من الوهن تكثر. ولعلّ ذلك الصّاقع يرقب لأمّ الكيكة حماماً، ولا يرقب لها ذماماً. يقول في النّفس المتحدِّثة: ليت الذِّابح بكرَّ على المنقضة، فإنها عين المبغضة. أو يقول: لو أنِّي جعلت في قدرٍ، أو في بعض الوطس فلحقت بالهدر، لتزوَّجت هذه من الدِّيكة شابَّاً مقتبلاً، يحسن لها حبَّاً قبلاً.
وأنا أذكره بالكلمة العارضة، إذ كان قد بدأ بالإيناس، وترك مكايد النّاس: ألا يعجب من قول العرب: فداءٍ لك، بالكسر والتنوين كما قال الرّاجز:
ويروى تهاله. وذكر أحمد بن عبيد بن ناصحٍ، وهو المعروف بأبي عصيدة، أنَّ قولهم فداءٍ لك بالكسر، إذا كان لها مرافع لم يجز فيها الكسر والتَّنوين. ولا ريب أنَّه يحكي ذلك عن العلماء الكوفييِّن. وعينَّنه في قول النّابغة:
فأمّا البصريّون فقد رووا في هذا البيت: فداءٌ لك. وكيف يقول الخليل المخلص، وهو عن الهجران متقلِّص: إنَّ حنينه حنين واله من النُّوق، وهي الذّاهلة إن حمل عليها بعض الوسوق، وإنَّما تسجع ثلاثاً أو أربعاً، ثمَّ يكون سلوُّها متبعاً؟ فأما الحمامة الهاتفة فقد رزقها الباريء صيتاً شائعاً، وظلَّ وصفها بالأسف ذائعاً، تنهض إلى التقاط حبٍّ، وتعود إلى جوز لها ذات أب، فإن هي صادفته أكيل بازٍ أو سوذانق، ليس من أبصر اثره بالآنق غدا به ظفر شاهين، وهي، البائسة، من اللاَّهين، فما هي إلا مثل الحيوان، تملُّ حالها في أقصر أوان.
وقد زعم زاعمٌ، لا يصدَّق، أنَّ الحمائم في هذا العصر، يبكن مقعداً هلك في عهد نوحٍ، أبرح له البارح أم رمي بالسُّنوح، وإنَّ دوامها على ذلك لدليل الوفاء، وما العوض عن خليل الصّفاء؟ لا عوض ولا نائب إلاَّ فيه، وكيف يعتب الزَّمن على تجافيه؟ وإنَّما حشي بشرٍّ وغدر، وكتب له العزُّ في القدر. وأمّا الظَّبية فإنّها لا توصف بحنين، ولكن تبتقل بلبِّ منين. ومن لها باليانع من الأراك، ولا تقول لفارس الخيل الشَّازبة: دراك ومن كان وجده يعدل عن الخلد، فإنّه إذا جنب إلى الولد، فسوف تذره المدد ناسياً، كأنَّه ما جزع آسياً... وما أقلَّ صدق الألاّف، ولو بيعوا من الذَّهب،لا الورق، بآلافٍ:
وأحسب كثيِّراً تفوَّه بهذه المقالة على غرَّة، وما عرف مكان الشِّرِّة، فكيف يقدر على إخاء الملك، أم كيف يرتفع إلى الفلك؟ وأمّا ما ذكره من حالى، غطِّي شخصه أن يلحظ بنواظر الغير، ومتِّع من مالٍ بحير أي كثير، قال الرَّاجز:
فطالما أعطي الوثن سعوداً، فصار حضوره للجهلة موعوداً! فإن سررت بالباطل، فشهرت باتِّخاذ النياطل، وإنَّ الصابر مأجورٌ محمود، ولا ريب أن سيقدر لمن ظعن شربٌ مثمود. وأحلف كيمين امرىء القيس لمَّا رغب في مقامه عند الموموقة، ولم يفرق من الرامقة ولا المرموقة، فقال:
والأخرى التي أقسم بها زهيرٌ، إذ عصفت بالحرب القائمة هير، أعني قوله:
وبالحذَّاء التي نطق بها ساعدة، والمهجة إلى ملكها صاعدةٌ، فقال:
وأولي مع ذلك أليَّة الفرزدق لمَّا رهب وقوع انتقام، فاغتنم ما بين الكعبة والمقام، ووصف ما صنع فقال:
إنِّي لمكذوب عليه كما كذبت العرب على الغول، وإنَّها عمَّا يؤثر لفي شغول، وكما تقوَّلت الأمثال السائرة على الضَّبِّ وله بالكلدة إرباب الصَّبِّ. وكما تكلَّمت على لسان الضِّبع وهي خرساء، ما أطلق لسانها الوضح ولا المساء. يظنُّ أنَّني من أهل العلم، وما أنا له بالصاحب ولا الخلم،وتلك لعمري بليَّةٌ، تفتقد معها الجليِّة. والعلوم تفتقر إلى مراسٍ، ودارسٍ للكتب أخي دراس.
ويقال إننَّي من أهل الدِّين، ولو ظهر ما وراء السَّدين، ما اقتنع لي الواصف بسبٍّ، وودَّ أن يسقيني جوزلاً بشبّ، وكيف يدّعى للعلج الوحشيّ، وإنَّما أبد في الرّوض الحبشي، أن تغريده في السَّحر أشعار موزونةٌ، تأذن لنظيرها المحزونة؟ وهل يصوَّر لعاقلٍ لبيب، أنَّ الغراب النّاعب صدح بتشبيب، وأنَّ العصافير الطّائرة بأجنحةٍ، كعصافير المنذر الكائنة للتَّمنحة؟ وكيف يظنُّ الظانُّ أن للطائر أساجيع حمامة، وإنَّه لأخرس مع الدَّمامة؟ فبعد من زعم أنَّ الحجر متكلِّمٌ، وأنَّه عند الضَّرب متألِّم. ومن ألتمس من اللُّغام كسوةً، فإنَّه لا يجد إسوةً. ولو أنِّى لا أشعر بما يقال فيَّ، لأرحت من إنكاري وتلافيّ، وكنت كالوثن: سواءٌ عليه إن وقِّر من الوقار، وإن أوقر من الأوقار وكالأرض السَّبخة ما تحفل أن قيل: هي مريعة، أو قيل لها: بئست الزَّريعة؛ وكالفرير المعتبط: ما يأبه لقول الآكل: إنّه لساحٌّ ولا إذا قصب: إنَّه بالدِّكة شاحٌ. والله المستنصر على الإلاقيّ، لم توزن الراكدة بالأواقيّ والإلاقيُّ منسوبٌ إلى الإلاق وهو البرق الكاذب وكيف أغتبط إذا تخرِّص عليَّ، وعزيت المعرفة إليَّ؟ ولست آمناً في العاقبة، فضيحةً غير مصاقبة، ومثلي، إن جذلت بذلك، مثل من اتُّهم بمالٍ، فاعتقد أنَّ ما ذاع من الخبر يأتيه بجمال، فسرّه قول الجهلة: إنّه لحلف اليسار. فطلب منه بعض السَّلاطين أن يحمل إليه جملةً وافرةً، فصادف كذوبةً زافرة، وضربة كي يقرَّ، وقتل في العقوبة ولم يعظ البرّ.
وقد شهد الله أنِّي أجذل بمن عابني، لأنّه صدق فيما رابني، وأهتمُّ لثناءٍ مكذوب، يتركني كالطَّريدة العذوب، ولو نطحت بقرني الجرادة، لامتنعت من كلِّ إرادة، فأمّا روق الوعل، فأعوزه عندي نطيحٌ، لأنِّي بروق الظّبي أطيح. فغفر الله لمن ظنَّ حسناً بالمسيء، وجعله حجّة في النَّسيء. ولولا كراهتي حضوراً بين النّاس، وإيثاري أن أموت ميتة علهبٍ في كناس، فاجتمع معي أولئك الخائلون، لصحَّ أنَّهم عن الرُّشِد حائلون، وأتار لهم الحقُّ الطّامس وقبض على القتاد اللاّمس. وأمّا وروده حلب، حرسها الله، فلو كانت تعقل لفرحت به فرح الشّمطاء المنهبلة، ليست بالآبلة ولا المؤتبلة،شحط سليلها الواحد، وما هو لحقِّها جاحدٌ. وقدم بعد أعوامٍ، فنقعت به فرط أوامٍ، وكانت معه كالخنساء ذات البرغز، رتعت به في الأصيل، وليس هو لحشفٍ بوصيل، فلمّا رأت المكان آمناً، ولم تخش للسِّراح الخمع كامناً، انبسطت في المراد الواسع وخلَّفته، يحاول أنفاً تكلفته، لتجرَّ لذلك الولد ما في الأخلاف، ولا تلافي بعيد التّلاف، فعادت المسكينة فلم تصبه، فقالت للصّمد: لا تنصبه إن كان وقع في مخالب الذِّيب، ومني ببعض التَّعذيب، فأنت القادر عل تعويض الأطفال، والعالم بعقبى الطَّيرة والفال. فبينما هي تردَّد بين العلة والوله بغم لها الفقيد من حقفٍ اتخذ فيه مربضاً، ولم يرَ من الرُّماة منبضاً، هكع لما شبع. فما ساءه القدر ولا سبع. فغمر فؤادها ابتهاجٌ، من بعد ما وضح لها المنهاج.
ولو رجع القارظ إلى عنزة، ما بان فيها الطَّرب للرّجعة، وما قدر من زوال الفجعة، إلا دون ما أنا مضمرٌ مجنُّ، من المسرَّة بدنوِّ الدِّيار. وإلقائه عصا التِّسيار، فالحمد لله الذي أعاد البارق إلى الغمام الوسميّ، وأتى المومض بحلى السُّميّ وإنَّ حلب المنصورة لتختلُّ إلى من يعرف قليلاً من علم، في أيَّام المحاربة والسِّلم، فما باله أيّد الله الآداب بأن يزيده في المدة فإنما لغرابها كالعدَّة.
وإني لأعجب من تمالؤ جماعة، على أمرٍ ليس بالحسن ولا الطاعة، ولا ثبت له يقينٌ، فيشوفه الصَّنع أو يقين قد كدت ألحق برهط العدم، من غير الأسف ولا النَّدم، ولكنَّما أرهب قدومي على الجبَّار، ولم أصلح نخلي بإبار. وقيل لبعض الحكماء: إنَّ فلاناً تلطَّف حتى قتل نفسه، ولم يطق في الدّار الخالية عفسه، وكره أن يمارس بدائع الشُّرور، وأحبَّ النُّقلة إلى منازل السُّرور، فقال الحكيم قولاً معناه: أخطأ ذلك الشابُّ المقتبل، وله ولأمِّه يحقّ الهبل، هلاَّ صبر على صروف الزَّمان، حتى يمنو له القدر مانٍ؟ فإنَّه لا يشعر علام يقدم، ولكلِّ بيتٍ هدم! ولولا حكمة الله جلَّت قدرته، وأنَّه حجز الرَّجل عن الموت، بالخوف من العلز والفوت، لرغب كلُّ من احتدم غضبه، وكلَّ عن ضريبةٍ مقضبه، أن تنزع له من الموت كؤوسٌ، والله العالم بما يؤوس.
وأمَّا أبو القطران الأسديُّ، وأيُّ البشر من الخطوب مفديّ، فصاحب غزلٍ وتبطُّل، وتوفُّرٍ على الخرَّد وتعطُّل، وما أشكُّ أنّ الشّيخ، أقرّ الله عين الأدب بالزيادة في عمره أشدّ شوقاً إلى أحمد بن يحيى مع صمعه، وأبي الحسن الأثرم مع ثرمه، من المرّار بن سعيد عند رجاء العدة وخوف الوعيد، وهو ذلك المتهيّم إلى وحشيّة، وإن فقد لبينها الحشيّة، وادّكر ثغراً كالإٌغريض، وخدّا ًيعدل بلون الإحريض وإنَّما ودُّ الغانية خلابٌ وخداعٌ، وللكمد في هواه ابتداعٌ. ولو هلكت تلك المرة والمرّار يعيش، لعدِّ أنَّه بتلفها نعيش، ولا سيَّما بعد السَّنّ العالية، وقوَّة النّفس الآلية. ولعلّ ابا القطران لو متّع بهذه المذكورة ما يكون قدره مائة حقبةًٍ، على غير الجزع والرِّقبة، لجاز أن يغرض من الوصال، إذا علم أنَّ حبله في اتِّصال. ولو نزل بها شيءٌ تتغيَّر به عن العهد، لتمنَّى أن تقذف إلى غير المهد، لأنَّ ابن آدم بخيلٌ ملول، نسري به إلى المنيَّة أمونٌ ذلول. ولو أصابها العور، بعد أن سكن عينها الحور، لظنَّ أن ذلك نبأ لا يغفر ولا يكفَّر، فكيف يعتب على الفاهين، وينتقم من القوم السّاهين؟ والله سبحانه، قد رفع ذلك عن ساهٍ ما علم، ونائمٍ إذا أحسّ بالمؤلم ألم.
ومن أين لذلك الشّخص الأسدي، ما وهبه الله للشيخ من وفاءٍ لو علم به السّموءل لاعترف أنَّه من الغادرين، أو الحارث ابن ظالم لشهد أنَّه من السّادرين؟؟؟! من قولهم فعل كذا وكذا سادراً، أي لا يهتمُّ لشيء، وإنّما عاشر أبو القطران أعبداً في الإبل وآمياً، ونظر إلى عقبه دامياً، ممَّا يطأ على هراسٍ، ومن له في المكلأة بالفراس؟ وهو التِّمر الأسود، ومن أبيات المعاني:
ولعلّه لو صادف غانيةً على وحشيّة بشقِّ الأبلمة لسلاها غير المؤلمة، وإنَّما ديدن ذلك الرّجل ونظرائه صفقه ناقةٍ أو ربع، وما شجره المغترس بالنَّبع. إذا جنى الكمأة بجح، وخال أنَّه قد نجح! ولو حضر أخونة حضرها الشّيخ لعاد كما قال القائل:
وهو، قدَّر الله له ما أحبَّ، قد جالس ملوك مصر التي قال فيها فرعون: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون؟ وقد أقام بالعراق زمناً طويلاً، وأدام على الأدب تعويلاً، وبالعراق مملكة فارس، وهم أهل الشَّرف والظّرف، يوفي صرفهم في الأطعمة على كلِّ صرف، ولا ريب أنَّه قد جالس بقاياهم، واختبر في المعاشرة سجاياهم، وعاطوه الأكؤس ألات التّصاوير، على عاد المرازبة والأساوير، كما قال الحكميُّ:
وأبو القطران كان يستقي النُّطفة بخلبةٍ، ويجعلها في الغمر أو العلبة، وإذا طعم فمن له باللَّهدة، وإن أخصب شرع في النَّهيدة. وما أشكُّ أنَّه، أمتع الله الآداب ببقائه، لو رزق محاورة أبي الأسود على عرجه وبخله المتناذر وجرجه، لكانت مقتة له أبلغ من مقة مهديّ ليلاه ولا أقول رؤبة أبيلاه. ولو أدرك محاضرة أبي الخطَّاب لكان بدوش عينيه أشدَّ شغفاً من الحادرة بسميَّة، ومن غيلان بميَّة لأنّه قال:
وهو بجلع أبي الحسن سعيد بن مسعدة، أعجب من كثيِّر بشنب عزَّة، والعذريِّ بلمى بثينة. ولو كان أبو عبيدة أذفر الفم، لما أمنت مع كلفه بالأخبار،أن يقبِّله شقَّ البلسة بلا استكبار، وفي الحديث عن عائشة، رحمة الله عليها: كان رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، يقبِّلني شقَّ التينة. وروى بعضهم: شقَّ التمرة. وذلك أن يأخذ الشّفة العليا بيده، والسُّفلى بيده الأخرى،ويقبِّل ما بين الشفتين. وأما من فقده من الأصدقاء لمّا دخل حلب، حرسها الله، فتلك عادة الزَّمن، ليس على لسالم بمؤتمن، يبدِّل من الأبيات المسكونة قبوراً، ولا يلحق بعثرة جبوراً. وإنَّ رمس الهالك لبيت الحقَّ، وإن طرق بالملمَّ الأشقّ. على أنّه يغني الثّاوي بعد عدمٍ، ويكفيه المؤونة مع القدم. وإنَّ الجسد لمن شرٍّ خبيءٍ، يبعد من سبيٍ وسبيء. قال الضّبيّ:
وما زالت العرب تسمّي القبر بيتاً، وإن كان المنتقل إليه ميتاً، قال الرّاجز:
فأمّا الفصل الذي ذكر فيه الخليل،فقد سقط منه اسم الذي غلا فيَّ، وقرن بالنُّجوم الصَّلافيَّ، ومن كان، فغفر الله جرائمه، وحفظ له في الأبد كرائمه، فقد أخطأ على نفسه فيما زعم وعليَّ، ونسب مالا أستوجب إليَّ. وكم أعتذر وأتنصَّل، من ذنبٍ ليس يتحصَّل!؟ وإنَّي لأكره بشهادة الله تلك الدَّعوى المبطلة، كراهة المسيح من جعله ربَّ العزَّة، فما ترك للفتن من مهزَّة بدليل قوله تعالى: " وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للنّاس اَّتخذوني وأمِّي إلهين من دون الله، قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقٍّ، إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، إنِّك أنت علاَّم الغيوب ".
