رسالة في التصور والتصديق

​رسالة في التصوّر والتصديق​ المؤلف صدر المتألهين الشيرازي
(علم المنطق)


المقدمة عدل

بسم الله الرحمن الرحيم

تصورنا آياتك و صدقنا برسالاتك و آمنا بحججك و بيناتك، فاهدنا سبيل رحماتك و أعذنا من شر نقماتك.

و بعد فيقول الهارب من كل جناب إلى جناب رحمة الله الحق المعين محمد المشتهر بصدر الدين: هذه رسالة متضمنة لتحقيق التصور و التصديق و تعريفها كتبتها بالتماس بعض الخلان المترددين إلي في هذه الأوان و وصيتهم بصيانتها عن الأغيار و الأشرار، متوكلا على مفيض الأنوار.

الفصل الأول:العلم عبارة عن حضور صور الأشياء عند العقل عدل

اعلم أن العلم عبارة عن حضور صور الأشياء عند العقل و نسبته إلى المعلوم كنسبة الوجود إلى الماهية، و وجود الشيء و ماهيته متحدان ذاتا متغايران اعتباراً، و كذا العلم و المعلوم به أمر واحد بالذات، متغاير بالاعتبار، و كما أن الوجود موجود بنفسه و الماهية موجودة به كذلك العلم معلوم بنفسه منكشف بذاته و غيره من المعلومات معلوم به ثم العلم بالشيء الواقعي قد يكون نفس وجوده العلمي نفس وجوده العيني كعلم المجردات بذواتها و علم النفس بذاتها و بالصفات القائمة بذاتها و هكذا أفعالها النفسانية و أحكامها و أحاديثها النفسية، و قد يكون وجوده العلمي غير وجوده العيني كعلمنا بالأشياء الخارجة عن ذواتنا و ذوات قوانا الإدراكية كالسماء و الأرض و الإنسان و الفرس و غير ذلك و يقال له العلم الحادث و العلم الحصولي الانفعالي.

و هو المنقسم إلى التصور و التصديق، المنقسم كل واحد منهما إلى البديهي و الكسبي، و البديهي منقسم إلى الأولى و غيره، و الكسبي إلى أقسامه كالحدود و الرسوم في باب التصورات، و البرهاني و الجدلي و الخطابي و الشعري و السفسطي في باب التصديقات إذ كل من هذه الأقسام أثر حاصل من الشيء تنفعل به النفس فلا بد و أن يكون بحصول صورة ما منه في النفس، فإنا عند علمنا بشيء من الأشياء بعد ما لم يكن لا يخلو إما أن يحصل لنا شيء أو لم يحصل، و إن لم يحصل فهل زال عنا شيء أو لا؟

و على الثالث استوى حالنا قبل العلم و بعده و هو محال.

و على الثاني فالزائل منا عند العلم بهذا غير الزائل منا عند العلم بذاك- و إلا لكان العلم بأحدهما عين العلم بالآخر- ثم للنفس أن تدرك أمورا غير متناهية و لو على البدلية كالأشكال و الأعداد و غيرهما فيلزم أن تكون فينا أمورا غير متناهية بحسب قوة إدراكنا للأمور الغير المتناهية- و هو مما بين بطلانه في الحكمة- ثم الضرورة الوجدانية حاكمة بأن حالة العلم تحصيل شيء لا إزالة شيء، فثبت الشق الأول و هو أن العلم عبارة عن حصول أثر من الشيء في النفس و لا بد أن يكون الأثر الحاصل من كل شيء غير الأثر الحاصل من الشيء الآخر، و هذا هو المراد بحصول صورة الشيء في العقل.

و من هاهنا يلزم أن يكون العلم بكل شيء هو نفس وجوده العلمي، إذ ما من شيء إلا و بإزائه صورة في العقل غير الصورة التي بإزاء شيء آخر، و هي غير ما بإزائه صورة أخرى، فلا بد أن تكون صورة كل شيء عين حقيقته و ماهيته فليتأمّل في هذا البيان فإنه لا يخلو من غموض.

فإن العلم هو تلك الصورة الحاصلة، و له لازمان قد يطلق لفظ العلم على كل منهما أيضا كما أطلق على الصورة بالاشتراك الصناعي: أحدهما انفعال النفس، و الثاني إضافته إلى المعلوم.

الفصل الثاني: في تقسيم العلم إلى التصور و التصديق عدل

اعلم أن كل تقسيم عبارة عن ضم قيود متخالفة إلى أمر واحد مبهم ليحصل بانضمام كل قيد إليه قسم، و تلك القيود إما فصول ذاتية مقومة لماهية الأقسام التي هي الأنواع و مقررة لوجود المقسم الذي هو الجنس باعتبار، و إما عوارض خارجة عن حقائق الأقسام داخلة في مفهوماتها من حيث إنها أقسام للمقسم، و الحاصل في الضرب الأول من المقسم و القيد لكل واحد من الأقسام حد له و في الضرب الثاني رسم له و ربما يكون حدا اصطلاحيا بحسب شرح الاسم.

و اعلم أن الوحدة معتبرة في جميع التقسيمات و إلا لم يكن شيء من التقسيمات منحصرا فإنك إذا قلت: الكلمة إما اسم أو فعل أو حرف لم يكن تقسيمك حاصرا إلا أن تريد بها الكلمة الواحدة و إلا لكان المجموع من كل اثنين أيضا قسما و المجموع الحاصل من الثلاثة أيضا قسما آخر و كذا الحاصل من التركيبات الواقعة بين كل منهما و الجزء الآخر فيضاعف الأقسام.

و تلك الوحدة المعتبرة في المقسم لا بد و أن تكون من جنس أقسامه: إن كانت أجناسا فجنسية و إن كانت أنواعا فنوعية و إن كانت أشخاصا فشخصية.

ثم هذه الوحدة المعتبرة قد تكون طبيعية، و قد تكون صناعية أو اعتبارية، الأولى كوحدة الإنسان و وحدة الفرس، و الثانية كوحدة السرير و وحدة الدار و العسكر.

و كل نوع له وحدة طبيعية لا بد و أن يكون أحد جزأيه معنى جنسيا و الآخر فصلا، و إن كان النوع مركبا خارجيا لا بد و أن يكون جنسه مأخوذا من مادته، و فصله، مأخوذا من صورته.

و لا يخفى أن انقسام العلم إلى قسميه أعني التصور و التصديق انقسام معنى جنسي إلى نوعين متقابلين و أن لكل منهما وحدة طبيعية غير تأليفية و لا صناعية، بل إنهما كيفيتان بسيطتان موجودتان في النفس، و هما من الكيفيات النفسانية التي نحو وجودهما في نفس الأمر هو كونها حالة نفسانية كالقدرة و الإرادة و الشهوة و الغضب و الحزن و الخوف و أشباهها و لو سألت الحق فهما نحوان من الوجود الذهني يوجد بها معلومات في الذهن، و إما مفهوماهما فهما من قبيل المعلومات التي هي من المعقولات الثانية التي يبحث عنها المنطقيون في صناعتهم، لا من قبيل العلم، و إلا لم يمكن تعريفهما.

و على أي الوجهين هما أمران بسيطان، أما على الأول فلأنهما نحوان من الوجود و كل وجود بسيط و مع بساطته يتشخص بذاته لا بأمر زائد، و أما على الثاني فهما نوعان من مفهوم العلم مندرجان تحت معنى العلم اندراج النوعين البسيطين تحت المعنى الجنسي، كالسواد و البياض تحت اللون، لا كالإنسان و الفرس تحت الحيوان، و لا كالأسود و الأبيض تحت الإنسان من المركبات الخارجية، و كل ما هو نوع بسيط في المعنى فليس لجنسه تحصل إلا بفصله، بل هما واحد جعلا و تحصيلا.

