رسالة محمد الفاتح إلى الأشرف إينال لتبشيره بفتح القسطنطينية

​رسالة محمد الفاتح إلى الأشرف إينال لِتبشيره بِفتح القُسطنطينيَّة​ المؤلف محمد الفاتح
ملاحظات: وردت هذه الرسالة بِاللُغة العربيَّة في المُجلَّد الأوَّل من كتاب «مجموعة مُنشآت السلاطين» لأحمد فريدون بك، الصادر سنة 1275هـ في دار الطباعة العامرة بإستانبول. رابط تحميل نسخة من الكتاب.


بسم الله الرحمن الرحيم

مُتيمنًا بذكرهِ القديم: ﴿قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِى ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ۖ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ يحمدُ الله ويُثني عليه عبدهُ المُستبشر بالمُبشرات المُتواترة اللاتي يُنبئن عن استقرار القدم المقدام على سرير السلطنة السامية الباهرة بالدولة العليَّة القاهرة، ألا وهو السُلطان الوالي العالي العالمي المؤيدي المُظفري الظهيري الهمَّامي العوني الغوثي الغيَّاثي الإمامي النظامي الذي أشرقت من أُفق التوفيق شمسُ سلطنته وخفقت راية الإقبال من هُبوب نسيم خِلافته تتطأطأ أعناقُ الجبابرة نحو سُدَّته السُنيَّة ويتكأكأ أقيال الأكاسرة على عتبته العليَّة وبه أضحت عُقودُ حُكمه مُنتظمة وأمور السلطنة مُلتئمة ويتفاخر بوصفه المآثر ويختال بذكره المفاخر، أعني الملكي الألطفي السُلطان الأشرف الأبوي الأعطفي، ضاعف الله تعالىٰ مُلكه وسُلطانه وأفاض على العالمين برِّه وإحسانه ولا برح في دولتةٍ لا تنهدمُ دارُها، ونعمةٌ لا تنفصمُ آثارها وسعادةٌ لا تصفرُّ أوراقها وسيادةٌ لا تتغيَّرُ آفاقها، وما انفكَّ بُنودُ الدين بباهر صولته مرفوعة، وأسنَّة الحوادث في نحو أعدائه مكسورة، وجماجم حُسَّاده على رؤوس الأسنَّة منصوبة وتحت الأقدام مخفوضة، ونقول لمَّا تتابعت عندنا الأخبار التي تشتملُ على صعود شمس السلطنة على أوج سرير الخلافة أدامهُ الله وأعلاه وبارك فيه وأبقاه ببركة نبيِّهِ المُجتبى ورسولهِ المُصطفى عليه وعلى من صلة الصلوات أزكاها: مُلئنا بهجةً وسُرورًا وغبطةً وحُبورًا، وأنشدنا بلسان صدقٍ شعرًا:

هنيئـــًا لمصر أنت صرتِ عزيزة
بلوغُ الأماني وابتغاء المحامدِ
وتعتدل الأيـــــَّامُ فيها ويُقتنى
صُنوف البرايا منه طرف الفوائدِ
فمذ ظهرت فيه عـلايمُ بأسكم
قد التطمت منها رسومُ المفاسدِ

هذا وأنَّ الولاء والمُواصلة من تكفَّل بمؤنه إحياء نُسك الحج للعباد والعباد وبين من تحمَّل بمشاق تجهيز أهل الغزو والجهاد كما هو المتوارث من الآباء والأجداد أنعمهم الله بنعمة الموعود في المعاد، فالقلبُ مُصممٌ على تأييد تلك القديمة بسلوك طرايق تنسى لطائف أخريها بطيب نعيمها لذايذ أوليها، فبهذا الحبل المتين نحنُ ماسكون وعلى هذا الصراط المُستقيم المُستبين سالكون فشددنا وثاق صدق ذلك المقر العالي أعلاه الله وأسماه وفتحنا أبواب المُراسلة وقدمنا أسباب المُواصلة وأهدينا طرايف التسليمات السليمات عن شوايب الرياء والرعونات وأتحفنا لطايف التحيَّات المنورات بنور الإخلاص المُجلَّاة بالولاء والاختصاص المُزهرات بصدق الطوية رياضها المُترعات من زلال المحبة حياضُها، ورفعنا الأدعية الصالحة المُستجابة والأثنية الفايحة المُستطابة و الأشواق البالغة ذُروة ولأتوق المتوالية بالغدر والآصال وانهينا إلى العلم الكريم محفوفا بما يسرة الله تعالىٰ من المطالب البهيَّة والمآرب السُنيَّة، إن من أحسن سُنن أسلافنا - رحمهم الله - أنهم مُجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ونحنُ على تلك السُنَّة قائمون وعلى تلك الأُمنية دائمون ممتثلين بقوله تعالىٰ: ﴿قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ مُستمسكين بقوله : «مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ». فهممنا هذا العام عمَّمهُ الله بالبركة والإنعام مُعتصمين بحبل ذي الجلال والإكرام ومُستمسكين بفضل الملك العلَّام، إلى أداء فرض العزاء في الإسلام مؤتمرين بأمره ﷿: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ ٱلْكُفَّارِ وجهَّزنا عساكر الغُزاة والمُجاهدين من البرِّ والبحر، لفتح مدينة مُلئت فُجورًا وكُفرًا. والتي بقيت وسط الممالك الإسلاميَّة تُباهي بكُفرها فخرًا:

فكأنَّها حصفٌ على الخدَّ الأغرِّ
وكأنَّها كلفٌ على وجهِ القمرِ

وهي مُحصَّنةٌ صعب المرام شامخة الأركان راسخة البُنيان مملوءة من المُشركين الشُجعان خذ لهم أينما كا نوا وهم مُستكبرون على أهل الشُرك والطُغيان، وحصنٌ مُحصَّنٌ مُسددٌ مُشددٌ مُشيَّدٌ مُنسَّقُ النظام ما ظفر به أسلافُنا العظام هؤلاء السلاطين الأساطين الفخام مع أنهم جاهدوا حقَّ الجهاد ولم ينالوا بها نيلًا، وهي قلعةٌ عظيمةٌ مُشتهرةٌ في ألسنة الأرض بإسم القُسطنطينيَّة ولا يبعدُ من أن تكون هي التي نطق بها صحاح الأحاديث النبويَّة والأخبار المصطفويَّة عليه وعلى آله أتمَّ الصلاة والتحيَّة. فيفتحون قُسطنطينيَّة فبينما هم يقتسمون الغنايم قد علقوا سيوفهم بالزيتون... الحديث؛ وغير هذا من الصِّحاح المشهورة هي هذة المدينة الواقع جانب منها فى البحر وجانب منها فى البر فأعددنا لها كما أمرنا الله تعالىٰ بقولة: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍۢ كُلُّ أهبةٍ يعتدُّ بها وجميعُ أسلحةٍ يُعتمد من البرق والرعد والمنجنيق والنقب والجحور وغيرها من جانب البر والفُلك المشحون والجوار المُنشآت فى البحر كالأعلام من جانب البحر، ونزلنا عليها في السَّادس والعشرين من ربيع الأول من شهور سنة سبع وخمسين وثمانمائة.

فقلتُ للنقسِ جدّي الآن فاجتهدي
وساعديني فهذا ما تمنيتِ

فكُلَّما دعوا إلى الحق أصرَّوا واستكبروا وكانوا من الكافرين فأحطنا بها مُحاصرةً وحاربناهم وحاربونا وقاتلناهم وقاتلونا وجرى بيننا وبينهم القتال أربعة وخمسين يومًا وليلة.