وأمّا أبو الفرج الزَّهرجيُّ فمعرفته بالشّيخ تقسم أنّه للأدب حليفٌ،وللطَّبع الخيَّر أليفٌ. ووددت أنَّ الرَّسالة وصلت إليَّ، ولكن ما عدل ذلك العديل، فبعدما تغنَّى هديل، هلاَّ اقتنع بنفقةٍ أو ثوبٍ، وترك الصُّحف عن نوب!؟ فأرب من يديه، ولا اهتدى في اللَّيلة بفرقديه. لو أنّه أحد لصوص العرب الذَّين رويت لهم الأمثال السّائرة، وتحدَّثت بهم المنجدة والغائرة، لما اغتفرت ما صنع بما نظم، لأنّه أفرط وأعظم، أي أتى عظيمة وبتك من القلائد نظميةً. وقد وفَّق أبو الفرج وولده، وصار كاللُّجّة ثمده، لمَّا درس عليه الكتب، وحفظ عنه ما يكون الترُّتب، فسلَّم العاتكة إلى القاريِّ، والنَّافجة إلى المرء الدّاريّ، والرُّمح الأطول إلى ابن الطُّفيل، والأعنَّة إلى أحلاس الخيل. وإن كان الشّيخ مارس من التَّعب أمَّ الرُّبيق، فقد جدّد عهده الأوَّل بقويق، وإنَّه لنعم النَّهر، لا يغرق السّابح ولا يبهر، وبناته المخطوبات صغارٌ، يؤخذن منه في الغفلة ولا يغار. يعلوهنَّ، والقدر يغولهنَّ، سترن الأنفس فما تبرَّجن، ولكن بالرّغم خرجن. خدورهنَّ من ماء، زارتهنَّ الملموءة بالإلماء والملموءة الشّبكة، يقال: ألمأ على الشيء إذا أخذه كلَّه ما يشعر قويقٌ المسكين، أعربٌ سبت من ولد أم رومٌ، ولا يحفل بما تروم. ولقد ذكره البحتريُّ، ونعته الصنَّوبريُّ، وإخال أنَّ الشّيخ أفسدته عليه دجلة وصراتها، وأعانها على ذلك فُراتها.
وأمَّا حلب، فإنّها الأمُّ البرَّة، تعقد بها المسرَّة، وما أحسبها، إن شاء الله، تظاهر بذميم العقوق، أو تغفل المفترض من الحقوق ووحشيّة يحتمل أن يكون، آنس الله الآداب ببقائه، جعلها نائبة عمن فقده من الإخوان، الذين عُدم نظيرهم في الأوان. وكذلك تجري أمثال العرب: يكنون فيها بالاسم عن جميع الأسماء، مثال ذلك أن يقول القائل:
يجوز أن يرى الرجل رجلاً قد فتك بمن اسمه حسَّان أو عطاردٌ أو غير ذلك، فيتمَّثل بهذا البيت، فيكون عمرو فيه واقعاً على جميع من يتمثَّل له به. وكذلك قول الرّاجز:
صار ذلك مثلاً لكلَّ من عمل عملاً لم يحكمه، فيجوز أن يُقال لمن اسمه خالدٌ أو بكرٌ أو ما شاء الله من الأسماء. ويضعون في هذا الباب المؤنَّث موضع المذكَّر، والمذكّر موضع المؤنَّث، فيقولون للرّجل: أطرِّي فإنِّك ناعلةٌ، والصيَّف ضيعَّت اللَّين، محسنة فهيلي، وابتدئيهنَّ بفعال سبيت. وإذا أرادوا أن يخبروا بأنَّ المرأة كانت تفعل الخير ثمّ هلكت فانقطع ما كانت تفعله، جاز أن يقولوا: ذهب الخير مع عمرو ابن حممة. وجائزٌ أن يقولوا لمن يحذِّرونه من قرب النّساء: لا تبت من بكريٍّ قريباً؛ والبكريُّ أخوك فلا تأمنه. ومثل هذا كثير. وأمَّا شكواه إليّ، فإننّي وإيّاه لكما قيل في المثل: الثّكلى تعين الثكلى، وعلى ذلك حمّل الأصمعيُّ قول أبي داود:
كلانا بحمد الله مضلُّ، فعلى من نحمل وعلى من ندلُّ؟ أمّا المطيّة فآلية، وأمّا المزادة فخاليةٌ، والرّكب يفتقر إلى الحصاة، وكلَّهم بهش للوصاة:
ن اشتكت السَّمرة سفن العاضد إلى السَّيالة، فإنَّها تشكو النّازلة إلى شاكٍ، والصَّدق أفضل من الابتشاك. ولا أرتاب أنَّه يحفظ قول الفزازيِّ منذ خمسين حجَّة أو أكثر:
ولا يزل أهل الأدب يشكون الغير في كلَّ جيل، ويخصُّون من العجائب بسجلٍ سجيلٍ. وهو يعرف الحكاية أنّ مسلمة بن عبد الملك أوصى لأهل الأدب بجزءٍ من ماله، وقل: إنَّهم أهل صناعةٍ مجفوَّةٍ. وأحسب أنَّهم والحرفة خلُقا توأمين، وإنما ينجح بعضهم في ذات الزُّمين، ثمّ لا تلبث أن تزل قدمه، ويتفرَّى بالقدر أدمه.وقد سمع في مصر بقصَّة أبى الفضل وسعيد، وما كان أحدهما من الآخر ببعيد. وإذا كان الأدب على عهد بني أميَّة يقصد أهله بالجفوة، فكيف يسلمون من باسٍ، عند مملكة بني العبّاس؟ وإذا أصابتهم المحن في عدَّان الرشيد فكيف يطمع لهم بالحظِّ المشيد؟ أليس أبو عبيدة قدم مع الأصمعيَّ وكلاهما يريد النُّجعة، ولا يلتمس إلى البصرة رجعة، فتشبِّث بعبد الملك، وردَّ معمرٌ، ومن يعلم بما يجنُّ الخمر. ومن بغى أن يتكسَّب بهذا الفنِّ، فقد أودع شرابه في شنٍّ، غير ثقةٍ على الوديعة، بل هي منه في صاحب خديعة.
سيبويه
عدلوقد روي أن سيبويه لمَّا أختبر شأنه وراز، رغب في ولاية المظالم بشيراز، وأنَّ الكسائيَّ تحوَّب ممّا صنع به، فأعانه كي يشحط على مطلبه،فأمّا حبيب بن أوسٍ فهلك وهو بالموصل على البريد: وصاحب الأدب حليف التّصريد،وأمّا الذين ذكرهم من المصحَّفين، فغير البررة ولا المنصفين. وما زال التتّفل يعرض لأذاة الأسد، وما أحسبه يشعر بمكان الحسد، فإذا أدَّلج وردٌ هموس، تشقى به التامكة، أو اللَّموس، فثعالة به منذرٌ، كأنّه للمفترس محذِّر، ولا يراه الضّيغم موضعاً للعتاب، ويجعل أمره فيما يحتمل من الخطب المنتاب. وكم من أغلب مثارٍ، يسهَّد لغناء الطَّيثار، وإذا هو بليلٍ تغنَّى، فالقسور به معنَّى:
ومازال الهمج يقولون، ويقصرون عن المكرمة فلا يطولون، وإنهم عما أثَّل متثاقلون، وطلاَّب الأدب في حباله واقلون،من انفرد بفضيلةٍ أثيرةٍ، فإنّه يتقدَّم بمناقب كثيرةٍ، وإن حسَّاد البارع لكما قال الفرزدق:
يعدو على الحاسد حسده، ويذوب من كبتٍ جسده:
فأمّا ما ذكره من قول أبي الطَّيب: أذمُّ إلى هذا الزّمان أهيله فقد كان الرّجل مولعاً بالتّصغير، لا يقنع من ذلك بخلسة المغير؛ كقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وغير ذلك مما هو موجود في ديوانه، ولا ملامة عليه، إنما هي عادة صارت كالطبع، فما حسن بها مألوف الربع، ولكنها تغتفر مع المحاسن، والشام قد يظهر على المراسن. وهذا البيت الذي أوله:
إنما قاله في علي بن محمد بن سيار بن مكرم بأنطاكية قبل أن يمدح سيف الدولة علي بن عبد الله بن حمدان، والشعراء مطلق لهم ذلك، لأن الآية شهدت عليهم بالتخرص وقول الأباطيل: " ألم تر أنهم في كل وادٍ بهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون؟ " وأهل كلمة أصل وضعها للجماعة، فيقال: ارتحل أهل الدار،فيعلم السامع أن المتكلم لا يقصد واحداً بما قال، إلا أن هذه الكلمة قد استعملت للآحاد، فقيل: فلان أهل الخير وأهل الإحسان، قال حاتم الطائي:
وكأن هذه اللفظة أصلها أن تكون للجمع، ثم نقلت إلى الواحد، كما أن صديقاً وأميراً ونحوهما إنما وضعن في الأصل للأفراد، ثم نقلن إلى الجمع على سبيل التشبيه. وكذلك قولهم: بنو فلان أخ لنا. ويقال: أهل وأهلة، وأهلات في الجمع، قال الشاعر:
وكأن هذه اللفظة أصلها أن تكون للجمع، ثم نقلت إلى الواحد، كما أن صديقاً وأميراً ونحوهما إنما وضعن في الأصل للأفراد، ثم نقلن إلى الجمع على سبيل التشبيه. وكذلك قولهم: بنو فلان أخ لنا. ويقال: أهل وأهلة، وأهلات في الجمع، قال الشاعر: فهم أهلات حول قيس بن عاصم إذا أدلجوا بالليل، يدعون كوثرا وقال بعض النحويين في تصغير آل الرجل: يجوز أويل وأهيل، كأنه يذهب إلى أن الهاء في أهل أبدلت منها همزة، فلما اجتمعت الهمزتان جعلت الثانية ألفاً، ومثل هذا لا يثبت. والأشبه أن يكون آل الرجل، مأخوذاً من آل يؤول، إذا رجع، كأنهم يرجعون إليه أو يرجع إليهم. أما ما ذكره من حكاية القطربلي وابن أبي الأزهر، فقد يجوز مثله، وما وضح أن ذلك الرجل حبس بالعراق، فأما بالشام فحبسه مشهور. وحدثت أنه كان إذا سئل عن حقيقة هذا اللقب، قال: هو من النبوة، أي المرتفع من الأرض. وكان قد طمع في شيء قد طمع فيه من هو دونه. وإنما هي مقادير، يديرها في العلو مدير، يظفر بها من وفق، ولا يراع بالمجتهد أن يخفق،وقد دلت أشياء في ديوانه أنه كان متألهاً، ومثل غيره من الناس متدلهاً فمن ذلك قوله:
وقوله:
وإذا رجع إلى الحقائق، فنطق اللسان لا ينبيء عن اعتقاد الإنسان، لأن العالم مجبول على الكذب والنفاق، ويحتمل أن يظهر الرجل بالقول تديناً، وإنما يجعل ذلك تزيناً، يريد أن يصل به إلى ثناء، أو غرض من أغراض الخالبة أم الفناء، ولعله قد ذهب جماعة هم في الظاهر متعبدون، وفيما بطن ملحدون.
دين دعبل
عدلوما يلحقني الشك في أن دعبل بن علي لم يكن له دين، وكان يتظاهر بالتشيع، وإنما غرضه التكسب، وكم أثبت نسباً بنسب ولا أرتاب أن دعبلاً كان على رأي الحكمي وطبقته، والزندقة فيهم فاشية، ومن ديارهم ناشية.
وقد اختلف في أبي نواس: ادعي له التأله وأنه كان يقضي صلوات نهاره في ليله، والصحيح أنه كان على مذهب غيره من أهل زمانه، وذلك أن العرب جاءها النبي ﷺ، وهي ترغب إلى القصيد، وتقصر هممها عن الفصيد، فاتبعه منها متبعون، والله أعلم بما يوعون، فلما ضرب الإسلام بجرانه، واتسق ملكه على أركانه، مازج العرب غيرهم من الطوائف، وسمعوا كلام الأطباء وأصحاب الهيئة وأهل المنطق، فمالت منهم طائفة كثيرة.
ولم يزل الإلحاد في بني آدم على ممر الدهور، حتى إن أصحاب السير يزعمون أن آدم ﷺ، بعث إلى أولاده فأنذرهم على ذلك المنهاج إلى اليوم. وبعض العلماء يقول إن سادات قريش كانوا زنادقة. وما أجدرهم بذلك! وقال شاعرهم يرثي قتلى بدر، وتروي لشداد بن الأسود الليثي:
ولا يدعي مثل هذه الدعاوي إلا من يستبسل وراءها للحمام، ولا يأسف له عند الإلمام. وحدثت أن أبا الطيب أيام كان إقطاعه " بصف " رؤي يصلي بموضع بمعرة النعمان يقال له كنيسة الأعراب وأنه صلى ركعتين، وذلك في وقت العصر، فيجوز أن يكون رأى أنه على سفر، وأن القصر له جائز.
وحدثني الثقة عنه حديثاً معناه: أنه لما حصل في بني عدي وحاول أن يخرج فيهم، قالوا له وقد تبينوا دعواه: ها هنا ناقة صعبة، فإن قدرت على ركوبها أقررنا أنك مرسل. وأنه مضى إلى تلك الناقة وهي رائحة في الإبل، فتحيل حتى وثب على ظهرها، فنفرت ساعة وتنكرت برهة، ثم سكن نفارها ومشت مشي المسمحة، وأنه ورد بها الحلة وهو راكب عليها، فعجبوا له كل العجب، وصار ذلك من دلائله عندهم.
وحدثت أيضاً أنه كان في ديوان اللاذقية، وأن بعض الكتاب انقلبت على يده سكين الأقلام فجرحته جرحاً مفرطاً، وأن أبا الطيب تفل عليها من ريقه، وشدها غير منتظر لوقته، وقال للمجروح: لا تحلَّها في يومك. وعد له أيّاماً وليالي، وإن ذلك الكاتب قبل منه، فبرىء الجرح، فصاروا يعتقدون في أبي الطيب أعظم اعتقاد، ويقولون: هو كمحيي الأموات.
وحدث رجل: كان أبو الطيب قد استخفى عنده في اللاذقية أو في غيرها من السواحل، أنه أراد الانتقال من موضع إلى موضع، فخرج بالليل ومعه ذلك الرجل، ولقيهما كلب ألح عليهما في النباح ثم انصرف، فقال أبو الطيب لذلك الرجل وهو عائد: إنك ستجد ذلك الكلب قد مات. فلما عاد الرجل ألفى الأمر على ما ذكر( ولا يمتنع أن يكون أعد له شيئاً من المطاعم مسموماً وألقاه له وهو يخفي عن صاحبه ما فعل. والخريق سم الكلاب معروف).
وأما القطربلي وابن أبي الأزهر فمن الزول اجتماعهما على تأليف كتابٍ، وقل ما يعرف مثل ذلك. ونحو منه قصة " الخالديين " اللذين كانا في الموصل وهما شاعران، وقد كانا عند سيف الدولة وانصرفا على حد مغاضبة. ولهما ديوان ينسب إليهما لا ينفرد فيه أحدهما بشيء دون الآخر إلى في أشياء قليلةٍ. وهذا متعذر في ولد آدم إذا كانت الجبلة على الخلاف وقلة الموافقة.
فأما أن يعمل الرجل شيئاً من كتابٍ، ثم يتمّه الآخر، فهو أسوغ في المعقول من أن يجتمع عليه الرجلان. والبغداديون يحكون أن أبا سعيد السيرافي عمل من كتابه المعروف بالمقنع أو الإقناع إلى باب التصغير، ثم توفي وأتّمه بعده ولده أبو محمد.
وقد يجوز مثل هذا، وليس عندهم فيه ريب، وحكى لي الثقة أن أبا علي الفارسي كان يذكر أن أبا بكر بن السراج عمل من ( الموجز ) النصف الأول لرجل بزاز، ثم تقدم إلى أبي علي بإتمامه، وهذا لا يقال أنه من إنشاء أبي علي لأن الموضوع من ( الموجز )، هو منقول من كلام ابن السراج في ( الأصول ) وفي ( الجمل )، فكأن أبا علي جاء به على سبيل النسخ، لا أنه ابتدع شيئاً منه عنده،والذين رووا ديوان أبي الطيب يحكون عنه أنه ولد سنة ثلاث وثلثمائة. وكان طلوعه إلى الشام سنة إحدى وعشرين، فأقام فيه برهة ثم عاد إلى العراق ولم تطل مدته هنالك. والدليل على صحة هذا الخبر أن مدائحه في صباه إنما هي في أهل الشام إلا قوله:
وأما شكيته أهل الزمان إليه، فإنه سلك في ذلك منهاج المتقدمين، وقد كثر المقال في ذم الدهر حتى جاء في الحديث: " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر " وقد عرف معنى هذا الكلام، وأن باطنه ليس كظاهره، إذ كان الأنبياء عليهم السلام، لم يذهب أحد منهم إلى أن الدهر هو الخالق، ولا المعبود،وقد جاء في الكتاب الكريم: " وما يهلكنا إلا الدَّهر " وقول بعض النّاس: الزمان حركة الفلك، لفظ لا حقيقة له. وفي كتاب سيبويه ما يدل على أن الزمان عنده: مضي الليل والنهار. وقد تعلق عليه في هذه العبارة.
وقد حددته حداً ما أجدره أن يكون قد سبق إليه إلا أني لم أسمعه، وهو أن يقال: الزمان شيء أقل جزءٍ منه يشتمل على جميع المدركات، وهو في ذلك ضد المكان، لأن أقل جزءٍ منه لا يمكن أن يشتمل على شي كما تشتمل عليه الظروف، فأما الكون فلا بد من تشبثه بما قل وكثر،والذين قالوا: " وما يهلكنا إلى الدهر " وغير ذلك من المقال، مثل البيت المنسوب إلى الأخطل، وذكره حبيب بن أوسٍ لشمعلة التغلبي، وهو:
وقول الآخر:
وقال أبي صخر:
لم يدع أن أحداً منهم كان يقرب للأفلاك القرابين، ولا يزعم أنها تعقل، وإنما ذلك شيء يتوارثه الأمم في زمان بعد زمان.
شاتم الدهر
عدلوكان في عبد القيس شاعر يقال له " شاتم الدهر " ، وهو القائل:
وأما غيظه على الزنادقة والملحدين فأجره الله عليه، كما أجره على الظمأ في طريق مكة، واصطلاء الشمس بعرفة، ومبيته بالمزدلقة. ولا ريب أنه ابتهل إلى الله، سبحانه، في الأيام المعدودات والمعلومات، أن يثبت هضاب الإسلام، ويقيم لمن اتبعه النير من الأعلام. ولكن الزندقة داء قديم، طالما حلم بها الأديم. وقد رأى بعض الفقهاء أن الرجل إذا ظهرت زندقته ثم تاب فزعاً من القتل، لم تقبل توبته. وليس كذلك غيرهم من الكفار، لأن المرتد إذا رجع قبل منه الرجوع.
ولا ملة إلا ولها قوم ملحدون، يرون أصحاب شرعهم أنهم موالفون وهم فيما بطن مخالفون، ولا بد أن ينهتك مخادع، وتبدو من الشر جنادع.
وقد كانت ملوك فارس تقتل على الزندقة، والزنادقة هم الذين يسمون الدهرية، لا يقولون بنبوة ولا كتاب.