إذا عرفت هذه المقدمات فنقول: إذا ثبت و تحقق أن كلا من التصور و التصديق نوع بسيط من ماهية العلم الذي هو جنسهما فما أسخف رأي من جعل التصديق مركبا من أمور ثلاثة أو أربعة كما اشتهر من رأي الإمام الرازي.

و ما أسخف رأي من جعله نفس الحكم الذي هو فعل من أفعال النفس، و هو قسم من العلم الانفعالي الذي نسبة النفس إليه بالقبول و الانفعال، لا بالتأثير و الإيجاد.

و كذا رأي من أخذ في تحصيل مفهوم التصديق التصور على وجه الشرطية لا على وجه الدخول، و الحق أن مفهوم التصور عين التصديق جعلا و وجودا، داخل فيه ماهية و تحليلا كدخول الجنس في ماهية النوع البسيط.

و كذا رأي من جعل لفظ التصور مشتركا بحسب الصناعة بين ما يرادف مطلق العلم، و بين ما هو قسيم للتصديق و جعل المعتبر في مفهوم التصديق- شرطا كما في مذهب الحكماء، أو شطرا كما في مذهب المحدثين- هو المعنى الثاني أعني التصور المقيد بعدم الحكم. و هذا في غاية الرداءة و السخافة، لأن الكلام في تحصيل المعنى و المفهوم، و التقسيم في الحقيقة من باب التعريفات و الأقوال الشارحة، و محال أن يعتبر أفراد أحد القسمين في ماهية القسم الآخر و قوله الشارح له شرطا أو شطرا.

و كذا يلزم اشتراط الشيء بنقيضه على رأي المتقدمين، أو تقوم الشيء بنقيضه على رأي المتأخرين، أو مجامعة الشيء لنقيضه على رأي من جعل التصديق هو التصور المجامع للحكم و الكل محال.

و العذر الذي ذكره شارح المطالع و وافقه السيد الشريف في حاشية شرح المطالع و حاشية شرح الرسالة لمنع هذه الاستحالة بما حاصله أن الذي اعتبر في معنى التصديق بأحد الوجهين ليس مفهوم التصور، بل ما صدق عليه هذا المفهوم، و هي التصورات الثلاثة صدقا عرضيا، و لا فساد في اشتراط الشيء بمعروض نقيضه و لا في تقومه كالصلاة المشروطة بالوضوء، و البيت المتقوم بالجدار، و الوضوء ليس بصلاة، و الجدار ليس ببيت أوهن من بيت العنكبوت.

فإن كلامنا في هذا المقام إنما هو في تحصيل مفهوم التصديق الذي هو من باب القول الشارح، لا في وجوده، و لا يمكن تحصيل مفهوم أحد القسمين لشيء من أفراد قسمه، و هل هذا إلا كما يقسم أحد الحيوان إلى الإنسان و إلى ما يتركب مفهومه من ثلاثة أفراد من الإنسان، أو يتوقف مفهومه على تلك الثلاثة و لا شك في بطلان مثل هذا التقسيم لأن توقف الشيء في الوجود على شيء آخر هو من أحوال وجوده لا من أحوال ماهيته.

و المنع الذي ذكره بعضهم في استحالة تقوم الشيء أو اشتراطه بنقيضه و إلا لزم المعاندة بين الكل و الجزء و المشروط و الشرط مستندا بوقوع العناد بين الواحد و الكثير مع أن الواحد جزء الكثير منفسخ بما ذكرنا، فإن ذلك على تقدير صحته إنما هو في وجود المركبات الغير الحقيقية لا في ماهيات الأمور النوعية، سيما البسائط الوجودية، و محال أن يكون جزء ماهية الشيء النوعي معاندا له و التصديق من هذا القبيل.

فالحق أن يقال في تقسيم العلم إلى التصور و التصديق كما يستفاد من كلام المحققين أن حصول صورة الشيء في العقل الذي هو العلم إما تصور ليس بحكم و إما تصور هو بعينه حكم، أو مستلزم للحكم بمعنى آخر، و التصور الثاني يسمى باسم التصديق، و الأول لا يسمى باسم غير التصور، و هو المراد من قولهم العلم إما تصور فقط، و إما تصور معه حكم، فإن المحققين لم يريدوا بهذه المعية أن يكون لكل من المعين وجود غير وجود صاحبه في العقل حتى يكون أحدهما شرطا أو جزء، و الآخر مركبا منه أو مشروطا به كما يتوهم في بادىء النظر من كلامهم، إذ لأجل أنهم رأوا أن التصديق لا يتحقق إلا إذا تحقق تصورات ثلاثة فتوهموا أن المراد من التصور المعتبر في ماهية التصديق هو تلك التصورات المباينة له، بل هذه المعية إنما هي عند التحليل الذهني بين جنسه و فصله.

و هذا كما يقال الإنسان هو الحيوان مع الناطق، و لم يرد به أن للحيوان وجودا و للناطق وجودا آخر و قد صارا موجودين معا في الإنسان، إنما المراد بمعية الحيوان و الناطق أن الذهن عند تحليل الإنسان و ملاحظة حده اعتبر معنيين أحدهما مبهم، و الآخر معين محصل له، فهما موجودان بوجود واحد، فالوجود واحد و المعنى اثنان، كذلك قولنا: التصديق هو التصور مع الحكم معناه التصور الذي هو بعينه الحكم و سنزيدك إيضاحا إن شاء الله تعالى.

الفصل الثالث عدل

اعلم أن الأثر الذي هو الصورة الحاصلة من الشيء عند العقل أو في العقل،أو حصول صورة الشيء فيه أو عنده- إذ مآل الكل عندنا واحد لأن الحصول هو بعينه الوجود و الوجود الذهني نفس الصورة التي في العقل، و كل ما يوجد في مشاعر النفس و مداركها هو موجود في نفس النفس، لأن النفس بعينها عين مشاعرها الإدراكية كما حققنا ذلك في أسفارنا الإلهية- سواء اقترن به حكم أو لم يقترن يسمى تصورا، و خصوصية كونه حكما- و هو ما يلحق الإدراك لحوقا يجعله محتملا للتصديق و التكذيب- يسمى تصديقا.

فالتصور هو حصول صورة الشيء في العقل مع قطع النظر عن اعتبار الحكم و عدمه، لسنا نقول: مع التجرد عن الحكم كما قاله أكثر المتأخرين و إلا يلزم المحذور المذكور من تقوم الشيء بنقيضه، أو اشتراطه به- على اختلاف المذهبين- بل الحكم أيضا باعتبار مطلق حصوله في العقل من التصورات أيضا و باعتبار هذا النحو الخاص من الحصول تصديق.

و بالجملة إن هاهنا أمورا ثلاثة:

أحدها نفس الحكم، أي الإيقاع و الانتزاع، و هو فعل نفساني ليس من قبيل العلم الحصولي و الصور الذهنية.

و ثانيها تصور هذا الحكم، و هو أيضا من قبيل العلم الحصولي الصوري لكنه ليس بتصديق بل من أفراد مقابل التصديق و إن كان معلومه تصديقا، و لا استحالة في كون شيء واحد علما و معلوما باعتبارين.

و ثالثها التصور الذي لا ينفك عن الحكم بل يستلزمه، و هذا هو التصديق المقابل للتصور القسيم له من حيث هو تصور لا بشرط أن يكون حكما أو معه حكم، و هو لأنه نفس الحكم باعتبار و ملزوم لها باعتبار يكون مستفادا من الحجة إذا كان كسبيا، لا من القول الشارح، و إن كان باعتبار كونه تصورا مستفادا منه.

