زغل العلم
  ► ◄  
بسم الله الرحمن الرحيم

[ وبه نستعين

والحمد لله رب العالمين ]

اعلم أن في كل طائفة من علماء هذه الأمة ما يذم ويعاب، فتجنبه.

[ علم القراءة والتجويد ]

فالقراء المجودة: فيهم تنطع وتحرير زائد يؤدي إلى أن المجود القارىء يبقى مصروف الهمة إلى مراعاة الحروف والتنطع في تجويدها، بحيث يشغله ذلك عن تدبر معاني كتاب الله تعالى ويصرفه عن الخشوع في التلاوة لله ويخليه قوي النفس مزدريا [ بحفاظ ] كتاب الله تعالى. فينظر اليهم بعين المقت [ وأن ] المسلمين يلحنون. وبأن القراء لا يحفظون إلا شواذ [ القراءة ]. فليت شعري أنت ماذا عرفت وما علمك؟ وأما عملك فغير صالح، وأما تلاوتك فثقيلة عرية عن الخشية والحزن والخوف. فالله يوفقك ويبصرك رشدك ويوقظك من رقدة الجهل والرياء.

وضدهم قراء النغم والتمطيط، وهؤلاء في الجملة من قرأ منهم بقلب وخوف قد ينتفع به في الجملة، فقد رأيت من يقرأ صحيحا ويطرب ويبكي.

نعم، ورأيت من إذا قرأ قسى القلوب وأبرم النفوس، وبدل كلام الله تعالى. وأسوأهم حالا الجنائزية، والقراء بالروايات، وبالجمع؛ فأبعد شيء عن الخشوع، وأقدم شيء على التلاوة بما يخرج عن القصد؛ وشعارهم في تكثير وجوه حمزة، وتغليظ تلك اللامات وترقيق الراآت.

اقرأ يا رجل واعفنا من التغليظ والترقيق [ وفرط ] الإمالة، والمدود ووقوف حمزة. فإلى كم هذا؟

وآخر منهم إن حضر في ختمة أو تلا في محراب جعل ديدنه إحضار غرائب الوجوه والسكت، والتهوع بالتسهيل، وأتى بكل خلاف ونادى على نفسه أنا ( أبو فلان ) فاعرفوني فإني عارف [ بالسبع ]. إيش يُعمل بك؟ لا صبحك الله بخير إنك حجر منجنيق ورصاص على الأفئدة.

[ علم الحديث ]

والمحدثون: فغالبهم لا يفقهون ولا همة لهم في معرفة الحديث ولا [ في ] التدين به؛ بل الصحيح والموضوع عندهم [ بنسبة ]. إنما همتهم في السماع على جهلة الشيوخ، وتكثير العدد من الأجزاء والرواة. لا يتأدبون بآداب الحديث، ولا يستفيقون من سكرة السماع. الآن يسمع [ الجزء ] ونفسه تحدثه: متى يرويه، أبعد الخمسين سنة! ويحك ما أطول أملك وأسوأ عملك، معذور سفيان الثوري إذ يقول فيما رواه أحمد بن يوسف التغلبي ثنا خالد بن خداش ثنا حماد بن زيد قال: قال سفيان الثوري رحمه الله: ( لو كان الحديث خيرا لذهب كما ذهب الخير ). 1

صدق والله وأي خير في حديث مخلوط صحيحه بواهيه، وأنت لا تفليه ولا تبحث عن ناقليه، ولا تدين الله به.

أما اليوم في زماننا فما يفيد المحدث الطلب والسماع مقصود الحديث من التدين به، بل فائدة السماع [ ليروي ]. فهذا والله لغير الله. خطابي معك يا محدث لا مع من يسمع ولا يعقل ولا يحافظ على الصلوات ولا يجتنب الفواحش ولا قرش الحشائش ولا يحسن أن يصدق فيها. فيا هذا لا تكن محروما مثلي فأنا نحس أبغض المناحيس.