وبشار إنما أخذ ذلك عن غيره، وقد روي أنه وجد في كتبه رفعة مكتوب فيها: إني أردت أن أهجو فلان بن فلان الهاشمي فصفحت عنه لقرابته من رسول الله ﷺ. وزعموا أنه كان يشار سيبويه، وأنه حضر يوماً حلقة يونس بن حبيبٍ فقال: هل ههنا من يرفع خبراً؟ فقالوا: لا فأنشدهم:
وكان في الحلقة سيبويه، فيدعي بعض الناس أنه وشى به.وسيبويه، فيما أحسب كان أجل موضعاً من أن يدخل في هذه الدنيات، بل يعمد لأمور سنيات وحكى عنه أنه عاب عليه قوله:
فقال سيبويه: لم تستعمل العرب الغزلى، فقال بشار: هذا مثل قولهم البشكى والجمزي، ونحو ذلك. وجاء بشار في شعره بالنينان( جمع نونٍ من السمك) فيقال إنه أنكره عليه، وهذه أخبار لا تثبت. وفيما روي في كتاب سيبويه أن النون يجمع على نينان، فهذا نقض للخبر.
وذكر من نقل أخبار بشار أنه توعد سيبويه بالهجاء، وأنه تلافاه واستشهد بشعره. ويجوز أن يكون استشهاده به على نحو ما يذكره المتذاكرون في المجالس ومجامع القوم. وأصحاب بشارٍ يروون له هذا البيت:
وفي كتاب سيبويه نصف هذا البيت الآخر، وهو في باب الإدغام لم يسم قائله. وزعم غيره أنه لأبي الأسود الدؤلي. ويقال: إن يعقوب بن داود وزير المهدي تحامل بشار حتى قتل، واختلف في سنه: فقيل كان يومئذ ابن ثمانين سنة، وقيل أكثر، والله العالم بحقيقة الأمر،ولا أحكم عليه بأنه من أهل النار، وإنما ذكرت ما ذكرت فيما تقدم لأني عقدته بمشيئة الله، وإن الله لحليم وهاب.
وذكر صاحب كتاب الورقة جماعة من الشعراء في طبقة أبي نواس ومن قبله، ووصفهم بالزندقة، وسرائر الناس مغيبة، وإنما يعلم، بها علام الغيوب. وكانت تلك الحال تكتم في ذلك الزمان خوفاً من السيف، فالآن ظهر نجيث القوم، وانغاصت التريكة عن أخبث رأل.
وكان في ذلك العصر رجل له أصدقاء من الشيعة وصديق زنديق، فدعا المتشيعة في بعض الأيام، فجاء الزنديق فقرع حلقة الباب وقال:
قال صاحب المنزل: ويحك! مم ذا؟ فتركه الزنديق ومضى، فلقيه صاحب المأدبة فقال له: يا هذا، أردت أن توقعني فيما أكره( خوفاً من أن يظن أصدقاؤه أنه زنديق) فقال: ادعهم ثانية وأعملني بمكانهم. فلما حصلوا عنده، جاء الزنديق فقال:
فقالوا: ويحك! مما ذا؟ فقال:
وانصرف. ففرح الشيعة بذلك، ولقيه صاحب المنزل فقال: جزيت عني خيراً، فقد خلصتني من الشبهة! وكان يجلس في مجلس البصرة جماعة من أهل العلم، وكان فيهم رجل زنديق له سيفان، قد سمى أحدهما " الخير " والآخر " الفلح " فإذا سلم عليه رجل من المسلمين قال: صبحك الخير ومساك الفلح ثم يلتفت لأصحابه الذين قد عرفوا مكان السيفين فيقول:
فأما قول الحكمي: تيه مغن وظرف زنديق فقد عيب عليه هذا المعنى، وقيل: إنه أراد رجلاً من بني الحارث كان معروفاً بالزندقة والظرف، وكان له موضع من السلطان،وقوله في صدر هذا البيت:
فهو نحو من قول امريْ القيس:
وليس ينبغي أن يحمل على قول من وقف على الهاء كما قال: يا بيذره، يا بيذره، يا بيذره وكما قال الآخر:
لأن هذأ حسن فيه إظهار الهاء، إذ كان الكلام تاماً يحسن عليه السكوت، وقوله: محدثه ملك، مضاف ومضاف إليه، فلا يحسن فيه مثل ذلك، إذ كان الاسمان كاسم واحد.
صالح بن عبد القدوس
عدلوأما صالح بن عبد القدوس فقد شهر بالزندقة، ولم يقتل، ولله العلم، حتى ظهرت عنه مقالات توجب ذلك. ويروى لأبيه عبد القدوس:
وقد كان لصالح ولد حبس على الزندقة حبساً طولاً، وهو الذي يروى له:
وأما رجوعه عن الزندقة لما أحس بالقتل، فإنما ذلك على سبيل الختل. فصلى الله على محمد، فقد روي عنه أنه قال: " بعثت بالسيف، والخير في السيف، والخير بالسيف " . وفي حديث آخر: لا تزال أمتي بخير ما حملت السيوف " . والسيف حمل صالحاً على التصديق، ورده عن رأي الزنديق، وتلك آية من آيات الله إذا هي ظهرت للنفس الكافرة، فقد فني لا ريب زمانها، ولا يقبل هناك إيمانها: " لم تكن آمنت من قبل " وللسفه طل ووبل.
وأما " القصار " فجهل يجمع ويصار، ولو تبع حقاً مقروباً، لكفي سماً مشروباً، ولكن الغرائز أعاد، ولا بد من لقاء الميعاد.
وأما المنسوب إلى الصناديق، فإنه يحسب من الزناديق. وأحسبه الذي كان يعرف بالمنصور، ظهر سنة سبعين ومائتين، وأقام برهة باليمن، وفي زمانه كانت القيان تلعب بالدف وتقول:
فعلى معتقد هذه المقالة بهلة المبتهلين. وهذه الطبقة، لعنها الله، تستعبد الطغام بأصناف مختلفة، فإذا طمعت في دعوى الربوبية لم تتئب في الدعوى، ولا لها عما قبح رعوى، وإذا علمت أن في الإنسان تميزاً، أرته إلى ما يحسن تحيزاً. وقد كان باليمن رجل يحتجب في حصن له، ويكون الواسطة بينه وبين الناس خادماً له أسود قد سماه جبريل، فقتله الخادم في بعض الأيام وانصرف. فقال بعض المجان:
ويقال إنه حمله على ذلك ما كان يكلفه من الفسق.
وإذا طمع بعض هؤلاء، فإنه لا يقتنع بالإمامة ولا النبوة. ولكنه يرتفع صعداً في الكذب، ويكون شربه من تحت العذب ( أي الطُّحلب.) ولم تكن العرب في الجاهلية تقدم على هذه العظائم، والأمور غير النظائم. بل كانت عقولهم تجنح إلى رأي الحكماء. وما سلف من كتب القدماء. إذ كان أكثر الفلاسفة لا يقولون بنبي، وينظرون إلى من زعم ذلك بعين الغبي.
وكان ربيعة بن أمية بن خلفٍ الجمحي، جرى له مع أبي بكر الصديق، رحمة الله عليه، خطب، فلحق بالروم، ويروى أنه قال:
وافتن الناس في الضلالة حتى استجازوا دعوى الربوبية، فكان ذلك تنطساً في الكفر، وجمعاً للمعصية في المزاد الوفر. وإنما كان أهل الجاهلية يدفعون النبوة ولا يجاوزون ذلك إلى سواه.
ولما أجلى عمر بن الخطاب، رحمة الله عليه، أهل الذمة عن جزيرة العرب، شق ذلك على الجالين، فيقال إن رجلاً من يهود خيبر يعرف بسمير بن أدكن قال في ذلك:
وما زال اليمن منذ كان، معدناً للمتكسبين بالتدين، والمحتالين على السحت بالتزين. وحدثني من سافر إلى تلك الناحية، أن به اليوم جماعة كلهم يزعم أنه القائم المنتظر، فلا يعدم جباية من مالٍ، يصل بها إلى خسيس الآمال.
وحكي لي أن للقرامطة بالأحساء بيتاً يزعمون أن إمامهم يخرج منه، ويقيمون على باب ذلك البيت فرساً بسرجٍ ولجام، ويقولون للهمج والطغام: هذا الفرس لركاب المهدي، يركبه متى ظهر بحق بديٍ. وإنما غرضهم بذلك خدعُ وتعليل، وتوصل إلى المملكة وتضليل. ومن أعجب ما سمعت أن بعض رؤساء القرامطة في الدهر القديم، لما حضرته المنية جمع أصحابه وجعل يقول لهم لما أحس بالموت: إني قد عزمت على النقلة، وقد كنت بعثت موسى وعيسى ومحمداً، ولا بد لي أن أبعث غير هؤلاء! فعليه اللعنة، لقد كفر أعظم الكفر، في الساعة التي يجب أن يؤمن فيها الكافر، ويؤوب إلى آخرته المسافر.
وأما الوليد بن يزيد فكان عقله عقل وليد، وقد بلغ سن الكهل الجليد، ما أغنته نية سابجة، ولا نفعت البنابجة. وشغل عن الباطية، بجريرة النفس الخاطية. دحاه إلى سقر داحٍ، فما يغترف بالأقداح. وقد رويت له أشعار، يلحق به منها العار، كقوله:
فالعجب لزمان صير مثله إماماً، وأورده من المملكة جماماً ولعل غيره ممن ملك يعتقد مثله أو قريباً، ولكن يساتر ويخاف تثريباً. ومما يروى له:
ويقال إنه لما أحيط به، دخل القصر وأغلق بابه وقال:
فألب عن تلك المنزلة أي ألب، ورئي رأسه في فم كلب. كذلك نقل بعض الرواة، والله القائم بجزاء الغواة. ولا حيلة للبشر في أم دفرٍ، أعيت كل حضرٍ وسفرٍ. كان حق الخلافة أن تفضي إلى من هو بنسكٍ معروف، لا تصرفه عن الرشد صروف، ولكن البلية خلقت مع الشمس، فهل يخلص من سكن في رمس؟ وأما أبو عيسى بن الرشيد، فليس بالناشد ولا النشيد. وإن صح ما روي عنه فقد باين بذلك أسلافه، وأظهر لأهل الديانة خلافه.
وما يحفل ربه بالعبيد صائمين للخيفة ولا مفطرين، ولكن الإنس غدوا محظرين. وربما كان الجاهل أو المتجاهل، ينطق بالكلمة وخلده بضدها آهل، وإنما أقول ذلك راجياً أن أبا عيسى ونظراءه، لم يتبعوا في الغي أمراءه، وأنهم على سوى ما علن يبيتون، لقد وعظهم الميتون.
ورأى بعضهم عبد السلام بن رغبان، المعروف بديك الجن، في النوم وهو بحسن حالٍ، فذكر له الأبيات الفائية التي فيها:
أي ( الهلاك ) فقال: إنما كنت أتلاعب بذلك ولم أكن أعتقده. ولعل كثيراً ممن شهر بهذه الجهالات تكون طويته إقامة الشريعة، والإرتاع برياضها المريعة. فإن اللسان طماحُ، وله بالفند إسماح. وكان أبو عيسى المذكور يستحسن شعره في البيتين والثلاثة، وأنشد له الصولي في نوادره:
فإن كان فر من صيام شهر. فلعله يقع في تعذيب الدهر، و " لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " .
وأما الجنابي فلو عوقب بلد بمن يسكنه، لجاز أن تؤخذ به " جنابة " ، ولا يقبل لها إنابة. ولكن حكم الكتاب المنزل أجدر وأحرى: " ألا تزر وازرة وزر أخرى " . وقد اختلف في حديث الركن معه: فزعم من يدعي الخبرة به أنه أخذه ليعبده ويعظمه، لأنه بلغه أنه يد الصنم الذي جعل على خلق زحل. وقيل: جعله موطئاً في مرتفق، وهذا تناقض في الحديث. وأي ذلك كان، فعليه اللعنة ما رسا " ثبير " وهمى صبير.
وأما العلوي البصريّ فذكر بعض الناّس أنّه كان قبل خروجه يذكر أنّه من عبد القيس ثمَّ من أنمار. وكان أسمه أحمد، فلمّا خرج تسمّى عليّاً. والكذب كثير جمّ، كأنه في النَّظر طود أشم؛ والصدّق لديه كالحصاة، توطأ بأقدام عصااة. تلك الأبيات المنسوبة إليه مشهورة وهي:
وما أمنع أن يكون حملة حب الحطام، على أن غرق في بحرٍ طامٍ، يسبح فيه ما دامت السموات والأرض إلاّ ما شاء ربَّك إن ربكَّ فعَّال لما يريد. وقد رويت له أبيات تدل على تألهٍ، وما أدفع أن تكون قيلت على لسانه، لأن من خبر هذا العالم حكم عليه بفجور ومين، وأخلاق تبعد من الزَّين. والأبيات:
وأنشدني بعضهم أبياتاً قافَّية طويلة الوزن، وقافيتها مثل هذه القافية، قد نسبت إلى عضد الدّولة. وقيل إنّه أفاق في بعض الأيّام، فكتبها على جدار الموضع الذي كان فيه، وقد نحي بها نحو أبيات البصريّ. وأشهد أنَّها متكلَّفة، صنعها رقيع من القوم، وأنّ عضد الدولة ما سمع بها قط.
وأمَّا الحكاية عن أصحاب الحديث أنَّهم صحفوا زخمة فقالوا: رحمة، فلا أصدَّق بما يجري مجراها، والكذب غالب ظاهر، والصدق، خفي متضائل، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكذلك أدعاء من يدَّعي أنَّ علياً، عليه السلام، قال: تهلك البصرة بالزنج؛ فصحَّفها أهل الحديث: بالريح، لا أؤمن بشيء من ذلك. ولم يكن عليّ، عليه السلام، ولا غيره ممن يكشف له علم الغيب، وفي الكتاب العزيز: قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وفي الحديث المأثور: أنه سمع جواري يغنيَّن في عرس ويقلن:
فقال: لا يعلم ما في غدٍ إلاالله. ولا يجوز أن يخبر منذ مائة سنة أن أمير حلب، حرسها الله، في سنة أربع وعشرين وأربعمائة، أسمه فلان بن فلان، وصفته كذا؛ فإن أدعى ذلك مدّعٍ فإنمّا هو متخرِّص كاذب. وأمّا النجوم فإنمّا لها تلويح لا تصريح، وحكي أنَّ الفضل ابن سهل كان يتمثل كثيراً بقول الراّجز:
إنّي لنجَّاء من الكرائب وأنّ غالباً كان فيمن قتله، فهذا ينَّفق مثله. وأجدر بهذه الحكاية أن تكون مصنوعة. فأما تمثله بالشعر فغير مستنكر، وربما أتفق أن يكون في الوقت جماعة يسمون بهذا الاسم، فيمكن أن يقترن معنى بلفظٍ، على أنَّ في الأيام عجائب، وفوق كلّ ذي علم عليم.
وقد حكي أنَّ إياس بن معاوية القاضي كان يظن الأشياء فتكون كما ظن، ولهذه العلَّة قالوا: رجل نقاب وألمعيَّ، قال أوس:
وقال: نقاب يحدِّث بالغائب. فأمّا الحسين بن منصور فليس جهله بالمحصور. وإذا كانت الأمةّ ربّما عبدت الحجر، فكيف يأمن الحصيف البجر؟ أراد أن يدير الضّلالة على القطب، فانتقل عن تدبير العطب، ولو انصرف إلى علاج البرس، ما بقي ذكر عنه في طرس، ولكنّها مقادير، تغشى النّاظر بها سمادير. فكون ابن آدم حصاة أو صخرة، أجمل به أن يجعل سخرةّ. والنّاس إلى الباطل سراع، ولهم إلى الفتن إشراع.
وكم افتري للحلاج، والكذب كثير الخلاج، وجميع ما ينسب إليه مما لم تجر العادة بمثله فإنّه الميّن الحنبريت، لا أصدّق به ولو كريت. وممّا يفتعل عليه أنّه قال للّذين قتلوه: أتظنون انكم إيّاي تقتلون؟ أنمّا تقتلون بغلة المادراني وأنّ البغلة وجدت في إصطبلها مقتولة.
وفي الصّوفية إلى اليوم من يرفع شأنه، ويجعل من النجَّم مكانه. وبلغني أنَّ ببغداد قوماً ينتظرون خروجه. وأنهم يقفون بحيث صُلب على دجلة يتوقَّعون ظهوره. وليس ذلك ببدع من جهل النّاس، ولو عبد عابد ظبي كناس، فقد نزل حظ على قرد، فظفر بأكرم الورد. وقالت العامة: اسجد للقرد في زمانه. وأنا أتحوَّب من ذكر القرد الذي يقال: إنّ القوادّ في زمن زبيدة كانوا يدخلون للسلام عليه وأنّ يزيد ابن مزيد الشَّيبانيَّ دخل في جملة المسلَّمين فقتله. وقد روي أن يزيد بن معاوية كان له قرد يحمله على أتانٍ وحشيةٍ ويرسلها مع الخليل في الحلبة. وأمّا الأبيات التي على الياء:
فلا بأس بنظمها في القوَّة، ولكن قوله: إليّ، عاهة في الأبيات: إن قيد فالتقيد لمثل هذا الوزن لا يجوز عند بعض النّاس، وإن كسر الياء من إلي فذلك رديء قبيح. وأصحاب العربية مجمعون على كراهة قراءة حمزة: وما أنتم بمصرخيّ: بكسر الياء. وقد روي أنَّ أبا عمرو بن العلاء سئل عن ذلك فقال: أنه لحسن، تارة إلى فوق، وتارة إلى أسفل، يعني فتح الياء في مصرخيّ وكسرها والذين نقلوا هذه الحكاية يحتجون بها لحمزة ويذهبون إلى أن أبا عمرو أجاز الكسر لالتقاء الساكنين. وإن صحت الحكاية عنه، فما قالها إلا متهَّزئاً على معنى العكس، كما الغنوي وهو سهل بن خنظلة:
أي ليس ذلك بحسن وهذا كما يقول الرّجل لولده إذا رآه قد فعل فعلاً قبيحاً: ما أحسن هذا! وهو يريد ضدّ الحسن. ولم يأت كسر هذه الياء في شعر فصيح. وقد طعن الفراء على البيت الذي أنشده:
وقد سمعت في أشعار المحدثين: إليّ وعليّ، ونحو ذلك، وهو دليل على ضعف المنَّة وركاكة الغريزة؟ وكذلك قوله: الكلّ، وإدخاله الألف واللامّ مكروه. وكان أبو علي يجيزه ويدعي إجازته على سيبويه، فأما الكلام القديم فيفتقد فيه الكل والبعض، وقد أنشدوا بيتاً لسحيم:
الحلاج
عدلينشد لفتى كان في زمن الحلاّج:
وهذه المذاهب قديمة، تنتقل في عصر بعد عصر، ويقال إن فرعون كان على مذهب الحلولية، فلذلك ادّعى أنه رب العزَّة. وحكي عن رجلٍ منهم أنّه كان يقول في تسبيحه: سبحانك سبحاني ... غفرانك غفراني وهذا هو الجنون الغالب، إنّ من يقول هذا القول مسدود في الأنعام، ما عرف كنه الإنعام. وقال بعضهم:
وينو آدم بلا عقول، وهذا أمر يلقنه صغير عن كبير، فيكون بالهلكة أوفى صبير: أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون، إن هم إلا كالأنعام، بل هم أضل سبيلاً. ويروي لبعض أهل هذه النحلة:
وتؤدَّي هذه النّحلة إلى التناسخ، وهو مذهب عتيق يقول به أهل الهند، وقد كثر في جماعة من الشّيعة، نسأل الله التوفيق والكفاية،وينشد لرجل من النصُّيرية:
وقال آخر منهم:
ويصوّر لهم الرأي الفاسد أباجير ومشبهَّات، فيسلكون في تغلسَّ وفي الترهات.