و هذا هو الحق الصريح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و هذا مما يرفع (يدفع- ن) به جميع الإشكالات الواردة في هذا المقام، و يمكن تطبيقه على مذهب الحكماء، و تأويل مذهب المتأخرين إليه في التصديق، كمذهب الإمام، و مذهب من يجعل التصديق هو التصور المعروض للحكم أو المجامع له كصاحب المطالع إن لم يوجد في كلامهم ما يدل على عدم فهمهم لما حققناه، فإنهم فسروا التصديق بأمور:

أحدها أنه عبارة عن الحكم، و نسب هذا إلى الحكماء، و لعل مرادهم به التصور المستتبع للإذعان، و الإذعان و الحكم و الإقرار هو من فعل النفس، و سموا المستلزم للحكم باسمه تسمية للشيء باسم لازمه.

و ثانيها أنه عبارة عن مجموع تصور المحكوم عليه و المحكوم به و الحكم، و هو مذهب الرازي، و لعل غرضه هو أن وجود هذا القسم إنما يتحقق في ضمن هذه التصورات، لا أن ماهية التصديق بحسب معناه متقومة بها.

و ثالثها أنه عبارة عن تصور معه حكم، و هو مذهب صاحب المطالع و غيره، و لعل مرادهم من التصور هو المعنى الجنسي، و كونه معروضا للحكم أنه كذلك في ظرف التحليل لا في الوجود، و يكون المراد من العروض ما يكون بحسب الماهية لا بحسب التحقق كما يقال:

الفصل من عوارض الجنس و يراد به عارض الماهية لا عارض الوجود، أ لا ترى أن الوجود من عوارض الماهية الموجودة بذلك الوجود، و كذا الناطق عارض لماهية الحيوان لا لوجوده؟

و هذا النحو من العروض لا ينافي العينية في الوجود.

و لا يرد عليه أيضا أنه منقوض بستة أشياء ليس شيء منها التصديق، و هو اعتبار كل من تصور المحكوم عليه، و تصور المحكوم به، و تصور النسبة مع الحكم، و كذا اعتبار كل اثنين من هذه الثلاثة مع الحكم، و ذلك لما علمت من اعتبار الوحدة الطبيعية في هذا التقسيم و غيره من التقسيمات إلى الأمور الحقيقة التي ليست حصولها بمجرد الاعتبار، فاعتبار كل من هذه الأمور مع الحكم لا يوجب أن يحصل منها فرد حقيقي لماهية العلم.

و رابعها أنه عبارة عن إقرار النفس بمعنى القضية و الإذعان به، و هو أن المعنى الذي حضر في الذهن مطابق لها عليه الأمر في نفس الوجود سواء طابق أو لا لأن اعتقاد المطابقة لما في نفس الأمر لا يوجب أن يكون الشيء المعتقد مطابقا لما فيها و لذلك اشتركت الصناعات الخمس كلها في معنى التصديق بل الحكم.

و اعلم أن الذي حققناه في معنى التصور و التصديق موافق لعبارات القوم، و مطابق لما ذكره الشيخ الرئيس و غيره في كتبهم.

قال الشيخ السهروردي في منطق كتابه المسمى بالمطارحات و أما تقسيم العلم إلى التصور و التصديق فتسامح فيه في أوائل الكتب، لأنه ليس موضعا يحتمل التدقيق، و أحفظ التقييدات ما ذكره الشيخ أبو علي في بعض المواضع: أن العلم إما تصور فحسب، و إما تصور معه تصديق، و اشترك كلاهما في التصور و زاد أحدهما بالتصديق و هو الحكم.

و كل لفظ يقع بمعنى واحد على شيئين ينفرد أحدهما بأمر لا يكون واقعا باعتبار الانفراد على الشيء [الآخر]، بل يكون واقعا باعتبار ما به الاتحاد. و لما ذكر في التقسيم أن العلم إما كذا و إما كذا لم يقسم إلا بعد أن أخذ بمعنى واحد، إذ اللفظ المشترك لا يقسم على ما سبق، فإنه أخذ العلم في هذا الموضع بإزاء مجرد التصور، و قسم التصور إلى ساذج و مقرون بالتصديق، ثم التصديق و الحكم فعل و هو إيقاع النسبة أو قطعها، و إدراك فعل ما ليس نفس ذلك الفعل الذي هو الحكم، فرجع العلم المذكور إلى التصور.

ثم التصور قد يكون تصور أمور خارجية، و قد يكون تصور أحكام نفسانية و هي التصديقات، فمرجع علومنا كلها إلى التصورات و إن كان بعض المواضع تصورات لأحكام و تصديقات هي أفعال نفسانية أو (إما- ظ) إيقاع أو قطع انتهى كلام صاحب المطارحات.

فقد علم منه أن التصديق قسم من التصور المطلق، و أن الحكم فعل من أفعال النفس غير داخل تحت العلم التصوري الانفعالي و إن كان علما فعليا، لأن أفعال المبادىء الإدراكية وجودها عين الظهور و الانكشاف، و الفعل منا (هاهنا- ن) ليس مما يندرج تحت مقولة من المقولات التسع التي تقابل مقولة الانفعال لأنهما أمران نسبيان تدريجيان، أحدهما التأثير التدريجي، و الآخر التأثر التدريجي، و كل من التصور و التصديق ضرب من الوجود كما مر، و الوجود لا جنس له و لا فصل، و لا حد و لا رسم، لكن مفهوم التصور و التصديق من جملة المعلومات التي هي أمور كلية، لا من جملة العلوم التي هي من أنحاء الوجودات و لهذا يقبل كل منهما الحد و الرسم فتثبت و لا تكن من الخابطين.

و قال ابن كمونة شارح التلويحات في تفسير الكلام المذكور:" حصول صورة الشيء في العقل إما أن يقترن به حكم أو لا يقترن، و ذلك الحصول على التقديرين يسمى تصورا، و ذلك الحكم باعتبار حصوله في العقل هو من قبيل التصورات أيضا و بخصوصية كونه حكما يسمى تصديقا، فالتصور هو حصول صورة الشيء في العقل غير مقيد باقتران الحكم و لا اقترانه. إذ لو قيد بعدم اقتران الحكم كما اعتبر ذلك جماعة من المتأخرين حيث قالوا" إن الأمر الحاصل في العقل إن لم يكن معه حكم فهو التصور، و إن كان معه حكم فهو التصديق"- لما تأتي اشتراط التصديق بالتصور على قول من يجعل التصديق مجرد الحكم، و هو المصطلح عليه في كتاب التلويحات اقتداء بالحكماء المتقدمين، و لا أن يجعل جزء من التصديق- على قول من يجعله مجموع تصورات المحكوم عليه و به و الحكم- و هو مصطلح الإمام في ذلك لكن الجميع اتفقوا على أن التصديق يستدعي التصور من غير عكس.

و لو قيد بمقارنة الحكم لاستدعى التصور التصديق كما كان التصديق مستدعيا له، و ذلك مما اتفقوا على القول بخلافه" انتهى.

فظهر من كلامه أن التصديق أيضا قسم من التصور، و إن كان قسيما له باعتبار آخر، فقد جمع فيه النوعية و التقابل فيه باعتبار من غير محذور، و هذا كما أن ماهية ما كالحيوان مثلا قد يؤخذ لا بشرط شيء، و قد يؤخذ بشرط شيء، و هذا الثاني قسم للأول باعتبار و قسيم له باعتبار آخر.

و ظهر أيضا من كلامه أن الحكم خارج عن التصديق، و التصديق أمر بسيط غير مركب من تصور و حكم- كما هو مذهب الحكماء-، لكن قد يطلق الحكم و يراد به نفس التصديق المستتبع للحكم تجوزا كما مر.