وطالب الحديث اليوم ينبغي له أن ينسخ أولا الجمع بين الصحيحين وأحكام عبد الحق والضياء، ويدمن النظر [ فيها ] ويكثر من تحصيل تواليف البيهقي فإنها نافعة، ولا أقل من مختصر كالإلمام 2 [ ودرسه ]. فإيش السماع على جهلة المشيخة الذين ينامون والصبيان يلعبون والشبيبة يتحدثون ويمزحون، وكثير منهم ينعسون، ويكابرون، والقارىء يصحف، وإتقانه في تكثير "أو كما قال"، والرضع يتصاعقون. بالله خلونا، فقد بقينا ضحكة لأولي المعقولات، يطنزون بنا هؤلاء هم أهل الحديث. نعم ماذا يضر! ولو لم يبق إلا تكرار الصلاة على النبي لكان خيرا من تلك الأقاويل التي تضاد الدين وتطرد الإيمان واليقين وتردي في أسفل السافلين. لكنك معذور فما شممت للإسلام رائحة، ولا رأيت أهل الحديث، فأوائلهم كان لهم شيخ عالي الإسناد، بينه وبين الله واحد، معصوم عن معصوم، سيد البشر عن جبريل عن الله عز وجل. فطلبه مثل أبي بكر وعمر، وابن مسعود وأبي هريرة الحافظ وابن عباس، وسادة الناس الذين طالت أعمارهم وعلا سندهم وانتصبوا للرواية الرفيعة، [ فحمل ] عنهم مثل مسروق وابن المسيب والحسن البصري والشعبي وعروة وأشباههم من أصحاب الحديث، وأرباب الرواية والدراية، والصدق والعبادة، والإتقان والزهادة، [ الذين ] من طلبتهم مثل الزهري وقتادة والأعمش وابن جحادة وأيوب وابن عون، وأولئك السادة الذين أخذ عنهم الأوزاعي والثوري ومعمر والحمادان وزائدة ومالك والليث وخلق سواهم، من أشياخ ابن المبارك ويحيى القطان وابن مهدي ويحيى بن آدم والشافعي والقعنبي وعدة من أعلام الحديث الذين خلفهم، مثل أحمد بن حنبل وإسحاق وابن المديني ويحيى بن معين [ وأبي خيثمة ] وابن نمير وأبي كريب وبندار وما يليهم من مشيخة البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وأبي زرعة وأبي حاتم ومحمد بن نصر وصالح جزرة وابن خزيمة، وخلائق ممن كان في الزمن الواحد، منهم ألوف من الحفاظ ونقلة العلم الشريف.

ثم تناقص هذا الشأن في المائة الرابعة بالنسبة إلى المائة الثالثة، ولم يزل ينقص إلى اليوم، فأفضل من في وقتنا اليوم من المحدثين على قلتهم نظير صغار من كان في ذلك الزمان على كثرتهم.

وكم من رجل مشهور بالفقه والرأي في الزمن القديم أفضل في الحديث من المتأخرين. وكم من رجل من متكلمي القدماء أعرف بالأثر من سنية زماننا.

فما أدركنا من أصحاب الحديث إلا طائفة كقاضي ديار مصر وعالمها تقي الدين ابن دقيق العيد والحافظ الحجة شرف الدين الدمياطي والحافظ جمال الدين بن الظاهري والشيخ شهاب الدين بن فرح ونحوهم.

وأدركنا من عكر الطلبة شهاب الدين ابن الدقوقي، ونجم الدين ابن الخباز، والشيخ عبد الحافظ.

ونحمد الله في الوقت أناس يفهمون هذا الشأن ويعتنون بالأثر كالمزي وابن تيمية والبرزالي وابن سيد الناس وقطب الدين الحلبي وتقي الدين السبكي والقاضي شمس الدين الحنبلي وابن قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة وصلاح الدين العلائي وفخر الدين ابن الفخر وأمين الدين ابن الواني وابن إمام الصالح ومحب الدين المقدسي وسيدي عبد الله بن خليل؛ وجماعة سواهم، [ فيهم ] العكر والغثاء، الله يستر و « المرء مع من أحب »، 3 والسعيد من نهض وأهب وعلى الطاعة أكب، والله الموفق والهادي.

[ المالكية ]

الفقهاء المالكية على خير واتباع وفضل، إن سلم قضاتهم ومفتوهم من التسرع في الدماء والتكفير، فإن الحاكم والمفتي يتعين عليه أن يراقب الله تعالى، ويتأنى في الحكم بالتقليد ولا سيما في إراقة الدماء، فالله ما أوجب عليهم تقليد إمامهم، فلهم أن يأخذوا منه ويتركوا كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: « كلٌّ يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر  ».

