سيدنا محمد
  ► الكتاب في صفحة واحدة؛ انظر النسخة الأخرى {{{6}}}◄  



مقدمة الكتاب

 

كلمة عن بلاد العرب

بلاد العرب هي شبه جزيرة في الطرف الجنوبي الغربي لقارة آسيا، يحدها شمالا، الشام وفلسطين والجزيرة، وجنوبا، خليج عدن والمحيط الهندي، وشرقا، خليج عُمان والخليج الفارسي، وغربا، خليج ومضيق باب المندب والبحر الأحمر وترعة السويس.

ويبلغ مجموع مساحة شبه جزيرة العرب مليون ميل مربع، وأعظم طول لها 1400 ميل من العقبة إلى عدن.

وبلاد العرب عبارة عن هضبة تنحدر نحو الشرق، وجوّها حار ويبلغ عدد سكانها نحو سبعة ملايين وهي موطن الساميين، وينقسم إلى عدة أقسام، أشهرها، اليمن والحجاز وتهامة ونجد واليمامة وبلاد البحرين.

وتنقسم بلاد اليمن إلى خمسة أقسام: حضرموت وشِحْر ومهرة وعُمان ونجران.

ويُقال: إن سبب تسمية «حضرموت» بهذا الاسم، هو أن حضرموت بن قحطان كان أول من نزلها، وكان اسمه عامرا وإذا حضر حربا أكثر فيها القتل. فصاروا يقولون عنه، حضرموت، فأطلق هذا الاسم على الأرض التي كانت تسكنها قبيلته، ثم أطلق بعد ذلك على جهة متسعة شرقي عدن بالقرب من البحر وهي كثيرة الرمال، ويقال: إن بها قبر هود عليه السلام، ويقال: إن اليمن سمي بذلك لوقوعه عن يمين الكعبة إذا استقبلت المشرق، ومن أشهر مدن اليمن (صنعاء) وهي قاعدته، وكانت عاصمة ملوك اليمن، وبقربها معادن للفحم الحجري لم تستغل للآن. وهي حسنة الأسواق واسعة التجارة وبقربها مدينة (مأرب) المسمَّاة (سبأ) نسبة لعبد شمس الملقب بسبأ، يقال: إنه بنى هناك سدا عظيما وساق إليه السيول من مكان بعيد، وشيد جزءا كبيرا من المدينة على السد المذكور، وفي بعض السنين تراكمت الأمطار فدفعت السد وهلك خلق كثير، فسمي السيل (سيل العَرِم) والعرم هو الذي لا يطاق دفعه، وفي تلك الجهات كتابات بالحرف المسند المعروف بالخط الحميري، ومن مدن اليمن (صعدة) إلى الشمال الغربي من صنعاء.

و(زبيد) إلى الغرب من صنعاء و(بيت الفقيه).

وبلاد الحجاز واقعة في شمالي اليمن، شرقي البحر الأحمر، وتمتد إلى خليج العقبة، وعلى ساحلها جزائر صغيرة تلتجىء إليها صغار السفن عند الحاجة، وسُمِّيَ «حجازا» لوقوعه بين نجد وتهامة.

وأشهر بلاد الحجاز، مكة المسمَّاة قديما عند علماء الإغريق (ماكورابا)، والمدينة المنورة - مدينة الرسول - وكانت تسمى مدينة (يثرب) وبها قبر الرسول وفي شماليها، جبل (أُحد) ويقال للمدينة طيبة ولها أسماء كثيرة، (والطائف) بلدة خصبة، طيبة المناخ، كثيرة البساتين والعيون والجداول واقعة شرقي مكة.

ومن أشهر بلاده خيبر، وهي واقعة بالشمال الشرقي من المدينة على طريق قوافل الشام، وبها سبعة حصون مشهورة عند العرب وهي: ناعم والقموص، حصن أبي الحقيق، وحصن الشق وحصن النطاة، وحصن السلالم وحصن الوطيح وحصن الكتيبة، وتوصف خيبر بكثرة الحمّيات.

وقسم تهامة، وهو على ساحل البحر الأحمر بين اليمن جنوبا والحجاز شمالا، وسُمِّيت تهامة لشدة حرها وركود ريحها.

ونجد، وهو جنوبي الشام وغربي العراق وشرقي الحجاز وشمالي اليمامة، وأراضيها خصبة وقاعدتها مدينة (الرياض) وكانت مركزا للوهابيين، وهدمها المرحوم إبراهيم باشا. وإلى الشمال منها، جبل شمر أي جبل (طي) قصبته مدينة الحائل، وأشهر مدنها (أبانا) وهي التي ولد فيها محمد بن عبد الوهاب، شيخ مذهب الوهابية.

وقسم اليمامة، وهو بين نجد واليمن، ويتصل بالبحرين شرقا، والحجاز غربا، ومن مدنه (اليمامة) وكانت مدينة عظيمة، ذات مياه ونخل، وهي مدينة مسيلمة الكذاب.

ومن أشهر ثغور بلاد العرب، (عَدَن) وهي على الساحل الجنوبي من بلاد العرب، واسعة التجارة، ومَخَا، وهي من الثغور الشهيرة على البحر الأحمر والمركز الأصلي لتجارة اليمن.

والحديدة، وهي من أشهر مدن اليمن، واقعة على البحر الأحمر، وترسو عليها سفن حجاج الهند.

وجُدة، على ساحل الحجاز على بعد 65 ميلا غربي مكة، وهي أحسن ثغور البحر الأحمر.

والعرب أقدم الأمم بعد الطوفان وتُنسب إلى يقظان أو قحطان. وامتاز العرب بالقوة والشجاعة.

وقد قسم المؤرخون العرب إلى ثلاثة أقسام: بائدة وعاربة ومستعربة.

أما البائدة، فهم العرب الأُول الذين ذهبت عنا تفاصيل أخبارهم لقدم عهدهم وانقطاع أسباب العلم بآثارهم وهم عاد وثمود وطسَمْ وجَديس وجُرْهم الأولى. وكانت مواطن عاد بأحقاف الرمل بين اليمن وعُمان إلى حضرموت والشحر. ولما انتحلوا عبادة الأصنام أبادهم الله، وأما ثمود فكانت ديارهم بالحجر ووادي القرى بين الحجاز والشام، وكانوا ينحتون بيوتهم في الجبال وكانوا أهل كفر وبغي، وأما جديس فكانت ديارهم باليمامة وهي إذ ذاك من أخصب البلاد وأعمرها وأكثرها ثمارا وحدائق وقصورا، وأما جُرهم الأولى، فكانت ديارهم باليمن وكانوا يتكلمون بالعبرانية فكانوا على عهد عاد واندثروا.

وأما جُرهم الثانية، فهم من ولد قحطان، وبهم اتصل إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام. وكانت مساكن بني قحطان بالحجاز، ولما أسكن إبراهيم الخليل ابنه إسماعيل في مكة نشأ بينهم وتزوج منهم وصار يطلق على أولاده العرب المستعربة، لأن أصل إسماعيل ولسانه كان عبرانيا ولذلك قيل له ولولده (العرب).

وأما العرب العاربة، فهم بنو سبأ، واسم سبأ عبد شمس، وقالوا إنه لما أكثر الغزو والسبي، سمي (سبأ) وهو ابن يشجب بن يعرب بن قحطان، وكان لسبأ عدة أولاد، منهم حِمْيَر وكهلان وعمر وأشعر وعاملة، بنو سبأ، وجميع قبائل اليمن وملوكها التبابعة من ولد سبأ، وجميع تبابعة اليمن من ولد حِمْيَر بن سبأ خلا عمران وأخيه موزيقياء فإنهما ابنا عامر بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلب بن مازن بن الأزد. والأزد من ولد كهلان بن سبأ، وقيل لهم (عاربة) لنزولهم بالبادية مع العرب البائدة وتخلقهم بأخلاقهم.

أما من حيث المعتقد في الجاهلية، فكانت العرب أصنافا: فصنف أنكروا الخالق والبعث وقالوا بالطبع والحين والدهر المفني كما أخبر الله عنهم في كتابه العزيز: {وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ} (الجاثية: 24). وصنف اعترفوا بالخالق وأنكروا البعث، وهم الذين أخبر الله عنهم بقوله: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاْوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} (قلله: 15).

وصنف عبدوا الأصنام، وكانت أصنامهم مختصة بالقبائل، فكان وُدّ لكلب وهو بدومة الجندل، وسُواع لهذيل، ويغوث ويعوق لمذحج ولقبائل من اليمن، ونسر لذي الكلاع بأرض حمير، ويعوق لهمدان، واللات لثقيف بالطائف، والعُزى لقريش وبني كنانة، ومناة للأوس والخزرج، وهُبل أعظم أصنامهم وكان على ظهر الكعبة، وكان إساف ونائلة بين الصفا والمروة. وكان منهم من يميل إلى اليهودية. ومنهم من يميل إلى النصرانية. ومنهم من يميل إلى الصابئة ويعتقد في أنواء المنازل. وكان منهم من يعبد الملائكة ومنهم من يعبد الجن. وكانت علومهم: علم الأنساب والأنواء والتواريخ وتعبير الرؤيا. وكانت الجاهلية تفعل أشياء جاءت الشريعة الإسلامية بها، فكانوا لا ينكحون الأمهات والبنات، وكان أقبح شيء عندهم الجمع بين الأختين، وكانوا يعيبون المتزوج بامرأة أخيه ويسمونه (الضَّيْزَنْ) وكانوا يحجون البيت ويعتمرون ويُحْرِمون ويطوفون ويسعون ويقفون المواقف كلها، ويرمون بالحجارة، وكانوا يكبسون في كل ثلاثة أعوام شهرا ويغتسلون من الجنابة الخ.

وملوك التبابعة هم بنو حمير، وقيل لهم تبابعة لأنه يتبع بعضهم بعضا، كلما هلك واحد منهم، قام آخر. ولم يكونوا يسمون الملك منهم بتبع حتى يملك اليمن والشحر وحضرموت.

ولم تزل تتوالى الملوك على حمير حتى صار الملك إلى ذي نواس سنة 480م واسمه زُرعة. ولما تغلب على ملك آبائه التبابعة تسمى (يوسف) وتعصَّب لدين اليهودية وحمل عليه قبائل اليمن فاستجمعت معه حمير على ذلك، وأراد أهل نجران عليها وكانوا من بين العرب يدينون بالنصرانية، وكان هذا الدين وقع إليهم قديما من بقية أصحاب الحواريين. ولما كان ذو نواس يدين باليهودية ويتعصَّب لها، اتخذ أخدودا وأضرمه نارا، وكان كل من لم يتهوَّد ألقاه في الأخدود، فقيل له (صاحب الأخدود) ويقال: إن رجلا من أهل نجران أفلت من القتل وسار حتى قدم على قيصر، صاحب الروم يستنصره على ذي نواس، فبعث إلى ملك الحبشة يأمره بنصره، فحاربه النجاشي وهزمه وانقرض أمر التبابعة سنة 529م ودخل أرياط اليمن بالحبشة وأذل حمير وهدم حصون الملك، وعلى ذلك انتهى ملك حمير من اليمن مدة ذي نواس. وبعد ذلك خرج على أرياط أحد رؤساء الحبشة وحاربه وقتله، ثم أقاموا أبرهة ملكا وهو الملقب (بالأشرم) وسيأتي ذكره في قصة الفيل، ولما مات أبرهة، تولى بعده ابنه يكسوم سنة 571م وأذل حمير وقبائل اليمن.

هذا ملخص عن بلاد العرب وتاريخها نقدمه للقراء، وبعدئذ نبدأ بذكر السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.

نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم

هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصيّ بن كلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤي بن غالب بنِ فِهْر بن مالك بن النضر بن كِنانة بن خُزيمة بن مُدركة بن إلياس بن مُضَر بن نِزار بن مَعدّ بن عدنان.

إن نسب سيدنا محمد لا يختلف النسابون فيه إلى معد بن عدنان كما هو مذكور ها هنا، وإنما اختلف النسابون من عدنان إلى إسماعيل، لكنهم أجمعوا على أنه ينتهي إلى إسماعيل، وكره الإمام مالك رفع النسب إلى آدم لعدم ثبوته، وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي لما بلغ نسبه الكريم إلى عدنان قال: «من ها هنا كذب النسابون».

ومُضر وربيعة هم صريح ولد إسماعيل باتفاق جميع أهل النسب.

وهذا النسب أشرف الأنساب، عن العباس رضي الله عنه أن النبي قال: «إن الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم، ثم تخيّر القبائل فجعلني من خير قبيلة، ثم تخيّر البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا». وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم».

مناقب أجداده صلى الله عليه وسلم

النبي من سلالة آباء كرام، وكلهم سادة وقادة، ولهم مكان مكين ومقام بين العرب عظيم، وقد اشتهروا بالحكمة والشجاعة والإقدام والكرم كما يتبين ذلك مما نذكره بالاختصار من مناقبهم وأخبارهم.

فقد كان (معد) صاحب حروب وغارات على بني إسماعيل، ولم يحارب أحدا إلا رجع بالنصر، وهو أبو العرب.

وكان (نزار) أجمل أهل زمانه وأرجحهم عقلا.

وكان (مضر) جميلا كذلك، ولم يره أحد إلا أحبه، ومن حكمه المأثورة:

«خير الخير أعجله، فاحملوا أنفسكم على مكروهها، واصرفوها عن هواها فيما أفسدها، فليس بين الصلاح والفساد إلا صبر فواق».

والفواق ما بين الحلبتين، ومضر أول من حدا للإبل وكان من أحسن الناس صوتا.

وكان (إلياس) في العرب مثل لقمان الحكيم في قومه، ومن حكمه: «من يزرع خيرا يحصد غبطة، ومن يزرع شرا يحصد ندامة».

وأما (فهر) فإليه جماع قريش، وما كان فوق فهر فلا يقال له قرشي بل يقال له كناني، واسمه قريش، وكان فهر كريما يفتش على حاجة المحتاج فيسدها بماله، وهو الجد السادس لأبي عبيدة بن الجراح.

(كعب): وهو الجد الثامن لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان يجمع قومه يوم العَروبة أي يوم الرحمة وهو يوم الجمعة، فيعظهم ويذكرهم بمبعث النبي وينبئهم بأنه من ولده ويأمرهم باتباعه.

(مُرَّة): وهو الجد السادس لرسول الله والجد السادس أيضا لأبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه، وفي مُرة أيضا يجتمع نسب الإمام مالك بنسب الرسول

(كلاب): اسمه حكيم، وقيل: عروة، ولقّب بكلاب لأنه كان يكثر الصيد بالكلاب، وهو الجد الثالث لآمنة أمه فهو ملتقى نسب أبيه بنسب أمه، وقيل: إنه أول من سمى الأشهر العربية المستعملة إلى الآن.

(قُصيّ): ولد حوالي سنة 400م اسمه زيد، ويقال له: مُجمِّع، وبه جمع الله القبائل من قريش في مكة بعد تفرّقها فأنزلهم أبطح مكة، وكان بعضهم في الشعاب ورؤوس الجبال بمكة، فقسم منازلهم فسمي مجمعا، وهذا عمل جليل وفضل عظيم لا يتم إلا على يد ذوي النفوس الأبية والهمم العالية، وقُصيّ أول من أوقد نار المزدلفة وكانت توقد حتى يراها من دفع من عرفة، وهو أول من جدد بناء الكعبة من قريش بعد إبراهيم، وقيل: إنما لقِّب قصيا لأنه أُبعد عن أهله ووطنه مع أمه بعد وفاة أبيه، فإنها تزوجت ربيعة بن حرام فرحل بها إلى الشام.

وفيه يقول حذافة بن غانم:

أبوكم قصي كان يدعى مجمعا ** به جمع الله القبائل من فهر

وكان إلى قصيّ في الجاهلية حجابة البيت، وسقاية الحاج، وإطعامه المسمى بالرفادة، والندوة وهي الشورى لا يتم أمر إلا في بيته، ولا يعقد عقد نكاح إلا في داره، ولا يعقد لواء حرب إلا فيها، فكان بيته عبارة عن ناد للعرب، بل هو ملجؤهم في جميع المشكلات سواء كانت هذه المشكلات قومية أم شخصية.

ولما حضرته الوفاة نهى بنيه عن الخمر، ولا بد أنه أدرك مضرتها فنهى أحب الناس إليه عن احتسائها، وتوفي قُصيّ عام 480 فعاش 80 عاما.

ومن كلامه الدال على تجاربه ورجاحة عقله:

«من أكرم لئيما شاركه في لؤمه، ومن استحسن قبيحا تُرك إلى قبحه، ومن لم تصلحه الكرامة أصلحه الهوان، ومن طلب فوق قدره استحق الحرمان، والحسود هو العدو الخفي»، وإذا كنا نحكم على الإنسان بكلامه فهذا يدل على أن قُصيا كان يبغض اللؤم والقبح بغضا شديدا، وكان شجاعا كارها للغرور والحسد.

(عبد مناف): اسمه المغيرة، وكان يقال له: «قمر البطحاء» لحسنه وجماله، وكانت قريش تسميه الفيّاض لكرمه، وهو الجد الرابع لعثمان بن عفان والجد التاسع للإمام الشافعي.

(هاشم): واسمه عمرو بن عبد مناف، ويقال له: عمرو العلا لعلو رتبته، وهو أخو عبد شمس، وقد ساد قومه بعد أبيه عبد مناف، وقد وقعت مجاعة شديدة في قريش بسبب جدب شديد حصل لهم، فخرج هاشم إلى الشام فاشترى دقيقا وكعكا وقدم به مكة في الموسم فهشم الخبز والكعك ونحر جُزُرا وجعل ذلك ثريدا وأطعم الناس حتى أشبعهم فسمي بذلك «هاشما». وكان يقال له: «سيد البطحاء»، والبطحاء مسيل الوادي - ولم تزل مائدته منصوبة في السراء والضراء، وكان موسرا يؤدي الحق ويؤمّن الخائف، وهو أول من سنّ الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء ورحلة الصيف، فكان يرحل في الشتاء إلى اليمن وإلى الحبشة، وفي الصيف إلى الشام، قال الشاعر:

عمرو الذي هشم الثريد لقومه ** ورجال مكة مسنتون عجاف

سُنَّتْ إليه الرحلتان كلاهما ** سفر الشتاء ورحلة الأصياف

وقد جاء ذكر الرحلتين في القرآن الكريم بسورة «قريش» قال تعالى: {لإِيلَفِ قُرَيْشٍ إِيلَفِهِمْ رِحْلَةَ الشّتَآء وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ} (قريش: 1 - 4).

ومات هاشم بغزة من أرض الشام تاجرا سنة 510م.

(عبد المطلب): وأمه سلمى بنت زيد النجارية. واسم عبد المطلب شيبة الحمد لأنه ولد وله شيبة، مع رجاء حمد الناس له، وإنما قيل له عبد المطلب لأن عمه المطلب أردفه خلفه وكان بهيئة رثة لفقره فقيل له: من هذا؟ فقال: عبدي، حياءً ممن سأله. وكان عبد المطلب مجاب الدعوة، وكان يرفع من مائدته للطير والوحوش في رؤوس الجبال، وهذا إحساس لطيف ورفق بالحيوان الأعجم، ولذا يقال له: «مطعم الطير»، ويقال له: «الفيَّاض». وكان مفزع قريش في النوائب وملجأهم في الأمور وشريفهم وسيدهم كمالا وفعالا، وهو أول من تحنَّث (تعبَّد) بحراء. كان إذا دخل شهر رمضان، صعد حراء وأطعم المساكين. وعاش مائة وعشرين سنة أو أكثر وقد انتهت إليه الرياسة بعد عمه المطلب. وكان يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيَّات الأمور. ورفض عبد المطلب في نهاية عمره عبادة الأصنام ووحَّد الله. وقال دغفل النسَّابة: إن عبد المطلب كان أبيض، مديد القامة حسن الوجه في جبينه نور النبوّة وعز الملك، يطيف به عشرة من بنيه كأنهم أُسْد غاب.

وهو الذي كشف عن زمزم بئر إسماعيل، وأقام سقايتها للحجاج، فكانت له فخرا وعزا على قريش وعلى سائر العرب.

وكان يكرم النبي ويعظمه وهو صغير ويقول: «إن لابني هذا لشأنا عظيما»، وذلك مما كان يسمعه من الكهان والرهبان قبل مولده وبعده. وكانت كنية عبد المطلب «أبا الحارث» كني بذلك لأن الأكثر من ولده الذكور كان اسمه الحارث.

أولاد عبد المطلب أعمام رسول الله وعماته

أولاد عبد المطلب عشرة ذكور: عبد الله وأبو طالب «واسمه عبد مناف» والزبير (أمهم فاطمة بنت عمرو المخزومية). العباس - جد الخلفاء العباسيين - وضرار (أمهما نتيلة العمرية). حمزة والمقوم (أمهما هالة بنت وهب). أبو لهب وهو عبد العزى (أمه لُبنى الخزاعية). الحارث (أمه صفية من بني عامر بن صعصعة). الغيداق (أمه ممنعة) واسمه حجل.

وست نسوة وهن: صفية وأم حكيم البيضاء وعاتكة وأميمة وأروى وبرة.

أما (عبد الله) فهو أبو رسول الله ويكنى أبا قثم، وقيل: أبا محمد، وقيل: أبا أحمد، وهو أصغر أولاد عبد المطلب.

وقيل إن عبد المطلب أول من خضب بالوسمة أي السواد، لأنَّ الشّيب أسرع إليه وكان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين جميع الشهر، وكان صعوده للتخلي عن الناس يتفكر في جلال الله وعظمته.

ويؤثر عن عبد المطلب سنن جاء القرآن وجاءت السنّة بها، منها الوفاء بالنذر، والمنع من نكاح المحارم، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموءودة، وتحريم الخمر والزنا والحد عليه، وألا يطوف بالبيت عُريان، وتعظيم الأشهر الحرم. وهو أول من سنَّ دية النفس مائة من الإبل فجرت في قريش، ثم نشأت في العرب وأقرَّها رسول الله.

وكان نديمه في الجاهلية حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف والد أبي سفيان، وكان في جوار عبد المطلب يهودي فأغلظ ذلك اليهودي القول على حرب في سوق من أسواق تهامة فأغرى عليه حرب مَن قتله، فلما علم عبد المطلب بذلك ترك منادمة حرب، ولم يفارقه حتى أخذ منه مائة ناقة دفعها لابن عم اليهودي حفظا لجواره، ثم نادم عبد الله بن جُدعان التيمي.

نذر عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم

كان عبد المطلب نذر حين لقي من قريش العَنَتَ في حفر بئر زمزم لئن ولد له عشر نفر وبلغوا معه حتى يمنعوه لينحرنَّ أحدهم عند الكعبة لله تعالى، ولم يكن له ولد إلا الحارث.

وقد ارتاب بعضهم في حكاية هذا النذر، لكنا لا نرى مندوحة عن ذكرها لأنها وردت في أمّهات كتب التاريخ التي استقينا منها، فقد رواها ابن إسحاق ونقلها الطبري وابن الأثير وابن سعد في «طبقاته».

ولما بلغ أولاد عبد المطلب عشرة وعرف أنهم سيمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه وقالوا: كيف نصنع؟ قال: يأخذ كل رجل منكم قِدْحا ثم يكتب فيه اسمه. ففعلوا وأتوه بالقداح، فدخلوا على هُبل في جوف الكعبة وكان أعظم أصنامهم، وهو على بئر يجمع فيه ما يهدى إلى الكعبة، فقال عبد المطلب لصاحب القداح: اضرب على بنيّ هؤلاء بقداحهم هذه وأخبره بنذره الذي نذر، وكان عبد الله أصغر إخوته وأحبهم إلى أبيه، فلما أخذ صاحب القداح يضرب، قام عبد المطلب يدعو الله تعالى، ثم ضرب صاحب القداح فخرج قدح عبد الله، فأخذ عبد المطلب بيده ثم أقبل إلى (إساف ونائلة) وهما الصّنمان اللذان ينحر الناس عندهما، فقامت قريش من أنديتها فقالوا: ماذا تريد أن تصنع؟ قال: أذبحه. فقالت قريش وبنوه: والله لا ندعك تذبحه أبدا حتى تُعذر فيه، ولئن فعلت هذا لا يزال الرجل منا يأتي بابنه حتى يذبحه، فقال له المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم: والله لا تذبحه حتى تعذر فيه فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه.

وقالت قريش وبنوه: لا تفعل، وانطلق إلى كاهنة بالحجر فسلها، فإن أمرتك بذبحه ذبحته، وإن أمرتك بمالك وله فيه فرج قبلته. فانطلقوا حتى أتوها فقصَّ عليها عبد المطلب خبره، فقالت لهم: ارجعوا اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله، فرجعوا عنها، ثم غدوا عليها فقالت: نعم قد جاءني الخبر فكم دية الرجل عندكم؟ قالوا: عشرة من الإبل وكانت كذلك، قالت: ارجعوا إلى بلادكم وقربوا عشرا من الإبل واضربوا عليها وعليه بالقداح، فإن خرج على صاحبكم فزيدوا في الإبل عشرا ثم اضربوا أيضا حتى يرضى ربكم، وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم.

فخرجوا حتى أتوا مكة ثم قربوا عبد الله وعشرا من الإبل فخرجت القداح على عبد الله، فزادوا عشرا فخرجت القداح على عبد الله، فما برحوا يزيدون عشرا وتخرج القداح على عبد الله حتى بلغت الإبل مئة ثم ضربت فخرجت القداح على الإبل فقال من حضر: قد رضي ربك يا عبد المطلب. فقال عبد المطلب: لا والله حتى أضرب ثلاث مرات، فضربوا ثلاثا فخرجت القداح على الإبل فنُحرت، ثم تركت لا يُصدُّ عنها إنسان ولا سبع.

إن خروج القداح على عبد الله في كل مرة حتى بلغت الإبل مئة من غرائب الصدف، ولولا معارضة قريش وبنيه ومشورة الكاهنة لذهب عبد الله قربانا لنذر عبد المطلب، ولكن شاء الله سبحانه وتعالى أن يحفظ أبا محمد حتى يظهر محمد رسول الله

قد التجأ عبد المطلب إلى هذا النذر لما عارضه عديّ بن نوفل بن عبد مناف في حفر زمزم وآذاه وقال له: «يا عبد المطلب أتستطيل علينا وأنت فذّ لا ولد لك؟»، فقال: «أبالقلة تعيّرني فوالله لئن آتاني الله عشرة من الولد ذكورا لأنحرن أحدهم عند الكعبة»، وقيل: سفه عليه وعلى ابنه ناس من قريش ونازعوهما وقاتلوهما فاشتدت بذلك بلواه وكان معه ولده الحارث ولم يكن له سواه، فنذر ذلك النذر الذي ذكرناه.

انصرف عبد المطلب بعد أن نحر الإبل آخذا بيد ابنه عبد الله فمر به على امرأة من بني أسد بن عبد العزى بن قصيّ وهي عند الكعبة، فقالت له حين نظرت إلى وجهه: أين تذهب يا عبد الله؟ قال: مع أبي، قالت: لك مثل الإبل التي نحرت عنك وقع عليَّ الآن، فأبى وقال: إن معي أبي لا أستطيع خلافه ولا فراقه. وكان عبد الله أحسن رجل رئي في قريش، وكان ذا عفة وسماحة، وكانت ولادة عبد الله نحو سنة 545م.

زواج عبد الله

خرج عبد المطلب بعبد الله يريد تزويجه حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زُهرة وهو يومئذ سيد بني زهرة سنّا وشرفا، فزوجه ابنته آمنة بنت وهب وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا، فحملت برسول الله فانتقل النور منه إليها، ثم خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه نفسها فقال لها: «ما لك لا تعرضين عليّ اليوم ما كنت عرضت عليّ بالأمس؟»، فقالت له: فارقك النور الذي كان معك بالأمس فليس لي بك اليوم حاجة؛ وقد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل - وكان قد تنصر واتبع الكتب - أنه كائن لهذه الأمة نبيّ. وكان تزويج عبد الله من آمنة بعد حفر زمزم بعشر سنين، وكان اسم عبد الله عبد الدار، فلما كان في السنة التي فُدِيَ فيها قال عبد المطلب: «هذا عبد الله» فسماه يومئذ كذلك.

وبعد زواج عبد الله بقليل خرج من مكة قاصدا الشام في تجارة وبعد أوبته منها، نزل بالمدينة وهو مريض وبها أخواله من بني النجار، فأقام عندهم شهرا وهو مريض، وتوفي لشهرين من الحمل بابنه محمد ودفن في دار النابغة في الدار الصغرى إذا دخلت الدار على يسارك في البيت وله خمس وعشرون سنة، وهذا هو المشهور، وقيل: ثمان وعشرون سنة، وترك عبد الله جاريته أم أيمن بركة الحبشية، وخمسة جمال وقطعة من غنم، وقد رثته آمنة بهذه الأبيات:

عفا جانبُ البطحاء من آل هاشم ** وجاور لحدا خارجا في الغماغم

دعته المنايا دعوةً فأجابها ** وما تركت في الناس مثلَ ابن هاشم

عشيّةَ راحوا يحملون سريره ** تعاوره أصحابُه في التزاحم

فإن تك غالته المنون وريبُها ** فقد كان مِعطاء كثير التراحم

إن آمنة وعبدالله لم يلدا غير رسول الله ولم يتزوج عبدالله غير آمنة، ولم تتزوج آمنة غيره.

أصحاب الفيل

من الحوادث المهمة التي وقعت عام مولده حوالي سنة 570 من الميلاد قدوم أبرهة الأشرم ملك اليمن إلى مكة لهدم الكعبة وهذه خلاصتها:

إن الحبشة ملكوا اليمن بعد حمير فلما صار المُلك إلى أبرهة بن الصباح الأشرم، بنى كنيسة عظيمة بصنعاء إلى جنب غُمدان يقال لها القُليس لم ير مثلها في زمانها بناها بالرخام وجيد الخشب المذهب وقصد أن يصرف حج العرب إليها ويبطل الكعبة، فلما تحدث العرب بذلك غضب رجل من النّساءة من بني فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر.

والنساءة الذين كانوا ينسئون الشهور على العرب في الجاهلية فيحلون الشهر من الأشهر الحرم ويحرمون مكانه الشهر من الأشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر، ففيه أنزل الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا النَّسِىء زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} (التوبة: 37)، قال ابن هشام: ليواطئوا ليوافقوا؛ وكان أول من نسأ الشهور على العرب فأحلت منها ما أحل وحرمت منها ما حرم القلمس وهو حذيفة بن عبد الله بن فقيم، وأول الأشهر الحرم «المحرم»، فخرج الكناني حتى أتى القليس «الكنيسة» وتغوّط فيها ليلا ثم خرج فلحق بأرضه، فلما أُخبر بذلك أبرهة غضب وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه (وسُمي هذا العام بعام الفيل) فلما وصل إلى الطائف بعد أن هزم من تعرض له من العرب، بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود إلى مكة فساق أموال أهلها وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم وأحضرها إلى أبرهة، وأرسل أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وقال له: سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم، فسأل فقيل له عبد المطلب فقال له: إن الملك يقول إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت، فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه ولا لنا بذلك طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم فإن لم يمنعه منه فهو بيته وحرمه وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه. ثم انطلق عبد المطلب مع رسول أبرهة إليه فلما استؤذن لعبد المطلب قالوا لأبرهة: هذا سيد قريش فأذن له فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته وكره أن تراه الحبشة معه على سرير ملكه فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال له: حاجتك؟ فذكر عبد المطلب أباعره التي أخذت له، فقال أبرهة: قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حتى كلمتك، أتكلمني عن مائة بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟ قال له عبد المطلب: أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه، فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل فانصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز بالجبال والشعاب تخوفا عليهم معرة الجيش وقد كانوا أكثر من قريش عددا، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجيشه، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:

لا هُمَّ إن العبد يمـ ** نع رحله فامنع حِلالك

لا يغلبن صليبهم ** ومحالهمِ غدوا محالك

إن كنت تاركهم وقبـ ** لتنا فأَمرٌ ما بدا لك

فلما تهيأ أبرهة لدخول مكة وهيأ فيله الأعظم (محمودا) وهو مجمع على هدم البيت فكانوا كلما وجهوا الفيل إلى مكة برك ولم يبرح، وإذا وجهوه إلى سائر الجهات قام يهرول. ويقال: كان عدد الفيلة في هذه الموقعة ثلاثة عشر فيلا، وبينما هم كذلك أرسل الله عليهم طيرا أبابيل من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طائر ثلاثة أحجار، واحد في منقاره واثنان في رجليه فقذفتهم بها وهي مثل الحمص والعدس لا تصيب أحدا منهم إلا هلك، وليس كلهم أصابت، ثم أرسل الله تعالى سيلا فألقاهم في البحر والذي سلم منهم ولى هاربا مع أبرهة إلى اليمن يبتدر الطريق وأصيب أبرهة بتساقط أعضائه وخرجوا به معهم تتساقط أعضاؤه حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فما مات حتى انصدع صدره عن قبله، وقيل: أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام، ولما مات أبرهة، ملك مكانه ابنه يكسوم سنة 571م.

ونظرا لأهمية هذا الحادث صار العرب يؤرخون به؛ إذ لو تغلب أبرهة على قريش وتم له هدم الكعبة لأدخلت الديانة المسيحية مكة وأُرغم العرب على اعتناقها لأن اليمن كانت تابعة لأمراء الحبشة المسيحيين وأُرغم كثير من أهلها سواء من عباد الأصنام أو اليهود على اعتناق المسيحية وكانت قريش تؤرخ السنين بموت قصيّ بن كلاب لجلالة قصيّ، فلما كان عام الفيل أرخت به.

وقد ذكرت حادثة الفيل في القرآن قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَبِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} (الفيل: 1 - 5).

يخبر الله تعالى رسوله بما حدث لأصحاب الفيل أي الجيش الذي سار لهدم الكعبة، ومعهم الفيل وما كان من انهزامهم بما سلطه الله عليهم من جماعات الكير ترمي العدو بحجارة من سجيل، وتفسير السجِّيل، طين يابس أو متحجر. وورد ذكر السجيل أيضا في القرآن في سورة الحجر، قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ} (الحجر: 74)، أي على قوم لوط، وقال في سورة هود: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنْضُودٍ} (هود: 82).

وقد أخطأ من فسّره بالميكروب، لأن اللفظ لا يفيد ذلك في اللغة، وقد فتكت هذه الأحجار الصغيرة بالجيش الهاجم فعاد مهزوما من غير أن يبلغ مأربه، وجعلهم كعصف مأكول أي كورق زرع تأكله الدواب، فلما أصيبوا بهذه الحجارة تساقطت لحومهم، فإن قيل: كيف يتصور أن هذه الحجارة الصغيرة تفتك بالجيش؟ فهذه قدرة الله سبحانه وتعالى، وقد كان قادرا على أن يهزمهم ويردهم من غير أن يسلط عليهم الطير ولكنه جعل ذلك سببا.

وبانهزام الحبشة كما تقدم حفظ الله بيته الحرام من أن يهدم، وقد صار فيما بعد قبلة المسلمين في جميع أقطار الأرض.

مولده صلى الله عليه وسلم 20 أغسطس سنة 570م

ولد النبي في فجر يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول 20 أغسطس سنة 570 م (وأهل مكة يزورون موضع مولده في هذا الوقت) في عام الفيل، ولأربعين سنة خلت من حكم كسرى أنوشروان خسرو بن قباذ بن فيروز بمكة في المكان المعروف بسوق الليل في الدار التي صارت تدعى بدار محمد بن يوسف الثقفي أخي الحجاج بن يوسف وأدخل ذلك البيت في الدار حتى أخرجته الخيزران أم الهادي والرشيد فجعلته مسجدا يُصلى فيه وكانت قبل ذلك لعقيل بن أبي طالب. ونزل على يد الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف فهي قابلته، رافعا بصره إلى السماء واضعا يده بالأرض. وكانت أمه تحدث أنها لم تجد حين حملت به ما تجده الحوامل من ثقل ولا وحم ولا غير ذلك. ولما ولدته أمه عليه الصلاة والسلام أرسلت إلى جده وكان يطوف بالبيت تلك الليلة فجاء إليها فقالت له: يا أبا الحارث ولد لك مولود عجيب، فذعر عبد المطلب وقال: أليس بشرا سويا؟ فقالت: نعم، ولكن سقط ساجدا ثم رفع رأسه وأصبعيه إلى السماء فأخرجته ونظر إليه وأخذه ودخل به الكعبة وعوَّذه ودعا له ثم خرج ودفعه إليها، وهو الذي سماه محمدا، فقيل: كيف سميت بهذا الاسم وليس لأحد من آبائك؟ فقال: إني لأرجو أن يحمده أهل الأرض كلهم، وكانت تلك السنة التي حمل فيها برسول الله سنة الفتح والابتهاج فإن قريشا كانت قبل ذلك في جدب وضيق عظيم فاخضرّت الأرض وحملت الأشجار وأتاهم الرغد في تلك السنة، ومن عجيب ما وقع عند ولادته ما رُوي من ارتجاج إيوان كسرى وسقوط أربع عشرة شرفة من شرفاته وذلك إشارة إلى أنه لم يبق من ملوكهم المستبدين بالملك إلا أربعة عشر ملكا، فهلك عشرة في أربع سنين وهلك أربعة إلى زمن عثمان رضي الله عنه، وغيض بحيرة طبرية بفلسطين إشارة إلى أنه يحصل لأصحابها بأس شديد، وخمود نار فارس وكان على ما يقال لها ألف عام لم تخمد كما رواه البيهقي وأبو نعيم والخرائطي في «الهواتف» وابن عساكر. ومن ذلك أيضا ما وقع من زيادة حراسة السماء بالشهب وقطع رصد الشياطين ومنعهم من استراق السمع، ولقد أحسن الشقراطيسي حيث قال:

ضاءت لمولده الآفاق واتصلت ** بشرى الهواتف في الإشراق والطفل

وصَرْح كسرى تداعى من قواعده ** وانقضّ منكسر الأرجاء ذا ميل

ونار فارس لم توقد وما خمدت ** مذ ألف عام ونهر القوم لم يسل

خرَّت لمبعثه الأوثان وانبعثت ** ثواقب الشهب ترمي الجن بالشهب

وينسب بعضهم ذلك إلى أنه حدث في ذلك الوقت زلزال عظيم، قال اليعقوبي في «تاريخه»: «وأصابت الناس زلزلة عمت جميع الدنيا» الخ، ويُروى أن الرشيد أراد هدم إيوان كسرى فقال له وزيره يحيى بن خالد البرمكي: يا أمير المؤمنين، لا تهدم بناء هو آية الإسلام، وقال البوصيري في الهمزية:

وتداعى إيوان كسرى ولولا ** آية منك ما تداعى البناء

وغدا كل بيت نار وفيه ** كربة من خمودها وبلاء

وعيون للفرس غارت فهل كا ** ن لنيرانهم بها إطفاء

وفي سابع يوم من ولادته عَقَّ عنه جده بكبش.

الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم

قال الإمام أبو شامة شيخ النووي: ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل كل عام في اليوم الموافق ليوم مولده من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء، مشعر بمحبة النبي وتعظيمه في قلب فاعل ذلك وشكر الله تعالى على ما منَّ به من إيجاد رسوله الذي أرسله رحمة للعالمين.

قال السخاوي: إن عمل المولد حدث بعد القرون الثلاثة ثم لا زال أهل الإسلام في سائر الأقطار والمدن الكبار يعملون المولد ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم. وقال ابن الجوزي: من خواصه أنه أمان في ذلك العام وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام، وأول من أحدثه من الملوك، الملك المظفر أبو سعيد صاحب إربل، وألف له الحافظ بن دحية تأليفا أسماه: «التنوير في مولد البشير النذير» فأَجازه الملك المظفر بألف دينار، وصنع الملك المظفر المولد وكان يعمله في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا، وكان شهما شجاعا بطلا عاقلا عادلا، وقيل: إنه كان يصرف على المولد ثلاثمائة ألف دينار.

وكان السلطان أبو حمو موسى صاحب تلمسان يحتفل ليلة المولد غاية الاحتفال كما كان ملوك المغرب والأندلس في ذلك العصر وما قبله. ومن احتفاله له ما حكاه الحافظ سيدي أبو عبد الله التنسي، ثم التلمساني في كتابه «راح الأرواح فيما قاله المولى أبو حمو من الشعر، وقيل فيه من الأمداح» وما يوافق ذلك على حسب الاقتراح ونصه. إنه كان يقيم ليلة الميلاد النبوي على صاحبه الصلاة والسلام بمشورة من تلمسان المحروسة مدعاة حفيلة يحشر فيها الناس خاصة وعامة فما شئت من نمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة، وبسط موشاة ووسائد بالذهب مغشاة، وشمع كالأسطوانات وموائد كالهالات، ومباخر منصوبة كالقباب يخالها المبصر تبرا مذابا، ويفاض على الجميع أنواع الأطعمة كأنها أزهار الربيع المنمنمة، فتشتهيها الأنفس وتستلذها النواظر ويخالط حسن رياها الأرواح ويخامر رتب الناس فيها على مراتبهم ترتيب احتفال وقد علت الجميع أبهة الوقار والإجلال، وبعقب ذلك يحتفل المستمعون بأمداح المصطفى عليه الصلاة والسلام، ومفكرات ترغب في الإقلاع عن الآثام يخرجون فيها من فن إلى فن ومن أسلوب إلى أسلوب ويأتون من ذلك بما تطرب له النفوس وترتاح إلى سماعه القلوب، وبالقرب من السلطان رضوان الله تعالى عليه خزانة المنجانة قد زخرفت كأنها حُلة يمانية لها أبواب موجفة على عدد ساعات الليل الزمانية فمهما مضت ساعة وقع النقر بقدر حسابها وفتح عند ذلك باب من أبوابها وبرزت منه جارية صورت في أحسن صورة، في يدها اليمنى رقعة مشتملة على نظم فيه تلك الساعة باسمها مسطورة فتضعها بين يدي السلطان بلطافة ويسراها على فمها كالمؤدية بالمبايعة حق الخلافة. هكذا حالهم إلى انبلاج عمود الصباح ونداء المنادي حيّ على الفلاح، انتهى.

وفي زماننا هذا يحتفل المسلمون بيوم مولده في جميع الأمم الإِسلامية، وفي القطر المصري تتلى الأذكار وتوزع الصدقات على الفقراء والمحتاجين، وفي القاهرة يتحرك موكب أرباب الطرق بعد الظهر أمام المحافظة ويسير قاصدا ميدان الاحتفال بالعباسية مجتازا شوارع تحت الربع فالسكرية فالغورية فميدان الإشراقية فالفحامين فالحسينية فالعباسية ويشتد الزحام في هذه الشوارع وتتقدم الموكب كوكبة من فرسان رجال الشرطة وتحف به من الجانبين قوة من رجال الجيش، وقد جرت عادة الحكومة أن تحتفل بهذا اليوم المبارك احتفالا رسميا في العباسية حيث تقام سرادقات للوزارات ويتوجه جلالة الملك أو نائبه إلى مكان الاحتفال وهناك يستعرض الحامية المصرية على أثر وصوله، ثم ينتقل إلى السرادق ويستقبل رجال الطرق الصوفية بأعلامهم وبعدئذ يقصد سرادق شيخ مشايخ الطرق الصوفية فيستمع لتلاوة القصة النبوية وبعد سماعها يخلع على تاليها الخلعة الملكية وتدار المرطبات والحلوى على الحاضرين ثم ينصرف بعد ذلك بموكبه الحافل أثناء قصف المدافع، وفي المساء تنار الزينات المقامة على السرادقات وتطلق الألعاب النارية البديعة، وفي الصباح تعطل الحكومة وزاراتها ومصالحها وتتلى القصة النبوية الشريفة في المشهد الحسيني بحضور محافظ مصر، وقد أبطلت بدع كثيرة بفضل عناية رجال الدين ويقظة رجال الإدارة.

هذا ولا نزال نطالب ولاة الأمور بمنع كل ما يخالف الدين من آثار وما يجري في الموالد عادة لأن ذلك يشوِّه محاسن الإسلام ويفسد المقاصد الشريفة من إقامة مولد رسول الله

أسماؤه صلى الله عليه وسلم

قال رسول الله «إن لي أسماء: أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدميّ، وأنا العاقب (والعاقب الذي ليس بعده نبي) وقال: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا نبي الرحمة ونبي التوبة، وأنا المقفى وأنا الحاشر وأنا نبي الملاحم»، وفي «التهذيب»: سمَّاه الله عز وجل في القرآن رسولا، نبيّا شاهدا، مبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، ورؤوفا رحيما، وجعله رحمة ونعمة وهاديا ومن أسمائه: الفاتح، وطه، ويس، وعبد الله وخاتم الأنبياء والمختار، وكنيته أبو القاسم وكناه جبريل «أبا إبراهيم».

مرضعاته صلى الله عليه وسلم

أرضعته من النساء ثمان وقيل أكثر، أولاهن أمه آمنة ثم ثويبة الأسلمية جارية عمه أبي لهب التي أعتقها حين بشرته بولادته أياما قبل قدوم حليمة، وخولة بنت المنذر وأم أيمن، وامرأة سعدية غير حليمة، وثلاث نسوة من العواتك.

وأكثرهن إرضاعا له حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية وتكنَّى أم كبشة. وكان من عادة العرب إذا ولد لهم مولود أن يلتمسوا له مرضعة من غير قبيلتهم ليكون أنجب للولد وأفصح له، فجاءت نسوة من بني سعد إلى مكة يلتمسن الرضعاء ومعهن حليمة السعدية في سنة شديدة القحط، فكل امرأة أخذت رضيعا إلا حليمة وقد كانت تحدث أنها خرجت من بلدها مع زوجها - الحارث بن عبد العزى - وابن لها صغير ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسن الرضعاء، قالت: وهي سنة شهباء لم تبق لنا شيئا، فخرجت على أتان لي قمراء معنا شارف لنا والله ما تبض بقطرة وما ننام ليلنا من صبينا الذي معنا من بكائه من الجوع، ما في ثدييّ ما يغنيه وما في شارفنا ما يغذيه ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتاني تلك فلقد أدمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفا وعجفا حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله فتأباه إذا قيل لها: إنه يتيم وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول يتيم وما عسى أن تصنع أمه وجده؟ فكنا نكرهه لذلك فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعا فقلت لزوجي: والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، فقال: لا بأس عليك أن تفعلي عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة، فذهبت إليه فأخذته وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره، فلما أخذته رجعت به إلى رحلي فلما وضعته في حجري أقبل على ثدييَّ بما شاء من لبن فشرب حتى رُوي وشرب معه أخوه حتى رُوي ثم ناما وما كنا ننام منه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا فإذا إنها لحافل فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا ريا فبتنا بخير ليلة، وقال صاحبي حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة، فقلت: والله إني لأرجو ذلك، ثم خرجنا وركبت أتاني وحملته عليها معي فوالله لقطعت بالركب ما لا يقدر عليه شيء من حُمُرهم حتى إن صواحبي ليقلن لي: يا ابنة أبي ذؤيب ويحك اربعي علينا أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فأقول لهن: بلى والله إنها لهي، فيقلن: والله إن لها شأنا، ثم قدمنا منازلنا في بلاد بني سعد وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها فكانت غنمي تروح عليّ حين قدمنا به معنا شباعا لبنا فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب فتروح أغنامهم جياعا وما تبض بقطرة لبن وتروح غنمي شباعا لبنا فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على مكثه فينا لما كنا نرى من بركته فلم نزل بها حتى ردته معنا.

شق الصدر

قالت حليمة: فرجعنا فوالله إنه بعد مقدمنا بأشهر مع أخيه لفي بَهم لنا خلف بيوتنا إذ أتانا أخوه يشتد فقال لي ولأبيه: ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه فهما يسوطانه، قالت: فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه قائما منتقعا وجهه فالتزمته والتزمه أبوه فقلنا له: ما لك يا بني؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني وشقا بطني فالتمسا فيه شيئا لا أدري ما هو؟.

قالت: فرجعنا إلى خبائنا وقال لي أبوه: يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به، فاحتملناه فقدمنا به على أمه، فقالت: ما أقدمك به يا ظئر وقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك؟ فقلت: قد بلغ الله بابني وقضيت الذي عليَّ وتخوفت الأحداث عليه فأديته إليك كما تحبين، قالت: ما هذا شأنك فأصدقيني خبرك، قالت: فلم تدعني حتى أخبرتها، قالت: أفتخوفت عليه الشيطان؟ قلت: نعم، قالت: كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل، وإن لابني لشأنا أفلا أخبرك خبره؟ قلت: بلى، قالت: رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء لي به قصور بُصرى من أرض الشام، ثم حملت به فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف ولا أيسر منه ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلى السماء، دعيه عنك وانطلقي راشدة.

كان أول ما شق صدره عليه الصلاة والسلام في السنة الثالثة من عمره، وقيل: في الرابعة وذلك لتطهيره وإخراج حظ الشيطان منه، وشق صدره ليلة الإسراء كما رواه البخاري، ويقول مؤرخو الإفرنج ومنهم الأستاذ نيكولسون في كتابه «تاريخ أدب العرب» صفحة (147 - 148) طبعة 1907 وكذا الأستاذ موير في كتابه «حياة محمد» إن هذه نوبة صرعية، وهذا مردود لأنه لم تُشاهد فيه علامات الصرع طول عمره.

وإلى قصة إرضاعه يشير صاحب الهمزية حيث يقول:

وبدت في رضاعه معجزات ** ليس فيها عن العيون خفاء

إذ أبته ليتمه مرضعات ** قلن ما في اليتيم عنا غناء

فأتته من آل سعد فتاة ** قد أبتها لفقرها الرضعاء

أرضعته لبانها فسقتها ** وبنيها ألبانهن الشاء

أصبحت شوّلا عجافا وأمست ** ما بها شائل ولا عجفاء

أخصب العيش عندها بعد محل ** إذ غدا للنبيِّ منها غذاء

يا لها منة لقد ضوعف الأجـ ** ـر عليها من جنسها والجزاء

وإذا سخّر الإله أناسا ** لسعيد فإنهم سعداء

الحض على قتله صغيرا

وكانت حليمة كلما مر جماعة من اليهود وحدثتهم بشأنه حضوا على قتله وكلما عرضته على العرافين في الأسواق، صاحوا بقتله وكانوا يقولون: اقتلوا هذا الصبيّ فليقتلن أهل دينكم وليكسرن أصنامكم وليظهرن أمره عليكم، وعن حليمة رضي الله عنها أنه مر بها جماعة من اليهود فقالت: ألا تحدثوني عن ابني هذا حملته أمه كذا ووضعته كذا ورأت عند ولادته كذا وذكرت لهم كل ما سمعته من أمه وكلّ ما رأته هي بعد أن أخذته وأسندت الجميع إلى نفسها كأنها هي التي حملته ووضعته، فقال أولئك اليهود بعضهم لبعض: اقتلوه، فقالوا: أوَ يتيم هو؟ فقالت: لا، هذا أبوه وأنا أمه، فقالوا: لو كان يتيما قتلناه لأن ذلك عندهم من علامات نبوته، وعن حليمة أيضا رضي الله عنها أنها نزلت به بسوق عكاظ وكان سوقا للجاهلية بين الطائف ونخلة، المحل المعروف، كانت العرب إذا قصدت الحج أقامت بهذا السوق شهر شوال يتفاخرون ويتناشدون الأشعار ويبيعون ويشترون، فلما وصلت به حليمة سوق عكاظ رآه كاهن من الكهان فقال: يا أهل عكاظ اقتلوا هذا الغلام فإن له مُلكا، فمالت به وحادت عن الطريق فأنجاه الله.

وقد رأت حليمة السعدية من النبي الخير والبركة وأسعدها الله بالإسلام هي وزوجها وبنوها.

وفاة آمنة

بعد أن ردت حليمة رسول الله خرجت به أمه مرة إلى المدينة سنة 575 - 576م لزيارة أخواله من بني النجار، أي أخوال جده عبد المطلب فمرضت وهي راجعة به، وماتت ودُفنت بالأبواء بين مكة والمدينة وعمره ست سنين وكان عمر آمنة حين وفاتها ثلاثين سنة.

وفي الحديث: أن رسول الله زار قبر أمه بالأبواء في ألفِ مُقَنَّعِ، فبكى وأبكى، أي في ألف فارس مغطى بالسلاح.

فحضنته أم أيمن بركة الحبشية التي ورثها من أبيه وحملته إلى جده عبد المطلب بن هاشم الذي كان يحبه ويكرمه فقد كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له فكان رسول الله يأتي وهو غلام حتى يجلس عليه فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: «دعوا ابني فوالله إن له لشأنا». ثم يجلسه معه عليه ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع.

وبوفاة أمه صار يتيما وقد أُشير إلى يتمه في القرآن قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيما فَآوَى} (الضحى: 6)، وفي السنة التي استقل جده فيها بكفالته رمد الرسول رمدا شديدا.

عبد المطلب يهنىء سيف بن ذي يزن

لما ظفر سيف بن ذي يزن الحميري بالحبشة وذلك بعد مولد النبي أتته وفود العرب وأشرافها وكان من جملتهم وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم جد النبي وأمية بن عبد شمس وأسد بن عبد العزى وعبد الله بن جُدعان فقدموا عليه وهو في قصر يقال له غُمدان - بضم الغين - فطلبوا الإذن عليه فأذن لهم وتكلم عبد المطلب مهنئا. ولما فرغ أدناه وقربه ثم استنهضوا إلى دار الضيافة وقاموا ببابه شهرا لا يصلون إليه ولا يؤذن لهم في الانصراف، ثم انتبه إليهم انتباهة فدعا بعبد المطلب من بينهم فخلا به وأدنى مجلسه وقال:

«يا عبد المطلب إني مفوض إليك من علمي أمرا لو غيرك كان لم أبح له به ولكني رأيتك معدنه فأطلعتك عليه فليكن مصونا حتى يأذن الله فيه، فإن الله بالغ أمره، إني أجد في العلم المخزون والكتاب المكنون الذي ادخرناه لأنفسنا واحتجبناه دون غيرنا خبرا عظيما وخطرا جسيما فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس كافة ولرهطك عامة ولنفسك خاصة».

قال عبد المطلب: «مثلك يا أيها الملك برّ، وسرّ، وبشّر، ما هو؟ فداك أهل الوبر زمرا بعد زمر».

قال ابن ذي يزن: «إذا ولد مولود بتهامة، بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة، إلى يوم القيامة».

قال عبد المطلب: «أبيت اللعن لقد أُبت بخير ما آب به أحد فلولا إجلال الملك لسألته عما سارّه إلى ما ازداد به سرورا».

قال ابن ذي يزن: «هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه وقد وجدناه مرارا، والله باعثه جهارا، وجاعل له منا أنصارا يعز بهم أولياءه، ويذل بهم أعداءه، ويفتتح كرائم الأرض، ويضرب بهم الناس عن عرض، يخمد الأديان، ويكسر الأوثان ويعبد الرحمن، قوله حكم وفصل، وأمره حزم وعدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله».

فقال عبد المطلب: «طال عمرك، ودام ملكك، وعلا جدك، وعز فخرك، فهل الملك يسرني بأن يوضح فيه بعض الإيضاح؟».

فقال ابن ذي يزن: «والبيت ذي الطنب، والعلامات والنصب، إنك يا عبد المطلب لجده من غير كذب».

فخرَّ عبد المطلب ساجدا، وقال ابن ذي يزن: «ارفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا أمرك، فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك؟».

فقال عبد المطلب: «أيها الملك، كان لي ابن كنت له محبا وعليه حدبا مشفقا، فزوجته كريمة من كرائم قومه، يقال لها: آمنة بنت وهب بن عبد مناف، فجاءت بغلام بين كتفيه شامة فيه كل ما ذكرت من علامة، مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه».

قال ابن ذي يزن: «إن الذي قلت لك كما قلت، فاحفظ ابنك واحذر عليه اليهود فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا، إطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة من أن تكون لكم الرياسة، فيبغون لك الغوائل وينصبون لك الحبائل وهم فاعلون وأبناؤهم، ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار مهاجره. فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن يثرب دار هجرته، وبيت نصرته، ولولا أني أقيه الآفات، وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنّه وأوطأت أقدام العرب عقبه ولكني صارف إليك ذلك عن تقصير مني بمن معك».

ثم أمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد وعشر إماء سود وخمسة أرطال فضة وحلتين من حلل اليمن وكرش مملوءة عنبرا، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك وقال: «إذا حال الحول فأنبئني بما يكون من أمره».

فما حال الحول حتى مات ابن ذي يزن، فكان عبد المطلب بن هاشم يقول: «يا معشر قريش لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك فإنه إلى نفاد ولكن يغبطني بما يبقى لي ذكره وفخره ولعقبي»، فإذا قالوا له: وما ذاك؟ قال: سيظهر بعد حين، اهـ.

وفي «أسد الغابة» أن سيف بن ذي يزن أدرك النبي وأخبر جده عبد المطلب بنبوة محمد

كانت اليمن تابعة للحبشة فكره أهلها حكمهم ونهض سيف بن ذي يزن لاسترداد عرش آبائه فسعى لدى الإمبراطورية الرومانية لشد أزره فلم يفلح فالتجأ إلى ملك الفرس فأمده بجيش فحارب الحبشة وانتصر عليها وقتل واليها الذي كان يدعى مسروقا وذلك حوالي سنة 575م ويوافق العام الذي توفيت فيه آمنة أم رسول الله فليس هناك اعتراض على ذهاب الوفود العربية لتهنئة ابن ذي يزن من الوجهة التاريخية، أضف إلى ذلك أن الواجب يقضي على رؤساء العرب بذلك لقرابتهم وجوارهم واشتراك مصالحهم التجارية لأنهم كانوا يرحلون إلى اليمن للتجارة في الشتاء كما كانوا يرحلون إلى الشام صيفا.

وقد اعترض الأستاذ «فيل» Weil على صحة القصة المتقدّمة من الوجهة التاريخية وفيما شرحه الأستاذ «برسيفال» M.C. de Perceval رد على اعتراضه لأنه أثبت انهزام الحبشة لأول مرة في سنة 575م وإن كانت لم تطرد نهائيا من اليمن إلا سنة 597م، أما الأستاذ موير فإنه لم يستطع تكذيب ذهاب الوفود ومعهم عبد المطلب (الذي كان وقتئذ حاكم مكة) تكذيبا باتّا بل قال: إن القصة تشمل مبالغات كثيرة فيما يتعلق بالإخبار عن النبي المنتظر وهذا ما جعله يرتاب فيها، على أن المتتبع للسيرة النبوية يجد أن هذه القصة ليست فريدة في بابها من حيث الإخبار برسول الله فإن ما أخبر به سيف عبد المطلب قاله بحيرى لأبي طالب وعرفه سلمان الفارسي وأذاعه أحبار اليهود مما سنعنى بذكره مفصلا في كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.

