رسالة سليم الأول إلى نائب دمشق وقاضي قضاتها بخصوص النصر على المماليك

​رسالة سليم الأول إلى نائب دمشق وقاضي قضاتها بخصوص النصر على المماليك​ المؤلف سليم الأول
ملاحظات: وردت هذه الرسالة بِاللُغة العربيَّة في كتاب «مُفاكهة الخِلَّان في حوادث الزمان» لابن طولون الصالحي، بحسب تعريب مُوقِّع دوادار السُلطان كما قال ابن طولون. الطبعة المرجوع إليها هُنا هي الطبعة الأولى لدار الكُتب العلميَّة (1418هـ = 1998م)، صفحة 350 - 353. رابط تحميل نسخة من الكتاب.


بسم الله الرحمن الرحيم

قُدوة الأُمراء الكرام، وعُمدة الكُبراء الفخام، ذو القدر والاحترام، كافل مدينة الشَّام، دام عزُّه، وأقضى قُضاة المُسلمين، أولى وُلاة المُوحدين، معدن الفضل واليقين، حُجَّة الحق على الخلق أجمعين، مولانا قاضي القُضاة بِالشَّام المحروس، أبدت فضائله مرسومنا هذا، يُوضَّح لِعلمهما الكريم، أننا توكَّلنا على الله سُبحانه، وتوسَّلنا بِسيِّد الكائنات، مُحمَّد ، وتوجَّهنا بِعساكرنا وصناجقنا وأعلامنا وجُيُوشنا وخُيُولنا السابقات الصافنات، وقسيِّنا الصائبات، ورجالنا المُرصدين لِصيد أعدائنا، مع هداية الله تعالىٰ، من الشَّام مع السَّعد والظَّفر إلى جهة مصر، فوجدنا طومان باي، الذي تولَّى سلطنة مصر، وأقام جان بردي الغزالي كافلًا لِلشَّام، وجهَّزه إلى غزَّة، وصحبته فرقة من العساكر المصريَّة. وكان قد تقدَّمنا قُدوة الوُزراء العظام، وعُمدة الكُبراء الفخام، الغازي في سبيل الله، المُجاهد لِوجه الله، الوزير الأعظم سنان باشا، إلى جهة غزَّة، فوقع بهم، والتحم بينه وبينهم القتال العظيم، فبِعون الله تعالىٰ وسعادتنا الشريفة، حصل لهُ النَّصر والظَّفر، وقُتل منهم من قُتل، وأُسر منهم من أُسر، ومن سَلِمَ من سيفه فرَّ مُنهزمًا صُحبة الغزالي المذكور إلى مدينة مصر.

ثُمَّ إنَّ ركابنا الشريف جدَّ في السير، في السعد والإقبال، بِعساكرنا وجُنُودنا، واجتمع بنا سنان باشا المُشار إليه، وصرنا نرحل من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ مثل السِّهام. فلمَّا وصل إليهم خبر توجُّه ركابنا الشريف على هذا الوجه، أرادوا أن يتداركوا بقاء أنفُسهم وأرواحهم، فجمعوا عساكرهم السيفيَّة، والجلبان، ومماليك الأُمراء، والعربان نحو الثلاثين ألفًا. وجمعوا ما في القلعة المصريَّة، وبُيُوت الأُمراء، وثغر إسكندريَّة، وسائر البلاد والقلاع، من المكاحل، والكفيَّات، والسبقيَّات، والبُندُقيَّات، واللُّبوس، والسِّلاح. وحفروا خندقًا في الريدانيَّة، من بحر النيل إلى الجبل، وجمعوا أخشابًا جعلوها تساتير على الخندق، وأحضروا رُماة من الفرنج وغيرهم، وسائر آلات الحرب، وهيَّئوها لِلقتال. فوصل ركابنا الشريف، بِعساكرنا المنصورة، إلى الريدانيَّة، في يوم الخميس التاسع والعشرين من ذي الحجَّة الحرام سنة اثنين وعشرين وتسعُمائة، وقت الغداة، فوجدناهم قد لبسوا السلاح، وتكمَّلوا العدد، وتقلَّدوا العُدد، وهم غارقون في الدُّروع والزُّرد، وأرادوا مُقابلة عساكرنا المنصورة، التي هي أعداد الرمال، وأمثال الجبال، ولها قُلُوب الأُسُود، وشُخُوص الرجال. فلمَّا وقف الصفَّان ماج عسكرنا كموج بحر عُمان، فبقي يغلي ويضطرب، فرتَّبنا وزيرنا الأعظم سنان باشا في ميمنة العسكر، ودُستُورنا المُكرَّم ومُشيرنا المُفخَّم نمر وهزبر الهيجاء، وزيرُنا يُونُس باشا في الميسرة.