فيا هذا إذا وقفت بين يدي الله تعالى فسألك لم أبحت دم فلان فما حجتك؟ إن قلت قلدت إمامي، يقول لك فأنا أوجبت عليك تقليد إمامك؟ ثبت أن النبي قال: « أول ما يقضى بين الناس في الدماء » 4 وفي الحديث: « لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يتند بدم حرام ». 5 نعم من رأيته زنديقا عدوا لله فاتق الله وأرق دمه ابتغاء وجه الله بعد أن تستفتي [ قلبك ] وتستخير الله فيه.

[ الحنفية ]

الفقهاء الحنفية أولو التدقيق والرأي والذكاء، والخير من مثلهم إن سلموا من التحيل والحيل على الربا، وإبطال الزكاة، ونقر الصلاة، والعمل بالمسائل التي يسمعون النصوص النبوية بخلافها.

فيا رجل « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » 6 واحتط لدينك، ولا يكن همك الحكم بمذهبك. « فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه » 7 فإذا عملت بمذهبك في المياه والطهارة والوتر والأضحية، فأنت أنت، وإن كانت همتك في طلب الفقه [ الجدال ] والمراء والانتصار لمذهبك على كل حال وتحصيل المدارس [ والعلو ] فما ذا فقها أخرويا، [ بل ] ذا فقه الدنيا؛ فما ظنك تقول غدا بين يدي الله تعالى: تعلمت العلم لوجهك وعلمته فيك، فاحذر أن تغلط وتقولها فيقول لك: كذبت، إنما تعلمت ليقال عالم، وقد قيل، ثم يؤمر بك مسحوبا إلى النار، كما رواه مسلم في الصحيح. 8

فلا تعتقد أن مذهبك أفضل المذاهب وأحبها إلى الله تعالى، فإنك لا دليل لك على ذلك، ولا لمخالفك أيضا، بل الأئمة - رضي الله عنهم - على خير كثير، ولهم في صوابهم أجران على كل مسألة، وفي خطئهم أجر على كل مسألة. 9

[ الشافعية ]

الفقهاء الشافعية أكيس الناس وأعلم من غيرهم بالدين، فأس مذهبهم مبني على اتباع الأحاديث المتصلة، وإمامهم من رؤوس أصحاب الحديث ومناقبه جمة. فإن حصلت يا فلان مذهبة لتدين الله به وتدفع عن نفسك الجهل فأنت بخير؛ وإن كانت همتك كهمة إخوانك من الفقهاء البطالين، الذين قصدهم المناصب والمدارس والدنيا والرفاهية والثياب الفاخرة، فما ذا بركة العلم، ولا هذه نية خالصة، بل ذا بيع للعلم بحسن عبارة وتعجل [ للأجر ] وتحمل للوزر وغفلة عن الله. فلو كنت ذا صنعة لكنت بخير، تأكل من كسب يمينك وعرق جبينك، وتزدري نفسك ولا تتكبر بالعلم؛ أو كنت ذا تجارة لكنت تشبه علماء السلف الذين ما أبصروا المدارس ولا سمعوا بالجهات، وهربوا لما للقضاء طُلبوا، وتعبدوا بعلمهم وبذلوه للناس، ورضوا بثوب خام وبكسرة، كما كان من قريب الإمام أبو إسحاق صاحب التنبيه، 10 وكما كان بالأمس الشيخ محيي الدين صاحب المنهاج. 11 وكما ترى اليوم سيدي عبد الله بن خليل.

وعلى كل تقدير احذر المراء في البحث وإن كنت محقا، ولا تنازع في مسالة لا تعتقدها، واحذر التكبر والعجب بعملك. فيا سعادتك إن نجوت منه كفافا لا عليك ولا لك، فوالله ما رمقت عيني أوسع علما ولا أقوى ذكاء من رجل يقال له ابن تيمية، مع الزهد في المأكل والملبس والنساء، ومع القيام في الحق والجهاد بكل ممكن، وقد تعبت في وزنه وفتشته حتى مللت في سنين متطاولة، فما وجدت قد أخرّه بين أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم وازدروا به وكذبوه وكفروه إلا الكبر والعجب وفرط الغرام في رياسة المشيخة والازدراء بالكبار. فانظر كيف وبال الدعاوى ومحبة الظهور، نسأل الله تعالى المسامحة. فقد قام عليه أناس ليسوا بأورع منه ولا أعلم منه ولا أزهد منه، بل يتجاوزون عن ذنوب أصحابهم وآثام أصدقائهم، وما سلطهم الله عليه بتقواهم وجلالتهم بل بذنوبه، وما دفعه الله عنه وعن أتباعه أكثر، وما جرى عليهم إلا بعض ما يستحقون، فلا تكن فى ريب من ذلك.