ولعل ما أخبر به ابن ذي يزن عبد المطلب كان من الأسباب التي جعلت عبد المطلب يكرم النبي ويقول لأولاده إذا نحّوا رسول الله عن مجلسه لصغره: (دعوا ابني فوالله إن له لشأنا).

إن الطفل الصغير، ذا المستقبل العظيم، تظهر عليه آيات العظمة والذكاء منذ نعومة أظفاره، ويكون له جاذبية خاصة تميزه عن سائر الأطفال بل تميزه عن إخوته إذا كان له إخوة، ويكون محبوبا مفضلا على غيره أينما حل، وهذا هو شأن عظماء الرجال كما تلونا من سيرهم.

فكان عبد المطلب، جد رسول الله يرعاه رعاية خاصة ويؤثره على أولاده بسبب تلك الجاذبية والعظمة الكامنة فيه منذ الصغر، وهذه العظمة كانت تزداد وضوحا كلما ترعرع وكبر، وقد ثبت مما رواه الصحابة أن رسول الله كانت له جاذبية غريبة فكانوا يحبونه محبة فائقة ولا يخالفون له أمرا.

إن عبد المطلب لم يكن يعلم أن محمدا، ذلك الطفل الصغير، سيكون رسول الله، لكنه كان يشعر في قرارة نفسه بتلك الجاذبية التي لازمته طول مدة حياته وبتلك العظمة الكامنة فيه، وهذا هو السر في محبته وشدة رعايته له ولا سيما أن عبد المطلب كان رجلا عظيما جليلا ذا فطنة وفراسة فكان يقول لأولاده:(دعوا ابني فوالله إن له لشأنا).

وفاة جده عبد المطلب سنة 578 م وكفالة عمه أبي طالب

لما بلغ رسول الله ثماني سنوات توفي جده عبد المطلب بمكة سنة 578 م بعد عام الفيل بثماني سنين وله عشر ومائة سنة، وقيل أكثر من ذلك، وكان رسول الله يبكي خلف سريره ودُفن بالحجون، جبل بأعلى مكة عنده مدافن أهلها عند قبر جده قصيّ، ولما حضرته الوفاة أوصى به إلى عمه شقيق أبيه «أبي طالب» واسمه عبد مناف وعبد الكعبة وكان كريما لكنه كان فقيرا كثير الأولاد، وكان يرى منه الخير والبركة ويحبه حبا شديدا ولذا لا ينام إلا إلى جنبه ويخرج به متى خرج، وأوصى عبد المطلب إلى أبي طالب أيضا بسقاية زمزم وإلى ابنه الزبير بالحكومة وأمر الكعبة.

وفي هذه السنة مات حاتم الطائي وكسرى أنوشروان.

وقد أخرج ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة قال:

قدمت مكة وهم في قحط فقالت قريش: يا أبا طالب أقحط الوادي وأجدب فهلم فاستسق فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجى تجلت عنه سحابة قتماء حوله أغيلمة (جمع غلام مصغر) فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ولاذ الغلام بأصبعه (أشار بأصبعه إلى السماء كالمتضرع الملتجىء) وما في السماء قزعة (قطعة من سحاب) فأقبل السحاب من ههنا وههنا وأغدق واغدودق (كثر مطره) وانفجر الوادي وأخصب النادي وفي ذلك يقول أبو طالب مادحا النبي

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ** ثِمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم ** فهم عنده في نعمة وفواضل

(الثِمال) بكسر المثلثة الملجأ والغياث، وقيل: المطعم في الشدة، (عصمة للأرامل) أي يمنعهم من الضياع والحاجة، هذان بيتان من قصيدة طويلة لأبي طالب، وقد شاهد أبو طالب هذا الاستسقاء فنظم هذه القصيدة وقد شاهده مرة أخرى قبل هذه، فروى الخطابي حديثا فيه أن قريشا تتابعت عليهم سنو جدب في حياة عبد المطلب فارتقى هو ومن حضره من قريش أبا قبيس (بالتصغير اسم الجبل المشرف على مكة) فقام عبد المطلب واعتضده فرفعه على عاتقه وهو يومئذ غلام فقال أيفع أو قرب ثم دعا فسقوا في الحال، فقد شاهد أبو طالب ما دله على ما قال أعني قوله: «وأبيض يستسقى الغمام بوجهه».

وكان الاستسقاء في الجاهلية الأولى بخلاف هذه الطريقة فكانوا إذا تتابعت عليهم الأزمات واشتد الجدب واحتاجوا إلى الأمطار يجمعون بقرا معلقة في أذنابها وعراقيبها السلعَ والعُشر ويصعدون بها إلى جبل وعر ويشعلون فيها النار ويفرقون بينها وبين أولادها ويسوقون البقر إلى ناحية المغرب دون سائر الجهات وتسمى هذه النار التي يشعلونها نار الاستمطار، قال ابن أبي الحديد: وإنما ضرموا النيران في أذناب البقر تفاؤلا للبرق بالنار ويضجون بالدعاء والتضرع وكانوا يرون ذلك من الأسباب المتوصل بها إلى نزول الغيث.

كان عبد الله أبو رسول الله وأبو طالب من أم واحدة، ورُوي أن أبا طالب قال لأخيه العباس: ألا أخبرك عن محمد بما رأيت منه؟ فقال: بلى، فقال: إني ضممته إليّ فكنت لا أفارقه ساعة من ليل ولا نهار ولا آتمن عليه أحدا، إني كنت أنوّمه في فراشي فأمرته ليلة أن يخلع ثيابه وينام معي فرأيت الكراهة في وجهه لكنه كره أن يخالفني، وقال: يا عماه اصرف بوجهك عني حتى أخلع ثيابي إذ لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى جسدي، فتعجبت من قوله وصرفت بصري حتى دخل الفراش فلما دخلت معه الفراش إذا بيني وبينه ثوب، والله ما أدخلته فراشي فإذا هو في غاية اللين وطيب الرائحة كأنه غمس في المسك فجهدت لأنظر إلى جسده فما كنت أرى شيئا وكثيرا ما كنت أفتقده من فراشي فإذا قمت لأطلبه ناداني: ها أنا يا عم فأرجع ولقد كنت كثيرا ما أسمع منه كلاما يعجبني وذلك عند مضي بعض الليل، وكنا لا نسمّي على الطعام والشراب ولا نحمد بعده وكان يقول في أول الطعام: باسم الله الأحد، فإذا فرغ من طعامه قال: الحمد لله، فتعجبت منه ثم لم أر منه كذبة ولا ضحكا ولا جاهلية ولا وقف مع صبيان يلعبون.

السفر إلى الشام سنة 582م

لما بلغ رسول الله اثنتي عشرة سنة، خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام في ركب للتجارة سنة 582م فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وهي قصبة حوران وكانت في ذلك الوقت قصبة للبلاد العربية التي كانت تحت حكم الرومان وكان ببصرى راهب يقال له بَحِيرا في صومعة له، وكان ذا علم من أهل النصرانية ولم يزل في تلك الصومعة راهبا، إليه يصير علمهم عن كتاب يتوارثونه كابرا عن كابر.

فلما نزلوا ذلك العام ببحيرا وكانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا يعرض لهم حتى كان ذلك العام نزلوا به قريبا من صومعته، فصنع لهم طعاما كثيرا وذلك عن شيء رآه وهو في صومعته.

فقد رأى رسول الله في الركب حين أقبلوا وغمامة تظله من بين القوم ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه فنظر إلى الغمامة حتى أظلت الشجرة وتهصرت أغصانها (مالت) على رسول الله حتى استظل تحتها.

فلما رأى ذلك بحيرا نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع ثم أرسل إليهم فقال: إني صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم، وعبدكم وحركم.

قال له رجل منهم: والله يا بحيرا إن لك لشأنا اليوم ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا فما شأنك اليوم؟ قال له بحيرا: صدقت قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلون منه كلكم. فاجتمعوا وتخلف رسول الله من بين القوم لحداثة سنّه في رحال القوم تحت الشجرة، فلما نظر بحيرا في القوم ولم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده قال: يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي، قالوا: يا بحيرا ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلاما وهو أحدث القوم سنّا فتخلف في رحالهم. فقال: لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم. ثم قام إليه رجل من قريش فاحتضنه وأجلسه مع القوم، فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرا فقال: يا غلام أسألك بحق اللات والعُزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه؟ وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فأبى رسول الله أن يستحلفه بهما، فقال له بحيرا: فبالله إلا أخبرتني عما أسألك عنه؟ فقال له: سلني عما بدا لك، فجعل يسأله عن أشياء من حاله ومن نومه وهيئته، فجعل رسول الله يخبره بخبره فيوافق ذلك ما عند بَحيرا من صفته ثم كشف عن ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه وكان مثل أثر المحجمة (يعني أثر المحجمة القابضة على اللحم حتى يكون ناتئا) فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني، قال له بحيرا: ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيّا، قال: فإنه ابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به، قال: صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنّه شرا فإنه كائن له شأن عظيم، فأسرع به إلى بلده، فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.

إن بحيرا لما عرف رسول الله تخوّف عليه من اليهود فنصح لأبي طالب بالرجوع به سريعا والمحافظة عليه، وقد روت حليمة أن اليهود كانوا إذا رأوه وعرفوه حضّ بعضهم بعضا على قتله حتى إنها كانت تضطر إلى الاختفاء به والابتعاد عنهم، وعلى كل حال كانوا ينتظرون في ذلك الوقت ظهور نبيّ وكان بعض المتعمقين في الدين يعرفون علامات ذلك النبي، وسنذكر فيما بعد أوصافه المذكورة في التوراة ولا شك أن عالما مثل بحيرا كان يعرفها.

الرد على مستر موير

قال مستر ويليام موير في كتابه (حياة محمد) بشأن رحلته مع عمه إلى الشام:

«إن جميع الذين دونوا سيرة الرسول قد ذكروا تفاصيل كثيرة مضحكة عن هذه الرحلة تدل على عظمة نبوته المنتظرة».

ثم أورد قصة سفره كما ذكرت في هذا الكتاب وكما ذكرها المؤرخون، وإنا لا ندري لماذا كانت هذه التفاصيل مضحكة في نظر مستر موير إنه يعترف بأن جميع المؤرخين رووا هذه التفاصيل ولا شك أنه يستقي منهم سيرة الرسول، ومن بينهم من يعتمد عليه ويحتج بكلامه ويرفض ما يريد رفضه إذا لم تكن الحادثة أو الرواية واردة في كتبهم أو إذا طرأ تحريف في نص كلامهم، فهو يعوّل مثلا على ابن إسحاق وعلى الطبري والواقدي وغيرهم فكان الواجب عليه باعتبار كونه مؤرخا أن يقر هذه التفاصيل التي ذكرها جميع المؤرخين بلا استثناء، هذا وليس لديه رواية أثبت من روايتهم تعارض أو تنفي ما ذكروه، أما كون هذه التفاصيل مضحكة، فهذا ما لم يقل به أحد من أكابر المؤرخين الذين استمد منهم مادته، وكان ينبغي عليه أن يقدر موقفه ويعلم أنه إنما يكتب تاريخ نبي لا شخص عادي، فالأنبياء والرسل تقع في حياتهم أمور خارقة تدل على نبوتهم وتؤيد رسالتهم فالتي تقع قبل النبوة كالخوارق التي حدثت في مولده وما شاهدته حليمة من تيسير الرزق والبركة وشق الصدر وما حدث أثناء سفره إلى الشام تسمى إرهاصات، والتي تقع بعد النبوة تسمى معجزات، وكرامات الأولياء كمعجزات الأنبياء غير أنهم لم يدعوا النبوة، ويجب الإيمان بالأولياء قال تعالى: {أَلآ إِنَّ أَوْلِيَآء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس: 62)، ولا شك أن محمدا وقعت منه خوارق العادات قبل النبوة وبعدها ولا سبيل إلى إنكار مجموع إرهاصاته ومعجزاته، أولا: من الوجهة التاريخية لأن معاصريه وكبار الصحابة قد شاهدوها ورووها ورواها عنهم كبار المؤرخين ولو أبطلنا مشاهدتهم وروايتهم لم يبق للتاريخ قيمة، ثانيا: من الوجهة الدينية لأن الدين يقر معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، فمن ذلك معجزات عيسى عليه السلام فإنه تكلم في المهد صبيا وأبرأ الأكمه والأبرص وأحيى الميت. ومع ذلك لم يقل أحد من المسلمين إن هذه أمور مضحكة، وكذا معجزات موسى عليه السلام وهي مذكورة في التوراة والقرآن.

وفي العالم أناس ليسوا بأنبياء ولا أولياء تراهم في كل زمان ممتازين على أبناء جيلهم يأتون أعمالا يستحيل على غيرهم الإتيان بمثلها، ولقد شاهدنا في مصر فتى أميّا من أبناء أحد المزارعين ذاع صيته ونشرت الجرائد صورته، هذا الطفل يضرب أرقاما طوالا وينطق بالجواب الصحيح بسهولة وبسرعة مدهشة من غير أن يخط بقلم، وقد رأيته شخصيا أكثر من مرة وحار فيه علماء الرياضة وامتحنه كبار رجال الحكومة والصحافة، فهذا إنسان عاديّ له موهبة خاصة أذهلت عقول الخاصة، فكيف يمكن إنكار هذه الموهبة الخارقة والفتى لا يزال حيّا بين ظهرانينا يحل المسائل في الطرق ويجيب كل سائل.

فإذا جاء رجل مثل مستر موير بعد ذلك بجيل أو أكثر وزعم أن هذه خرافة مضحكة ابتدعها المصريون، لم يغيِّر ذلك شيئا من الحقيقة.

وقد تواترت الروايات أن زكريا عليه السلام كان يجد عند مريم فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، فثبت أن الذي ظهر في حق مريم كان فعلا خارقا للعادة، ولم يقل أحد إن ذلك مضحك.

ويُروى أن عيسى عليه السلام لما ادعى النبوة وأظهر المعجزات أخذوا يتعنتون عليه وطالبوه بخلق خفاش، فأخذ طينا وصوّره ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض، قال تعالى: {أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} (آل عمران: 49)، فهل قال أحد إن هذا أمر مضحك؟ فلماذا يستبعدون الإرهاصات والمعجزات على رسول الله؟ وروى القرآن أن عيسى تكلم في المهد، وقد سأله الحواريون أن ينزل عليهم مائدة من السماء فسأل عيسى الله أن ينزل عليهم مائدة من السماء تكون عيدا لهم وآية من الله فاستجاب الله دعاءه، فهل قال المسلمون إن هذا مضحك؟.

من هو بحيرا

كان بَحيرا الذي مر ذكره راهبا مسيحيا في الشام في ذلك الوقت وقد ذكر في «الآداب البيزنطية» أنه راهب نسطوري على مذهب أريوس ونسطور، وكان ينكر لاهوت المسيح ويقول إن تسميته بإله غير جائزة بل يجب أن يدعى كلمة وأن تدعى والدته مريم والدة الناسوت الذي هو مظهر الكلمة السامي لا والدة الله. وكان بحيرا قسّا فلكيا منجما وقد اتخذ صومعته بقرب الطريق الموصل إلى الشام وأقام هناك مدة تمر عليه العربان والقوافل فكان يأمرهم بعبادة الله الواحد وينهاهم عن عبادة الأصنام، له تلميذ اسمه مذهب، وكان من جملة المتتلمذين له سلمان الفارسي قبل إسلامه، ولإسلامه قصة غريبة ستذكر في موضعها.

قال مذهب: إن بحيرا توفي قتيلا بدسيسة بعض يهود أشرار، ومعنى بَحيرا في السريانية عالم متبحر، وجاء في «دائرة المعارف الإسلامية» أن اسم بحيرا مشتق من الكلمة الآرامية بحيرا ومعناها المنتخب فهو لقب له، قيل: إن اسم بحيرا المسيحي هو سرجيوس أو جرجيوس.

رعية رسول الله الغنم بمكة

قال رسول الله «ما من نبي إلا قد رعى الغنم»، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا»، وقال: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم» قال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط»، وعن جابر بن عبد الله قال: كنا مع النبي نجني الكَباث فقال: «عليكم بالأسود منه فإنه أطيبه فإني كنت أجنيه إذ كنت راعي الغنم»، قلنا: وكنت ترعى الغنم يا رسول الله؟ قال: «نعم، وما من نبي إلا وقد رعاها»، قيل: من حكم ذلك أن راعي الغنم التي هي من أضعف البهائم تسكن في قلبه الرأفة واللطف فإذا انتقل من ذلك إلى رعاية الخلق كان قد هذب أولا.

حرب الفجار

(580 - 590)

أيام الفجار أربعة، فالفجار الأول كان بين كنانة وهوازن، والثاني بين قريش وكنانة، والثالث بين كنانة وبني نضر بن معاوية ولم يكن فيه كبير قتال، والفجار الأخير بين قريش وكنانة كلها وهوازن وكان بين هذا الأخير ومبعث النبي خمس وعشرون سنة، وقد شهد النبي الفجار الأخير وهو ابن خمس عشرة سنة وكان سببها أن النعمان بن المنذر أمير الحيرة بعث بلطيمة له إلى سوق عكاظ للتجارة وأجارها له عروة الرجال من بني هوازن فنزلوا على ماء يقال له أوراة، فوثب البرَّاض، خليع من بني كنانة على عروة فقتله وهرب إلى خيبر فاستخفى بها ولقي بشر بن أبي خازم الأسدي الشاعر فأخبره الخبر وأمره أن يعلم ذلك عبدالله بن جدعان وهشام بن المغيرة وحرب بن أمية ونوفل بن معاوية الديلي وبلعاء بن قيس، فوافى عكاظ فأخبرهم فخرجوا موائلين منكشفين إلى الحرم وبلغ قيسا الخبر آخر ذلك اليوم فقال أبو براء رئيس هوازن: ما كنا من قريش إلا في خدعة فخرجوا في آثارهم فأدركوا وقد دخلوا الحرم فناداهم رجل من بني عامر يقال له الأردم بن شعيب بأعلى صوته: إن ميعاد ما بيننا وبينكم هذه الليالي من قابل وأنا لا نأتلي في جمع.

ولم تقم تلك السنة سوق عُكَاظ فمكثت قريش وغيرها من كنانة وأسد بن خزيمة ومن لحق بهم من الأحابيش سنة يتأهبون لهذه الحرب وتأهبت قيس عيلان ثم حضروا من قابل ورؤساء قريش: عبد الله بن جدعان وهشام بن المغيرة وحرب بن أمية وأبو أحيحة سعيد بن العاص وعتبة بن ربيعة والعاص بن وائل ومعمر بن حبيب الجمحي وعكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وخرجوا متساندين ويقال بل أمرُهم إلى عبد الله بن جدعان وكان في قيس أبو براء عامر بن مالك بن جعفر وسبيع وربيعة بن معاوية النضري ودُريد بن الصِّمّة ومسعود بن معتب وأبو عروة بن مسعود وعوف بن أبي حارثة المري وعباس بن رعل السلمي، وهؤلاء هم الرؤساء والقادة، ويُقال: بل كان أمرهم جميعا إلى أبي براء وكانت الراية بيده وهو الذي سوَّى صفوفهم فالتقوا فكانت الدبرة (الهزيمة) أول النهار لقيس وكنانة على هوازن ومن ضوى إليهم، ثم صارت الدبرة آخر النهار لقريش وكنانة على قيس فقتلوهم قتلا ذريعا حتى نادى عتبة بن ربيعة يومئذ - وإنه لشاب ما كملت له ثلاثون سنة - إلى الصلح فاصطلحوا على أن يدوا القتلى وودت قريش لقيس ما قتلت فضلا عن قتلاهم ووضعت الحرب أوزارها فانصرفت قريش وقيس.

قال رسول الله وذكر الفجار فقال: «قد حضرته مع عمومتي ورميت فيه بأسهم وما أحب أني لم أكن أفعل»، وقال رسول الله «كنت أنبل على أعمامي» يعني أناولهم النبل.

حلف الفضول

كان حِلف الفضول منصرف قريش من الفجار وكان أشرف حلف، وأول من دعا إليه الزبير بن عبد المطلب فاجتمعت بنو هاشم وزهرة وتيم في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعاما فتعاقدوا وتعاهدوا بالله لنكونن مع المظلوم حتى يؤدي إليه حقه ما بلّ بحر صوفة، وفي التآسي في المعاش، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وعن رسول الله أنه قال: «ما أحب أن لي بحلف حضرته في دار ابن جدعان حمر النعم وإني أعذر به هاشم وزهرة وتيم، تحالفوا أن يكونوا مع المظلوم ما بلّ بحر صوفة ولو دعيت به لأجبت وهو حلف الفضول».

هل سافر النبي إلى اليمن؟

قال الأستاذ «فيل» الألماني Weil: إن رسول الله سافر في السادسة عشرة من عمره إلى اليمن مع عمه الزبير في رحلة تجارية، ورد عليه الدكتور إشبرنجر Dr. Sprenger إن هذا الخبر ليس له أساس صحيح وإنه لم يجده في الكتب الموثوق بها، والحقيقة كما قال الدكتور إشبرنجر، نعم قد ذكر الطبري رواية جاء فيها: أن خديجة إنما كانت استأجرت رسول الله ورجلا آخر من قريش إلى سوق حباشة بتهامة الخ، غير أنه جاء في الطبري بعد ذلك أن الواقدي قال:«فكل هذا خطأ والمشهور رواية ابن إسحاق وهي رحلته إلى الشام» كذلك لم يسافر الرسول إلى الحبشة بطريق البحر ولا إلى فارس ولا إلى مصر فكل هذا من الأوهام الكاذبة.

ابتعاده صلى الله عليه وسلم عن معايب الجاهلية

كان رسول الله يكره كشف العورة قبل البعثة، وسمع وهو صغير من دار من دور مكة غناء وصوت دفوف في حفلة زواج فنام فما أيقظه إلا حر الشمس، وكان يأبى أن يحضر مع قومه العيد الذي كانوا يقيمونه لصنم يقال له (بوانة) حتى غضب عليه عمه أبو طالب وعماته، ولم يذق شيئا ذبح على الأصنام حتى أكرمه الله برسالته، ولم يدخل في يهودية أو نصرانية، واعتزل الأوثان ونهى عن الوأد وكان يحييها وإذا أراد أحد ذلك أخذ الموءودة من أبيها وتكفّلها، ولم يلعب الميسر ولم يشرب خمرا قط مع أنها كانت منتشرة إلا أن تحريم الخمر ليس من خصائصه بل حرّمها على نفسه كثير في الجاهلية لما في شربها من آفات وسيئات، وحرّمها من أجداده قُصيّ وعبدالمطلب، لكن الإسلام حرّمها تحريما عامّا وسنّ عقوبة لشاربها.

وعادة وأد البنات من أفظع الجرائم التي تقشعر منها الأبدان فحرّمها واستأصل شأفتها الإسلام وطهّر العرب منها، قال تعالى في سورة التكوير: {وَإِذَا الْمَوْءودَةُ سُئِلَتْ بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} (التكوير: 8، 9).

الرحلة الثانية إلى الشام

595م

لما بلغ رسول الله خمسا وعشرين سنة، قال له أبو طالب: أنا رجل لا مال لي وقد اشتد الزمان علينا وهذه عير قومك وقد حضر خروجها إلى الشام وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيراتها فلو جئتها فعرضت عليها نفسك لأسرعت إليك. وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له فأرسلت إليه في ذلك وقالت له: أنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك. فخرج مع غلامها ميسرة وجعل عمومته يوصون به أهل العير حتى قدم بُصرى من الشام وهي مدينة على طريق دمشق فنزلا في ظل شجرة، فقال نسطور الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي، ثم قال لميسرة: أفي عينيه حمرة؟ قال: نعم لا تفارقه، قال: هو نبيّ وهو آخر الأنبياء، وكان ميسرة إذا كانت الهاجرة واشتد الحر، يرى ملكين يظلان رسول الله من الشمس فوعى ذلك كله ميسرة وباعوا تجارتهم وربحوا ضعف ما كانوا يربحون، فلما رجعوا أخبرها ميسرة بما قال الراهب نسطور، فلما رأت خديجة الربح الكثير أضعفت له ضعف ما سمت له.

قال مستر موير عند ذكر هذه الرحلة: «إن محمدا لم يكن في وقت من الأوقات طامعا في الغنى، إنما كان سعيه لغيره ولو ترك الأمر لنفسه لآثر أن يعيش في هدوء وسلام قانعا بحالته ولما فكر في رحلة كهذه، ولكن لما عرض عليه عمه السفر شعرت نفسه الكريمة بضرورة تفريج كربة عمه فأجاب طلبه مسرورا.

تزويج رسول الله خديجة رضي الله عنها

كانت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصيّ امرأة حازمة جلدة شريفة غنية جميلة من أواسط قريش نسبا وأعظمهم شرفا، وكانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة وبسيدة قريش، وقد عرض كثيرون عليها الزواج فلم تقبل، فلما رجع رسول الله من رحلته إلى الشام، أرسلت إليه من يرغبه في الزواج وقيل: إنها أرسلت أختها، وقيل: أرسلت نفيسة مولاة لها، فقال: «ما بيدي ما أتزوج به»، فقالت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟ قال: «فمن هي؟»، قالت له: خديجة، قال: «فأنا أفعل»، فذهبت فأخبرت خديجة فأرسلت إليه أن ائت لساعة كذا وكذا وأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها، فحضر ودخل رسول الله في عمومته فزوجه أحدهم، فقال عمرو بن أسد: «هذا البضع لا يقرع أنفه»، وتزوجها رسولُ الله وهو ابن خمس وعشرين سنة وخديجة يومئذ بنت أربعين سنة، وذلك بعد عودته من الشام بشهرين.

وقد حضر رؤساء مضر وحضر أبو بكر رضي الله عنه ذلك العقد، فقال أبو طالب:

«الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضىء معد (معدنه) وعنصر مضر (أصله) وجعلنا حضنة بيته وسوَّاس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن برجل إلا رجح به شرفا ونبلا وفضلا وعقلا، فإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل وأمر حائل، ومحمد من قد عرفتم قرابته وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها ما آجله وعاجله كذا، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل جسيم»، فلما أتم أبو طالب الخطبة تكلم ورقة بن نوفل ابن عمّ خديجة فقال:

«الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت وفضلنا على ما عددت فنحن سادة العرب وقادتها وأنتم أهل ذلك كله لا تنكر العشيرة فضلكم ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم؛ وقد رغبنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم فاشهدوا عليّ معاشر قريش بأني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله على كذا» ثم سكت.

فقال أبو طالب: قد أحببت أن يشركك عمها، فقال عمها عمرو بن أسد:

«اشهدوا عليّ يا معشر قريش أني قد أنكحت محمد بن عبد الله خديجة بنت خويلد» فقبل النبي النكاح وشهد على ذلك صناديد قريش.

وأولم عليها فنحر جزورا، وقيل: جزورين وأطعم الناس وأمرت خديجة جواريها أن يرقصن ويضربن الدفوف، وفرح أبو طالب فرحا شديدا وقال: الحمد لله الذي أذهب عنا الكرب ودفع عنا الغموم، وهي أول وليمة أولمها رسول الله

قال الواقدي: ويقولون أيضا: إن خديجة أرسلت إلى النبي تدعوه إلى نفسها (تعني التزويج) وكانت امرأة ذات شرف وكان كل قرشي حريصا على نكاحها قد بذلوا الأموال لو طمعوا بذلك فدعت أباها فسقته خمرا حتى ثمل ونحرت بقرة وخلقته بخلوق وألبسته حلة حبرة ثم أرسل إلى رسول الله في عمومته فدخلوا عليه فزوجه، فلما صحا قال: ما هذا العقير وما هذا العبير وما هذا الحبير؟ قالت: زوجتني محمد بن عبد الله، قال: ما فعلت، أنّى أفعل هذا وقد خطبك أكابر قريش فلم أفعل، قال الواقدي: وهذا غلط، والثبت عندنا محفوظ من حديث محمد بن عبد الله بن مسلم عن أبيه عن محمد بن جبير بن مطعم، ومن حديث ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، ومن حديث ابن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس «أن عمها عمرو بن أسد زوجها رسول الله وأن أباها (خويلد بن أسد) مات قبل الفجار».

تزوج خديجة قبل رسول الله ـ وهي بكر - عتيق بن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ثم هلك عنها وتزوجها بعده أبو هالة النباش بن زرارة.

وولدت خديجة لعتيق، هندا بنت عتيق وولدت لأبي هالة هندا بنت أبي هالة، وهالة بن أبي هالة، فهند بنت عتيق وهند وهالة ابنا أبي هالة وكلهم أخوة أولاد رسول الله من خديجة.

وبعد زواج رسول الله بخديجة لم يسافر في رحلة للتجارة بل أقام بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة.

وولدت خديجة لرسول الله جميع ولده إلاّ إبراهيم فإنه من مارية القبطية، فأكبر أولاده القاسم وبه كان يُكنى: «أبا القاسم» ثم الطيّب، ثم الطاهر، ثم رقية، ثم زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، قال الواقدي: ولم أر أصحابنا يثبتون الطيّب ويقولون هو الطاهر.

تجديد بناء الكعبة

سنة 605م

الكعبة هي بيت الله الحرام، وهو بناء مربع الشكل في وسط المسجد الحرام، بابه مرتفع على الأرض نحو قامة، وقد بنى الكعبة إبراهيم عليه السلام لعبادة الله، وهو رسول من أولي العزم أرسله الله إلى الكلدانيين في جنوب بابل وكانوا يعبدون النجوم والأوثان، ثم ترك إبراهيم قومه حين عصوه وهاجر إلى مدين وهناك أمره الله تعالى بالهجرة بولده إسماعيل، وأمه هاجر إلى بلاد العرب فقصدوا مكة ثم أمره الله ببناء الكعبة. قال السيد الإمام التقي الفاسي: بناء الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام الكعبة ثابت بالكتاب والسنّة، وروى الأزرقي في «تاريخه» عن ابن إسحاق أن الخليل عليه الصلاة والسلام لمّا بنى البيت جعل طوله في السماء تسع أذرع وجعل طوله في الأرض من قبل وجه البيت الشريف من الحجر الأسود إلى الركن الأسود إلى الركن الشامي اثنتين وثلاثين ذراعا وجعل عرضه في الأرض من قبل الميزاب من الركن الشامي إلى الركن الغربي الذي يسمى الآن الركن العراقي اثنتين وعشرين ذراعا وجعل طوله في الأرض من جانب ظهر البيت الشريف من الركن الغربي المذكور اليماني إحدى وثلاثين ذراعا وجعل عرضه في الأرض من الركن اليماني إلى الحجر الأسود عشرين ذراعا، وجعل الباب لاصقا بالأرض غير مرتفع عنها ولا مبوّب حتى جعل لها تبع الحميري بابا.

ومقام إبراهيم عليه السلام بإزاء وسط البيت الذي فيه الباب، قال ياقوت في «معجم البلدان»: إن خصائص الكعبة كثيرة وفضائلها لا تحصى ولا يسع كتابنا هذا إحصاء الفضائل وليست أمة في الأرض إلا وهي تعظم ذلك البيت وتعترف بقدمه وفضله وأنه من بناء إبراهيم حتى اليهود والنصارى والمجوس والصابئة، وقد بقيت الكعبة على هيئتها من عمارة إبراهيم عليه السلام إلى أن بلغ النبي خمسا وثلاثين سنة من عمره فخافت قريش أن تهدم لتصدع جدرانها بسيل دخلها بعد حريق أصابها وكانت رضما فوق القامة وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جُدة فتحطمت فخرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش فابتاعوا خشبها وأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة نجار يدعى باقوم مولى سعيد بن العاص وصانع المنبر الشريف فأمروه أن يلي بناء الكعبة وكان ينقل الحجارة معهم فلما بلغ البناء موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يضع الحجر موضعه وأرادت كل قبيلة رفعه وتواعدوا للقتال ثم تشاوروا بينهم فجعلوا أول من يدخل من باب بني شيبة يقضي بينهم، فكان أول من دخل رسول الله فلما رأوه، قالوا: هذا الأمين رضينا به، وأخبروه الخبر فوضع رسول الله رداءه وبسطه على الأرض ثم أخذ الحجر فوضعه فيه ثم قال: «لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه»، ففعلوا فلما بلغوا موضعه، وضعه هو بيده الشريفة فرضوا بذلك وانتهوا عن الشرور، وكانت قريش تسمي رسول الله قبل أن ينزل عليه الوحي الأمين، لوقاره وهديه وصدق لهجته وبعده عن الأدناس.

وفي كتاب «تهذيب الأسماء»: أن أول امرأة عربية كست الكعبة الحرير، نتيلة أم العباس وسببه أن العباس ضاع وهو صغير فنذرت إن وجدته أن تكسوها فوجدته ففعلت.

تسميته بالأمين صلى الله عليه وسلم

جاء في «دائرة المعارف البريطانية» في ترجمة حياته أن تسميته بالأمين مأخوذة من اسم أمّه (آمنة) وإن كان العرب لا يجعلون علاقة بينهما في هذه التسمية، هذا ما زعمه كاتب الترجمة في دائرة المعارف البريطانية فهو يريد أن يقول: إن العرب لم يسموه أمينا لأمانته بل لأن اسم والدته آمنة فلا فخر ولا فضل، والحقيقة التاريخية هي أنه سمي أمينا لأمانته ولذا استخدمته خديجة في تجارتها فربحت ربحا طائلا ثم تزوجته لثقتها به، وكانوا يستأمنونه على ودائعهم وقد جعله قومه حكما بينهم في بناء الكعبة عن طيب نفس، قال المسيو سيديو Sedillot في كتابه «تاريخ العرب»: «ولما بلغ محمد من العمر خمسا وعشرين سنة استحق بحسن سيرته واستقامة سلوكه مع الناس أن يلقب (بالأمين). وقال موير Muir: إنه لقب بالأمين بإجماع أهل بلده لشرف أخلاقه. وكتب لفظة أمين بالإنجليزية هكذا: Faithful.

وكان أهل مكة يستأمنونه ويودعون عنده ودائعهم إلى أن هاجر إلى المدينة وترك عليا مكانه فبقي حتى رد الودائع إلى أربابها ثم هاجر.

خلقه صلى الله عليه وسلم في طفولته وشبابه

الأخبار عن حاله في طفولته قليلة غير مستفيضة لعدم العناية بتدوين السيرة وقتئذ، ونذكر هنا أنه كان في صغره يلعب ذات مرة مع غلمان قريش فكانوا يحملون الحجارة في أُزُرهم فتبدو عوراتهم، فخالفهم وصار يحملها على رقبته لئلا ترى عورته.

وعن عليّ - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله يقول: «ما هممت بقبيح مما همَّ به أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بالنبوة إلا مرتين من الدهر كلتاهما عصمني الله عز وجل من فعلهما: قلت لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في غنم لأهله يرعاها: أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان، قال: نعم، فلما جئت أدنى دار من مكة سمعت غناء وصوت دفوف ومزامير، فقلت: ما هذا؟ قالوا: فلان تزوج فلانة، فلهوت بذلك الصوت حتى غلبني النوم فنمت، فما أيقظني إلا مسُّ الشمس فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ فأخبرته، ثم فعلت الليلة الأخرى مثل ذلك».

إن الله إذا أراد أن يحفظ شخصا، سد عليه أبواب الملاهي والفساد وأوجد العقبات في طريقها وصده عن سبيلها بكيفية لا تخطر على بال، لذلك سلط جل شأنه عليه النعاس حتى لا يشاهد شيئا مما كان يجري في أفراح الجاهلية من لهو وفرح وخمر وما شاكل ذلك، ليبقى نقيا طاهرا من كل شائنة بل من كل ريبة.

وعن أم أيمن قالت: كانوا في الجاهلية يجعلون لهم عيدا عند بوانة، وهو صنم من أصنام مكة تعبده قريش وتعظمه وتنسك أي تذبح له وتحلف عنده، وتعكف عليه يوما إلى الليل في كل سنة، فكان أبو طالب يحضر مع قومه ويكلم رسول الله أن يحضر ذلك العيد معه فيأبى ذلك. قالت: حتى رأيت أبا طالب غضب عليه ورأيت عماته غضبن عليه أشد الغضب وجعلن يقلن: إنا نخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا وما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيدا ولا تكثر لهم جمعا فلم يزالوا به حتى ذهب معهم، ثم رجع فزعا مرعوبا، فقلن: ما دهاك؟ فقال: إني أخشى أن يكون بي لمم (أي لمة وهي المس من الشيطان)، فقلن: ما كان الله ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك، فما الذي رأيت؟ فقال: «إني كلما دنوت من صنم تمثَّل لي رجل أبيض طويل يصيح بي: «وراءك يا محمد لا تمسه»، قالت: فما عاد إلى عيدهم حتى تنبأ

ولم يذق شيئا ذبح على الأصنام، وقيل له عليه الصلاة والسلام: هل عبدت وثنا قط؟ قال: «لا»، قالوا: هل شربت خمرا؟ قال: «ما زلت أعرف أن الذي هُم عليه كفر»، وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان (أي كيفية الدعوة إليهما)، وعنه «لما نشأتُ بغضت إليّ الأصنام والشعر».

وكان عليه الصلاة والسلام يرعى الغنم في صغره لزيادة الرحمة في قلبه فكان يرعاها لأهل مكة كما تقدم.

وحضر النبيُّ حرب الفجار، قيل: وكان له من العمر 14 سنة وكان يناول عمومته السهام.

وحضر حلف الفضول.

ولما سافر إلى الشام في تجارة لخديجة - رضي الله عنها - ظهرت أمانته ونجح في تجارته وربح ربحا طائلا، قال ميسرة غلام خديجة: يا محمد اتجرنا لخديجة (كذا سفرة) ما رأينا ربحا قط أكثر من هذا الربح. وقد أحبه ميسرة حبا عظيما لما رآه من أمانته وحسن أخلاقه.

ومما يدل على رجاحة وحضور بديهته لحل المشكلات، الطريقة التي ابتكرها لإشراك المتنازعين في وضع الحجر الأسود.

وقد وثقت به خديجة لما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه فاستأجرته ليتاجر بها وضاعفت له الأجر، كانت - رضي الله عنها - امرأة عاقلة شريفة فلما عاد وأخبرها غلامها عن حميد صفاته دعته عليه الصلاة والسلام وقالت له: إني رغبت فيك لقرابتك مني وشرفك في قومك وأمانتك عندهم وحسن خلقك وصدق حديثك ثم عرضت عليه نفسها فلما تزوجها كان مثال الزوج الصالح وكان موضع احترامها وتقديرها، يدل على ذلك قولها له بعد نزول الوحي وهي تهدىء روعه: «والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم وتَقري الضيف وتعين على نوائب الحق» وقد كانت أول من آمن به، وقال رسول الله في حقها: «أفضل نساء الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران وآسية بنت مزاحم» (امرأة فرعون). وكان رسول الله يثني عليها كثيرا أمام عائشة - رضي الله عنها - حتى أدركتها الغيرة، فالوفاق بينهما في المعيشة الزوجية كان بالغا حده ولا شك أن هذا من حسن الخلق وصفاء السيرة والسريرة. ولما أدركت عائشة - رضي الله عنها - الغيرة من حسن ثنائه على خديجة قالت: هل كانت إلا عجوزا فقد أبدلك الله خيرا منها، فغضب رسول الله حتى اهتز مقدم شعره من الغضب ثم قال: «لا والله ما أبدلني الله خيرا منها. آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني وكذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولادا إذ حرمني أولاد النساء»، قالت عائشة: فقلت في نفسي: لا أذكرها بسيئة أبدا. فكان عليه السلام متحليا في صغره وشبابه بخير الخلال وأجل الصفات بعيدا عن الشبهات.

رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ثباتها من التوراة والإنجيل

أرسل النبي إلى الناس كافة ناسخا بشريعته الشرائع الماضية، قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَكَ إِلاَّ كَآفَّةً لّلنَّاسِ بَشِيرا وَنَذِيرا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28).

وقال: {تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَلَمِينَ نَذِيرا} (الفرقان: 1).

وقد وردت البشارة به في التوراة والإنجيل والزبور.

فجاء في قول يوحنا حكاية عن المسيح عليه السلام (ص14 ف15) ما يأتي:

(إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الآب فيعطيكم فارقليطا آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم وفيكم).

وفي ص16 ف5: (وأما الآن فأنا ماض إلى الذي أرسلني وليس أحد منكم يسألني أين تمضي لكن لأني قلت لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم لكني أقول لكم الحق إنه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم الفارقليط Paraclete لكن إن ذهبت أرسله إليكم ومتى جاء ذاك يبكِّت العالم على خطيئته وعلى برّ وعلى دينونة، أما على الخطيئة فلأنهم لا يؤمنون بي وأما على برّ فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضا وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين، إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدني لأنه لا يأخذ مما لي ويخبركم).

إن هذه الترجمة رديئة فالأسلوب ضعيف والألفاظ مكررة تكرارا لا مسوغ له والجمل مفككة خالية من الروح ولذا لا يتأثر منها القارىء وترجمة الفارقليط أو البارقليط بالعربية (أحمد) كما قال تعالى في كتابه العزيز: {وَمُبَشّرا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف: 6)، وقد تصرَّف المترجمون في هذه اللفظة فكانوا تارة ينقلونها عن اللغات الثلاث الأصلية وهي: العبرانية والكلدانية واليونانية بالمغزى وأخرى بالمخلص أو يكتبونها البارقليط كما هي.

ومن يقرأ هذه النصوص وينعم النظر في معناها ومرماها يجد أن عيسى عليه السلام بشر برسالة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام فسماه فارقليطا آخر يعني رسولا غيره تبقى شريعته إلى قيام الساعة ولا يأتي بعده نبيّ ولا رسول، وقال: إنه إن لم يكن ينطلق لا يأتي الفارقليط وقد بكَّت النبي النصارى واليهود الذين أنكروا نبوة المسيح وأساءوا إليه وحرفوا دينه وقد أرشد النبي عليه الصلاة والسلام الناس كافة إلى الحق وكان لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به أي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى، وثبت أنه أخبر بأمور آتية وقد وقع ما أخبر به ومجّد عيسى عليه السلام، وتدل آيات القرآن الكريم على ما ورد في الإنجيل فإن النبي (الفارقليط الذي أتى بعد عيسى عليه السلام) لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به وأنه يرشد إلى الحق. قال تعالى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعا مّنَ الرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (الأحقاف: 9)، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحا مّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَبُ وَلاَ الإِيمَنُ وَلَكِن جَعَلْنَهُ نُورا نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى: 52)، {وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ وَءامَنُواْ بِمَا نُزّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} (محمد: 2)، {تَلْكَ ءايَتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ فَبِأَىّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَءايَتِهِ يُؤْمِنُونَ} (الجاثية: 6).

وإذا كان الفارقليط لا يشير إلى محمد رسول الله فإلى من يشير إذن؟ وأين الذي جاء بعد عيسى عليه السلام؟ ومن هو الذي بكّت العالم على خطيئته ومن هو روح الحق الذي لا يتكلم من نفسه الخ، أليس هو رسول الله

وجاء في وصية موسى الكليم عليه السلام كما في ص23 ف2: من التثنية ولفظه:

(قال: جاء الرب من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من فاران ومعه ألوف الأطهار في يمينه سِنة من نار، أحب الشعوب جميع الأطهار بيده والذين يقتربون من رجليه يقبلون من تعليمه).

هذه الوصية هي آخر وصايا موسى عليه السلام، وقد أخبر بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ووضح لهم أن الله جاء من سيناء وأوصاكم بواسطتي باتباع التوراة ويستشرق عليكم بواسطة عيسى من ساعير وهي جبال فلسطين فلم يبق إلا أن يستعلن من جبال فاران (والمراد بها مكة وهي البلدة التي سكنها إسماعيل) وألوف الأطهار هم الصحابة رضوان الله عليهم، في يمينه سِنة من نار وهي الشريعة الإسلامية لأنها أحرقت المشركين.

ولما كان من المهم أن نعرف مكان فاران التي وردت في وصية موسى بحثت عنها في أشهر المراجع الموثوق بها فقد جاء في «معجم ياقوت» جزء 6 صفحة 323 طبع مصر سنة 1324 (فاران هي من أسماء مكة ورد ذكرها في التوراة قيل: هي اسم لجبال مكة). وجاء في كتاب «صفة جزيرة العرب» للهمداني طبع ليدن 1883 صفحة 170: وأما معدن فران فإنه نسب إلى فَرانَ بن بَليّ بن عمرو كما قيل في جبال الحرم جبال فاران وذكرت بذلك في التوراة وهي نسبة إلى فاران بن عمليق. وجاء في كتاب «الإعلام بأعلام بيت الله الحرام» تأليف قطب الدين النهروالي المكي طبع ليبسيك سنة 1857 ص18 عند ذكر أسماء مكة ما يأتي:

(ومن أسمائها كوثى لأن كوثى اسم لمحل من قيقعان وفاران والمقدسة وقرية النمل لكثرة نملها والحاطمة لحطمها للجبابرة والوادي والحرم الخ) فلم يبق شك في أن فاران جبال بمكة أو هي مكة نفسها سميت باسم تلك الجبال.

وجاء في سفر أشعيا الإصحاح الحادي والأربعين: (أنصتي إليّ أيتها الجزائر ولتجدد القبائل قوة ليقتربوا ثمّ يتكلموا، لنتقدم معا إلى المحاكمة من أنهض من المشرق الذي يلاقيه النصر عند رجليه دفع أمامه أمما وعلى ملوك سلطه، جعلهم كالتراب بسيفه وكالقش المنذري بقوسه، طردهم، مر سالما في طريق لم يسلكه برجليه من فعل وصنع داعيا الأجيال من البدء أنا الرب الأول ومع الآخرين أنا هو) والمراد بالقبائل العرب وصاحب السيف والقوس هو محمد فإن عيسى لم يحارب أصلا.

وجاء في الفصل 18 من الكتاب الخامس من سفر التثنية أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام: (قل لبني إسرائيل إني أقيم لهم آخر الزمان نبيا مثلك من بني إخوتهم) وكل نبي بعث بعد موسى كان من بني إسرائيل وآخرهم عيسى عليه السلام فلم يبق أن يكون من بني إخوتهم إلا نبينا محمد لأنه من ولد إسماعيل وإسماعيل أخو إسحاق وإسحاق جد بني إسرائيل فهذه هي الأخوة التي ذكرت في التوراة ولو كانت هذه البشارة بنبي من أنبياء بني إسرائيل لم يكن لذكر إخوتهم معنى.

وجاء في كتاب الرؤيا المنسوب إلى يوحنا الإنجيلي في ص 19 ف 11 ما نصه:(ثم رأيت السماء مفتوحة وإذا فرس أبيض والجالس عليه يدعى أمينا صادقا وبالعدل يحكم ويحارب وعيناه كلهيب نار وعلى رأسه تيجان كثيرة وله اسم مكتوب ليس أحد يعرفه إلا هو) وهناك قال: إنه يحارب ولا شك أنه محمد وقد كان يدعى قبل الرسالة بالأمين الصادق كما أسلفنا.

وجاء في رؤيا يوحنا اللاهوتي ص 19 ف 15: (ومن فمه يخرج سيف ماض لكي يضرب به الأمم وهو سيرعاهم بعصا من حديد وهو يدوس معصرة خمر سخط وغضب الله القادر على كل شيء) والمراد من قوله يخرج من فمه سيف ماض الخ هو القرآن الكريم، وقد داس النبي معصرة خمر أعني أنه حرّم الخمر تحريما قطعيا، أما عيسى فقد روى عنه المسيحيون أنه قلب الماء خمرا في عرس قانا، ورُوي عنه أنه قال عن الخمر إنها دمه.

هذه النصوص المذكورة في التوراة والإنجيل ناطقة برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، لهذا لما كان بحيرا الراهب متبحرا في علم النصرانية فقد عرف النبي وأخبره برسالته مما اطلع عليه في الكتب المقدسة ففيها أوصافه عليه الصلاة والسلام وشيء من إرهاصاته ومعجزاته وكانت حليمة السعدية تعرض النبي على اليهود والكهان وتحدثهم بشأنه فيعرفونه من أوصافه وأحواله وقد أخبر برسالته عليه الصلاة والسلام ورقة بن نوفل ابن عمّ خديجة وكان شيخا نصرانيّا عندما أخبره رسول الله بما رأى من الوحي إذ قال له: «هذا هو الناموس الذي نزل الله على موسى» إلى آخر ما قال ممّا سيأتي ذكره في موضعه، هذا وقد أنذر اليهود برسول الله وإليك ما جاء في سيرة ابن هشام:

إنذار يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم

قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه لنا ما كنا نسمع من رجال يهود وكنا أهل شرك وأصحاب أوثان وكانوا أهل كتاب، عندهم علم ليس لنا وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا إنه قد تقارب زمان نبيّ يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم. فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسوله أجبناه حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به وفيهم نزلت هذه الآيات من البقرة: {وَلَمَّا جَآءهُمْ كِتَبٌ مّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَفِرِينَ} (البقرة: 89)، قال ابن هشام: يستفتحون يستنصرون: ويستفتحون أيضا يتحاكمون، وفي كتاب الله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَتِحِينَ} (الأعراف: 89).

قال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف بن محمود بن لبيد بن عبد الأشهل عن سلمة بن سلامة بن وقش وكان سلمة من أصحاب بدر، قال: كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل قال: فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل قال سلمة: وأنا يومئذ من أحدث من فيه سنّا عليّ بردة لي مضطجع فيها بفناء أهلي فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار قال: فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان أترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار ويجزون فيها بأعمالهم؟ قال: نعم والذي يُحلف به، ويودّ أنَّ له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدار يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطينونه عليه بأن ينجو من تلك النار غدا، فقالوا له: ويحك يا فلان فما آية ذلك؟ قال: نبيّ مبعوث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده إلى مكة واليمن، قالوا: ومتى تراه؟ قال: فنظر إليَّ وأنا أحدثهم سنّا، فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه، قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله محمدا وهو حيٌّ بين أظهرنا فآمنا به وكفر به بغيا وحسدا، قال: فقلنا له: ويحك يا فلان ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى ولكن ليس به. قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال: قال لي: هل تدري عم كان إسلام ثعلبة بن سعية وأسد بن عبيد نفر من هدل إخوة بني قريظة كانوا معهم في جاهليتهم ثم كانوا سادتهم في الإسلام، قال: قلت: لا والله، قال: فإن رجلا من يهود من أهل الشام يقال له ابن الهيبان قدم علينا قبل الإسلام بسنين فحل بين أظهرنا لا والله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس أفضل منه فأقام عندنا فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له: اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا فيقول: لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة، فنقول له: كم؟ فيقول: صاعا من تمر أو مدَّين من شعير، قال: فنخرجها ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرثنا فيستسقي الله لنا فوالله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ونسقى، قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثا ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قلنا: أنت أعلم، قال: فإني إنما قدمت هذه البلدة أَتوكف خروج نبيّ قد أظل زمانه وهذه البلدة مهاجره فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه وقد أظلكم زمانه فلا تُسبقن إليه، يا معشر يهود فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري والنساء ممن خالفه فلا يمنعنكم ذلك منه، فلما بعث رسول الله وحاصر بني قريظة قال هؤلاء الفتية - وكانوا شبابا أحداثا -: يا بني قريظة والله إنه للنبي الذي كان عهد إليكم فيه ابن الهيبان، قالوا: ليس به، قالوا: بلى والله إنه لهو بصفته، فنزلوا فأسلموا فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم. قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغنا عن أخبار يهود.

قال تعالى يوبخ أهل الكتاب على كفرهم بمحمد وجحودهم نبوته: {يأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأَيَتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} (آل عمران: 70)، أي تشهدون أن نعت محمد في كتابكم ثم تكفرون به ولا تؤمنون به وأنتم تجدونه عندكم في التوراة والإنجيل النبيّ والأميّ.

سلمان الفارسي وقصة إسلامه

سلمان الفارسي أبو عبد الله ويعرف بسلمان الخير مولى رسول الله وأصله من جيّ وهي من قرى مدينة أصفهان، وكان اسمه قبل الإسلام مابه بن مورسلان بن بهبوزان بن فيروز بن سهرك من ولد آب الملك وكان ببلاد فارس مجوسيا سادن النار، وكان أبوه مجوسيا فاتفق أنه هرب منه يوما ولحق بالرهبان وصحبهم ثم قدم الحجاز عند ظهور النبي مع العرب فباعوه إلى يهودي من قريظة فأتى به المدينة فلما دخلها النبي أسلم وشهد معه أكثر المشاهد، وأول مشاهده وقعة الخندق وكان من فضلاء الصحابة وزهادهم وعلمائهم وذوي القربى من الرسول وهو الذي أشار على الرسول بحفر الخندق حين جاءت الأحزاب، وفيه قال رسول الله «سلمان منا أهل البيت»، وكان يعمل الخوص بيده ويأكل من ثمنه وآخى الرسول بينه وبين أبي الدرداء وروى عنه جماعة من العلماء، توفي سنة 35 للهجرة وقيل: 34 ودفن في المدافن شرقي بغداد وله مقام إزاء ديوان كسرى يزار حتى الآن ويعرف بمقام سلمان باك وهي لفظة فارسية معناها الطاهر، قيل: عاش 150 سنة، وقيل: أكثر من ذلك وهو من معمري العرب.

وهذه قصة إسلامه عن ابن عباس رضي الله عنه.

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: حدثني سلمان الفارسي وأنا أسمع من فيه قال: كنت رجلا من أهل فارس من أصبهان من جيّ ابن رجل من دهاقينها وكنت أحب خلق الله إليه فأجلسني في البيت كالجواري فاجتهدت في الفارسية وكان أبي صاحب ضيعة وكان له بناء يعالجه فقال لي يوما: يا بنيَّ قد شغلني ما ترى فانطلق إلى الضيعة ولا تحتبس فتشغلني عن كل ضيعة بهمّي بك، فخرجت لذلك فمررت بكنيسة النصارى وهم يصلون فملت إليهم وأعجبني أمرهم وقلت: هذا والله خير من ديننا، فأقمت عندهم حتى غابت الشمس لا أنا أتيت الضيعة ولا رجعت إليه فاستبطأني وبعث رسلا في طلبي وقد قلت للنصارى حين أعجبني أمرهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام، فرجعت إلى والدي، فقال: يا بنيَّ قد بعثت إليك رسلا، فقلت: مررت بقوم يصلون بكنيسة فأعجبني ما رأيت من أمرهم وعلمت أن دينهم خير من ديننا، فقال: يا بنيّ دينك ودين آبائك خير من دينهم، فقلت: كلا والله، فخافني وقيدني فبعثت إلى النصارى وأعلمتهم ما وافقني من أمرهم وسألتهم إعلامي من يريد الشام ففعلوا فألقيت الحديد من رجلي وخرجت معهم حتى أتيت الشام فسألتهم عن عالمهم فقالوا: الأسقف، فأتيته فأخبرته وقلت: أكون معك أخدمك وأصلي معك، قال: أقم، فمكثت مع رجل سوء كان يأمرهم بالصدقة فإذا أعطوه شيئا أمسكه لنفسه حتى جمع سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا فتوفي فأخبرتهم بخبره فزجروني فدللتهم على ماله فصلبوه ولم يغيبوه ورجموه وأجلسوا مكانه رجلا فاضلا في دينه زهدا ورغبة في الآخرة وصلاحا فألقى الله حبه في قلبي حتى حضرته الوفاة فقلت: أوصني، فذكر رجلا بالموصل وكنّا على أمر واحد حتى هلك فأتيت الموصل فلقيت الرجل فأخبرته بخبري وأن فلانا أمرني بإتيانك فقال: أقم فوجدته على سبيله وأمره حتى حضرته الوفاة، فقلت له: أوصني، فقال: ما أعرف أحدا على ما نحن عليه إلا رجلا بعمورية، فأتيته بعمورية فأخبرته بخبري فأمرني بالمقام وثاب لي شيئا واتخذت غنيمة وبقرات فحضرته الوفاة فقلت: إلى من توصي بي؟ فقال: لا أعلم أحدا اليوم على مثل ما كنا عليه ولكن قد أظلك نبيٌّ يبعث بدين إبراهيم الحنيفية، مهاجره بأرض ذات نخل وبه آيات وعلامات لا تخفى، بين منكبيه خاتم النبوة يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة فإن استطعت فتخلص إليه.

فتوفي فمر بي ركب من العرب من بني كلاب فقلت: أصحبكم وأعطيكم بقراتي وغنمي هذه وتحملوني إلى بلادكم، فحملوني إلى وادي القرى فباعوني من رجل من اليهود، فرأيت النخل فعلمت أنه البلد الذي وصف لي فأقمت عند الذي اشتراني وقدم عليه رجل من بني قريظة فاشتراني منه وقدم بي المدينة فعرفتها بصفتها فأقمت معه أعمل في نخله وبعث الله نبيه وغفلت عن ذلك حتى قدم المدينة فنزل في بني عمرو بن عوف، فإني لفي رأس نخلة إذ أقبل ابن عمّ لصاحبي، فقال: أي فلان قاتل الله بني قيلة مررت بهم آنفا وهم مجتمعون على رجل قدم عليهم من مكة يزعم أنه نبيٌّ، فوالله ما هو إلا أن سمعتها، فأخذني القرّ فرجفت بي النخلة حتى كدت أسقط ونزلت سريعا فأقبلت على عملي حتى أمسيت فجمعت شيئا فأتيته به وهو بقباء عند أصحابه، فقلت: اجتمع عندي شيء أردت أن أتصدق به فبلغني أنك رجل صالح ومعك رجال من أصحابك ذوو حاجة فرأيتهم أحق به فوضعته بين يديه فكف يده وقال لأصحابه: «كلوا» فأكلوا، فقلت: هذه واحدة، ورجعت وتحوَّل إلى المدينة فجمعت شيئا فأتيته به فقلت: أحببت كرامتك فأهديت لك هدية وليست بصدقة فمد يده فأكل وأكل أصحابه فقلت: هاتان اثنتان، ورجعت فأتيته وقد تبع جنازة في بقيع الغرقد وحوله أصحابه، فسلمت وتحولت أنظر إلى الخاتم في ظهره فعلم ما أردت فألقى رداءه فرأيت الخاتم فقبلته وبكيت فأجلسني بين يديه فحدثته بشأني كله كما حدثتك يا ابن عباس، فأعجبه ذلك وأحب أن يسمعه أصحابه ففاتني معه بدر وأحد بالرِّق فقال لي: «كاتب يا سلمان على نفسك» فلم أزل بصاحبي حتى كاتبته على أن أغرس له ثلاثمائة ودية وعلى أربعين أوقية من ذهب فقال النبي «أعينوا أخاكم بالنخل» فأعانوني بالخمس والعشر حتى اجتمع لي فقال لي: «انقر لها ولا تضع منها شيئا حتى أضعه بيدي» ففعلت فأعانني أصحابي حتى فرغت فأتيته فكنت آتيه بالنخلة فيضعها ويسوِّي عليها ترابا فأنصرف، والذي بعثه بالحق فما ماتت منها واحدة وبقي الذهب فبينما هو قاعد إذ أتاه رجل من أصحابه بمثل البيضة من ذهب أصابه من بعض المعادن، فقال: «ادع سلمان المسكين الفارسي المكاتب»، فقال: «أدّ هذه»، فقلت: يا رسول الله وأين تقع هذه مما عليّ؟

هذه قصة سلمان الفارسي وهي كما يتضح للقارىء المنصف معقولة وليس فيها شيء من المبالغة، ويلاحظ أن سلمان كان من صغره ميالا إلى التدين والتقشف فصاحب كبار أهل الدين وتعلم منهم وهذه القصة تدل على صدق رسالة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، لأن سلمان ما عرف النبيَّ إلا بالعلامات التي أخبره بها صاحبه بعمورية ولم يسلم إلا بعد أن تحقق صحّة هذه العلامات فيه ومن المحقق من ترجمة حياة سلمان أن أباه كان مجوسيا من بلاد الفرس وأنه هرب منه ولحق بالرهبان وصاحبهم واحدا بعد واحد إلى أن لقي النبي

ونلاحظ أن سلمان لم يذكر أسماء الرهبان أو الأساقفة الذين كان يلازمهم وإن كان قد ذكر بلادهم.