قال: بعضهم في الفرق بين التصديق و الحكم:" أن التصديق أمر انفعالي لأنه قسم من العلم التجددي، و هو حاصل بانفعال النفس، و الحكم إيقاع النسبة الإيجابية أو السلبية، و هو فعل، لأن الإيقاع فعل المدرك، فلا يصدق أحدهما على الآخر، فإطلاق التصديق على الحكم مجاز".

و تحقيقه أن الإدراك لما كان عبارة عن حضور المدرك عند المدرك فالحضور الذي يحضر معه أن النسبة الإيجابية واقعة- أو ليست بواقعة- هو التصديق، و الحاضر منه عنده هو المصدق به، و إيقاع النسبة و سلبها هو الحكم. و الحضور الذي لا يحضر معه عنده هذا الذي ذكرنا و إن حضر غيره- و إن كان مفهوم الوقوع و اللاوقوع أو غيرهما- فهو التصور، و الحاضر هو المتصور، فالتصديق لا يخلو عن الحكم لا أنه هو هو.

و يدل على تفارقهما تصريح (تغايرهما قول جميع- ن) المتأخرين: أن الإدراك إن كان مع الحكم يسمى تصديقا لأن ما مع الشيء غيره، و كذا قول الخواجه في شرح الإشارات و هو أن المتصور و هو الحاضر في الذهن مجردا عن الحكم، و المصدق به و هو الحاضر فيه مقارنا له يدل على أن المقارن للشيء غير ذلك الشيء، لكن لتلازم التصديق و الحكم أطلق أحدهما على الآخر مجازا كما في" جرى الميزاب".

أقول: و هذا القول من المحقق [الطوسي- ره] في ظاهر الأمر ينافي قوله في شرح الإشارات أيضا:" أن الحكم هو التصديق، و ما عرض له الحكم هو المصدق" و يمكن دفع المنافاة بينهما بأنه أراد بالحكم هاهنا نفس التصديق، و أراد به هناك نفس الإيقاع و الانتزاع، فأطلق كل منهما على الآخر في الموضعين تسمية لأحد المتلازمين باسم الآخر مجازا كما مر، فلا منافاة.

و قال أيضا فيه:" يجب أن يتصور حقيقة التصور و التصديق لتندفع الإشكالات الواردة كما يقال: لو كان التصديق هو الإدراك المقارن للحكم كان الحكم خارجا عن التصديق لكنه نفسه أو جزؤه".

أقول: و معلوم أن غرضه من" الحكم" الذي حكم بأنه نفس التصديق أو جزؤه ليس ما هو فعل النفس، بل ما هو قسم من العلم الحصولي الانفعالي.

ثم قال:" و أيضا كان التصديق كسبيا إذا كانت تصوراته كسبية، ضرورة أنه إذا توقف الإدراك المطلق على الفكر يتوقف عليه الإدراك المقترن به لتوقفه على جزئه".

أقول: قد علمت حل هذا الإشكال، و هو أن هذا الإدراك المقارن من حيث إنه أمر يلزمه الحكم قد يكون محتاجا إلى الكسب، و إن لم يكن من جهة كونه أمورا تصورية مفتقرا إلى الكسب.

ثم قال: و أيضا كان كل تصديق ثلاث تصديقات لحصول ثلاث إدراكات مقترنة به.

أقول: هذا مندفع بما أشرنا من أن التصديق هو الإدراك المقترن للحكم على وجه الاستلزام و الاستتباع، و ليس شيء من التصورات الثلاثة و لا الثلاثة الحاصلة من الثنائيات كذلك، و من أن المراد من هذه المعية أو الاقتران أو المعروضية ما يكون في ظرف التحليل الذهني بين المعنى الجنسي و المعنى الفصلي.

ثم قال: و أيضا جاز اقتناص التصديق من القول الشارح مع أنه لا يقتنص إلا بالحجة.

أقول: وجه دفعه أن هذا الإدراك من حيث كونه على وجه يستلزم الاقتران بالحكم، و من جهة كونه إدراكا محتملا للتصديق و التكذيب لا يقتنص و لا يستفاد إلا بالحجة، و من حيث كونه إدراكا مطلقا فيجوز اكتسابه بالقول الشارح لا بالحجة.

ثم قال: مشيرا إلى حل هذه الإشكالات و إنما يندفع الأول بما عرفت من أن الحكم لازم الإدراك المقترن بالحكم لا نفسه و لا جزؤه، و إنما يندفع الثاني بأن التصديق الكسبي هو الذي يفتقر إلى الاكتساب في إيقاع النسبة و سلبها، و أما تصوراته إذا كانت مكتسبة فلم تفتقر إليه من تلك الجهة بل من جهة أن التصور لازم، و إنما يندفع الرابع بأن التصديق الذي لا يقتنص بالحجة هو التصديق بمعنى الحكم أعني إيقاع النسبة أو سلبها و أما الذي بمعنى الحضور الموصوف فلا يقتنص إلا بالقول الشارح.

الفصل الرابع: العلم بجميع أقسامه يكون تصوراً عدل

لا أظنك بعد ما يرد عليك من الكلام الموضح للمرام أن تكون في ريب مما أوضحنا لك سبيله و بينا دليله من أن العلم بجميع أقسامه يكون تصورا و يمتاز بعض أفراده عن بعض بأمر يصير به تصديقا، و التصديق أيضا باعتبار أنه حصول في الذهن و باعتبار أن له حصول في الذهن تصور (متصور- ن)، و باعتبار أنه حصول شيء لشيء مطابقا لما في الواقع تصديق.

فعلى هذا جاز أن يقسم العلم بأنه إما تصور ساذج و إما تصور معه تصديق كما في الإشارات و جاز أن يقسم بأن العلم إما تصور و إما تصديق كما في الموجز الكبير، فبعض العلوم يكون تصورا و هو ما يحصل في الذهن مفردا كان أو مركبا، تقييديا أو غيره و بعضها يكون تصديقا و هو الاعتراف بحصول شيء لشيء و إن كان الاعتراف من جهة كونه حصولا في الذهن تصورا أيضا فلا محذور في شيء من التقسيمين. فالذي يدل أيضا على صحة ما فهمناه من التصور و التصديق ما قاله الشيخ في منطق الإشارات:" الشيء قد يعلم تصورا ساذجا مثل علمنا بمعنى اسم المثلث، و قد يعلم تصورا معه تصديق مثل علمنا بأن كل مثلث فإن زواياه مساو لقائمتين".

و قال: أيضا في كتاب الموجز الكبير في الفصل الأول من المقالة الثالثة في البرهان:

" العلم يحصل بوجهين: أحدهما تصديق، و الآخر تصور. و التصور أن يحدث (و التصورات تحدث- ن) مثلا معنى اللفظ في النفس، و هو غير أن يجتمع في النفس منه معنى قضية تعقلها النفس، بل يجتمع في النفس منه معنى قضية لم يخل من أن تكون مشكوكا فيها أو مقرا أو منكرا و في الوجوه الثلاثة يكون التصور قد حدث، و هو وجود المعنى في النفس. أما الشك و الإنكار فلا تصديق به معه.

و أما الإقرار- و هو التصديق- فهو معنى غير أن يحصل في النفس معنى القضية، بل شيء آخر يقترن به، و هو صورة الإذعان له، و هو أن المعنى الحاصل في النفس مطابق لما عليه الأمر في نفس الوجود، فلا يكون معنى القضية المعقولة من جهة ما تصورت في النفس معنى قضية معقولة، بل ذلك حادث آخر في النفس.