وحكى لي عن بعض ملوك الهند، وكان شابّاً حسناً، أنّه جدَّر فنظر إلى وجهه في المرآة وقد تغير، فأحرق نفسه وقال: أريد أن ينقلني الله إلى صورة أحسن من هذه.
وحدثني قوم من الفقهاء، ما هم في الحكاية بكاذبين، ولا في أسباب النحَّل جاذبين، أنّهم كانوا في بلاد محمود وكان معه جماعة من الهندون قد وثق بصفائهم، يفيض عليهم الأعطية لوفائهم، ويكونون أقرب الجند إليه إذا حلّ وإذا ارتحل، وأن رجلاً منهم سافر في جيشٍ جهزه محمود، فجاء خبره أنّه قد هلك بموت أو قتل، فجمعت امرأته لها حطباً كثيراً وأوقدت ناراً عظيمة واقتحمتها والنّاس ينظرون، وكان ذلك الخبر باطلاً، فلمّا قدم الزّوج أوقد له ناراً جاحمة ليحرق نفسه حتى يلحق بصاحبته، فاجتمع خلق كثير للنّظر إليه، وأنّ أصحابه من الهندون كانوا يجيئون إليه فيوصونه بأشياء إلى أمواتهم: هذا إلى أبيه وهذا إلى أخيه. وجاءه إنسان منهم بوردة وقال: أعط هذه فلاناً يعني ميتاً له، وقذف نفسه في تلك النّار.
وحدّث من شاهد إحراقهم نفوسهم أنّهم إذا لذعتهم النّار أرادوا الخروج فيدفعهم من حضر إليها بالعصي والخشب. فلا إله إلاّ الله، لقد جئتم شيئاً إدّاً.
وفي الناس من يتظاهر بالمذهب ولا يعتقده، يتوصَّل به إلى الدنيا الفانية، وهي إغدر من الورهاء الزّانية.
وكان لهم في الغرب رجل يعرف بابن هانئ وكان من شعرائهم المجيدين، فكان يغلة في مدح المعزّ أبي تميم معدٍّ، غلوا عظيماً حتى قال يخاطب صاحب المظلَّة:
وقال فيه وقد نزل بموضع يقال له رقَّادة:
وحضر شاعر يعرف بابن القاضي بين يدي ابن أبي عامر صاحب الأندلس فأنشده قصيدة أوَّلها:
ويقول فيها أشياء، فانكر عليه ابن أبي عامر، وأمر بجلده ونفيه. وأدل رتب الحلاجّ أن يكون شعوذياً، لا ثاقب الفهم ولا أحوذيا، على أنَّ الصوفيَّة تعظمِّه منهم طائفة، ما هي لأمره شائفة. وأمّا ابن أبي عون فإنهّ أخذ في لون بعد لون، غرّ البائس بأبي جعفر، فما جعل رسله في أوفره؛ وقد تجد الرّجل حاذقاً في الصناعة، بليغاً في النّظر والحجة، فإذا رجع إلى الدّيانة ألفى كأنّه عير مقتاد، وإنمّا يتبع ما يعتاد. والتأله موجود في الغرائز، يحسب من الألجاء الحرائز، ويلقن الطّفل الناشئ ما سمعه من الأكابر، فليبث معه في الدّهر الغابر.
والذين يسكنون في الصوامع، متعبدون في الجوامع، يأخذون ما هم عليه كنقل الخبر عن المخبر، لا يميَّزون الصدّق من الكذب لدى المعبّر، فلو أنّ بعضهم ألفى الأسرة من المجوس لخرج مجوسياً، أو من الصّابئة لأصبح لهم قريناً سياً. وإذا المجتهد نكب عن التقّليد، فما يظفر بغير التبليد. وإذا المعقول جعل هادباً، نقع بريه صادياً، ولكن أين من يصبر على أحكام العقل، ويصقل فهمه أبلغ صقل؟ هيهات! عدم ذلك في من تطلع عليه الشمس، ومن ضمنه في الرِّمم رمس، إلىّ أن يشذّ رجل في الأمم، يخص من فضل بعمم.
ربمّا لقينا من نظر في كتب الحكماء، وتبع بعض آثار القدماء، فألفيناه يستحسن قبيح الأمور، ويبتكر بلبّ مغمور، إنّ قدر على فظيع ركبه، وإن عرف واجباً نكبَّه، كأنّ العالم سعوا له في إفقاد، فهو يعتقد شرّ اعتقاد؛ وإنّ أودع وديعه خان، وإن سئل عن شهادة مان، وإن وصف لعليل صفةّ فما يحفل أقتلته بما قال، أم ضاعف عليه الأثقال؛ بل غرضه فيما يكتسب، وهو إلى الحكمة منتسب.
وربّ زارٍ بالجهالة على أهل ملّة، وعلتَّه الباطنة أدهى علَّة، وإن البشر لكما جاء في الكتاب العزيز " كل حزبٍ بما لديهم فرحون " . والإمامية تقَّربوا بالتعّفير، فعدّه بعض المتدينةٍ ذنباً ليس بغفير، ويحضر المجالس أناس طاغون، كأنهم للرّشد باغون، وأولئك، علم الله، أصحاب البدع والمكر، ومن لك بزنحٍ في دكر! كم متظاهر باعتزال، وهو مع المخالف في نزال! بزعم أنّ ربّه على الذّرَّة يخلد في النار، بله الدّرهم وبله الدّينار ، وما ينفكّ يحتقب المآثم عظائم، ويقع بها في أطائم. ينهمك على العهار والغسق، ويظعن من الأوزار الموبقة بأوفى وسق، ويقنت على رهط الإجبار، ويسند إلى عبد الجبار. يطيل الدأب في النهّار واللّيل، ويضمر أنّ شيخ المعتزلة غير طاهر الرُّدن ولا الذّيل، فقد صيّر الجدل مصيدة، ينظم به الغيّ قصيدة.
وحدَّثت عن إمام لهم يوقرّ ويتبع، وكأنه من الجهل ربع أنّه كان إذا جلس في الشرّب، ودارت عليهم المسكرة ذات الغرب، وجاءه القدح شربه فاستوفاه، وأشهد من حضرة على التوبة لما اقتفاه.
والأشعري إذا كشف ظهر نمي، تلعنه الأرض الرّاكدة والسمي، إنّما مثله مثل راعٍ حطمة، ويخبط في الدهماء المظلمة، لا يحفل علام هجم بالغنم، وأن يقع بها في الينم، وما أجدره أن تأتي بها سراحين، تضمن لجميعها أن يحين! فمن له أيسر حجى، كأنمّا وضع في دجى، إلا من عصمه الله باتباع السّلف، وتحمل ما يشرع من الكلف:
إن شعر قلد، المسكين، سواه فإنمّا وثق بمن أغواه، وإن بحث عن السِّرَّ وتبّصر، أقصر عن الخبر وقصَّر. والشيعة يزعمون أمنّ عبد الله بن ميمون القدّاح، وهو من باهلة، كان من علية أصحاب جعفر بن محمدٍ، وروى عنه شيئاً كثيراً، ثم أرتدّ بعد ذلك، فحدثني بعض شيوخهم أنّهم يروون عنه ويقولون: حدّثنا عبد الله بن ميمون القدّاح كأحسن ما كان، أي قبل أن يرتدّ. ويروون له:
وممّا ينسب إليه:
والحلولّيهّ قريبة من مذهب التناسخ، وحدَّثت عن رجلٍ من رؤساء المنجمين من أهل حرانّ أقام في بلدنا زماناً، فخرج مرّة من قومّ يتنزهون، فمروا بثورٍ يكرب، فقال لأصحابه: لا أشك في أنّ هذا الثور رجل كان يعرف بخلفٍ بحرُّان، وجعل يصيح به: يا خلف، فيتفَّق أن يجوز ذلك الثّور، فيقول لأصحابه: ألا ترون إلى صحَّة ما خبرتكم به؟ وحكي لي عن رجلٍ آخر ممّن يقول بالتنّاسخ أنّه قال: رأيت في النّوم أبي وهو يقول لي: يا بنيّ، إنّ روحي قد نقلت إلى جملٍ أعور في قطار فلانٍ، وإنيّ قد اشتهيت بطيخةّ. قال: فاخذت بطيخة وسألت عن ذلك القطار وجدت فيه جملاً أعور، فدنوت منه بالبطيخة، فأخذها أخذ مريد مشتهٍ! أفلا يرى مولاي الشّيخ إلى ما رمي به هذا البشّر من سوء التمّييز، وتحيزهم إلى ما يمتنع من التحييز؟ وأمّا ابن الرّواندي فلم يكن إلى المصلحة بمهدي، وأمّا تاجه فلا يصلح أن يكون نعلاً، ولم يجد من عذابٍ وعلاً أي ملجأ، قال ذو الرّمة:
ويجوز أن ينظم تاجه عقارب، فما كان المحسن ولا المقارب، فكيف له إذا توج شبواتٍ، أليس يمينه عن تلك الصبوات؟ وهل تاجه إلاّ كما قالت الكاهنة: أفّ وتف، وجورب وخف!؟ قيل: وما جورب وخف؟ قالت واديان في جهنم. ما تاجه بتاج ملك، ولكن دعي بالمهلك، ولا اتخّذ من الذّهب، وسوف يصوَّر من اللهّب، ولا نظم من درّ، بل وقع من عناء بقرّ، يقال: صابت بقرٍ، إذا وقعت في موضعها، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشرّ. قال الشاعر:
ما توَّج من الفضة،ولا يقنع له بالقضَّة، ما هو كتاج كسرى، لكن طرق بسوء المسرى، ولا تاج الملك انوشروان، ولكل أثقل وجرّ الهوان، ذلك تاج فرس عنقاً، فظن على من توِّج به محنقاً. ليس هو كتاج المنذر، ولكن مندية غويّ حذّر، ولا هو كخرزات النعّمان، بل شين يدخر في الأزمان. وما يفقر مثبه إلى أن ينقض منه وبه تقوضّ.
وأمّا الدامغ فما إخاله دمغ إلاّ من الفّه، وبسوء الخلافة خلفه. وفي العرب رجل يعرف بدميغ الشيطان، وهذا الرّجل كذاوي الخيطان. وإنمّا المنكر، أنَّه في الآونة يذكر. دلّ ممن وضعه على ضعف دماغ، فهل يؤذن لصوت ماغٍ؟ من قولهم: مغت الهرة إذا صاحت.
رجع عليه حجره، وطال في الآخرة بجره. بئس ما نسب إلى راوند، فهل قدح في دباوند؟ إنمّا هتك قميصه، وأبان للنظر خميصه. وأجمع ملحد ومهتد، وناكب عن المحجَّة ومقتدِ، أنّ هذا الكتاب الذي جاء به محمد ﷺ كتاب بهر بالإعجاز، ولقي عدّوه بالأرجاز. ما حذي على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال. ما هو من القصيد الموزون، ولا الرَّجز من سهلّ وحزون. ولا شاكل خطابة العرب، ولا سجع الكهنة ذوي الأرب. وجاء كالشمس اللائحة، نوراً للمسرَّة والبائحة؛ لو فهمه الهضب الرّاكد لتصدع، أو الوعول المعصمة لراق الفادرة والصدّع: " وتلك الأمثال نضربها للنّاس لعلهم يتفكرون " وإنّ الآية منه أو بعض الآية، لتعترض في أفصح كلم يقدر عليهم المخلوقون، فتكون فيه كالشَّهاب المتلألئ في جنح غسق، والزّهرة البادية في جدوبٍ ذات نسق؛ فتبارك الله أحسن الخالقين.
وأمّا القضيب فمن عمله أخسر صفقة من قضيب. وخير له من إنشائه، لو ركب قضيباً عند عشائه، فقذفت به على قتاد، ونزعت المفاصل كنزع الأوتاد:
كيف للنّاطق به أن يكون اقتضب وهو يافع، إذ ماله في العاقبة شافع. وودّ لو أنّه قضبه، أو تلتئم عليه الهضبة،وقد صح أن يكون مثل القائل:
وقضيب وادٍ كانت فيه وقعة في الجاهلية بين كندة وبين بني الحارث ابن كعب فكيف لهذا المائق أن يكون قتل في قضيب، وسقط في إهابه الخضيب. فهو عليه شرّ من قضيب الشجرّة على السّاعية، ومن له ان يظفر بمنطق الناّعية؟ وكيف له أن يجدَّع بقضيب هندي ويلبس ممّا لفظ به ثوب المفديّ؟ لقد أنزل الله به من النكّال، ما لا يدفع بحمل الأنكال؛ فهو كما قال الأوّل:
وهذا البيت يستشهد به، كما علم، لأنّه قال: مغلوبين يفري، وإنمّا يجب أن يقال: يفريان، ولكنّه أجرى الاثنين مجرى الجمع. ومثله قول الرّاجز:
وأما الفريد فأفرده من كلّ خليل، وألبسه في الأبد برد الذّليل. وفي كنده حيَّ يعرفون بالحيّ الفريد، وهم بنو الحرث بن عديّ بن ربيعة بن معاوية الأكبر بن الحرث الأصغر ابن معاوية بن الحرث الأكبر بن معاوية بن ثور بن مرتَّع بن معاوية ابن ثورٍ، وهر كندّة؛ وأصحاب النّسب يقولون: كنديّ بن غفير بن عديّ بن الحارث بن مرّة بن أددّ بن زيد بن يشجب ابن عريب بن زيد بن كهلان بن سبإ، وإنمّا قيل لهم الحيّ الفريد، لأنّ بني وهبٍ حالفوا بني أبي كربٍ وبني المثل ولم يدخل معهم بنو الحارث ولا مع بني عديّ، فقيل لهم الحي الفريد.
ومن انفرد بعزَّةٍ لوقارته، فإن فريد ذلك الجاحد ينفرد لحقارته، كأنّه الأجرب إذا طلي بالعنية، فرّ من دنوه من يرغب عن الدنيّة. وإذا جذلت الغانية بفريد النظّام، فهو قلادة مآثم عظام. وذكر أبو عبيدة أنَّ في ظهر الفرس فقارة يقال لها الفريدة، وهي أعظم الفقار. فلو حمل فريد ذلك المتمرَّد على جواد لحطم فريدته، أو زينّ به المحبُّ الغانية لأهلك خريدته.
وأما المرجان فإذا قيل إنّه صغار اللؤلؤ، فمعاذ الله أن يكون مرجانه صغار حصى، بل أخس من أن يذكر فينتصى. وإذا قيل إنّه هذا الشيء الأحمر الذي يجيء به من المغرب، فإن ذلك له قيمة وخسارة كتابه مقيمة، وإنمّا هو مرجان، من مرجت الخيل بعضها مع بعض، وتركتها كالمهملة في الأرض أو لعلّه مرجّان من جنى الشجّرة أو مرجانّ من الشياطين الفجرة، أو جان من الحيات المقتولة بأيسر الأمر، والمبغضة إلى المنفرد والعمر أي الجماعة من النّاس.
ابن الرّومي
عدلوأمّا ابن الرّومي فهو أحد من يقال: إنّ أدبه كان أكثر من عقله، وكان يتعاطى علم الفلسفة، واستعار من أبي بكر ابن السراج كتاباً فتقاضاه به أبو بكرٍ، فقال ابن الرّومي: لوّ كان المشتري حدثاً لكان عجولاً. والبغداديّون يدّعون انّه متشّيع، ويستشهدون على ذلك بقصيدته الجيميَّة، وما أراه إلاّ على مذهب غيره من الشعراء.
ومن أولع بالطيَّرة، لم ير فيها من خيرة، وإنمّا هو شر متعجل، وللأنفس أجل مؤجّل، وكلّ ذلك حذر من الموت الذي هو ربق في أعناق الحيوان، حكم لقاؤه في كلّ أوان. وفي النّاس من يظنّ أنّ الشيء إذا قيل جاز أن يقع، ولذلك قالت العامّة: الإرجاف أوّل الكون. ويقال: إن النبي ﷺ، تمثل بهذا البيت ولم يتممه:
ومهما ذهب إليه اللّبيب، فالخير في هذه الدّنيا قليل جدّاً، والشرّ يزيد عليه بأجزاءٍ ليست بالمحصاة، وما أشبه ذوي التقى بالعصاة، كلّهم إلى التّلف يساقون، يلقون ما كره ولا يعاقبون، ولعلّ الله، جلّت قدرته، يميزهم في المنقلب، ويسعف بمراده أخا الطَّلب.وقال علقمة:
وكان ابن الرّومي معروفاً بالتَّطير، ومن الذي أجري على التّخيّر؟ وقد جاءت عن النبي ﷺ، أخبار كثيرة تدل على كراهة الاسم الذي ليس بحسنٍ، مثل مرّة وشهاب والحباب لأنّه يتأوله في معنى الحّية.