وشهد رسول الله لسلمان الفارسي بالطهارة والحفظ الإلهي والعصمة حيث قال: «سلمان منا أهل البيت»، وفيه قال رسول الله «لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من فارس» وأشار إلى سلمان الفارسي.

وكان سلمان من خيار الصحابة وزهادهم وفضلائهم وذوي القرب من رسول الله قالت عائشة: كان لسلمان مجلس من رسول الله بالليل حتى كان يغلبنا على رسول الله. وسئل عليٌّ عن سلمان، فقال: علم العلم الأول والعلم الآخر وهو بحر لا ينزف وهو منا أهل البيت. وهو الذي أشار على رسول الله بحفر الخندق لما جاءت الأحزاب، فأمر رسول الله بحفره فاحتمى المهاجرون والأنصار في سلمان وكان رجلا قويا، وتوفي سنة 45هـ في آخر خلافة عثمان، وقيل إنه عاش 350 سنة، فأما 250 فلا يشكون فيه.

من تسمى في الجاهلية بمحمد

كانت العرب تسمع من أهل الكتاب ومن الكهان أن نبيا يبعث من العرب اسمه (محمد) فسمَّى من بلغه ذلك من العرب ولده محمدا طمعا في النبوة. سُمِّيَ محمد بن الخزاعي بن حزابة من بني ذكوان من بني سليم طمعا في النبوّة فأتى أبرهة باليمن فكان معه على دينه حتى مات فلما وجه قال أخوه قيس بن خزاعي:

فذلكمُ ذو التاج منا محمد ** ورايته في حومة الحرب تخفق

وكان في بني تميم محمد بن سفيان بن مجاشع وكان أسقفا قيل لأبيه إنه يكون للعرب نبيٌّ اسمه محمد فسماه محمدا، ومحمد الجشعي في بني سواءة، ومحمد الأسيدي ومحمد الفقيمي سموهم طمعا في النبوة.

هذا ما وجدته في طبقات ابن سعد فليرجع إليه من شاء، ومن هذا كله يتضح أنهم كانوا ينتظرون ظهور نبي في ذلك الزمان.

عبادة الأصنام والأوثان

الصنم ينحت من خشب ويصاغ من فضة ونحاس، والجمع أصنام، وقيل: هو ما كان له جسم أو صورة، فإن لم يكن له جسم أو صورة فهو وثن، قال ابن الأثير: الفرق بين الوثن والصنم أن الوثن كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب والحجارة كصورة الآدمي تعمل وتنصب فتعبد، والصنم: الصورة بلا جثة، ومنهم من لم يفرق بينهما وأطلقهما على المعنيين، قال: وقد يطلق الوثن على غير الصورة.

الوثنية ببلاد العرب ترجع إلى عهد بعيد جدا، قيل: إن إسماعيل بن إبراهيم لما سكن مكة وولد له بها أولاد كثيرة حتى ملأوا مكة ونفوا من كان بها من العماليق، ضاقت عليهم مكة ووقعت بينهم الحروب والعداوات وأخرج بعضهم بعضا فتفسحوا في البلاد لالتماس المعاش.

وكان الذي حدا بهم إلى عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم وصبابة بمكة فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة تيمُّنا منهم وصبابة بالحرم وحبا له، وهم بعد يعظمون الكعبة ومكة ويحجون ويعتمرون على إرث إبراهيم وإسماعيل.

ثم أدى بهم إلى أن عبدوا ما استحبوا، ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم وانتجثوا ما كان يعبد قوم نوح منها على إرث ما بقي فيهم من ذكرها وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل يتنسكون بها من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة مع إدخالهم فيه ما ليس منه.

وكان أول من غيَّر دين إسماعيل عليه السلام فنصب الأوثان وسيَّب السائبة ووصل الوصيلة وبَحَر البَحِيرة وحمى الحامية، عمرو بن ربيعة، وهو لُحَيّ بن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدي وهو أبو خزاعة.

وكانت أم عمرو بن لحي فهيرة بنت عمرو بن الحارث.

وكان الحارث هو الذي يلي أمر الكعبة فلما بلغ عمرو بن لُحَيّ نازعه في الولاية وقاتل جرهما ببني إسماعيل فظفر بهم وأجلاهم عن الكعبة ونفاهم من بلاد مكة وتولى حجابة البيت بعدهم.

ثم إنه مرض مرضا شديدا، فقيل له: إن بالبلقاء من الشام حمَّة إن أتيتها برأت فأتاها فاستحم بها فبرأ ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هذه؟ فقالوا: نستسقي بها المطر ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها ففعلوا فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة، وقيل: إنهم أعطوه صنما يقال له هُبل فقدم به مكة فوضعه عند الكعبة فكان أول صنم وضع بمكة.

قال ابن هشام: فحدثنا الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قال النبي «رفعت لي النار فرأيت عَمرا (أي عمرو بن لُحَيّ) رجلا قصيرا أحمر أزرق يجر قُصبه في النار، قلت: من هذا؟ قيل: هذا عمرو بن لُحَيّ أول من بحر البحيرة ووصل الوصيلة وسيَّب السائبة وحمى الحامية وغيَّر دين إبراهيم ودعا العرب إلى عبادة الأوثان».

وقد جاء في القرآن ذكر الأصنام الخمسة التي كان يعبدها قوم نوح، قال تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارا وَمَكَرُواْ مَكْرا كُبَّارا وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّا وَلاَ سُوَاعا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرا وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيرا وَلاَ تَزِدِ الظَّلِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلا مّمَّا خَطِيئَتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَارا فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارا وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَفِرِينَ دَيَّارا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِرا كَفَّارا رَّبّ اغْفِرْ لِى وَلِولِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِنا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّلِمِينَ إِلاَّ تَبَارا} (نوح: 21 - 28).

ولم يرد ذكر هُبل في القرآن.

ويُقال: إن هذه الأصنام وجدها عمرو بن لُحَيّ في ساحل جُدة وفرقها فاتخذتها العرب آلهة.

ومن الأصنام المشهورة القديمة إساف ونائلة عبدتهما خزاعة وقريش ومن حج البيت بعدُ من العرب وكانوا ينحرون ويذبحون عندهما.

ومَنَاة كان منصوبا على ساحل البحر من ناحية المشلل بقُدَيْد بين مكة والمدينة وكانت العرب جميعا تعظمه وتذبح حوله ولم يكن أحد أشد إعظاما له من الأوس والخزرج، وقد ورد ذكر مناة في القرآن، قال تعالى: {وَمَنَوةَ الثَّالِثَةَ الاْخْرَى} (النجم: 20).

وكانت لهذيل وخزاعة، وقد هدمها علي رضي الله عنه عند فتح مكة بأمر رسول الله

والفِلس وهو صنم طيء هدمه عليّ رضي الله عنه بأمر رسول الله

واللات (تأنيث الله) وهي أحدث من مناة وكانت صخرة مربعة وكانت قريش كلها تعظمها وهي بالطائف ذكرها الله في القرآن فقال: {أَفَرَءيْتُمُ اللَّتَ وَالْعُزَّى} (النجم: 19)، ولم تزل كذلك حتى أسلمت ثقيف فبعث رسول الله المغيرة بن شعبة فهدمها وأحرقها بالنار، والطاغية هي اللات كانوا يقولون لها الربة، وجاء في «قاموس الإسلام»: «أن هيرودوت لم يشر إلى الكعبة لكنه ذكر اللات وقال إنها من أعظم آلهة العرب وهذا دليل قوي على وجود ذلك الصنم المسمى باللات وقد كان من معبودات ذلك الزمن».

ومن أصنامهم العُزى (تأنيث الأعز) والأعز بمعنى العزيز ويقال: إنها أحدث من اللاة ومناة، كانت بوادي نخلة الشآمية وكانت أعظم الأصنام عند قريش وكانوا يزورونها ويهدون لها ويتقربون عندها بالذبح.

قال ابن حبيب: العزى شجرة كانت بنخلة عندها وثن تعبده غَطَفَان، وفي التنزيل: {أَفَرَءيْتُمُ اللَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَوةَ الثَّالِثَةَ الاْخْرَى} (النجم: 19، 20).

ولم تزل العزى كذلك حتى بعث الله نبيه فعابها وغيرها من الأصنام ونهاهم عن عبادتها ونزل القرآن فيها فاشتد ذلك على قريش، ومرض أبو أحيحة سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف مرضه الذي مات فيه فدخل عليه أبو لهب فوجده يبكي فقال له: ما يبكيك يا أبا أحيحة؟ أمن الموت تبكي ولا بد منه؟ فقال: لا ولكني أخاف ألا تعبد (العزى) بعدي فقال له أبو لهب: ما عبدت في حياتك لأجلك ولا تترك عبادتها بعدك لموتك، فقال أبو أحيحة: الآن علمت أن لي خليفة. وأعجبه شدة نصبه في عبادتها، وتدل القصة على شدة التمسك بعبادة الأصنام، وكان بعضهم يعبد الملائكة وكانوا يقولون: الملائكة بنات الله، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الاْنثَى} (النجم: 27).

فلما افتتح النبي مكة، بعث خالد بن الوليد فهدم العزى، وكانت لقريش أصنام حول الكعبة وفي جوفها وكان أعظمها عندهم هُبل، قيل: إنه كان من عقيق أحمر على صورة الإنسان مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك فجعلوا له يدا من ذهب وكان أول من نصبه خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر؛ وكان يقال له هُبل خزيمة، وعنده ضرب عبد المطلب على ابنه عبد الله بالقداح، ومن الأصنام التي كانت عند الكعبة إساف ونائلة فلما ظهر رسول الله يوم فتح مكة أخرجت من المسجد وأحرقت وكان يبلغ عددها 360 صنما، ومن أصنامهم مناف.

وكان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به وإذا قدم من سفره، كان أول ما يصنع الرجل إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضا وكانوا يسمون الحجارة التي ينصبونها حول الحرم «الأنصاب».

ومن أصنامهم: ذو الخَلَصة وسعد وذو الكفين وذو الشرى والأقيصر وسعير وعميانس والأسحم والأشهل وأوال وباجر والبجة والبعيم وبلج وبوانة وتيم وجريش، وعبدة الأصنام ينكرون بعث الأجساد، وكان من العرب من يعتقد التناسخ وتنقل الأرواح في الأجساد وكانوا يعتقدون وقوع المسخ ونسبوا أكثر الأمراض إلى الجن وعبدها بعضهم. ومن هذا يرى أن آلهة العرب كانت متعددة.

الأربعة الباحثون عن دين إبراهيم

قد استنكر بعض العرب عبادة الأصنام وأدرك أنها لا تنفع ولا تضر وذلك في الجاهلية قبل أن يبعث رسول الله فقد حدث أنه بينما كانت قريش مجتمعة يوما في عيد لهم عند صنم من أصنامهم يعتكفون عنده ويدوروه به وكان ذلك عيدا لهم كل سنة، إذ خلص منهم أربعة وهم: ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وعبيد الله بن جحش بن رئاب، وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، وزيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى فقال بعضهم لبعض: تعلموا والله ما قومكم على شيء لقد أخطأوا دين إبراهيم، ما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع؟ يا قوم التمسوا لأنفسكم دينا فإنكم والله ما أنتم على شيء، فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية، دين إبراهيم.

1 - فأما ورقة بن نوفل وهو ابن عم خديجة فاستحكم في النصرانية واتبع الكتب في أهلها حتى علم علما من أهل الكتاب.

2 - وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة ومعه امرأته أم حبيبة ابنة أبي سفيان مسلمة ثم تنصَّر وفارق الإسلام حتى هلك هناك نصرانيا، وخلف رسول الله بعده على امرأته أم حبيبة.

3 - وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر، ملك الروم فتنصَّر وحسنت منزلته عنده.

4 - وأما زيد بن عمرو بن نفيل، فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية وفارق دين قومه فاعتزل الأوثان.

الرد على مستر كانون سل

قال مستر كانون سل في كتابه «حياة محمد»: (قال زيد وأصحابه: إنهم رغبوا في اتباع دين إبراهيم)، ويظن أن محمدا أخذ منهم هذه الفكرة ثم قال: (بقي زيد حنيفا وعاب على أهل مكة عبادة الأصنام فأثار ذلك غضبهم فأرغم على ترك مكة والإقامة في جبل حراء وبعد أن أمضى هنالك زمنا يفكر، توفي ودفن بأسفل الجبل وقد كان له تأثير عظيم في محمد الذي كان يجل شأنه ويقدره قدره. ولا ريب أن هؤلاء الرجال وأمثالهم من ذوي العقول الراجحة كانوا كثيرا ما يتشاورون ويتحادثون فيما وصلت إليه حالة العرب الاجتماعية من الانحطاط ويأسفون لانتشار الوثنية وضعف مركزهم السياسي، ولم ينجح عثمان بن الحويرث في تأسيس سلطة مركزية لاعتماده على دولة أجنبية - الامبراطورية الرومانية - ومع ذلك كانت الحاجة تدعو إلى وجود سلطة مركزية والاعتراف بالكعبة وجعلها قوة دينية للعرب جميعا، فكيف الوصول إلى ذلك؟ وكيف يمكن إبطال عبادة الأصنام؟) إلى أن قال: (وهنا سنحت الفرصة لظهور نبيّ وقد كان الاستعداد لظهوره قريبا وما لبث أن ظهر نبيٌّ قوي الشخصية ذو فطنة سياسية فائقة برسالة محدودة للأمة العربية اهـ). هذا ما زعمه مستر كانون سل، فنقول:

نعم إن هؤلاء تحادثوا في أمر انتشار عبادة الأصنام وأخذوا يبحثون عن الدين الصحيح لكن محادثتهم كانت قليلة، وليس لها شأن ولم يبلغنا أن النبي كان يجتمع بهم ويحادثهم في شؤون العرب الدينية أو السياسية. وقد كان زيد بن عمرو مضطهدا ولجأ إلى حراء لكن لم تكن له اجتماعات برسول الله حتى يقال إنه تذاكر معه مسائل الدين وترك في نفسه أثرا عميقا أو أنه أخذ منه الفكرة، لأن المسألة ليست مسألة اقتباس فكرة، فالقرآن وما حواه من فصاحة وبلاغة خارقة وحكم بالغة وأمثال محكمة وذكر أحوال الماضين من أنبياء وأمم وأنباء المستقبل وعلاقة الإنسان بخالقه وعلاقته بغيره والتشريع العظيم الشأن الذي صار موضوع بحث الأئمة المجتهدين والعلماء الأعلام - لا يكون مصدره اجتماع زيد بن عمرو برسول الله مصادفة في حراء أو في الطريق، ثم إننا فوق ذلك لا نعلم من تاريخ رسول الله أنه كان يتذاكر مع رجال أو كانوا يعلمونه من صغره إلى أن صار نبيا بل الثابت أنه كان أميّا لا يدري ما الكتابة والقراءة ولا الدين ولا أصوله حتى أُوحي إليه ثم إن رسالة النبي لم تكن محدودة للأمة العربية كما ظن سل وأمثاله بل كانت رسالته عامة بنص القرآن؛ قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَكَ إِلاَّ كَآفَّةً لّلنَّاسِ بَشِيرا وَنَذِيرا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28).

وإليك ترجمة حياة زيد بن عمرو إتماما للحديث.

ترجمة زيد بن عمرو

هو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرظ بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك القرشي العدوي والد سعيد بن زيد أحد العشرة وابن عم عمر بن الخطاب يجتمع هو وعمر في نفيل، سئل عنه النبي فقال: «يبعث أمة وحده يوم القيامة»، وكان يتعبّد في الجاهلية ويطلب دين إبراهيم الخليل ويوحّد الله تعالى ويقول: إلهي إله إبراهيم وديني دين إبراهيم. وكان يعيب على قريش ذبائحهم وقول: - الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء ماء وأنبت لها من الأرض ثم تذبحونها على غير اسم الله تعالى - إنكارا لذلك وإعظاما له وكان لا يأكل مما ذبح على النصب - الأوثان - واجتمع رسول الله بزيد بن عمرو بأسفل بلدح قبل أن يوحى إليه وكان يحيي الموءودة، وعن زيد بن حارثة قال: خرجت مع رسول الله يوما حارا من أيام مكة وهو مردفي فلقينا زيد بن عمرو بن نفيل فحيا كل واحد منا صاحبه فقال النبي «يا زيد ما لي أرى قومك قد شنفوا لك»، قال: والله يا محمد إن ذلك لغير نائلة ترة لي فيهم ولكن خرجت أبتغي هذا الدين حتى أقدم على أحبار خيبر فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به، فقلت: ما هذا الدين الذي أبتغي، فخرجت فقال لي شيخ منهم: إنك لتسأل عن دين ما نعلم أحدا يعبد الله به إلا شيخا بالحيرة، قال: فخرجت حتى أقدم عليه فلما رآني قال: ممن أنت؟ قلت: أنا من أهل بيت الله من أهل الشوك والقرظ، قال: إن الذي تطلب قد ظهر ببلادك، قد بُعث نبيٌّ قد طلع نجمه وجميع من رأيتهم في ضلال، قال: فلم أحسّ بشيء.

قال زيد بن حارثة: ومات زيد بن عمرو أُنزل على النبي فقال النبي في زيد: «إنه يُبعث يوم القيامة أُمة وحده».

وقال أبو بكر الصدّيق يذكر اجتماعه بزيد بن عمرو:

«كنت جالسا بفناء الكعبة وكان زيد بن عمرو بن نفيل قاعدا، فمر به أمية بن أبي الصلت، فقال: كيف أصبحت يا باغي الخير؟ قال: بخير، قال: هل وجدت؟ قال: لا ولم آل من طلب، فقال:

كل دين يوم القيامة إلا ** ما قضى الله والحنيفة بور

أما إن هذا النبي الذي ينتظر منا أو منكم أو من أهل فلسطين؟ قال: ولم أكن سمعت من قبل ذلك بنبيّ يُنتظر أو يُبعث، فخرجت أريد ورقة بن نوفل وكان كثير النظر في السماء، كثير همهمة الصدر، فاستوقفته ثم قصصت عليه الحديث، فقال: نعم يا ابن أخي، أبى أهل الكتاب والعلماء إلا أن هذا النبي الذي ينتظر من أوسط العرب نسبا، ولي علم بالنسب، وقومك أوسط العرب نسبا، قلت: يا عم، وما يقول النبي؟ قال: يقول ما قيل له (أي ما يوحى إليه) إلا أنه لا ظلم ولا تظالم، فلما بعث النبي آمنتُ وصدقت».

وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والذي نفس زيد بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري، وكان يقول: اللهم لو أني أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به ولكني لا أعلمه ثم يسجد على راحته. وقال ابن إسحاق: حدثني بعض آل زيد كان إذا دخل الكعبة قال: «لبيك حقّا حقّا، عُذت بما عاذ به إبراهيم».

ويقول وهو قائم: «أنفي لك عانٍ راغم، مهما تجشمني فإني جاشم، البر أبغي لا المال وهل مهجر كمن قال؟» وكان الخطاب بن نفيل قد آذى زيد بن عمرو بن نفيل حتى خرج إلى أعلى مكة فنزل حراء مقابل مكة ووكل به الخطاب شبابا من شباب قريش وسفهاء من سفهائهم فلا يتركونه يدخل مكة وكان لا يدخلها إلا سرا منهم فإذا علموا به آذنوا به الخطاب فأخرجوه وآذوه كراهية أن يفسد عليهم دينهم وأن يتابعه أحد منهم على فراقهم، وتوفي زيد قبل مبعث النبي فرثاه ورقة بن نوفل:

رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما ** تجنبت تنورا من النار حاميا

بدينك ربا ليس رب كمثله ** وتركك أوثان الطواغي كما هيا

وقد يدرك الإنسان رحمة ربه ** ولو كان تحت الأرض ستين واديا

وكان يقول: «يا معشر قريش إياكم والرياء فإنه يورث الفقر».

هذه ترجمة زيد بن عمرو وهو مع اعتناقه دين إبراهيم هربا من الوثنية لم يكن يعلم أحب الوجوه إلى الله تعالى ليعبده به ولم يذكر أنه اجتمع برسول الله غير مرة ولا بأبي بكر غير المرة التي ذكرناها.

بدء الوحي

6 أغسطس سنة 610م

لما قربت أيام الوحي حُبِّب إليه الخلوة فكان يختلي في غار حراء ويتعبّد فيه الليالي ذوات العدد ثم يرجع إلى أهله فيتزود لمثلها، وكانت عبادته على دين إبراهيم عليه السلام وقيل: كان يتعبَّد إلهاما من الله، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، وكانت تلك الرؤيا الصادقة مقدمات الوحي، قيل: مدتها ستة أشهر.

فلما تم له أربعون سنة جاءه جبريل بالنبوة وذلك في يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان لل سنة الحادية والأربعين من ميلاده، فيكون عمره إذ ذاك أربعين سنة قمرية وستة أشهر وثمانية أيام، وذلك يوافق 6 أغسطس سنة 610 من وهو بغار حراء.

جاء في «صحيح البخاري» عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:

«أول ما بدىء به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح ثم حُبِّب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حِرَاء فيتحنث فيه - وهو التعبُّد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوَّد لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزوَّد لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال له: اقرأ، فقال: «ما أنا بقارىء»، قال: «فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهْد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَنَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ}» (العلق: 1 - 3)، فرجع بها رسول الله يرجُفُ فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: «زمّلوني، زملوني» فزمَّلوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: «لقد خشيتُ على نفسي»، فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتكسبُ المعدوم، وتَقْري الضيف وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به وَرَقة بن نوفل ابن أسد بن عبد العُزَّى ابن عم خديجة، وكان امرأَ قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرانيَّ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتبَ وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال لي ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله خبر ما رأى فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزَّل الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَعا ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله «أو مخرجيَّ هم»؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي».

أول ما نزل عليه من القرآن: «اقرأ» كما صح ذلك عن عائشة وروي ذلك عن أبي موسى الأشعري وعبيد بن عمير، قال النووي: وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف.

النبي المنتظر

اتفق مؤرخو العرب وأصحاب السير أن أهل الكتاب كانوا ينتظرون ظهور نبيّ في ذلك الزمان وكانوا يعلمون أوصافه وأحواله، من ذلك أنهم ذكروا:

1 - أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقا وسطيحا كانا كاهنين يخبران بظهور نبينا محمد قبل زمان ظهوره.

2 - قصة حليمة السعدية وأنها كانت تعرض رسول الله على اليهود كلما مر بها جماعة منهم وتحدثهم بشأنه فكانوا يحضون على قتله فتهرب منهم.

3 - أنهم اتفقوا على أن بحيرا الراهب عرف الرسول بعلامات فيه وقال لأبي طالب: «ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليَبغُنَّه شرا فإنه كائن له شأن عظيم فأسرع به إلى بلده».

4 - في «سيرة ابن هشام» فصل عن إنذار يهود برسول الله نقلا عن رواية ابن إسحاق فليراجع في موضعه وقد أوردته في هذا الكتاب.

5 - قصة سلمان الفارسي الذي أسلم بعد أن استدل على رسول الله بعلامات كان يعرفها من الراهب الذي صحبه أخيرا، وقصة إسلام سلمان مشهورة ومذكورة في المصادر المعتبرة التي يعوّل عليها المؤرخون ولا يمكن أن تكون مختلفة، فقد رواها ابن عباس عن لسان سلمان الفارسي نفسه، والقصة مذكورة في هذا الكتاب أيضا لأهميتها.

6 - إسلام عبد الله بن سلام بن الحارث فإنه كان حَبرا عالما، قال: سمعت برسول الله وعرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف له فكنت مُسِرّا لذلك صامتا عليه حتى قدم رسول الله المدينة إلى آخر ما قال مما هو مذكور في هذا الكتاب نقلا عن «سيرة ابن هشام».

7 - كانت العرب تسمع من أهل الكتاب ومن الكهان أن نبيا يبعث في العرب اسمه محمد فسمى من بلغه ذلك من العرب ولده محمدا طمعا في النبوة، وقد ذكرت في كتابي هذا أسماء بعضهم نقلا عن «طبقات ابن سعد» كاتب الواقدي.

8 - ما جاء في «صحيح البخاري» في باب بدء الوحي من أن ورقة بن نوفل (وذلك الشيخ العالم بالنصرانية والذي كان يكتب الإنجيل بالعبرانية) قال لرسول الله حين عرضته عليه خديجة: «هذا الناموس الذي نزل على موسى» الخ.

9 - أن النبي لما جمع بني قينقاع - وهم طائفة من اليهود - قال لهم: «يا معشر اليهود احذروا من الله عز وجل مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبيّ مرسل تجدون ذلك في كتابكم وفي عهد الله إليكم».

10 - كان قيس بن نُشْبَةَ في الجاهلية منجِّما متفلسفا واعدا بمبعث النبي فأتاه فقال له: يا محمد ما كَحْلةُ؟ فقال: «السماء»، قال: وما مَحْلةُ؟ فقال: «الأرض»، فآمن به وقال: لا يعرف هذا إلا نبيٌّ، فقال قيس في ذلك:

تابعتُ دين محمد ورضيتُه ** كلَّ الرضا لأمانتي ولديني

ما زلتُ آمُلهُ وأرقب وقته ** والله قدر أنه يهديني

أعني ابنَ آمنةَ الأمينَ ومن به ** أرجو التخلصَ من عذاب الهون

فكان قوم قيس إذا وردوا على النبي قال لهم: «كيف حبركم».

كل هذا وغيره يؤيد أنهم كانوا ينتظرون نبيا يظهر في ذلك الزمان وليس ذلك بمستغرب فإن البشارة به قد وردت في التوراة والإنجيل وقد أثبتنا ذلك في فصل سابق من هذا الكتاب مستشهدين بآيات من الكتاب المقدس المطبوع باللغة العربية (راجع ص 45 - 47) فلا بد أن أهل الكتاب في ذلك الزمان كانت لديهم كتب أخرى ألَّفها علماؤهم شرحا للكتاب المقدس فاستقوا منها تلك المعلومات والعلامات التي عرفوا بها صفة رسول الله وموطنه وزمنه واضطهاد قومه له وهجرته، إننا نرجح ذلك بل نؤكده لأننا إذا كنا قد استخرجنا من الكتاب المقدس المطبوع في أيامنا آيات تبشر برسالته وتصفه وتصف شريعته وموطنه وأصحابه فلا بد أن يكون أهل الكتاب قديما - ولا سيما العلماء منهم - قد اطلعوا في النسخ العبرية القديمة التي كانت لديهم، ولم نتوصل إليها، على معلومات أوفى خاصة بالرسول تعد غريبة بالنسبة لنا.

هذا ما يستنتجه المؤرخ المنصف، بل هذا ما يتبادر إلى ذهن من تتبع سيرة الرسول.

أما مستر موير فإنه انبرى في الجزء الثاني من كتابه يكذب جميع المصادر التاريخية ويرفض ما جاء فيها من أن أهل الكتاب كانوا ينتظرون نبيا يبعث، زاعما أن هذه الروايات لا أساس لها من الصحة وأنها من مخترعات المؤرخين لأنه لو اعترف بصحتها أو بصحة بعضها لوجب عليه أن يعترف برسالة النبي في حين أنه حاول في جميع ما كتبه واستنبطه إثبات أنه لم يكن نبيا بل كان رجلا يدّعي النبوة لبسط نفوذه.

النبي الأمي

أول ما نزل عليه من القرآن: «اقرأ» كما صح ذلك عن عائشة وروى ذلك عن أبي موسى الأشعري، وعبيد بن عمير، قال النووي: وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف، وقوله: «ما أنا بقارىء» أي إني أميٌّ فلا أقرأ الكتب. قال الزجاج: الأميّ الذي على خلقة الأمة لم يتعلم الكتاب فهو على جبلته، وفي التنزيل العزيز: {وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَبَ إِلاَّ أَمَانِىَّ} (البقرة: 78)، فمعنى الأميين في هذه الآية الذين لا معرفة لهم بقراءة ولا كتابة.

قال أبو إسحاق: معنى الأمي المنسوب إلى ما عليه جبلة أمه أي لا يكتب وهو في أنه لا يكتب أميّ لأن الكتابة مكتسبة فكأنه نسب إلى ما يولد عليه، أي على ما ولدته أمه عليه، وكانت الكتابة في العرب من أهل الطائف تعلموها من رجل من أهل الحيرة وأخذها أهل الحيرة عن أهل الأنبار، وفي الحديث: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» أراد على أصل ولادة أمهم لم يتعلموا الكتابة والحساب فهم على جبلتهم الأولى، وفي الحديث: «بعثت إلى أمة أمية» قيل للعرب الأميون لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة، هذا معنى كلمة «أميّ» في اللغة العربية وهكذا كان يفهمها العرب.

قال تعالى في سورة الأعراف: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الامّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} (الأعراف: 157)، وقال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَبٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} (العنكبوت: 48) الآية، قال الفخر الرازي في «تفسيره»: «فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرأون والنبي عليه الصلاة والسلام كان كذلك، فلهذا السبب وصفه بكونه أميّا، قال أهل التحقيق وكونه أميا بهذا التفسير كان من جملة معجزاته وبيانه من وجوه:

الأول: أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظوما مرة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ولا تغيير كلماته، والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فإنه لا بد أن يزيد فيها بالقليل والكثير، ثم إنه عليه الصلاة والسلام - مع أنه ما كان يكتب وما كان يقرأ - يتلو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير فكان ذلك من المعجزات، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى} (الأعلى: 6).

الثاني: أنه لو كان يحسن الخط والقراءة لصار متهما في أنه ربما طالع كتب الأوَّلين فحصّل هذه العلوم من تلك المطالعة، فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم ولا مطالعة كان ذلك من المعجزات، وهذا هو المراد من قوله: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَبٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذا لاَّرْتَبَ الْمُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48).

الثالث: أن تعلم الخط شيء سهل فإن أقل الناس ذكاء وفطنة يتعلمون الخط بأدنى سعي، فعدم تعلمه يدل على نقصان عظيم في الفهم، ثم إنه تعالى آتاه علوم الأولين والآخرين وأعطاه من الحقائق ما لم يصل إليه أحد من البشر ومع تلك القوة العظيمة في العقل والفهم جعله بحيث لم يتعلم الخط الذي يسهل تعلمه على أقل الخلق عقلا وفهما فكان الجمع بين هاتين الحالتين المتضادتين جاريا مجرى الجمع بين الضدين وذلك من الأمور الخارقة للعادة وجار مجرى المعجزات» اهـ.

وقد طالعت ما كتبه الذين تعرضوا لهذا البحث من الإفرنج الذين ترجموا حياة النبي فوجدت تخبطا مدهشا فقد بحث الأستاذ نولدكه الألماني في كتابه «تاريخ القرآن» هل كان النبي يعرف القراءة والكتابة؟ فلم يجزم بشيء بيد أنه زعم أن لفظة «أميّ» المذكورة في القرآن لا تدل على أنه يجهل القراءة والكتابة بل تفيد أنه لا يعرف الأسفار القديمة.

والثابت من التاريخ والقرآن والحديث أن النبي ما كان يعرف القراءة والكتابة بالرغم من أن بعض المستشرقين يحاولون أن يثبتوا عكس ذلك من غير برهان، إنما هم يستنتجون بعقولهم، ليتعجبوا ما شاءوا من أُمِّيته ولكن يجب عليهم أن يعترفوا بأنه ما كان يعلم القراءة والكتابة. وجاء في «قاموس الإسلام»:

«ومع ذلك فمن المحقق أنه - النبي - كان يتظاهر بأنه يجهل القراءة والكتابة كي يجعل إنشاء القرآن معجزا».

فهل بعد ذلك تعسُّف لو كان رسول الله يقرأ أو يكتب لتحدث بذلك أصحابه أو أعداؤه، ولما أمكن أن يكون سرا مكتوما طول حياته خصوصا أن جميع صفات النبي وأعماله قد روتها الصحابة بالتفصيل حتى خصوصياته في منزله مع نسائه، على أن المنصفين من مؤرخي الإفرنج وفلاسفتهم قد اعترفوا بأُمِّيته فمن ذلك ما كتبه المسيو سيديو في كتابه «تاريخ العرب» الجزء الأول ص 59 من الطبعة الثانية:

«ولما كان (رسول الله غير متعلم مثل أبناء وطنه كان لا يعرف القراءة».

وقال الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل في كتاب «الأبطال» الذي عني بترجمته الأستاذ محمد السباعي رحمه الله:

«ثم لا ننسى شيئا آخر وهو أنه لم يتلق دروسا على أستاذ أبدا وكانت صناعة الخط حديثة العهد إذ ذاك في بلاد العرب، ويظهر لي أن الحقيقة هي أن محمدا لم يكن يعرف الخط والقراءة وكل ما تعلم هي عيشة الصحراء وأحوالها».

وجاء في «كتاب الإسلام» تأليف الكونت هنري دي كاستري، ترجمة المرحوم أحمد فتحي زغلول باشا:

«إن محمدا ما كان ليقرأ أو ليكتب بل كان - ما وصف نفسه مرارا - نبيا أميّا، وهو وصف لم يعارضه فيه أحد من معاصريه، ولا شك أنه يستحيل على رجل في الشرق أن يتلقى العلم بحيث لا يعلمه الناس لأن حياة الشرقيين كلها ظاهرة للعيان، على أن القراءة والكتابة كانت معدومة في ذلك الحين من تلك الأقطار، الخ».

ولما كان رسول الله أميا احتاج إلى كتّاب يكتبون له وقد ذكرهم الحافظ أبو القاسم في «تاريخ دمشق»، وروى ذلك كله بأسانيده وهم:

أبو بكر الصدّيق، وعمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي، والزبير، وأبيّ بن كعب بن قيس، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان، ومحمد بن مسلمة، والأرقم بن أبي الأرقم، وأبان بن سعيد بن العاص وأخوه خالد بن سعيد، وثابت بن قيس، وحنظلة بن الربيع، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن الأرقم، وعبد الله بن زيد بن عبد ربه، والعلاء بن عتبة، والمغيرة بن شعبة، والسجل، وزاد غيره شرحبيل بن ح سنة، وقالوا: وكان أكثرهم كتابة زيد بن ثابت ومعاوية رضي الله عنهم.

وسيأتي في غزوة أُحُد أن العباس كان بمكة وكتب إلى النبي كتابا يخبره بجمع قريش وخروجهم، فلما جاء كتاب العباس وكان أرسله مع رجل من بني غفار، فك رسول الله ختمه ودفعه لأبيّ بن كعب فقرأه عليه فاستكتم أبيّا.

فلو كان النبي يعرف القراءة لما دفع كتابا يحوي أخبارا سرية إلى أحد لقراءته.

قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: كنت جار رسول الله فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إليّ فكتبته له.

وذكر ابن ماكولا أن تميم بن جراشة وفد على النبي وروى عنه أنه قال: قدمت على النبي في وفد ثقيف فأسلمنا وسألناه أن يكتب لنا كتابا فيه شروط فقال: اكتبوا ما بدا لكم ثمّ ائتوني به. فسألناه في كتابنا أن يحلّ لنا الربا والزنا فأبى عليّ أن يكتب لنا فسألنا خالد بن سعيد بن العاص، فقال له عليّ: تدري ما تكتب؟ قال: أكتب ما قالوا ورسول الله أولى بأمره. فذهبنا بالكتاب إلى رسول الله فقال للقارىء: اقرأ، فلما انتهى إلى الربا قال: ضع يدي عليها فوضع يده فقال: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرّبَواْ} (البقرة: 278) الآية، ثم محاها وألقيت علينا السكينة فما راجعناه فلما بلغ «الزنا» وضع يده عليها وقال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} (الإسراء: 32) الآية، ثم محاها وأمر بكتابنا أن ينسخ لنا.

وقد زعم بعضهم أن النبي كان يتلو الكتب الدينية القديمة ومنها استقى معلوماته، وهذا الزعم لا أساس له، إذ لم يكن في جزيرة العرب كتب دينية باللغة العربية في ذلك الوقت، ومن المؤكد أنه ما كان يعرف أي لغة من اللغات الأجنبية.

وقد قيل أيضا: إنه اقتبس بعض تعاليم المسيحية أثناء سفره إلى الشام عندما كان يتاجر، وبديهي أن التاجر العربي الذي لا يعرف اللغة الآرامية واليونانية كان يتعذر عليه الحصول على معلومات دينية من مسيحيي الشام، أما الذين كانوا يتكلمون العربية من هؤلاء المسيحيين فقد كانوا جهالا أميين.

وأما ما قيل من أن ورقة بن نوفل ترجم جزءا من الكتب المسيحية إلى العربية فغير محتمل بالمرة ومع ذلك يزعم دومنغم في كتابه «حياة محمد» أن ورقة ترجم الأناجيل إلى العربية وهذا زعم لا أساس له إنما هو مجرد ظن.

فالمستشرقون الذين زعموا أن رسول الله كان يعرف القراءة والكتابة غضوا الطرف عن الآيات التي صرحت بأنه كان أميّا، ذلك لأنهم وجدوا أن القرآن معجز ويحتوي على قصص الماضين وعلى شريعة عظيمة فاقت كل الشرائع وفيه عظات بالغة وحكم وأمثال رائعة وأن أبناء هذا العصر مع تقدم العلوم والفنون وانتشار الجامعات لم يستطيعوا أن يضعوا شريعة للناس كالشريعة الإسلامية ولا آدابا وأخلاقا كالآداب والأخلاق الواردة في القرآن، فهالهم الأمر وتحيروا وقالوا في أنفسهم: من أين جاء لمحمد ( هذا العلم كله، وكيف كان أميّا؟ فإن قيل لهم: هذا دليل على نبوَّته وأنه كان يوحى إليه، لم يسلموا لأنهم لو سلموا بنزول الوحي عليه لزمهم التصديق برسالته تخلُّصا من هذا المأزق، ونفوا عنه الأمية وقالوا: إنه كان يقرأ ويكتب ويتلو الكتب القديمة ولما وجدوا أن التاريخ لا يساعدهم على هذا الزعم لأن معاصريه أقروا أنه كان أميّا وأن ذلك يطابق ما جاء في القرآن، قال قائلهم: إنه كان يخفي أمره ويكتم عن الناس (وعن الناس جميعا حتى عن زوجاته وأولاده وجميع أصحابه) علمه بالقراءة والكتابة، وهذا قول مضحك لأن الذي يقرأ ويكتب لا بد أن يراه أحد بل يراه كثير من الناس، فإن هذا أمر لا يمكن إخفاؤه كالأكل والشرب، هذه هي الحقيقة وهذا ما نعتقد وما يجب أن يعتقده كل باحث في السيرة المحمدية والشريعة الإسلامية.

فترة الوحي

جاء في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما وهو يحدث عن فترة الوحي فقال: قال رسول الله في حديثه: «بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني زملوني فأنزل الله تعالى: {يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر: 1 - 5) فحمى الوَحْي وتتابع».

قال ابن إسحاق: ابتدىء رسول الله بالتنزيل في شهر رمضان بقول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (البقرة: 185)، وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ سَلَمٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (القدر: 1 - 5)، وقال الله تعالى: {حم وَالْكِتَبِ الْمُبِينِ إِنَّآ أَنزَلْنَهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَرَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرا مّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} (الدخان: 1 - 5)، وقال تعالى: {إِن كُنتُمْ ءامَنْتُم بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} (الأنفال: 41) وذلك ملتقى رسول الله والمشركين ببدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من رمضان.

ولما فتر الوحي حزن النبي حزنا شديدا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس الجبال فكلما أوفى على ذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدّى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه، وكانت مدة فترة الوحي ثلاث سنين كما جزم به ابن إسحاق ثم نزل عليه جبريل بسورة الضحى يقسم له ربه، وهو الذي أكرمه بما أكرمه به، وما ودعه وما قلاه، فقال تعالى: {وَالضُّحَى وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلاْخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاْولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيما فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَآئِلا فَأَغْنَى} (الضحى: 1 - 8) يعرفه الله أنه ما قطعه قطع المودع وما أبغضه.

رُوي أن الوحي لما تأخر عنه قال المشركون إن محمدا ودعه ربه وقلاه فنزلت ردا عليهم: {وَلَلاْخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاْولَى}، فإنها باقية خالصة من الشوائب وهذه فانية مشوبة بالمضار.

أول من آمن به

أول من آمن به من الرجال البالغين الأحرار أبو بكر، ومن الصبيان عليٌّ، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن العبيد بلال بن رباح الحبشي.

قال أهل الأثر وعلماء السير: إن أول الناس إيمانا به على الإطلاق خديجة رضي الله عنها وصلى رسول الله معها آخر يوم الاثنين وهو أول يوم من صلاته وكانت الصلاة وقتئذ ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي.

وكان عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه لم يبلغ الحلم حين أسلم وكان ابن عشر سنين وكان عند النبي قبل أن يوحى إليه يطعمه ويقوم بأمره وهو أصغر إخوته وسيأتي سبب إسلامه رضي الله عنه في ترجمة حياته.

وأول من أسلم من النساء بعد خديجة أم أيمن وأم الفضل زوج العباس وأسماء بنت أبي بكر وأم جميل فاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب.

أبو بكر الصديق وإسلامه

هو عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التيمي.

ولد أبو بكر سنة 573 م وهو أول الخلفاء وأمه أم سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، وهي ابنة عم أبي قحافة وهو صاحب رسول الله في الغار وفي الهجرة والخليفة بعده، روى عن النبي وروى عنه عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وحذيفة وزيد بن ثابت وغيرهم، وقد اختلف في اسمه فقيل: كان عبد الكعبة فسماه رسول الله عبد الله، وقيل: إن أهله سموه عبد الله ولا يبعد ذلك لأن التسمية بعبد الله كانت موجودة قبل الإسلام؛ ويقال له عتيق أيضا، واختلفوا في السبب الذي قيل له لأجله «عتيق» فقال بعضهم: قيل له عتيق لحسن وجهه وجماله، قاله الليث بن سعد وجماعة معه. وقال الزبير بن بكار وجماعة معه: إنما قيل له عتيق لأنه لم يكن في نسبه شيء يعاب به، وقيل: إنما سمي عتيقا لأن رسول الله قال: «أنت عتيق من النار». وعن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر دخل على رسول الله فقال له: «أنت عتيق من النار» فيومئذ سُمي عتيقا، وقيل له: «الصديق» أيضا، قالت عائشة رضي الله عنها: لما أُسريَ بالنبي إلى المسجد الأقصى أصبح يحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن كان قد آمن وصدق وفتنوا به، فقال أبو بكر: إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء غدوة أو روحة، فلذلك سُمي أبو بكر الصدّيقَ، وقال أبو محجن الثقفي:

وسميت صديقا وكل مهاجر ** سواك يسمى باسمه غير منكر

سبقت إلى الإسلام والله شاهد ** وكنت جليسا في العريش المشهر

وكان رضي الله عنه صديقا لرسول الله قبل البعثة وهو أصغر منه سنا بثلاث سنوات، وكان يكثر غشيانه في منزله ومحادثته وقيل: كُنّي بأبي بكر لابتكاره الخصال الحميدة فلما أسلم آزر النبي في نصر دين الله تعالى بنفسه وماله وكان له لما أسلم أربعون ألف درهم أنفقها في سبيل الله مع ما كسب من التجارة، قال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَى} (الليل: 17 - 19)، وقد أجمع المفسرون على أن المراد منه أبو بكر؛ قال الفخر الرازي ردا على من قال إنها نزلت في حق عليّ رضي الله عنه: «ولما ذكر ذلك بعضهم في محضري قلت أقيم الدلالة العقلية على أن المراد من هذه الآية أبو بكر، وتقريرها أن المراد من هذا الأتقى هو أفضل الخلق فإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد هو أبو بكر فهاتان المقدمتان متى صحتا صح المقصود إلى أن قال - لأن الأمة مجمعة على أن أفضل الخلق بعد رسول الله إما أبو بكر أو عليّ ولا يمكن حمل هذه الآية على عليّ بن أبي طالب فتعين حملها على أبي بكر، وإنما قلنا لا يمكن حملها على عليّ بن أبي طالب لأنه قال في صفة هذا الأتقى: {وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَى} (الليل: 19)، وهذا الوصف لا يصدق على عليّ بن أبي طالب لأنه كان في تربية النبي ولأنه أخذه من أبيه وكان يطعمه ويسقيه ويكسوه ويربيه وكان الرسول منعما عليه نعمة يجب جزاؤها، أما أبو بكر فلم يكن للنبي عليه السلام عليه نعمة دنيوية بل أبو بكر كان ينفق على الرسول عليه السلام، بل كان للرسول عليه السلام عليه نعمة الهداية والإرشاد إلى الدين إلا أن هذا لا يجزي لقوله تعالى: {مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} (الفرقان: 57) والمذكور ها هنا ليس مطلق النعمة بل نعمة تجزى فعلمنا أن هذه الآية لا تصلح لعليّ رضي الله عنه».

كان أبو بكر رضي الله عنه من رؤساء قريش في الجاهلية محببا فيهم مؤلفا لهم وكان إليه الأشناق في الجاهلية كان إذا حمل شيئا صدّقته قريش وأمضوا حمالته وحمالة من قام معه وإن احتملها غيره خذلوه ولم يصدقوه فلما جاء الإسلام سبق إليه وأسلم على يده جماعة لمحبتهم له وميلهم إليه حتى إنه أسلم على يده خمسة من العشرة، وقد ذهب جماعة إلى أنه أول من أسلم، قال الشعبي: سألت ابن عباس من أول من أسلم؟ قال: أبو بكر، أما سمعت قول حسان:

إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ** فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا

خير البرية أتقاها وأعدلها ** بعد النبي وأوفاها بما حملا

والثاني التالي المحمود مشهده ** وأول الناس قدما صدّق الرسلا

وكان أعلم العرب بأنساب قريش وما كان فيها من خير وشر وكان تاجرا ذا ثروة طائلة وكريما حسن المجالسة عالما بتعبير الرؤيا، ولما أسلم جعل يدعو الناس إلى الإسلام، قال ابن إسحاق: بلغني أن النبي قال: «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة ونظر وتردد إلا ما كان من أبي بكر رضي الله عنه ما عتم عنه حين ذكرته له» - أي أنه بادر به -، ونزل فيه وفي عمر: {وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ} (آل عمران: 159)، فكان أبو بكر بمنزلة الوزير من رسول الله فكان يشاوره في أموره كلها ولما اشتد أذى كفار قريش لم يهاجر إلى الحبشة مع المهاجرين بل بقي مع رسول الله وهاجر معه إلى المدينة تاركا عياله وأولاده وأقام معه في الغار ثلاثة أيام، قال الله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة: 40).

لما كانت الهجرة جاء رسول الله إلى أبي بكر وهو نائم فأيقظه فقال رسول الله «قد أذِنَ لي في الخروج»، قالت عائشة: فلقد رَأيت أبا بكر يبكي من الفرح، ثم خرجا حتى دخلا الغار فأقاما فيه ثلاثة أيام، قال تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة: 40).

وقد دلت هذه الآية على فضيلة أبي بكر لأن رسول الله لولا ثقته التامة بأبي بكر لما استصحبه في هجرته واستخلصه لنفسه وكل من سوى أبي بكر فارق رسول الله وأنه تعالى سماه ثاني اثنين، وكان النبي يكرمه ويجله ويعرّف أصحابه مكانه ويثني عليه في وجهه، واستخلفه في الصلاة وشهد مع رسول الله بدرا وأُحُدا والخندق وبيعة الرضوان بالحديبية وخيبر وفتح مكة وحنينا والطائف وتبوك وحجة الوداع.

قال رسول الله «لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا»، ودفع أبو بكر عقبة بن أبي معيط عن رسول الله لما خنق رسول الله وهو يصلي عند الكعبة خنقا شديدا وقال: «يا قوم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم» وأعتق أبو بكر سبعة كانوا يعذبون في الله تعالى منهم بلال وعامر بن فهيرة، وكان أبو بكر إذا مُدح قال: «اللهم أنت أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم اللهم اجعلني خيرا مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون» وهذا من تواضعه رضي الله عنه، ومما يدل على قوة إرادة أبي بكر ما قاله أبو السفر وهو: دخلوا على أبي بكر في مرضه فقالوا: يا خليفة رسول الله ألا ندعو لك طبيبا ينظر إليك؟ قال: قد نظر إليّ، قالوا: ما قال؟ قال: «إني فعَّال لما أريد».

قال عمر رضي الله عنه: أمرنا رسول الله أن نتصدق ووافق ذلك مالا عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته، فجئت بنصف مالي، فقال: «ما أبقيت لأهلك»؟ قلت: مثله، جاء أبو بكر بكل ما عنده فقال: «يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك»؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسبقه إلى شيء أبدا.

ومن أخبار تواضعه رضي الله عنه أنه كان يحلب للحيّ أغنامهم، فلما بويع بالخلافة قالت جارية من الحي: الآن لا يحلب لنا منائحنا، فسمعها أبو بكر فقال: بلى لعمري لأحلبنها لكم وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه، فكان يحلب لهم، فربما قال للجارية: أتحبين أن أرغي لك أو أن أصرح؟ فأي ذلك؟ قالت: فعل.

والآن يقولون إننا في عصر المدنية والحرية والديمقراطية ومع هذا تجد الموظف الصغير يأنف أن يكلم الناس أو يقضي حوائجهم.

وعن سالم بن عبيد أن النبي لما اشتد مرضه أُغمِيَ عليه فلما أفاق قال: «مروا بلالا فليؤذن ومروا أبا بكر فليصل بالناس»، قال: ثم أُغميَ عليه فقالت عائشة: إن أبي رجل أسِيف فلو أمرت غيره، فقال: «أقيمت الصلاة»؟ فقالت عائشة: يا رسول الله إن أبي رجل أسِيف فلو أمرت غيره، قال: «إنكن صواحبات يوسف مروا بلالا فليؤذن ومروا أبا بكر فليصل بالناس»، ثم أفاق فقال: «أقيمت الصلاة»؟ قالوا: نعم، قال: «ادعوا لي إنسانا أعتمد عليه» فجاءت بريرة وإنسان آخر فانطلقوا يمشون به وإن رجليه تخطان في الأرض، فأجلسوه إلى جنب أبي بكر فذهب أبو بكر يتأخر فحبسه حتى فرغ الناس فلما توفي - قال: وكانوا قوما أميين لم يكن فيهم نبي قبله - قال عمر: لا يتكلم أحد بموته إلا ضربته بسيفي هذا، فقالوا له: اذهب إلى صاحب رسول الله فادعه - يعني أبا بكر -، فذهبت، فوجدته في المسجد قال: فأجهشت أبكي، قال: لعل نبي الله توفي، قلت: إن عمر قال لا يتكلم أحد بموته إلا ضربته بسيفي هذا، قال: فأخذ بساعدي ثم أقبل يمشي حتى دخل فأوسعوا له فأكب على رسول الله حتى كاد وجهه يمس وجه رسول الله فنظر نفسه حتى استبان أنه توفي، فقال: إنك ميت وإنهم ميتون، قالوا: يا صاحب رسول الله توفي رسول الله قال: نعم، فعلموا أنه كما قال.

قال ابن إسحاق: توفي أبو بكر رضي الله عنه يوم الجمعة لسبع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشر (23 أغسطس سنة 634) وصلى عليه عمر بن الخطاب.

توفي بعد النبي بسنتين وأشهر بالمدينة وهو ابن ثلاث وستين سنة.

وكان أبو بكر رجلا أبيض نحيفا خفيف العارضين أحنى، معروق الوجه، غائر العينين، ناتىء الجبهة، عاري الأشاجع، يخضب بالحناء والكتم، وكان أول من أسلم من الرجال وأسلم أبواه، له ولوالديه ولولده وولد ولده صحبة رضي الله عنهم، واختلف في سبب موته، فقيل: إنه مات مسموما، وقيل: إنه اغتسل في يوم بارد فَحُمَّ خمسة عشر يوما ثم مات بعدها، وقيل: إنه مات كمدا على رسول الله

هذه ترجمة حياة أبي بكر أثبتناها هنا بمناسبة إسلامه وما كان له من الشأن العظيم والقدر الرفيع، ولأنه قد بذل المجهود في نصرة الرسول فدل بذلك على غاية الوفاء ومنتهى الإخلاص، ولم يكن - رضي الله عنه - رجلا ضعيفا كما ظن بعض المستشرقين، بل كان شجاعا وكان مع شجاعته مخلصا لا يبالي بالأهوال ويحتمل المشقات كما يستفاد من سيرته، فبقي مع الرسول ولم يهاجر إلى الحبشة مع المهاجرين عند اشتداد أذى الكفار على المسلمين، ولما دعاه النبي إلى الهجرة معه بكى من فرط السرور واشترك معه في غزواته، وهو ممن ثبت مع رسول الله في غزوة أُحُد، ولما توفي النبي فقد الناس صوابهم وقال عمر من قال: إن محمدا مات ضربته بسيفي هذا، أما أبو بكر فملك شعوره ولم يفقده وقع المصاب الجلل صوابه، فقال: إنك ميت وإنهم ميتون، وسيأتي تفصيل ذلك عند ذكر وفاة رسول الله فإذا كانت هذه مواقف ضعف وخلال وهن فأين مواطن القوة؟ ولم نذكر هنا أعماله الجليلة في خلافته.

يقول هؤلاء المستشرقون إنه كان يصدق الرسول تصديقا أعمى وإنه كان كالنساء سريع البكاء، وهو قول عجيب، فكيف لا يصدق الرسول وهو يعلم أنه صادق لا يكذب، بل هو أعلم خلق الله بصدقه عليه الصلاة والسلام لصحبته له تلك الصحبة الطويلة، إن تصديقه لرسول الله في كل ما قاله نتيجة الثقة به ولأجل هذه الثقة المتينة كان لا يتردد في التصديق به، ولأجلها تحمل معه الشدائد والاضطهادات، ولأجلها أنفق أمواله كلها وهذا شأن العاقل الذي إذا ثبت يقينه على أساس قوي لم يبال بما يصادفه من عقبات في سبيل نصرة الحق، أما بكاؤه عند سماع القرآن فهذا أظهر دليل على إخلاصه وتوقد ذكاؤه وقوة فهمه لكلام الله عز وجل إذ بقدر الفهم يكون التأثر، وقد أجمعوا على كثرة علمه ووفور عقله وفهمه وزهده وتواضعه.

كلماته المأثورة

كان رضي الله عنه يقول:

«أكيس الكياسة التقوى، وأحمق الحمق الفجور، وأصدق الصدق الأمانة، وأكذب الكذب الخيانة، إن العبد إذا داخله العجب بشيء من زينة الدنيا مقته الله تعالى حتى يفارق تلك الزينة، ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل، وكان يأخذ بطرف لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد».

وقال: «لا خير في قول لا يراد به وجه الله ولا في مال لا ينفق منه في سبيل الله، ولا فيمن يغلب جهلُه حلمَه، ولا فيمن لا يخاف في الله لومة لائم».

«وجدنا الكرم في التقوى والغَناء في اليقين والشرف في التواضع».

«من مقت نفسه في ذات الله، أمنه الله من مقته».

«فاز بالمروءة من امتطى التغافل، وهان على القربى من عرف باللجاج».

«إياكم والفخر، وما فخر من خلق من تراب ثم إليه يعود، ثم يأكله الدود».

«لا خير في خير بعده النار، ولا شر في شر بعده الجنة».

علي بن أبي طالب وإسلامه

علي بن أبي طالب بن عبد المطلب ابن عم رسول الله ولد سنة 600 - 601 بعد الميلاد، وأم عليّ فاطمة بنت أسد بن هاشم وكنيته أبو الحسن وصهر رسول الله على ابنته فاطمة وأبو السِّبطين، وهو أول هاشمي وُلد من هاشميين، والخليفة الرابع وأول خليفة من بني هاشم وكان حين أسلم لم يبلغ الحلم، وقال ابن إسحاق: إنه كان يومئذ ابن عشر سنين وكان في كفالة النبي قبل أن يوحى إليه لأن قريشا أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب كثير العيال، قليل المال، فأخذ رسول الله عليّا وضمه إليه وأخذ العباس جعفرا وضمه إليه تخفيفا عن أبي طالب ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه.