و في الفصل الثالث من المقالة الأولى من الفن الأول من الجملة الأولى في مدخل المنطق:

" و كما أن الشيء يعلم بوجهين: أحدهما أن يتصور فقط حتى إذا كان له اسم فنطق (فينطق- ن) به تمثل معناه في النفس و إن لم يكن هناك صدق أو كذب، كما قيل" إنسان" أو قيل" افعل كذا" فإنك إذا وقفت على معنى ما يخاطب به من ذلك كنت تصورته و الثاني أن يكون مع التصور تصديق فيكون إذا قيل لك مثلا" إن كل بياض عرض" لم يحصل لك من هذا تصور معنى هذا القول، بل صدقت أنه كذلك، و أما إذا شككت أنه كذا، أو ليس بكذا فقد تصورت ما يقال لك فإنك لا تشك فيما لا تتصوره و لا تفهمه، و لكنك لم تصدق به بعد، فكل تصديق يكون معه تصور و لا ينعكس.

فالتصور في مثل هذا المعنى يفيدك أن تحدث في الذهن صورة هذا التأليف و ما يؤلف منه كالبياض و العرض، و التصديق هو أن تحصل في الذهن نسبة هذه الصورة إلى الأشياء أنفسها أنها مطابقة لها، و التكذيب بخلاف ذلك. كذلك الشيء يجهل من وجهين أحدهما من جهة التصور، و الثاني من جهة التصديق" انتهى كلامه في الشفاء.

أقول: هذا مصرح بأن التصديق قسم من التصور و إن كان قسيما له أيضا باعتبار، و المراد من المعية المذكورة في عبارة الإشارات من قوله:" و قد يعلم تصور معه تصديق" هي المعية التي تكون بين جنس الشيء و فصله بحسب التحليل الذهني، كمعية اللون و قابضية البصر في السواد، و هما شيء واحد في الوجود، لا المعية في الوجود المقتضية للاثنينية، كالمعية بين الجزء و الكل، و الشرط و المشروط، كما مر ذكره آنفا.

و لذهول المتأخرين عن هذه الدقيقة و عن أن الحكم في كلامهم يطلق تارة على نفس هذا التصديق، و تارة على ما يلزمه استصعبوا كلام الشيخ في هذين الموضعين، حيث جعل أحد قسمي العلم تصورا ساذجا، و الآخر تصورا معه تصديق، كما فعله أيضا بعض المتأخرين من المذهب المستحدث، ثم حاول العلامة الرازي شارح المطالع توجيه كلام الشيخ فقال:

" ليس المراد منه أن العلم ينقسم إلى التصورين، و إلا لم تكن القسمة حاصرة، فإن القسمة حاصرة، فإن التصديق عنده علم على مقتضى تعريفه، و هو ليس شيئا منهما، بل المراد أن العلم يحصل على الوجهين، و حصوله على وجه آخر لا ينافي ذلك، على أن سائر كتب الشيخ مشحون بتقسيم العلم إلى التصور و التصديق، فإنه قال: في مفتتح المقالة الأولى من الفن الخامس في منطق الشفاء:" إن العلم المكتسب بالفكر و الحاصل بغير الكسب الفكري (اكتساب فكري- ن) قسمان: أحدهما التصديق، و الآخر التصور و قال في الموجز الكبير، في الفصل الأول من المقالة الثالثة:" العلم على وجهين تصور و تصديق" و في أول فصل من فصول كتاب النجاة:" كل معرفة و علم إما تصور و إما تصديق" إلى غير ذلك من مواضع كلامه.

أقول: مفاد قوله" تصورا معه تصديق"، و قوله" أو يكون مع التصور تصديق" المذكورين في عبارتي الإشارات و الشفاء هو بعينه مفاد معنى التصديق المذكور في الكتب الثلاثة و هما أمر واحد، لأن نسبة التصور المطلق إلى التصديق اتحادية، لا ارتباطية- كما مر بيانه مرارا لكن لفظ التصديق في عباراته قد أطلق تارة بمعنى الحكم و تارة على أحد قسمي العلم، و لعله إنما قيد التصور بالتصديق في هذا القسم، و لم يقيده بالحكم كما فعله غيره من المتقدمين لئلا يرد على تقسيمه مثل ما يرد على تعريف التصديق بالحكم بشيء على شيء بأن" هذا مختص بالتصديقات الحملية دون الشرطيات" فلأجل ذلك أورد لفظ" التصديق" بدل" الحكم".

و بالجملة فالتقسيم المذكور صحيح حسب ما بيناه، فلا حاجة في تصحيحه إلى الاعتذار الذي ذكره شارح المطالع من" أن المراد في العبارتين ليس بيان حصر العلم في التصورين، و إلا لم يكن حاصرا بل المراد أن العلم قد يحصل كذا و قد يحصل كذا" بل لا وجه لهذا الاعتذار أصلا، فإن المقام ليس إلا مقام تقسيم العلم إلى القسمين، و حصره فيهما.

و قوله:" و إلا لم تكن القسمة حاصرة" ممنوع، بل القسمة حاصرة، و التصور الذي معه تصديق أي معه إذعان هو بعينه التصديق لاتحاده بالتصور المحتمل للتصديق و التكذيب، و ذلك قسم واحد مقابل للتصور الذي لا يكون معه تصديق، إذ المراد بالتصديق هاهنا الإذعان، دون ما هو قسم للعلم التصوري الانفعالي، و المعية كما مر إنما تكون في ظرف التحليل بين التصور الذي هو بالمعنى الجنسي و بين التصديق بهذا المعنى و المجموع هو التصديق باصطلاح آخر، و ليس المراد منه التصور الذي يكون في أطراف القضية، لامتناع اعتبار أفراد أحد المتقابلين في مفهوم المقابل الآخر، و إن جاز توقف أحد المتقابلين في وجوده على بعض أفراد مقابله الآخر.

و الغلط هاهنا إنما نشأ من الاشتباه بين ماهية الشيء، و ما صدق عليه، فالذي هو مأخوذ في تعريف التصديق هو التصور لا بشرط شيء، لا ما يصدق عليه التصور من الأفراد، و الذي هو مقابل للتصديق هو مفهوم التصور المقيد بعدم الحكم أو بالإطلاق لا المطلق كما في سائر التقاسيم، فإنا إذا قلنا:" الحيوان إما ناطق و إما لا ناطق" أو قلنا:" الحيوان إما حيوان ليس مع نطق، أو ليس معه نطق، و إما حيوان مع نطق أو معه نطق" كان الحيوان المأخوذ في كل منهما هو الحيوان لا بشرط شيء و هو بعينه هو الناطق في أحد القسمين- أعني الإنسان- و غير الناطق في القسم الآخر أعني الأعجم، فالمعية الذهنية لا تنافي الاتحاد في الوجود.

و هذا العلامة مع أنه سلك هذا المسلك في شرح الرسالة لكنه لم يثبت فيه و لم يعتمد عليه في دفع الشكوك في سائر كتبه، و كثيرا ما صار يحوم حول هذا البيان الذي ذكرناه من أن التصديق هو نوع من التصور في رسالته المعمولة في التصور و التصديق، ثم يبعد عنه بمراحل، و الذي يدل على أنه غير راسخ فيه أن شرحه على المطالع متأخر عن تصنيفه لتلك الرسالة.

و في ذلك الشرح أورد شكوكا على تقسيم العلم ثم تصدى لدفعه بوجوه مقدوحة لا يناسب ما حققناه، فإنه قال في ذلك الشرح عند قول المصنف:" العلم إما تصور إن كان إدراكا ساذجا، و إما تصديق إن كان مع الحكم بنفي أو إثبات": و هاهنا إشكالات يستدعي المقام إيرادها و حلها:

أحدها أن هذا التوجيه لا يكاد يتم، لأن التصديق إن كان نفس الحكم لا يصدق عليه" أنه إدراك يحصل مع الحكم" و إن كان هو المجموع المركب من التصورات الثلاثة و الحكم فكذلك، لأن الحكم حينئذ يكون سابقا عليه، فلا يكون معه.