ونحو من حكاية ابن الرّومي التي حكاها النّاجم ما حكي عن امرأة من العرب أنّها قالت للأخرى: سمّاني أبي غاضبة، وإنمّا تلك نار ذات غضى، فالحمد لربيّ على ما قضى، وتزوجت من بني جمرة رجلاً أحرق، وما أمرق. أي لم يكثر مرقه وكان اسمه تورباً وإنمّا ذلك تراب، فشمتت بي الأتراب، وكان يدعى جندلة فمضضت عنده بالجندل، ولا شممت رائحة مندل، وكان اسم أمّه سوّارة فلم تزل تساورني في الخصام، ولا تنفعني بعصام.
فقالت الأخرى: لكن سّماني أبي صافية، فصفوت من كلِّ قذى، وجنّبت مواقع الأذى، وزوجّني في بني سعد بن بكر فبكرّ عليّ السعد، وأنجز لي الوعد. واسم زوجي مُحَاسِن، جزيَ الصّالحة، فقد حاسن وما لاسن، واسم أبيه وقاف، رعاه الله، فقد وقف عليَّ خيره، ولأكثر لديّ ميره، واسم أمّه راضية، رضيت أخلاقي، ولم تجنح إلى طلاقي.
وإذا كان الرّجل خثارماً، لم يزل في الكثكث آرما: إن رأى سمامةّ من الطير، حسبها من السّمام، أو حمامةّ فرق من الحمام، كما قال الطاّئي:
وإن عرضت له خنساء من البشر، فإنّه لا يأمن من البشر، يقول: أخاف من رفيقٍ يخنس، وأمرٍ يدنس. وإن كانت الخنساء من الوحوش، نفر قلبه من الحوش، إنّ رآها سانحةً، هزّت من رعبه جانحة. يقول: قد ذهب أهل عقلٍ وافر، من أرباب المناسم وصحب الحافر، يتطيرون بالسنّيح، ويرهبون معه المنيح. وإن أتته بقدرٍ بارحة، عاين بها النجَّلاء الجارحة، يقول: ألم يك ذوو خيلٍ وسروج، يخشون الغائلة من البروج؟ وإن لقي رجلاً يدعى أخنس، فكأنّما لقي هزبراً تبهنس. يقول: ما يؤمنني أن يكون كأخنس بني زهرةٍ فرّ بحلفائه عن وفر، وطرحت القتلى في الجفر؟! وإن استقبل من يولع بذلك أعفر، فإنّه ينتظر أن يعفرَّ، وإن بصر بالأدماء. أيقن بسفك الدّماء، وإنّ جبهه ذيّال، فكأنّه الهصور العيّال؛ يقول: ما أقربني من إذالةٍ، تبطل كلام العدّالة؟! وإن آنس نعامةً بقفرٍ، وهو مع الرّكب السّفر، فما يأخذها من النعيم، ويجعلها بالهلكة مثل الزّعيم. يقول، من الفند العيّ: أوّلها نعى وإنمّا ذلك من النعَّيّ. وإن عنّ له في الخرق ظليم، فذلك العذاب الأليم. يقول: ليت شعري من الذي يظلمني. أيأخذ نشبي أم يكلمني؟ وإن نظر إلى عصفورٍ، قال: عصف من الحوادث بوفورٍ، فهو طول أبده في عناء، ولا بد له من الفناء.
ولهذه الطوّية جعل ابن الرّومي جعفراً من الجوع والفرار ولو هدي صرفه إلى النهر الجرار، لأن الجعفر النّهر الكثير الماء، ولكنّ إخوان هذه الخليقة، لا يحملون الأشياء الواردة على الحقيقة.
وأراد بعضهم السَّفر في أولّ السنَّة فقال: إن سافرت في المحرم، كنت جديراً أن أحرم، وإن رحلت في صفر، خشيت على يدي أن تصفر، فأخّر سفره إلى شهر ربيعٍ، فلمّا سافر مرض ولم يحظ بطائل، فقال: ظننته من ربيع الرَّياض، فإذا هو من ربع الأمراض.
ولهذه الطوّية جعل ابن الرّومي جعفراً من الجوع والفرار ولو هدي صرفه إلى النهر الجرار، لأن الجعفر النّهر الكثير الماء، ولكنّ إخوان هذه الخليقة، لا يحملون الأشياء الواردة على الحقيقة. وأراد بعضهم السَّفر في أولّ السنَّة فقال: إن سافرت في المحرم، كنت جديراً أن أحرم، وإن رحلت في صفر، خشيت على يدي أن تصفر، فأخّر سفره إلى شهر ربيعٍ، فلمّا سافر مرض ولم يحظ بطائل، فقال: ظننته من ربيع الرَّياض، فإذا هو من ربع الأمراض.
وأمّا إعداده الماء المثلوج فتعلّة، وما ينفع بالحيل غلة، وتقريبه الخنجر تحرّر من جبان، وتنقض الأقضية وما بنى البان؛ ورب رجلٍ يحتفر له قبراً بالشام، ثمّ يجشمه القدر بعيد الإجشام، فيموت باليمن أو الهند، والحتف بالغائرة والفند: " ما تدري نفس بأي أرض تموت، إن الله عليم خبير " .
وكما أنَّ النفَّس جهلت مدفن عظامها، فهي الجاهلة بالقاطع لنظامها. كم ظاّن أنّه يهلك بسيف، فهلك بحجر من خيفٍ،وموقن أنّ شجبه يقدر على مهادٍ، فألقته الأسل ببعض الوهاد،والبيتان اللّذان رواهما النّاجم عن أبي الرّومي مقيدان، وما علمت انّه جاء عن الفصحاء هذا الوزن مقيداً، إلاّ في بيت واحدٍ يتداوله رواة اللّغة، والبيت:
وهذا البيت مؤسس، والذي قال ابن الروميّ بغير تأسيسٍ.
وما يدري النّاجم، ولعّله بالفكر راجم، أفي الجّنة حصل ذلك الشيّخ أم في السّعير، وما اثقل وسوق العير.
وأما أبو تمّام، فما أمسك من الدّينّ بزمام، والحكاية عن ابن رجاءٍ مشهورة، والمهجة بعينها مبهورة. فإن قذف في النّار حبيب، فما يغني المديح ولا التشّبيب. ولو أنَّ القصائد لها علم، وتأسف لما يشكو الخلم، لأقامت عليه الممدودتان اللتّان في أوّل ديوانه، مأتماً يعجب لأسوانه. فسناحتا عليه كابنتي لبيد، وجرعتاهما من الثكل نظير الهبيد، وقالتا ما زعمّه الكلابيّ في قوله:
وكأنّي بهما لو قضي ذلك، لاجتمعت إليهما الممدودات، كما تجتمع نساء معدودات. فيجئن من كلّ اوب، ويتوعدون المحفل على نوب،ولو فعلن ذلك لبهارتهن الباثَّيات بمأتم أعظم زنيناً، وأشد في الحندس حنيناً، كما قال العبقسي:
وإذا كان مأتم الممدودات في مائة ممّن يعدهن ويظاهر، وجب أن يكون مأتم البائيّات في الآفٍ تعلن وتجاهر لأنَّّ الباء طريق ركوب، والمد في القصائد سبيل منكوب،وما نظمه على التّاء، فإنه لا يعجز عن الإيتاء،وتجيء الثّائيتان وكلتاهما كابنة الجون، وتبتدر في حالك اللّون. ولو صوَّرتا من الآدميات، لزادنا على قينتي ابن خطلٍ في المرئيّات، وإنّ الثاء لقليلة في شعر العرب إلاّ أنهّمّا تستعينان كلمة كثيِّرٍ:
وبأراجيز رؤبة وما كان نحوها من القوافي المتكلفّة، والأشعار المتعسَّفة، ولهما فيما نظم ابن دريدٍ، أعوان بالعجل والرَّويد. فأمّا الدّاليات والرّائيّات وما بني على الحروف الذلل: كاليم والعين واللام وما جرى مجراهنُّ، فلو اجتمع كلّ حيّزٍ منهن وهو فراد، لضاق عنهنّ الصدرّ والإيراد، وزدن على ما ذكر أنّه اجتمع في جنازة أحمد بن حنبل من النسّاء والرجال، ويقال أنّه لم يجتمع في الجاهلية ولا الإسلام جمع أكثر ممّا اجتمع في موت أحمد، حزر الرّجال بألف ألفٍ، والنسّاء بستمّائة ألفٍ، والله العالم بيقين الأشياء.
وإن كان حبيب ضيَّع صلواته، فإنّه لضال بفلواته، لا يبلغ فيه كيد العداة، ما بلغ إهمال غداة. كم ضدٍّ نكص عنه ذا بهر، وليس كذلك صلاة الظّهر، إنّ تركها فإنّها شاهدة، وفي الشكايَّة له جاهدة. وكم من قصرٍ، يشيد في الجنة بصلاة العصر، ومسكٍ في الجنة متأرِّج لمصلِّي المغرب ليس بالحرج، وحور أنشئن ببديع الإنشاء، لمن حافظ على صلاة العشاء، وقد جاء في الحديث النهَّي أن تسمى العتمة. وروي: " لا تخدعوا عن اسم صلاتكم فإنمّا يعتم بحلاب الإبل " وفي حديثٍ آخر: " إنَّ العتمة اسم بنت الشيطان ".
وإنّ من يعجز عن اداء تلك الرّكعات، ليشتمل على نيَّة عات،فليت حبيباً قرن بين الصلاتين، فجعلها كهاتين، كما قال القائل: قرن الظّهر إلى العصر كما تقرن الحقَّة بالحق الذَّكر وإنَّي لأظن بتلك الأوصال أن يظل جسدها وهو بالموقدة صال، لأنه كان صاحب طريقةٍ مبتدعة، ومعان كاللّؤلؤ متتبعة، يستخرجها من غامض بحارٍ، ويغض عنها المستغلق من المحار،وإن ابتدرته مهنة مالك، فقد نبذ في المهالك، فليته كالجعديّ، أو سلك به مسلك عديّ، أو كان مذهبه مذهب حاتم فقد كان متألّهاً، ومن الخشية متولهَّاً، وقال:
أو ليته لحق يزيد بن مهلهلٍ، قد وفد على النبي ﷺ، و طرح عنه ثوب الغبي.
الإفشين
عدلوأمّا المازيار، فحلاّل بالسَّفه سيار، وحسبه ما يتجرعّ من الحميم، ويحتمل من المقال الذميم، وقد خلد له في الكتب ما يوجب، لعنه إلى يوم الدّين، وأنَّي له أن يجعل كأديم ودينٍ ورحم الله ابن أبي داؤد، فلقد شفى الأنفس من الجواد، وكشف حال الأفشين، فعلم انّه آلف شينٍ، مخالف رشادٍ وزين.
بابك
عدلوبابك فتح باب الطغّيان، ووجد من شرار الرّعيان، واظن جهاده، عليه التبَّار، أفضل جهادٍ عرف، وذنبه أكبر ذنبٍ اقترف. ولعلهّ يود في الآخرة أنّه ذبح عن كلّ من قتل في عدّانه، مائة مرّة في نهل مدّانه، ثم خلص من العذاب المطبق، واستنفذ عنقه من الربّق.
والعجب لأبي مسلم، خبط في الجنان المظلم، وظنّ أنّه على شيء، فكان كالمعتمد على الفيء، حطب لنارٍ أكلته، وقتل في طاعة ولاةٍ قتلته. وليس بأول من دأب لسواه، وأغواه الطمّع فيمن أغواه. وإنمّا سهر لأمّ دفرٍ وتبع سراباً في قفرٍ، فوجد ذنبه غير المغتفر، عند صاحب الدولة أبي جعفر.
وكلّ ساعٍ للفانية لا بدّ له من الندّم، في أوان الفرقة وحين العدم، فذمنّا يحسب من الضّلال، كما تمنّى القنع أخو الإقلال، وهذه زيادة في النّضب، وفاز بالسبَّق حائز القصب. نذمهّا على غير جناية، ولم تخبر أحداً بالعناية، بل أبناؤها في المحن سواء، لا تاعفهم الأهواء، فرب حاملٍ حزمة عضيدٍ ليس رثده بالنضيد، يعجز ثمنها عن القوت، ويكابد شظف عيشٍ ممقوت، يلج سلاء في قدمه، ويخصبه الشائك بدمه، وهو أقل أشجاناً من الواثب على السرير، ينعم برشأ غرير، يجمع له الذهب من غير حلٍّ، بإعنات الأمم وإسخاط الإلّ، وإذا ملأ بطنه من طعام، وسبح في بحرٍ من الترف عامٍ، فتلك النعّم ولذاته، تحدث لأجلها أذاته، يختلجه القدر على غفولٍ، وغاية السّفر إلى قفول. وما يدري العاقل، إذا افتكر، أي الشخصين أفضل: أربيب عقد عليه إكليل، أم ارقش ظله في المك ظليل؟ كلاهما بلغ آراباً، وأحدهما يأكل تراباً، والآخر يعل بالراح، ويجتهد له في الأفراح.
وما علمنا النّسك موقياً، ولا في الأسباب الراّفعة مرقياّ، والعالم بقدرٍ عاملون، أخطأهم ما هم آملون، ما آمن أن تكون الآخرة بإرزاق، فتغدو الرّاجحة إلى المهراق، على أن السّر مغيب، وكلنا في الملتمس مخيب، والجاهل وفوق الجاهل، من ادّعى المعرفة بغبّ المناهل، واللّعنة على الكاذبين.
الكيسانية
عدلمّا الذين يدعون في عليّ، عليه السلام، ما يدعون، فتلك ضلالة قديمة، وديمة من الغواية تتّصل بها ديمة، وقد روي أنّه حرقّ عبد الله ابن سبأ لمّا هاجر بذلك النبإ. واعتقاد الكيسانية في محمد بن الحنفية عجيب، لا يصدق بمثله نجيب، وقد روي أنّ أبا جعفر المنصور رفعت له نارّ في طريق مكّة في اللَّيلة التي مات فيها، فقال: قاتل الله الحميريَّ، لو رأى هذه النّار لظن أنها نار محمد بن الحنفية!،وعلي له سابقة، ومحاسن كثيرة رائقة، وكذلك جعفر بن محمد ليس شرفه بالثمد.
وقد بلغني أنّ رجلاً بالبصرة يعرف بشاباس، تزعم جماعة كثيرة أنّه رب العزّة، وتجبى إليه الأموال الجمّة، ويحمل إلى السّلطان منها قسماً وافراً، ليكون بما طلب ظافراً، وهو إذا كشف ساقط لاقط، يبذه إلى الفضل الماقط، والماقط الذي يكرى من بلدٍ إلى بلد. وحدِّثت أنّ امرأة بالكوفة يدعى لها مثل ذلك.
ابن الراوندي
عدلوقد سمعت من يخبر أنّ لابن الرّاوندي معاشر تذكر إنّ اللاهّوت سكنه، وأنّه من علمٍ مكنه، ويخترصون له فضائل يشهد الخالق وأهل المعقول، أنّ كذبها غير مصقول، وهو في هذا أحد الكفرة، لا يحسب من الكرام البررة، وقد أنشد له منشد، وغيره التقي المرشد:
ولو تمثل هذان البيتان لكانا في الإصر يطولان أرمي مصر، فلو مات الفطن كمداً لما عتب، فأين مهرب العاقل من شقاءٍ رتب؟! أكل ما خدم خادع، أرسلت من الكفر مصادع؟ والمصادع: السهام وما حسنت السوداء الغالبة بسفيهٍ دعواه، إلا وافق جهولاً عواه أي عطفه.
وقد ظهر في الضيعة المعروفة بالنَّيرب المقاربة لسرمين رجل يعرف بأبي جوف، لا يستتر من الجهل بحوف، والحوف أزير من أدمٍ مشقق الأطراف السّافلة تتزر به الحارية وهي صغيرة وكان يدَّعي النّبرة، ويخبر بأخبار مضحكة، وتثبت نيته على ذلك ثبات المحكة، وكان له قطن في بيت فقال: إنّ قطني لا يحترق وأمر ابنه أن يدني سراجاً إليه، أخذ في العطب، وصرخت النّساء، واجتمعت الجيرة، وإنمّا الغرض إطفاء! وحدثّني من شاهد، أنّه كان يكثر الضّحك بغير موجب، ولا عند حدّثٍ معجب، فقيل له: ممّ تضحك؟ فقال كلاماً معناه: إنّ الإنسان ليفرح بهيّنٍ قليل، فكيف من وصل إلى العطاء الجليل؟ وكان بيّن الجنون، ليس خبله بالمكنون، فاتبعه الأغبياء، وكذب ما يقوله الأنبياء، حتى قتله والي حلب، حرسها الله، وذلك بعد مقتل البطريق المعروف بالدَّوقس في بلد أفامية، وكان الذي حثّ على قتله جيش بن محمد بن حمصامة لأنّ خبره رقي إليه، فأرسل إلى سلطان حلب، حرسها الله، يقول: أقتله وإلاّ أنفذت إليه من يقتله؛ وكان السّلطان يتهاون به لأنّه حقير، وربَّ شاةٍ نتج منها الوقير، أي قطيع الغنم.
وبعض الشّيعة يحدّث أنّ سلمان الفارسيّ في نفرّ معه جاؤوا يطلبون عليّ بن أبي طالبٍ، سلام الله عليه، فلم يجدوه في منزله، فبينما هم كذلك جاءت بارقة تتبعها راعدة، وإذا عليٌ قد نزل على إجاَّر البيت، في يده سيف مخضوب بالدّم، فقال: وقع بين فئتين من الملائكة، فصعدت إلى السماء لأصلح بينهما! والذين يقولون هذه المقالة يعتقدون أن الحسن والحسين ليسا من ولده، فحاق بهم العذاب الأليم.
أفلا يرى إلى هذه الأمّة كيف افتنت في الضّلالة، كافتنان الرّبيع في إخراج الأكلاء، والوحش الرّائعة الأطلاء!؟ وللكذب سوق ليست للصدّق، تجعل الأسدّ من أبناء الفرق. وأمّا الذي ذكره نم بلوغ السِّنِّ، فإن الله، سبحانه، خلق مقراً وشهداً، ورغبة في العاجلة وزهداً، وإذا اللّبيب أنعم النّظر، لم ير الحياة التي تجذبه إلى الضَّير، وتحث جسده على السيَّر؛ فالمقيم كأخي ارتحال، لا تثبت الأقضية به على حال: صبح يتبسّم وإمساء، لا يلبث معهما النَّساء، كأنّهما سيدا ضراء والعمر ثلّة في اقتراء، وهما على السّارح يغيران، فيفنيان السّائمة ويبيران.