وسبب إسلامه أنه دخل على النبي ومعه خديجة رضي الله عنها وهما يصليان سواء، فقال: ما هذا؟ فقال رسول الله «دين الله الذي اصطفاه لنفسه وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته والكفر باللات والعزى»، فقال علي رضي الله عنه: هذا أمر لم أسمع به من قبل اليوم فلست بقاض أمرا حتى أحدث أبا طالب، وكره رسول الله أن يفشي سره قبل أن يستعلن أمره، فقال له: «يا عليّ إذا لم تسلم فاكتم هذا»، فمكث عليّ ليلته ثم إن الله تعالى هداه إلى الإسلام فأصبح غاديا إلى رسول الله فأسلم على يديه، وكان عليّ رضي الله عنه يخفي إسلامه خوفا من أبيه إلى أن اطلع عليه وأمره بالثبات عليه فأظهره حينئذ، أما أبو طالب فلم يرض أن يفارق دين آبائه، وعن أنس بن مالك قال: بُعث النبي يوم الاثنين وأسلم عليّ يوم الثلاثاء، وأمره رسول الله أن يضطجع على فراشه ليلة خرج مهاجرا وقال: «إن قريشا لم يفقدوني ما رأوك» فاضطجع على فراشه، وسيأتي ذكر ذلك عند الكلام على الهجرة، ثم لحق برسول الله بالمدينة بعد قضاء ديون رسول الله وردّ الودائع التي كانت عنده، فلما وصل إليها كانت قدماه قد ورمتا من المشي وكانتا تقطران دما فاعتنقه رسول الله وبكى رحمة لما أصاب قدميه وتفل في يديه ومسح بهما رجليه ودعا له بالعافية فلم يشتكهما حتى استشهد رضي الله عنه، وشهد بدرا وغيرها من المشاهد، ولم يشهد غزوة تبوك لا غير لأن رسول الله خلفه على أهله، وأصابته يوم أُحُد ست عشرة ضربة، وكان عليّ رضي الله عنه مع شجاعته الفائقة عالما.

واستخلف عليّ رضي الله عنه، وبويع بالمدينة في مسجد رسول الله بعد قتل عثمان وذلك في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة سنة خمس وثلاثين (24 يونيه 656).

قتله رضي الله عنه

انتدب ثلاثة نفر من الخوارج: عبد الرحمن بن ملجم المرادي وهو من حمير وعداده في بني مراد وهو حليف بني جبلة، من كندة والبرك بن عبد الله التميمي، وعمرو بن بكير التميمي، فاجتمعوا بمكة وتعاهدوا وتعاقدوا ليقتلن هؤلاء الثلاثة عليّ بن أبي طالب ومعاوية وعمرو بن العاص ويريحون العباد منهم، فقال ابن ملجم: أنا لكم بعليّ، وقال البرك: أنا لكم بمعاوية، وقال عمرو بن بكير: أنا أكفيكم عمرو بن العاص فتعاهدوا على ذلك وتعاقدوا عليه وتواثقوا ألا ينكص منهم رجل عن صاحبه الذي سمي له ويتوجه له حتى يقتله أو يموت دونه، فحددوا ليلة سبع عشرة من رمضان ثم توجه كل رجل منهم إلى المصر الذي فيه صاحبه، فقدم عبد الرحمن بن ملجم الكوفة فلقي أصحابه من الخوارج فكاتمهم ما يريد وكان يزورهم ويزورونه فزار يوما نفرا من بني تيم الرباب فرأى امرأة منهم يُقال لها: قطام بنت سخبة بن عدي بن عامر بن عوف بن ثعلبة بن سعد بن ذهل بن تيم الرباب وكان عليّ قتل أباها وأخاها بالنهروان فأعجبته فخطبها، فقالت: لا أتزوجك حتى تسمي لي، فقال: لا تسأليني شيئا إلا أعطيتك، فقالت: ثلاثة آلاف وقتل عليّ بن أبي طالب، فقال: والله ما جاء بي إلى هذا المصر إلا قتل عليّ وقد أعطيتك ما سألت، ولقي ابن ملجم شبيب بن بجرة الأشجعي فأعلمه ما يريد ودعاه أن يكون معه فأجابه إلى ذلك وظل ابن ملجم تلك الليلة التي عزم فيها أن يقتل عليا في صبيحتها يناجي الأشعث بن قيس الكندي في مسجده حتى طلع الفجر، فقال له الأشعث، فضحك الصبحُ فقام ابن ملجم الكندي وشبيب بن بجرة فأخذا أسيافهما ثم جاءا حتى جلسا في مقابل السدة التي يخرج منها عليّ، فلما خرج اعترضه الرجلان فضرب الاثنان بسيفيهما، فأما سيف ابن ملجم فأصاب جبهته إلى قرنه ووصل إلى دماغه وكان قد سنّ سيفه شهرا، وأما سيف شبيب فوقع في الطاق فسمع عليّ يقول: لا يفوتنكم الرجل وشد الناس عليهما من كل جانب، فأما شبيب فأفلت وأُخذ ابن ملجم فأدخل على عليّ فقال: «أطيبوا طعامه وألينوا فراشه فإن أعش فأنا وليّ دمي عفو أو قصاص، وإن أمت فألحقوه بي أخاصمه عند رب العالمين» ضرب عليّ رضي الله عنه في السابع عشر من شهر رمضان سنة أربعين (24 يناير سنة 661) واستشهد بعد ذلك بثلاثة أيام ودفن بالكوفة ليلة الأحد التاسع عشر من شهر رمضان وغسله الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة على الأصح وكانت خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر.

قال عليّ الباقر: كان عليّ آدم اللون مقبل العينين عظيمهما ذا بطن، أصلع، ربعة لا يخضب، وقال أبو إسحاق السبيعي: رأيته أبيض الرأس واللحية وكان ربما خضب لحيته، وقال أبو رجاء العطاردي: رأيت عليا ربعة، ضخم البطن، كبير اللحية قد ملأت صدره، أصلع، شديد الصلع.

هذا وقد اقتصرت في تاريخ حياة عليّ رضي الله عنه عَلى هذا القدر الضروري لأن المقام لا يسع أكثر من ذلك.

زيد بن حارثة وإسلامه

زيد بن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى، ويقع في نسبه خلاف وتغيير وزيادة ونقص وهو أشهر موالي رسول الله، ويقال له حِب رسول الله وهبته خديجة رضي الله عنها للنبي قبل النبوة وهو ابن ثمان سنين وأعتقه رسول الله وتبنَّاه وذلك أن أباه قد وَجَدَ (حَزِنَ) لفقده وجدا شديدا وكان قد أخذ في السبي، فلما علم أبوه أنه بمكة قدمها ليفديه فدخل حارثة وأخوه كعب على النبي فقالا: يا ابن عبد المطلب، يا ابن هاشم، يا ابن سيد قومه جئناك في ابننا عندك فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه، فقال: «من هو»؟ قالا: زيد بن حارثة، فقال رسول الله «فهلا غير ذلك؟» قالا: ما هو؟ قال: «ادعوه وخيروه فإن اختاركم فهو لكم وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحدا»، قالا: قد زدتنا على النصف وأحسنت فدعاه رسول الله فقال: «هل تعرف هؤلاء؟» قال: نعم، هذا أبي وهذا عمي، قال: «فأنا من قد عرفت ورأيت صحبتي لك فاخترني أو اخترهما»، قال: ما أريدهما وما أنا بالذي أختار عليك أحدا، أنت مني فكان الأب والعم، فقالا: ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وأهل بيتك؟ قال: نعم، ورأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا، فلما رأى رسول الله ذلك أخرجه إلى الحجر فقال: «يا من حضر اشهدوا أن زيدا ابني يرثني وأرثه»، فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما وانصرفا.

وهاجر زيد مع رسول الله إلى المدينة وشهد بدرا وأُحدا والخندق والحديبية وخيبر، وكان هو البشير إلى المدينة بنصر المؤمنين يوم بدر، وكان من الرماة المذكورين وزوَّجه رسول الله مولاته أم أيمن فولدت له أسامة، وتزوج زينب بنت جحش أم المؤمنين، ثم طلقها، ثم تزوجها رسول الله وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «لو كان رسول الله كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَهُ} (الأحزاب: 37)، إلى قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا} (الأحزاب: 37)، فإن رسول الله لما تزوجها - يعني زينب - قالوا: إنه تزوج حليلة ابنه فأنزل الله تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيّينَ} (الأحزاب: 40)، وكان زيد يقال له زيد بن محمد فأنزل الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لاِبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} (الأحزاب: 5) الآية.

قال العلماء: ولم يذكر الله عز وجل في القرآن باسمه العلم من أصحاب نبينا وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم إلا زيدا في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَرا زَوَّجْنَكَهَا} (الأحزاب: 37).

وآخى رسول الله بينه وبين حمزة، وأرسله رسول الله أخيرا أميرا على الجيش في غزوة مؤتة فقاتل فيها حتى قتل وذلك في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة، وكان زيد أبيض أحمر وكان ابنه أسامة آدم شديد الأدمة (أي أسمر).

الدعوة إلى الإسلام خفية

بعد أن نزلت سورة: «يا أيها المدثر» أخذ رسول الله يدعو الناس إلى الله تعالى وتتابع الوحي، ونزول هذه السورة ابتداء رسالته فهي متأخرة عن نبوته، وصار عليه الصلاة والسلام يدعو الناس إلى الإسلام خفية ثلاث سنين لعدم الأمر بالإظهار إلى أن أُمر بإظهار الدعوة وكان من أسلم إذا أراد الصلاة ذهب إلى بعض الشعاب ليستخفي بصلاته من المشركين حتى اطلع نفر من المشركين على سعد بن أبي وقاص وهو في نفرٍ من المسلمين يصلون في بعض الشعاب فناكروهم وعابوا ما يصنعون وقاتلوهم فضرب سعد رجلا منهم فشجه وهو أول دم أهريق في الإسلام، فعند ذلك خل رسول الله هو وأصحابه دار الأرقم مستخفين بصلاتهم وعبادتهم إلى أن أمره الله تعالى بإظهار الدين، ودار الأرقم هي دار للأرقم بن أبي الأرقم من السابقين في الإسلام وهي في أصل الصفا.

وقد أسلم من الصحابة بدعاء أبي بكر: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن ابن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله فجاء إلى رسول الله حين استجابوا له فأسلموا وصلوا وهنا يجب أن نذكر شيئا عنهم لرفعة شأنهم.

1 - فعثمان بن عفان هو الخليفة الثالث، هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة ويقال له: ذو النورين لأنه تزوج بنتي رسول الله رقية ثم أم كلثوم بعد وفاة رقية، ولد في السنة السادسة بعد الفيل وقتل شهيدا يوم الجمعة لثمان عشرة خلون من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وهو ابن 82 سنة وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة، وفي زمنه كانت غزوة الإسكندرية ثم سابور ثم إفريقية ثم قبرس وإصطخر الآخرة وفارس الأولى ثم خوز وفارس الآخرة ثم طبرستان ودار بجرد وكرمان وسجستان ثم الأساودة في البحر وغيرهن ثم مرو.

وكان رضي الله عنه حسن الوجه، رقيق البشرة، كث اللحية، أسمر كثير الشعر، بين الطويل والقصير وكان محببا من قريش.

2 - الزبير بن العوام أمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله فهو ابن عمة رسول الله وابن أخي خديجة بنت خويلد زوجة النبي، وكان عمره حين أسلم اثنتي عشرة سنة، وهو أحد الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة في أحدهم: عثمان وعليّ وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف، هاجر الزبير إلى الحبشة ثم إلى المدينة وهو أول من سلّ سيفا في سبيل الله، شهد بدرا وأُحدا والخندق والحديبية وخيبر وفتح مكة وحصار الطائف والمشاهد كلها مع رسول الله وشهد اليرموك وفتح مصر، وكان أسمر ربعة معتدل اللحم خفيف اللحية، وكان الزبير يوم الجمل قد ترك القتال وانصرف فلحقه جماعة من الغوغاء فقتلوه بوادي السباع بناحية البصرة وقبره هناك، قتل في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين وكان عمره حينئذ سبعا وستين، وقيل: ستا وستين سنة.

3 - عبد الرحمن بن عوف ولد بعد الفيل بعشر سنين قبل دخول رسول الله دار الأرقم، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة الذين هم أهل الشورى الذين أوصى إليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالخلافة، وجرح يوم أُحُد إحدى وعشرين جراحة وجرح في رجله وسقطت ثنيتاه، وكان كثير الإنفاق في سبيل الله، أعتق في يوم واحدا وثلاثين عبدا، وكان كثير المال محظوظا في التجارة، غنيا، وكان أبيض مشربا بحمرة، حسن الوجه، رقيق البشرة، أعين، أهدب الأشفار، أقنى له جمة ضخم الكفين غليظ الأصابع لا تغير بشعره، توفي سنة ثنتين وثلاثين وهو ابن ثنتين وسبعين ودفن بالبقيع.

4 - سعد بن أبي وقاص - وكان عمره حين أسلم تسع عشرة سنة وهو أحد العشرة وأحد الستة أصحاب الشورى وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله وأول من أراق دما في سبيل الله، هاجر إلى المدينة قبل قدوم رسول الله إليها، شهد مع رسول الله بدرا وأُحُدا والخندق وسائر المشاهد وكان يقال له فارس الإسلام، وأبلى يوم أُحد بلاءً شديدا وكان مجاب الدعوة، استعمله عمر بن الخطاب على الجيوش التي بعثها إلى بلاد فارس، وكان أمير الجيش الذي هزم الفرس بالقادسية وبجلولاء وغنمهم وفتح مدائن كسرى وبنى الكوفة وولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه العراق، ورمى سعد يوم أُحُد ألف سهم، ولما قتل عثمان رضي الله عنه اعتزل سعد الفتن فلم يقاتل في شيء من تلك الحروب، توفي سنة خمس وخمسين بقصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة ودفن بالبقيع وكان آدم طوالا ذا هامة.

5 - طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى وسماه رسول الله طلحة الخير وطلحة الجود وهو من المهاجرين الأولين لم يشهد بدرا وشهد أُحُدا وما بعدها من المشاهد: قتل يوم الجمل لعشر خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، وكان عمره أربعا وستين سنة وقبره بالبصرة مشهور يُزار ويُتبرك به.

هذا جزء يسير من تراجم الخمسة الذين أسلموا بدعاء أبي بكر، وهم من الرجال الذين ذاع صيتهم في الإسلام لما قاموا به من جلائل الأعمال، وقد أسلم بعد هؤلاء: أبو عبيدة الجراح واسمه عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم، وعثمان بن مظعون وأخواه قدامة وعبد الله ابنا مظعون، وعبيدة بن الحارث وسعيد بن زيد وامرأته فاطمة بنت الخطاب وأسماء بنت أبي بكر وعائشة بنت أبي بكر وهي صغيرة وخباب بن الأرتّ حليف بني زهرة وعمير بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود ومسعود بن القاري وهو مسعود بن ربيعة وسليط بن عمرو وأخوه حاطب بن عمر وعيَّاش بن أبي ربيعة بن المغيرة وامرأته أسماء بنت سلامة وخنيس بن حذافة بن قيس وعامر بن ربيعة وعبد الله بن جحش وأخوه أبو أحمد بن جحش وجعفر بن أبي طالب وامرأته أسماء بنت عُمَيس وحاطب ابن الحارث وغيرهم.

الرد على مستر مرجوليوث

قدمنا أن عثمان بن عفان قد أسلم إجابة لدعوة أبي بكر، لكن الأستاذ مرجليوث في كتابه «محمد» يزعم أن سبب إسلامه أنه كان يحب رقية بنت رسول الله ويريد أن يتزوجها، فلما بلغه أنها خطبت لغيره حزن وأخبر أبا بكر بما بلغه وصادف مرور رسول الله فأسرّ أبو بكر كلمات في أذن الرسول وبذلك انتهى الأمر وأسلم عثمان وتزوج رقية، ولم يذكر لنا مستر مرجوليوث المصدر الذي استقى منه هذا الخبر حتى نناقشه ونفنده فما كل رواية يؤخذ بها ويعوّل عليها، ثم تعرض بعد ذلك إلى خالد بن سعيد وسبب إسلامه، فقد كان خالد من السابقين إلى الإسلام فكان ثالثا أو رابعا وقيل: كان خامسا في الإسلام، وسبب إسلامه أنه رأى في النوم أنه وقف على شفير النار فذكر من سعتها ما الله أعلم به وكأن أباه يدفعه فيها ورأى رسول الله آخذا بحقويه لا يقع فيها ففزع من نومه وقال: أحلف إنها لرؤيا حق ولقي أبا بكر رضي الله عنه فذكر ذلك له، فقال له أبو بكر: أُريد بك خيرا، هذا رسول الله فاتبعه فإنك ستتبعه في الإسلام الذي يحجزك من أن تقع في النار وأبوك واقع فيها. فلقي رسول الله وهو بأجياد فقال: «يا محمد إلى من تدعو؟ قال: «أدعو إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع ولا يدري من عبده ممن لم يعبده»، قال خالد: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. فسرَّ رسول الله بإسلامه، وبعد أن ذكر مرجوليوث رؤيا خالد باختصار وتعبير أبي بكر لها وأن هذه الرؤيا كانت سبب إسلام خالد بن سعيد، تساءل هل الناس حقيقة يحلمون هكذا؟ لكنه قال: «إن فلاماريون وميرز (Flammarion and Myers) يجيبان نعم، إنهم يرون مثل ذلك» وهما من العلماء المشهورين، والمدهش أن الأستاذ مرجوليوث لا يعلم أن الناس يرون أحلاما هكذا مع إقرار علماء النفس في أوربا وأمريكا بذلك، والأحلام على العموم شائعة بين الناس، وليست رؤيا خالد من الأحلام المستغربة حتى يشك فيها مثل مرجوليوث، أما إذا كان الشك لغرض فهذا أمر آخر.

إن الناس يرون أحلاما يتحقق بعضها وبعضها يحتاج إلى تأويل، ويستبعد جدا أن يقص إنسان حلما مختلفا وليس للأحلام حدود أو ضوابط حتى يقال: إن هذا حلم وهذا ليس بحلم، فلا محل لتحكّم مستر مارجوليوث واستنكاره رؤيا خالد بن سعيد للنار، وهذا يوسف عليه السلام ورؤياه التي قصها على أبيه فقد تحققت بعد أربعين عاما وما رآه الفتيان اللذان كانا معه في السجن مما ورد ذكره في القرآن فقد عبّر يوسف عليه السلام رؤياهما وتحققت حسب تعبيره، إذ عاد أحدهما إلى مركزه السابق لدى الملك وأُعدم الآخر، إلا أن مستر مرجوليوث غرضه التهكم على الإسلام لا استنكار الأحلام، وهذا لا يليق بمستشرق مثله.

إيذاء المشركين لأبي بكر الصديق

عبادة الأصنام مع أنها واضحة البطلان فإن العرب كانوا متمسكين بها تمسكا شديدا لرسوخها في نفوسهم منذ زمن طويل فلا يطيقون سماع من يعيبها أو يطعن فيها بل لا يقبلون إرشاد ناصح يخاطبهم بالحسنى ويناقشهم بالعقل والبرهان، فإذا قيل لهم كيف تعبدون الحجارة التي لا تنفع ولا تضر، ولا تبصر ولا تسمع، ولا تعلم من يعبدها، ومن لا يعبدها، ثارت ثائرتهم وقالوا: هذا ما وجدنا عليه آباءنا واعتدوا على أعز الناس لديهم وأشرفهم وأعقلهم وأسهلهم أخلاقا، فلم يكن من الحكمة وأصالة الرأي أن يجهر النبي وأصحابه القليلون بالإسلام ويؤدوا شعائرهم الدينية أمام أمة بأسرها متعصبة لدينها الوثني تعصبا أعمى.

وقد أدرك بعض أفراد بعقلهم الثاقب وفطرتهم السليمة أن قومهم في خطأ مبين فمنهم من مات وهو منكر لعبادة الأصنام قبل الإسلام، ومنهم من آمن برسول الله عندما بلغته رسالته كسلمان الفارسي أو عندما دعاه رسول الله إلى اتباع الدين القويم كأبي بكر، ومن أَسلم بدعائه وغيرهم ولم يبالوا بما يصيبهم من سخط قومهم وإيذائهم مع ما يعلمونه من قلة عدد المؤمنين في بادىء الأمر.

فما وقع لأبي بكر رضي الله عنه من الأذية ما ذكره بعضهم كما في «السيرة الحلبية» أن رسول الله لما دخل دار الأرقم ليعبد الله هو ومن معه من أصحابه سرا ألحَّ أبو بكر رضي الله عنه في الظهور، فقال له النبي «يا أبا بكر إنا قليل»، فلم يزل به حتى خرج رسول الله ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم وقام أبو بكر في الناس خطيبا ورسول الله جالس ودعا إلى رسول الله، فهو أول خطيب دعا إلى الله تعالى، فثار المشركون على أبي بكر رضي الله عنه وعلى المسلمين يضربونهم فضربوهم ضربا مبرحا، ووطىء أبو بكر بالأرجل وضرب ضربا شديدا، وصار عتبة بن ربيعة يضرب أبا بكر بنعلين مخصوفتين ويحرفهما إلى وجهه حتى صار لا يعرف أنفه من وجهه، فجاءت بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر إلى أن أدخلوه منزله ولا يشكون في موته، ثم رجعوا فدخلوا المسجد فقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة، ثم رجعوا إلى أبي بكر وصار والده أبو قحافة وبنو تيم يكلمونه فلا يجيب حتى آخر النهار، ثم تكلم وقال: ما فعل رسول الله فعذلوه فصار يكرر ذلك، فقالت أمه: والله ما لي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل فاسأليها عنه، فخرجت إليها وقالت لها أن تسأل عن محمد بن عبد الله، قالت: لا أعرف محمدا ولا أبا بكر، ثم قالت: تريدين أن أخرج معك؟ قالت: نعم، فخرجت معها إلى أن جاءت أبا بكر فوجدته صريعا فصاحت وقالت:

إن قوما نالوا هذا منك لأهلُ فسق، وإني لأرجو أن ينتقم الله منهم، فقال لها أبو بكر رضي الله عنه: ما فعل رسول الله فقالت له: هذه أمك تسمع، قال: فلا عين عليك منها، أي إنها لا تفشي سرك، قالت: سالم هو في دار الأرقم، فقال: والله لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله قالت أمه: فأمهلناه حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس خرجنا به يتكىء عليّ حتى دخل على رسول الله فرقّ له رقة شديدة وأكب عليه يقبّله وأكب عليه المسلمون كذلك، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما بي من بأس إلا ما نال الناس من وجهي وهذه أمي برّة لو دعوت لها فعسى الله أن يستنقذها بك من النار، فدعا لها رسول الله ودعاها إلى الإسلام فأسلمت.

لا شك أن المسلمين في ذلك الوقت كانوا في خطر شديد، فقد كان لا يهدأ للمشركين بال إلا إذا أساءوا إليهم ولذلك كان الاستخفاء في غاية الحكمة، وبقي المسلمون مستخفين في دار الأرقم حتى كملوا أربعين رجلا، وكان آخرهم إسلاما عمر بن الخطاب، فلما كملوا به أربعين خرجوا وأظهروا إسلامهم.

تلك شجاعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقوة إيمانه وصدق يقينه، لقد وقف أمام المشركين وجها لوجه ولم يبال بكثرتهم وعرّض حياته الغالية للخطر ليدعوهم إلى الحق، إلى عبادة الله الواحد القهار ونبذ الشرك وخلع الوثنية فأصيب بشر ما يصاب به إنسان وكاد يقضى عليه، فلما أفاق كان أول ما تلفظ به السؤال عن رسول الله ولم ترتح نفسه وتطمئن حتى رآه بعينيه سالما معافى، فأين هذا من الذين يخالفون عقائدهم ويميلون مع الأهواء وينضمون إلى من يأنسون فيه القوة ويعينون على الباطل لمتاع مؤقت لا يلبث أن يزول؟.

لو كان المسلمون في بادىء أمرهم متهاونين مذبذبين لما ثبتت دعائم الإسلام وصار قوي الأركان، متين البنيان، بل لقُبِرَ في مهده، لكنه ارتفع على كواهل رجال أقوياء صادقين أدهشوا العالم بأعمالهم وجهادهم حتى خضعت لهم أمم الأرض فبمثل عمل هؤلاء فليهتد المصلحون.

إظهار الإسلام سنة 613م

أمر الله سبحانه وتعالى النبي أن يصدع بما جاءه منه، وأن يدعو الناس إليه ويأمرهم به، وكان بين إخفاء رسول الله أمره واستتاره به وبين أمر الله تعالى إياه بإظهار دينه ثلاث سنين من بعثه، ثم قال الله تعالى له: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ لله} (الحجر: 94)، أي لا تبالِ بهم ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة، وقال تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 214 - 215)، فصعد رسول الله على الصفا، فقال: «يا معشر قريش»، فقالت قريش: محمد على الصفا يهتف، فأقبلوا واجتمعوا، فقالوا: ما لكَ يا محمد؟ قال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقونني؟» قالوا: نعم أنت عندنا غير متهم وما جربنا عليك كذبا قط، قال: «فإني نذير لكم بين يديْ عذاب شديد، يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا بني زهرة - حتى عدد الأفخاذ من قريش - إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وإني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله»، فقال أبو لهب: - تبّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ - فأنزل الله تبارك وتعالى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ} (المسد: 1) السورة كلها، فلمّا سمع أبو لهب قوله: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ} قال: إن كان ما يقول محمد حقا افتديت منه بمالي وولدي فنزل: {مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} (المسد: 2)، وكان أبو لهب إذا سأله وفد عن النبي قال: إنه ساحر ومجنون لينصرفوا عنه قبل لقائه، وقد أغضبت هذه السورة أبا لهب فأظهر شدة العداوة وصار متهما فلم يقبل قوله في رسول الله فكأنه خاب سعيه وبطل غرضه، ورُوي عن طارق المحاربي أنه قال: رأيت رسول الله في السوق يقول: «أيها الناس: قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا»، ورجل خلفه يرميه بالحجارة وقد أدمى عقبيه، ويقول: لا تطيعوه فإنه كذاب، فقلت: من هذا؟ قالوا: محمد وعمه أبو لهب، أما امرأته فهي أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان بن حرب عمة معاوية فكانت أيضا في غاية العداوة لرسول الله وترمي الشوك في طريقه.

وعن الزهري أنه قال: دعا رسول الله إلى الإسلام سرا وجهرا فاستجاب لله من شاء من أحداث الرجال وضعفاء الناس حتى كثر من آمن به وكفار قريش غير منكرين لما يقول، فكان إذا مرّ عليهم في مجالسهم يشيرون إليه أنه غلام بني عبد المطلب يكلم من السماء فكان ذلك حتى عاب آلهتهم التي يعبدونها وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا على الكفر فشنفوا لرسول الله عند ذلك وعادوه.

وعن ابن عتبة أنه قال: لما أظهر رسول الله الإسلام ومن معه وفشا أمره بمكة ودعا بعضهم بعضا فكان أبو بكر يدعو ناحية سرا، وكان سعيد بن زيد مثل ذلك، وكان عمر وحمزة بن عبد المطلب وأبو عبيدة بن الجراح يدعون علانية، فغضبت قريش من ذلك وظهر منهم لرسول الله الحسد والبغي وأشخص به منهم رجال فبادوه وتستر آخرون وهم على ذلك الرأي إلا أنهم ينزهون أنفسهم عن القيام والإشخاص برسول الله وكان أهل العداوة والمباداة لرسول الله وأصحابه الذين يطلبون الخصومة والجدل: أبو جهل بن هاشم وأبو لهب بن عبد المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن قيس بن عدي وهو ابن الغليطة، والوليد بن المغيرة، وأُبيّ بن خلف، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، والعاص بن وائل، والنضر بن الحارث، ومنبه بن الحجاج، وزهير بن أبي أمية والسائب بن صيفي بن عابد، والأسود بن عبد الأسد، والعاص بن سعيد بن العاص، والعاص بن هاشم، وعقبة بن أبي مُعيط، وأبو الأصدى الهذلي، والحكم بن أبي العاص، وعدي بن الحمراء، وذلك أنهم كانوا جيرانهم، والذين كانت تنتهي عداوة رسول الله إليهم أبو جهل وأبو لهب وعقبة بن أبي معيط، وكان عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب أهل هداوة ولكنهم لم يشخصوا بالنبي نحو قريش ولم يسلم منهم أحد إلا أبو سفيان.

عبد الله بن مسعود أول من جهر بالقرآن

كان أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله عبد الله بن مسعود، اجتمع يوما أصحاب رسول الله فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يُجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهم؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا، فقالوا: إنا نخشاهم عليه إنما نريد رجلا له عشيرة تمنعه من القوم إن أرادوه، فقال: دعوني؛ فإن الله سيمنعني، فغدا عبد الله حتى أتى المقام في الضحى وقريش في أنديتها حتى قام عند المقام، فقال رافعا صوته: بسم الله الرحمن الرحيم: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ} (الرحمن: 1، 2)، فاستقبلها فقرأ فتأملوا، فجعلوا يقولون: ما يقول ابن أم عبد؟ ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله قط أهون عليّ منهم الآن، ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غدا، قالوا: حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون.

وقيل: إن أبا جهل لطمه فشق أذنه وأدماه فانصرف وعينه تدمع فلما رآه النبي عليه السلام رقّ قلبه وأطرق رأسه مغموما، فإذا جبريل عليه السلام يجيء ضاحكا مستبشرا فقال: «يا جبريل تضحك وابن مسعود يبكي؟» فقال: ستعلم، فلما ظفر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في الجهاد، فقال عليه السلام: «خذ رمحك والتمس في الجرحى من كان به رمق فاقتله فإنك تنال ثواب المجاهدين»، فأخذ يطالع القتلى فإذا أبو جهل مصروع يخور، فخاف أن تكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه.

الضرب والشتم حيلة الجهال المتعصبين

إن كفار قريش، لم يفكروا في مناقشة ما يسمعون من الآيات القرآنية التي كان يتلوها رسول الله وأصحابه، بل كانوا يتهمونه بالكذب تارة أو بالجنون أو بالسحر ويضربون من يجهر بالقرآن، وهذا سلاح الضعيف الجاهل، إن رسول الله كان يعيب آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله ويقول: إنها أصنام صنعتموها بأيديكم وهي لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تبصر، فاتركوها واعبدوا الله خالق السماوات والأرض ويعدد لهم صفاته وقدرته جل شأنه، فلولا رسوخ العقيدة الباطلة في نفوسهم، والعقائد الباطلة القديمة، تشل عقل معتنقيها، نقول لولا رسوخ العقيدة، لحكموا عقولهم وبادروا إلى الإيمان بالله، لكن عزَّ عليهم أن يأتي رجل منهم ويتهمهم بالكفر والضلال ويعيب تلك الآلهة القديمة التي وجدوا آباءهم وأجدادهم يسجدون لها ويقدمون لها الذبائح والهدايا، فالتجأوا إلى الضرب والشتم وهذا شأن كل جاهل متعصب، ولما دخل رسول الله مكة فاتحا وأمر بهدم تلك الأصنام التي كانوا يعتقدون أنها مقدسة لا يقدر أحد على إيصال الأذى إليها، وهدمت بالفعل ووجد أن لا حول لها ولا قوة وقتل من كان فيها من المشعوذين، أيقنوا أنهم كانوا في ضلال مبين فقال الرسول: {جَآء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَطِلُ إِنَّ الْبَطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (الإسراء: 81)، فاللهم طهِّر قلوبنا من الشرك وأَمِتْنا مسلمين.

القرآن يحير ألباب العرب

تحيَّرت ألباب العرب في القرآن الذي نزل بلغتهم وهم أهل فصاحة وبلاغة، وخشيت قريش أن ينتشر الإسلام وينتصر النبي بدينه على الأصنام، فاتفقوا على إطلاق اسم على رسول الله ينفّر القبائل منه، ويشوّه سمعته، ويكون عقبة في سبيل نشر دعوته، ذلك أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسمُ فقال لهم: يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسمُ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضا، فقالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقل به، قال: بل أنتم قولوا أسمع، قالوا: نقول كاهنا، قال: والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه، قالوا: فنقول مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخَنقه ولا تخالجه ولا وسوسته، قالوا: فنقول شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رَجَزَه، وهزَجه، وقريضه، مقبوضه، ومبسوطه فما هو بالشعر، قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السُّحار وسحرهم فما هو بنفْثه ولا عقده، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعَذْق، وإن فرعه لجنَاةٌ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عُرف أنه باطل، وإن أقرب القول لأن تقولوا ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، والمرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر أحد إلا حذروه إياه، لكن النتيجة جاءت عكس ذلك فقد انتشر ذكره في بلاد العرب.

وقد كان ضماد بن ثعلبة الأزدي صديقا للنبي في الجاهلية، وكان رجلا يتطيب ويرقي ويطلب العلم، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدا مجنون، فجاءه وقال: إني راق فهل بك من شيء فأرقيك؟ فأجابه بقوله: «الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد»، فقال له ضماد: أعد عليَّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن النبي ثلاثا، فقال: والله لقد سمعت قول الكهنة، وسمعت قول السحرة، وسمعت قول الشعراء، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات لقد بلغت ناعوس البحر فمد يدك أبايعك على الإسلام، فمد النبي يده فبايعه وأسلم.

وهكذا أخفق مسعاهم وسقط إفكهم والحسود لا يسود، والكذب لا تقوم له قائمة فلا بد أن يسود الحق ويكتسح الباطل أمامه.

قريش تفاوض أبا طالب في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم

المفاوضة الأولى

لما رأت قريش أن أبا طالب قد قام دون النبي ولم يسلمه لهم، مشى رجال من أشرافهم إلى أبي طالب: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو البَخْتري بن هشام، والأسود بن المطلب، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل السهمي ونبيه ومنبِّه ابنا الحجاج، وغيرهم، فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه. فقال لهم أبو طالب قولا جميلا، وردهم ردا رقيقا، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله لما هو عليه، هذه هي المفاوضة الأولى، لكنها لم تثمر شيئا، إذ ظل الرسول يدعو إلى عبادة الله كما كان.

المفاوضة الثانية

ثم لما تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله فكروا في مفاوضة أبي طالب مرة أخرى، فمشوا إليه وقالوا: يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد اشتهيناك أن تنهي ابن أخيك فلم تفعل، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آلهتنا وآبائنا، وتسفيه أحلامنا حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، أو كما قالوا، ثم انصرفوا عنه، ومعنى ذلك أنهم هددوا أبا طالب في هذه المرة وأظهروا له العداوة، فعظم عليه فراق قومه وعداوتهم له، ولم تطب نفسه بإسلام رسول الله وخذلانه، فبعث إلى رسول الله فأعلمه ما قالت قريش، وقال له: أبق على نفسك وعليّ ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله أن عمه قد خذله وضعف عن نصرته، فقال له: «يا عماه والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته» ثم بكى رسول الله وقام، فلما ولى ناداه أبو طالب فأقبل عليه وقال: - اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبدا - فتدبر أيها القارىء في قوة رسول الله تلك القوة المعنوية العظيمة أمام شعب معاد معاند وشدة تمسكه بمبدئه إلى النهاية.

المفاوضة الثالثة

أصرّ أبو طالب على الدفاع عن ابن أخيه قياما بالواجب على نحو من تربّى في كفالته ونشأ في بيته وعملا بالمروءة، ولكنه مع ذلك بقي على دينه ولم يعتنق الإسلام لذلك صارت مهمته شاقة ومركزه حرجا فأمامه قريش متعصبة لدينها وقد أغضبها قيام محمد بنشر الإسلام ومحاربة الأصنام، وصاحب الدعوة لا يثنيه عن القيام بما أُمر به سخرية ساخر أو اضطهاد مضطهد، فلو أن أبا طالب أسلم لكان دفاعه أعظم وحجته أبلغ أمام العرب وأحكم، لكنه ظل على دين آبائه ودافع عن رسول الله لا عن عقيدة بل أداء لواجب القرابة.

وفي هذه المرة مشوا إلى أبي طالب بعُمارة بن الوليد، فقالوا: يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد فتى قريش وأشعرهم وأجملهم فخذه فلك عقله ونصرته فاتخذه ولدا وأسلم لنا ابن أخيك هذا الذي سفّه أحلامنا وخالف دينك ودين آبائك وفرّق جماعة قومك نقتله فإنما رجل برجل، فقال: والله لبئس ما تسومونني أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله لا يكون أبدا. فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: لقد أنصفك قومك وما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا، فقال: والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليّ فاصنع ما بدا لك. وكلّ عاقل يرى أن ما عرضته قريش على أبي طالب في غاية السخف لكنهم كانوا يتلمسون الحيل للخلاص من صاحب الدعوة بأي حال، فلما يئسوا من إجابة طلبهم اشتدت قريش على من أسلم فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، وقام أبو طالب في بني هاشم فدعاهم إلى منع رسول الله فأجابوا إلى ذلك.

تعذيب المسلمين

أخذت قريش تؤذي النبي وتؤذي من آمن به حتى عذبوا جماعة من المستضعفين عذابا شديدا يدل على مبلغ تعصبهم وقسوتهم.

فمن الذين عذبوا لأجل إسلامهم بلال بن رباح الحبشي مولى أبي بكر، وكان أبوه من سبي الحبشة وأمه حمامة سبية أيضا وهو من مولدي الشراة وكنيته أبو عبد الله فصار بلال لأمية بن خلف الجمحي فكان إذا حميت الشمس وقت الظهيرة يلقيه في الرّمضاء على وجهه وظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتلقى على صدره ويقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فكان بلال وهو في هذه الحال يقول: «أَحَد.، أَحَد» فرآه أبو بكر يعذب، فقال لأمية بن خلف الجمحي: ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ فقال: أنت أفسدته فأنقذه، فقال: عندي غلام على دينك أسود أجدل من هذا أعطيكه به، قال: قبلت، فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذ بلالا فأعتقه، وقيل: اشتراه أبو بكر بخمس أواق، أما أمية بن خلف فقتله بلال، واشترك مع معاذ بن عفران وخارجة بن زيد وحبيب بن أساف. قال ابن إسحاق: أما ابنه عليّ فقتله عمار بن ياسر وحبيب بن أساف وذلك في موقعة بدر.

ومن المعذَّبين: عمار بن ياسر أبو اليقظان العنسيُّ وهو بطن من مراد، وعنس هذا أسلم هو وأبوه وأمه وأسلم قديما ورسول الله في دار الأرقم بن أبي الأرقم بعد بضعة وثلاثين رجلا، أسلم هو وصهيب في يوم أحد، وكان ياسر حليفا لبني مخزوم فكانوا يخرجون عمارا وأباه وأمه إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء يعذبونهم بحر الرمضاء فمرّ بهم النبي فقال: «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة»، فمات ياسر في العذاب وأغلظت امرأته سمية القول لأبي جهل فطعنها في فرجها بحربة فماتت وهي أول شهيدة في الإسلام، وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة وبوضع الصخر في شدة الحر على صدره تارة أخرى، فقالوا: لا نتركك حتى تسب محمدا وتقول في اللات والعزى خيرا، ففعل فتركوه فأتى النبي يبكي فقال: «ما وراءك؟» فقال: شر يا رسول الله كان الأمر كذا وكذا، فقال: «فكيف تجد قلبك؟» قال: أجده مطمئنا بالإيمان، فقال: «يا عمار إن عادوا فعد»، فأنزل الله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَنِ} (النحل: 106).

ومنهم خبَّاب بن الأرت وكان إسلامه قديما، قيل: سادس ستة قبل دخول رسول الله دار الأرقم فأخذه الكفار وعذبوه عذابا شديدا فكانوا يعرّونه ويلصقون ظهره بالرمضاء ثم بالرَّضْف وهي الحجارة المحماة بالنار ولووا رأسه فلم يجبهم إلى شيء مما أرادوا، وهاجر وشهد المشاهد كلها مع رسول الله ونزل الكوفة ومات سنة سبع وثلاثين، وقال عليّ رضي الله عنه: رحمه الله إنَّ خبَّابا أسلم راغبا وهاجر طائعا وعاش مجاهدا وابتغى في جسمه ولن يضيع الله أجر من أحسن عملا.

ومنهم صُهيب بن سنان الرومي كناه رسول الله «أبا يحيى» قبل أن يولد له، وكان ممن يعذب في الله فعذب عذابا شديدا فلما أراد الهجرة منعته قريش فافتدى نفسه منهم بماله أجمع وجعله عمر بن الخطاب عند موته يصلي بالناس إلى أن يستخلف بعض أهل الشورى.

ومنهم عامر بن فهيرة مولى الطفيل بن عبد الله، وكان الطفيل أخا عائشة لأمها أم رومان أسلم قديما قبل دخول رسول الله دار الأرقم وكان من المستضعفين يعذب في الله فلم يرجع عن دينه واشتراه أبو بكر وأعتقه، ولما خرج رسول الله وأبو بكر إلى الغار مهاجرين أمر أبو بكر مولاه عامر بن فهيرة أن يروح بغنم أبي بكر عليهما وكان يرعاها وهاجر معهما إلى المدينة يخدمهما، وشهد عامر بدرا وأُحُدا وقُتل يوم بئر معونة سنة أربع من الهجرة وهو ابن أربعين سنة.

ومنهم لبيبة جارية بني مؤمل بن حبيب بن كعب أسلمت قبل إسلام عمر بن الخطاب وكان يعذبها حتى تفتن ثم يدعها ويقول: إني لم أدعك إلا سآمة، فتقول: كذلك يفعل الله بك إن لم تسلم، فاشتراها أبو بكر فأعتقها.

هذه أمثلة ذكرتها ليتضح للقارىء اشتداد العذاب على هؤلاء المساكين رجالا ونساءً.

ومما أصاب النبي من الإيذاء ما قاله ابن عمر كما في البخاري: بينا رسول الله بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله فلفَّ ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فجاء أبو بكر فأخذ بمنكبه فدفعه عن رسول الله وفي رواية ثم قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله.

وفي رواية البخاري: كان رسول الله يصلي عند الكعبة وجمع من قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟ أيكم يقوم إلى جزور آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها، فيجيء بهم ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه، فانبعث أشقاهم فلما سجد رسول الله وضعه بين كتفيه وثبت النبي ساجدا فضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك فانطلق منطلق إلى فاطمة فأقبلت تسعى وثبت النبي ساجدا حتى ألقته (ثمّ أقبلت) عليهم تسبهم، فلما قضى رسول الله قال: «اللهم عليك بقريش»، ثم سمى فقال: «اللهم عليك بعمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعمارة بن الوليد»، وقد سقطوا جميعهم صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى قليب بدر، أما عقبة بن أبي معيط فكان من أسرى بدر وأمر رسول الله بقتله.

ما عرضته قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال عتبة بن ربيعة يوما وهو جالس في نادي قريش والنبي عليه الصلاة والسلام جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلّمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله يزيدون ويكثرون، فقالوا: بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السِّطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرَّقت به جماعتهم وسفّهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم كفرَّت به من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها، فقال رسول الله «قل يا أبا الوليد أسمع»، قال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيّا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نُبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوى منه، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله يستمع منه قال: «أقد فرغت يا أبا الوليد»؟ قال: نعم، قال: «فاسمع مني»، قال: أفعل، قال: «بسم الله الرحمن الرحيم: {حم تَنزِيلٌ مّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَبٌ فُصّلَتْ ءايَتُهُ قُرْءانا عَرَبِيّا لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرا وَنَذِيرا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} (فصلت:1 - 4)، ثم مضى رسول الله فيها يقرأها عليه، فلما سمعها عتبة منه أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يستمع منه ثم انتهى رسول الله إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك».

فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا الكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم فإن تصبه العرب فقد كُفِيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم.

لقد ظن أبو الوليد في بادىء الأمر أن النبي يقبل ما يعرضه عليه من مال وجاه وملك فأظهر له استعداد قريش لمنحه كل ما يبغي على ألا يتعرض لدينهم ولا يدعوهم إلى ترك عبادة الأصنام، ظن ذلك لأن الإنسان ولا سيما الفقير المحتاج يطمع في المال وتغره أبهة الملك فيتشبث بهما ويسعى إليهما ما وجد للسعي سبيلا، ولو كان أبو الوليد عرض ذلك كله أو بعضه على غير النبي لاغتبط به واتفق مع قريش في الحال وأراح نفسه وأصحابه من العناء والإيذاء والتعذيب والتهديد بالقتل في كل وقت. ولكن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن طامحا إلى شيء من ذلك أصلا ولم يكن في وسعه أن يتنحى عن الدعوة إلى الإسلام مهما حاولت قريش صرفه عنها، ألا ترى أنه قال لعمه أبي طالب: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته»، وما ذلك إلا لأن الله سبحانه قد أمره بنشر الدعوة حيث قال: {يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ} (المدثر: 2، 1)، وقال عزّ شأنه: {وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ} (المدثر: 7)، أي: اصبر على مشاق التكاليف وأذى المشركين، فكيف بعد هذا الأمر الإلهي تخور عزيمته وتفتر قوته ولا يصبر على كل ما يصيبه من الإيذاء؟ بل كيف يغتر بحطام الدنيا وينخدع لما تعرضه عليه قريش من ملك وجاه ومال.

ولما رأت قريش أن رسول الله قد رفض ما عرضوه عليه قالوا له: يا محمد إن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسيِّر عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليخرق لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصيّ بن كلاب فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل؟ فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا منزلتك من الله وأنه بعثك رسولا كما تقول، فقال: «ما بهذا بعثت إليكم إنما جئتكم من الله بما بعثني به وقد بلغتكم ما أرسلت به فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم»، قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك، سل ربك أن يبعث معك مَلكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم، فقال لهم رسول الله: «ما أنا بفاعل وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بُعثت إليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا - أو كما قال - فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم»، قالوا: فأسقط السماء علينا كِسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل، فقال رسول الله: «ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل»، قالوا: يا محمد فما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به، إنه قد بلغنا إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن وإنا لا نؤمن بالرحمن

أبدا فقد اعتذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى تهلكنا، وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله، وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا، فلما قالوا ذلك لرسول الله قام عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك، ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجِّل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل ثم قال له: فوالله لا أؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك مع أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدّقك ثم انصرف رسول الله إلى أهله حزينا آسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم إياه.

إن هذه المطالب التي طلبتها قريش من النبي مطالب مدهشة تدل على شدة تعنتهم وعنادهم وعلى أنهم لا يريدون أن يؤمنوا إلا إذا شاهدوا المستحيلات ورأوا خوارق العادات ولذلك سألوا رسول الله أشياء عجيبة لا تخطر على البال بقصد تعجيزه والتشهير به فسألوه أن يغيّر طبيعة بلادهم فيسيّر الجبال ويفجر الأنهار ويحيي الموتى أو أن يجعل الله له الجنان والقصور ويعطيه الكنوز، فهذه مطالب عبّاد المادة عباد الأصنام، ثم ما أسخف ما سأله عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة الذي طلب أن يتخذ النبي عليه الصلاة والسلام سلما إلى السماء ويأتي بصك وأربعة ملائكة يشهدون معه على صحة ما يقول، ولماذا كل هذا؟ ليؤمن عبد الله بن أبي أمية هذا وقد قاسى الأنبياء صلوات الله عليهم الصعاب في سبيل هداية الكفار الذين كانوا يرمونهم بالضلال والسفاهة والجنون والسحر، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الأعراف: 59)، فبماذا أجابوه على ذلك؟ {قَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَلٍ مُّبِينٍ} (الأعراف: 60).

ولما دعا هود عليه السلام قومه على عبادة الله رموه بالسفاهة والكذب، قال تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَذِبِينَ} (الأعراف: 65، 66).

ولما أظهر موسى عليه السلام المعجزة وألقى العصا فانقلبت ثعبانا ادّعوا أنه ساحر، قال تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَآء لِلنَّظِرِينَ قَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَحِرٌ عَلِيمٌ} (الأعراف: 107 - 109) فالمتعنتون لا يؤمنون مهما رأوا من الآيات البينات وخوارق العادات: {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءايَةٍ لّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} (الأعراف: 132)، فهل بعد ذلك مكابرة وإصرار على الكفر؟

حماقة أبي جهل

لما عاد رسول الله آسفا من عناد قومه وتشبّثهم بالكفر قال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا وتسفيه آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه. ومن هذا تظهر عداوة أبي جهل للنبي وهذه العداوة أخرجته عن حد العقل فأخذ يسلك سلوك الجهال ولكن الله سبحانه وتعالى أنقذ النبي من شره ونجّاه من غدره.

كان أبو جهل فرعون هذه الأمة اسمه عمرو بن هشام، قتل يوم بدر كافرا وكانت بدر في السنة الثانية من الهجرة، قتله عمرو بن الجموح وابن عفراء الأنصاريان، وكانا حدثين وحديثهما في الصحيح مشهور، وفي كتب السنن أن رسول الله حين رآه مقتولا قال: «قُتل فرعون هذه الأمة» وقد كان سيّىء الخلق فظّا غليظ القلب، فمن ذلك أنه ظلم تاجرا قدم من زبيد بثلاثة أجمال حسان فسامها منه أبو جهل بثلث أثمانها ثم لم يسمها لأجله سائم فأكسد عليه سلعته ولم ينصفه غير رسول الله لأنه ساومه حتى ألحقه برضاه وأخذها رسول الله فباع جملين بالثمن وأفضل بعيرا باعه وأعطى أرامل بني عبد المطلب ثمنه، وكان وصيا على يتيم فأكل ماله وطرده فاستعان اليتيم بالنبي فمشى معه ورد إليه ماله منه.

وابتاع من شخص يقال له الأراشي أجمالا بأثمانها فلما استعان الرجل برسول الله وذكر له أنه غريب وابن سبيل وأن أبا جهل غلبه على حقه قام معه إلى أبي جهل وضرب عليه بابه فقال: من هذا؟ قال: «محمد»، فخرج إليه وقد امتقع لونه، فقال: «أعط هذا الرجل حقه»، فامتلأ رعبا وأعطى الرجل حقه، هذا هو أبو جهل وهذا شيء من غلظته وجوره وهضمه للحقوق.

وفي كتاب «قاموس الإسلام» الطبعة الثانية سنة 1896 ص 8: «إن أبا جهل كان فخورا فاجرا». Dictionary of Islam. 2nd edition. (1896), Page 8.

قريش تمتحن رسول الله صلى الله عليه وسلم

لم تكتفِ قريش بهذا كله بل أرادوا إحراجه عليه الصلاة والسلام بالأسئلة فبعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة وقالوا لهما سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول الله ووصفا لهم أمره وأخبراهم ببعض قوله وقالا لهم إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاثة نأمركم بهن فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل فروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم فإنه قد كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طوَّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح وما هي، فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي وإن لم يفعل فهو رجل متقوّل. فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط حتى قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئنا بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء فإن أخبركم عنها فهو نبي وإن لم يفعل فالرجل متقوّل فروا فيه رأيكم.

فجاءوا رسول الله فقالوا: يا محمد أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول قد كانت لهم قصة عجب، وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح وما هي؟.

فقال لهم رسول الله: «أخبركم بما سأَلتم عنه غدا» ولم يستثن، فانصرفوا عنه فمكث رسول الله خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه وحيا ولا يأْتيه جبريل حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سأَلناه عنه، فشق على الرسول تأْخير الوحي وما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سأَلوه عنه.

قال المفسرون: إن القوم لما سأَلوا النبي عن المسائل الثلاث قال عليه السلام: «أجيبكم عنها غدا» ولم يقل إن شاء الله، فاحتبس الوحي خمسة عشر يوما ثم نزل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء إِنّى فَاعِلٌ ذلِكَ غَدا إِلاَّ أَن يَشَآء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبّى لاِقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} (الكهف: 23، 24)، والسبب في أنه لا بد من ذكر هذا القول - إن شاء الله - هو أن الإنسان إذا قال سأَفعل الفعل الفلاني غدا لم يبعد أن يموت قبل مجيء الغد ولم يبعد أيضا لو بقي حيا أن يعوقه عن ذلك الفعل شيء من العوائق فإِذا كان لم يقل إن شاء الله صار كاذبا في ذلك الوعد، والكذب منفِّر وذلك لا يليق بالأنبياء عليهم السلام.

جاء جبريل من الله عز وجل بخبر ما سألوه عنه، فقال تعالى في شأن الفتية: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَبَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ ءايَتِنَا عَجَبًا} (الكهف: 9)، وقال فيما سألوه عنه من أمر الرجل الطوّاف: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْرا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرْضِ وَآتَيْنَهُ مِن كُلّ شَىْء سَبَبا فَأَتْبَعَ سَبَبا} (الكهف: 83 - 85) إلى آخر القصة.

وقال تعالى فيما سألوه عنه من أمر الروح: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وَمَآ أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا} (الإسراء: 85).

وقد أيد هذه الرواية الدكتور ولفنسون الإسرائيلي مدرّس اللغات السامية بالجامعة المصرية ودار العلوم فقال في رسالته (تاريخ اليهود في بلاد العرب) صفحة 98 ما يأتي:

«وينفي بعض المستشرقين صحة هذه القصة الخطيرة دون أن يأتوا بدليل نطمئن إليه، والحق أن من العسير إنكار رواية تاريخية كانت سببا في نزول سورة الكهف والآيات الخاصة بالروح وذي القرنين وعندنا دليل يحملنا على الاعتقاد بأن هذه الرواية من المحتمل أن تكون واقعية، وهي أن في التلمود قصة مشهورة تشبه قصة أهل الكهف ومن هذه القصة أخذ أحبار اليهود الأسئلة التي وجهوها للرسول بواسطة وفد قريش، ويؤيد هذه القصة ما ذهبنا إليه من أنه لم يكن بمكة أحد من اليهود؛ إذ لو وجد منهم في مكة ما أوفد قريش وفدهم إلى المدينة ليسألوا أحبار اليهود عن شأن النبي وإذا وجد منهم أحد فلا بد أن يكون غير عالم».

وأنزل الله عليه فيما سأله قومه لأنفسهم من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وبعث من مضى من آبائهم من الموتى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الاْرْضُ أَوْ كُلّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للَّهِ الاْمْرُ جَمِيعًا} (الرعد: 31)، أي لا أصنع من ذلك إلا ما شئت.

وأنزل عليه في قولهم خذ لنفسك ما سألوه أن يأخذ لنفسه أن يجعل له جنانا وقصورا وكنوزا ويبعث ملكا يصدقه بما يقول ويرد عنه: {وَقَالُواْ مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاْسْوَاقِ لَوْلآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلا مَّسْحُورا انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاْمْثَلَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَآء جَعَلَ لَكَ خَيْرا مّن ذلِكَ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَرُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورا} (الفرقان: 7 - 10) أن تمشي في الأسواق وتلتمس المعاش: {جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَرُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورا} (الفرقان: 10).

وأنزل الله عليه فيما قال عبد الله بن أبي أمية: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الاْنْهَرَ خِلَلَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلَئِكَةِ قَبِيلا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ قُلْ سُبْحَنَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولا لله} (الإسراء: 90 - 93).

وأنزل عليه في قولهم إنا قد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة يقال له الرحمن ولن نؤمن به أبدا: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ لّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبّى لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (الرعد: 30).

وأنزل عليه فيما قال أبو جهل وما همَّ به: {أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْدا إِذَا صَلَّى أَرَءيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَءيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب} (العلق: 9 - 19).

وأنزل الله عليه فيما عرضوا عليه من أموالهم: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٍ} (سبأ: 47).

إسلام جابر بن عبد الله

بحث الأستاذ مرجليوث وأجهد نفسه في البحث على ما يظهر في كتابه - محمد - صفحة 106 عن الأساتذة الذين كانوا يعلمون رسول الله الكتب المقدسة فقال ما ترجمته:

«كان جابر بن عبد الله مولى بني عبد الدار يهوديا صائغا في مكة فكان يجلس هو وياسر - يهودي آخر - يقرآن الكتاب المقدس أثناء اشتغالهما بالتجارة، وكان النبي يمر عليهما ويستمع منهما» ومعنى ذلك حسب رأيه أنه كوّن أفكاره الخاصة بالتوراة من سماع جابر بن عبد الله وهو يتلو عليه لكنه قال بعدئذ: «إن جابرا اعتنق الإسلام عند سماعه النبي يقرأ سورة يوسف» فإذا كان جابر اليهودي قد أسلم عند سماعه قصة يوسف وهي في التوراة التي كان يتلوها على النبي كما ادعى فلا بد أن القصة مذكورة في القرآن بغاية الدقة والإحكام والتفصيل المدهش حتى إنها حيَّرت لب جابر الذي ذكره مرجوليوث كمعلم لرسول الله، على أن الأستاذ مرجوليوث اعترف بإسلام جابر لأنه مذكور في كتب السير، وإنا نعد إسلامه دليلا على إعجاز القرآن الكريم وعلى أنه منزل على رسول الله، أما ياسر فقد أسلم أيضا وعذب لإسلامه عذابا شديدا حتى مات.

وقال الأستاذ مرجوليوث: «ويُظن أن الجزء الخاص بالمسيحية في القرآن قد تعلمه النبي من صهيب الذي أسلم قديما وقد كان روميا من الموصل» وإنا نقول: إن إسلام هؤلاء دليل على رسالة رسول الله وصدقه وقد أسلم صهيب ورسول الله في دار الأرقم وكان من المستضعفين بمكة المعذبين في الله عز وجل وهاجر إلى المدينة وشهد المشاهد كلها مع رسول الله، هذا وقد ذكرنا أن الأستاذ نولدكه اعترف بأن رسول الله ما كان يعرف الأسفار القديمة.

وما قاله مرجوليوث قاله كفار قريش، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءاخَرُونَ} (الفرقان: 4)، قال الكلبي ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث فهو الذي قال هذا القول وأعانه عليه قوم آخرون، يعني عداسا مولى حويطب بن عبد العزى ويسارا غلام عامر بن الحضرمي وجبرا مولى عامر وهؤلاء الثلاثة كانوا من أهل الكتاب وكانوا يقرأون التوراة ويحدثون أحاديث منها فلما أسلموا كان النبي يتعهدهم ومن أجل ذلك قال النضر ما قال.

الهجرة الأولى إلى الحبشة شهر رجب السنة الخامسة من المبعث

(سنة 615م)

لما رأى رسول الله ما يصيب أصحابه من البلاء والعذاب وما هو فيه من العافية لمكانه من الله عز وجل ودفاع أبي طالب عنه وأنه لا يقدر أن يمنعهم، قال لهم:

«لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن فيها ملكا لا يظلم أحد عنده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه» ومكث هو فلم يبرح يدعو إلى الله سرا وجهرا.

وكان اسم النجاشي وقتئذ أصحمة بن أبجر، ومعنى أصحمة بالعربية عطية، والنجاشي اسم لكل ملك يلي الحبشة وكان الأحباش مسيحيين نسطوريين فخرج المهاجرون متسللين سرا وذلك في شهر رجب سنة خمس من بعد النبوّة (سنة 615 م).

وكان الذي خرجوا اثني عشر رجلا وأربع نسوة حتى انتهوا إلى الشعيبة، فمنهم الراكب والماشي، ووفق الله للمسلمين ساعة جاءوا سفينتين للتجار حملوهم فيها إلى أرض الحبشة وخرجت قريش في أثرهم حتى جاءوا البحر حيث ركبوا فلم يدركوا منهم أحدا، فكان خروجهم سرا.