و جوابه أن المصنف اختار أن التصديق مجموع الإدراكات الأربعة، و لما كان الحكم جزءا أخيرا للتصديق فحالة حصول الحكم يحصل التصديق، فيكون إدراكا يحصل مع الحكم معية زمانية، و تقدم الحكم عليه بالذات لا ينافي ذلك، و كان النزاع في أنه الحكم فقط أو المجموع إنما نشأ من هذا المقام.

و ثانيها أن التصديق إما نفس الحكم أو مجموع الإدراكات و الحكم، و أيا ما كان لا يندرج تحت العلم، أما إذا كان نفس الحكم فلأنه عبارة عن إيقاع النسبة، و هو من مقولة الفعل، فلا يدخل تحت العلم الذي هو من مقولة الكيف أو الانفعال، و أما إذا كان التصديق هو المجموع، فلأن الحكم ليس بعلم، و المجموع المركب من العلم و مما ليس بعلم لا يكون علما.

و جوابه أن الحكم و إيقاع النسبة و الإسناد كلها عبارات و ألفاظ، و التحقيق أنه ليس للنفس هنا تأثير و فعل، بل إذعان و قبول للنسبة، و هو إدراك أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة، فهو من مقولة الكيف، و كيف لا- و قد ثبت في الحكمة أن الأفكار ليست أسبابا موجدة للنتائج بل هي معدات للنفس لقبول صورها العقلية من واهب الصور، و لو لا أن الحكم صورة إدراكية لما صح ذلك.

و ثالثها أن التقسيم فاسد لأن أحد الأمرين لازم، و هو إما تقسيم الشيء إلى نفسه و إلى غيره، و إما امتناع اعتبار التصور في التصديق، و ذلك لأن المراد بالإدراك الساذج إما مطلق الإدراك، أو الإدراك الذي اعتبر فيه عدم الحكم، فإن كان المراد مطلق الإدراك يلزم الأمر الأول- و هو ظاهر، و إن كان المراد الإدراك مع عدم الحكم يلزم الأمر الثاني، لأنه لو كان التصور معتبرا في التصديق و عدم الحكم معتبرا في التصور فيكون عدم الحكم معتبرا في التصديق، فيلزم إما تقوم الشيء بالنقيضين، أو اشتراطه بنقيضه و كلاهما محالان.

و جوابه: إن أردتم بقولكم" إن التصور معتبر في التصديق" أن مفهوم التصور معتبر فيه، فلا نسلم، و من البين أنه ليس بمعتبر فيه، فكم من مصدق لم يعرف مفهوم التصور، و إن أردتم" أن ما صدق عليه معتبر في التصديق" فمسلم، لكن لا نسلم أنه يلزم أن يكون عدم الحكم معتبرا في التصديق، و إنما يلزم لو كان مفهوم التصور ذاتيا لما تحته و أنه ممنوع" إلى هاهنا كلامه.

أقول: و فيه مواضع أبحاث، و لكل من هذه الإيرادات وجه صحيح في دفعه غير ما ذكره، و الذي ذكره مقدوح و منسوخ (مفسوخ- ن) الأصل لأن مبناه على حمله كلام صاحب المطالع على المذهب المشهور من الإمام الرازي و فيه ما فيه، و الحق ينافيه، إلا أن يؤول مذهبه بما سلف ذكره، و لنذكر أولا الأجوبة الصحيحة من هذه الإشكالات، ثم نبين القدح و الخلل فيما ذكره من الأجوبة.

أما الجواب الصحيح عن الإشكال الأول فهو من وجهين: أحدهما أن نقول: صحة الشق الأول في كلام المعترض ممنوعة، إذ لا منافاة بين أن يكون التصديق نفس الحكم، و بين أن يكون إدراكا حاصلا مع الحكم، بناء على أن التصديق يطلق بالاشتراك الصناعي على ما هو قسم للعلم، و على ما هو فعل النفس.

و الثاني: إنا لا نسلم أن التصديق إذا لم يكن نفس الحكم كان يلزم أن يكون مجموع أمور أربعة، بل مفهوم التصديق عبارة عن إدراك معه حكم معية كمعية الجنس و فصله كما مر، و الإدراكات المذكورة ثلاثة كانت أو أربعة- شرطا كان أو شطرا- ليست معتبرة في مفهوم التصديق بل يتوقف وجوده عليها، كما أن الإنسان ماهية متقومة بأنه حيوان ناطق، و وجوده متوقف على أجزاء و أفراد من الحيوان ليس شيء منهما معتبرا في قوام ماهيته و معناه، و من هنا ظهر الفساد و الخلل في الجواب الذي ذكره الشارح مع ما فيه من ركاكة التوجيه المذكور، إذ لا يتعارف بحسب اللغة أن يقال:" إن البيت مع السقف" و" السرير مع الهيئة" و أما عن الإشكال الثاني فبأن نختار أن التصديق نفس الحكم، أي الإدراك الإذعاني (إدراك الإذعان- ن) في الوجود، و مركب من جنس هو" الإدراك" و فصل، هو" كونه حكما" و هو غير الحكم الذي هو فعل من أفعال النفس.

أو نختار أنه عبارة عن إدراك و حكم، و المجموع أمر وحداني تحت مقولة الكيف، و الحكم هو بمنزلة الفصل، و قد يعبر عن نفس الفصل بشيء من لوازمه كالحساس و الناطق فإن كلا منهما في ظاهر الأمر من الإضافة أو الانفعال و قد عبر بهما عن فصل الجوهر، و فصل الجوهر جوهر، فقد عبر عن حقيقة نوع من الجوهر بلازمه لعلاقة العلية الذاتية بينهما، و من هذا القبيل إطلاق" قابل الأبعاد" على فصل الجسم الطبيعي و" قابض البصر" على فصل السواد، ففي الأول عبر عن فصل الجسم الذي هو من مقولة الجوهر بلازمه الذي هو من مقولة الانفعال، و في الثاني عن فصل السواد و هو من مقولة الكيف بلازمه الذي هو من مقولة الفعل.

فهاهنا أيضا عبر عن فصل العلم بالحكم، أي الإيقاع و الانتزاع، و هو من لوازم التصديق (العلم التصديقي- ن) الذي هو من مقولة الكيف، فصحيح جعله عنوانا لأمر بسيط هو فصل التصديق، إذ لا بد في تعريف الأمور البسيطة من ذكر لوازمها الذاتية التي توصل الذهن إلى حاق المفهومات (الملزومات- ن) كما نبه عليه الشيخ الرئيس في كتابه المسمى بالحكمة المشرقية.

و لهذه الدقيقة يطلق الحكم تارة على نفس التصديق، و تارة على لازمه.

و أما الذي ذكره في الجواب بأن" الحكم و الإيقاع و أشباهها ألفاظ مستعملة في غير معانيها" سيما في مثل هذا الموضع الذي ينبغي أن يهجر الألفاظ المشتركة و المجازية ففي غاية الضعف و القصور، مع أن الحق أن مفهوماتها من قبيل الأفعال كما سبق، نعم- لو قيل:" إن الإذعان و الحكم ضرب من التأثير لكن ليس من مقولة الفعل التجددي المقابل للانفعال" لم يكن بعيدا من الصواب، و أما كونه نوعا من العلم الانفعالي فغير صحيح فقد تضمن هذا الجواب وجهين من التعسف: معنوي و لفظي.