[ الحنابلة ]

[ وأما ] الحنابلة فعندهم علوم نافعة، وفيهم دين في الجملة، ولهم قلة حظ في الدنيا، [ والجهال ] يتكلمون في عقيدتهم ويرمونهم بالتجسيم، وبأنه يلزمهم، وهم بريئون من ذلك إلا النادر، والله يغفر لهم.

[ علم النحو ]

النحويون لا بأس بهم، وعلمهم حسن محتاج إليه. لكن النحوي إذا أمعن في العربية وعري عن علم الكتاب والسنة بقي فارغا بطالا لعابا، ولا يسأله الله و [ الحالة ] هذه عن [ علمه ] في الآخرة، بل هو كصنعة من الصنائع كالطب والحساب والهندسة لا يثاب عليها ولا يعاقب إذا لم يتكبر على الناس ولا يتحامق عليهم واتقى الله تعالى وتواضع وصان نفسه.

[ علم اللغة ]

اللغويون قد عدموا في زماننا، فتجد الفقيه لا يدري لغة الفقه، والمقرىء لا يدري لغة القرآن، والمحدث لا يعتني بلغة الحديث. فهذا تفريط وجهل، وينبغي الاعتناء بلغة الكتاب والسنة ليفهم الخطاب.

[ علم التفسير ]

المفسرون: قل من يعتني اليوم بالتفسير، بل يطالع المدرسون تفسير الفخر الرازي وفيه إشكالات وتشكيكات لا ينبغي سماعها، فإنها تحير وتمرض وتردي ولا تشفي غليلا، نسأل الله العافية. وأقوال السلف في التفسير مليحة، لكنها ثلاثة أقوال وأربعة أقوال فصاعدا فيضيع الحق بين ذلك، فإن الحق لا يكون في جهتين وربما احتمل اللفظ معنيين.

[ أصول الفقه ]

الأصوليون: أصول الفقه لا حاجة لك به يا مقلد، ويا من يزعم أن الاجتهاد قد انقطع وما بقي مجتهد. ولا فائدة في أصول الفقه إلا أن يصير محصله مجتهدا به، فإذا عرفه ولم يفك تقليد إمامه لم يصنع شيئا، بل أتعب نفسه وركب على نفسه الحجة في مسائل. وإن كان يقرأ لتحصيل الوظائف [ و ] ليقال، فهذا من الوبال، وهو ضرب من الخبال.

[ علم أصول الدين ]

أصول الدين: هو اسم عظيم، وهو منطبق على حفظ الكتاب والسنة، فهما أصول دين الإسلام، ليس إلا. وأما العرف في هذا الاسم فهو مختلف باختلاف النحل.