قالوا: قدمنا أرض الحبشة فجاورنا بها خير جار، أمِنّا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذي ولا نسمع شيئا نكرهه، وكانت الحبشة متجرا لقريش يتجرون فيها ويجدون فيها رزقا وأمنا حسنا.

كان عدد المهاجرين قليلا ولكن كان لهجرتهم هذه شأن عظيم في تاريخ الإسلام فإنها كانت برهانا ساطعا لأهل مكة على مبلغ إخلاص المسلمين وتفانيهم في احتمال ما يصيبهم من المشقات والخسائر في سبيل تمسكهم بعقيدتهم، وكانت هذه الهجرة الأولى مقدمة للهجرة الثانية إلى الحبشة ثم الهجرة إلى المدينة، وهذه أسماء المهاجرين والمهاجرات:

عثمان بن عفان ومعه امرأته رقية بنت رسول الله، أبو حذيفة بن عتبة ومعه امرأته سهلة بنت سهيل، مصعب بن عمير، الزبير بن العوام، عبد الرحمن بن عوف، أبو سلمة بن عبد الأسد ومعه امرأته، أم سلمة، عثمان بن مظعون، عبد الله بن مسعود، عامر بن ربيعة ومعه امرأته، ليلى بنت أبي هيثمة، أبو سبرة، حاطب بن عمرو، سهيل بن بيضاء وهو سهيل بن وهب.

شفاعة الغرانيق افتراء الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

روى بعض المؤرخين ونقل عنهم المفسرون أن رسول الله لما رأى من قومه كفَّا عنه، جلس خاليا وتمنى فقال: ليته لا ينزل عليّ شيء ينفرهم عني وقارب رسول الله قومه ودنا منهم ودنوا منه فجلس يوما مجلسا في ناد من تلك الأندية حول الكعبة فقرأ عليهم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (النجم: 1)، حتى بلغ: {أَفَرَءيْتُمُ اللَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَوةَ الثَّالِثَةَ الاْخْرَى} (النجم: 19، 20) ألقى الشيطان كلمتين على لسانه: «تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى» فتكلم رسول الله بها ثم مضى فقرأ السورة كلها وسجد وسجد القوم جميعا ورفع الوليد بن المغيرة ترابا إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود، ويقال: إن أبا أحيحة سعيد ابن العاص أخذ ترابا ورفعه إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخا كبيرا فبعض الناس يقول: إنما الذي رفع التراب الوليد وبعضهم يقول: أحيحة، وبعضهم يقول كلاهما فعل ذلك فرضوا بما تكلم به رسول الله وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده وأما إذا جعلت لها نصيبا فنحن معك، فكبر ذلك على رسول الله من قولهم حتى جلس في البيت، فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام فعرض عليه السورة.

فقال جبريل: ما جئتك بهاتين الكلمتين، فقال رسول الله «قلتُ على الله ما لم يقل» فأوحى الله إليه: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذا لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلا وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا إِذًا لأَذَقْنَكَ ضِعْفَ الْحَيَوةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} إلى قوله: {إِلاَّ فِى كِتَبٍ مُّبِينٍ} (الإسراء: 73 - 75).

نقل هذه الرواية ابن سعد في «طبقاته» عن عبد الله بن حنطب، وقد قال الترمذي: إن عبد الله ابن حنطب لم يدرك النبي أخرجه الثلاثة، أما الآية التي قيل: إنها نزلت بسبب أن رسول الله قد قال على الله ما لم يقل بذكره شفاعة الغرانيق وهي: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} (الإسراء: 73) الآية، فلم تنزل بهذه المناسبة، فقد قال ابن عباس في رواية عطاء، نزلت هذه الآية في وفد ثقيف أتوا رسول الله فسألوه شططا وقالوا: متعنا باللات سنة وحرم وادينا كما حرمت مكة من شجرها وطيرها ووحشها فأبى رسول الله ولم يجبهم فكرروا ذلك الالتماس وقالوا: إنا نحب أن تعرف العرب فضلنا عليهم فإن كرهت ما نقول وخشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك فأمسك رسول الله عنهم وداخلهم الطمع فصاح عليهم عمر وقال: أما ترون رسول الله قد أمسك عن الكلام كراهية لما تذكرونه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وروى صاحب «الكشاف» أنهم جاءوا بكاتبهم فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله إلى ثقيف لا يعشرون ولا يحشرون، ولا يجبون، فسكت رسول الله ثم قالوا للكاتب: اكتب ولا يجبون، والكاتب ينظر إلى رسول الله فقام عمر بن الخطاب وسلّ سيفه وقال: أسعرتم قلب نبينا يا معشر قريش، أسعر الله قلوبكم نارا، فقالوا: لسنا نكلمك إنما نكلم محمدا، فنزلت هذه الآية، وهذه القصة إنما وقعت بالمدينة فلهذا السبب قالوا: إن هذه الآية مدنية.

وذكر الطبري مسألة شفاعة الغرانيق فقال: حدثني محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد المدني، عن محمد بن كعب القرظي، ثم سرد رواية محمد بن كعب القرظي بما يقارب رواية عبد الله بن حنطب التي نقلناها عن طبقات ابن سعد إلا أنه قال: فأنزل الله عز وجل: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَنُ فِى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَنُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءايَتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الحج: 52) فأذهب الله عز وجل عن نبيّه الحزن وآمنه من الذي كان يخاف ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه من ذكر آلهتهم إنها الغرانيق العلا وإن شفاعتهن ترتجى بقول الله عز وجل حين ذكرت اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاْنثَى تِلْكَ إِذا قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَآء سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَنٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاْنفُسُ وَلَقَدْ جَآءهُم مّن رَّبّهِمُ الْهُدَى أَمْ لِلإنسَنِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الاْخِرَةُ والاْولَى وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السَّمَوتِ لاَ تُغْنِى شَفَعَتُهُمْ شَيْئا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَآء وَيَرْضَى} إلى قوله: {لِمَن يَشَآء وَيَرْضَى} (النجم: 21 - 26) أي فكيف تنفع شفاعة آلهتكم عنده، الخ.

أما محمد بن كعب القرظي - منسوب إلى بني قريظة الطائفة المعروفة من اليهود - فهو تابعي توفي سنة ثمان ومائة، جاء في «تهذيب التهذيب» لابن حجر العسقلاني ما يأتي:

«وما تقدم نقله عن قتيبة من أنه ولد في عهد النبي لا حقيقة له وإنما الذي ولد في عهده هو أبوه فقد ذكروا أنه من سبي قريظة ممن لم يحتلم ولم ينبت فخلوا سبيله، حكى ذلك البخاري في ترجمة محمد، قال الفخر الرازي في «تفسيره»: الآية المتقدمة بعد أن ذكر قصة الغرانيق، هذه رواية عامة المفسرين الظاهريين، أما أهل التحقيق فقد قالوا: هذه الرواية باطلة موضوعة، واحتجوا عليه بالقرآن والسنّة والمعقول، أما القرآن فمن وجوه:

أحدها: قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} (الحاقة: 44 - 46).

وثانيها: قوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَآء نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ} (يونس: 15).

وثالثهما: قوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى} (النجم: 3، 4)، فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية تلك الغرانيق العلا، وكان قد ظهر كذب الله تعالى في الحال، وذلك لا يقوله مسلم.

ورابعها: قوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذا لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلا} (الإسراء: 73)، وكلمة كاد معناها قرب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل.

وخامسها: قوله: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا} (الإسراء: 74)، وكلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لوجود غيره فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل لوجود التثبيت.

وسادسها: قوله: {كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} (الفرقان: 32).

وسابعها: قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى} (الأعلى: 6).

أما السنة فهي ما رُوي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا من وضع الزنادقة؛ وصنف فيه كتابا.

وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. وأيضا فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن، وليس فيها حديث الغرانيق.

ورُوي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها البتة حديث الغرانيق، وأما المعقول فمن وجوه:

أحدها: أن من جوَّز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان.

وثانيها: أنه عليه السلام ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة آمنا أذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه وإنما كان يصلي إذا لم يحضروها ليلا أو في أوقات خلوة وذلك يبطل قولهم.

وثالثها: أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة دون أن يقفوا على حقيقة الأمر فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجدا مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم؟.

رابعا: قوله: {فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَنُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءايَتِهِ} (الحج: 52) وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها فإذا أراد الله الآيات لئلا يلتبس ما ليس بقرآن بالقرآن فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلا أولى.

وخامسها: وهو أقوى الوجوه - أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك ويبطل قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) فإنه لا فرق في العقل بين النقصان من الوحي وبين الزيادة فيه فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة وكل ما في الباب أن جمعا من المفسرين ذكروها هنا لكنهم ما بلغوا حد التواتر وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة.

ثم ذكر الفخر الرازي تفصيلات أخرى فلتراجع، وإنا نعتقد أن هذه القصة باطلة ومدسوسة ومن وضع الزنادقة الذين يريدون بالإسلام سوءا ومع هذا فليس من المعقول أن يعترف النبي بشفاعة الغرانيق وهو يدعو إلى عبادة الله تعالى ويحارب الأصنام ولو كان الشيطان له سلطان عليه بدرجة أنه يملي عليه ويحرك لسانه بالكفر لكان ألعوبة له ليس في هذه القصة فقط بل في غيرها أيضا، والنبي معصوم من الشيطان، قال البيضاوي في تفسيره بعد ذكر قصة الغرانيق: - ثم نبّهه جبريل فاغتم به فعزاه الله بهذه الآية وهو مردود عند المحققين وإن صح فابتلاء يتميز به الثابت على الإيمان عن المتزلزل فيه -، قال إسماعيل القنوي في «حاشيته»: وهو مردود عند المحققين، بل يجب أن يكون مردودا عند جميع المسلمين لما عرفته من أمارات الكذب، قوله: وإن صح الخ إشارة إلى منع صحته رواية لما قاله القاضي عياض في «الشفاء»: إنه لم يوجد في شيء من الكتب المعتمدة بسند صحيح وقال إنه من وضع الزنادقة. وقال القاضي عياض: إن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواة ثقة بسند سليم متصل إنما أولع به المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب.

قال ابن حزم في كتاب «الملل والنحل» جزء 4 ص 23: وأما الحديث الذي فيه «وأنهن الغرانيق العلا وأن شفاعتهن لترتجى» فكذب بحت لأنه لم يصح قط من طريق النقل ولا معنى للاشتغال به إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد.

وقال البيهقي: رواة هذه القصة كلهم مطعون فيهم، وقال الإمام النووي نقلا عنه: وأما ما يرويه الأخباريون والمفسرون أن سبب سجود المشركين مع رسول الله ما جرى على لسانه من الثناء على آلهتهم فباطل لا يصح منه شيء لا من جهة النقل ولا من جهة العقل لأن مدح إله غير الله كفر ولا يصح نسبة ذلك إلى رسول الله ولا أن يقوله الشيطان على لسانه ولا يصح تسلط الشيطان عليه وإلا لزم عدم الوثوق بالوحي، اهـ.

وقال الآلوسي في «تفسيره»: «وأقبح الأقوال التي رأيناها في هذا الباب وأظهرها فسادا أنه أدخل تلك الكلمة من تلقاء نفسه حرصا على إيمان قومه ثم رجع عنها، ويجب على قائل ذلك التوبة، كبرت كلمة خرجت من أفواههم إن يقولون إلا كذبا، وقريب منه ما قيل إنها كانت قرآنا منزلا في وصف الملائكة عليهم السلام، فلما توهم المشركون أنه يريد عليه الصلاة والسلام مدح آلهتهم بها نسخت، وأنت تعلم أن تفسير الآية أي قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا} (الحج: 52) الخ، لا يتوقف على ثبوت أصل لهذه القصة».

أما معنى قوله تعالى في سورة الحج: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ} (الحج: 52) الخ الآية، أن الرسل الذين أرسلهم الله تعالى، وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم فلم يعصمهم عن جواز السهو ووسوسة الشيطان بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر، فالآية ليست بخصوص قصة الغرانيق بل هي بخصوص وسوسة الشيطان على العموم للأنبياء والرسل، فالواجب ألا يتبعوا إلا فيما يفعلونه عن علم، فذلك هو المحكم، وقال أبو مسلم: معنى الآية أنه لم يرسل نبيا إلا إذا تمنى كأنه قيل وما أرسلنا إلى البشر ملكا، وما أرسلنا إليهم نبيا إلا منهم وما أرسلنا نبيا خلا عند تلاوته الوحي من وسوسة الشيطان وأن يلقي في خاطره ما يضاد الوحي ويشغله عن حفظه فيثبت الله النبي على الوحي وعلى حفظه ويعلم صواب ذلك وبطلان ما يكون من الشيطان، قال: وفيما تقدم من قوله: {قُلْ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (الحج: 49)، تقوية لهذا التأويل فكأنه تعالى أمره أن يقول للكافرين أنا نذير لكم لكني من البشر لا من الملائكة ولم يرسل الله تعالى مثلي ملكا بل أرسل رجالا فقد يوسوس الشيطان إليهم.

فأمثال هذه القصص المدسوسة المكذوبة على رسول الله هي التي جعلت للطاعنين في الإسلام مجالا للنقد وتشويه الحقائق وتقبيح المحاسن، وقد حُشِرت في كتبنا من غير تحقيق وهاك دليلا آخر على كذب هذه القصة من الوجهة التاريخية وهو:

إن الهجرة الأولى إلى الحبشة كانت في رجب سنة خمس من النبوة وكانت السجدة في رمضان من السنة نفسها أي قبل إسلام حمزة وعمر لأنهما أسلما في السنة السادسة.

وقد أجمع المؤرخون على أن المسلمين قبل إسلام عمر كانوا يستخفون في دار الأرقم ويؤدون شعائرهم الدينية في منازلهم، وكان أصحاب النبي لا يقدرون أن يصلوا عند الكعبة حتى أسلم عمر. فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلوا معه واتفقوا على تسميته «الفاروق».

فإذا كان المسلمون قبل إسلام عمر ما كانوا يستطيعون الصلاة عند الكعبة فكيف مع هذا يقال: إن رسول الله سجد عند الكعبة وسجد معه القوم جميعا؟ الحقيقة أن الرواية كذب واختلاق محض.

قال «موير» في الجزء الثاني من «حياة محمد»: إن حمزة وعمر أسلما في السنة السادسة من النبوة، وقال: إن المسلمين لم يعودوا يخفون صلاتهم في منازلهم بل كانوا بعدئذ يجتمعون حول الكعبة ويصلون وهم آمنون مطمئنون.

إن المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة عادوا إلى مكة بسبب ما بلغهم من تحسن الأحوال أو أنهم سمعوا إشاعة كاذبة تطمئنهم فقدموا في شوال سنة خمس إلا أنه لم يدخل أحد منهم إلا بجوار عثمان بن مظعون فإنه دخل بلا جوار ومكث قليلا ثم أسرع الرجوع إلى الحبشة لأن المسلمين كانوا لا يزالون يُضطهدون وكان النبي يعيب الأصنام».

فكل هذه البراهين تؤيد أن قصة شفاعة الغرانيق أو أن النبي ذكر آلهة قريش بخير، افتراء واختلاق ولا يمكن أن يصدق هذه القصة أحد من المؤرخين المحققين، وقد ذُكِرَت في كتاب «تاريخ القرون الوسطى» لجامعة كامبردج الجزء الثاني ص 310، 311، باعتبار أنها صحيحة، وأنه ندم على ما قال ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه، واستنتج الكاتب أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعتقد أنه إنما يتبع أمرا إلهيا سواء عند تلفظه بهذه الكلمات أو عند عدوله عنها، لكنه علق في الهامش بما يأتي:

«إن كثيرا من المحققين المسلمين يعتبرون هذه القصة خرافية وهذا ما كان ينتظر منهم، لكن من المدهش أن مؤرخا غير متحيز مثل - كايتاني - ينكرها أيضا».

وأنا أقول: لا وجه للدهشة لأن المؤرخ الذي يقدر موقفه ولا يتحيز لأحد يعترف بالحقيقة بغض النظر عن أي اعتبار آخر فإذا كان الأستاذ (كايتاني) وهو ذلك المؤرخ الإيطالي الكبير الذي يصدر المؤلفات الضخمة عن تاريخ الإسلام ينكر هذه القصة فما ذلك إلا أنه لم يرد أن يثبت إلا ما وصل إليه تحقيقه في هذه المسألة دون تحيز.

إسلام حمزة

حمزة بن عبد المطلب، وأمه هالة بنت وهب، وهو عم رسول الله وأخوه من الرضاعة أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب، وكان رضي الله عنه أسن من رسول الله بسنتين، وهو سيد الشهداء وآخى رسول الله بينه وبين زيد بن حارثة، أسلم سنة ست من النبوة وكنيته أبو عمارة وكان شجاعا، محاربا، قوي الجسم، طويل القامة.

وكان سبب إسلامه أن أبا جهل اعترض رسول الله فآذاه وشتمه ونال منه ما يكره من العيب لدينه والتضعيف له فلم يكلمه رسول الله وكانت مولاة لعبد الله بن جدعان التيمي في مسكن لها فوق الصفا تسمع ذلك، ثم انصرف عنه فعمد إلى ناد لقريش عند الكعبة فجلس معهم ولم يلبث حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه أن أقبل متوشحا قوسه راجعا من قنص له، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له فكان إذا رجع من قنصه لم يرجع إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز قريش وأشدّها شكيمة وكان يومئذ مشركا على دين قومه، فلما مر بالمولاة وقد قام رسول الله فرجع إلى بيته قالت له: يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد من أبي الحكم آنفا؛ وجده ها هنا فآذاه وشتمه وبلغ منه ما يكره ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد، فاحتمل حمزة الغضب فخرج سريعا لا يقفُ على أحد كما كان يصنع، يريد الطواف بالبيت معدا لأبي جهل أن يقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها ضربة شجه بها شجة منكرة وقامت رجال من قريش من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقالوا: ما نراك يا حمزة إلا قد صبأت، فقال حمزة: وما يمنعني وقد استبان لي منه ذلك، أنا أشهد أنه رسول الله وأن الذي يقوله الحق فوالله لا أنزع فامنعوني إن كنتم صادقين. قال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإني والله لقد سببت ابن أخيه سبا قبيحا وثبت حمزة على إسلامه، فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا يتناولونه به ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا وأبلى بلاءً عظيما مشهورا، وقاتل يوم بدر بسيفين وشهد أُحدا فقُتلَ بها يوم السبت النصف من شوال من السنة الثالثة من الهجرة بعد أن قتل من المشركين قبل أن يُقتل أحدا وثلاثين نفسا، وبينما كان يقاتل إذ عثر عثرة وقع فيها على ظهره فانكشف الدرع عن بطنه فزرقه وحشي الحبشي مولى جبير بن مطعم بحربة فقتله، ومثّل به المشركون وبجميع قتلى المسلمين وجعل نساء المشركين، هند وصواحباتها يجدعن أنوف المسلمين وآذانهم ويبقرن بطونهم، وبقرت هند بطن حمزة رضي الله عنه فأخرجت كبده فجعلت تلوكها فلم تسغها فلفظتها، فقال النبي «لو دخل بطنها لم تمسها النار»، وبكى رسول الله لما رآه قتيلا، ومع ذلك عفا رسول الله عن هند يوم الفتح، ودُفن عند أُحد في موضعه وكان عمره تسعا وخمسين سنة، وكان حمزة أول شهيد صلى عليه رسول الله

عمر بن الخطاب وسبب إسلامه

عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى وأمه حنتمة بنت هاشم، ولد بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، رُوي عن عمر أنه قال: ولدت بعد الفجار الأعظم بأربع سنين ويوافق مولده سنة 581 م، وكان مديد القامة، تاجرا مشهورا من أشراف قريش، وكانت إليه السفارة في الجاهلية، وذلك أن قريشا إذا وقعت بينهم حرب أو بينهم وبين غيرهم بعثوه سفيرا، وإن نافرهم منافر أو فاخرهم مفاخر رضوا به وبعثوه منافرا ومفاخرا، ولما بعث رسول الله كان شديدا عليه وعلى المسلمين، وقد ذكرنا أنه كان يعذب جارية بني مؤمل لإسلامها فاشتراها أبو بكر وأعتقها.

إسلامه رضي الله عنه

عن ابن عباس أنه قال: «أسلم مع رسول الله تسعة وثلاثون رجلا وامرأة، ثم إن عمر أسلم فصاروا أربعين»، ورُوي أن النبي قال: «اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام» يعني أبا جهل.

وحكى عمر عن سبب إسلامه فقال:

كنت من أشد الناس على رسول الله فبينا أنا في يوم حار شديد الحر بالهاجرة في بعض طرق مكة إذ لقيني رجل من قريش فقال: أين تذهب يا ابن الخطاب أنت تزعم أنك هكذا وقد دخل عليك هذا الأمر في بيتك؟ قال: قلت: وما ذاك؟ قال: أختك قد صبأت، قال: فرجعت مغضبا، وقد كان رسول الله يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما عند الرجل به قوة فيكونان معه ويصيبان من طعامه، وقد كان ضم إلى زوج أختي رجلين فجئت حتى قرعت الباب، فقيل: من هذا؟ قلت: ابن الخطاب، وكان القوم جلوسا يقرأون في صحيفة معهم، فلما سمعوا صوتي تبادروا واختفوا وتركوا أو نسوا الصحيفة من أيديهم فقامت المرأة ففتحت لي، فقلت: يا عدوة نفسها قد بلغني أنك صبأت، قال: فأرفع شيئا في يدي فأضربها به فسال الدم فلما رأت المرأة الدم بكت ثم قال: يا ابن الخطاب ما كنت فاعلا فافعل فقد أسلمت، فدخلت وأنا مغضب فجلست على السرير فنظرت فإذا بكتاب في ناحية البيت، فقلت: ما هذا الكتاب؟ أعطنيه - وكان عمر كاتبا - فقالت: لا أعطيك، لست من أهله، أنت لا تغتسل من الجنابة ولا تتطهر وهذا لا يمسه إلا المطهرون، قال: لم أزل بها حتى أعطتنيه - بعد أن اغتسل - فإذا فيه: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة: 1)، فلما مررت بالرحمن الرحيم ذعرت ورميت بالصحيفة من يدي ثم رجعت إليّ نفسي فإذا فيها: {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السَّمَوتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الحديد: 1)، قال: فكلما مررت باسم من أسماء الله عز وجل ذعرت ثم ترجع إليّ نفسي حتى بلغت: {ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} حتى بلغت إلى قوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (الحديد: 7، 8)، قال: فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فخرج القوم يتبادرون بالتكبير استبشارا بما سمعوه مني وحمدوا الله عز وجل، ثم قالوا يا ابن الخطاب أبشر فإن رسول الله دعا يوم الاثنين فقال: «اللهم أعز الإسلام بأحد الرجلين إما عمرو بن هشام وإما عمر بن الخطاب»، وإنا نرجو أن تكون دعوة رسول الله لك فأبشر، قال: فلما عرفوا مني الصدق قلت لهم: أخبروني بمكان رسول الله فقالوا: هو في بيت في أسفل الصفا وصفوه، فخرجت حتى قرعت الباب قيل: من هذا؟ قلت: ابن الخطاب، قال: وقد عرفوا شدتي على رسول الله ولم يعلموا بإسلامي فما اجترأ أحد منهم أن يفتح الباب، فقال رسول الله «افتحوا له فإنه إن يرد الله به خيرا يهده»، ففتحوا لي وأخذ رجلان بعضدي حتى دنوت من النبي فقال: «أرسلوه»، فأرسلوني فجلست بين يديه فأخذ بمجمع قميصي فجبذني إليه ثم قال: «أسلم يا ابن الخطاب اللهم اهده»، قال: قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فكبّر المسلمون تكبيرة سمعت بطرق مكة.

وكان إسلام عمر في السنة السادسة من النبوة، وكان في السادسة والعشرين من عمره بعد إسلام حمزة بثلاثة أيام، وسماه رسول الله الفاروق لأنه لما أسلم قال لرسول الله: ألسنا على الحق إن متنا أو حيينا؟ قال: «بلى، والذي نفسي بيده إنكم لعلى الحق إن متم أو حييتم»، قال: فقلت: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن، فأخرجناه في صفين حمزة في أحدهما وأنا في الآخر حتى دخلنا المسجد فنظرت إليّ قريش وإلى حمزة فأصابتهم كآبة لم يصبها مثلها، فسمَّاني رسول الله الفاروق، وفرق بين الحق والباطل. قال عمر رضي الله عنه: لما أسلمت تلك الليلة تذكرت أيّ أهل مكة أشد لرسول الله عداوة حتى آتيه فأخبره أني أسلمت، قال: قلت: أبو جهل، فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت عليه بابه فخرج إليّ أبو جهل، فقال: مرحبا ما جاء بك؟ قال: جئت لأخبرك أني آمنت بالله وبرسوله محمد وصدقت بما جاء به، فضرب الباب في وجهي وقال: قبّحك الله وقبّح ما جئت به، فكان إسلام عمر ضربة قاضية على أبي جهل.

ولا شك أن عمر رضي الله عنه قد أسلم لما قرأ آي الذكر الحكيم مع أنه كان قبل إسلامه يعذب جارية بني مؤمل لإسلامها أشد العذاب بلا رحمة ولا شفقة ولا يتركها إلا إذا ملّ وكلّ، وهذا يدل على أنه كان شديد البغض للإسلام، شديد التعصب لدينه، وقد تعدى على أخته وشجها، ولم يكن أحد يتصور أن صاحب هذا الخلق الشديد الحانق على الإسلام والمسلمين والمعتدي على الرجال والنساء بالتعذيب والضرب يسلم بمجرد قراءته آي القرآن، نعم لم يكن أَحد يتصور ذلك لكن لما كان القرآن ليس كلام البشر بل كلام الله سبحانه وتعالى كان له تأثير عجيب في النفوس، ولا بد أن سامعه يرق قلبه مهما كان قاسيا، لذلك لم يسع عمر بن الخطاب هذا العربي الصميم إلا الاعتراف بأن ما تلاه هو كلام الله سبحانه وتعالى وليس في استطاعة البشر الإتيان بمثله فصدق بما جاء به محمد وإن في ذلك لعبرة لأولي الألباب، وعمر رضي الله عنه ثاني الخلفاء الراشدين وقد ضرب المثل الأعلى بعدله وزهده.

قال عليّ رضي الله عنه: ما علمت أحدا هاجر إلا مختفيا إلا عمر بن الخطاب فإنه لما همَّ بالهجرة تقلد سيفه وتنكب قوسه وانتضى في يده سهما، وأتى الكعبة وأشراف قريش بفنائها فطاف سبعا ثم صلى ركعتين عند المقام ثم أتى حلقهم واحدة واحدة وقال: شاهت الوجوه، من أراد أن تثكله أمه وييتّم ولده وترمل زوجته فليلحقني وراء هذا الوادي.

فما تبعه أحد منهم.

ومن مناقب عمر بن الخطاب العظيمة رضي الله عنه أن الوحي نزل على وفق قوله في آيات كثيرة منها:

1 - آية أخذ الفداء عن أسارى بدر.

2 - آية تحريم الخمر.

3 - آية تحويل القبلة.

4 - آية أمر النساء بالحجاب.

5 - النهي عن القيام على قبر من مات من المنافقين.

وطعن عمر رضي الله عنه يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من شهر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، ودُفن يوم الأحد هلال المحرم سنة أربع وعشرين (يوافق سنة 644 م) وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح المشهور.

والذي طعن عمر: العلج أبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بن شعبة وهو قائم في صلاة الصبح حين أحرم بالصلاة طعنه بسكين ذات طرفين فضربه في كتفه وخاصرته، وقيل: ضربه ضربات، فقال: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدّعي الإسلام. والظاهر أن العلج هذا كان مجنونا لأنه طعن مع عمر ثلاثة عشر رجلا، توفي منهم سبعة وعاش الباقون، ولما أحس أنه مقتول قتل نفسه.

وكانت خلافته - رضي الله عنه - عشر سنين وخمسة أشهر وأحدا وعشرين يوما، وثبت في «صحيح البخاري» وغيره أنه أول من جمع الناس لصلاة التراويح فجمعهم على أبيّ بن كعب بن قيس رضي الله عنه، وأجمع المسلمون في زمنه وبعده على استحبابها، ورُوي عن عليّ رضي الله عنه أنه مرّ على المساجد في رمضان وفيها القناديل فقال: «نوَّر الله على عمر قبره كما نوّر علينا مساجدنا».

قال الغزالي رحمه الله: لما ولي عمر رضي الله عنه الخلافة، كانت له زوجة يحبها فطلقها خيفة أن تشير عليه بشفاعة في باطل فيطيعها ويطلب رضاها، وذلك لشدة تمسكه بالعدل.

الهجرة الثانية إلى الحبشة

لما قدم أصحاب النبي مكة من الهجرة الأولى - بسبب إسلام عمر وإظهار الإسلام - اشتد عليهم قومهم وسطت بهم عشائرهم ولقوا منهم أذى شديدا فأذن لهم رسول الله في الخروج إلى أرض الحبشة مرة ثانية، فكانت خرجتهم الآخرة أعظمها مشقة ولقوا من قريش تعنيفا شديدا ونالوهم بالأذى واشتدّ عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره لهم، وتخوفوا من حماية دولة أجنبية قوية للمسلمين المهاجرين. فقال عثمان: يا رسول الله فهجرتنا الأولى وهذه الآخرة إلى النجاشي ولست معنا، فقال رسول الله: «أنتم مهاجرون إلى الله وإليّ لكم هاتان الهجرتان جميعا»، قال عثمان: فحسبنا يا رسول الله، وكان عدة من خرج في هذه الهجرة من الرجال ثلاثة وثمانين رجلا ومن النساء إحدى عشرة امرأة قرشية وسبعا غرائب، فأقام المهاجرون بأرض الحبشة عند النجاشي في أحسن جوار، فلما سمعوا بمهاجر رسول الله إلى المدينة رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلا ومن النساء ثماني نسوة فمات منهم رجلان بمكة وحبس بمكة سبعة نفر.

حصار الشعب وخبر الصحيفة - مقاطعة رسول الله وأتباعه

لما رأت قريش أن أصحاب رسول الله قد نزلوا بلدا أصابوا به أمنا وقرارا وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم وأن عمر قد أسلم فكان هو وحمزة مع رسول الله وجعل الإسلام ينتشر في القبائل، اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على ألا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يخالطوهم ولا يقبلوا منهم صلحا أبدا ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله للقتل، أعني أنهم اتفقوا وتعاهدوا على مقاطعتهم مقاطعة تامة انتقاما منهم لإسلامهم ودفاعهم عن رسول الله وكتبوا بذلك صحيفة توكيدا لأنفسهم وعلقوها في جوف الكعبة هلال المحرم سنة سبع من النبوة (617 م)، وكانت الصحيفة مكتوبة بخط بغيض ابن عامر بن هاشم فدعا عليه رسول الله فشل يده، وانحاز بنو المطلب بن عبد مناف إلى أبي طالب في شعبه مع بني هاشم وخرج أبو لهب إلى قريش فظاهرهم على بني هاشم وبني المطلب وقطعوا عنهم الميرة والمادة فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم حتى بلغوا الجهد وسمع أصوات صبيانهم من وراء الشعب، فمن قريش من سره ذلك ومنهم من ساءه وقال: انظروا ما أصاب بغيض بن عامر فأقاموا في الشعب ثلاث سنين حتى أنفق رسول الله ماله وأنفق أبو طالب ماله وأنفقت خديجة مالها وصاروا إلى حد الضر والفاقة، ثم أطلع الله رسوله على أمر صحيفتهم وأن الأرَضة قد أكلت ما كان فيها من جور وظلم وبقي ما كان فيها من ذكر الله، فذكر ذلك رسول الله لأبي طالب فذكر أبو طالب لإخوته وخرجوا إلى المسجد، فقال أبو طالب لكفار قريش: إن ابن أخي قد أخبرني - ولم يكن يكذبني - قط أن الله قد سلَّط على صحيفتكم الأرضة فلحست ما كان فيها من جور أو ظلم أو قطيعة رحم وبقي ما كان فيها من ذكر الله، فإن كان ابن أخي صادقا نزعتم عن سوء رأيكم وإن كان كاذبا دفعته إليكم فقتلتموه أو استحييتموه. قالوا: قد أنصفتنا فأرسلوا إلى الصحيفة ففتحوها فإذا هي كما قال رسول الله فسقط في أيديهم ونكسوا على رؤوسهم، فقال أبو طالب: علام نحبس ونحصر وقد بان الأمر؟ ثم دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة والكعبة فقال: اللهم انصرنا ممن ظلمنا وقطع أرحامنا واستحل ما يحرم الله منا ثم انصرفوا إلى الشعب. وتلاوم رجال من قريش على ما صنعوا ببني هاشم وكان فيهم مطعم بن عدي وعدي بن قيس وزمعة بن الأسود وأبو البختري بن هاشم وزهير بن أبي أمية فلبسوا السلاح ثم خرجوا إلى بني هاشم وبني المطلب فأمروهم بالخروج إلى مساكنهم ففعلوا، فلما رأت قريش ذلك سقط في أيديهم وعرفوا أن لن يسلموهم وكان خروجهم من الشعب في السنة العاشرة.

وفي «سيرة ابن هشام» أنهم أقاموا عل ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا لا يصل إليهم شيء إلا سرا مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش، وقد كان أبو جهل بن هشام فيما يذكرون لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد وهي عند رسول الله ومعه في الشعب فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة، فجاءه أبو البختري وقال: طعام كان لعمته عنده بعثت إليه فيه أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خلّ سبيل الرجل، فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحي بعير فضربه به فشجه ووطئه وطئا شديدا وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله وأصحابه فيشمتوا بهم، ورسول الله على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا وسرا وجهارا مباديا بأمر الله لا يتقي فيه أحدا من الناس. هذا ومن المدهش أن مرجوليوث يقول: إن أبا جهل كان مشهورا بالعقل والذكاء، وهل تدري لماذا أيها القارىء؟ لأنه كان معاديا لرسول الله لأن أعماله وصفاته التي ذكرناها لا تدل على أنه كان عاقلا ذكيا. إن النبي كان يدعو العرب إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم في دنياهم وأخراهم، كان يدعو إلى عبادة الله الواحد، وإلى نبذ عبادة الحجارة، ومعنى ذلك أنه كان يعمل على انتشالهم من الانحطاط الديني الذي كانوا غارقين فيه ورفعهم إلى أعلى المراتب وأسمى العقائد، وعدا ذلك فقد كان عليه الصلاة والسلام يهذبهم ويعلمهم مكارم الأخلاق ويبث في نفوسهم الآداب الاجتماعية العالية، فهل يقال عن رجل اتصف بشدة عداوة لرسول الله إنه عاقل ثم إن مرجوليوث يظهر حنقه على من أسلموا ولا سيما إذا كانوا من الأبطال الأشداء فيرميهم بأوصاف ذميمة منفرة.

الطفيل بن عمرو الدوسي شاعر يحكم عقله ويسلم

كانت قريش إذا سمعت بقدوم أحد من العرب يقابلونه ويحذرونه من رسول الله ويصفونه بكل نقيصة خشية أن يسلم ويعود إلى بلاده ويدعوهم إلى الإسلام، لكن الطفيل بن عمرو الدوسي لم يعبأ بتحذيرهم بل حكم عقله وتقابل مع رسول الله وسمع منه القرآن فكر فيه وتذوقه لأنه شاعر فأسلم وهذه قصته:

هو الطفيل بن عمرو بن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس بن عدنان بن عبد الله ابن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن نصر بن الأزد الدوسي، يُلقب ذا النون.

كان الطفيل بن عمرو الدوسي يحدث أنه قدم مكة ورسول الله فمشى إليه رجال من قريش وكان الطفيل شريفا شاعرا لبيبا، فقالوا: يا طفيل إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل بين أظهرنا قد أعضل بنا وفرق جماعتنا وإنما قوله كالحر يفرق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبينه وبين زوجه، وإنما نخشى عليك وعلى قومك فلا تكلمه ولا تسمع منه، قال: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه حتى حشوت أذني كرسفا، فرقا أن يبلغني من قوله وأنا أريد أن لا أسمعه، قال: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله قائم يصلي عند الكعبة، قال: فقمت قريبا منه فأبى الله إلا أن يسمعني قوله، فسمعت كلاما حسنا، فقلت في نفسي: واثكل أمي، والله إني لرجل شاعر لبيب ما يخفى عليّ الحسن من القبيح فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ إن كان الذي يأتي حسنا قبلته وإن كان قبيحا تركته، فمكثت حتى انصرف رسول الله إلى بيته فاتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمد إن قومك قالوا لي كذا وكذا ثم إن الله أبى إلا أن أسمع قولك فسمعت قولا حسنا فأعرض عليّ أمرك.

فعرض عليّ الإسلام وتلا عليّ القرآن ما سمعت قولا قطّ أحسن منه ولا أمرا أعدل منه فأسلمت وقلت: يا رسول الله إني امرؤ مطاع في قومي وأنا راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال: اللهم اجعل له آية، قال: فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر وقع نور بين عيني مثل المصباح فقلت: اللهم في غير وجهي فإني أخشى أن يظنوها مُثْلَة لفراقي دينهم فتحولت في رأس سوطي فجعل الحاضر يتراءون ذلك في النور في سوطي كالقنديل المعلق وأنا أهبط إليهم من الثنية فلما نزلت أتاني أبي وكان شيخا كبيرا فقلت: إليك عني يا أبت فلست منك ولست مني، قال: ولم أي بني؟ قلت: إني أسلمت، وقال: أيُخاف عليّ من ذي الشرى - صنم لهم -، فقلت: لا، أنا ضامن لذلك، ثم دعوت دوسا فأبطأوا عن الإسلام، فرجعت إلى رسول الله بمكة فقلت: يا رسول الله قد غلبني على دوس الزنا فادع الله عليهم، فقال: «اللهم اهد دوسا إليّ، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم»، قال: فرجعت فلم أزل بأرض قومي دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجروا إلى النبي إلى المدينة وقضى بدرا وأُحُدا والخندق ثم قدمت على رسول الله بمن أسلم معي من قومي ورسول الله بخيبر حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس ثم لحقنا برسول الله بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين، ثم لم أزل مع رسول الله حتى فتح الله عز وجل عليه مكة فقلت: يا رسول الله ابعثني إلى ذي الكفين - صنم عمرو بن حممة - حتى أُحرِّقه، فخرج إليه فجعل طفيل يقول وهو يحرقه وكان من خشب:

يا ذا الكَفَيْن لست من عبّادكا ** ميلادنا أقدم من ميلادكا

إني حشوت النار في فؤادكا

ثم رجع طفيل إلى رسول الله فكان معه بالمدينة حتى قبض الله رسوله

وفاة أبي طالب سنة 620 م

كان أبو طالب بن عبد المطلب من أشد الناس دفاعا عن رسول الله لكن نفسه لم تطاوعه على اعتناق الإسلام وفراق دين آبائه، رُوي أن النبي قال: «ما زالت قريش كاعة عني حتى مات عمي» وكان النبي يحب أن يسلم عمه لأنه هو الذي كفله وذاد عنه إلى آخر لحظة من حياته.

ولما اشتد مرضه قال رسول الله «يا عم، قلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة» - يعني قل الشهادة -، فقال له أبو طالب: يا ابن أخي لولا مخافة المسبة وأن تظن قريش إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها، فأنزل الله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآء} (القصص: 56)، قال الزجاج: أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله أن يقول لا إله إلا الله فأبى أن يقولها خشية أن تعيّره قريش على أن الذي منعه من الإسلام هو خوف الملام والشتم وأنه فارق دين آبائه واتبع دين ابن أخيه وقد رباه صغيرا، فالمشهور أنه مات كافرا وكان له من الولد جعفر وعليّ وعقيل وطالب وأم هانىء واسمها فاختة وجمانة وكلهم أعقب إلا طالبا، وكان أبو طالب أعرج وتوفي بعد النبوة بعشر سنين وقبل الهجرة بثلاث سنين بالغا من العمر نحو ثمانين سنة، وقالت الشيعة: إن أبا طالب مات مسلما.

وفي «أسد الغابة»: لما اشتد بأبي طالب مرضه دعا بني عبد المطلب فقال: إنكم لن تزالوا بخير ما سمعتم قول محمد واتبعتم أمره فاتبعوه وصدقوه ترشدوا.

ولما مات أبو طالب قال له رسول الله «رحمك الله وغفر لك لا أزال أستغفر لك حتى ينهاني الله»، فأخذ المسلمون يستغفرون لموتاهم الذين ماتوا وهم مشركون فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَبُ الْجَحِيمِ} (التوبة: 113).

وفاة خديجة سنة 620م

توفيت خديجة زوجة رسول الله بعد أبي طالب بثلاثة أيام، وقيل بأكثر من ذلك، في شهر رمضان قبل الهجرة بثلاث سنين ولها خمس وستون سنة وكان مقامها مع رسول الله بعدما تزوجها أربعا وعشرين سنة وستة أشهر ودفنها رسول الله بالحجون ولم تكن الصلاة على الجنائز يومئذ، وحزن عليها النبي ونزل في حفرتها، وتتابعت على رسول الله بموت أبي طالب وخديجة المصائب لأنهما كانا من أشد المعضدين له المدافعين عنه، فاشتد أذى قريش عليه حتى نثر بعضهم التراب على رأسه وطرح بعضهم عليه سلى الشاة وهو يصلي - السلى الجلدة التي يكون فيها الولد - وسُمي العام الذي مات فيه أبو طالب وخديجة - عام الحزن - ولم ينسَ رسول الله محبته لخديجة بعد وفاتها وكان دائما يثني عليها ولم يتزوج عليها حتى ماتت إكراما لها، وقد كانت مثال الزوجة الصالحة الوفية، فبذلت نفسها ومالها لرسول الله وصدقته حين نزل عليه الوحي.

سفره إلى الطائف

الطائف بلدة في الحجاز على مسافة 65 ميلا جنوبا شرقيا من مكة، وهي مشهورة بجودة مناخها وخصب أرضها وفواكهها، ولا سيما العنب والبرقوق والرمان والخوخ وبها مياه جارية ويضرب بعنبها المثل في الحسن وربما جمد الماء فيها في الشتاء، والجبل الذي هي عليه يقال له - غزوان - وهي مصيف أغنياء مكة، ومقر عبادة العزى وقد سافر إليها النبي لثلاث بقين من شوال سنة عشر من المبعث (يناير - فبراير سنة 620 م) ومعه مولاه زيد بن حارثة يلتمس من ثقيف النصرة فعمد إلى جماعة من أشراف ثقيف ودعاهم إلى الله فقال واحد منهم: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك؟ وقال الآخر: والله لا أكلمك أبدا لأنك إن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويرمونه بالحجارة ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى حائط وقد أدموا رجليه فلما اطمأن ورجع عنه السفهاء قال عليه الصلاة والسلام: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، اللهم يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهّمني أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع، إني أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى لا حول ولا قوة إلا بك». وهذا الدعاء مشهور بدعاء الطائف، فلما رأى ابنا ربيعة عتبة وشيبة ما لقي رسول الله تحركت له رحمهما فدعوا له غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس، فقالا له: خذ قطفا من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه، ففعل عداس ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله فلما وضع رسول الله يده قال: باسم الله، فنظر عداس إلى وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، قال له رسول الله «ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس وما دينك؟»، قال: أنا نصراني وأنا رجل من أهل نينوى، فقال له رسول الله «من قرية الرجل الصالح يونس بن متّى»؟ قال له: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال رسول الله «ذلك أخي كان نبيا وأنا نبي»، فأكب عداس على رأس رسول الله يقبّل رأسه ويديه ورجليه، فقال ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهما عداس قالا له: ويلك يا عداس ما لك تقبّل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل، لقد خبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي؟ فقالا: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه. ثم إن رسول الله انصرف من الطائف راجعا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف فوجد قومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه إلا قليلا مستضعفين ممن آمن به، وفي الطبري: أن بعضهم ذكر أن رسول الله لما انصرف من الطائف مريدا مكة مر به بعض أهل مكة فقال له رسول الله «هل أنت مبلغ عني رسالة أرسلك بها؟»، قال: نعم، قال: «ائت الأخنس بن شَريق فقل له: يقول لك محمد هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالة ربي»؟ قال: فأتاه فقال له ذلك، فقال الأخنس: إن الحليف لا يجير على الصريح، فأتى النبي فأخبره، قال: «تعود؟»، قال: نعم، قال: «ائت سهيل بن عمرو فقل له: إن محمدا يقول لك: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي؟» فأتاه فقال له ذلك، فقال: إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب، فرجع إلى النبي فأخبره، قال: «تعود؟»، قال: نعم، قال: «ائت المطعم بن عدي فقل له إن محمدا يقول لك هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي؟» قال: نعم، فليدخل، فرجع إليه الرجل فأخبره، وأصبح المطعم قد لبس سلاحه هو وبنوه وبنو أخيه فدخلوا المسجد، فلما رآه أبو جهل قال: أمجير أم متابع؟ قال: بل مجير، قال: قد أجرنا من أجرت، فدخل النبي مكة وأقام بها، فدخل يوما المسجد الحرام والمشركون عند الكعبة فلما رآه أبو جهل قال: هذا نبيكم يا بني عبد مناف، قال عتبة بن ربيعة: وما تنكر أن يكون منا نبي أو ملك؟ فأخبر بذلك النبي أو سمعه فأتاهم فقال: «أما أنت يا عتبة بن ربيعة فوالله ما حميت لله ولا لرسوله ولكن حميت لأنفك، وأما أنت يا أبا جهل فوالله لا يأتي عليك غير كبير من الدهر حتى تضحك قليلا وتبكي كثيرا، وأما أنتم يا معشر الملأ من قريش فوالله لا يأتي عليكم غير كبير من الدهر حتى تدخلوا فيما تنكرون وأنتم كارهون».

ويقال: إن رسول الله أقام بالطائف عشرة أيام، وظاهر أن الذي دعاه إلى السفر هو التماس النصرة، ولكنهم خذلوه وما التمس النصرة من ثقيف إلا بعد أن توفي أبو طالب وخديجة، أضف إلى ذلك أن فريقا من المسلمين هاجروا إلى الحبشة، ولما عاد من الطائف لم يستطع دخول مكة إلا بجوار رجل كالمطعم بن عدي.

وفي رجوعه من الطائف مرّ به نفر من جن أهل نصيبين اليمن وهو يقرأ سورة (الجن) فاستمعوا له وآمنوا به، ولم يشعر بهم حتى نزل عليه: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَرا مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} (الأحقاف: 29)، وكانوا سبعة وقيل أكثر.

الإسراء والمعراج سنة 621 م

كان الإسراء قبل الهجرة ب سنة، وبه جزم ابن حزم في ليلة سبع وعشرين من شهر رجب وهو المشهور وعليه عمل الناس وكان ليلة الإثنين، وكان بعد خروجه إلى الطائف.

كان الإسراء إلى بيت المقدس والمعراج إلى السموات، وفرضت عليه في تلك الليلة الصلوات الخمس وقد ذكر الإسراء في القرآن.

قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الإسراء: 1).

واختلف في كيفية الإسراء فالأكثرون من طوائف المسلمين اتفقوا على أنه أُسري بجسد رسول الله والأقلون قالوا: إنه ما أُسري إلا بروحه، حُكي عن محمد بن جرير الطبري في «تفسيره» عن حذيفة أنه قال: ذلك رؤيا وأنه ما فقد جسد رسول الله وإنما أسري بروحه، حُكي هذا القول أيضا عن عائشة رضي الله عنها وعن معاوية رضي الله عنه وحديث عائشة ليس بالثابت لأنها لم تكن حينئذ زوجته، قال النسفي: وكان الإسراء في اليقظة، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: والله ما فقد جسد رسول الله ولكن عرج بروحه، وعن معاوية مثله. وعلى الأول الجمهور إذ لا فضيلة للحالم ولا مزية للنائم.

واتفق الأكثرون من طوائف المسلمين على أنه أسري بجسد رسول الله وهو الصحيح، جاء في «زاد المعاد» لابن قيم الجوزية:

«وقد نقل ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا: إنما كان الإسراء بروحه ولم يفقد جسده، ونقل عن الحسن البصري نحو ذلك، ولكن ينبغي أن يعلم الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناما وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده وبينهما فرق عظيم، وعائشة ومعاوية لم يقولا كان مناما وإنما قالا أسرِي بروحه ولم يفقد جسده وفرق بين الأمرين، فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالا مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء أو ذهب به إلى مكة وأقطار الأرض وروحه لم تصعد ولم تذهب وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال، والذين قالوا عرج برسول الله طائفتان: طائفة قالت: عرج بروحه وبدنه، وطائفة قالت: عرج بروحه ولم يفقد بدنه، وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان مناما وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أُسري بها وعرج بها حقيقة وباشرت من جنس ما تباشر به بعد المفارقة، وكان حالها في ذلك كحالها بعد المفارقة في صعودها إلى السموات سماء سماء حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة فتقف بين يدي الله سبحانه وتعالى فيأمرها بما يشاء ثم تنزل إلى الأرض، فالذي كان لرسول الله ليلة الإسراء أكمل مما يحصل للروح عند المفارقة، ومعلوم أن هذا الأمر فوق ما يراه النائم» الخ.

فالإسراء ما كان مناما قطعا لأنه لو كان مناما لما كذبه المشركون فإن من الناس من يرى أنه صعد إلى السماء أو قطع مسافات شاسعة لا يتصورها العقل، وليس المنام معجزة خارقة للعادة، والروح في المنام لا تفارق الجسم، كذلك لو كان الإسراء مناما لصرح به رسول الله

والطبري في «تفسيره» ينكر أن الإسراء كان بالروح فقط وقد رد على من قال بذلك فقال:

«والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله أسرى بعبده محمد من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما أخبر الله عباده كما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله أن الله حمله على البراق حتى أتاه به وصلى هنالك بمن صلى من الأنبياء والرسل فأراه من الآيات، ولا معنى لقول من قال أُسْريَ بروحه دون جسده لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن في ذلك ما يوجب أن يكون دليلا على نبوته ولا حجة له على رسالته ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك يدفعون به عن صدقه فيه إذ لم يكن منكرا عندهم ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة فكيف ما هو على مسيرة شهر أو أقل، إلى أن قال: ولو كان الإسراء بروحه لم تكن الروح محمولة على البراق إذ كانت الدواب لا تحمل إلا الأجسام إلا أن يقول قائل: إن معنى قولنا أُسرِيَ بروحه رأى في المنام أنه أُسري بجسده على البراق فيكذب حينئذ بمعنى الأخبار التي رُويت عن رسول الله لم يكن النبي على قوله حمل على البراق لا جسمه ولا شيء منه وصار الأمر عنده كبعض أحلام النائمين وذلك دفع لظاهر التنزيل وما تتابعت به الأخبار عن رسول الله وجاءت به الآثار من الصحابة والتابعين».

ومما قاله الفخر الرازي في «تفسيره»: قال أهل التحقيق: إن الذي يدل على أنه تعالى أسرى بروح محمد وجسده من مكة إلى المسجد الأقصى القرآن والخبر، أما القرآن فهذه الآية، وتقرير الدليل أن العبد اسم لمجموع الجسد والروح فوجب أن يكون الإسراء حاصلا لمجموع الجسد والروح إلخ، وأما الخبر فهو الحديث المروي في الصحاح وهو مشهور وهو يدل على الذهاب من مكة إلى بيت المقدس ثم منه إلى السموات، اهـ.

والمعراج به إلى السموات ليطلع على عجائب الملكوت كما قال تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَتِنَآ} (الإسراء: 1)، وإلا فالله تعالى لا يحويه زمان ولا مكان ورأى ربه تلك الليلة وأوحى إلى عبده ما أوحى وفرض عليه خمس صلوات وجمع له الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فصلى بهم في بيت المقدس ثم استقبلوه في السموات ورجع من ليلته إلى مكة.

وقد أنكر المسيحيون إسراء رسول الله ومعراجه وليس ذلك بمستغرب منهم، إنما الغريب أنهم يؤمنون بقيام المسيح وصعوده إلى السماء، ففي آخر إنجيل مرقص:

(ثم إن الرب بعدما كلمهم، ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الله).

وجاء في آخر إنجيل لوقا:

(وفيما هو «المسيح» يباركهم، انفرد عنهم وأصعد إلى السماء).

تأثير خبر الإسراء في قريش

لما أصبح رسول الله أخبر الناس بما رآه فصدقه الصدِّيق وكل من آمن به إيمانا قويا وارتد ناس ممن آمن به، وكذبه الكفار واستوصفوه مسجد بيت المقدس فوصفه لهم وسألوه عن أشياء في المسجد فمثل بين يديه فجعل ينظر إليه ويصفه ويعدّ أبوابه لهم بابا بابا فيطابق ما عندهم، وسألوه عن عير لهم فأخبرهم بها وبوقت قدومها فكان كما أخبر.

ويُروى أنه لما رجع إلى مكة من ليلته أخبر بمسراه أم هانىء بنت أبي طالب أخت علي رضي الله عنه وأنه يريد أن يخرج إلى قومه ويخبرهم بذلك لأنه ما أحب أن يكتم قدرة الله وما هو دليل على علو مقامه فتعلقت بردائه أم هانىء وقالت: أنشدك الله يا ابن عم ألا تحدث بها قريشا فيكذبك من صدقك فضرب بيده على ردائه فانتزعه منها، قالت: وسطع نور عند فؤاده كاد يخطف بصري فخررت ساجدة فلما رفعت رأسي فإذا هو قد خرج، قال: فقلت لجاريتي نبعة وكانت حبشية: اتبعيه وانظري ماذا يقول، فلما رجعت أخبرتني أن رسول الله انتهى إلى نفر من قريش في الحطيم وفيهم مطعم بن عدي وأبو جهل بن هشام فأخبرهم بمسراه.

ولما قص رسول الله خبر الإسراء على جمع من قريش أعظموا ذلك الإسراء وصار بعضهم يصفق وبعضهم يضع يده على رأسه تعجبا - فلو كان الإسراء رؤيا منامية لما كانت مستغربة ولما أحدثت تلك الضجة وكذبه المسلمون اللهم إلا من كان منهم قوي العقيدة ثابت الإيمان - قال مطعم بن عدي: إن أمرك قبل اليوم كان أمرا يسيرا غير قولك اليوم، هو يشهد أنك كاذب، نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعدا شهرا ومنحدرا شهرا، أتزعم أنك أتيته في ليلة واحدة؟ واللات والعزى لا أصدقك وما كان هذا الذي تقول قط، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا مطعم بئس ما قلت لابن أخيك جبهته وكذبته أنا أشهد أنه صادق، وفي رواية: فسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أُسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ قال: وقد قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: أتصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم إني لأصدقه في ما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء في غدوة وروحة، فقال مطعم: يا محمد صف لنا بيت المقدس، فقال أبو بكر رضي الله عنه: صف لي يا رسول الله فإني قد جئته، فجاءه جبريل بصورته ومثاله فجعل يقول باب منه في موضع كذا وباب منه في موضع كذا، وأبو بكر رضي الله عنه يقول: أشهد أنك رسول الله حتى أتى على أوصافه.

وهذه هي الأحاديث الواردة في «صحيح البخاري» الخاصة بالإسراء مشروحة في الهامش شرحا موجزا نقلا عن القسطلاني:

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله يقول: «لما كذبني قريش قمت في الحجر فجلا الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه».

المعراج

عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما: أن نبي الله حدثهم عن ليلة أُسريَ به قال: «بينما أنا في الحطيم - وربما قال: في الحجر - مضطجعا إذ أتاني آت فقد قال وسمعته يقول: فشق ما بين هذه إلى هذه - قال الراوي من ثغرة نحره إلى شعرته - فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض - قال الراوي: وهو البراق - يضع خطوة عند أقصى طرفه فحملت عليه فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنِعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالابن الصالح، ثم صعد بي إلى السماء الثانية فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، وقيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبا فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما فسلمت فردا ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت إذا إدريس قال: هذا إدريس فسلم عليه فسلمت عليه فرد، قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي إلى السماء الخامسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا هارون، قال: هذا هارون فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلم عليه، فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح فلما تجاوزت بكى قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي، ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبا فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام، فقال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى وإذا أربعة أنهار: نهران ظاهران ونهران باطنان، فقلت: «ما هذا يا جبريل؟» قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، ثم رفع لي البيت المعمور فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل فأخذت اللبن فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك، ثم فرضت عليّ الصلوات خمسين صلاة كل يوم فرجعت فمررت على موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت فقال مثله فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: بخمس كل يوم، فقال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم وإني جربت الناس قبل وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قلت: وسألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلّم قال: فلما جاوزت ناداني مناد: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي.

عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّءيَا الَّتِى أَرَيْنَكَ إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ} (الإسراء: 60)، قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله ليلة أُسريَ به إلى بيت المقدس، قال: والشجرة الملعونة في القرآن هي شجرة الزقوم.

هل رأى رسول الله ربه ليلة الإسراء؟

أنكرت عائشة رؤية رسول الله ربه ليلة الإسراء ورُوي عن ابن عباس أنه رآه بعينه ومثله عن أبي ذر وكعب رضي الله عنهما، وكان الحسن رحمه الله يحلف على ذلك، ومن القائلين بالرؤية ابن مسعود وأحمد بن حنبل وجماعة من الصحابة، وعن ابن عباس أنه قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد وعن عكرمة سئل ابن عباس: هل رأى محمد ربه؟ فقال: نعم، قال النووي في شرح «صحيح مسلم»: والأصل في الباب حديث ابن عباس حبر الأمة والمرجوع إليه في المعضلات وقد راجعه ابن عمر رضي الله عنهم في هذه المسألة وراسله هل رأى محمد ربه فأخبره أنه رآه، ولا يقدح في هذا حديث عائشة رضي الله عنها فإنها لم تخبر أنها سمعت النبي يقول: لم أر ربي وإنما ذكرت ما ذكرت متأولة لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيا أَوْ مِن وَرَآء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا} (الشورى: 51)، ولقول الله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَرُ} (الأنعام: 103)، والصحابي إذا قال قولا وخالفه غيره منهم لم يكن قوله حجة وإذا صحت الروايات عن ابن عباس في إثبات الرؤية وجب المصير إلى إثباتها فإنها ليست مما يدرك بالعقل ويؤخذ بالظن، وإنما يتلقى بالسماع ولا يستجيز أحد أن يظن بابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد، وقد قال معمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس، ثم إن ابن عباس أثبت شيئا نفاه غيره، والمثبت مقدم على النافي.

والراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء، والظاهر أن إخباره بالمعراج لم يكن عند إخباره بالإسراء بل تأخر عنه بناء على أنهما كانا في ليلة واحدة ولم تنزل قصة المعراج في سورة الإسراء بل أنزل ذلك في سورة النجم، ومما يؤيد أنهما كانا في ليلة واحدة قول البخاري في «صحيحه»: باب كيف فرضت الصلاة ليلة الإسراء؛ لأن من المعلوم أن فرض الصلوات الخمس إنما هو في المعراج.

نقول: وقد خالفت عائشة ابن عباس في هل كان الإسراء بالجسد أو بالروح، فقالت عائشة: والله ما فقد جسد رسول الله ولكن صعد بروحه، وابن عباس يقول: إنه إسراء بالجسد وفي اليقظة، وهذا ما ذهب إليه معظم الصحابة، أما ما يتصوره بعضهم في أن الصعود بالجسد إلى السموات مستحيل عقلا، فنقول: إن هذا الصعود بالجسم معجزة لرسول الله لا تُدرك بالعقل كجميع معجزاته وكمعجزات الرسل عليهم صلوات الله ولو كان الصعود بالروح فقط لصرح به رسول الله ولما كذبته قريش.

وإذا كان أمر الإسراء والمعراج عجيبا فأعجب منه أن المسيح يُصلب ويُقتل ويُدفن ثم يقوم من بين الموتى ويصعد إلى السماء ويجلس على يمين الله كما يعتقد المسيحيون.

فريضة الصلاة

فرضت الصلوات الخمس ليلة الإسراء قبل الهجرة ب سنة ولا خلاف في ذلك، قيل: كما هي الآن في عدد الركعات وهو الأصح، والصلاة هي فريضة قائمة وشريعة ثابتة عرفت فريضتها بالكتاب وهو قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلوةَ} (البقرة: 43)، وقوله تعالى: {حَفِظُواْ عَلَى الصَّلَوتِ والصَّلَوةِ الْوُسْطَى} (البقرة: 238)، فإنه يدل على فرضيتها وعلى كونها خمسا لأنه أمر بالمحافظة على جميع الصلوات وعطف عليها الصلاة الوسطى وأقل جمع يتصور معه وسطى هو الأربع، وب السنة قوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله فرض على كل مسلم ومسلمة في كل يوم وليلة خمس صلوات».

وحكمة مشروعيتها التذلل والخضوع بين يدي الله تعالى ومناجاته بالقراءة والذكر واستعمال الجوارح في خدمته وهي أفضل العبادات البدنية الظاهرة.

جاء في «رسالة الصلاة» لابن سينا: أن الصلاة تشبه النفس الإنساني الناطق بالأجرام الفلكية والتعبد الدائم للحق المطلق طلبا للثواب السرمدي، قال رسول الله «الصلاة عماد الدين»، والدين هو تصفية النفس الإنساني عن الكدورات الشيطانية والهواجس البشرية والإعراض عن الأعراض الدنيوية الدنية، والصلاة هي التعبد للمعبود الأعظم الأعلى، فعلى هذا لا يحتاج إلى تأويل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) بيعرفون؛ لأن العبادة هي المعرفة أي عرفان واجب الوجود وعلمه بالسر الصافي والقلب النقي والنفس الفارغة، فإذا حقيقة الصلاة علم الله سبحانه وتعالى بوحدانيته ووجوب وجود وتنزيه ذاته، وتقديس صفاته في سوانح الإخلاص في صلاته، وأعني بالإخلاص: أن تعلم صفات الله بوجه لا يبقى للكثرة فيه مشرع ولا للإضافة فيه منزع، فمن فعل هذا فقد أخلص وصلى وما ضل وما غوى ومن لم يفعل فقد افتى وكذب وعصى، والله أجل وأعلى وأعز من ذلك وأقوى، اهـ.

قال «لا إيمان لمن لا صلاة له، ولا إيمان لمن لا أمانة له»، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي».

قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَوةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآء وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت: 45).

عرض الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه على قبائل العرب

أخفى رسول الله رسالته بادىء الأمر ثم أعلنها في السنة الرابعة من النبوة ودعا إلى الإسلام عشر سنين يوافي المواسم كل عام يتبع الحجاج في منازلهم بمنى والموقف يسأل عن القبائل قبيلة قبيلة، ويسأل عن منازلهم ويأتي إليهم في أسواق الموسم وهي عكاظ ومجنة وذو المجاز، وكانت العرب إذا حجَّت تقيم بعكاظ شهر شوال، ثم تجيء إلى سوق مجنة تقيم فيه عشرين يوما، ثم تجيء إلى سوق ذي المجاز فتقيم به أيام الحج وكان يعرض نفسه عليهم ويدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالة ربه، وكان يطوف على الناس في منازلهم ويقول: «يا أيها الناس إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا»، وكان أبو لهب يمشي وراءه ويقول: إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم، وروى ابن إسحاق: أنه عرض نفسه على كندة وكلب وعلى بني حنيفة وبني عامر بن صعصعة فقال له رجل منهم: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظفرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فقال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء، فقال له: أنقاتل العرب دونك فإذا أظفرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك وأبوا عليه، فلما رجعت بنو عامر إلى منازلهم وكان فيهم شيخ أدركته السن لا يقدر أن يوافي معهم الموسم، فلما قدموا عليه سألهم عما كان في موسمهم فقالوا: جاءنا فتىً من قريش أحد بني عبد المطلب يزعم أنه نبي يدعونا أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا. فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال: يا بني عامر هل لها من تلاف؟ - أي هل لهذه القصة من تدارك - والذي نفس فلان بيده ما يقولها كاذبا من بني إسماعيل قط وإنها لحق وإن رأيكم غاب عنكم.

وروى الواقدي أنه أتى بني عبس وبني سليم وبني محارب وفزارة ومرة وبني النضر وعذرة والحضارمة فردوا عليه أقبح الرد وقالوا: أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك، ولم يكن أحد من العرب أقبح عليه من بني حنيفة وهم أهل اليمامة، قوم مسيلمة الكذاب، ومن ثم جاء في الحديث: «شر قبائل العرب بنو حنيفة»، ومن أقبح القبائل في الرد عليه وسلم ثقيف، ومن ثم جاء: «شر قبائل العرب بنو حنيفة وثقيف»، وما زال يعرض نفسه على القبائل في كل موسم يقول: «لا أكره أحدا على شيء، من رضي الذي أدعو إليه فذاك ومن كره لم أكرهه وإنما أريد منعي من القتل حتى أبلغ رسالة ربي»، فلم يقبله أحد من تلك القبائل ويقولون: قوم الرجل أعلم به، أترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه؟

بدء إسلام الأنصار بيعة العقبة الأولى

إسلام سعد بن معاذ

خرج رسول الله يعرض نفسه على قبائل العرب وحجاجهم كما كانت عادته كل موسم، فبينما هو عند العقبة التي تضاف إليها الجمرة فيقال: جمرة العقبة، وهي على يسار القاصد منىً من مكة إذ لقي رهطا من الأوس والخزرج كانوا يحجون من العرب، وهما قبيلتان مشهورتان عظيمتان من العرب في يثرب وقد لقبهم رسول الله بالأنصار لما هاجر إليهم ومنعوه ونصروه، وكان الذين لقيهم من الخزرج هم أسعد بن زرارة وعوف بن الحارث ويعرف بابن عفراء، وهما من بني النجار، ورافع بن مالك بن العجلان وعامر بن عبد حارثة وهما من بني زريق، وقطبة بن عامر بن حديدة من بني سلمة، وعقبة بن عامر بن نابىء من بني غنم، وجابر بن عبد الله بن رباب من بني عبيدة، فعرض النبي عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن فقبلوا ذلك منه وأثر في قلوبهم وكان اليهود مع الأوس والخزرج بالمدينة وكانوا أهل كتاب والأوس والخزرج أهل شرك وأوثان، وكانوا إذا كان بينهم شيء تقول اليهود: إن نبيا سيبعث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم يصفونه بصفاته لهم، فلما قدموا المدينة ذكروا لقومهم النبي ودعوهم إلى الإسلام فأسلم كثيرون منهم حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا وذلك سنة اثنتي عشرة من النبوة (621 م) فلقوه بالعقبة فبايعوه بيعة النساء، وسُميت بذلك لأنها كانت على الأمور التي ورد ذكرها في سورة الممتحنة خاصة ببيعة النساء وهي هذه الآية: {يأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَآءكَ الْمُؤْمِنَتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَنٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الممتحنة: 12).

وبعد أن تمت هذه البيعة بعث معهم مصعب بن عُمَيْر بن هاشم إلى المدينة يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام وكان يُسمَّى مصعب بالمدينة المقرىء، فأسلم على يده سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وكان سعد من أجلّ رؤسائهم ثم فشا فيهم الإسلام في المدينة، وقال سعد لما أسلم لبني عبد الأشهل: كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تسلموا فأسلموا، فكان من أعظم الناس بركة في الإسلام، وشهد بدرا، لم يختلفوا فيه وشهد أحدا والخندق وفيها أصيب بسهم وهو الذي حكم على بني قريظة بالقتل كما سيأتي، وبعد أن حكم عليهم انفجر عرقه فاحتضنه رسول الله فجعلت الدماء تسيل على رسول الله، فجاء أبو بكر وقال: وانكسار ظهره فقال له النبي «مه»، فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولما دفنه رسول الله وانصرف من جنازته، جعلت دموعه تحادر على لحيته ويده في لحيته ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت - وهو صيفي - وكان شاعرا لهم وقائدا يسمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام ولم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله إلى المدينة.

بيعة العقبة الثانية

اتفق جماعة من الأنصار للقاء النبي مستخفين لا يشعر بهم أحد فوافوا مكة في الموسم في ذي الحجة مع كفار قومهم واجتمعوا به وواعدوه أوسط أيام التشريق، فلما كان الليل خرجوا بعد مضي ثلثه يتسللون حتى اجتمعوا بالعقبة وحضر معهم عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، وأسلم تلك الليلة وجاءهم رسول الله ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وكان لا يزال على دين قومه وأحب أن يتوثق لابن أخيه وكان أول من بايع تلك الليلة وهو أول من تكلم، فقال: يا معشر الخزرج - وكانت العرب تسمّي الخزرج والأوس به - إن محمدا منا حيث قد علمتم في عز ومنعة وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم فإن كنتم ترون أنكم تفون له بما دعوتموه إليه ومانعوه فأنتم وذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة، فقال الأنصار: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك وربك ما أحببت. فتكلم وتلا القرآن ورغب في الإسلام ثم قال: «تمنعونني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم»، وكان للبراء بن معرور في تلك الليلة المقام المحمود في الإخلاص والتوثق لرسول الله إذ أخذ بيده وقال: والذي بعثك بالحق لنمنعنّك مما نمنع منه ذرارينا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحرب. فاعترض الكلام أبو الهيثم بن التَّيْهَان حليف بني عبد الأشهل فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالا وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن أظهرك الله عز وجل أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله وقال: «بل الدم الدم، الهدم الهدم، أنتم مني وأنا منكم أسالم من سالمتم وأحارب من حاربتم»، وكانت عدة الذين بايعوا في تلك الليلة سبعين رجلا وامرأتين: نسيبة بنت كعب أم عمارة وأسماء بنت عمرو بن عدي من بني سلمة، واختار رسول الله اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس وقال لهم: «أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي»، والنقباء هم:

1 - سعد بن عبادة.

2 - أسعد بن زرارة.

3 - سعد بن الربيع.

4 - سعد بن خيثمة.

5 - المنذر بن عمرو.

6 - عبد الله بن رواحة.

7 - البراء بن معرور.

8 - أبو الهيثم بن التيهان.

9 - أسيد بن حضير.

10 - عبد الله بن عمرو بن حرام.

11 - عبادة بن الصامت.

12 - رافع بن مالك بن العجلان.

ورُوي أنه نقب على النقباء أسعد بن زرارة فتوفي بعد والمسجد النبوي يبنى، فكان أول من دفن بالبقيع من المسلمين.

فلما بايعوا النبي رجعوا إلى المدينة فكان قدومهم في ذي الحجة فأقام رسول الله بمكة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وهاجر إلى المدينة في شهر ربيع الأول وقدمها لاثنتي عشرة ليلة خلت منه. وقد كانت قريش لما بلغهم إسلام من أسلم من الأنصار اشتدوا على من بمكة من المسلمين فأصابهم جهد شديد، فأمر النبي أصحابه بالهجرة إلى المدينة فخرجوا أرسالا حتى لم يبق أحد من المسلمين بمكة مع رسول الله إلا أبو بكر وعلي بن أبي طالب فإنهما أقاما بأمره وكان ينتظر أن يؤذن له في الهجرة.

وإسلام الأنصار له شأن كبير في تاريخ الإسلام بل في تاريخ الدنيا.

مؤامرة قريش على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم

لقد بلغ اضطهاد قريش للمسلمين أنهم اضطروهم إلى الهجرة ففريق هاجر إلى الحبشة ثم هاجر من بقي مع رسول الله إلى المدينة، ولما علمت قريش تتابع أصحاب رسول الله بالهجرة أخيرا إلى المدينة وقد صارت له شيعة وأنصار من غيرهم وأنه أجمع على اللحاق بهم، تشاوروا فيما يصنعون في أمره فاجتمعوا في دار الندوة وهي دار قصيّ بن كلاب وتشاوروا في حبسه أو إخراجه عنهم - نفيه - ثم اتفقوا على أن يتخيروا من كل قبيلة منهم فتى شابا جلدا فيقتلوه جميعا فيتفرق دمه في القبائل ولا يقدر بنو عبد مناف على حربهم جميعا ويقال: إن هذا كان رأي أبي جهل، وهكذا نجد دائما اسم أبي جهل وأبي لهب في كل مؤامرة ضد النبي وكل إيذاء واضطهاد كأن لا عمل لهما غير ذلك.

استعدوا لقتله عليه الصلاة والسلام من ليلتهم وأتى جبريل رسول الله فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، فلما كانت العتمة اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه فأمر عليا أن ينام على فراشه ويتشح ببرده الأخضر وأن يتخلف عنه ليؤدي ما كان عند رسول الله من الودائع إلى أربابها فامتثل أمره فكان أول من شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله ووقى بنفسه رسول الله

وهنا نقول: إن الأستاذ مرجوليوث اعتاد أن يصف أعداء رسول الله برجاحة العقل والنبل ولا يعدم أن يجد كتابا يذكر كمصدر له من غير تحقيق فقد قال عن أبي جهل في كتابه (محمد): إنه حاز شهرة عظيمة في العقل حتى إنه دخل دار الندوة في سنّ الثلاثين في حين أنه كان لا يسمح لأحد من أهل مكة بدخولها إلا إذا بلغ الأربعين، والحقيقة أنهم كانوا لا يدخلون فيها غير قرشي إلا إن بلغ أربعين سنة بخلاف القرشي تمييزا له، وبما أن أبا جهل قرشي فكان يسوغ له دخول دار الندوة قبل الأربعين وليس ذلك لأنه كان شديد الذكاء راجح العقل بل لأنه كان قرشيا.

القرآن وما نزل منه بمكة

عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة، أما إقامته بالمدينة عشرا فهذا ممّا لا خلاف فيه، وأمّا إقامته بمكة بعد النبوّة فالمشهور ثلاث عشرة سنة لأنه أُوحِيَ إليه وهو ابن أربعين سنة وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح.

والقرآن منه مكي ومنه مدني، فالمكي ما نزل قبل الهجرة أي بمكة، والمدني ما نزل بعد الهجرة سواء كان بالمدينة أم بغيرها من أي البلاد حتى ولو كان بمكة أو عرفة.

والسفير بين الله تعالى ومحمد جبريل عليه السلام، كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ لله عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (الشعراء: 193، 194)، وقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} (التكوير: 19 - 22) الآيات.

وقد تحداهم الله تعالى بأن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا، فالقرآن معجزة رسول الله الباقية إلى يوم القيامة، وقد احتوى على العلوم الكثيرة والأخبار الصادقة عن الغيوب الماضية والآتية والأحكام العادلة.

ونزل القرآن بلغة قريش وقريش خلاصة العرب، وللقرآن أسماء كثيرة منها: الفرقان والتنزيل والحديث الخ.، ومعناه: القراءة، قال ابن عباس: القرآن والقراءة واحد.

ويشتمل على 114 سورة، أطولها (البقرة) ونزل من القرآن بمكة اثنتان وثمانون سورة ونزل تمام بعضها بالمدينة وكان أول ما نزل على رسول الله {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ}، ثم: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (الطارق: 1)، ثم: {وَالضُّحَى} (العلق: 1)، ثم: {يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ} (المزمل: 1)، ثم: {يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ} (المدثر: 1)، ثم فاتحة الكتاب، ثم تبت، ثم: {إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ} (التكوير: 1)، ثم: {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى} (الأعلى: 1)، ثم: {وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (الليل: 1)، ثم: {وَالْفَجْرِ} (الفجر: 1)، ثم: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (الشرح: 1)، ثم: {الرَّحْمَنِ} (الرحمن: 1)، ثم: {وَالْعَصْرِ} (العصر: 1)، ثم: {إِنَّآ أَعْطَيْنَكَ الْكَوْثَرَ} (الكوثر: 1)، ثم: {أَلْهَكُمُ التَّكَّاثُرُ} (التكاثر: 1)، ثم: {أَرَءيْتَ الَّذِى يُكَذّبُ بِالدّينِ} (الماعون: 1)، ثم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَبِ الْفِيلِ} (الفيل: 1)، ثم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (النجم: 1)، ثم: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} (عبس: 1)، ثم: {إِنَّا أَنزَلْنَهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر: 1)، ثم: {وَالشَّمْسِ وَضُحَهَا} (الشمس: 1)، ثم: {وَالسَّمَآء ذَاتِ الْبُرُوجِ} (البروج: 1)، ثم: {وَالتّينِ وَالزَّيْتُونِ} (التين: 1)، ثم: {لإِيلَفِ قُرَيْشٍ} (قريش: 1)، ثم: {الْقَارِعَةُ} (القارعة: 1)، ثم: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَمَةِ} (القيامة: 1)، ثم: {وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ} (الهمزة: 1)، ثم: {وَالْمُرْسَلَتِ عُرْفا} (المرسلات: 1)، ثم: {ق وَالْقُرْءانِ الْمَجِيدِ} (ق: 1)، ثم: {لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} (البلد: 1)، ثم: {وَالسَّمَآء وَالطَّارِقِ} (الطارق: 1)، ثم: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} (القمر: 1)، ثم: {ص وَالْقُرْءانِ ذِى الذّكْرِ} (ص: 1)، ثم الأعراف، ثم سورة الجن، ثم سورة يس، ثم: {تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} (الفرقان: 1)، ثم حمد الملائكة، ثم سورة مريم، ثم سورة طه، ثم طسم الشعراء، ثم طسم القصص، ثم سورة بني إسرائيل، ثم سورة يونس، ثم سورة هود، ثم سورة يوسف، ثم الحجر، ثم الأنعام، ثم الصافات، ثم لقمان، ثم حملله المؤمن، ثم حم السجدة، ثم حم عسق، ثم الزخرف، ثم سبأ، ثم تنزيل الزمر، ثم حم الدخان، ثم حم الشورى، ثم حم الأحقاف، ثم والذاريات، ثم: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَشِيَةِ} (الغاشية: 1)، ثم سورة الكهف، ثم سورة النحل، ثم: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحا} (نوح: 1)، ثم سورة إبراهيم، ثم: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَبُهُمْ} (الأنبياء: 1)، ثم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (المؤمنون: 1)، ثم الرعد، ثم والطور، ثم: {تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (الملك: 1)، ثم: {الْحَاقَّةُ} (الحاقة: 1)، ثم: {سَأَلَ سَآئِلٌ} (المعارج: 1)، ثم: {عَمَّ يَتَسَآءلُونَ} (النبأ: 1)، ثم: {وَالنَّزِعَتِ غَرْقا} (النازعات: 1)، ثم: {إِذَا السَّمَآء انفَطَرَتْ} (الانفطار: 1)، ثم سورة الروم، ثم العنكبوت.

وعن ابن عباس أنه قال: كان القرآن ينزل مفرقا لا ينزل سورة سورة فما نزل أولها بمكة أثبتناها بمكة، وإن كان تمامها بالمدينة وكذلك ما نزل بالمدينة وأنه كان يعرف فصل ما بين السورة والسورة إذا نزل بسم الله الرحمن الرحيم فيعلمون أن الأولى قد انقضت وابتدىء بسورة أخرى.

الهجرة إلى المدينة 12 ربيع الأول

(سنة 622 م)

خرج رسول الله وهم يرصدونه فأخذ حفنة تراب وجعل ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو قوله تعالى يللهس إلى قوله: {فَأغْشَيْنَهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} (يللهس: 9)، ثم انصرف فلم يروه، فلما أفاقوا من غشيتهم جعلوا يطلعون فيرون عليا نائما وعليه برد رسول الله فيقولون: إن محمدا لنائم، فأقاموا بالباب يحرسون عليا يحسبونه النبي حتى يقوم في الصباح، فلما أصبحوا قام عليّ عن الفراش فقالوا له: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، فعلموا أن النبي قد نجا، فأما عليّ فأقام بمكة حتى يؤدي ودائع النبي وقصد النبي دار أبي بكر رضي الله عنه وأعلمه بأن الله قد أذن له بالهجرة، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال: الصحبة، فبكى أبو بكر رضي الله عنه فرحا واستأجر عبد الله بن أريقط الديلمي وكان مشركا ليدل بهما إلى المدينة وينكب عن الطريق العظمى، ولم يعلم بخروج رسول الله غير أبي بكر وعليّ وآل أبي بكر، وكان خروجه من مكة يوم الخميس أول يوم من ربيع الأول وقدم المدينة لاثنتي عشرة خلت منه، وذلك يوم الاثنين الظهر لثلاث وخمسين سنة من مولده 28 يونيه (622 م) ورُوي أن النبي قال حين خروجه من مكة إلى المدينة: «اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إليّ فأسكني أحب البلاد إليك». رواه الحاكم في «المستدرك». وكان مدة مقامه بمكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة، ثم أتيا الغار الذي بجبل (ثور) على ثلاثة أميال من جنوب غربي مكة، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يستمع لهما بمكة ثم يأتيهما ليلا وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يأتيهما بها ليلا ليأخذا حاجتهما من لبنها وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بطعامهما فأقاما في الغار ثلاثا، ولما فقدته قريش اتبعوه ومعهم القائف فقاف الأثر حتى وقف عند الغار وقال هنا انقطع الأثر. وإذا بنسيج العنكبوت على فم الغار وقد عششت على بابه حمامتان، فقالت قريش: ما وراء هذا شيء، وجعلوا مئة ناقة لمن يرده عليهم، فلما مضت الثلاث وسكن الناس أتاهما دليلهما ببعيرين فأخذ أحدهما رسول الله من أبي بكر بالثمن لتكون هجرته إلى الله بنفسه وماله رغبة منه عليه الصلاة والسلام في استكمال فضل الهجرة إلى الله تعالى، ثم ركبا وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة يخدمهما في الطريق وأتتهما أسماء بسفرة لها وشقت نطاقها وربطت السفرة فسميت «ذات النطاقين» وحمل أبو بكر جميع ماله وكان نحو ستة آلاف درهم وبينما هما في الطريق مجردين من كل سلاح بصر بهما سراقة بن مالك بن جُعشم فاتبعهما ليردهما فدعا عليه رسول الله فساخت (غاصت) قوائم فرسه في أرض صلبة، فقال: ادع لي يا محمد ليخلصني الله أن أرد عنك الطلب فدعا له فخلص، فعاد يتبعهما، فدعا عليه الثانية فساخت قوائم فرسه في الأرض أشد من الأولى، فقال: يا محمد قد علمت أن هذا من دعائك عليّ فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه ولك عهد الله أن أرد عنك الطلب، فدعا له فخلص وعاهدهم أن لا يقاتلهم ولا يخبر عنهم وأن يكتم عنهم ثلاث ليال، فرجع سراقة ورد كل من لقيه عن الطلب بأن يقول ما ها هنا.

وفي «صحيح البخاري» عن عائشة رضي الله عنها قالت: «فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت عائشة: فجاء رسول الله فاستأذن له فدخل فقال النبي لأبي بكر: أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: فإني قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله، قال رسول الله نعم، قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله بالثمن، قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز وصنعنا لهم سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين، وأسماء بنت أبي بكر الصديق كانت أسن من عائشة وهي أختها لأبيها وكان عبد الله بن أبي بكر أخا أسماء شقيقها، قالت: ثم لحق رسول الله وأبو بكر بغار في جبل ثور (جبل بمكة) فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا - والخريت الماهر بالهداية - قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فجاءهما براحلتيهما صبح ثلاث وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل، قال سراقة بن جعشم: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا، انطلقوا بأعيننا ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها عليّ وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فحططت بزجه الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا فخرج الذي أكره فركبت فرسي تقرب بي وعصيت الأزلام حتى إذا سمعت قراءة رسول الله وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا ركبتيها فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قالا: أخف عنها، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم ثم مضى رسول الله ومما وقع لهما في الطريق أنهما لقيا طلحة بن عبيد الله في الطريق وكان راجعا من تجارة وكساهما ثيابا بيضا، وقيل: لقيهما الزبير كذلك ولعلهما لقياهما معا أو متعاقبين فكسواه وأبا بكر ما ذكر اهـ.

غادر رسول الله مكة مسقط رأسه بعد أن سخر به قومه ورفضوا دعوته وتمسكوا بعقيدتهم القديمة التي ألفوها ولم يحكّموا عقولهم، ولم يعترفوا أن عبادة الأصنام من دون الله تعالى كفر، وليس بعد الكفر ذنب ولا بعد الشرك ضلال، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآء} (النساء: 48).

غادر رسول الله مكة وهو آسف لفراق قومه بعد أن صبر على أذاهم وجاهد وكافح سنين طويلة، فغادرهم ذلك النور الساطع والعلم الواسع والهمة العالية والنفس الأبية والروح الطاهرة النقية والشخصية الجذابة المحبوبة والوجه المشرق الدائم الابتسام والخلق العظيم والفم الذي لا ينطق عن الهوى.

لقد غادرهم ذلك الرسول الأمين الهادي إلى الصراط المستقيم، مبلغ رسالات رب العالمين.

ولو علمت قريش الحقيقة وتخلوا عن التعصب، لتمسكوا بأهدابه وتعلقوا بأذياله واغترفوا من فيض علمه وبحور حكمته واهتدوا بهديه وتخلقوا بخلقه وفازوا بنعيم الدنيا والآخرة.

إن الرسول بهجرته قد ترك في ظلام دامس فلما وصل المدينة، أشرقت أنواره في جميع أرجائها فخرج القوم يستقبلونه بالبشر والسرور ويتسابقون لمشاهدة وجهه الصبوح ويتبركون به ويستضيفونه ويستمعون إلى حكمه البالغة، وقد عبروا عن شعورهم بذلك النور بقولهم: طلع البدر علينا.

وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة

وصل رسول الله المدينة يوم الاثنين من شهر ربيع الأول قرب الظهر، ونزل قُباء على كلثوم بن الهدم شيخ بني عمرو بن عوف وهم بطن من الأوس، وقباء قرية على ميلين من جنوب المدينة وهي خصبة بها حدائق من أعناب ونخيل وتين ورمان وأقام بها رسول الله يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجد قباء وهو الذي أسس على التقوى من أول يوم، ونزل أبو بكر رضي الله عنه على حبيب بن إساف بالسنح ثم قدم عليّ رضي الله عنه معه الفواطم وأم أيمن وولدها أيمن وجماعة من ضعفاء المؤمنين بعد أن أدى عن رسول الله الودائع التي كانت عنده إلى الناس، ولما وصل نزل على كلثوم بن الهدم بالنبي وكان علي رضي الله عنه في طريقه يسير الليل ويكمن النهار حتى تفطرت قدماه فاعتنقه النبي وبكى رحمة له لما بقدمه من الورم وتفل في يديه وأمرّهما على قدميه فلم يشكهما بعد ذلك، ثم ركب النبي يوم الجمعة يريد المدينة وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي ببطن الوادي بمن معه من المسلمين وكانوا مئة وهي أول جمعة صلاها بالمدينة وأول خطبة خطبها في الإسلام ثم ركب راحلته (القصوى) يريد المدينة وأرخى زمامها فكان لا يمر بدار من دور الأنصار إلا قالوا: هلم يا رسول الله إلى العدد والعدة والمنعة ويعترضون ناقته فيقول: خلوا سبيلها فإنها مأمورة حتى بركت عند موضع مسجده اليوم وكان مربدا للتمر لغلامين يتيمين وهما: سهل وسهيل ابنا عمرو من بني النجار فلما بركت لم ينزل عنها ثم وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله واضع لها زمامها لا يثنيها به فالتفتت خلفها ثم رجعت إلى مبركها الأول فبركت فيه ووضعت جرانها (مقدم عنقها) فنزل عنها رسول الله واحتمل أبو أيوب الأنصاري رحل ناقته إلى بيته فأقام عنده حتى بنى حجره ومسجده ودعا رسول الله صاحبي المربد - وكانا غلامين - فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى أن يقبل منهما هبة حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير ذهبا أدّاها من مال أبي بكر ثم بناه مسجدا وطفق رسول الله ينقل معهم اللبن (الطوب النيىء) في بنيانه ويقول وهو ينقل اللبن:

هذا الحمال لا حمال خيبر ** هذا أبر ربنا وأطهر

ويقول:

إن الأجر أجر الآخرة ** فارحم الأنصار والمهاجره

ثم وادع رسول الله اليهود وكتب بينه وبينهم كتاب صلح وموادعة وسنأتي على نص الكتاب فيما بعد.

وقبل أن يتم رسول الله بناء مسجده مات سعد بن زرارة بالذبحة والشهقة وكان نقيبا لبني النجار فطلبوا إقامة نقيب مكانه فقال: أنا نقيبكم ولم يخص منهم أحدا دون آخر فكانت من مناقبهم، وأقام رسول الله يبني مسجده من ربيع الأوس إلى صفر، فكان مسجدا بسيطا، جدرانه من اللبن، على قاعدة من الحجارة، والسقف من جريد النخل، مقاما على الجذوع ولم يكن فيه أثر للزخرفة أو النقش وليس به منبر.

فرح أهل المدينة بمقدم النبي فرحا شديدا وقابلوه بالابتهاج وصعدت ذوات الخدور على الأسطحة، وعن عائشة رضي الله عنها لما قدم رسول الله المدينة جلس النساء والصبيان والولائد يقلن جهرا:

طلع البدر علينا ** من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داع

أيها المبعوث فينا ** جئت بالأمر المطاع

ولعبت الحبشة بحرابهم فرحا بقدومه وكانت الأنصار يتقربون إلى رسول الله بالهدايا رجالهم ونساؤهم.

قال ابن عباس: ولد النبي يوم الإثنين، واستنبىء يوم الإثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الإثنين، وقبض يوم الإثنين، وابتدىء التاريخ في الإسلام من هجرة رسول الله من مكة إلى المدينة، وأول من أرخ بالهجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة سبع عشرة من الهجرة إلا أن التاريخ الهجري يبدأ قبل الهجرة بشهرين، وذلك أنهم جعلوا مبدأ التاريخ المحرم من تلك السنة والنبي بعد بمكة، ثم كانت الهجرة بعد ذلك في ربيع الأول.

ذكر الهجرة في القرآن

قال تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة: 40)، وهذا إعلام من الله لأصحاب رسول الله أنه المتوكل بنصر رسوله على أعداء دينه وإظهاره عليهم دونهم، أعانوه أو لم يعينوه، إذ يقول لصاحبه، يقول: إذ يقول رسول الله لصاحبه أبي بكر: لا تحزن، وذلك أنه خاف من الطلب أن يعلموا بمكانهما فجزع من ذلك فقال له رسول الله «لا تحزن إن الله معنا، وإن الله ناصرنا فلن يعلم المشركون بنا ولن يصلوا إلينا»، وقد نصره الله على عدوه وهو بهذه الحال من الخوف وقلة العدد.

خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول جمعة صلاها بالمدينة

هذا نص الخطبة التي خطبها رسول الله في أول جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عوف:

«الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى والنور والموعظة على فترة من الرسل وقلة من العلم وضلالة من الناس وانقطاع من الزمان ودنو من الساعة وقرب من الأجل، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا، وأوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم، ثم أن يحضه على الآخرة وأن يأمره بتقوى الله، فاحذروا الله من نفسه ولا أفضل من ذلك نصيحة ولا أفضل من ذلك ذكرا، وأن تقوى الله لمن عمل به على وجل ومخافة من ربه عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد، والذي صدق قوله وأنجز وعده لا خلف لذلك فإنه يقول عز وجل: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلَّمٍ لّلْعَبِيدِ} (قلله: 29)، فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله، في السر والعلانية، فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا، ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما، وإن تقوى الله يوقي مقته ويوقي سخطه، وإن تقوى الله يبيض الوجوه ويرضي الرب ويرفع الدرجة، خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله، قد علمكم الله كتابه ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة ولا قوة إلا بالله، فأكثروا ذكر الله واعملوا لما بعد اليوم فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر ولا قوة إلا بالله العظيم».

هذه هي أول خطبة خطبها رسول الله بالمدينة في أول جمعة ونلاحظ أن رسول الله لم يذكر فيها أهل مكة ولا ما كان من عنادهم وإصرارهم على الكفر وإيذائهم للمسلمين وتآمرهم على قتله بل قصر خطبته على حض المسلمين على التقوى، وتذكيرهم بالله تعالى وهذا في الحق غاية الأدب ومنتهى ما يصل إليه حلم الحليم، ولو كان غير رسول الله لاستفزه الغضب وعدد مثالبهم لأنهم هم الذين خذلوه واضطهدوه وأخرجوه من أحب البلاد إليه وكان عقبة في سبيل تبليغ رسالة ربه وقد صدق الله تعالى حيث قال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4).

نعم إن هذا خلق عظيم وأدب كريم، ونحن نرى رجال الأحزاب يستعملون في خطبهم أقبح الألفاظ وأشنع الشتائم لأسباب تافهة ومع ذلك يزعمون أنهم قادة وسادة ينشرون العلم والمدنية وينشدون الإصلاح والحرية.

معاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود

قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط عليهم واشترط لهم:

بسم الله الرحمن الرحيم

«هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على رِبعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكلّ طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين وأن المؤمنين لا يتركون مفرجا بينهم، أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل ولا يخالف مؤمن مولى مؤمن من دونه، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم ولا يقتل مؤمن في كافر ولا ينصر كافر على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير المظلومين ولا متناصرين عليهم وأن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم وأن كل غازية غزت معنا تعقب بعضها بعضا وأن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله، وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن وأنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول، وأن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وأنكم مهما اختلقتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف وأن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف وأن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته وأن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم وأن لبني الشطنة مثل ما ليهود بني عوف وأن البر دون الإثم وأن موالي ثعلبة كأنفسهم وأن بطانة يهود كأنفسهم وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد وأنه لا ينحجز على ثار جرح وأنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته إلا من ظلم وأن الله على أبر هذا. وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه وأن النصر للمظلوم وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها وأن بينهم النصر على من دهم يثرب وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم وأن ليهود الأوس مواليهم وأنفسهم مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر الحسن من أهل هذه الصحيفة وأن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وأنه من خرج وآمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم وأن الله جار لمن بر واتقى ومحمد رسول الله .

الخزرج والأوس وما كان بينهما وبين اليهود

الخزرج والأوس هما قبيلتان مشهورتان من العرب في يثرب وقد لقيهم رسول الله بالأنصار لما هاجر إليهم لأنهم هم الذين نصروه ومنعوه، وقد مر ذكرهم في بيعتي العقبة الأولى والثانية ولا شك أن الباحث يشتاق إلى الوقوف على تاريخ هاتين القبيلتين، وما كان بينهما وبين اليهود من علاقات وحروب لأن ذلك يساعده على فهم تاريخ سكان المدينة، وعلى موقف الأنصار واليهود إزاء الإسلام والمسلمين وليكون على بينة من أمرهم عند ذكرهم في الحوادث التي وقعت بعد هجرة النبي إلى المدينة.

خزرج وأوس أخوان أبوهما حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقياء بن عامر بن ماء السماء بن حارثة الغطريف ابن امرىء القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وأم أوس وخزرج قيلة بنت كاهل بن عذرة بن سعد بن قضاعة ولذلك يقال لهما ابنا قيلة، وكان منهما قبيلتان مشهورتان عظيمتان من العرب في يثرب تذكران غالبا معا فيقال الأوس والخزرج، لكن غلب اسم الخزرج وسموا أيضا الأنصار لأنهم أول من قام بنصرة النبي وساعدوه في حروبه وآووه إلى أرضهم.

أما أصلهم فقد جاء في كتب السير، أنه لما خرج مزيقياء من اليمن بعد تفرق أهل سبأ، بسيل العرم ملك غسان بالشام ثم هلك وملَكَ ابنه ثعلبة العنقاء، ولما هلك ملَكَ بعده عمرو ابن أخيه جفنة فسخط مكانه ابنه حارثة وأجمع الرحلة إلى يثرب ونزل على يهود خيبر وسألهم الحلف والجوار على الأمان والمنعة فأعطوه من ذلك ما سأل وقيل: لما سار ثعلبة بن عمرو بن عامر في من معه اجتازوا يثرب فتخلف بها أوس وخزرج ابنا حارثة في من معهما فنزل بعضهم بضرار وبعضهم بالقرى مع أهلها ولم يكونوا أهل نعم ولا شاة، لأن البلاد لم تكن بلاد مرعى ولا نخل لهم ولا زرع إلا الأغداق اليسيرة فكانوا يحيون الأرض الموات ويزرعونها والأموال لليهود فلبثوا حينا من الدهر على ذلك وهم في ضيق مال وسوء حال، ثم قدم منهم مالك بن عجلان على أبي جبيلة الغساني فسأله عن حالهم فأخبره بضيق معاشهم، فقال: ما بالكم لا تغلبونهم كما غلبنا أهل بلدنا ووعده أنه يسير إليهم فينصرهم فرجع مالك وأخبر قومه بوعد أبي جبيلة فاستعدوا له، وقدم عليهم وخشي عليهم أن يتحصن منه اليهود فاتخذ حائرا وبعث إليهم فمال خواصهم وحشمهم وأذن لهم في دخول الحائر ثم أمر جنوده فقتلوهم عن آخرهم، وقال للأوس والخزرج: إذا لم تتغلبوا على البلاد بعد قتل هؤلاء فلأحرقنكم ورجع إلى الشام، فأقاموا في عداوة مع اليهود ثم صنع لهم مالك بن عجلان طعاما ودعاهم فامتنعوا خوفا من الغدر فاعتذر إليهم مالك عن فعل أبي جبيلة ووعدهم أنه لا يقصد مثل ذلك فأجابوه وجاءوا إليه فغدرهم وقتل 87 من رؤسائهم وفر الباقون وصورت اليهود مالكا في كنائسهم وبيعهم وكانوا يلعنونه كلما دخلوا.

وذكر ابن الأثير رواية أخرى وهي: أن اليهود كان لهم ملك اسمه الفِطيون وكان ظالما فاسقا، وقد سنّ سنة أن كل امرأة تتزوج دخل عليها قبل زوجها، فاتفق يوما زفاف أخت مالك هذا فأتت مجلسا فيه أخوها وكشفت عن ساقها، فقال لها أخوها: قد أتيت بسوء، فقالت: الذي يراد بي الليلة أشدّ من هذا. فثارت النخوة في رأسه واحتال على الدخول معها عند الملك في زي امرأة فلما خلا المكان قتله وفر إلى أبي جبيلة ولم يكن هذا ملكا لغسان بل معظما عند ملوك غسان وقد ذلوا بعد هذه الفعلة وخافوا ولجأ كل قوم إلى بطن من الأوس والخزرج يستنصرون بهم ويكونون لهم أحلافا، وعظم شأن مالك وسودة الحيان، ولم يمض زمان طويل حتى أثرى الأوس والخزرج وامتنع جانبهم وقد تناسلوا وتكاثروا وتشعبوا عدة بطون فكان بنو الأوس كلهم لمالك بن الأوس فمنهم خطة بن جشم بن مالك وثعلبة ولوذان وعوف كلهم بنو عمرو بن عوف بن مالك، ومن بني عوف حنش ومالك كلفة، ومن مالك معاوية وزيد، ومن زيد عبيد وضبيعة وأمية ومن كلفة جحجبا، ومن مالك بن الأوس الحارث وكعب ابنا الخزرج بن عمرو بن مالك، فمن كعب بنو ظفر، ومن الحارث بن الخزرج حارثة وجشم، ومن جشم بنو عبد الأشهل، ومن مالك بن الأوس أيضا بنو سعد وبنو عامر ابنا مرة بن مالك، فبنو سعد الجعادرة، ومن بني عامر عطية وأمية ووائل بنو زيد بن قيس بن عامر، ومن مالك بن الأوس أيضا أسلم وواقف ابنا امرىء القيس بن مالك، فهذه بطون الأوس كما ذكر ابن خلدون.

وأما الخزرج فخمسة بطون من كعب وعمرو وعوف وجشم والحارث.

1 - فمن كعب بن الخزرج، بنو ساعدة بن كعب.

2 - وعمرو بن الخزرج بنو النجار وهم: تيم الله بن ثعلبة بن عمرو وهم شعوب كثيرة: بنو مالك وبنو عدي وبنو مازن وبنو دينار، كلهم بنو النجار، ومن مالك بن النجار، مبدول واسمه عامر وغانم وعمرو، ومن عمرو عدي، ومعاوية.

3 - ومن عوف بن الخزرج، بنو سام والقواقل وهما: عوف بن عمرو بن عوف.

والقواقل ثعلبة ومرضخة وبنو قوقل بن عوف، ومن سالم بن عوف، بنو العجلان بن زيد بن عصم بن سالم وبنو سالم بن عوف.

4 - ومن جشم بن الخزرج بنو غضب بن جشم ويزيد بن جشم، فمن غضب بنو بياضة وبنو زريق وبنو عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب، ومن يزيد بن جشم بنو سلمة بن سعد بن علي بن راشد بن ساردة بن يزيد.

5 - ومن الحارث بن الخزرج، بنو خدرة وبنو حرام ابن عوف بن الحارث بن الخزرج.

فلما فعلوا ما فعلوا باليهود واعتزوا وكثروا تفرقوا في عالية يثرب وسافلتها وملكوا أمرها في حلفهم من جاورهم من قبائل مضر ثم قامت الفتن بين الحيين وكل منهم يستنصر بمن حالفه من مضر واليهود ورحل عمرو بن الإطنابة من الخزرج بن المنذر ملك الحيرة فملكه على الحيرة واتصلت الرياسة في الخزرج والحرب بينهم وبين الأوس.

العداوة بين الأوس والخزرج

كانت أول فتنة وقعت بين الأوس والخزرج «حرب سمير» وذلك أن رجلا حليفا يقال له كعب فاخر الأوس بشيء فغضب منهم رجل يقال له: سمير، وشتمه ثم رصده حتى خلا به فقتله فغضب مالك بن عجلان وطلب الرجل من عشيرته فأنكروا معرفته وعرضوا عليه الدية فقبلها فأرسلوا إليه نصف دية، لأن الرجل حليف لا نسيب فأبى إلا دية كاملة فامتنعوا ولجَّ الأمر حتى أفضى إلى المحاربة فاقتتلوا مرتين كانت النصرة في الثانية منهم للأوس فلما افترقوا أرسلت الأوس إلى مالك أن حكم بيننا المنذر بن حرام النجاري الخزرجي وهو جد حسان بن ثابت فأجابهم إلى ذلك فحكم بأن يؤدي الأوس إلى مالك دية الصريح ثم يعودون إلى سنتهم القديمة فرضوا بذلك وافترقوا وقد شبت البغضاء في قلوبهم وتمكنت العداوة بين القبيلتين.

ثم إن كعب بن عمرو المازني الخزرجي تزوج امرأة من بني سالم فأمر أحيحة بن جلاح رئيس بني جحجبا من الأوس جماعة أن يرصدوه ويقتلوه ففعلوا فدعا أخوه عاصم قبيلته للنصرة فاستعدوا والتقوا هم والأوس واقتتلوا قتالا شديدا فانهزمت بنو جحجبا وانهزم فركض وراءه عاصم فأدركه وقد دخل الحصن وأغلقه فرماه بسهم فلم يصبه فقتل أخا له فعزم أحيحة أن يكبس بني النجار وكان متزوجا بامرأة منهم فلم يرضها ذلك وخافت على قومها فسارت إليهم ليلا وقد نام أحيحة بعد سهر طويل وأنذرتهم فلما همّ أحيحة إذا هم على سلاحهم فلم يقدر عليهم فضرب امرأته حتى كسر يدها لما بلغه ما فعلت وطلقها.

ثم كانت حرب بين بني وائل بن زيد من الأوس وبني مازن بن النجار من الخزرج، وذلك أن الحصين بن الأسلت الأوسي نازع رجلا من بني مازن وقتله فتبعه قوم من بني مازن فقتلوه فبلغ ذلك أخاه أبا قيس بن الأسلت فجمع قومه وانضمت الأوس والخزرج كلها فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزمت الأوس.

ثم كانت حرب بين بني ظفر من الأوس وبني مالك بن النجار من الخزرج، وذلك أن رجلا من ظفر كان يمر إلى أرضه في أرض رجل من بني النجار فمنعه فلم يمتنع فنازعه فقتله الظفري فاجتمع قومهما واقتتلا فانهزم بنو مالك بن النجار.

ثم إن رجلا من بني النجار أصاب غلاما من قضاعة وقتله وكان عم الغلام جارا لمعاذ بن النعمان الأوسي فطلب معاذ ديته من بني النجار فامتنعوا فلقيهم بقومه عند فارع أطم حسان بن ثابت ولم يزل القتال بينهم حتى حمل الدية إليه عامر بن الإطنابة فاصطلحوا حالا.

ثم كانت الوقعة المعروفة بحاطب وهو حاطب بن قيس من بني أمية بن مالك بن عوف الأوسي وبينهما وبين حرب سمير نحو مائة سنة وكان سبب هذه الحروب أن حاطبا كان رجلا شريفا سيدا فأتاه رجل من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان فنزل عليه ثم إنه غدا يوما إلى سوق قينقاع فرآه يزيد بن الحارث المعروف بابن فسحم وهي أمه وهو من بني الحارث بن الخزرج، فقال يزيد لرجل يهودي: لك ردائي إن كسعت هذا الثعلبي. فأخذ رداءه وكسعه كسعة سمعها من بالسوق فنادى الثعلبي: يا لحاطب كسع ضيفك وفضح، وأخبر حاطب بذلك فجاء إليه فسأله من كسعه فأشار إلى اليهودي فضربه حاطب بالسيف ففلق هامته فأخبر ابن فسحم الخبر وقيل له: قتل اليهودي قتله حاطب، فأسرع خلف حاطب فأدركه وقد دخل بيوت أهله فلقي رجلا من بني معاوية فقتله - ولا ندري السبب الذي دعا ابن فسحم أن يحرض ذلك اليهودي على ضرب الثعلبي في دبره - فثارت الحرب بين الأوس والخزرج وكان الظفر فيها للخزرج وهذا اليوم من أشهر أيامهم، وكان بعده عدة وقائع كلها من حرب حاطب فمنها يوم الربيع، ويوم البقيع، والفجار، الأول والثاني، ويوم بعاث وهو آخر الأيام بينهم.

وفي يوم الفجار الثاني حالفت قريظة والنضير الأوس على الخزرج وجرى بينهم قتال سُمِّيَ ذلك اليوم يوم الفجار الثاني، وسبب حرب يوم بعاث هو أن قريظة والنضير جددوا العهود مع الأوس على المؤازرة والتناصر واستحكم أمرهم وجدوا في حربهم ودخل معهم قبائل من اليهود غير من ذكرنا، فلما سمعت بذلك الخزرج جمعت وحشدت وأرسلت حلفاءها من أشجع وجهينة، وأرسلت الأوس حلفاءها من مزينة ومكثوا أربعين يوما يتجهزون للحرب والتقوا (ببعاث) وهي من أعمال قريظة، وعلى الأوس حضير الكتائب والد أسيد بن حضير وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي وتخلف عبد الله بن أبي بن سلول فيمن تبعه عن الخزرج، وتخلف بنو حارثة بن الحارث عن الأوس، فلما التقوا اقتتلوا قتالا شديدا وصبروا جميعا، ثم إن الأوس وجدت من السلاح، فولوا منهزمين نحو العريض فلما رأى حضير هزيمتهم برك وكعن قدمه بسنان رمحه وصاح واعقراه كعقر الجمل والله لا أعود حتى أقتل فإن شئتم يا معشر الأوس أن تسلموني فافعلوا، فعطفوا عليه وقاتل عنه غلامان من بني عبد الأشهل يقال لهما: محمود ويزيد ابنا خليفة حتى قتلا، وأقبل سهم لا يُدرى من رمى به فأصاب عمرو بن النعمان البياضي رئيس الخزرج فقتله فبينا عبد الله بن أبي بن سلول يتردد راكبا قريبا من بعاث يتجسس الأخبار إذ طلع عليه بعمرو بن النعمان قتيلا في عباءة يحمله أربعة رجال كما كان قال له، فلما رآه قال ذق وبال البغي، وانهزمت الخزرج ووضعت فيهم الأوس السلاح فصاح صائح: يا معشر الأوس أحسنوا ولا تهللوا إخوانكم فجوارهم خير من جوار الثعالب. فانتهوا عنهم ولم يسلبوهم وإنما سلبهم قريظة والنضير وحملت الأوس حضيرا مجروحا فمات وأحرقت الأوس دور الخزرج ونخيلهم فأجار سعد بن معاذ الأشهلي أموال بني سلمة ونخيلهم ودورهم جزاء بما فعلوا له في الرعل، ونجّى يومئذ الزبير بن إياس بن باطا ثابت بن شماس الخزرجي أخذه فجز ناصيته وأطلقه، وهي اليد التي جازاه بها ثابت في الإسلام يوم بني قريظة.

الخلاصة

تبين لنا من تاريخ الخزرج والأوس أنهما ابنا حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقياء الذي خرج من اليمن بعد تفرق أهل سبأ بسيل العرم وأن هذا السيل ليس خرافة بل حدث مرارا وخرب السد فغرقت البلاد.

وقد لبث الخزرج والأوس حينا من الدهر مع اليهود يحيون الأرض الموات ويزرعونها وهم في عسر شديد وكان اليهود هم أرباب الأموال فحدث نزاع وشجار بينهم وبين اليهود وهو أشبه شيء بالثورات التي حدثت بين المزارعين أو العمال والمتمولين في القرون الأخيرة.

ثم نشبت حروب بين الأوس والخزرج فتارة كان النصر فيها للخزرج وأخرى للأوس وكان الظفر في أكثرها للخزرج، وأخيرا حالفت قريظة والنضير الأوس على الخزرج وانضم بنو قينقاع إلى الخزرج على أن تلك الحروب الطاحنة بين القبيلتين الأختين كان سببها - بناء على ما وصل إلينا من تاريخها - حزازات شخصية كان في الإمكان ملافاتها، لكن العداء اشتد بينهما لما في طبيعة العرب من التمسك بالأخذ بالثأر، وقد بلغت العداوة بين الخزرج والأوس مبلغا عظيما قبل هجرة النبي إلى المدينة. وآخر الحروب بينهم يوم بعاث الذي هزم فيه الخزرج وكان حوالي سنة 616 م فلما سئموا القتال أجمعوا على تتويج عبد الله بن أبي ابن سلول ملكا عليهم وابن سلول هذا هو الملقب برأس المنافقين وكان رئيس الخزرج ولما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على النفاق والضغن فكان رأس المنافقين وإليه يجتمعون، وقد حسد النبي لأن الإسلام منع تتويجه وأخذته العزة فأضمر الشر وهو الذي قال في غزوة المصطلق: {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الاْعَزُّ مِنْهَا الاْذَلَّ} (المنافقون: 8) فقال ابنه عبد الله للنبي: هو والله الذليل وأنت العزيز يا رسول الله إن أنت أذنت لي في قتله قتلته فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها أحد أبر بوالده مني، ولكني أخشى أن تأمر به رجلا مسلما فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي على الأرض حيا حتى أقتله، فقال النبي «بل نحسن صحبته ونترفق به ما صحبنا ولا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ولكن بر أباك وأحسن صحبته».

ولما أنعم الله على الخزرج والأوس بنعمة الإسلام اتفقت الكلمة واجتمع الشمل وتآخى الفريقان فوحّد رسول الله اسمهما ولقبهما بالأنصار لأنهم نصروه، وتوحيد الإسمين تحت راية الإسلام كان له أعظم أثر في النفوس إذ بذلك امتنع الشقاق وتصافت النفوس وساروا جميعا نحو غرض واحد ومبدأ واحد وهو نشر الإسلام.

جاء في «دائرة المعارف الإسلامية» في مادة أنصار (Ansar): «لكأن محمدا أراد أن يشابه بين كلمة الأنصار والنصارى المطلقة على المسيحيين»، وهذا خطأ واضح لأن كلمة أنصار جمع نصير، أما نصارى فنسبة إلى قرية بالشام تسمى ناصرة أو نصران وفوق ذلك فإن سبب تسمية الخزرج والأوس بالأنصار معروف وهو لأنهم نصروه وقد جل رسول الله عن التشبه والتقليد.

مدينة يثرب

سُميت يثرب بعد الإسلام بالمدينة، مدينة رسول الله وهي عبارة عن جملة قرى تقع في سهل خصب وبينها وبين مكة 200 ميل وهي في شمالها، جاء في «معجم البلدان» لياقوت: «إن لهذه المدينة تسعة وعشرين اسما» ثم سردها. وكذا أحصى المجد الشيرازي اللغوي نحو ثلاثين اسما، وذكر السمهودي في كتاب «وفاء الوفا» أربعة وتسعين اسما وقال: إن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، ونقل ابن زبالة، أن عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال: بلغني أن للمدينة في التوراة أربعين اسما.

فمن أسمائها أثرب كمسجد ويثرب، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مّنْهُمْ يأَهْلَ.يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ} (الأحزاب: 13)، والبلد، قال تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} (البلد: 1) ودار الهجرة والسنة وطيبة وطابة وقرية الأنصار ومدينة الرسول ومضجع الرسول وأكالة البلدان والمباركة والمسكينة والعذراء والبارة والفاضحة.

أما قدرها فهي في مقدار نصف مكة وهي في حرة سبخة ولها نخيل كثيرة ومياه ونخيلهم وزروعهم تسقى من الآبار عليها العبيد وللمدينة سور والمسجد في نحو وسطها وقبر النبي في شرق المسجد وهو بيت مرتفع وليس بينه وبين سقف المسجد إلا فرجة وهو مسدود لا باب له وفيه قبر النبي وقبر أبي بكر وقبر عمر، والمنبر الذي كان يخطب عليه رسول الله قد غشي بمنبر آخر والروضة أمام المنبر بينه وبين القبر، ومصلاه الذي كان يصلي فيه الأعياد في غربي المدينة داخل الباب.

و(بقيع الغرقد) خارج المدينة من شرقيها وهو مدفن أكثر أمواتها. و(قُباء) خارج المدينة على نحو ميلين إلى ما يلي القبلة وهي شبيهة بالقرية. و(أُحُد) جبل في شمال المدينة وهو أقرب الجبال إليها مقدار فرسخين وبقربها مزارع ونخيل وضياع لأهل المدينة. (وادي العقيق) فيما بينها وبين الفرع. و(الفُرع) من المدينة على أربعة أيام في جنوبها وبها مسجد جامع غير أن أكثر هذه الضياع خراب، وكذلك حوالي المدينة ضياع كثيرة أكثرها خراب، وأعذب مياه تلك الناحية آبار العقيق.

وحرَّم رسول الله شجر المدينة بريدا في بريد من كل ناحية ورخَّص في الهش وفي متاع الناضح، ونهى عن الخبط - ضرب الشجر بالعصا ليتناثر ورقها - وأن يعضد ويهصر ولم تكن المدينة بلدا خصبا مثمرا، إنما كان بها بعض النخيل والماشية ومن خصائص المدينة أنها طيبة الريح وللعطر فيها فضل رائحة لا توجد في غيرها وتمرها الصيحاني لا يوجد في بلد من البلدان مثله، ولهم حب اللبان ومنها يحمل إلى سائر البلدان، وجبلها أُحد قد فضله رسول الله فقال: «أُحد جبل يحبنا ونحبه وهو على باب من أبواب الجنة» وحجارة أُحد من الجرانيت.

المسافات: من المدينة إلى مكة نحو عشر مراحل ومن الكوفة إلى المدينة نحو عشرين مرحلة وطريق البصرة إلى المدينة نحو من ثماني عشرة مرحلة ويلتقي مع طريق الكوفة بقرب معدن النقرة ومن الرقة إلى المدينة نحو من عشرين مرحلة، ومن البحرين إلى المدينة عن طريق الساحل.

ولما قدم رسول الله المدينة وجد أهلها من أخبث الناس كَيْلا فأنزل الله تعالى: {وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ} (المطففين: 1) فأحسنوا الكَيْل بعد ذلك.

مرض المهاجرين بحمى المدينة

حاول رؤساء قريش منع المسلمين من الهجرة إلى المدينة لكنهم استطاعوا الهجرة بعد بضعة أسابيع وقد اعتاد المهاجرون جوّ مكة الجاف فلما قدموا المدينة أصيب أكثرهم بالحمى وربما كانت أنفلونزا أو ملاريا لأن صيفها رطب وشتاءها قارس والمطر دائم تقريبا، قالت عائشة: لما قدم رسول الله المدينة وهي أول أرض أصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرف الله ذلك عن نبيه وأصابت الحمى أبا بكر وبلالا وعامر بن فهيرة، فاستأذنت رسول الله في عيادتهم وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب من شدة الحمى فأذن لي فدخلت عليهم وهم في بيت واحد فوجدتهم يهذون من شدة الحمى فأخبرت رسول الله قالت: فنظر إلى السماء وقال: «اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا ومدّنا وصحِّحها لنا وانقل حُمَّاها إلى الجحفة»، فاستجاب الله له فطيَّب هواءها وترابها وسكنها والعيش بها، وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى أنشد:

كل امرىء مصبح في أهله ** والموت أدنى من شراك نعله

وهذا من شعر حنظلة بن يسار وليس من شعر أبي بكر، وحمى المدينة كانت الملاريا لما كان يحيط بها من البرك والآبار حتى إن الجمال كانت تمرض من الشرب منها وكانت قريش تعيب على أهل يثرب ما يعتريهم من الحمى وتسلط اليهود عليهم وتسمّي الحمى (أم ملدم). قال رسول الله لزيد الخيل وكان قد أتى مع وفد طيّء وأسلم: «يا زيد تقتلك أم ملدم» يعني: الحمى، فأصيب بها أثناء الطريق عند عودته ومات بها.

مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال ابن عمر: كان بناء المسجد على عهد رسول الله وسقفه جريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئا فزاد فيه عمر وبناه على ما كان من بنائه ثم غيره عثمان وبناه بالحجارة المنقوشة والفضة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه ساجا وزاد فيه.

وفي «الصحيح» في ذكر بناء المسجد: وكنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين فرآه النبي فجعل ينفض التراب عنه ويقول: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية».

وروى البيهقي في «الدلائل» عن سفينة مولى رسول الله قال: لما بنى النبي المسجد وضع حجرا ثم قال: «ليضع أبو بكر حجره إلى حجري ثم ليضع عمر حجره إلى جنب حجر أبي بكر ثم ليضع عثمان حجره إلى جنب حجر عمر»، فقال رسول الله «هؤلاء الخلفاء من بعدي».

وعن مكحول قال: لما كثر أصحاب رسول الله قالوا: اجعل لنا مسجدا، فقال: خشبات وثمامات عريش كعريش أخي موسى صلوات الله عليه، الأمر أعجل من ذلك، ورواه رزين وزاد فيه: فطفقوا ينقلون اللبن وما يحتاجون إليه ورسول الله ينقل معهم الخ (الثمامات ما يبس من الأغصان).

وكان الذين أسّسوا المسجد جعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع وجعل قبلته إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب، باب في مؤخره وهو في جهة القبلة اليوم وباب عاتكة الذي يدعى باب عاتكة ويُقال له: باب الرحمة، والباب الذي كان يدخل منه رسول الله وهو باب آل عثمان اليوم، وهذان البابان لم يغيرا بعد أن صرفت القبلة، ولما صرفت القبلة سد رسول الله الباب الذي كان خلفه وفتح هذا الباب ومحاذيه هذا الباب الذي سد.

ولما بنى رسول الله مسجده، بنى بيتين لزوجتيه عائشة وسودة رضي الله عنهما على نعت بناء المسجد من اللبن وجريد النخل، وكان لبيت عائشة مصراع واحد من عرعر (شجر السرو) أوساج، ولما تزوج رسول الله نساءه بنى لهن حجرا وهي تسعة أبيات وذلك في أوقات مختلفة، وحجر أزواج النبي ليست من المسجد ولكن أبوابها شارعة في المسجد.

وكان رسول الله يخطب إلى جذع يتكىء عليه فقالت امرأة من الأنصار أو رجل: يا رسول الله ألا نجعل لك منبرا؟ قال: «إن شئتم»، فجعلوا له منبرا، ولما فارق رسول الله الجذع وصعد المنبر، حنَّ الجذع وسمع له صوت كصوت العشار، فقال النبي «ألا تعجبون من حنين هذه الخشبة؟» فأقبل الناس عليها فسمعوا من حنينها حتى كثر بكاؤهم فنزل إليهم رسول الله فضمه فسكن.

وفي «صحيح البخاري» عن ابن عمر قال: كان النبي يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحوَّل إليه فحنَّ الجذع فأتاه فمسح بيده عليه.

ولا شك أن حنين الجذع من معجزاته وحديث الجذع مشهور رواه من الصحابة بضعة عشر، وكان المنبر من خشب الأثل ومن درجتين وله مجلس.

وذكر ابن بطوطة في رحلته «الجذع» فقال:

دخلنا الحرم الشريف وانتهينا إلى المسجد الكريم فوقفنا بباب السلام مسلمين وصلينا بالروضة الكريمة بين القبر والمنبر الكريم واستلمنا القطعة الباقية من الجذع الذي حنَّ إلى رسول الله وهي ملصقة بعمود قائم بين القبر والمنبر عن يمين مستقبل القبلة، وقال عند ذكر القبر الكريم:

وفي الحديث: أن رسول الله كان يخطب إلى جذع نخلة بالمسجد فلما صنع له المنبر وتحول إليه، حن الجذع حنين الناقة إلى حوارها، ورُوي أن رسول الله نزل إليه فالتزمه فسكن وقال: «لو لم ألتزمه لحنّ إلى يوم القيامة». واختلفت الروايات فيمن صنع المنبر الكريم، فرُوي: أن تميما الداري رضي الله عنه هو الذي صنعه، وقيل: إن غلاما للعباس رضي الله عنه صنعه، وقيل: غلام لامرأة من الأنصار، وورد ذلك في الحديث الصحيح وصنع من طرفاء الغابة، وقيل: من الأثل وكان له ثلاث درجات فكان رسول الله يقعد على علياهن ويضع رجليه الكريمتين في وسطاهن، فلما ولي أبو بكر الصديق رضي الله عنه قعد على وسطاهن ووضع رجليه على أولاهن، فلما ولي عمر رضي الله عنه جلس على أولاهن ووضع رجليه على الأرض، وفعل ذلك عثمان رضي الله عنه صدرا من خلافته ثم ترقى إلى الثالثة، ولما أن صار الأمر إلى معاوية رضي الله عنه أراد نقل المنبر إلى الشام فضج المسلمون فلما رأى ذلك معاوية، تركه وزاد فيه ست درجات من أسفله فبلغ تسع درجات.

ولما حج المهدي بن المنصور العباسي سنة 261 أراد أن يعيده إلى ما كان عليه، فأشار عليه الإمام مالك بتركه خشية التهافت فتركه، ويقال: إن المنبر الذي صنعه معاوية ورفع منبر النبي عليه، تهافت على طول الزمان وجدده بعض خلفاء بني العباس واتخذ من بقايا أعواد منبر النبي أمشاطا للتبرك ثم احترق هذا المنبر لما احترق المسجد في مستهل رمضان سنة 654م أيام المستعصم بالله واشتغل المستعصم عن عمارته بقتال التتار فعمل المظفر صاحب اليمن المنبر وبعث به إلى المدينة سنة 656م فنصب في موضع منبر النبي فبقي إلى سنة 666م.

تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها

عائشة رضي الله عنها هي بنت أبي بكر الصديق وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر، ولدت في السنة الثامنة أو التاسعة قبل الهجرة (613 - 614 م) أسلمت صغيرة وتزوجها رسول الله بمكة في شهر شوال قبل الهجرة ودخل بها في المدينة في منزل أبي بكر بالسنح بعد الهجرة بثمانية أشهر في شهر شوال وكان صداقها أربعمائة درهم وكانت أحب نسائه إليه وكنيتها أم عبد الله، كنيت بابن أختها أسماء وهي أم عبد الله بن الزبير وكان يدعوها أمّا لأنه تربَّى في حجرها. وروت عن النبي أكثر من ألف حديث، وكانت من أكبر النساء عقلا، فصيحة الكلام صحيحة المنطق، تحفظ كثيرا من القصائد، كريمة لا تدَّخر شيئا، أحفظ أهل زمانها للحديث وقد روت عنها الرواة من الرجال والنساء.

وأثبت بعض المؤرخين أن عائشة كان لديها نسخة من القرآن، وقبض رسول الله وهي بنت ثماني عشرة ولم يتزوج بكرا غيرها، وقبض رسول الله ورأسه في حجرها ودفن في بيتها وتوفيت سنة سبع وخمسين للهجرة ليلة الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان (13 يوليو 678 م) وقد قاربت سبعا وستين سنة وصلى عليها أبو هريرة بالبقيع ودفنت ليلا وذلك زمن ولاية مروان بن الحكم على المدينة في خلافة معاوية وكان مروان استخلف أبا هريرة لما ذهب إلى العمرة في تلك السنة.

روى القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: فضلت أزواج النبي بعشر خصال: تزوجني رسول الله بكرا دون غيري، وأبواي مهاجران، وجاء جبريل عليه السلام بصورتي في حريرة، وأمره أن يتزوج بي، وكنت أغتسل معه في إناء واحد، وجبريل عليه السلام ينزل عليه بالوحي وأنا معه في لحاف واحد، وتزوجني في شوال وبنى بي في ذلك الشهر، وقبض بين سحري ونحري، وأنزل الله تعالى عذري من السماء ودفن في بيتي، وكل ذلك لم يساوني غيري فيه.

صرف القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة 15 شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة

(نوفمبر سنة 623 م)

لما هاجر رسول الله إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا وكان يحب أن يصرف إلى الكعبة لما بلغه أن اليهود قالوا: يخالفنا ويتبع قبلتنا، فقال: «يا جبريل وددت أن الله صرف وجهي عن قبلة يهود». فقال جبريل: إنما أنا عبد فادع ربك وسله، وجعل إذا صلى إلى بيت المقدس يرفع رأسه إلى السماء ينتظر أمر الله لأن السماء قبلة الدعاء، فنزلت عليه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآء فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} (البقرة: 144)، فوجه إلى الكعبة إلى الميزاب، ويُقال: صلى رسول الله ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام فاستدار إليه ودار معه المسلمون. ويقال: بل زار رسول الله أم بشر بن البراء بن مُعرور في بني سلمة فصنعت له طعاما وحانت الظهر فصلى رسول الله بأصحابه ركعتين ثم أمر أن يتوجه إلى الكعبة فاستدار إلى الكعبة واستقبل الميزاب فسُمِّيَ المسجد مسجد القبلتين وذلك يوم الإثنين للنصف من رجب على رأس ثمانية عشر شهرا، قال الجمهور الأعظم: إنما حرفت في النصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة.u

وفي البخاري: بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله قد أنزل عليه قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها فاستداروا إلى الكعبة.

قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَآء مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَآء إِلَى صِرطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة: 142)، وهذا رد على اليهود والمنافقين الذين ساءهم ذلك، وعن يزيد النحوي عن عكرمة والحسن والبصري قالا: أول ما نسخ من القرآن القبلة.

الأذان

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله أراد أن يجعل شيئا يجمع به الناس للصلاة فذكر عنده البوق وأهله، وذكر الناقوسُ وأهله، فكره حتى أُري رجل من الأنصار يقال له: - عبد الله بن زيد - الأذان وأريه عمر بن الخطاب تلك الليلة فأما عمر فقال: إذا أصبحت أخبرت رسول الله وأما الأنصاري فطرق رسول الله في الليلة فأخبره، وأمر رسول الله بلالا فأذن بالصلاة وذكر أذان الناس اليوم، قال: فزاد بلال في الصبح: الصلاة خير من النوم، فأقرها رسول الله وليست فيما رأى الأنصاري، وله من المؤذنين بلال وابن أم مكتوم بالمدينة، وبلال أول من أذّن في الإسلام وأذّن في جامع عمر بن الخطاب بالقدس ومات بدمشق، وكان الأذان في السنة الأولى من الهجرة بعدما بنى رسول الله مسجده، أما تخصيص الأذان برؤيا رجل ولم يكن بوحي فلما فيه من التنويه بالنبي والرفع لذكره لأنه إذا كان على لسان غيره كان أرفع لذكره، ويُقال: إن الوحي قد سبق الرؤيا.

والأذان لغة: الإعلام وهو مصدر أذن تأذينا، وشرعا، إعلام مخصوص على وجه مخصوص بألفاظ مخصوصة، وهو سنّة مؤكدة للرجال في مكان عال، للفرائض الخمس في وقتها ولو قضاء لا لغيرها، والمؤذنون الآن يتنغمون في الآذان وليس ذلك من السنّة ولا المستحب، والمطلوب تحسين الصوت بما لا تخرج ألفاظه عن المشروع، كذلك زادوا فيه ما ليس منه.

فرض صيام شهر رمضان وزكاة الفطر

لما نقل العرب أسماء الشهور عن اللغة القديمة، سمّوها بالأزمنة التي هي فيها، فوافق رمضان أيام رمض الحر أي شدته وقد نزل فرض صيام شهر رمضان بعدما صرفت القبلة في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من هجرة رسول الله قال تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ} (البقرة: 183) الآية، وقال عزّ وجل: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185)، فأثبت صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر وأثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كانت عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله يصومه موافقة لهم ولم يأمر أحدا من أصحابه بصيامه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان كان رمضان هو الفريضة وترك عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه»، وكان يهود المدينة يصومونه ويعظمونه لأن الله أنجى فيه موسى وقومه من الغرق وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا لله وصامه رسول الله وأمر بصيامه قائلا: «نحن أحق بموسى منكم»، وفي رواية: «أنا أولى بموسى»، ويوم عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم.

وركن الصيام الإمساك عن المفطرات وأمر في هذه السنة بزكاة الفطر وذلك قبل أن تفرض الزكاة في الأموال وكان يخطب رسول الله قبل الفطر بيومين فيأمر بإخراجها قبل أن يذهب إلى المصلى وأقام رسول الله بالمدينة عشر سنين يضحي في كل عام، وكان يضحّي بكبشين سمينين أقرنين أملحين أحدهما عن أمته والآخر عن نفسه وآله، فيأكل هو وأهله منهما ويطعم المساكين.

فريضة الزكاة

الزكاة ركن من أركان الإسلام الخمس، وقد فرضت في السنة الثانية من الهجرة، قال رسول الله «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا».

وقال تعالى: {وَآتُواْ الزَّكَوةَ} (البقرة: 43)، وقال: {وَفِى أَمْولِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ} (الذاريات: 19)، وقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَتُ لِلْفُقَرَآء وَالْمَسَكِينِ وَالْعَمِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرّقَابِ وَالْغَرِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 60).

وقال عليه الصلاة والسلام: «أدوا زكاة أموالكم».

وإيجاب الزكاة علاج لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب، ومانع من طغيان الأغنياء، قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَنَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى} (العلق: 6، 7).

وإخراج الزكاة يحبب الأغنياء إلى الفقراء والمساكين فيزول عنهم الحقد والحسد والسخط، والمال الفاضل إذ أمسكه الإنسان صار معطلا، فيجب صرف طائفة منه إلى الفقير لإصلاح شأنه، وهذا من أعظم نعم الإسلام ومحاسنه، وقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْولِهِمْ صَدَقَةً} (التوبة: 103)، يثبت للإمام حق الأخذ من كل مال وكذلك كان رسول الله والخليفتان بعده يأخذون الزكاة من الناس ويوزعونها على المحتاجين إلى أن فوض عثمان بن عفان رضي الله عنه في خلافته أداء الزكاة من الأموال الباطنة إلى ملاكها، إلا أن هذا لا يسقط طلب الإمام أصلا، ولذا لو علم أن بلدة لا يؤدون زكاتهم طالبهم بها، والسواد الأعظم من الأغنياء لا يؤدون الزكاة من تلقاء أنفسهم، فاشتدت حالة الفقراء كربا وحرجا وحنقوا على الأغنياء وامتدت إليهم أيديهم بالقتل والسرقة، لذلك نرى الخير كل الخير في أن تجبي الحكومة الزكاة المفروضة وتنفقها فيما يصلح شأن الفقراء من إيوائهم وإطعامهم وكسوتهم وعلاجهم وتعليمهم بدلا من تركهم يعانون آلام الفاقة من جوع وعري ومرض وتشريد واعتناق للمبادىء الاشتراكية المتطرفة التي نشأت من الخلاف القائم بين الأغنياء والفقراء.

فعلى الحكومات الإسلامية الرجوع إلى نظام الزكاة وجبايتها لمصلحة المعوزين ولاستتباب الأمن، أما ترك الأغنياء لضمائرهم في إخراج الزكاة فهو تعطيل لها وإبطال لحكمتها.

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

كان رسول الله أمر أصحابه قبل هجرته بالهجرة إلى المدينة فخرجوا أرسالا فكان أولهم قدوما إليها أبو سلمة بن عبد الأسد وعامر بن ربيعة وعبد الله بن جحش وبعد قدومه إلى المدينة بخمسة أشهر آخى بين المهاجرين والأنصار لتذهب عنهم وحشة الغربة وليؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة ويشد بعضهم أزر بعض، وقد آخى بينهم على الحق والمواساة ويتوارثون بعد الممات دون ذوي الأرحام وكانوا تسعين رجلا خمسة وأربعين من المهاجرين وخمسة وأربعين من الأنصار، ويقال: كانوا مائة وخمسين من المهاجرين وخمسين من الأنصار وكان ذلك قبل بدر فلما كانت وقعة بدر وأنزل الله تعالى: {وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَبِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ} (الأنفال: 74)، نسخت هذه الآية ما كان قبلها وانقطعت المؤاخاة في الميراث ورجع كل إنسان إلى نسبه وورثه ذوو رحمه، وإنا لنذكر هنا بعض من آخى بينهم:

أخذ رسول الله بيد عليّ بن أبي طالب فقال: هذا أخي.

أبو بكر الصديق وخارجة بن زيد بن أبي زهير الأنصاري، عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك الأنصاري، جعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل الأنصاري، حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة، أبو عبيدة الجراح وسعد بن معاذ الأنصاري، عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع الأنصاري، الزبير بن العوام وسلمة بن سلامة الأنصاري، طلحة بن عبيدالله كعب بن مالك الأنصاري، عثمان بن عفان وأوس بن ثابت الأنصاري، سعيد بن زيد وأُبيّ بن كعب الأنصاري، مصعب بن عمير وأبو أيوب الأنصاري، أبو حذيفة بن عتبة وعباد بن بشر الأنصاري، عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان العنسي الأنصاري، حاطب بن أبي بلتعة وعويم بن ساعدة الأنصاري، سلمان الفارسي وأبو الدرداء الأنصاري، أبو ذر الغفاري والمنذر بن عمرو الأنصاري، أبو سبرة بن أبي رهم وسلامة بن وقش الأنصاري، خباب بن الأرت وتميم مولى خراش بن الصمَّة، صفوان بن وهب ورابع بن العجلان، صهيب بن سنان والحارث بن الصمة، عبد الله بن مخرمة وفروة بن عمرو بن ورقة، مسعود بن ربيعة وعبيد بن التَّيْهَان، معمر بن الحارث بن معمر ومعاذ بن عفراء، واقد بن عبد الله بن عبد مناف وبشر بن البراء، زيد بن الخطاب معن بن عدي، الأرقم بن أبي الأرقم وطلحة بن زيد.

قال المهاجرون: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلا في كثير، كفونا المؤونة وأشركونا في المهنة حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال: «لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتهم لهم»، أي فإن ثنائكم عليهم ودعاءكم لهم حصل منكم به نوع مكافأة، قال تعالى يثني على الأنصار في سورة الحشر: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ وَالإيمَنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر: 9).

المراد من الدار في هذه الآية، المدينة وهي دار الهجرة تبوأها الأنصار قبل المهاجرين.

ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا أي حسدا وحزازة وغيظا مما أوتي المهاجرون من دونهم.

ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، يقال: آثره بكذا إذا خصه به، ومفعول الإيثار محذوف والتقدير، ويؤثرون بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم.

عن ابن عباس أن النبي قال للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دوركم وأموالكم وقسمت لكم من الغنيمة كما قسمت لهم، وإن شئتم كان لهم الغنيمة ولكم دياركم وأموالكم، فقالوا: لا، بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا ولا نشاركهم في الغنيمة، فأنزل الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9).

فالأنصار أكرموا المهاجرين إكراما عظيما ليدفعوا عنهم غوائل الحاجة فكانوا يحرمون أنفسهم لمساعدة إخوانهم في الإسلام على حداثة عهدهم به حتى صاروا مثلا يُضرب للتعاون وحسن الخلق.

إسلام عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي

كان عبد الله بن سلام كما قال بعض أهله عنه حبرا عالما، قال: سمعت برسول الله وعرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكَّف له فكنت مسرّا لذلك صامتا عليه حتى قدم رسول الله المدينة فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله كبَّرت، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: خيّبك الله والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما ما زدت، قال: قلت لها: أي عمّة هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به. فقالت: أي ابن أخي أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟ قلت لها: نعم. قالت: فذاك إذن. قال: ثم خرجت إلى رسول الله فأسلمت ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا وكتمت إسلامي من يهود، ثم جئت رسول الله فقلت: يا رسول الله إن يهود قوم بهت وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك فتغيبني عنهم ثم تسألهم عني حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني، فأدخلني رسول الله في بعض بيوته ودخلوا عليه فكلموه وسألوه ثم قال لهم: «أي رجل الحصين بن سلام فيكم»؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا، قال: فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم فقلت لهم: يا معشر يهود اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته فإني أشهد أنه رسول الله وأؤمن به وأصدقه وأعرفه، قالوا: كذبت، ثم وقعوا بي فقلت لرسول الله ألم أخبرك يا نبي الله أنهم بهت أهل غدر وكذب؟ قال: فأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي وأسلمت عمتي خالدة ابنة الحارث فحسن إسلامها.

وذكرت «دائرة المعارف الإسلامية» أنه كان من يهود المدينة واسمه الحصين وسماه النبي عبد الله لما أسلم وأنه توفي سنة 43هـ (663 - 664م).

وقد كان عبد الله بن سلام حليفا لبني الخزرج كنيته أبو يوسف كُنِيَ بابنه وهو من بني قينقاع وكان اسمه في الجاهلية حصينا ونزل في فضله قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إِسْرءيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَئَامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} (الأحقاف: 10)، وقول الله تعالى: {وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} (الرعد: 10).

وفي «صحيح البخاري» عن أنس رضي الله عنه قال: بلغ عبد الله بن سلام مقدم رسول الله المدينة فأتاه، فقال: إني أسألك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، قال: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله «خبَّرني بهنّ آنفا جبريل»، قال: فقال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقال رسول الله «أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غَشِيَ المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له وإذا سبق ماؤها كان الشبه بها»، قال: أشهد أنك رسول الله، الحديث.

قال الطبري: مات (عبد الله بن سلام) في قول جميعهم بالمدينة سنة ثلاث وأربعين.

عداء اليهود ومناقشاتهم

عُرف بعض اليهود بالمدينة بشدة عداوتهم لرسول الله مع أن علماءهم كانوا يعرفون أنه سيبعث نبي وكانوا يعرفون صفاته من التوراة، فمن أعدائه الذين انتصبوا لعداوته حُيَيّ وأبو ياسر، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع وكعب بن الأشراف، وعبد الله بن صوريا وابن صلوبا، ومخيريق الذي أسلم بعد، ولبيد بن الأعصم الذي حرّضه اليهود وسحر النبي ثم جاء جبريل وأخبره بذلك السحر وبمكانه وعفا عنه رسول الله، وقال: أما أنا فقد عافاني الله وكرهت أن أثير على الناس شرا (يعني بقتله).

ومنهم مالك بن الصلت، وقد كان من أحبار اليهود ورئيسا فإنه قال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فانظر كيف أدى به عداؤه لرسول الله إلى الكفر بنبينا وبموسى عليهما السلام وبما أنزل عليهما، فقالت اليهود له: ما هذا الذي بلغنا عنك؟ فقال: إنه أغضبني فقلت ذلك فنزعوه من الرياسة وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف.

وممن كان من أحبار اليهود حريصا على رد الناس من الإسلام شأس بن قيس اليهودي، كان شديد الطعن على المسلمين، شديد الحسد لهم، مرّ يوما على الأنصار: الأوس والخزرج وهم مجتمعون يتحدثون فغاظه ما رأى من أُلفتهم بعدما كان بينهم من العداوة، فقال: قد اجتمع بنو قيلة والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار، فأمر فتى شابا من اليهود فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم ثم ذكر يوم بعاث: أي الحرب، التي كانت بينهم وما كان فيه وأنشدهم ما كانوا يتقاولون به من الأشعار، ففعل فتكلم القوم عند ذلك وذكر كل أقوال شاعرهم وتنازعوا وتواعدوا على المقاتلة فنادى هؤلاء: يا آل الأوس، ونادى هؤلاء: يا آل الخزرج، ثم خرجوا للحرب وقد أخذوا السلاح واصطفوا للقتال.

فلما بلغ الخبر رسول الله خرج إليهم فمن كان معه من المهاجرين فقال: «يا معشر المسلمين الله الله اتقوا الله، أَبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله إلى الإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا»؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوكم فبكوا وعانق الرجال من الأوس الرجال من الخزرج ثم انصرفوا مع رسول الله سامعين مطيعين، وأنزل الله في شأس بن قيس: {قُلْ يأَهْلَ الْكِتَبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجا وَأَنْتُمْ} (آل عمران: 99)، وأنزل الله في الأنصار: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقا مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَنِكُمْ كَفِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءايَتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِرطٍ مّسْتَقِيمٍ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَآء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءايَتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 100 - 103).

وقد كان اليهود يسألون النبي عن أشياء تعنتا وحسدا وبغيا ليلبسوا الحق بالباطل، فجاء مرة يهوديان إلى رسول الله فسألاه عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءايَتٍ} (الإسراء: 101)، فقال لهما: «لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا المحصنة، وعليكم يا يهود خاصة ألا تعدوا في السبت»، فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبي، قال: «ما يمنعكما أن تسلما؟» فقالا: نخاف إن أسلمنا تقتلنا اليهود.

وسألوه مرة: فقالوا: أخبرنا عن علامة النبي، فقال: «تنام عيناه ولا ينام قلبه».

وسألوه أي طعام حرَّمه إسرائيل على نفسه قبل أن تنزل التوراة، قال: «أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام مرض مرضا وطال سقمه فنذر لئن شفاه الله تعالى من سقمه ليحرمنّ أحب الشراب إليه وأحب الطعام إليه؟ فكان أحب الطعام إليه لحم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها»، قالوا: اللهم نعم.

وقالوا مرة إغاظة له ما يرى لهذا الرجل همَّة إلا في النساء والنكاح فلو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوَّة عن النساء، فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً} (الرعد: 38)، فقد جاء أن سليمان عليه السلام كان له مائة امرأة وتسعمائة سرية.

وقد انضم إلى اليهود جماعة من الأوس والخزرج منافقون على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث إلا أنهم دخلوا في دين الإسلام خشية القتل لما قهرهم الإسلام بظهوره واجتماع قومهم عليه فكان هواهم مع اليهود في السر وفي الظاهر مع المسلمين وهؤلاء هم المنافقون، وقد ذكر بعضهم أن المنافقين الذين كانوا على عهد النبي ثلاثمائة، منهم: عبد الله بن أبي بن سلول وهو رأس المنافقين ولاشتهاره بالنفاق لم يعد في الصحابة، وكان من أعظم أشراف أهل المدينة وكانوا قبل مجيئه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه، وكان عبد الله بن أُبي جميل الصورة ممتلىء الجسم فصيح اللسان وهو المعني بقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَمُهُمْ} (المنافقون: 4).

مثال من نفاق ابن أبي

من نفاقه ما أخرجه الثعلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نزلت: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ} (البقرة: 14) الآية، في عبد الله بن أُبي وأصحابه وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من الصحابة، فقال ابن أُبي: انظروا كيف أرد عنكم هؤلاء السفهاء. فأخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه، فقال: مرحبا بالصديق سيد بني تميم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثم أخذ بيد عمر رضي الله عنه وقال: مرحبا بسيد بني عدي الفاروق والقوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثم أخذ بيد عليّ رضي الله عنه فقال: مرحبا بابن عم رسول الله وختنه وسيد بني هاشم، ما خلا رسول الله فقال له رضي الله عنه: اتق الله يا عبد الله، ولا تنافق فإن المنافقين شرّ خليقة الله. فقال له عبد الله: مهلا يا أبا الحسن أتقول لي هذا والله إن إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم، ثم افترقوا، فقال لأصحابه: كيف رأيتموني؟ فأثنوا عليه خيرا فرجع المسلمون إلى النبي وأخبروه بذلك فنزلت الآية: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ} (البقرة: 14) إلى آخر الآيات التي في المنافقين كلها فيه وفي أصحابه.

وبالجملة فقد لاقى النبي من شدة الأذى من المنافقين واليهود شيئا كثيرا ولكنه بالنسبة لأذى أهل مكة كالعدم فإنه كان بالمدينة في غاية العزة والمنعة والقوة من أول يوم، وأذى اليهود غايته المجادلة والتعنت في السؤال، ولما قويت شوكة الإسلام واشتد الجناح أذن له بالقتال.

أهل الصفة

أهل الصفّة هم فقراء المهاجرين إلى المدينة ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه ولا عشائر وكانوا نحو 400 فكانوا يأوون إلى موضع مظلل في مسجد المدينة يسكنونه ويتعلمون القرآن ويصومون ويخرجون في كل غزوة، وكان رسول الله يدعوهم بالليل إذا تعشى فيفرقهم على أصحابه وتتعشى طائفة منهم مع رسول الله حتى جاء الله بالغنى وكان أبو هريرة من أهل الصفة وكان رسول الله إذا أتته صدقة بعث بها إليهم.

عن أبي هريرة قال: خرج النبي ليلة فقال: «ادع لي أصحابي» - يعني أهل الصفة - فجعلت أتبعهم رجلا رجلا فأوقظهم حتى جمعتهم فجئنا باب رسول الله فاستأذنا فأذن لنا فوضع لنا صحفة فيها صنيع من شعير ووضع عليها يده، وقال: «خذوا باسم الله فأكلنا ما شئنا»، قال: ثم رفعنا أيدينا، وقد قال رسول الله حين وضعت الصحفة: «والذي نفس محمد بيده ما أمسى في آل محمد طعام ليس شيئا ترونه». فقلنا لأبي هريرة: قدر كم هي حين فرغتم؟ قال: مثلها حين وضعت إلا أن فيها أثر الأصابع، وكان رسول الله يؤثر على نفسه وأولاده فيعطي ما بيده للمحتاجين - ومنهم أهل الصفة - حتى إن ابنته فاطمة رضي الله عنها جاءته تشكو ما تلقى من الرحى وخدمة البيت وكانت سمعت بسبي جاءه فطلبت منه خادما فقال: «لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع» وأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: «آلله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمر ولم يفعل، ثم مرّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله تعالى ما سألته إلا ليشبعني فمرّ فلم يفعل، ثم مرّ بي أبو القاسم فتبسَّم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي ثم قال: «أبا هر»، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «إلحق»، ومضى فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي فدخل فوجد لبنا في قدح فقال: «من أين هذا اللبن؟» قالوا: أهدى لك فلان أو فلانة، قال: «أبا هر»، قلت: لبيك رسول الله، قال: «إلحق إلى أهل الصفة فادعهم لي»، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منهم وأشركهم فيها فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؛ كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاءوا أمرني فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ولم يكن من طاعة الله ورسوله بدّ، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم فأخذوا مجالسهم من البيت، فقال: «يا أبا هر»، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «خذ فأعطهم»، فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد على القدح حتى انتهيت إلى النبي وقد رَوى القوم كلهم فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إليّ فتبسم، فقال: «أبا هر»: قلت ليبك رسول الله، قال: «بقيت أنا وأنت»، قلت: صدقت يا رسول الله، قال: «اقعد فاشرب» فقعدت فشربت، فقال: «اشرب» فشربت فما زال يقول: اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد مسلكا، قال: «فأَرني» فأعطيته القدح فحمد الله وسَمّى وشرب الفضلة»، رواه البخاري في كتاب الاستئذان.

قال الله تعالى يذكر أهل الصفة: {لِلْفُقَرَآء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَهُمْ لاَ يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (البقرة: 273).

عن ابن عباس وقف رسول الله على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجهدهم، فطيب قلوبهم، فقال: «أبشروا يا أصحاب الصفة، فمن لقيني من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضيا بما فيه فإنه من رفاقي».

وقد ترك أغلب المهاجرين أملاكهم وأموالهم بمكة عدا عثمان فإنه تمكن من أخذ جميع أمواله معه، وقد كان غنيا واشتغل المهاجرون بالزراعة، أعطاهم أهل المدينة أرضا يستثمرونها.

عن أبي سعيد الخدري قال: كنا مقدم النبي المدينة إذا حضر منا الميت أتيناه فخبرناه فحضره واستغفر له حتى إذا قبض انصرف ومن معه؛ وربما قعد حتى يدفن وربما طال ذلك على رسول الله من حبسه، فلما خشينا مشقة ذلك عليه قال بعض القوم لبعض: والله لو كنا لا نؤذن النبي بأحد حتى يقبض فإذا قبض آذناه فلم تكن لذلك مشغلة عليه ولا حبس قال ففعلنا ذلك، قال: فكنا نؤذنه بالميت بعد أن يموت فيأتيه فيُصلي عليه ويستغفر له فربما انصرف عند ذلك وربما مكث حتى يدفن الميت فكنا على ذلك أيضا حينا»؛ ثم قالوا: والله لو أنا لم نشخص رسول الله وحملنا الميت إلى منزله حتى نرسل إليه فيُصلى عليه عند بيته لكان ذلك أرفق به وأيسر عليه، قال ففعلنا ذلك، قال محمد بن عمر: فمن هناك سُميّ ذلك الموضع موضع الجنائز حملت إليه، ثم جرى ذلك من فعل الناس من حمل جنائزهم والصلاة عليهم في ذلك الموضع إلى اليوم.

الإذن بالقتال

أذن لرسول الله في القتال لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر صفر في السنة الثانية من الهجرة، وقد مكث النبي يدعو كفار قريش ثلاث عشرة سنة إلى نبذ الأصنام وعبادة الله الواحد بغير قتال صابرا على شدة أذى العرب فلم يزدادوا إلا تعنتا وتعسفا واضطهدوا النبي وأصحابه اضطهادا شديدا وألجأوهم إلى هجر بلادهم وترك أموالهم، وكان الصحابة رضي الله عنهم يأتون إليه ما بين مضروب ومشجوج فيقول لهم: «اصبروا فإني لم أومر بقتالهم»، وقال جماعة من الصحابة منهم عبد الرحمن بن عوف والمقداد بن الأسود وقدامة بن مظعون - وهو أخو عثمان بن مظعون - وسعد بن أبي وقاص: يا رسول الله كنا في عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة فائذن لنا في قتال هؤلاء، فقال: «كفوا أيديكم عنهم فإني لم أومر بقتالهم».

لم يبق بعد ذلك غير استعمال السلاح للدفاع عن كيانهم والتغلب على عبدة الأصنام، فالمسألة صارت مسألة حياة أو موت، فإما انتصار يحقق نشر الدين أو انكسار لا تقوم للمسلمين بعده قائمة، ولو تمكنت قريش من مهاجمة المدينة والانتصار على المسلمين لكان في ذلك القضاء على الإسلام، وكان المسيحيون في الامبراطورية الرومانية في ذلك الوقت يقاتلون الفرس وينتصرون عليهم.

لما هاجر النبي إلى المدينة وكثر أتباعه وقام الأنصار بنصره وأصر المشركون على الكفر والتكذيب أذن لهم بالقتال فبعث عليه السلام البعوث وغزا بنفسه.

وأول ما أنزل في أمر القتال قوله تعالى في سورة الحج: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيرا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّهُمْ فِى الأرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَآتَوُاْ الزَّكَوةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَقِبَةُ الاْمُورِ} (الحج: 39 - 41).

هذا أول ما أنزل في الإذن بالقتال بعدما نهى عنه في نيف وسبعين آية.

بعث حمزة

كان أول بعوثه أن بعث عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من الهجرة (623م) في ثلاثين راكبا من المهاجرين، قال بعضهم: كانوا شطرين من المهاجرين والأنصار، والمجمع عليه أنهم كانوا جميعا من المهاجرين ولم يبعث رسول الله أحدا من الأنصار مبعثا حتى غزا بهم بدرا وذلك أنهم شرطوا له أنهم يمنعونه في دارهم، خرج حمزة ومن معه يعترضون عيرا لقريش جاءت من الشام تريد مكة وكان فيها أبو جهل في ثلاثمائة راكب ولما بلغوا ساحل البحر من ناحية العيص من بلاد جهينة التقوا وتصافوا للقتال ثم حجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني وكان مصالحا للفريقين فانصرف القوم بغير قتال ولم يكن النبي معهم، وكان يحمل اللواء أبو مرثد كنَّاز بن الحصين الغنوي وهو أول لواء عقده رسول الله وكان لواء أبيض.

سرية عبيدة بن الحارث

وفي شوال على رأس ثمانية أشهر من الهجرة (623م) بعث عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف إلى بطن رابغ وعقد لواء أبيض وكان الذي حمله مسطح بن أثاثة بن عبد المطلب بن عبد مناف، وكانوا ستين رجلا من المهاجرين ليس فيهم أنصاري، فلقي أبا سفيان بن حرب وهو في مائتين من أصحابه وهو على ماء يقال له أحياء من بطن رابغ على عشرة أميال من الجحفة وأنت تريد قديدا عن يسار الطريق، وإنما نكبوا عن الطريق ليرعوا ركابهم فكان بينهم الرمي ولم يسلوا السيوف ولم يصطفوا للقتال وإنما كانت بينهم المناوشة إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمى يومئذ بسهم فكان أول سهم رمي به في الإسلام ثم انصرف الفريقان على حاميتهم.

سرية سعد بن أبي وقاص

ثم سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار وهو واد في الحجاز يصب في الجحفة وذلك في ذي القعدة على رأس تسعة أشهر من الهجرة، عقد له لواء أبيض حمله المقداد بن عمرو البهرواني، وبعثه في عشرين رجلا من المهاجرين يعترض لعير قريش تمر به وعهد إليه ألا يجاوز الحرار، قال سعد: فخرجنا على أقدامنا فكنا نكمن النهار ونسير الليل حتى صبحناها صبح حمس فنجد العير قد مرت بالأمس فانصرفنا إلى المدينة.

غزوة ودان أو غزوة الأبواء

أول مغازيه التي خرج فيها بنفسه غزوة ودان، قال زين العابدين بن الحسين بن عليّ رضي الله عنهم: «كنا نعلم مغازي رسول الله كما نعلم السور من القرآن»، وعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول: يا بني إنها شرف آبائكم فلا تضيعوا ذكرها.

فأول غزوة خرج فيها (ودان) وهي قرية جامعة من أعمال الفرع، وبعضهم يسميها غزوة الأبواء، فمنهم من أضافها إلى ودان ومنهم من أضافها إلى الأبواء لأنهما متقاربان في وادي الفرع بينهما ستة أميال، خرج رسول الله إليها في صفر على رأس اثني عشر شهرا من الهجرة - يونيه سنة 623م - يريد عيرا لقريش وبني ضمرة، وقيل: لم يكن مريدا لهم بل مريدا للعير التي لقريش فلما لقي بني ضمرة عقد بينه وبينهم صلحا وكان خروجه في ستين راكبا ليس فيهم أنصاري فلم يدرك العير التي أراد، وكانت المصالحة بينه وبين بني ضمرة على أنهم لا يغزونه ولا يكثرون عليه جمعا ولا يعينون عليه عدوا وأن لهم النصر على من رامهم بسوء وأنه إذا دعاهم لنصر أجابوه وعقد ذلك معهم سيدهم مخشي بن عمرو الضمري وكتب بينهم كتابا فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم

«هذا كتاب محمد رسول الله لبني ضمرة بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم وأن لهم النصر على من رامهم بسوء بشرط أن يحاربوا في دين الله ما بل بحر صوفة وأن النبي إذا دعاهم لنصر أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله ورسوله».

وكان لواؤه أبيض وكان مع عمه حمزة رضي الله عنه واستخلف على المدينة سعد بن عبادة، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة.

غزوة بواط

ثم غزوة بواط في شهر ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا من الهجرة (يوليه 623 م) وكان يحمل لواءه سعد بن أبي وقاص وكان اللواء أبيض واستخلف على المدينة سعد بن معاذ، خرج رسول الله في مائتين من أصحابه من المهاجرين خاصة حتى بلغ بواط يعترض لعير قريش فيها أمية بن خلف الجمحي ومائة رجل من قريش و(2500) بعير ففاتته العير ورجع ولم يلق حربا.

غزوة بدر الأولى أو غزوة سفوان

وفي شهر ربيع الأول أيضا خرج رسول الله لطلب كرز بن جابر الفهري وكان لواؤه أبيض وكان بيد علي بن أبي طالب، واستخلف على المدينة مولاه زيد بن حارثة، وكان كرز بن جابر قد أغار على سرح المدينة فاستاقه وكان يرعى بالجمعاء فطلبه رسول الله حتى بلغ واديا يقال له سفَوان من ناحية بدر وفاته كرز بن جابر فلم يلحقه فرجع رسول الله إلى المدينة، وهذه الغزوة هي غزوة بدر الأولى.

أما كرز فإنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه وولاه رسول الله الجيش الذي بعثه في أثر العرنيين الذين قتلوا راعيه وقُتل كرز يوم الفتح وذلك سنة ثمان من الهجرة.

وقد ذكر ابن إسحاق هذه الغزوة بعد العشيرة، قال ابن حزم بعشرة أيام.

غزوة العشيرة

كانت غزوة العُشيرة في جمادى الأول وقيل الآخرة على رأس ستة عشر شهرا من الهجرة - أكتوبر سنة 623 م - وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب وكان لواؤه أبيض واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي وخرج في خمسين ومائة ويقال في مائتين من المهاجرين ممن انتدب ولم يكره أحدا على الخروج وخرجوا على ثلاثين بعيرا، خرج يعترض عير قريش حين أبدت إلى الشام وكان قد جاءه الخبر بقفولها من مكة فيها أموال قريش فبلغ العشيرة وهي لبني مدلج بناحية ينبع وبين ينبع والمدينة تسعة برد فوجد العير التي خرج لها قد مشت قبل ذلك بأيام وهي العير التي خرج لها أيضا يريدها حين رجعت من الشام فساحلت على البحر وبلغ قريشا خبرها فخرجوا يمنعونها فلقوا رسول الله ببدر فواقعهم وقتل منهم من قتل، وبالعشيرة كنى رسول الله علي بن أبي طالب أبا تراب وذلك أنه رآه نائما متمرغا في البوغاء فقال: اجلس أبا تراب، فجلس، وفي هذه الغزوة وادع بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا.

كانت قريش قد جمعت أموالها في تلك العير ويقال: إن فيها خمسين ألف دينار وألف بعير وكان قائد تلك العير أبا سفيان بن حرب ومعه سبعة وعشرون وقيل: تسعة وثلاثون رجلا، منهم مخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص.

سرية عبد الله بن جحش الأسدي

أمر رسول الله أبا عبيدة بن الجراح أن يتجهز للغزو فتجهز فلما أراد المسير بكى صبابة إلى رسول الله فبعث مكانه عبد الله بن جحش الأسدي في اثني عشر رجلا من المهاجرين كل اثنين يعتقبان بعيرا إلى نخلة وهو بستان ابن عامر الذي كان قرب مكة، وذلك في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من الهجرة (نوفمبر سنة 623 م) وكتب له كتابا وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يكره أحدا من أصحابه ففعل ذلك، ثم قرأ الكتاب وفيه يأمره بنزول نخلة بين مكة والطائف فيرصد قريشا ويعلم أخبارهم، فأعلم أصحابه فساروا معه حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع أضل بعيرا، وكان زميله عتبة بن غزوان فأقام يومين يبغيانه ومضى عمرو بن الحضرمي وعثمان بن المغيرة وأخوه نوفل والحكم بن كيسان فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبا منهم وأشرف لهم عكاشة بن محصن الأسدي وقد حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا وقالوا: عُمار لا بأس عليكم، وذلك آخر يوم من رجب، ثم إنهم تشاوروا فأجمعوا على القتال، فرمى واقد بن عبد الله التيمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، وهو أول قتيل قتله المسلمون وشد المسلمون عليهم فاستأسر عثمان بن عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان وهرب نوفل وغنم المسلمون ما معهم، ويقال: إن عبد الله بن جحش لما رجع من نخلة خمس ما غنم وقسم بين أصحابه سائر الغنائم فكان أول خمس في الإسلام وذلك قبل أن يفرض وكانت أول غنيمة غنمها المسلمون، وعمرو بن الحضرمي أول من قتل المسلمون، وعثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان أول من أسر المسلمون، وكان الذي أسر الحكم المقداد بن عمرو، فدعاه رسول الله إلى الإسلام فأسلم وقُتل ببئر معونة شهيدا.

أما سعد بن أبي وقاص وزميله عتبة بن غزوان، فلم يشهدا هذه الغزوة وقدما المدينة بعد عودته السرية بأيام.

أقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسرى إلى المدينة فلما قدموا قال لهم رسول الله: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، فوقّف العير والأسرين فسقط في أيديهم وعنفهم المسلمون وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه به الشهر الحرام فأنزل الله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (البقرة: 217).

فلما نزل القرآن وفرج الله عن المسلمين قبض رسول الله العير وفدى الأسيرين.

وفي هذه السرية سُمِّيَ عبد الله بن جحش: «أمير المؤمنين».

غزوة بدر الثانية أو غزوة بدر الكبرى17 رمضان في السنة الثانية من الهجرة

يناير سنة 624م

بدر بلدة بالحجاز إلى الجنوب الشرقي من الجار، وهو ساحل البحر بينهما نحو مرحلة ويسمونها بدر حنين، وهي في سهل يليه من الشمال إلى الشرق جبال وعرة من الجنوب آكام صخرية ومن الغرب كثبان رملية.

كانت غزوة بدر الكبرى، يوم الجمعة في شهر رمضان في السابع عشر على رأس تسعة عشر شهرا من الهجرة - يناير سنة 624 م - وكان سببها قتل عمرو الحضرمي الذي قتل في سرية عبد الله ابن جحش وإقبال أبي سفيان بن حرب من الشام في عير لقريش عظيمة وفيها أموال كثيرة تبلغ - 20.000 جنيه تقريبا - ومعها ثلاثون أو أربعون رجلا من قريش منهم مخرمة بن نوفل الزهري بن العاص.

فلما سمع بهم رسول الله ندب المسلمين إليهم وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها، فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم لأنهم ظنوا أن الرسول لا يلقى حربا.

وكان أبو سفيان قد سمع أن رسول الله يريد فحذِره، واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري بعشرين مثقالا وبعثه إلى مكة يستنفر قريشا ويخبرهم الخبر، فسار وألقى فيهم النفير فخرجوا مسرعين ومن تخلف أرسل مكانه آخر، ولم يتخلف أحد من أشراف مكة إلا أبو لهب وبعث مكانه العاص بن هشام نظير أجر قدره 4000 درهم؛ وكان السبب في خروجهم حماية العير وإنقاذها.

قوة قريش

كان الذين خرجوا من قريش نحو 1000 منهم 600 دارع ومعهم 100 فرس عليها 100 درع سوى دروع المشاة.

وكان حامل لوائهم السائب بني يزيد ثم أسلم رضي الله عنه وهو الأب الخامس للإمام الشافعي رضي الله عنه، وكان معهم أيضا 700 بعير، وخرجوا ومعهم القيان - وهن الإماء المغنيات - يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين وهم في غاية البطر والخيلاء حين خروجهم اعتمادا على كثرة عددهم وعُددهم، قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَرِهِم بَطَرا وَرِئَآء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (الأنفال: 47).

وكان المطعمون لهذا الجيش اثني عشر رجلا وكان كل واحد منهم ينحر كل يوم عشرة جزر، وهؤلاء الإثنا عشر هم: أبو جهل، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وحكيم بن حزام، والعباس بن عبد المطلب، وأبو البَختري، وزمعة بن الأسود، وأُبي بن خلف، وأمية بن خلف، والنضر بن الحارث، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وفيهم أنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْولَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} (الأنفال: 36).

قوة المسلمين

كان عدة الذين خرجوا مع رسول الله 313، وقيل: لما عد أصحابه فوجدهم ثلاثمائة وثلاثة عشر فرح وقال: عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر، وخرجت الأنصار ولم تكن قبل ذلك خرجت معه، وكان عددهم 207 وسائرهم من المهاجرين وكانت الإبل 70 والأفراس خمسة، ولما أراد رسول الله الخروج لبس درعه ذات الفضول وتقلّد سيفه العضب ورد رسول الله من استصغر فكان ممّن ردّه أسامة بن زيد ورافع بن خديج والبراء بن عازب وأسيد بن ظهير وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت ورد عمير بن أبي وقاص فبكى فأجازه.

وتخلف ثمانية من أصحابه بسهامهم وأجورهم: ثلاثة من المهاجرين: عثمان بن عفان خلفه رسول الله على امرأته رقية بنت رسول الله وكانت مريضة فأقام عليها حتى ماتت، وطلحة بن عبيدالله، وسعيد بن زيد بعثهما يتجسسان خبر العير وخرجا في طريق الشام، وكان أبو أمامة بن ثعلبة الأنصاري أجمع الخروج إلى بدر وكانت أمه مريضة فأمره بالمقام على أمه.

وخمسة من الأنصار: أبو لبابة بن عبد المنذر الأوسي خلفه على المدينة، وعاصم بن عدي العجلاني خلفه على أهل العالية، والحارث بن حاطب العمري رده من الروحاء إلى بني عمرو بن عوف لشيء بلغه عنهم، والحارث بن الصمة كسر بالروحاء، وخوات بن جبير كسر أيضا، وهؤلاء ثمانية لا اختلاف فيهم.

وكانت الإبل سبعين بعيرا يتعاقب النفر البعير، وكانت الخيل فرسين: فرس للمقداد بن عمرو، وفرس لمرثد بن أبي مرثد الغنوي، وكان اللواء مع مصعب بن عمير، وكان أمام رسول الله رايتان سوداوان إحداهما مع عليّ بن أبي طالب يقال لها العقاب وكانت من مرط عائشة أي ثوبها وكان عمر عليّ يومئذ عشرين سنة والأخرى مع بعض الأنصار، وجعل على الساقة - المؤخرة - قيس بن أبي صعصعة الأنصاري فكانت قوة المسلمين قليلة بالنسبة لقوة عدوهم.

واستعمل أبا لبابة واليا على المدينة ورده، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس بالمدينة.

رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه

كان رسول الله بعث رجلين يتجسسان أخبار عِير أبي سفيان وهما بَسبَس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء فمضيا حتى نزلا بدرا فأناخا إلى تل قريب من الماء وأخذا يستقيان من الماء فسمعا جاريتين تقول إحداهما لصاحبتها: إن أتاني العير غدا أو بعد غد أعمل لهم، أي أخدمهم، ثم أقضيك الذي لك، فانطلقا حتى أتيا رسول الله فأخبراه بما سمعا.

فاستشار النبي أصحابه في طلب العير وفي حرب النفير، يعني أن النبي خير أصحابه بين أن يذهبوا للعير أو إلى محاربة النفير وأخبرهم بمسير قريش، وقال لهم: «إن الله وعدكم إحدى الطائفتين: إما العير وإما قريش»، وكانت العير أحب إليهم ليستعينوا بما فيها من الأموال على شراء الخيل والسلاح، وقال بعضهم: هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له إنّا خرجنا للعير، وفي رواية: يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو، فتغير وجه رسول الله

وتكلم المهاجرون فأحسنوا ثم استشارهم فقام أبو بكر فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن.

وكان يخشى أن تكون الأنصار لا ترى وجوب نصرته عليها إلا ممن دهمه فجأة من العدو بالمدينة فقط وأن ليس عليهم أن يسير بهم من بلادهم إلى عدو، فلما قال لهم: «أشيروا عليّ»، قال له سعد بن معاذ رضي الله عنه، وهو سيد الأوس، بل هو سيد الأنصار، وكان فيهم كالصديق رضي الله عنه في المهاجرين، قال: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل، قال: قد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودا ومواثيق على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت لنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء لعل الله يريك فينا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، فسرّ رسول الله لقوله ونشطه ذلك للقاء الكفار، ثم قال رسول الله: «سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين إما العير وإما النفير».

الخلاف بين أبي سفيان وأبي جهل

كان أبو سفيان قد ساحل وترك بدرا يسارا ثم أسرع فنجا فلما رأى أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش وهم بالجحفة أن الله قد نجى عيركم وأموالكم فارجعوا.

فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا - وكانت بدر موسما من مواسم العرب تجتمع لهم بها سوق كل عام - فنقيم بها ثلاثا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر فتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا، ويقال كان أبو جهل وقتئذ يبلغ من العمر سبعين سنة ولكنه كان لا يزال قوي الجسم.

فلما بلغ أبا سفيان كلام أبي جهل قال: هذا بغي والبغي منقصة وشؤم لأن القوم إنما خرجوا لنجاة أموالهم وقد نجاها الله، ولما قال أبو جهل ما قال رجع من قريش بنو زهرة وكانوا نحو المائة وقيل: ثلاثمائة، فلذا قيل لم يقتل أحد منهم ببدر، وكان قائد بني زهرة الأخنس بن شريق الثقفي وكان حليفا لهم، فقال لهم: يا بني وهرة قد نجّى الله أموالكم وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل فإنه كان في العير وإنما نفرتم لتمنعوه وماله فارجعوا فإنه لا حاجة لكم أن تخرجوا في غير منفعة، دعوا ما يقول هذا، يعني أبا جهل، وكذلك لم يخرج من قريش بنو عدي بن كعب فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد، لكن هذا الخلاف لم يمنع نشوب الحرب.

مسير الجيشين ونزول المطر

مضت قريش حتى نزلت بالعدوة القصوى من الوادي.

ونزل المسلمون على كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب، وسبقهم المشركون إلى ماء بدر فأحرزوه وحفروا القلُب لأنفسهم ليجعلوا فيها الماء من الآبار المعينة فيشربوا منها ويسقوا دوابهم.

وأدرك المسلمون النعاس وأصبحوا لا يصلون إلى الماء للشرب والغسل والوضوء، فأرسل الله عليهم مطرا سال منه الوادي فشرب المسلمون واتخذوا الحياض على عدوة الوادي واغتسلوا وتوضأوا وسقوا الركاب وملأوا الأسقية وأطفأت المطر الغبار ولبد الأرض حتى ثبتت عليهم الأقدام والحوافر وضر ذلك بالمشركين لكون أرضهم كانت سهلة لينة وأصابهم ما لا يقدرون معه على الارتحال وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله: {إِذْ يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَآء مَآء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَنِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الاْقْدَامَ} (الأنفال: 11).

وبات رسول الله يدعو ربه، يصلي تحت شجرة ويكثر في سجوده: «يا حي يا قيّوم» يكرر ذلك حتى أصبح.

قال علي رضي الله عنه فلما أن طلع الفجر نادى رسول الله للصلاة - عباد الله - فجاء الناس من تحت الشجرة والحجف فصلى بنا رسول الله ثم خطب وحضَّ على القتال.

بناء حوض على القليب

قال ابن إسحاق: خرج رسول الله يبادرهم إلى الماء حتى جاء أدنى ماء من بدر فنزل به فقال الحباب بن المنذر بن الجموح رضي الله عنه: يا رسول الله هذا منزل أنزلكه الله تعالى لا تتقدمه ولا تتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: «بل الرأي والحرب والمكيدة»، قال: فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فإني أعرف غزارة مائه فننزل به ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء فنشرب ولا يشربون، فقال «أشرت بالرأي»، فنهض ومن معه من الناس حتى أتى أدنى ماء من القوم فنزل عليه ثم أمر بالقلُب فغورت وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه فملىء ماء ثم قذفوا فيه الآنية وقد كان الحباب خبيرا بالآبار في تلك الجهة، وقد قبل رسول الله مشورته وهي فكرة سديدة لها أهمية حربية فإن الجيش يكون على اتصال دائم بالماء الذي لا غنى عنه، ومن يومئذ قيل للحباب: «ذو الرأي».

بناء العريش

وبعد ذلك قال سعد بن معاذ رضي الله عنه: يا رسول الله ألا نبني لك عريشا تكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقي عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم ولو ظنوا أنك تلقى حربا لما تخلفوا عنك إنما ظنوا أنها العير يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك فأثنى عليه خيرا ودعا له الخير وقال: «يقضي الله خيرا من ذلك يا سعد»، ثم بُنِيَ له العريش فوق تلّ مشرف على المعركة فدخله النبي وأبو بكر الصديق وقام سعد بن معاذ متوشحا بالسيف.

وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال: أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا: أنت، قال: أشجع الناس أبو بكر رضي الله عنه لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله عريشا فقلنا: من يكون مع رسول الله لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فكان أبو بكر رضي الله عنه مع رسول الله فوالله ما دنا منه أحد إلا وأبو بكر رضي الله عنه شاهر بالسيف على رأس رسول الله لا يهوي أحد إليه إلا أهوى إليه أبو بكر رضي الله عنه، وجاء أنه لما التحم القتال وقف أيضا على باب العريش سعد بن معاذ رضي الله عنه وجماعة من الأنصار، والعريش شيء يشبه الخيمة يستظل به وكان من جريد، قال السيد السمهودي: ومكان - العريش - عند مسجد بدر وهو معروف عند النخيل والعين قريبة منه.

عتبة بن ربيعة ينصح قريشا بالرجوع

تقدم قبل ذلك أن أبا سفيان كان من رأيه الرجوع لنجاة عير قريش وأموالها وأن أبا جهل كان مصمما على الحرب، فلما اطمأنت قريش بالجهة التي نزلوا فيها أرسلوا عمير بن وهب الجمحي يستطلع، فجال بفرسه حول عسكر النبي فوجد أنهم يبلغون ثلاثمائة رجل يزيدون أو ينقصون وقال لهم: لقد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، رجال يثرب تحمل الموت الناقع، ألا ترونهم خرسا لا يتكلمون يتلمظون تلمظ الأفاعي لا يريدون أن يقبلوا إلى أهليهم، زرق العيون كأنهم الحصى تحت الجحف قوم ليس لهم منعة إلا سيوفهم، والله ما نرى أن نقتل منهم رجلا حي يقتل رجل منكم فإذا أصابوا منكم عدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم، فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس فأتى عتبة بن ربيعة، فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش والمطاع فيها هل لك أن تذكر بخير إلى آخر الدهر؟ فقال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس، فقام عتبة خطيبا، فقال: يا معشر قريش والله ما تصنعون شيئا أن تلقوا محمدا وأصحابه والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قد قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وسائر العرب فإن أصابه غيركم فذاك إذا أردتم وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعدموا منه ما تريدون، يا قوم اعصبوها اليوم برأسي - أي اجعلوها عارا متعلقا بي - وقولوا جبن عتبة وأنتم تعلمون أني لست بأجبنكم.

فلما بلغ أبا جهل هذا الكلام عن عتبة رماه بالجبن، وقال: - والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد - فأفسدَ أبو جهل على الناس رأي عتبة وتشبث بضرورة قتال المسلمين.

تعديل صفوف المسلمين ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم

لما أصبح المسلمون، عدل النبي صفوف أصحابه وأقبلت قريش ورآها فقال:

«اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذّب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني».