و أما الاستدلال الذي ذكره على أن العلم (الحكم- ن) من مقولة الانفعال بأن" الأفكار معدات للنتائج لا موجودة لها" فلا يثبت به مطلوبه فإن بعض الأفعال يكون من لوازم الانفعالات و يعرض لها الافتقار إلى الأسباب المعدة إياها لا بالذات، بل لأجل ما يلزمها من الانفعال فهاهنا أيضا حاجة النتيجة إلى الأفكار التي هي معدات إنما هي من جهة ارتسام النفس بصورتها الإدراكية التصديقية، التي هي من قبيل العلوم الانفعالية، لا من جهة الإذعان أو الإقرار بها التي هي من قبيل العلوم الفعلية، لا الانفعالية، لكن لما لم تنفك هذه الحالة النفسانية الفعلية عن حالة انفعالية تنفعل النفس بحصولها كان افتقارها إلى العلة المعدة من الأفكار و غيرها افتقارا بالعرض لا بالذات.

و بالجملة لا يخلو شيء من الأسباب الفاعلية في هذا العالم من انفعالات يلزمها فعلها لكونها متعلقة بالصور المادية و الأجسام، و هي لا تنفك عن الحركات و الانفعالات، و لأجل هذا ما من فاعل في هذا العالم في شيء إلا و هو منفعل من جهة أخرى من شيء آخر، و لهذا كل محرك قريب على سبيل المباشرة فهو متحرك البتة، فيحتاج لا محالة إلى المادة و أحوالها المعدة المقترنة إياها نحو الغاية المطلوبة، و الفكر للنتيجة من هذا القبيل.

و أما الجواب عن الإشكال الثالث فنقول: نختار أن المراد من" الإدراك الساذج" مطلق الإدراك لأنه ساذج، أي مطلق عن القيود و الاعتبارات حتى عن اعتبار كونه مطلقا على نحو التقييد به، و هذا المعنى أحرى و أليق بأن يقال له" الساذج" من الذي قيد بكونه مطلقا، و لا يلزم منه تقسيم الشيء إلى نفسه و إلى غيره، لأنا نقول: التغاير الاعتباري يكفي للامتياز بين المقسم و القسم في مثل هذه التقسيمات التي للأمور الذهنية و المعقولات الثانوية، فالمقسم هاهنا هو" الإدراك مطلقا" من غير تقييد لا بالإطلاق و لا بالتقييد بشيء أو عدمه و أحد القسمين هو" الإدراك المقيد بالإطلاق" و هو المقابل للتصديق لأنه إدراك مقيد بالحكم، و لنا أن نختار منه الإدراك المقيد بعدم الحكم.

و لا نسلم امتناع اعتبار التصور في التصديق لأن التصديق الذي اعتبر فيه التصور لا التصديق بحسب ماهيته و معناه و لا بحسب وجوده و مصداقه فإن كان المنظور إليه حال ماهية التصديق فالمعتبر فيه مطلق التصور المرادف للعلم، لا التصور الساذج، فلا يلزم من ذلك محذور لا تقوم الشيء بالنقيضين، و لا اشتراطه بنقيضه- و إن كان المنظور إليه وجوده فالمعتبر فيه شرطا أو شطرا و إن كان التصور الساذج لكن فرده لا مفهومه- المأخوذ فيه إما الإطلاق عن الحكم أو التقييد بعدمه- و لم يلزم منه أحد المحذورين المذكورين، إذ لا فساد في أن يكون وجود شيء مشروطا بالموصوف بنقيضه كالصلاة المشروطة بالموصوف بما ليس بصلاة- و هو الوضوء- و لا في أن يكون وجود شيء مركبا من موصوف بنقيضه كالبيت المركب عما ليس ببيت- و هو الجدار أو السقف.

و أما الذي ذكره في الجواب من تجويز كون الموصوف بعدم الحكم جزءا لمفهوم التصديق فهو فاسد، لأن التصورات الثلاثة الساذجة غير معتبرة أصلا في مفهوم التصديق، إذ المعتبر في مفهوم التصديق جنسه و فصله، لا شيء من أفراد قسيمه الذي هو التصور الساذج، كما أن المعتبر في ماهية الإنسان جنسه و فصله- أي الحيوان و الناطق- لا شيء من رأسه و يده و رجله و سائر أعضائه، و إن كان وجوده مركبا من أجزاء ليس شيء منها حيوانا و لا ناطقا، إذ قد ثبت في العلوم الفلسفية أن أجزاء وجود الشيء خارجة عن ماهية ذلك الشيء.

و العجب من هذا العلامة مع بضاعته في المنطق و الحكمة كيف ذهل عن أن أجزاء وجود الشيء لا يدخل و لا يعتبر في ماهيته، بل تكون خارجة عنها، فإذا لم يعتبر أجزاء وجود الشيء في معناه و مفهومه فبأن لا يعتبر أفراد نقيضه في ماهيته كان أحرى و من التجويز أبعد.

ثم قال: و اعلم أن مختار المصنف في التصديق منظور فيه من وجوه:

الأول [أنه يستلزم] أن التصديق ربما يكتسب من القول الشارح و التصور من الحجة، أما الأول فلأن الحكم فيه إذا كان غنيا عن الاكتساب و يكون تصور أحد الطرفين كسبيا كان التصديق كسبيا [على ما اختاره] و حينئذ يكون اكتسابه بالقول الشارح، و أما الثاني فلأن الحكم لا بد و أن يكون تصورا عنده، و اكتسابه من الحجة.

الثاني أن التصور مقابل للتصديق، و لا شيء من أحد المقابلين بجزء للمقابل الآخر، فأما" الواحد" و" الكثير" فلا تقابل بينهما على ما تسمعه من أئمة الحكمة.

الثالث أن الإدراكات الأربعة علوم متعددة، فلا يندرج تحت العلم الواحد، فعلى هذا طريق القسمة أن يقال:" العلم إما حكم أو غيره، و الأول هو التصديق، و الثاني هو التصور".

أقول: هذه الأنظار كلها مدفوعة.

أما الأول فبما أشرنا إليه أن التصور المأخوذ على وجه يحتمل التصديق و التكذيب إنما يستفاد من الحجة لا من القول الشارح، و الحكم بأحد الاصطلاحين هو بعينه التصديق بهذا المعنى، و بالاصطلاح الآخر هو فعل نفساني غير مندرج تحت العلم الانفعالي، و لا يكون بديهيا و لا كسبيا كما مر.

و أما الثاني فبما أشرنا أن التصور الذي هو جزء عقلي لماهية التصديق غير التصور المقابل له الذي يتوقف عليه، أو يتقوم به وجوده، و لا محذور في كون جزء الشيء متصفا بوصف مقابل لوصف الكل، إنما المحال كونه بالذات مقابلا له، كيف و نعت الجزئية و الكلية من أحد أقسام التقابل- أعني التضايف.

و أما الثالث فبأن الإدراكات المتعددة التي في أطراف التصديق بمنزلة المادة، و لها صورة وحدانية هي إدراك أن النسبة واقعة، أو ليست بواقعة، و هي بحسب الجزء الصوري فرد واحد من العلم يسمى بالتصديق لا باعتبار تلك الأجزاء المادية، و لعل هذا هو مراد الإمام الرازي من مذهبه.

و أما طريق التقسيم الذي ذكره" من أن العلم إما حكم أو غيره" و زعم أنه بعينه مذهب الحكماء- فغير صحيح، إلا أن يراد بالحكم الإدراك المستتبع للإقرار و الإذعان حتى يكون مندرجا تحت المقسم، و أما إن أريد به الأمر الخارج عن التصور اللازم له فهو خارج عن المقسم، و لا يكون بديهيا و لا كسبيا إلا بالعرض كما مر.