فأصول دين السلف الإيمان بالله وكتبه ورسله وملائكته، وبصفاته وبالقدر، وبأن القرآن المنزل كلام الله تعالى غير مخلوق، والترضي عن كل الصحابة، إلى غير ذلك من أصول السنة. وأصول دين الخلف هو ما صنفوا فيه، وبنوه على العقل والمنطق. فمما كان السلف [ يحطون على ] سالكه ويبدعونه. وبينهم اختلاف شديد في مسائل مزمنة، تركها من حسن إسلام العبد، فإنه يورث أمراضا في القلوب. ومن لم يصدقني يجرب؛ فإن الأصولية بينهم السيف، يكفر هذا هذا، ويضلل هذا هذا. فالأصولي الواقف مع الظواهر و [ الآثار ] عند خصومه يجعلونه مجسما وحشويا ومبتدعا، والأصولي الذي طرد التأويل عند الآخرين جهميا ومعتزليا وضالا، والأصولي الذي أثبت بعض الصفات ونفى بعضها وتأول في أماكن يقولون متناقضا. والسلامة والعافية أولى بك، فإن برعت في الأصول وتوابعها من المنطق والحكمة و [ الفلسفة ] وآراء الأوائل ومجازات العقول، واعتصمت مع ذلك بالكتاب والسنة وأصول السلف، ولفقت بين العقل والنقل، فما أظنك في ذلك تبلغ رتبة ابن تيمية ولا والله تقربها، وقد رأيت ما آل أمره إليه من الحط عليه، والهجر والتضليل والتكفير والتكذيب بحق وبباطل. فقد كان قبل أن يدخل في هذه الصناعة منورا مضيئا، على محياه سيما السلف؛ ثم صار مظلما مكسوفا، عليه قتمة عند خلائق من الناس، ودجالا أفاكا كافرا عند أعدائه؛ ومبتدعا فاضلا محققا بارعا عند طوائف من عقلاء الفضلاء؛ وحامل راية الإسلام وحامي حوزة الدين ومحيي السنة عند عوام أصحابه، هو ما أقول لك.

[ علم المنطق ]

والمنطق نفعه قليل، وضرره وبيل، وما هو من علوم الإسلام. والحق منه فكامن في النفوس الزكية بعبارات غريبة، والباطل فاهرب منه فإنك تنقطع مع خصمك وتعرف أنك المحق، وتقطع خصمك وتعرف أنك على الخطأ. فهي عبارات دهاشة ومقدمات دكاكة، نسأل الله السلامة. [ و ] إن قرأته للفرجة لا للحجة، وللدنيا لا للآخرة، فقد عذبت الحيوان وضيعت الزمان، والله المستعان؛ وأما الثواب فأيِّس منه ولا تأمن [ العقاب ] إلا بمثاب.

[ علم الحكمة ]

والحكمة الفلسفية الإلهية ما ينظر فيها من يرجى فلاحه ولا يركن إلى اعتقادها من يلوح نجاحه. فإن هذا العلم في شق وما جاءت به الرسل في شق. ولكن ضلال من لم يدر ما جاءت به الرسل كما ينبغي بالحكمة شر ممن يدري. وا غوثاه بالله، اذا كان [ الذين ] قد انتدبوا للرد على الفلاسفة قد حاروا ولحقتهم كسفة، فما الظن بالمردود عليهم؟ وما دواء هذه العلوم وعلمائها والعاملين بها علما وعقدا إلا الحريق والإعدام من الوجود.

[ إذ ] الدين ما زال كاملا حتى عُرّبت هذه الكتب، ونظر فيها المسلمون، فلو أعدمت لكان فتحا مبينا.

والحكمة الرياضية فيها حق من طبائع هندسية و [ حساب ] ونحو ذلك، وفيها أباطيل وتنجيم وما أشبهه. فباطلها يؤذي المرء في دينه ويضلله؛ وحقها صنعة وإتقان وتحرير مما لا أجر فيه ولا وزر، والحكمة الطبيعية لا بأس بها، لكنها ليست من علوم الدين ولا مما يتقرب به الى الله ولا من زاد المعاد، بل [ هي ] صنعة بلا ثواب ولا عقاب، إذا كان صاحبها سليم الاعتقاد عادلا خيرا كما رأينا جماعة منهم. وقد يثاب الرجل على تعليمها [ بالنية ] إن شاء الله تعالى.

[ الفرائض ]

الفرضيون داخلون في الفقهاء، إذ هو كتاب من كتب الفقه.

وهو علم مليح والامعان فيه [ يفوت ] الوقت، والتوسط في ذلك جيد. فكم من مسألة في الفرائض ما وقعت ولا تقع أبدا.

[ علم الإنشاء ]

الإنشاء فن أبناء الدنيا ليس من علم الآخرة في شيء، والكامل فيه محتاج إلى مشاركة قوية في العلوم الإسلامية، [ و ] يريد عقلا تاما ورزانة وسرعة منهم وقوة تخيل وبصرا باللغة والنحو وخبرة بالمعاني والبيان والسير وأيام الناس وفنون الأدب وحسن كتابة. ولكن ليكن رأس مال المنشئ تقوى الله ومراقبته، فربما وضع لفظة تعجبه يهوي بها الى النار وهو لا يدري، 12 وربما أبدع في سطر ترتب عليه خراب مصر، وربما أعان على تعلمه على سفك الدماء الحرام.