وإن كان، مكنَّ الله وطأة الأدب ببقائه، قد أماط الشبيبة فإنما أنفقها في طلب علومٍ وآداب، صيرَّ طلابها ألزم دابٍ، ولو كان لها على الحيّ تلبث، كان لها بنفسه النفّيسة تشبث، ولكنها بعض الأعراض، لا تشعر بحياة وانقراض. وإذا كنّا على ذمِّ هذه المنزلة مجمعين، ولفراقها مزمعين، فلم نأسف على نأي الخوّانة؟ إن الأشاءة لمن العوانة، والأشاءة النخّلة الصغيرة، والعوانة النخّلة الطوّيلة ومتى اخلص قرين الغفلة توبةً، فإنّها لا تترك حوبةّ، تغسل ذنوبه غسل النّاسكة جزيز الفرار، في متدفق سحاب مدرار، كثر فيه القهل والدَّنس، فأحبَّ رحضه الأنس، وكان قد أخذ عن أثباج غنمٍ بيض، تفوق ما يرتع من الربيض، فعاد وكأنه كافور الطيّب، أو ما ضحك من كافورٍ رطيب، والكافور: الطّلع، وقيل هو وعاء الطَّلعة.
فأمّا الغانيات بعد السبّعين، فالأشيب لديهن كالعاسل يباكر العين، وقد حكي أنّ أبا عمرو بن العلاء كان يخضب، فاشتكى في بعض الأيام، فعاده بعض أصحابه، فال:تقوم إن شاء الله تعالى من علتّك. فقال: ما آمل بعد ستٍ وثمانين. وعاد إليه وقد تماثل فقال: لا تحدث بما قلت لك. وهذا من ظريف ماروي، رغب في تمويهّ بالخضاب، وكتم سنه عن كلّ الأصحاب.
وقد تحدّث بعض طلاّب الأدب انّه، أدام الله تزيين المحافل بحضوره، ذكر التزويج يريد الخدمة، فسرني ذلك، لأنّه دل على إقامة بالوطن، وفي قربه الفرحة لذوي الفطن. إذ كان كالشجّرة الوارف ظلالهما في الهواجر، والبارد هواؤها في ناجر، والطّيب ثمرها للذّائق، والأرج نسيمها للناشق.
وهو يعرف حكاية الخليل عن العرب: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيّا الشوابّ؛ ولا خيرة عند التّواب، ولكن النّصف، ممنّ يوصف:
لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون ولعله تقدر له كصاحبة أبي الأسود أمّ عمروٍ، ورب خيرٍ تحت الخمر:
أو كما قال الآخر:
وحكي عن أبي حاتمٍ سهل بن محمد أنّه قرأ على الأصمعي شعر حساّن بن ثابت، فلمّا انتهى إلى قوله:
قال الأصمعي: وصفها والله بالكبر، وقد يجوز ما قال، والأشبه أن يكون قال هذا وهي شابَّة، على سبيل التأسف، أي أن الأشياء لا بقاء لها، كما قال الآخر:
ولو نشط لهذه المأربة، لتنافست فيه العجز والمكتهلات، وعلت خطبة المنهبلات، لأن العاقلة ذات الإحصاف، تجنب إلى معاشرة حليف الإنصاف. وهل هو كما قال الأوّل:
فليس بأوّل من طلب نجوزاً، فتزوج على السنِّ عجوزاً، كما قال:
ويروي للحادث بن حلزة، ولم أجده في ديوانه:
وأعوذ بالله ممّا قال الآخر:
وما زالت العرب تحمد الحيزبون والشهلة، ولا تكره مع الشرخ الكهلة. وقد تزوج النبي ﷺ، خديجة ابنة خويلدٍ وهو شاب، وهي طاعنة في السّن. وقالت له أم سلمة ابنة أبي أمية: يا رسول الله، إني امرأة قد كبرت وما أطيق الغيرة. فقال: أمّا قولك: قد كبرت، فإنا أكبر منك، وأمّا الغيرة، فإننّي سوف أدعو الله أن يزلها عنك. وقال الشاعر:
ولا أشك أنّه قد استخدم في مصر أصناف حوارٍ، وهن للمآرب موارٍ، ولولا أنّ أخا الكبرة يفتقر إلى معينٍ، لكانت الحزامة أن يقتنع بورد ألمعين، فهو بعرف قول القائل:
وحدَّثني ابن القنسري المقرئ، أنّه سمعه يسأل عن غلامٍ للخدمة، وربما كان استخدام الأحرار، يمنع من القرار، فقد قال أبو عبادة:
وأن يخدم نفسه الوحيد، خير من أن يلج بيته العبيد؛ فطالما أحوجوا المالك إلى ضرب، وأن يتقَّيهم بالعرب. ورب نازلٍ من أهل الأدب في خان، ليس بالخائن ولا المستخان، بخدمه صبي من الرّق حرّ، وفي خدمته السرّق والضرّ. وإذا أرسله بالبتك، بنات الدرّهم ليأتيه بالطبيخة حين يكثر الطبيخ ويتيح، سعره المشتعل متيح، سرق في السّبيل القطع، وانتهى في الخيانة وتنطع، ثمّ وقف بالبائع، فغبنه غبن الرّائع، فأخذ صغيرة من بطيخ، لا تلقى النّاظر بمثل الورس اللطيخ. ثم انصرف بها لاعباً، كأنهّا نهد كاعباً، فلم يزل يتلقف بها في الطريق، حتى كسرها بين فريق؛ فاختلط حبُّها بالحصباء، وزهد في قربها كلّ الأرباء. ويجوز أن يحملها في حال السّلامة، ويمضي ليسبح مع الفتيان، فإذا نزل في الماء اختطفها بعض العرمة من الصبيان، فأكلها وهو يراه، لا يحفل بأديمها إذ فراه. وقد يرسله بالغضارة يلتمس لبناً، فيقال من سوء الّرأي غبناً، فإذا حصل فيها الهدبد، عثر فإذا هو على الصحّراء متلبدّ، وصارت الفخارة خزفاً لا يراد، يلغيه النسّكة والمرادّ، فإن كان صاحبه يذهب مذهب ابن الروميّ عدّ أن تحطم الغضارة، فناء عيشه ذي الغضارة؛ فدعا بالحرب، وشده عن فوات الأرب، وما يصنع بذلك المصمقرّ، وقد حان المرتحل إلى المقرِّ؟ وكان في بلدنا غلامٌ لبعض الجند يزعم، ويصدق فيما يزعم، أنَّه كان مملوكاً لأبي أسامة جنادة بن محمّد الهرويّ بمصر، وكان يأسف لفراقه، ويعجب من جميل أخلاقه، ويقول إنّه باعه من أجل العوم، فما أوقع غلاءً في السَّوم.
وإنّما ذكرت ذلك لأنّه، عرَّف الله الوقت بحياته أي طيِّبه، ممّن قد عرف جناده وجرّبه. وأمّا أهل بلدي، حرسهم الله، فإذا كان الحظُّ قد أعطاني حسن ظنِّ الغرباء، فلا يمتنع أن يعطيني تلك المنزلة من الرّهط القرباء،ولكنّهم كطلاّب الخطبة من الأخرس، وحرِّ ناجرٍ من شهر القرس.
وسيّدي الشّيخ أبو العبّاس الممتَّع: في السّنِّ ولدٌ، وفي المودّة أخٌ، وفي فضله جدٌّ أو أبٌ. وإنّه في أدبه، لكما قال تعالى: " وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تُجزى " .
وأمّا إشفاق الشّيخ - عمر الله خلده بالجذل، وأراح سمعه من كلِّ عذل - فتلك سجية الأنيس، لا يختص بها أخو الجبن عن الشّجاع البئيس. ومن القسوط، تعرُّض بالقنوط،" قل يا عبادي الَّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " ،كم من أديبٍ شرب وطرب ثمّ تاب وأجاب العتَّاب. فقد يضلُّ الدّليل في ضوء القمر، ثمّ يهديه الله بأحد الأمر، وكم استنقذ من اللُّجِّ غريقٌ، فسلم وله تشريق.
وقد كان الفضيل بن عياضٍ، يسيم في أوبل رياض، ثمّ حسب في الزُّهَّاد، وجعل من أهل الاجتهاد.
وربّ خليعٍ وهو فتى، تصدَّر لمّا كبر وأفتى، ومغنٍّ بطنبور أو عود، قدر له تولِّي السُّعود، فرقي منبراً للعظات، من بعد إرسال اللَّحظات.
عمر بن عبد العزيز
عدلولعلّه قد نظر في طبقات المغِّنين فرأى فيهم عمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنسٍ، هكذا ذكر ابن خرداذبة، فإن يك كاذباً فعليه كذبه. والحكاية معروفةٌ أن أبا حنيفة كان يشارب حمَّاد عجرد وينادمه، فنسك أبو حنيفة وأقام حمّادٌ في الغيِّ، فبلغه أن أبا حنيفة يذمُّه ويعيبة، فكتب إليه حمّاد:
عمر بن الخطاب
عدلأليس الصّحابة، عليهم رضوان الله، كلّهم كانوا على ضلالٍ، ثمَّ تداركهم المقتدر ذو الجلال؟ وفي بعض الرّوايات أن عمر بن الخطّاب خرج من بيته يريد مجمعاً كانوا يجتمعون فيها للقمار، فلم يجد فيه أحداً فقال: لأذهبنَّ إلى الخمَّار، لعلِّي أجد عنده خمراً. فلم يجد عنده شيئاً. فقال: لأذهبنّ ولأسلمنَّ.
والتوفيق يجيء من الله سبحانه وتعالى بإجبار، وفيما خوطب به النبيُّ ﷺ: " ووجدك ضالاًّ فهدى ".
وذكر أبو معشر المدني في كتاب المبعث حديثاً معناه أنّ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، ذبح ذبيحةً للأصنام فأخذ شيئاً منها فطبخ له،وحمله زيد بن حارثة ومضيا ليأكلاه في بعض الشِّعاب، فلقيهما زيد بن عمرو ابن نفيل، وكان من المتألِّهين في الجاهليّة، فدعاه النبي صلى لله عليه وسلم، ليأكل من الطعام، فسأله عنه فقال: هو من شيءٍ ذبحناه لآلهتنا. فقال زيد بن عمرو: انّي لا آكل شيءٍ ذُبح للأصنام، وإنِّي على دين إبراهيم صلى الله عليه،فأمر النبيُّ صل الله عليه وسلم، زيد بن حارثة بإلقاء ما معه.
وفي حديث آخر، وقد سمعته بإسنادٍ: أن تميم بن أوسٍ الدَّاريَّ، والدّار قبيلةٌ من لخم كان يهدي إلى النبيِّ ﷺ، في كلَّ سنةٍ روايةً من خمر، فجاء بها في بعض السّنين، وقد حرمت الخمر، فأراقها، وبعض أهل اللّغة يقول: فباعّها.
والمطبوخ وإن أسكر فهو جارٍ مجرى الخمر، على أنَّ كثيراً من الفقهاء قد شربوا الجمهوريَّ والبختج والمنصَّف، وذكر، عند أحمد بن يحيى ثعلبٍ، أحمد بن حنبل وإن كان شرب النّبيذ قطّ؟ والنّبيذ عند الفقهاء غير الخمر، فقال ثعلب: أنا سقيته بيدي في ختانةٍ كانت لخلف بن هشام البزَّاز.
فأمّا الطِّلاء فقد كان عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، جزَّأ منه على نصارى الشّام لجنود المسلمين، والمثل السّائر:
وهذا البيت يُروى ناقصاً كما علم، وهو ينسب إلى عبيد ابن الأبرص وربّما وجد في النّسخة من ديوانه، وليس في كلِّ النُّسخ. والذي أذهب إليه أن هذا البيت قيل في الإسلام عدما حُرِّمت الخمر. وإنّما لذَّة الشّرب فيما يعرض لهم من السكر، ولولا ذلك لكان غيرها من الأشربة أعذب وأدفأ، وقال التغلبيُّ:
ويروى لدعبل:
وهذا يدلُّ على أن الطِّلا يسكر ويروي للهذليّ:
وقال آخر:
وإن كان، هيَّأ الله له المحابَّ، قد شرب نيًّا، وقال له الندمان: هنيّاً، فله أسوةٌ بشيخ الأزد محمد بن الحسن إذ قال:
ثمّ قال في آخر القصيدة:
وما أختار له أن يأخذ بقول الحكمي:
وهو يعرف البيت:
وقول عبد الله بن المعتزِّ:
وقدماً طلب النَّدامى مطبوخاً، شبَّاناً في العمر وشيوخاً، ينافقون بالصِّفة ويوارون، وعن الصّهباء العاتقة يدارون، وأبيات الحسين بن الضّحاك الخليع التي تنسب إلى أبي نواسٍ معروفةٌ:
ومن النِّفاق أن يظهر الإنسان شرب ما أجاز شربه بعض الفقهاء، ويعمد إلى ذات الإقهاء، فقد أحسن الحكميُّ في قوله:
وقد آن لمولاي الشّيخ أن يزهد في شيمة حميد، وينصرف عن مذهب أبي زبيدٍ وإنَّما عنيت حميداً الأمجيَّ قائل هذه الأبيات:
وقال آخر:
وإذا تسامعت المحافل بتوبته، اجتمع عليه الشّبان المقتبلون، والأدباء المتكلمون، وكلُّ أشيب لم يبق من عمره إلاّ ظمء حمارٍ، كما اجتمع لسمر أصناف السُّمّار، فيقتبسون من آدابه، ويصغون المسامع لخطابه، وجلس لهم في بعض المساجد بحلب، حرسها الله، فإنَّها من بعد أبي عبد الله بن خالويه عطلت من خلخالس وسوار، ونارت من الأدب أشدّ النَّوار،وإذا كان لك بتفضلُّ الله، أعدَّ معه خنجراً كخنجر ابن الرّوميّ، أو الذي عناه ابن هرمة في قوله:
فإذ جلس في منزله، مجلسه الذي يلتقط أهله زهر أسحار، بل لؤلؤ بحار، فيكون ذلك الخنجر قريباً منه، فإذا قضي أن يمرَّ بباب المسجد الكهل المرقَّب الذي أراده القائل بقوله:
وثب إليه وثبة نمرٍ، إلى متخلِّفة وقير أمرٍ، أو أمر بعض أصحابه بالوثوب إليه، فوجأه بذلك الخنجر وجأةً فانبعث بمثل الدّم، أو الخالص من العندم، وقرأ هذه الآية: " إنَّ الحسنات يذهبن السِّيئات، ذلك ذكرى للذّاكرين " . فإذا مضى صاحبه مستعدياً إلى السّلطان فقال: من فعل ذلك بك؟ فسمّاه له، قال السّلطان بمشيئة الله: لا حرَّ بوادي عوفٍ، ما أصنع بجنث الأدب وبقيّة أهله؟ ووطئها تحت قدمه، وحسبها من زعانف أدمه. ما يفعل ذلك مرّةً أو اثنتين، إلاّ وحمله الذّوارع قد اجتنبت تلك النّاحية، كما اجتنب أبو سفيان بن حربٍ طريقه من خوف النبي ﷺ، فقال حسّان:
ولا بأس إن كان المعدُّ مشملاً يشتمل عليه في الكمِّ، فإذا ضرب به ذارع الخمر، ذكر من نظر في كتاب المبتدإ حديث طالوت لمّا أمر ابنته وهي امرأة داود، صلّى الله عليه، أن تدخله عليه وهو نائمٌ ليقتله. فجعلت له في فراش داود زق!َ خمرٍ ودسته عليه، وضربه بالسيف وسالت الخمر، فظنَّ أنَّها الدّم، فأدركه الأسف والنّدم، فأومأ بالسيف ليقتل نفسه ومعه ابنته، فأمسكت يده، وحدَّثته ما فعلته، فشكرها على ذلك.
ويكون السّكران إذا ألمَّ بذلك المسجد، ترتر ومزمز، كما في الحديث، واستنكه، فإن أوجبت الصورة أن يجلد جلد، ولا يقتصر له الشّيخ، أغراه الله، أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، على أربعين في الحدَّ على مذهب أهل الحجاز، ولكن يجلده ثمانين على مذهب أهل العراق، فإنَّها أوجع وأفجع. ويقال إن النبيّ ﷺ، جلد أربعين، فلمّا صار الأمر إلى عمر بن الخطَّاب، رضي الله عنه، استقلَّها، فشاور علياً، رضي الله عنه، فجعلاها ثمانين.
وإذا صحّت الأخبار المنقولة بأنّ أهل الآخرة يعلمون أخبار أهل العاجلة، فلعلّ حواريَّه المعدَّات له في الخلد، يسألن عن أخباره من يرد عليهنّ من الصُّلحاء، فيسمعن مرّةً أنّه بالفسطاط، وتارةً أنّه بالبصرة، ومرّةً أنّه ببغداد، وخطرةً أنّه بحلب. فإذا شاع أمر التّوبة، ومات ناسكٌ من أهل حلب أخبرهن بذلك، فسررن وابتهجن، وهنّأهنَّ جاراتهنَّ. ولا ريب أنّه قد سمع حكاية البيتين الثابتين في كتاب الاعتبار:
وأعوذ بالله من قومٍ يحثُّهم المشيب على أن يستكثروا من أمّ زنبقٍ، كأنّها المنجية من بنت طبق،كما قال حاتم:
وقال طرفة:
وقال عبد الله بن المعتز:
فهذا حثتَّه كثرة سنيه على أن يستكثر من السُّلافة، وما حفظ حقَّ الخلافة، وإنّ العجب طمعه أن يبلي، كأنّه في العبادة شحب وبلي، ولكنّ القائل قال لمعاوية بن يزيد:
وقد كان محمّد بن يزيد المبرَّد ينادم البحتريَّ ثمّ تركه.وأنا أضنُّ به، ميزّ الله من الغيظ قلب عدوِّه، أن يكون كأبي عثمان المازني: عوتب في الشّراب فقال: إذا صار أكبر ذنوبي تركته.
وأمّا إبراهيم بن المهديّ فقد أساء في تعريضه بالكأس لمحمّد بن حازم، ولكن من عبث بالبمَّ والزِّير، لم يكن في الدّيانة أخا تعزير. وقد روي أنّ المعتصم دعا إبراهيم كعادته فغنَّاه البيتين اللذين يقال فيهما: غنّى صوت ابن شكلة، وبكى إبراهيم، فقال له المتعصم: ما يبكيك؟ فقال: كنت عاهدت الله إذا بلغت ستين سنةً أن أتوب، وقد بلغتها. فأعفاه المعتصم من الغناء وحضور الشراب.