واصطفَّ الجيشان، وزحف العسكر المصري على سنان باشا في الميمنة، ورموا عليه بِالمكاحل والسبقيَّات والكفيَّات والبُندُقيَّات، وجاء أعداؤه لِلقتال، فما روَّعه ذلك ولا أزعجه، بل جال فيهم وصال وقطَّع منهم الأوصال، ورمى منهم الرُؤوس عن الجُثث، وغنَّى فيهم السيف، إلى أن خاضت خُيُولهم في الدماء والقتلى. ثُمَّ ولُّوا منهم مُنهزمين إلى الميسرة، فتلقَّاهم يُونُس باشا المُشار إليه، وجال فيهم بِطعنٍ وضربٍ، فأرادوا الفرار، فناداهم لن ينفعكم الفرار، إن فررتم من الموت أو القتل، فكم من فارسٍ تجندل صريعًا وكم من أميرٍ أحضروه إلينا أسيرًا. وأمَّا غالب العسكر المخذول، فداسهم عسكرنا تحت حوافر الخُيُول؛ واستمرَّ الحرب من أوَّل النهار إلى بين الصلاتين، وصار حربٌ عظيم، وجُرح سنان باشا. وآخر الأمر بِإرادة الله تعالىٰ، ألا أنَّ حزب الله هُم الغالبون، وصارت عساكرنا غالبة ومنصورة، والعساكر المصريَّة مغلوبة مقهورة، وقالوا: أين المفرّ؟ والذي سَلِم من سُيُوفنا منهم من رمى بِنفسه عن فرسه فقبضوا عليه، ومنهم من قطعوا رأسه وأحضروه إلينا، والمأسورون منهم عملناهم إشارات لنبلنا وغذاء لِسُيُوفنا، وصارت أبدانهم ورُؤوسهم وخُيُولهم كيمانًا.

وأقمنا بعد هذه المعركة في الريدانيَّة أربعة أيَّام، بِالسعد والإقبال، ثُمَّ انتقل ركابنا الشريف من الريدانيَّة إلى جزيرة بولاق. وكان قد فصل بقيَّة سُيُوفنا من العساكر المصريَّة، فهربوا واجتمعوا، هُم والسُلطان طومان باي، وجمعوا العربان، والتمُّوا نحو العشرة آلاف، ليلًا من نهار الثُلاثاء خامس شهر المُحرَّم الحرام سنة ثلاث وعشرين وتسعُمائة خفية، ودخلوا البُيُوت الحصينة، وحفروا حولها الخنادق، وستَّروا التساتير، واجتمعوا في الحارات، وأظهروا الفساد، وأبرزوا العناد، فعلمت عساكرنا المنصورة بهم، فربطوا الخيَّالة لهم الطُرُقات، لئلَّا ينهزم منهم أحد، وصاحت عليهم مماليكنا الينكشاريَّة والتفكجيَّة، وحملت عليهم حملة رجُلٍ واحد، ودخلوا عليهم إلى البُيُوت التي تحصَّنوا فيها، ونقبوا عليهم البُيُوت يمينًا وشمالًا، وطلعوا على أسطحة تلك البُيُوت التي تحصَّنوا فيها، ورموا عليهم بِالبنادق، والكفيَّات، واستمرَّ الحرب بين عساكرنا المنصورة وبينهم ثلاثة أيَّام. وفي يوم الجُمُعة ركب مقامنا الشريف، واشتدَّ الحرب، وصار مثل ﴿يَوْمَ يَغْشَىٰهُمُ ٱلْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، ومثل يوم ﴿يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ۝ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، فخرَّبنا ما عملوه من التساتير والخنادق، فالتجئوا إلى بعض البُيُوت الحصينة، فحرقنا عليهم تلك البُيُوت التي التجئوا إليها، وبقوا في العذاب الأليم، وأرادوا الهُرُوب، فما لقوا لهم طريقًا إلَّا بحر النيل، فأرموا أنفُسهم فيه، وغرقوا كيوم فرعون.

وفي هذه الثلاثة أيَّام يستمر القتال من الصُّبح إلى العشاء، وبِعون الله تعالىٰ قتلنا جميع الجراكسة، ومن انضمَّ إليهم من العربان، وجعلنا دماءهم مسفوحة وأبدانهم مطروحة، ونهب عساكرنا قماشهم وأثاثهم وديارهم وأموالهم وبركهم ويرقهم، ثُمَّ صارت أبدانهم لِلهوام. وأمَّا طومان باي سُلطانهم، فما عرفنا هل هو مات أم بِالحياة؛ وأطاعتنا بِعون الله تعالىٰ جميع العربان، والمشائخ والأكابر بِمصر وأعمالها، والحمد لله الذي هدانا لِهذا، والمسؤول من الله سُبحانه أن يكون عدوِّنا دائمًا مقهورًا، وعسكرنا منصورًا، والدَّاعي بِدوام دولتنا مسرورًا، إلى يوم النُشُور، آمين يا مُعين. وبعد هذه الفُتُوحات العُظمى، أردنا أن نُعلم جميع رعايانا، سُكَّان ممالكنا الشريفة بِذلك، لِيأخُذُوا حُظُوظهم من هذه البُشرى، ويبتهلوا إلى الله تعالىٰ بالأدعية الصالحة بِدوام دولتنا الشريفة، ويدُقُّوا البشائر ويُعلنوا التهاني، ويرموا بالبارود في القلعة المنصورة، ويُعلموا بِذلك أطراف البلاد ومُقدِّميها، لِيكونوا مسرورين بِهذه البُشرى، وكُتب في أوائل المُحرَّم بِمنزلة جزيرة بولاق.