إذا جاء نصرُ الله والفتحُ هيِّن
على المرءُ معسورُ الأمور وصعبها

فمتى طلع الصُّبح الصادق من يوم الثُلثاء يوم العشرين من جُمادى الأولى، هجمنا مثل النُجُوم رُجُومًا لِجُنُود الشياطين، سخَّرها الحُكم الصدِّيقي بِبركة العدل الفاروقي بِالضرب الحيدري لِآل عُثمان، قد منَّ الله تعالىٰ بِالفتح قبل أن ظهر الشمس من مشرقها ﴿سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ، ﴿بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ، وأوَّل من هُزم وقُطع رأسه تكفورهم اللعين الكنود، فأُهلكوا كقوم عادٍ وثمود، فخفتهم ملائكة العذاب فأوردوهم النار وبئس المآب، فقُتل من قُتل وأُسر من بقي، وأغار وأحزانيهم وأخرجوا كنوزهم ودفاينهم موفورًا، فأتى عليهم حينٌ من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا، فقُطع دابر القوم الذين ظلموا والحمدُ لله ربِّ العالمين، فيومئذٍ يفرح المُؤمنون بِنصر الله، ينصُر من يشاء، فلمَّا ظفرنا على هؤلاء الأرجاس الأنجاس الجالوس، طهَّرنا القوس من القُسُوس، وأخرجنا منه الصليب والناقوس، وصيَّرنا معابد عبدة الأصنام مساجد أهل الإسلام، وتشرَّفت تلك الخطَّة بِشرف السكَّة والخطبة، فوقع أمر الله وبطُل ما كانوا يعملون. وبعد، فكانت في شطِّ الشرم الذي يكون شماليًّا منها، قلعة إفرنجيَّة جنوزيَّة، وهي المُحصَّنة المدعُوَّة بِقلعة غلطة، وهي جارةٌ لها مُنسَّقة النظام، مملوءة من المُشركين اللئام، فلمَّا حاصرنا قُسطنطينيَّة جاءنا أهلُ تلك القلعة، وشدُّوا بنا ميثاقهم، وجدَّدوا معنا وفاقهم، وقُلنا لهم كونوا كما كُنتُم، واثبُتُوا على ما أنتم عليه، بِشرط أن لا تُعينوا بها، فقبلوا شرطنا، وأطاعوا أمرنا، فلمَّا وقع ما وقع على قُسطنطينيَّة، وُجد بين القتلى والأسرى من أهل غلطة، وهم قد حاربونا وبدا أنهم نقضوا ميثاقهم، وأظهروا نفاقهم، فأردنا أن نفعل بهم ما فعلنا بِالأُخرى، فبينما هم جاؤا مُبتهلين ومُتضرِّعين، وقالوا إن لم ترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين، فعفونا عنهم، إنَّهُ هو العفُوُّ الغفَّار، ومننَّا عليهم، المنَّة لله الواحد القهَّار، وقرَّرنا على مُلكهم، المُلك لله العزيز الجبَّار، ولكن جعلنا حصنهم صعيدًا جُرُزًا بحيثُ لا ترى فيهم عوجًا ولا أمتًا، وملكنا أرضهم وماءهم، وكتبنا في جريدة الجزى أسماءهم، حتَّى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، ﴿ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى هَدَىٰنَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلَآ أَنْ هَدَىٰنَا ٱللَّهُ ۖ.

سعد الزمان وسعد الإقبال
ودنا المُنى وأجابت الآمال

فلمَّا جمع الله تعالىٰ بِفضله في قلب عبده زين السُرُورين العظيمين، أحدهما حفظ نظام سرير السلطنة وحماية البلاد، والآخر قُرَّةً لِعين الشرع بِإحياء فرض الجهاد، وجَّه تلقاء الأرض المُقدَّسة التي بارك الله فيها بإجراء أحكام السلطنة، حامل وقر الثناء وناقل ورق الدُعاء، فخر الأماجد، ذخر المحامد، أمير جلال الدين القابوني، رُزقت عودته بِالسلامة، بِهديَّةٍ يسيرةٍ من الأسارى والغلمان والأقمشة وغيرها، حسبما ذُكر مُفصَّلًا في كتابٍ غير هذا، وإن كانت نسبتها إلى ما وجب علينا كنسبةٍ للقطر إلى البحر، فالمأمول الإغضاء بِحُسن القُبُول، فإذا يسَّره الله التشريف بِتقبيل بساط الخلافة، زاد الله بسطه بِالعدل والنَّصر، يتأمَّل ويتمنَّى أن ينعم بالمُشرَّفات السَّارَّة المُحتوية بِسلامة النفس النفيس، وصحَّة الذات المُطهَّرة، أبقاها الله في دولته دينيَّة ودُنياويَّة، وبِسوانح الأخبار من مُهمَّات السلطنة، كما نتشرَّف بِالانتماء إلى ذلك المقر الشريف، ونتلطَّف بِالاعتزاء لِذلك المجلس اللطيف، ونحنُ نترَّقب طيِّبات أدعية تلك المساكن الطيِّبة، والله مُجيبها بِبرمة نبيِّه المُجتبى، عليه من التحيَّات أزكاها. الحمدُ لله على نواله، والصلوٰة والسَّلامُ على مُحمَّدٍ وآله، والله أعلم بِالصواب وإليه المرجع والمآب.