والتّوبة إذا لم تكن نصوحاً، لم يلف خلقها منصوحاً. وكان في بلدنا رجلٌ مغرمٌ بالقهوة، فلمّا كبر رغب في المطبوخ، وكان يحضر مع نداماه وبين يديه خرداذيُّ فيه مطبخةٌ، وعندهم قدحٌ واحدٌ، فيشرب هو من المطبوخ ويشرب صحابه من النيء، فإذا جاء القدح إليه ليشرب، غسله من أثر الخمر وشرب فيه، فإذا فرغ خرداذيُّ المطبوخ رجع فشرب من شراب إخوانه.
وأمّا مخاطبته غيره وهو يعني نفسه، فهو كقولهم في المثل: إيّاك أعني واسمعي يا جارة. ولا عندد عن الجبلَّة، يريد المتنسِّك أن ينصرف حبُّه عن العاجلة، وليس يقدر على ذلك، كما لو لا تقدر الظبية أن تصير لبؤةً، ولا الحصاة أن تتصوَّر لؤلؤةً: يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنَّك كنت من الخاطئين. وقول القائل في الدّعاء: اللّهم اجعل وصعي بازياً، يكون للسّفه مواذياً.
وإنَّا لنجد الرّجل موقناً بالآخرة، مصدِّقاً بالقيامة، معترفاً بالوحدانية وهو يحجأ على النّابح بعظمٍ، وعلى الجارية بعارية نظمٍ، كأنّه في الأرض مخلدٌ، وإن فني سهلٌ وجلدٌ.
وكثير من الذين يتلون الآية: " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبّةٍ أنبتت سبع سنابل في كلِّ سنبلة مائة حبِّةٍ، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسعٌ عليم " . وهم بها مصدِّقون، ومن خشية إلههم مشفقون، يضنُّون بالقليل التافه ولا يسمحون للسّائل ولا الوافه، فكيف تكون حال من ينكر حديث الجزاء، ولا يقبل عن الفانية حسن العزاء؟ وقد مرّ به حديث أبي طلحة، أو أبي قتادة ومعناه أنهّ خاصم يهوديّاً إلى النبيّ صلّى الله وسلّم، وكان لأبي طلحة حديقة نخلٍ، وبينه وبين اليهوديّ خلفٌ في نخلةٍ واحدةٍ. فقال النبيُّ ﷺ، لليهوديّ: أتسمح له بالنخلة حتى أضمن لك نخلةً في لجنّة؟ ونعتها رسول الله ﷺ، بنعوت أشجار الجنّة. فقال اليهوديُّ: لا أبيع عاجلاً بآجل. فقال أبو طلحة: أتضمن لي يا رسول الله كما ضمنت له حتى أعطه الحديقة؟ فقال: نعم. فرضي أبو طلحة بذلك. وأخذ اليهوديّ وذهب إلى حديقته، فوجد فيها امرأته وأبناءه وهم يأكلون من جناها، فجعل يدخل إصبعه في أفواههم فيخرج ما فيها من التمر، فقالت امرأته: لِمَ تفعل هذا ببنيك؟ فقال: إنّي قد بعت الحديقة. فقالت: إن كنت بعتها بعاجلٍ فبئس ما فعلت! فقصَّ عليها الخبر، ففرحت بذلك.
ولو قيل لبعض عبَّاد هذا العصر: أعط لبنةً ذات قضَّةٍ، لتعطى في الآجلة لبنةً من فضَّة، لما أجاب. لو سئل أمةً عوراء، يعوَّض منها في الآخرة بحوراء، لما فعل. على أنّه من المصدِّقين، فكيف من غذي بالتكذيب، وجحد وقوع التّعذيب؟ وأمّا فاذوه فلقي طائر الحين، متكفياً من بين جناحين، فلا إله إلاَّ الله، ما أعدَّ المهراس، ليفضح به الرأس، ولكن لكلِّ أجل كتابٌ، والشرُّ يبكر وينتاب. منته نفسه التّوبة، فكانت كصاحبة امرىء القيس لمّا قال لها:
أبي الهذيل العلاف
عدلويحكى عن أبي الهذيل العلاَّف أنّه كان يمرُّ في الأسواق على حمارٍ ويقول: يا قوم احذروا توبة غلامي.وكان له غلامٌ يعد نفسه التّوبة، فسقطت عليه آجرةٌ فقتلته، والدّنيا الغرَّارة ختلته.
وأوّل ما سمعت بأخبار الشّيخ، أدام الله تأثيل لفضل ببقائه، من رجلٍ واسطيٍّ يتعرّض لعلم العروض، ذكر أنّه شاهده بنصيبين، وفيها رجلٌ يعرف بأبي الحسين البصري، معلماً لبعض العلويّة، وكان غلامٌ يختلف إليه يعرف بابن الدن، وقد اجتاز الشّيخ ببلدنا والواسطيُّ يومئذٍ فيه. وقد شاهدت عند أبي أحمد عبد السّلام بن الحسين المعروف بالواجكا رحمه الله، فلقد كان من أحرار النّاس كتباً عليها سماعٌ لرجلٍ من أهل حلب، وما أشكُّ أنّه الشّيخ، أيّد الله شخصه بالتّوفيق، وهو أشهر من الأبلق العقوق، لا يفتقر إلى تعريف بالقريض، بل يصدح شرفه بغير التّعريض. قال البكريُّ النَّسابة لرؤبة: من أنت؟ قال: أنا ابن العجَّاج. قال: قصَّرت وعرَّفت. وإنّما هو في الاشتهار، كما سطع من ضوء نهارٍ، وكما قال الطائيُّ:
وإن تناسخت الأمم في العصور، فهو عليُّ بن منصور الذي مدحه الجعفيُّ، فقال والخالق وفيّ:
حجب طلاب الأدب عن تلك الرّتبة، ونزل بالمشّامخة لا العتبة. وأمّا العلماء الذين لقيهم، فأولئك مصابيح النّاجية وكواكب الدّاجية، وإنَّ في النّظر إليهم لشرفاً، فكيف بمن اغترف من كلِّ بحرٍ وجد غرفاً؟ وإنّما أقول ذلك على الاقتصار، ولعلَّه قد نزف بحارهم بالقلم والفهم، وفتحوا له أغلاق البهم جمع بهمةٍ وهو الأمر الذي لا يهتدى له فأخذ عن الكتابيّ سور التنّزيل، وفاز بثواب جزيل،فكأنما لقنّه إيّاه الرّسول، وبدون تلك الدّرجة يبلغ السُّول. أو أخذها عن جبرئيل،فى غير ولا تبديل. وسهّلوا له ما صعب من جبال العربيّة، فصارت حزونة كتاب سيبويه عنده كالدِّمات، وغني في اللُّجج عن ركوب الأرماث.
وأمّا انحيازه إلى أبي الحسن، رحمه الله، فقد كان ذلك الرّجل سيَّداً، ولمن ضعف من أهل الأدب مؤيَّداً، ولمن قوي منهم وادّاً، ودونه لللنوب محاداً، وكان كما قال القائل:
وكما قال الطّائيّ:
والمثل السّائر: على أهلها تجني براقش. وذكر الصُّوليّ أنّه دخل على المتَّقي بعدما قتل بنو حمدان محمّد بن رائق، فسأله عن أبيات نهشل بن حرِّيّ:
يقال: فعل كذا نئيشاً، أي بعدما فات، قال الشاعر:
وما زال الشّبان المحسون من أنفسهم بالنهضة، يبغون ما شرف من المراهص، وكيف بالسّلامة من الواهص؟ والمثل السّائر: رأي الشّيخ خير من مشهد الغلام. وربمّا سار الطّالب سورّة، فواجهت من القدر زورةّ، إنّ الغفة من العيش، لتغني المجتهد عن البري والرّيش، ولكن لا موئل من القضاء المحتوم، وآهٍ من عمرٍ بالتّلف مختوم:
وأمّا حججه الخمس فهو، إن شاء الله، يستغني في المحشر بالأولى منهن، وينظر في المتأخرين من أهل العلم، فلا ريب أنّه يجد فيهم من لم يحجج، فيتصدّق عليهم بالأربع.
وكأنّي به وعماعم الحجيج، يرفعون التّلبية بالعجيج، وهو يفكر في تلبيات العرب وأنّها جاءت على ثلاثة أنواع: مسجوع لا وزن له، ومنهوك، ومشطورٍ. فالمسجوع كقولهم:
والمنهوك على نوعين: أحدهما من الرَّجز، والأخر من المنسرح، فالذي من الرَّجز كقولهم:
فهذه من تلبيات الجاهليّة، وفدك يومئذ فيها أصنام، وكقولهم:
والذي من المنسوج جنسان: أحدهما في آخره ساكنان، كقولهم:
والآخر لا يجتمع فيه ساكنان كقولهم:
وربّما جاؤوا به على قوافٍ مختلفة، كما رورا في تلبية بكر بن وائل:
والمشطور جنسان: أحدهما عند الخليل من الرّجز، كما روي في تلبية تميم:
والآخر من السريع وهو نوعان: أحدهما يلتقي فيه ساكنان كما يروون في تلبية همدان:
قوهم: لبَوك، أي لزموا أمرك، ومن روى: لبَّوك، فهو سناد مكروه. والمشطور الذي لا يجتمع فيه ساكنان كقولهم:
والموزون من التلبية يجب أن يكون كلهّ من الرجز عند العرب، ولم تأت التلبية بالقصيد. ولعّلهم قد لبّوا به ولم تنقله الرّواة.
وكأني به لمّا اعتزم على استلام الرّكن، وقد ذكر البيتين اللذّين ذكرهما المفجع في حدَّ الإعراب:
فيعجب من خروجه من المذكَّر إلى المؤنث. وإذا حمل هذا على إقامة الصفّة مقام الموصوف لم يبعد. وكذلك يذكر قول الآخر:
فيقول: أليس قال البصريون إنَّ هاء النُّدبة لا تثبت في الوصل والهاء في قوله: يا ربَّاه، مثل تلك الهاء ليس بينهما فرقٌ؟ ولكن يجوز أن يكون مغزاهم في ذلك المنثور من الكلام، إذ كان المنظوم يحتمل أشياء لا يحتملها سواه،ولعلّه قد ذكر هذه الأبيات في الطَّواف:
فقال: ما أيسر لفظ هذه الأبيات لولا أنّه حذف أن من خبر عسى! فسبحان الله، لا تعدم الحسناء ذاماً، وأيُّ الرّجال المهذَّب،وذكر عند النَّفر وتفرُّق الناس هذين البيتين:
وقول قيس بن الخطيم:
وميّز بين هذين الوجهين في قوله: تحلُّ بنا، لأنََّه يحتمل أن يكون: تحلّ فينا، وقد يجوز أن يريد: تحلنا، كما يقال: انزل بنا هاهنا، أي أنزلنا، ومنه قوله:
وإن كانت الحجج التي أتى بها مع مجاورةٍ، فقد أقام بمكّة حتى صار أعلم بها من ابن داية بوكره، والكدريِّ بأفاحيصه، والحرباء بتنضبته. وإن كان سافر إلى اليمن أو غيره، وجعل يحجُّها في كلّ سنة، فذلك أعظم درجة في الثّواب، وأجدر بالوصول إلى محلِّ الآوَّاب. ولعلّه قد وقف بالمغمِّس وترحَّم على طفيلٍ الغنوي لقوله:
وإنّما أطلقت التّرحُّم على طفيلٍ إذ كان بعض الرّواة يزعم أنَّه أدرك الإسلام، وروى له مدحٌ في النبي صلّى الله عليه وسلم، ولم أسمعه في ديوانه، وهو:
وأنشد أبيات ابن أبي الصّلت الثّقفي:
وما عدم أن تخطر له أبيات نفيلٍ:
وليت شعري أقارناً أهلّ أم مفرداً؟ وأرجو أن لا تكون لقيته بمكَّة شهلةٌ تعرض عليه فتيا ابن عبّاسٍ، حلف ما بها من باسٍ، فتذكَّر قول القائل:
فأمّا المنتسبون إلى جوهرٍ، فالجوهر بعد إدراك الحظِّ، يرجع إلى تغيير وتشظٍّ، كم درّةٍ في تاج ملك، لمّا رمي بالمهلك، فضتَّها من الأسف حظاياه، وهل تثني من الأجل سراياه؟ وأخرى على نحر كعاب، شطَّت عن الدَّنس والعاب، منيت بالنقابة أو النُّحاز، فجعلتها الوالدة في منحاز. وكأنّي به وقد مرَّّ بأنطاكية فذكر قول امرىء القيس:
وخطر له أن النّطك وهو اللّفظ الذي يجب أن يشتق منه أنطاكية لو كانت عربيّةً، مهملٌ لم يحكه مشهورٌ من الثِّقات. ولمّا مرَّ بملطية أنكر وزنها وقال: فعلية، مثالٌ لم يذكر، وإذا حملناها على التّصريف وجب أن تكون ياؤها زائدةً لأن قبلها ثلاثةً من الأصول.
وأمّا صديقه الذي جدب عند السَّبر، فهو يعرف المثل: أعرض عن ذي قبر، إذا حجز دون الشّخص ترابٌ، فقد تقضَّت الآراب، من ليم في حال حياته، استحقَّ المعذرة في مماته، ولعله نطق بما نطق في معنى انبساطٍ، لا وهو بالكلم ساطٍ، ومن غفر ذنب حيٍّ وهو يلحق به الأذاة، فكيف لا يغفر له بعد الميتة وقد عدم منه الشَّذاة؟ وسلامٌ على رمسٍ من مخالسٍ، يعدل بألف تسليمةٍ في المجالس، وهو يعرف ما قالوه في معنى البيت:
أي أزور قبره. وأمّا الذي أنكره من البديه، فمولاي الشّيخ مكرَّرٌ في الأدب تكرير الحسن والحسين في آل هاشم، والوشم المرجَّع بكفِّ الواشم، وهل يعجب لسعجةٍ من قمريّ،أو قطرةٍ تسبق من السّحاب المريّ؟ ولو باده خزامى عالجٍ بالرائحة لجاز أن يرعف غضيضها، أو البروق الوامضة لما امتنع أن يعجل وميضها. وفي النّاس من يكون طبعه المماظَّة، فيؤذي الجليس، ويكثر التّدليس وهو يعلم أنّه فاضل، لا ينضله في الرّمي مناضل.
البديه ينقسم أفانين، ويصرّف للنّفر أظانين.فمنه القبل، ولعلّه فيه أجرى من سبل، أو هو السَّبل. والمراد بسبل الفرس الأنثى المعروفة، والسَّبل: المطر،وبديه التّمليط، ولا تجود الرّاسية بالسَّليط،وبديه الإعنات، وذلك الموقظ من السِّنات، وهو يختلف كاختلاف الأشكال، ولا ينهض به ذو الوكال،وأمّا أبو عبد الله بن خالويه وإحضاره للبحث النُّسخ، فإنّه ما عجز ولا أفسخ أي نسي ولكن الحازم يريد استظهاراً، ويزيد على الشّهادة الثانية ظهاراً:
أين كأبي عبد الله؟ لقد عدمه الشّام! فكان كمكَّة إذ فقد هشام، عنيت هشام بن المغيرة، لأنَّ الشاعر رثاه فقال:
وأبو الطيب اللّغوي اسمه عبد الواحد بن عليٍّ، له كتابٌ في الإتباع صغير على حروف المعجم في أيدي البغداديين، وله كتابٌ يعرف بكتاب الإبدال، قد نحا به نحو كتاب يعقوب في القلب، وكتابٌ يعرف بشجر الدرِّ، سلك به مسلك أبي عمر في المداخل، وكتابٌ في الفرق قد أكثر فيه وأسهب. ولا شكَّ أنَّه قد ضاع كثيرٌ من كتبه وتصنيفاته، لأنّ الرّوم قتلوه وأباه في فتح حلب. وكان ابن خلويه يلقبِّه قرموطة الكبرثل، يريد دحروجة الجمل، لأنّه كان قصيراً.
وحدّثني الثقه أنّه كان في مجلس أبي عبد الله بن خالويه وقد جاءه رسول سيف الدّولة يأمره بالحضور ويقول له: قد جاء رجلٌ لغويُّ، يعني أبا الطّيب هذا، قال المحدِّث: فقمت من عنده ومضيت إلىالمتنبي فحكيت له الحكاية، فقال: السّاعة يسلء الرّجل عن شوط براحٍ، والعلَّوض، ونحو ذلك، يعني أنّه يعنته.
وكان أبو الطيب اللّغوي بينه وبين أبي العبّاس بن كاتب البكتمريّ مودّةٌ ومؤانسةٌ، وله يقول:
قوله: يا عبد، يريد: يا عبد الواحد، كما قال عديُّ بن زيد في الأبيات الصادية التي مضت:
يريد عبد هندٍ،وقد كان أبو الطيب يتعاطى شيئاً من النَّظم.
وقد علم الله أنّي لا في العير ولا في النّفير، ومن للجارمة بالتّكفير؟ كلَّما رغبت في الخمول، قدِّر لي غير المأمول، كان حقُّ الشّيخ إذ أقام في معرَّة النّعمان سنةً ان لا يسمع لي بذكرٍ، ولا أخطر له على فكر، والآن فقد غمر إفضاله، وأظلَّني دوح أدبه لا ضاله، وجاءتني منه فرائد لو تمثِّلت لواحدة منها تومةً، لم تكن بالصحف مكتومةً، ولاستغنى بثمنها القبيل، وعمر إليها السّبيل؛ ينظر منها النّاظر إلى جوهرةٍ، مثل الزّهرة، كما قال الرّاجز:
وبعضهم يروي: ترمله، مكان: تزمره، وهي أكثر الرّوايتين على ما فيها من الإكفاء. وهو، أدام الله عزَّ الأدب بحياته، كريم الطّبع والكريم يخدع، ومن سمع جاز أن يخال، والجندل لا ينتج الرِّخال،وأمَّا ما ذكره من ميله في مصر إلى بعض اللّذات، فهو يعرف الحديث: أريحوا القلوب تع الذِّكر. وقال أحيحة بن الجلاح:
وكان ينبغي أن يكون في هذا الوقت يضبط ما معه من الأدب بدرس من يدرس عليه، إذ كانت السِّنُّ لابدَّ لها من تأثير، وأن ترمي بقلَّةٍ كلَّ كثيرٍ، ولكنَّ قطرته الفاردة تغرَّق، ونفسه إذا برد يحرِّق، وقال رجلٌ من قريش:
ولعلّه قد قضى الأرب من ذلك كلَّه، والأشياء لها أواخر، وإنَّما العاجلة سرابٌ ساخر، وقد عاشر ملوكاً ووزراء، فلا منقصة ولا إزراء، وقد سمع نبأ النّعمان الأكبر، إذ فارق ملكه فراق المعبر، وتعوَّض من الحرير المسوح، ورغب في أن يسوح،وإيّاه عنى العباديُّ في قوله:
والسُّكر محرَّمٌ في كلِّ الملل، ويقال:إنّ الهند لا يملِّكون عليهم رجلاً يشرب مسكراً، لأنّهم يرونه منكراً، ويقولون: يجوز أن يحدث في المملكة نبأٌ الملك سكران، فإذا الملك المتبع هكران.