فانظر أين أنت يا بليغ! قد ذم نبيك البلاغة فقال: « إن من البيان لسحرا » 13 وقال: « العيّ من الإيمان ». 14 فكمّل براعة البلاغة بإرضاء ربك الأعلى، وبنصح رب الأمر، فهنا كمال البلاغة إن كنت من المتقين. وإن تعذر ذلك فدينك ما منه عوض. فمن اتقى الله كفاه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله سلط الله عليه من أرضاه، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين.

[ علم الشعر ]

الشعر هو من فنون المنشئ وهو كلام، فحسنه حسن وهو قليل، وقبيحه قبيح وهو الأغلب، وبيت ماله الكذب والإسراف في المدح والهجو والتشبيه والنعوت والحماسة، وأملحه أكذبه، فإن كان الشاعر بليغا مفوها مقداما على الكذب في لهجته مصرا على الاكتساب بالشعر رقيق الدين، فقد قرأ مقت الشعراء في سورة الشعراء.

ويندر على الشعراء المجودين من يتصون من الهجو، وربما أدى الأمر بالشاعر إلى التجاوز إلى الكفر، نسأل الله العفو. والشاعر المحسن كحسان، والمقتصد كابن المبارك، والظالم كالمتنبي، والسفيه الفاجر كابن الحجاج، والكافر كذوي الاتحاد. فاختر لنفسك أي واد تسلك.

[ علم الحساب ]

الحساب وشرع الديوان هذا من علوم القبط والفرس، ليس من علوم الإسلام. وهو صنعة ومعيشة ينال [ بها ] الرجل السعادة والدنيا؛ وكلما كان أمهر كان أسرق. ومن اتقى الله فيها وكتب لقضاة العدل وباشر الأيتام والصدقات ومال الأوقاف والمدارس ولزم الأمانة واتقى [ فيه ] فهذا محمود [ و ] مأجور بنيته. فقد رأينا جماعة يسيرة على نحو ذلك، نعم، ورأينا ذئابا [ عليهم ] الثياب. وفاسق الكتبة [ إليه المنتهى ] في السرق وعاقبة أمرهم وبيلة من الضرب والمصادرة والفقر.

[ علم الشروط ]

الشروط علم حسن شرعي. من [ برع ] فيه ولزم العدالة والورع عاش حميدا ومات [ فقيدا ]؛ ومن عاش فيه بالحيل والمكر والدهاء فلا بد له من خزي في الدنيا ومقت في الأخرى، وإن تسود هذا، { قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى }.

[ علم الوعظ ]

الوعظ فن بذاته يحتاج إلى مشاركة جيدة في العلم، ويستدعي معرفة حسنة بالتفسير وإكثارا من حكايات الفقراء والزهاد. وعدته التقوى والزهادة. فإذا رأيت الواعظ راغبا [ في الدنيا ] قليل الدين، فاعلم أن وعظه لا يتجاوز الأسماع، وكم من واعظ مفوه قد أبكى وأثر في الحاضرين تلك الساعة، ثم قاموا كما قعدوا، ومتى كان الواعظ مثل الحسين والشيخ عبد القادر الجيلاني - رحمهما الله تعالى - انتفع به الناس.


*
*



هامش

  1. شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي
  2. الإلمام بأحاديث الأحكام لابن دقيق العيد
  3. متفق عليه
  4. متفق عليه
  5. البخاري
  6. صحيح الترمذي والترغيبِ والجامعِ.
  7. في صحيح مسلم: « إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب »
  8. في صحيح مسلم: « إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ. فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت. ولكنك فعلت ليقال هو جواد. فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار. »
  9. في الصحيحين: « إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر »
  10. كتاب التنبيه في فروع الشافعية لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الفقيه الشيرازي الشافعي المتوفى سنة 476
  11. كتاب منهاج الطالبين للنووي.
  12. في صحيح مسلم: « إن العبد ليتكلم بالكلمة، ما يتبين ما فيها، يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب »
  13. صحيح البخاري
  14. أحمد والترمذي والحاكم. وفي صحيح الجامع: « الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاءة والبيان شعبتان من النفاق ».