و على هذا المنوال ما ذكره شارح المقاصد في تهذيب المنطق:" العلم إن كان إذعانا للنسبة فتصديق و إلا فتصور". و قال السيد الشريف في الحاشية:" اعلم أن مختار المصنف في التصديق مذهب الإمام، لما مر من أن التصديق مجموع الإدراكات الأربعة على ما يقتضيه توجيه الشارح لعبارته، و إنما وجهها به لامتناع تطبيقها على مذهب الآخر، و امتناع إثبات مذهب ثالث بمجرد احتمالها إياه، و لولا أن الإمام صرح بمذهبه في الملخص لما أثبتناه له".

أقول: يمكن تطبيق عبارته على مذهب الحكماء كما أشرنا إليه، بل تطبيق قوله في الملخص أيضا عليه، لأن الذي قال فيه هو:" إن لنا تصورا، و إذا حكم عليه بنفي أو إثبات كان المجموع تصديقا و فرق ما بينهما كما بين البسيط و المركب". انتهى.

أو يمكن توجيه بأن المراد من الجمعية في قوله:" كان المجموع تصديقا" بحسب الذهن في ظرف التحليل دون الوجود، و هذا كما يقال:" اللون كيفية مبصرة" و إذا ضم إليها" أنها قابضة للبصر" كان المجموع سوادا، و الفرق بينهما لكون أحدهما جنسا و الآخر نوعا شبيه بالفرق بين البسيط و المركب، و ليس بعينه ذلك، لأنهما واحد في الوجود و لهذا أتى بكاف التشبيه.

و يؤيد ما ذكرنا ما قاله الأبهري في فاتحة منطق كتابه المسمى بتنزيل الأفكار بهذه العبارة:" العلم هو حصول صورة الشيء في العقل، و هو إما تصور فقط كتصورنا معنى الإنسان، و إما تصور مع التصديق كما إذا تصورنا معنى قولنا:" الإنسان حيوان" ثم صدقناه، فالتصور هو أن يحصل في العقل تصور الطرفين مع التأليف، و التصديق هو أن يحصل في العقل صورة هذا التأليف مطابقة للأشياء و نفسها" انتهى.

و هو بعينه تفسير الشيخ في الشفاء للتصديق لأنه قال:" حصول الطرفين مع التأليف بينهما هي معنى القضية في العقل، و التصديق هو أن تحصل في الذهن نسبة هذه الصورة إلى الأشياء أنفسها مطابقا لها، و التكذيب بخلاف ذلك".

و اعترض عليه المحقق الطوسي في نقد التنزيل أن قوله:" ثم صدقناه" يجب أن يكون مراده به بحسب ما فسر التصديق به، و هو أن تحصل في العقل صورة هذا التأليف، و ليس المفهوم من قولنا إذا تصورنا معنى قولنا:" الإنسان حيوان" إلا حصول صورة هذا المجموع المشتمل على الطرفين و التأليف، لكن لا يمكن صورة هذا المجموع إلا بعد حصول أجزائه، فصورة هذا التأليف بعد حصول صورة هذا المجموع حصول الحاصل، و على تقدير صحته يكون حصول صورة هذا التأليف في العقل من باب التصور، و الذي من باب التصديق هو حصول التأليف نفسه لا حصول صورته" انتهى.

و الجواب عن الأول أن جزء المجموع صورة هذا التأليف مطابقة للأشياء أنفسها الذي هو معنى التصديق، فمعنى" ثم صدقناه" أخص من صورة هذا التأليف مطلقا، أعم من أن يكون مشكوكا فيه أو لا، فحصوله على هذا الوجه لا يكون حصول الحاصل.

و عن الثاني بأن حصول التأليف بعينه هو الانتساب و الحكم، و الحكم لا يجوز أن يكون تصديقا لأنه فعل، و التصديق انفعال لأنه علم، و حصول صورة هذا التأليف مطابقة للأشياء تصديق باعتبار يلزمه إذعان بالتأليف و إقرار بمصدق به، و إن كان اعتبار حصوله في العقل تصورا.

فإن قلت التصديق بسيط عند الحكماء كما هو المشهور منهم، فيجب أن يكون نفس الإذعان، لا تصور التأليف مطابقة للأشياء.

أقول: التصديق بهذا المعنى أيضا إدراك بسيط ليس مجموع إدراكات ثلاثة أو أربعة و إن كان متعلقا بها، كما أن تصور القضية أيضا إدراك واحد و إن كان متعلقه أمور كثيرة، و هذا هو المراد من كون التصورات الثلاثة شرطا للتصديق و لأجل ذلك الامتزاج التام بين التصديق و هذه التصورات الثلاثة للمحكوم عليه و به و النسبة ظن أن التصديق هو مجموع أمور أربعة كما نسب إلى صاحب الملخص.

قال صاحب القسطاس:" متى حصل عند العقل وقوع النسبة أو لا وقوعها لا بمعنى تصور الوقوع- فإن ذلك من قبيل التصورات- بل بمعنى أن النسبة الإيجابية واقعة أو ليست بواقعة، فهذا الحصول هو التصديق، و هو حقيقة الحكم" انتهى.

اعلم أن هذا الفاضل لما اعترف بأن التصديق عبارة عن أن يحصل عند العقل أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة، الذي هو الاعتقاد فإن سماه حكما فلا مشاحة في الاصطلاح. و الحق كما سبق أن الأثر الحاصل في الذهن إما تصور ماهيات الأشياء و مفهوماتها، أو صورة أن هذا ذاك مطابقا للواقع، سواء طابق أو لا، و الأول هو التصور، و الثاني هو التصديق و الإذعان.

و هو باعتبار حصوله في الذهن تصور، لكن بخصوصية كونه إذعانا بغيره تصديق.

قيل مما يدل على أن التصديق هو الاعتقاد قولهم في التصديق الكسبي" أن هذه القضية معلومة تصورا، مجهولة تصديقا" و لا شك أن القضية الكسبية قبل القياس حاصلة بجميع أجزائها في الذهن و بعد القياس يحصل التصديق بأنها مطابقة لما في نفس الأمر.

و لا يخفى عليك أنه كما أن التصديق إدراك واحد داخل تحت التصور المطلق الذي هو جنسه و له فصل ينوعه و يحصله فيكون مركبا تحليليا كما مر و كذا سائر أقسام العلم- فإن كلا منهما أيضا متضمن لما به الاشتراك و ما يحصل به نوعا، كالشك مثلا فإنه عبارة عن حصول صورة التأليف في الذهن مع تجويز وقوع مقابله تجويزا مساويا لتجويز وقوعه، و كذا الوهم مركب المعنى من التصور للشيء و تجويز خلافه تجويزا راجحا على عكس الإدراك الظني، و أما تصور المعاني المفردة أو المركبة الغير النسبية أو النسبية التقييدية أو الخبرية، و كل ذلك نوع من العلم المطلق مع قيد عدمي، ثم لكل من الأقسام تحصلات و تنوعات أخرى باعتبار المعلومات كما لا يخفى، و لهذا قيل:" العلم لكل شيء من قبيل ذلك الشيء" لأنه متحد به، كما أن وجود كل شيء في الخارج عين ذلك الشيء و متحد به.

و لأجل ذلك اشتهر من الحكماء المشاءين" أن الوجود أنواع متخالفة حسب اختلاف الماهيات" مع أنهم قائلون بأن الوجود أمر بسيط لا جنس له و لا فصل له و لا حد له و لا يعرضه العموم و الكلية، و إدراك ذلك يحتاج إلى لطف قريحة.

فهذا ما سنح لنا في باب التصور و التصديق و الله ولي الهداية و التوفيق.