لعنت القهوة، فكم تهبط بها رهوةٌ؛ لا خيرة في الخمر، توطىء على مثل الجمر. من اصطبح فيهجاً،فقد سلك إلى الدّهية منهجاً. من اغتبق أمَّ ليلى، فقد سحب في الباطل ذيلاً. من غري بأمَّ زنبق، فقد سمح بالعقل الموبق. من حمل بالرّاحة راحاً، فقد أسرع للرّشد سراحاً. من رضي بصحبة العقار فقد خلع ثوب الوقار. من أدمن قرقفاً، فليس على الواضحة موقفاً. من سدك بالخرطوم، رجع إلى حال المفطوم. المواظبة على العانِّي، تمنع بلوغ الأماني. الخيبة لسبيئةٍ، تخرج من سرٍّ كلَّ خبيئةٍ. لا فائدة في الكميت، جعل حيَّها مثل الميت. من بلي بالصَّرخديّ، لم يكن من الفاضحة بالمفديّ. ما أخون عهود السُّلاف، تنفض مرير الأحلاف. أمّا السُّلافة، فسلٌّ وآفة. كم شابٍّ في بني كلابٍ، مات غبطةً،وما بلغ من الدّنيا غبطة؟! رماه بسحافٍ قاتلٍ، إدمان المعتقَّة ذات المخاتل. من بكر إلى الشَّمول، فرأيه ينظر بطرف مسمول. أقلُّ عنتاً من كرينة، ليثٌ زأر في العرينة. كم بربطٍ، عصف بجعد وسبط! كم مزهرٍ، أوقع هاجداً في السَّهر! وهو يعرف أبيات المتنخِّل:
وينبغي أن يزِّهده في الصّهباء الصّافية، أن نداماه الأكرمين أصبحوا في الأجداث العافية، كم جلس مع فتيانٍ، أتى عليهم الزّمن كلَّ الإتيان، فكان كما قال الجعديُّ:
وهو يعرف الأبيات التي أوّلها:
وهل يعجز أن يكون كما قال الآخر:
كأنّه كان نديمه على الطِّلاء، فلمّا رماه التّلف من غير بلاء، حرَّم عليه شربها، حتى تسكنه الرّاكدة تربها.
وسرَّتني فيئة الدّنانير إليه، فتلك أعوانٌ، تشتبه منها الألوان، ولها على النّاس حقوقٌ، تبرُّ إن خيف عقوق.
قال عمرو بن العاص لمعاوية: رأيت في النّوم أن القيامة قد قامت وجيء بك وقد ألجمك العرق. فقال معاوية: هل رأيت ثمَّ من دنانير مصر شيئاً؟ وهذه لا ريب من دنانير مضر لم تجيء من عند السُّوق، ولكن من عند الملوك، ولم تكن مهر هلوك، فالحمد لله الذي سلَّمها إلى هذا الوقت ولم تكن كذهبٍ مخزونٍ، صار إلى الخمّارة مع الموزون، كما قال:
ولا ألغز عنها هذا البيت:
لو رآها المرقِّش لعلم أنّها أحسن من وجوه حبائبه، لمَّا غدا الظّاعن بربائبه، فقال:
وإنها لأحسن من الوجوه التي ذكرها الجعدي، وزعم أن حسنها بديّ، فقال:
أخذت من جوائز كرامٍ صيدٍ، تارةً بالخدمة وتارة بالقصيد، ولم تكن في العيدية مرهناتٍ، ولا عند الغرض موهناتٍ، كما قال ردَّادٌ الكلابيُّ:
وهي عند البله والكيس، أجود من الخاتم الذي ذكره ابن فيسٍ، فقال:
أراد بالعبدية دنانير نسبها إلى عبد الملك بن مروان، ويقال إنّه أول من ضرب الدّنانير في الإسلام،وجلتّ عن نقد الصّيرفي، وهي الرّواجح لدى الميزان الوفّي، حاش الله أن تكون كما قال الفرزدق:
وهذا البيت ينشد على وجهين: الدّنانير والدّارهيم،ولا هي من دنانير أيلة، باع بها البائع نخيله، وإنمّا ذكروا دنانير أيلة لأنهّا كانت في حيّز الرّوم فتأتيها الدَّنانر من الشام، قال:
لوشاة: النقاشون الذين يشونه ولو رآها الضبيّ محرزٌ، لشهد أنهّا حين تبرز، أجلُّ من تلك القسمات وإن كانت في أوجه ذي سماتٍ، قال:
ومعاذ الله أن نقرن بحوذان وادٍ، سقته روائح وغوادٍ، حتى إذا القيظ وهج، تمزّق ما لبس وانهج، قال الشاعر:
ولو أخذ مثلها النّادم على بيع كميته، لأسكنت البهجة في خلده وبيته، ولم يأسف أن عوض حماراً من فرس، ولوجد على الشّكوى ذا خرسٍ، ولم يقل:
ولله المنّة كما نجّاها بالقدر من بكورٍ، ليس من بكره بالمشكور، يحمل معه دنانير، ولا يصحب من القوم صنانير، أي بخلاء فيقيم بهم في الدَّسكرة أيامّاً، أيقاظاً في السكر أو نياماً، فتفني الذَّهب أقداح، كأنّها جزور الميسر وهي القداح قال الجعدي:
وقال آخر:
ولو كان الشيخ أدرك من تقدم من الملوك، لكن كلّ واخد منها كالذي قال فيه القائل:
ودنانيره، بإذن الله، مقدَّسات، ما هنَّ بالحرج ملدسات،والحزامة من سومه وشيمه، فلا يدفع إلى مقارض شيئاً من عيمه أي مختاراته وفي الكتاب العزيز: " ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدَّه إليك " وهذا قيل لرسول الله ﷺ: وقد كان في زمانه من تخرج، يتضمخ بالنسك ويتأرخ، فأما اليوم فلو أمن كتابي على نميٍَّ، لأسرعت إليه الظنَّن إسراع رميّ والرَّمي ههنا سحاب سريع الإقشاع، من قول الهذلي:
وما عنيت بالكتابي، من نسب إلى توارةٍ وإنجيل، دون من نسب إلى القرآن البجيل،على أنّه لا بدّ من أمانةٍ مفترقة في البلاد، تكون للخيّر من التّلاد، وإنّها في الآخرة لأشرف، وأرحض لما يقترف، فليشفق على الصّبابة، إشفاق الندَّس ذي اللَّبابة، فكل واحدٍ منها دينار أعزةٍ، يبعث الرّابي على الهزّة، كما قال سحيم:
ولو نظر إليه قيس بن الخطيم لما شبّه به وجه كنوده، وجعله من أنصر جنوده، ولم يسمح أن يقول:
ولمثله قصد ربيعة بن المكدَّم، لمّا أيقن بحتفٍ مقدَّم، فقال:
أو ملكه مالك بن دينار مع زهده، وبلوغه في الورع أقصى جهده، لجاز أن يحجأ به على دينار أبيه، وقد يكذب قائل في التشبيه.
وكلّ هبرزيٍ من هذه الصُّفر المباركة، أبلغ في قضاء الحاجة من دينارٍ الذي اختاره للمأربة قائل هذا البيت:
وهذا البيت يتداوله النحويوّن، وزعم بعض المتأخرين من أهل العلم أنّه مصنوع، وما أجدره بذلك! فأمّا قول الفرزدق:
و كان دينار هذا المذكور كأحد هذه الدّنانير، لأرب به أن ينسب إليه يزيد،وأين هي من دنانير النّخَّة التي قال في واحدها القائل:
ودينار النَّخَّة دينار كان يأخذه المصدَّق إذا فرغ من الجباية،وكل نقيشٍ من هذه الرّاجعة بعد اليأس، أنقع لغليل الصَّديان، من دينار الذي دعاه لسقيه راكب فلاةٍ، وهو على كور علاةٍ فقال:
ولا هو كدينار الأخطل الذي ذكره في قوله:
ولا كالدّينار في البيت الذي أنشده أبو عمرو الزّاهد:
زعم أن الكاروكة القوادة،والعجب لها تفر من بنان السّارق، فرار دنانير الشَّارق، وصفها أبو الطيب فقال:
لو رآها كثيرَّ عزة لآلى أوكد أليةٍ، أنّها أحسن من الهرقليَّة، التي شبه بمنفردها نفسه فقال:
موسى الذين جاء فيهم: " واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا " وعلى عدّة الاستغفار المذكور في قوله: " إن تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر الله لهم " ، وعلى عدّة أذرع السّلسلة في قوله تعالى: " في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه " .
ولو كان الإنسان في قليب عمقه ثمانون قامةً، جاز أن تستنقذه هذه المصفرَّة من غير مرضٍ، والزّائلة بما يعترض من الجرض وإنّما ذكرت ذلك لقول الأعشى:
ولو كانت سنو زهير مثلها لما وصف نفه بالسآمة، ولكانت له أنهض قامة والقامة الأعوان، كأنّها جمع قائم. قال الرّاجز:
ولو أدركه عروة بن حزام وهو يقول:
لجاز أن يرقّ له فيغيثه من هذه الثّمانين ببعضها أو يسمح له بكلّها، لأنّه كريم طبع، وعوده في النُّوب عود نبعٍ؛ ولو صارت في يد عروة هذه الثمانون، لبلغ بها الأمنية لأنّ النّاقة في ذلك الزّمان كانت ربّما اشتريت بعشرةٍ دراهم.
الفرزدق
عدلوفي بعض أخبار الفرزدق، أنّ رجلاً من ملوك بني أمية أعطاه مائة من إيل الصّدقة، فباعها بألفٍ وخمسمائة درهم، بعدما عني به، وزيد في الثمن. وقد مرّت به الحكاية التي يذكرها أصحاب التاريخ، أن الجمل كان يباع في زمن أبي جعفر المنصور بدرهمٍ، وأنّه صادر قوماً من أصحابه، وكانت لهم نعج، فباعوها ثماني نعاجٍ بدرهم. هذا ممّا وجد بخط المرزبانيّ في تاريخ ابن شجرة. وهي أنصر من الثمّانين التي ذكرها العلوي البصري في قوله:
ولولا خشية الغلوِّ لقلت: ومن ثمانين ألفاً ذكرها السِّنبسيُّ في قوله:
وكيف لهمَّام بن غالبٍ أن ترميه الحوادث بهذه الثمانين، كما رمته بسنيه في قوله:
ولو ملكها راعي ثمانين الذي يقال فيه، أحمق من أعي ضأنٍ ثمانين، لجعلت له عقلاً صافياً، وثوباً من الدّّعة ضافياً.
والمثل السّائر: وجدان الدّعة والرَّقين، يذهب أفن أفين، ويروى: يغطِّي أفن ألأفين. وليس للرِّقة، شرف هذه الأشكال المشرقة، وللذهب على الفضَّة صرف، والمكارم لها عرف.
وهو يعرف حكاية الحطيئة مع سعيد بن العاص لمَّا قال له: أيُّ النّاس أشعر؟ قال: الذي يقول، وهو أبو دؤادٍ الإياديُّ:
قال: ثمّ من؟ قال: الذي يقول وهو حسان بن ثابت:
قال: ثمّ: قال: الذي يقول وهو أعشى قيس:
قال: ثمّ من؟ قال: ثمّ حسبك بي إذا وضعت رجلاً على رجل، ثم عويت في آثار القوافي، كما يعوي الفصيل في آثار الإبل،وقال الشاعر:
وتلك الثمانون، ألقي فيها الرَّيع إلى أن يصير قيراطها قنطاراً، ولا فتئ كلُّها معطاراً أي هو قريب من عطر، لا يعدم في صيامٍ ولا فطر، أوفر حظَّاً في المحمدة من التي ذكرها الحرَّاني السّلمي، أبو المحلمَّ عوف بن المحلم في قوله:
لأن التي ذكرها تضعف، وهذه تنعش وتسعف، وتلك تجعل الرّجل بعد كونه كالقناة، كأنّه قوس في أيدي الحناة، وهذه تقيم الأود، وتسر الأسود. والبيت المنسوب إلى أبي العتريف معروف:
ولعّله قد اجتاز في أرض الموصل، بالقرية التي تعرف بثمانين وهي قريبة من الجبل المعروف بالجوديِّ، فإن كانت ثمانون القرية وطن أناسٍ، فهذه تجري مجرى الوطن في الإيناس، كما قال:
لله درّ الذّهب من خليلٍ، فإنّه يفيء بظلٍّ ظليلٍ؛ وإن دفن لم يبال، ما هو كغيره بالٍ؛ أعطي نفيس المقدار، فما همَّ شرفه بانحدار؛ والدر إذا كسر ذهبت قيمته، ولم يحفظ إن تنحطم كريمته، وربَّ ذهب في سوار، غبر زماناً غير متوار، ثمّ جعل في خلخال، تختال بلبسه ذات الخال، ثمّ نقل إلى جامٍ أو كاسٍ، وهو بحسنه كاسٍ، ما تغيَّر لبشار النّيران، ولا غدر بوفيّ الجيران.
ولعّل هذه الثمّانين، قد أدرك ذهبها قارون، وموسى المرسل وأخاه هارون، وليس للهلكة به اتّصال، ولا من العزة له انفصال، يعظمَّ في أرض السند، وبلاد الهند،وأمّا ابنة الأخت، أدام الله لها الصيانة، فإنّها أدلَّت على الخال إذ كان أحد الوالدين، فهمَّت أن تأكل بيدين، وما هي بأختٍ للّرجل الذي قال فيه القائل:
ولا تجعلها أختاً للهجرس لأنّه طالب خاله بثأرٍ، فلم يقبح ما فعل من الآثار، ولكن تشبه أن تكون أختاً لابن مضرسٍ حين فاتتها الأخوة من الهجر، وهو المعروف بالخنوت واسمه توبة، وكان له أخ يقال له طارق رهط خاله، فرأى أن يقتل خاله، وقال:
وهو القائل:
ويجوز أن يكون قد رشح إلى هذه المرأة شيء من آداب الخؤولة، فليتق معرَّة بيانها، أكثر من اتقّائه خلسة بنانها. فهو يعلم أنَّ الشعر ورثه زهير بن أبي سلمى من خاله بشامة بن الغدير ولم يكن في مزينة شعر يذكر، وحضره زهير عند الوفاة فأراد أن يعطيه شيئاً من ماله، فال بشامة: أما بكفيك أنّي ورَّثتك غرائب القصيد؟ وربمّا كان في نساء حلب، حرسها الله، شواعر، فلا يأمن أن تكون هذه منهنّ، فطالما كنَّ أجود غرائز من رجالهنّ، وحدّث رجل ضرير من أهل آمد يحفظ القرآن، يأنس بأشياء من العلم، انّه كان وهو شاب له امرأة مقينة تزين النساء في الأعراس، وكان ينجم في القرع، وكان يعتمد حفظ تلك الأشعار ويدرسها في بيته، ولا غريزة له في معرفة الأوزان، فيكر البيت. فتقول له امرأته الماشطة: ويلي !ما هذا جيد! فيلاجها ويزعم أنّها مخطئة. فإذا أصبح مضى فسأل من يعرف ذلك، فأخبره أنّ الصواب معها، وعرفَّه كيف يجب أن يكون، فإذا لقنه عنه، عاد في اللّيلة الثانية، فذكره وقد أصلح، فتقول الماشطة: هذا الساعة جيد.
وكان لي كريَّ من أهل البادية عرف بعلوان وله امرأة تزعم أنّها من طيّ، فكان لا يعرف موزون الأبيات من غيره، وكانت المرأة تحس بذلك. وكانت تتأسف على طفلٍ مات لها يقال له رجب، وكانت تنشد هذا البيت:
فقالت يوماً:
فعلمت أنّ الوزن مختلّ، فقالت:
فحركت التنوين وأنكرت تحريكه بالطبع. فقالت:
فأضافته إلى الكاف فاستقام الوزن واللّفظ.
وفي الكتاب العزيز " يا أيُّها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوّاً لكم فاحذروهم، وإنّ تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم " .
مذهب الحلولَّ
عدلوأمّا أبو بكر الشبلي، رحمه الله، فلا ريب أنّه من أهل الفضل، وأرجو أن يكون سالماً من مذهب الحلولَّية،وأنشدني له منشد:
هكذا أنشدته: نودي بسكون الياء، ولا أحب ذلك وإن كان جائزاً، وإنّما يوجد في أشعار الضَّعفة من المحدثين.
فإن صحَّ أن هذين البيتين له، فلا يمتنع أن يعترض عليه قائل فيقول: من زعم أنّه صافٍ، فما يجب أن يأتي بغير الإنصاف، وادّعاؤه الانفراد من العالم لا يسلمَّه إليه البشر، إن كان هواه للمخلوقين أو الخالق ولا يقين، فله في الأمم نظراء كثير.
وأنا أعتذر إلى مولاي الشيخ الجليل من تأخير الإجابة، فإن عوائق الزّمن منعت من إملاء السوداء، كأنّها سوداء التي عناها القائل:
وأنا مستطيع بغيري، فإذا غاب الكاتب، فلا إملاء. ولا ينكر الإطالة عليّ، فإنّ الخالص من النّضار العين، طالما اشتري بأضعافه في الزِّنة من اللجين، فكيف إذا كان الثمن من النميات يوجدن في الطّرق مرميّات؟ وعلى حضرته الجيلة سلام يتبع قرومه إفاله، وتلحق بعوذه أطفاله.
رسالة الغفران لأبي العلاء المعري | |
---|---|
مقدمة | الجزء الأول | الجزء الثاني |