اقتحام الحوض

خرج الأسود المخزومي وكان شرسا سيّىء الخلق، فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنّه أو لأموتنّ دونه، فلما أقبل قصده حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه عنه فضربه دون الحوض فوقع على ظهره تشخب - تسيل - رجله دما ثم اقتحم الحوض زاعما أن تبرّ يمينه فقتله حمزة في الحوض، والأسود هذا هو الأسود بن عبد الأسد المخزومي أخو عبد الله بن عبد الأسد المخزومي رضي الله عنه زوج أم سلمة رضي الله عنها، وهو أول قتيل قُتل يوم بدر من المشركين وهو أول من يأخذ كتابه بشماله يوم القيامة، وأما أخوه عبد الله بن عبد الأسد فهو أول من يأخذ كتابه بيمينه كما جاء ذلك في أحاديث متعددة.

المبارزة

التمس عتبة بن ربيعة بيضة، أي خوذة يدخلها في رأسه، فما وجد في الجيش بيضة تسع رأسه لعظمها فتعمم ببرد له وخرج بعد أن تعمم بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة حتى انفصل من الصف ودعا إلى المبارزة فخرج إليه فتية من الأنصار وهم عوف ومعاذ ابنا الحارث الأنصاريان وعبد الله بن رواحة الأنصاري، فقالوا لهم: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم من حاجة إنما نريد قومنا ونادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فناداهم: أن ارجعوا إلى مصافكم وليقم إليهم بنو عمهم، ثم قال «قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا عليّ». فبارز عبيدة - وكان أسن المسلمين - عتبة وكان أسن الثلاثة، وبارز حمزة شيبة، وبارز عليّ الوليد بن عتبة، فقتل حمزة شيبة وعليّ الوليد واختلف عبيدة وعتبة ضربتين كلاهما أثبت صاحبه، وكر حمزة وعليّ بأسيافهما على عتبة فذففا عليه واحتملا عبيدة فحاذياه إلى أصحابه، وكانت الضربة التي أصابت عبيدة في ركبته فمات منها لمّا رجعوا بالصفراء، قيل: وهذه المبارزة أول مبارزة وقعت في الإسلام.

تعديل صفوف المسلمين والحث على الجهاد

قال ابن إسحاق: لما قتل المبارزون خرج من العريش لتعديل الصفوف فعدلهم بقدح في يده فمر بسواد بن غزية حليف النجار وهو خارج من الصف فطعنه رسول الله في بطنه بالقدح وقال: «استو يا سواد»، فقال: يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني من نفسك، فكشف رسول الله عن بطنه وقال: «استقد» فاعتنق سواد النبي وقبل بطنه، فقال: «ما حملك على هذا يا سواد»؟ فقال: يا رسول الله حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله بخير ثم لما عدل الصفوف قال لهم: «إن دنا القوم منكم فانضحوهم واستبقوا نبلكم ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم» وخطبهم خطبة حثهم فيها على الجهاد والمصابرة ثم عاد إلى العريش فدخله ومعه أبو بكر ليس معه غيره وسعد بن معاذ قائم على باب العريش موشح بسيفه مع نفر من الأنصار يحرسون رسول الله ويخافون عليه كرة العدو.

ألوية المسلمين والمشركين

كان لواء رسول الله الأعظم - لواء المهاجرين - مع مصعب بن عمير ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر ولواء الأوس مع سعد بن معاذ، وجعل رسول الله شعار المهاجرين: «يا بني عبد الرحمن»، وشعار الخزرج: «يا بني عبد الله»، وشعار الأوس: «يا بني عبيد الله»، ويقال: بل كان شعار المسلمين جميعا يومئذ: «يا منصور أمت».

وكان مع المشركين ثلاثة ألوية: لواء مع أبي عزيز بن عمير، ولواء مع النضر بن الحارث، ولواء مع طلحة بن أبي طلحة وكلهم من بني عبد الله.

تزاحم الناس والتحام القتال

بعد أن عاد رسول الله تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض وأقبل نفر من قريش حتى وردوا حوضه فقال: «دعوهم» فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل إلا حكيم بن حزام فإنه أسلم وأمر رسول الله أن لا يحملوا على المشركين حتى يأمرهم وكان قد أخذته سنة من النوم فاستيقظ وقد أراه الله إياهم في منامه قليلا فأخبر أصحابه فكان تثبيتا لهم، ثم خرج رسول الله يحرض المؤمنين وأخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا وقال: «شاهت الوجوه» - أي قبحت الوجوه - ونفحهم بها ثم أمر أصحابه فقال: «شدوا» فكانت الهزيمة.

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال وهو في العريش يوم بدر: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم فلا تُعبد»، وفي رواية: «إن تهلك هذه العصابة من أهل الإيمان اليوم فلا تُعبد في الأرض».

وروى النسائي والحاكم عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قاتلت يوم بدر شيئا من قتال، ثم جئت لاستكشاف حال النبي فإذا رسول الله يقول في سجوده: «يا حي يا قيُّوم» لا يزيد على ذلك فرجعت فقاتلت ثم جئته فوجدته كذلك، فعل ذلك أربع مرات وقال في الرابعة ففتح عليه، وهذا يدل على عظم هذا الاسم.

لما رمى رسول الله المشركين بالحصا، لم يبق من المشركين رجل إلا امتلأت عينه وأنفه وفمه لا يدري أين يتوجه يعالج التراب لينزعه من عينيه فانهزموا وردفهم المسلمون يقتلون ويأسرون، وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17)، وهذه إحدى معجزات رسول الله

خرج رسول الله وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (القمر: 45)، وقال: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة»، فقال عمير بن الحمام الأنصاري - وبيده تمرات يأكلهن -: «بخ بخ ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء»، ثم ألقى التمرات من يده وقاتل حتى قُتل، ورُمي مِهْجَع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل فكان أول قتيل، ثم رُمِي حارثة بن سراقة الأنصاري فقُتل، وقاتل عوف بن عفراء حتى قتل، واقتتل الناس اقتتالا شديدا فانهزم المشركون فقتل من قُتل منهم وأسر من أسر، كان بدء القتال في الصباح، وكانت الهزيمة في الظهر، وبلغ عدد القتلى من المشركين سبعين والأسرى أربعة وسبعين وعدد القتلى من المسلمين أربعة عشر: ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار.

وفي يوم بدر دعا أبو بكر الصدّيق ابنه عبد الرحمن إلى المبارزة وكان أسن أولاده فقال له النبي «متعنا بنفسك أما علمت أنك مني بمنزلة سمعي وبصري»، ثم أسلم عبد الرحمن في هدنة الحديبية وكان اسمه قبل الإسلام عبد الكعبة وقيل: عبد العزى فسماه رسول الله عبدالرحمن وكان من أشجع قريش وأرماهم.

وقتل أبو عبيدة بن الجراح أباه وكان مشركا.

قتل بلالٌ أمية بن خلف الجمحي صديق عبد الرحمن بن عوف في الجاهلية لأنه كان يعذبه بمكة على أن يترك الإسلام، وكان ابن عفراء ضرب أبا جهل حتى أثبته وقطع ابن الجموح رجله، فلما أمر رسول الله الناس بأن يلتمسوا أبا جهل في القتلى خرج معهم عبد الله بن مسعود فوجده وهو بآخر رمق، فوضع رجله على عنقه وحز رأسه وحمل رأسه إلى رسول الله ثم إن النبي بعد إلقاء الرأس بين يديه خرج يمشي مع ابن مسعود حتى أوقفه على أبي جهل، فقال: الحمد لله الذي أخزاك يا عدو رسول الله، هذا كان فرعون هذه الأمة ورأس قاعدة الكفر، قال ابن مسعود: ونفلني سيفه وكان قصيرا عريضا فيه قبائع فضة وحلق فضة.

إمداد المسلمين بالملائكة يوم بدر

وردت الآيات والأحاديث على أن الله تعالى أمد المسلمين بالملائكة يوم بدر فقاتلوا معهم، فلما انقضى أمر بدر أنزل الله عز وجل فيه من القرآن سورة الأنفال فممّا أنزل خاصا بالملائكة قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 9، 10).

وقوله تعالى: {إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (الأنفال: 12).

وقال تعالى في سورة آل عمران: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءالاَفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالآفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُسَوّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (آل عمران: 123 - 126).

وجاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي يوم بدر: «هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب».

إن إمداد المسلمين بالملائكة من معجزات رسول الله التي نص عليها القرآن الكريم ولا سبيل إلى إنكارها.

رُوِي عن سهل بن حنيف عن أبيه رضي الله عنه قال: لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف.

سيما الملائكة يوم بدر

كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرسلوها خلف ظهورهم إلا جبريل عليه السلام فإنه كان عليه عمامة صفراء، وقيل: حمراء، وقيل: بعض الملائكة كانوا بعمائم صفر، وبعضهم بعمائم بيض، وبعضهم بعمائم سود، وبعضهم بعمائم حمر.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم قد أرخوها بين أكتافهم خضرا وصفرا وحمرا.

وكان الزبير بن العوام رضي الله عنه يوم بدر متعمما بعمامة صفراء، وكانت خيل الملائكة بلقا مسومة.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الغمام الذي ظلل بني إسرائيل في التيه هو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر.

إلقاء القتلى في القليب

أمر رسول الله بالقتلى من المشركين أن ينقلوا من مصارعهم وأن يطرحوا في القليب فطرحوا فيه إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ في درعه فملأه فذهبوا ليحركوه فتقطعت أوصاله فألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة، والسبب في إلقاء قتلى المشركين في القليب كثرة جيفهم، فكان جرهم إلى القليب أيسر من دفنهم.

ثم جاء رسول الله حتى وقف على شفير القليب بعد ثلاثة أيام من إلقائهم فيه وكان ذلك ليلا ومعه أصحابه وقال: «يا أهل القليب بئس عشيرة النبي كنتم، أمنتكم فكذبتموني وصدقني الناس، ثم قال: يا عتبة، يا شيبة، يا أمية بن خلف، يا أبا جهل بن هشام - وعدد من كان في القليب - هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني وجدت ما وعدني ربي حقا؟» فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله كيف تُكلم أجسادا لا أرواح فيها؟ فقال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني».

الأسرى وفداؤهم

كان فداء الأسرى أربعة آلاف إلى ما دون ذلك، فكان يفادي بهم على قدر أموالهم. وكان أهل مكة يكتبون وأهل المدينة لا يكتبون فمن لم يكن له فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة فعلمهم فإذا حذقوا فهو فداؤه، فكان زيد بن ثابت ممن علم.

وكان من بين الأسرى العباس عم النبي وصنو أبيه يكنى أبا الفضل بابنه الفضل، وكان أسن من رسول الله بسنتين، وقيل: بثلاث سنين، وكان في الجاهلية رئيسا في قريش وإليه كانت عمارة المسجد الحرام والسقاية في الجاهلية، خرج مع المشركين يوم بدر فأُسِر وشُدّ وثاقه فسهر النبي تلك الليلة ولم ينم، فقال له بعض أصحابه: ما يسهرك يا نبي الله؟ فقال: «أسهر لأنين العباس» فقام رجل من القوم فأرخى وثاقه فقال له رسول الله «ما لي لا أسمع أنين العباس»، فقال الرجل: أنا أرخيت من وثاقه، فقال رسول الله «فافعل ذلك بالأسرى كلهم»، قال له رسول الله «افد نفسك يا عباس وابني أخويك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب وحليفك عتبة بن عمرو بمائة أوقية وكل واحد بأربعين أوقية»، فقال للنبي تركتني فقير قريش ما بقيت، فقال له رسول الله «فأين المال الذي دفعته لأم الفضل وقلت لها إن أصبت فهذا لبنيّ الفضل وعبد الله وقثم؟»، فقال: والله إني أشهد أنك رسول الله، إن هذا شيء ما علمه إلا أنا وأم الفضل، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله.

وفي رواية قال للنبي «لقد تركتني فقير قريش ما بقيت»، فقال له: «كيف تكون فقير قريش وقد استودعت بنادق الذهب أم الفضل - زوجته - وقلت لها: إن قتلت فقد تركتك غنية ما بقيت»، فقال: أشهد أن الذي تقوله قد كان وما اطلع عليه إلا الله، ونطق بالشهادتين، بحضرة رسول الله

وقد قيل: إن العباس كان قد أسلم، وكان يكتم إسلامه لديون له كانت متفرقة في قريش، وكان يخشى إن أظهر إسلامه ضاعت عندهم، وقد جاء في بعض الروايات: أن العباس رضي الله عنه قال: علامَ يؤخذ منا الفداء وكنا مسلمين؟ وفي رواية: وكنت مسلما ولكن القوم استكرهوني، فقال النبي «الله أعلم بما تقول إن يك حقا فإن الله يجزيك»، ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا، وقد أنزل الله تعالى في العباس رضي الله عنه: {يَأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم مّنَ الاْسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرا يُؤْتِكُمْ خَيْرا مّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنفال: 70)، وعند نزول هذه الآية قال العباس للنبي وددت أنك كنت أخذت مني أضعاف ما أخذت، وقد صدق الله وعده له فأعطاه الله مالا عظيما حتى كان عنده مائة عبد في يد كل عبد مال يتجر فيه، وبلغ ما دفعته قريش فداء للأسرى أكثر من 20.000 درهم.

وكان من الأسرى: النضر بن الحارث العبدري وكان من أشد الناس عداوة للنبي وكان يقول في القرآن إنه أساطير الأولين، ويقول: لو نشاء لقلنا مثل هذا وغير ذلك من الأقاويل. فأمر النبي عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فضرب عنقه، فلما بلغ الخبر أخته قتيلة، وقيل: إنما هي بنته، رثته بأبيات ثم أسلمت، في «أسد الغابة» أنها قتيلة بنت النضر، قال الواقدي: هي التي قالت الأبيات التالية في رسول الله لما قتل أباها النضر بن الحارث يوم بدر وهي:

يا راكبا إن الأثيل مظنة ** من صبح خامسة وأنت موفق

أبلغ بها ميتا بأن تحية ** ما إن تزالُ بها النجائب تخفقُ

مني إليك وعبرة مسفوحة ** جادت بواكفها وأخرى تخنق

ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ** لله أرحام هناك تشقق

قسرا يقاد إلى المنية معتبا ** رسف المقيَّد وهو عان موثَق

أمحمد أو لست صفوَ نجيبة ** من قومها والفحلُ فحلٌ معرِق

ما كان ضرك لو مننت وربما ** منّ الفتى وهو المغيظ المحنق

فالنضر أقرب من أسرت قرابة ** وأحقهم إن كان عتق يعتق

وحين سمع ذلك بكى وقال: «لو بلغنى هذا الشعر قبل قتله لمننت عليه».

وكان من الأسرى أيضا عقبة بن أبي معيط بن ذكوان المكنى بأَبي عمرو بن أمية بن عبد شمس وكان من أشد الناس عداوة للنبي ومن المستهزئين به، جاء عن ابن عباس أن عقبة لما قدم للقتل نادى: يا معشر قريش ما لي أُقتل بينكم صبرا؟ فقال له النبي «بكفرك واجترائك على الله ورسوله»، وعقبة هذا هو الذي وضع سلا الجزور على ظهر النبي وهو ساجد بمكة.

فالنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط هما الأسيران اللذان أمر بقتلهما، أما سائر الأسرى فقد استشار رسول الله في أمرهم، فاستشار أبا بكر وعمر وعليّا رضي الله عنهم فيما هو الأصلح من الأمرين القتل أو أخذ الفداء.

رأي أبي بكر رضي الله عنه في الأسرى

قال أبو بكر: «يا رسول الله، أهلك وقومك»، وفي رواية: «هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان قد أعطاك الله الظفر بهم ونصرك عليهم أرى أن تستبقيهم وتأخذ الفداء منهم فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار وعسى الله أن يهديهم بك فيكونوا لنا عضدا» وقد وافق الصحابة أبا بكر على أخذ الفداء.

رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل الأسرى

قال: يا رسول الله قد كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنني من - فلان - قريب لعمر فأضرب عنقه، وتمكن عليّا من عقيل أخيه فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من أخيه العباس فيضرب عنقه حتى يُعلم أنه ليس في قلوبنا مودة للمشركين، ما أرى أن تكون لك أسرى فاضرب أعناقهم، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم، فأعرض عنه رسول الله وقال سعد بن معاذ: - الإثخان في القتل أحب إليّ من إبقاء الرجال -.

أما عليّ رضي الله عنه فلم يذكر عنه جواب مع أنه أحد الثلاثة المستشارين، قال العلامة الزرقاني لأنه لما رأى تغيّر المصطفى حين اختلف الشيخان، لم يجب أو لم تظهر له مصلحة حتى يذكرها.

وكان رأي عبد الله بن رواحة إحراقهم في واد كثير الحطب.

لكن رسول الله أخذ برأي أبي بكر رضي الله عنه، وقال: «لا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق»، وأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الاْخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَبٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَلا طَيّبا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنفال: 67 - 69)، فبكى النبي وأبو بكر رضي الله عنه، وقال رسول الله «إن كاد ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب»، ولم يقل وابن رواحة لأنه أشار بإضرام النار وليس بشرع.

وهذه الآية موافقة لرأي عمر رضي الله عنه، وهي من المواضع التي جاء القرآن فيها موافقا لقول عمر رضي الله عنه، وهي كثيرة نحو بضعة وثلاثين أفردت بالتأليف.

ولما استقر الأمر على الفداء فرق رسول الله الأسرى في أصحابه، وكان أول أسيرا فُديَ أبو وداعة الحارث فداه ابنه المطلب - وكان كيسا تاجرا - بأربعة آلاف درهم ثم أسلم وقد عده بعضهم من الصحابة، وعند ذلك بعثت قريش في فداء الأسارى، وكان الفداء فيهم على قدر أموالهم وكان من أربعة آلاف درهم إلى ثلاثة إلى ألفين إلى ألف، ومن لم يكن معه فداء وهو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم الكتابة فإذا تعلموا كان ذلك فداءه كما تقدم.

وكان من الأسرى أبو العاص بن الربيع فإنه أسلم بعد ذلك وهو زوج زينب بنت النبي ورضي عنها وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد أخت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها، ولم يكن في ذلك الوقت تزوُّج الكافر بالمسلمة محرما، وإنما حرّم ذلك بعد لأن الأحكام إنما شرعت بالتدريج.

وقدمت زينب المدينة بعد شهر من بدر، وقد جاء بها زيد بن حارثة بأمر رسول الله ثم أسلم زوجها وهاجر وردها إليه بغير عقد بل بالنكاح الأول، وقيل: عقد عليها عقدا آخر وولدت له - أمامة - التي كان يحملها على ظهره وهو يصلي، ثم لما كبرت تزوجها عليّ رضي الله عنه بعد خالتها فاطمة رضي الله عنها بوصية من فاطمة لعلي بذلك.

وكان في الأسارى وهب بن عُمَيْر رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك وأسره رفاعة بن رافع، وكان عُمَيْر شيطانا من شياطين قريش وكان ممن يؤذي رسول الله وأصحابه بمكة فجلس يوما مع صفوان بن أمية وكان جلوسه معه في الحجر فتذاكرا أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: ما في العيش خير بعدهم، فقال عُمَيْر: والله صدقت، أما والله لولا دَيْنٌ عليّ ليس له عندي قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، كنت آتي محمدا حتى أقتله فإن لي فيهم علة، ابني أسير في أيديهم. فاغتنمها صفوان وقال: عليّ دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أُواسيهم ما بقوا، قال عُمَيْر: فاكتم عني شأني وشأنك، قال: أفعل، ثم إن عميرا أخذ سيفه وشحذه وسمّه ثم انطلق حتى قدم المدينة فبينا عمر بن الخطاب في نفر من والمسلمين يتحدثون عن يوم بدر، إذ نظر إلى عمير حين أناخ راحلته على باب المسجد متوشحا السيف، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير، ما جاء إلا بشرّ. فدخل عمر على رسول الله، فقال: يا نبي الله هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه، قال رسول الله: «فأدخله عليّ»، فأقبل عمر رضي الله عنه حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فأمسكه بها وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله فاجلسوا عنده، فإن هذا الخبيث غير مأمون.

ثم دخل به على رسول الله، فلما رآه وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه، قال: «أرسله يا عمر، أدن يا عُمَيْر»، فدنا، ثم قال عمير: أنعموا صباحا، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم، فقال رسول الله: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك، يا عمير بالسلام تحية أهل الجنة، ما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم - يعني ولده وهبا - فأحسنوا فيه، قال: فما بال السيف؟ قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئا؟ قال رسول الله: «اصدقني ما الذي جئت له»؟ قال: ما جئت إلا لذلك، قال «بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت لولا دين عليّ وعيالي لخرجت حتى أقتل محمدا، فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك»، قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما تأتي به من خبر السماء ما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله تعالى، فالحمد لله الذي هدانا للإسلام وساقني هذا المساق.

ثم شهد شهادة الحق.

ثم قال رسول الله: «فَقِّهوا أخاكم في دينه وأقرئوه القرآن وأطلقوا أسيره» ففعلوا ذلك.

ومرّ رسول الله على نفر من الأسرى بغير فداء منهم أبو عزة عمرو الجمحي الشاعر، وقد كان يؤذي النبي والمسلمين بشعره، فقال: يا رسول الله إني فقير وذو عيال وحاجة قد عرفتها فامنن عليّ. فمن عليه رسول الله وأطلقه وأخذ عليه عهدا أن لا يظاهر عليه أحدا، ولما وصل إلى مكة قال: سحرت محمدا ورجع لما كان عليه من الإيذاء بشعره، ولما كان يومُ أُحد خرج مع المشركين يحرّض على قتال المسلمين بشعره فأسر فأمر النبي بضرب عنقه، فقال: أعتقني وأطلقني فإني تائب، فقال «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين». فضربت عنقه وحمل رأسه إلى المدينة وأنزل الله فيه: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} (الأنفال: 71).

تأثير الانتصار في المدينة

كان لنبأ الانتصار تأثير عظيم في النفوس فخاف رسولَ الله كلُّ عدو بالمدينة وما حولها وأسلم كثير من اليهود منهم عبد الله بن أُبي، لكنه لم يكن مخلصا في إسلامه بل ظل منافقا إلى أن مات ومع انتصار المسلمين في بدر، لم تنقطع معارضة اليهود ودسائسهم فكان لا بد من القضاء عليهم واستئصال شأفتهم، وقد كان المنافقون من الرجال ثلاثمائة ومن النساء سبعين، وكانوا يؤذونه إذا غاب ويتملقونه إذا حضر.

ثم أرسل رسول الله عبد الله بن رواحة بشيرا لأهل العالية، وزيد بن حارثة بشيرا لأهل السافلة بما فتح الله على رسوله وعلى المسلمين.

رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وتقسيم الغنيمة

لما قارب رسول الله المدينة خرج المسلمون للقائه بما فتح الله عليه فتلاقوا معه بالروحاء وتلقته الولائد عند دخوله المدينة بالدفوف، والولائد جمع وليدة وهي الصبية يقلن:

طلع البدر علينا ** من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داع

وقسم رسول الله النفل وكانت 150 من الإبل وعشرة أفراس، ومتاعا وسلاحا وأنطاعا، وثيابا وأدما كثيرا حمله المشركون للتجارة ونادى منادي رسول الله: من قتل قتيلا فله سلبه، ومن أسر أسيرا فهو له، وتنفل رسول الله زيادة على سهمه سيفه ذا الفقار وجمل أبي جهل.

وقع خبر الانتصار على قريش

سمعت قريش خبر انتصار رسول الله ممن رجع منهم من ساحة القتال وقص أبو سفيان ابن الحارث ما رأى على أبي لهب ففقد رشده وضرب أبا رافع ضربا مبرحا، ولم يعش بعدها أبو لهب إلا سبع ليال ومات مصابا بالجدري وبقي بعد موته ثلاثة أيام لا يقرب أحد منه خوفا من العدوى حتى أنتن ولما تحققت قريش خبر الهزيمة وما أصابهم من قتل وأسر، ناحت على قتلاها شهرا، وجز النساء شعورهن، ثم اتفقوا على عدم الاسترسال في الجزع لئلا يشمت بهم المسلمون وتواصوا على الأخذ بالثأر.

أسباب انتصار المسلمين في وقعة بدر

كانت وقعة بدر أول انتصار للمسلمين في حروبهم ولم تكن من الوقائع الكبيرة من حيث عدد جيوش المتحاربين واستعدادهم الحربي فإن عدد المسلمين كان نحو 313 يقابلهم نحو ألف من أهل مكة ولكنها وقعة مهمة لأنها كانت بمثابة الحجر الأساس في انتصار الرسول في الوقائع المقبلة وهي بدء تحوّل خطير في تاريخ الإسلام وتاريخ العالم، في هذه الوقعة انهزم أهل مكة وظهر ضعفهم في القتال على كثرة عددهم وفرسانهم وقد أبدى بعض المؤرخين استغرابه لما أصاب أعداء المسلمين من الفشل مع أنهم كانوا أكثر منهم عددا وكان معهم مئة فرس وسبعمائة بعير ومع ذلك لم يكتسحوهم أمامهم بفرسانهم وركبانهم بل ولّوا هاربين، والظاهر أن المسلمين كانوا أحسن نظاما فقد عدل صفوفهم النبي وخطب فيهم مستنهضا هممهم وكان يشرف على الوقعة من ذلك العريش العالي ويصدر الأوامر فكان قائدا عاما، ولم يصدر من أصحابه أية مخالفة لأوامره، أما أبو سفيان فلم يكن قائدا ماهرا، وقد ساعد بناء الحوض وتوافر الماء على النصر، والقرآن الكريم والأحاديث النبوية تنص صراحة على أن الله سبحانه وتعالى أمد نبيّه بمدد باطني فحاربت الملائكة مع المسلمين ونصروهم على أعدائهم وقد رآهم بعض الصحابة وبعض أهل مكة في ميدان القتال وذكروهم بسيماهم، فقيل: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم قد أرخوها بين أكتافهم خضرا وصفرا وحمرا وكان الزبير بن العوام متعمما بعمامة صفراء فقال «نزلت الملائكة - أي بعضهم - بسيما أبي عبدالله» - يعني الزبير -، وكانت خيل الملائكة بلقا مسومة - مزينة -، وعن عليّ كرّم الله وجهه قال: هبت ريح شديدة يوم بدر ما رأيت مثلها قط ثم جاءت أخرى كذلك ثم جاءت أخرى كذلك، فنزل في الأولى جبريل في ألف من الملائكة أمام النبي ونزل في الثانية ميكائيل في ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله

هذا وقد جيء بالعباس يوم بدر، أسره أبو اليَسَر وكان مجموعا وكان العباس جسيما فقيل لأبي اليسر: كيف أسرته؟ قال: أعانني عليه رجل ما رأيته من قبل ذلك بهيئة كذا وكذا، فقال رسول الله «لقد أعانك عليه ملك كريم».

وقد كان رسول الله قال لأصحابه: «قد رأيت جبريل وعلى ثناياه النقع»، فقال رجل من بني غفار: أقبلت أنا وابن عم لي فصعدنا جبلا يشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننظر لمن تكون الدائرة فننتهب فدنت منا سحابة فسمعت فيها حمحمة الخيل وسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم، قال: فأما ابن عمي فمات مكانه وأما أنا فكدت أهلك فتماسكت، وقال أبو داود المازني: إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل سيفي إليه فعرفت أنه قتله غيري، وقال سهل بن حنيف: كان أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف فكيف بعد هذا كله نكذب إمداد الله رسوله بالملائكة في وقعة بدر إن الله قد اختص نبيّه بمعجزات وهذه إحداها ولا سبيل لإنكارها وإن أنكرها المستشرقون الذين كتبوا سيرة النبي فقد وردت في القرآن والأحاديث النبوية الصحيحة.

وروى الصحابة رضي الله عنهم الذين شهدوا بدرا أنهم رأوا الملائكة بسيماهم وهم يحاربون، قال حويطب بن عبد العزى: شهدت بدرا مع المشركين فرأيت عبرا، رأيت الملائكة تقتل وتأسر بين السماء والأرض ولم أذكر ذلك لأحد.

ومن أسباب انتصار المسلمين قوة العقيدة فإن لها تأثيرا عظيما في الحروب، فشتان بين من يحارب بعقيدة راسخة لينصر الله ورسوله فإن قتل فاز بنعمة الشهادة وتنعم في دار الخلد وبين من يحارب وهو لا يشعر بقوة العقيدة التي تدفع خصمه إلى القتال من غير مبالاة، فالمسلمون كانوا يتوقون إلى الموت في سبيل الله، فمن ذلك أن رسول الله خرج من العريش يوم بدر وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (القمر: 45)، وحرّض المسلمين وقال: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة». فقال عمير بن الحمام الأنصاري وبيده تمرات يأكلهن: بخ بخ ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ثم ألقى التمرات من يده وقاتل حتى قُتل.

ويؤكد سير وليام موير William Muir أن الخوف الذي كان مستوليا على أهل مكة من إراقة دماء أقاربهم مع ما يقابل ذلك من رغبة المسلمين في القتال، كان هو العامل المهم في انتصار المسلمين في وقعة بدر.

فضل أهل بدر

جاء أحد الصحابة إلى النبي فقال: يا رسول الله إن ابن عمي نافق أتأذن لي أن أضرب عنقه؟ فقال «إنه شهد بدرا وعسى أن يكفر عنه»، وفي رواية: «وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله «اطلع الله على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم - أو قال -: فقد وجبت لكم الجنة»، وعن الإمام أحمد عن حفصة رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله يقول: «إني لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله تعالى أحد شهد بدرا أو الحديبية»، وكان رسول الله يكرّم أهل بدر ويقدمهم على غيرهم، وفي «الخصائص الصغرى»: وخصّ أهل بدر أصحابه بأن يزادوا في صلاة الجنازة على أربع تكبيرات تمييزا لفضلهم.

وفاة رقية ابنة رسول الله

تزوجت رقية ابنة رسول الله عثمان بن عفان بمكة وهاجرت معه إلى الحبشة وولدت له هناك ولدا اسماه عبد الله وكان عثمان يُكنى به، فبلغ الغلام ست سنين فنقر عينه ديك فورم وجهه ومرض ومات، وكان موته في جمادى الأولى سنة أربع.

ولما سار رسول الله إلى بدر، كانت ابنته رقية مريضة فتخلف عليها عثمان بأمر رسول الله له بذلك فتوفيت يوم وصول زيد بن حارثة مبشرا بظفر رسول الله وكان قد أصابتها حصبة.

زواج فاطمة بنت رسول الله سنة 2هـ

فاطمة بنت رسول الله هي سيدة نساء العالمين ما عدا مريم ابنة عمران صلى الله عليهما، أمها خديجة بنت خويلد، وكانت تُكنى أم أبيها وكانت أحب الناس إلى رسول الله زوَّجها رسول الله من عليّ بعد أن ابتنى لعائشة بأربعة أشهر ونصف، وابتنى بها بعد تزويجه إياها بسبعة أشهر ونصف وكانت سنّها يوم تزويجها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر، وانقطع نسل رسول الله إلا منها فإن الذكور من أولاده ماتوا صغارا.

خطب أبو بكر وعمر فاطمة إلى رسول الله فأبى عليهما، فقال عمر: أنت لها يا عليّ، فقال: ما لي من شيء إلا درعي أرهنها، فزوجه رسول الله فاطمة، فلما بلغ ذلك فاطمة بكت، فدخل عليها رسول الله فقال: «ما لَكِ تبكين يا فاطمة؛ فوالله لقد أنكحتك أكثرهم علما وأفضلهم حلما وأوّلهم سلما».

وعن عليّ رضي الله عنه قال: خُطبت فاطمة إلى رسول الله فقالت لي مولاة لي: هل علمت أن فاطمة خطبت إلى رسول الله قلت: لا، قالت: فقد خطبت فما يمنعك أن تأتي رسول الله فيزوجك، قلت: وهل عندي شيء أتزوج به؟ فقالت: إنك إن جئت رسول الله زوجك، فوالله ما زالت ترجيني حتى دخلت على رسول الله وكانت لرسول الله جلالته وهيبته فلما قعدت بين يديه أقحمت فوالله ما أستطيع أن أتكلم، فقال: «ما جاء بك»؟ فسكت، فقال: «لعلك جئت تخطب فاطمة؟» قلت: نعم، قال: «وهل عندك من شيء تستحلها به؟» فقلت: لا والله يا رسول الله، فقال: «ما فعلت بالدرع التي سلحتكها؟» فقلت: عندي، والذي نفس عليّ بيده إنها لحُطَميَّة ما ثمنها أربعمائة درهم، قال: «قد زوجتك فابعث بها فإن كانت لصداق فاطمة بنت رسول الله .

وقال رسول الله لعليّ ليلة البناء بفاطمة: «لا تحدثن شيئا حتى تلقاني»، فدعا رسول الله بماء فتوضأ منه ثم أفرغه على عليّ وقال: «اللهم بارك فيهما وبارك عليهما وبارك لهما في نسلهما».

قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم: أن رسول الله كان يغار لبناته غيرة شديدة، كان لا يُنكح بناته على ضرة.

وعن المسور بن مخرمة قال: سمعت رسول الله يقول وهو على المنبر: «إن بني هشام ابن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم عليّ بن أبي طالب فلا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد عليّ بن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم فإنها بضعة مني، يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها».

أمر رسول الله أن يجهزوا فاطمة، فجُعل لها سرير مشروط ووسادة من أدم حشوها ليف وأرسل رسول الله أسماء بنت عميس فهيأت البيت فصلى العشاء وأرسل إلى فاطمة رضي الله عنها فجاءت مع أم أيمن بركة الحبشية مولاته حتى قعدت في جانب البيت وعليُّ رضي الله عنه في جانب آخر ثم جاء رسول الله بعدما صلى العشاء الآخرة فقال: «أها هنا أخي»؟ قالت أم أيمن: أخوك وقد زوجته ابنتك؟ قال: «نعم، إي هو كَأخي في المنزلة والمؤاخاة فلا يمتنع عليَّ تزويجي إياه بنتي»، ودخل وقال لفاطمة رضي الله عنها: «ائتني بماء»، فقامت تعثر في ثوبها من الحياء إلى قعب في البيت، فأتت فيه بماء فأخذه ومج فيه - أي وضعه في فمه ورمى به في القعب، والقعب إناء ضخم كالقصعة - ثم قال لها: «تقدمي»، فتقدمت، فنضح بين ثدييها وعلى رأسها وقال: «اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم»، ثم قال: «أدبري»، فأدبرت فصب بين كتفيها، ثم فعل مثل ذلك بعليّ، ثم قال له: «ادخل بأهلك باسم الله والبركة»، وكان مهرها رضي الله عنها 400 درهم فضة، وخرّ عليّ رضي الله عنه ساجدا شكرا لله تعالى.

وكانت وليمة عليّ رضي الله عنه آصعا من شعير وتمر وحَيْس - وهو تمر يخلط بسمن - وقيل: أولم بكبش من سعد وآصع من ذرة من عند جماعة من الأنصار، وكان فرشهما ليلة عرسهما جلد كبش، وكانت سن عليّ يومئذ 21 سنة وخمسة أشهر.

وتُلقب فاطمة بالبتول لانقطاعها عن الدنيا، ولدت لعليّ الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم، كانت مشيتها مشية رسول الله كما قالت عائشة، وتوفيت فاطمة بعد رسول الله بستة أشهر وهذا أصح ما قيل، وما رؤيت ضاحكة بعد وفاته حتى لحقت بالله تعالى وكانت أول أهله لحوقا به وهي أول من غُطيَ نعشها في الإسلام وأوصت أن تُدفن ليلا، قيل: توفيت لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة وكان عمرها 29 سنة، وقيل: 30 رحمها الله تعالى.

غزوة بني سليم

لما قدم رسول الله المدينة من بدر لم يقم إلا سبع ليال حتى غزا بنفسه يريد بني سُليم واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري - وهو من مشاهير الصحابة - وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، وكان لواؤه أبيض حمله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فبلغ رسول الله ماء من مياههم يقال له - الكُدْر - فأقام ثلاث ليال، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا وارتفع القوم وهربوا وبقيت نعمهم، فظفر بها وانحدر بها إلى المدينة وقسمها بصرار، وهو مكان على ثلاثة أميال من المدينة وكانت خمسمائة بعير، وكانت مدة غيبته خمس عشرة ليلة.

غزوة بني قينقاع سنة 2 هـ

624 م

قَينُقاع اسم لشعب من اليهود الذين كانوا بالمدينة، أُضيف إليهم سوق كانت بها، ويُقال سوق بني قَينُقاع، وهم من موالي الخزرج وحلفاء عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبيّ بن سلول، وكان عددهم قليلا وصناعتهم الصياغة وهم أغنى سكان المدينة، وكانت بينهم وبين بني النضير وبني قريظة عداوة قديمة في الجاهلية سببها اشتراكهم مع الخزرج في يوم بعاث، كما ذكرنا سابقا.

كانت غزوة بني قينقاع في شوال من السنة الثانية من الهجرة (فبراير سنة 624 م)، قال ابن إسحاق: كان من أمر بني قينقاع أن رسول الله جمعهم بسوق بني قينقاع ثم قال: «يا معشر اليهود احذروا من الله عز وجل مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وفي عهد الله إليكم».

قالوا: يا محمد إنك ترى أنا كقومك، لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة إنا والله لئن حاربتنا لتعلمن أنا نحن الناس، أي أنهم بذلك دعوه للقتال.

دعا رسول الله بني قينقاع إلى الإسلام، وإلى الاعتراف بنبوته لأنهم يجدون ذلك في كتابهم، لكنهم مع ذلك وعلى قلة عددهم وإقامتهم مع المسلمين في المدينة نفسها أغلظوا له في الجواب ولم يقفوا عند حدود الأدب وادعوا الشجاعة.

قال الدكتور ولفنسون في كتابه «تاريخ اليهود» في صدد ما ردوا به على رسول الله: «إنهم أجابوه بكل جرأة وتبجح - ص 129» وقال: «يظهر من هذا الرد أن بني قينقاع كانوا يعتمدون على معاضدة حلفائهم من الخزرج في نزاعهم مع الرسول قبل كل شيء، إذ لا يتصور أن بطنا كبطن بني قينقاع يجرؤ على إعلان الحرب ضد أغلب بطون يثرب، ولكن بني الخزرج خذلوهم ولم يتحركوا لنجدتهم رغم أنهم من مواليهم ص 129 - 130».

وقد كان بنو قينقاع أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله وحاربوا فيما بين بدر وأُحد.

قال ابن هشام: وذكر عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة عن أبي عون قال:

كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ بها فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها فلما قامت انكشفت سوءتها فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.

ولم يرو هذه الحادثة ابن إسحاق وكذا لم يذكرها الطبري في «تاريخه» ولا ابن سعد في «طبقاته»، وليس في هذه القصة ذكر لاسم المرأة ولا اسم الصائغ الذي قتل ولا اسم المسلم القاتل له، ولذلك نشك في صحة هذه القصة لا لأن ابن إسحاق لم يروها، بل لأن روايتها بهذه الصفة تحملنا على الشك إذ ليس فيها ما يساعدنا على البحث والتحقيق، لذلك لا نعتمد عليها.

وقد حاصرهم رسول الله خمس عشرة ليلة لا يطلع منهم أحد حتى نزلوا على حكمه فكتفوا وهو يريد قتلهم ويبلغ عددهم 400، فقام إليه عبد الله بن أبي ابن سلول حين أمكنه الله منهم - وكانوا حلفاءه وحلفاء عبادة بن الصامت - فقال: يا محمد أحسن في موالي فأبطأ عليه النبي فقال: يا محمد، أحسن في موالي، فأعرض عنه النبي فأدخل يده في جيب درع رسول الله فقال رسول الله «أرسلني» وغضب حتى رأوا في وجهه ظلالا ثم قال: «ويحك أرسلني»، قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن إلى موالي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع منعوني من الأسود والأحمر تحصدهم في غداة واحدة وإني والله لا آمن وأخشى الدوائر، فقال رسول الله «هم لك لا بارك الله لك فيهم»، وعن عمر بن قتادة أنه قال: «خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم فأرسلوهم»، ثم أمر بإجلائهم وغنّم الله عز وجل رسوله والمسلمين ما كان لهم من مالٍ ولم تكن لهم أرضون إنما كانوا صاغة فأخذ رسول الله منهم سلاحا كثيرا وآلة صياغتهم، وكان الذي ولي إخراجهم من المدينة بذراريهم، عبادة بن الصامت فمضى بهم حتى بلغ ذباب وهو يقول الشرف الأبعد الأقصى فالأقصى، وكان رسول الله استخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر.

وقد استغرق خروجهم ثلاثة أيام وذهبوا إلى أذرعات لم يدر الحول عليهم حتى هلكوا بدعوته في قوله لابن أبي: «لا بارك الله لك فيهم»، وكان عددهم 400 حاسر و 300 دارع، فسألوا رسول الله أن يخلي سبيلهم وأن يجلوا من المدينة وأن لهم النساء والذرية ويجعلوا بقية الأموال للنبيّ ومنها الحلقة التي هي السلاح، ولم يكن لهم نخيل ولا أرض تزرع فصالحهم على ذلك فنزلوا فخُمّست أموالهم، جعل منها أربعة أخماس للمؤمنين المجاهدين وخمسا له فكان أول خمس قبضه رسول الله، وقد وجد في منازلهم سلاح كثير فأخذ رسول الله من سلاحهم ثلاث قسي قوسا تدعى - الكتوم - لا يسمع لها صوت إذ رمى بها كسرت بأحد، وقوسا تدعى - الروحاء - وقوسا تدعى - البيضاء - وأخذ درعين، درعا يقال لها - السغدية - يقال إنها درع داود التي لبسها حين قتل جالوت والأخرى يُقال لها - فضة - وثلاثة أرماح وثلاثة أسياف، ووهب درعا لمحمد بن مسلمة ودرعا لسعد بن معاذ وكان لواء رسول الله يوم بني قينقاع لواء أبيض مع حمزة بن عبد المطلب.

غزوة السويق

غزا أبو سفيان بن حرب غزوة السويق في ذي الحجة من السنة الثانية من الهجرة - إبريل 624 م - وولي تلك الحجة المشركون من تلك السنة، وكان أبو سفيان حين رجع إلى مكة نذر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة أي لا يأتي النساء حتى يغزو محمدا فخرج في مائتي راكب من قريش ليبر بيمينه، فسلك النجدية حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له نيب من المدينة على بريد أو نحوه، ثم خرج من الليل حتى أتى بني النضير ليلا، فأتى حُييّ بن أخطب وهو من رؤساء بني النضير، وهو أبو صفية أم المؤمنين، فضرب عليه بابه فأبى أن يفتح له وخافه فانصرف عنه إلى سلام بن مِشكم وكان سيد بني النضير في زمانه وصاحب كنزهم فاستأذن عليه فأذن له فقراه وسقاه خمرا وبطن له من خير الناس ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى أصحابه فبعث رجالا من قريش إلى المدينة فأتوا ناحية منها يقال لها العريض فخرقوا أصوارا من نخل بها ووجدوا بها معبد بن عمرو الأنصاري وحليفا له في حرث لهما فقتلوهما ثم انصرفوا راجعين ونذر بهم الناس.

فخرج رسول الله في طلبهم في 200 من المهاجرين والأنصار واستعمل على المدينة بشير ابن عبد المنذر - وهو أبو لبابة - حتى بلغ قرقرة الكُدر، ثم انصرف راجعا وقد فاته أبو سفيان وأصحابه وقد رأوا أزوادا من أزواد القوم قد طرحوها في الحرث يتخففون منها للنجاة، فقال المسلمون حين رجع بهم رسول الله يا رسول الله أتطمع لنا أن تكون غزوة؟ قال: «نعم».

وإنما سُميت «غزوة السَّويق» لأن أكثر ما طرح القوم من أزوادهم «السويق» فرجع المسلمون بسويق كثير فسُميت - غزوة السويق -.

والظاهر أن أبا سفيان أراد بهذه الغزوة أن يبر بيمينه فقط، لأنه لا يُتصور أنه كان يريد بهذه القوة الصغيرة - 200 راكب - الانتصار على المسلمين في هذه الغزوة بعد أن شاهد قوتهم في غزوة بدر، لذلك كانت هذه مناوشة لا قيمة لها.

غزوة ذي أمر وهي غزوة غطفان

لما رجع رسول الله من غزوة السويق، أقام بالمدينة بقية ذي الحجة أو قريبا منها ثم غزا نجدا يريد غَطَفان وهي غزوة ذي أمَر لأن جمعا من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا بذي أمر يريدون الإغارة، جمعهم دُعْثُور بن الحارث المحاربي، فخرج رسول الله في 450 رجلا واستعمل على المدينة عثمان بن عفان فلما سمعوا بمجيئه هربوا في رؤوس الجبال فرجع رسول الله ولم يلق كيدا وأقام بنجد صفرا كله أو قريبا من ذلك، وأصاب المسلمون رجلا منهم يقال له جبار الثعلبي فدعاه رسول الله إلى الإسلام فأسلم وضمه إلى بلال ليعلمه الشريعة الإسلامية كما هو دأبه من العناية بتعليم المسلمين وفي هذه الغزوة أسلم دعثور بمعجزة من النبي مع أنه هو الذي جمع قومه لمحاربته وكان سيدا شجاعا وبعد أن أسلم ذهب إلى قومه ودعاهم إلى الإسلام فاهتدى به خلق كثير.

زواج أم كلثوم ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم

أم كلثوم، ابنة رسول الله من خديجة رضي الله عنها وهي أصغر سنا من رقية لأن رسول الله زوّج رقية من عثمان فلما توفيت زوَّجه أم كلثوم وما كان ليزوَّج الصغرى ويترك الكبرى، وكان رسول الله زوَّج رقية وأم كلثوم من عتبة وعتيبة ابني أبي لهب فلما أنزل الله عز وجل: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ} (المسد: 1)، قال أبو لهب لابنيه: رأسي من رؤوسكما حرام إن لم تطلقا ابنتي محمد، وقالت أم جميل أمهما: «حمالة الحطب» بنت حرب بن أمية لابنيها: إن رقية وأم كلثوم قد صبأتا، فطلقاهما ففعلا فطلقاهما قبل الدخول بها، فزوّج النبي رقية من عثمان، فلما توفيت زوَّجه أم كلثوم رضي الله عنهم، وكان نكاحه إياها في ربيع الأول من سنة ثلاث وبنى بها في جمادى الآخرة من السنة ولم تلد منه ولدا وتوفيت سنة أربع وصلى عليها رسول الله.

زواج حفصة

في شعبان من هذه السنة تزوّج رسول الله بحفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بعد أن انقضت عدتها من زوجها خُنَيْس بن حذاقة، قال عمر رضي الله عنه: ولدت حفصة وقريش تبني البيت قبل مبعث النبي بخمس سنين.

وقد كان عمر رضي الله عنه عرض حفصة ابنته على أبي بكر فلم يجبه بشيء، وعرضها على عثمان فلم يجبه بشيء فقال عمر: يا رسول الله قد عرضت حفصة على عثمان فأعرض عني، فقال رسول الله «إن الله قد زوّج عثمان خيرا من ابنتك وزوَّج ابنتك خيرا من عثمان»، فتزوج عثمان أم كلثوم وتزوج رسول الله حفصة وكان عمرها 20 عاما.

وتزوج رسول الله حفصة سنة 3 بعد عائشة وطلقها تطليقة فبلغ ذلك عمر فحثا التراب على رأسه وقال: ما يعبأ الله بعمر وابنته ثم ارتجعها رسول الله، وتوفيت سنة 41 هـ في زمن معاوية.

سرية زيد بن حارثة

سرية زيد بن حارثة إلى القَرْد - ماء من مياه نجد - وسببها أن قريشا خافوا من طريقهم التي يسلكونها إلى الشام حين كان من وقعة بدر ما كان فسلكوا طريق العراق فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وحويطب بن عبد العزى وكلهم أسلموا عام الفتح ومعهم فضة كثيرة، فبعث رسول الله زيد بن حارثة رضي الله عنه في 100 راكب فلقيهم على ذلك الماء فأصاب العير وما فيها وهرب الرجال، فقدم بالعير على رسول الله فخمسها فبلغت قيمة الخمس، عشرين ألف درهم، وكانت هذه السرية في جمادى الآخرة من السنة الثالثة من الهجرة - سبتمبر سنة 624 م -.

قتل كعب بن الأشرف

كعب بن الأشرف اليهودي كان أبوه عربيا من بني نبهان، أصاب دما في الجاهلية فأتى المدينة فحالف بني النضير فشرف فيهم وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق فولدت له كعبا، وكان طويلا جسيما ذا بطن وهامة، شاعرا مجيدا، ساد يهود الحجاز بكثرة ماله فكان يعطي أحبار يهود ويصلهم، وكان يهجو رسول الله في أشعاره ويحرض كفار قريش على قتاله، وكان من عداوته أنه لما أصيب أصحاب بدر، قدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية، بشيرين بعثهما رسول الله إلى من بالمدينة من المسلمين يخبرانهم بفتح الله عز وجل عليه وقتل من قتل وأسر من أسر من المشركين، كبر عليه ذلك وقال: أحق هذا؟ أترون أن محمدا قتل هؤلاء الذين يسمّي هذان الرجلان - البشيران - وهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء لبطن الأرض خير من ظهرها، فلما تيقن الخبر ورأى الأسرى خرج إلى قريش يبكي قتلاهم ويحرِّض بأشعاره على قتال النبي وكان ينتقل من قوم إلى قوم وأخباره تصل إلى النبي فيذكره لحسان فيهجوه، وقال رسول الله «اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت»، ثم رجع إلى المدينة فتغزل في نساء المسلمين وذكرهن بسوء وأبى أن ينزع عن أداه، وكان يرمي إلى إحداث ثورة في المدينة ضد رسول الله فغضب رسول الله وقال: «من لي بابن الأشرف»، فقال محمد بن مسلمة أخو بني عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله هو خالي، أنا أقتله، قال: «فافعل إن قدرت على ذلك»، فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق به نفسه، فذكر ذلك لرسول الله فدعاه فقال له: «لم تركت الطعام والشراب؟» فقال: يا رسول الله قلت لك قولا لا أدري أأفينَّ لك به أم لا؟ قال: «إنما عليك الجهد».

ثم أتى أبا نائلة، وكان أخا لكعب بن الأشرف من الرضاعة وكان شاعرا وعباد بن بشر والحارث بن أوس وأخبرهم بما وعد به رسول الله من قتل ابن الأشرف، فأجابوه وقالوا كلنا نقتله، ثم أتوا رسول الله وقالوا: يا رسول الله لا بد لنا أن نقال، قال: قولوا ما بدا لكم فأنتم في حِلّ من ذلك، ومعنى ذلك أنهم استأذنوه أن يقولوا قولا غير مطابق للواقع يسر كعبا ليتوصلوا به إلى قتله وكان لا بد لهم من التماس الحيلة لأنه كان يقيم في حصن منيع خارج المدينة، فأباح لهم الكذب لأنه من خِدع الحرب، فجاء محمد بن مسلمة، كعب بن الأشرف فقال: إن هذا الرجل - يعني النبي ـ قد سألنا صدقة ونحن ما نجد ما نأكل قد عَنَّانا وإني قد أتيتك أستسلفك، قال كعب: وأيضا والله لَتَمَلُّنَّه، قال: إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه وقد أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين، قال: ألم يأن لكم أن تعرفوا ما أنتم عليه من الباطل؟ ثم أجابهم بأنه يسلفهم، وقال: ارهنوني، قالوا: أي شيء تريد؟ قال: ارهنوني نساءكم قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فارهنوني أبناءكم، قالوا: وكيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم فيقال رهن وسق أو وسقين؟ هذا عار علينا ولكن نرهنك الّلأمة يعني السلاح مع علمك بحاجتنا إليه، قال: نعم، وإنما قالوا لئلا ينكر عليهم مجيئهم إليه بالسلاح فواعده أن يأتيه وجاءه أيضا أبو نائلة وقال له: ويحك يا ابن الأشرف إني قد جئتك لحاجة أريد أن أذكرها لك فاكتم عني، فقال: أفعل، قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة وقطعت عنا السبل حتى جاع العيال وجهدت الأنفس وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا، فقال كعب: أنا ابن الأشرف، أما والله لقد كنت أخبرك يا ابن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول، فقال: إني أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك وإن معي أصحابا على مثل رأيي وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن إليهم ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء، فقال: إن في الحلقة لوفاء، وكان أبو نائلة أخا لكعب من الرضاعة ومحمد بن مسلمة ابن أخيه من الرضاعة، فجاءه محمد بن مسلمة وأبو نائلة ومعهما عباد بن بشر والحارث بن أوس بن معاذ وأبو عبس بن جبر وكلهم من الأوس، ولما فارقوا النبي مشى معهم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم وقال: انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم، ثم رجع إلى بيته وكان ذلك بالليل وكانت الليلة مقمرة، فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه وكان حديث عهد بعرس فناداه أبو نائلة ثم بقية أصحابه فعرفهم ووثب في ملحفته فأخذته امرأته بناحيتها وقالت: إنك امرؤ مُحارب وإن أصحاب الحروب لا ينزلون في مثل هذه الساعة، قال لها: إنه لأب نائلة لو وجدني نائما ما أيقظني، فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر، فقال لها كعب: لو يدعى الفتى لطعنة لأجاب، فنزل فتحدث معهم ساعة وتحدثوا معه ثم قالوا: هل لك يا ابن الأشرف أن تمشي إلى شعب العجوز نتحدث به بقية ليلتنا؟ فقال: إن شئتم، فخرجوا يتماشون فمشوا ساعة، ثم إن أبا نائلة أدخل يده في باطن رأسه ثم شم يده وقال: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها وأمسكه من شعره وقال: اضربوا عدو الله فضربوه بأسيافهم فوقع على الأرض فجزوا رأسه فحملوه في مخلاة كانت معهم إلى رسول الله، وكان ذلك في السنة الثالثة من الهجرة شهر ربيع الأول (يوليه سنة 624م).

هذه الحادثة قد أوقعت الرعب في نفوس اليهود جميعا، فقد قال رسول الله «من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه»، فلم يخرج من عظمائهم أحد من شدة خوفهم.

قتل ابن سنينة

ولما سمع مُحيّصة بن مسعود ذلك من رسول الله وثب على ابن سُنَينَة اليهودي وهو من تجار يهود فقتله، فقال له أخوه حُوَيّصة وهو مشرك: يا عدو الله قتلته أما والله لرب شحم في بطنك من ماله وضربه، فقال محيّصة: لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لقتلتك، قال: فوالله لئن كان لأول إسلام حويصة فقال: إن دينا قد بلغ بك ما أرى لعجب، ثم أسلم.

هذه قصة مقتل كعب بن الأشرف ذكرنا ملخصها من أوثق المصادر التاريخية، وقد استنكر بعض الإفرنج الذين كتبوا سيرة الرسول اغتيال كعب بأمر رسول الله لكن كعبا هو الذي أساء إلى نفسه إذ قد ساقه الغرور إلى ارتكاب متن الشطط بعداء النبي معتمدا على ثروته وجاهه وشعره، فإنه بعد أن عاهد النبيَّ مع من معاهده من اليهود نقض العهد ونشط يهجو رسول الله والمسلمين بأشعاره، ورحل إلى مكة يبث الدعوة للقتال فإذا ما عاد إلى المدينة تغزل بنساء المسلمين ولا ريب أن ذلك كله يوغر الصدور والعرب لا يغفرون لمن يرمي نساءهم بسوء، ومن هذا نرى أنه كان عرضة للقتل بيد كل من يغار على حريمه ودينه من المسلمين.

ذكرنا مقتل كعب بن الأشرف قبل موقعه أُحُد لأن سرية محمد بن مسلمة كانت في شهر ربيع الأول من السنة الثالثة، وغزوة أُحُد في شوال من هذه السنة، ذلك أن كعبا لما جاء البشيران اللذان أرسلهما رسول الله ليزفا إلى المسلمين خبر انتصارهم في بدر وقتل من قُتل وأسر من أُسر من أشراف قريش لم يصدقهما، فلما سأَل الناس وتثبت من صحة الخبر رحل إلى مكة وأخذ يحرض قريشا على قتال المسلمين بأَشعاره طارقا أبوابهم ثم رجع إلى المدينة يشبب بنساء المسلمين فأَمر رسول الله بقتله فقُتل وقد حدث ذلك بعد وقعة بدر وقبل أُحُد إذ الذي دفعه إلى الرحيل إلى مكة وإظهار عدائه شدة تغيّظه من انهزام المشركين وانتصار المسلمين ذلك الانتصار المبين، وقد ذكر ابن هشام وابن الأثير وابن سعد في «طبقاته» وفي كتاب «السير» للإمام أبي العباس مقتل كعب قبل أُحُد وكذلك أورده الطبري قبل أُحُد مع حوادث السنة الثالثة للهجرة وقد نقل عن الواقدي أن النبي وجّه من وجه إليه - أي كعب - في شهر ربيع الأول من هذه السنة - الثالثة - وأرخ مستر موير هذه الحادثة يوليه سنة 624 - السنة الثالثة من الهجرة -.

ومن الغريب أن الأستاذ ولفنسون يغمض عينيه عن هذه المراجع المهمة في رسالته (تاريخ اليهود) ويتشبث برأي اليعقوبي ويعتبره صحيحا لأن اليعقوبي يقول إن النبي أمر بقتل كعب بن الأشرف بعد يوم أُحُد أي في ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة، لكن ما الذي ألجأ الأستاذ إلى ذلك؟ إن الذي ألجأه إلى ذلك نفي التهمة عن كعب بن الأشرف وهي تحريضه قريشا على قتال المسلمين وتشبيه بنسائهم فاضطر إلى تكذيب رواية ابن هشام وغيره من كبار المؤرخين.

فلماذا قُتل كعب إذن؟.

قال الأستاذ: إنه قتل في السنة الرابعة قبيل محاصرة النبي لبني النضير وكان قتله بمثابة إعلان حرب عليهم فإنه كان زعيما من زعمائهم.

وبذلك نفى الأستاذ ولفنسون التهمة عن كعب وجوز على النبي قتل زعيم من زعماء بني النضير لا لشيء غير إعلان الحرب عليهم.

غزوة أحد يوم السبت 15 شوال سنة 3 هـ

يناير سنة 625 م

أُحُد جبل مشهور بالمدينة في شماليها الغربي بينه وبين المدينة ثلاثة أميال، سُمي بذلك لتوحده وانفراده عن غيره من الجبال التي هناك وهو الموضع الذي دُفن فيه هارون أخو موسى عليهما السلام.

وسببها أن قريشا لما أصابهم يوم بدر ما أصابهم مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، ومشى رجال آخرون من أشراف قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم، فكلموا أبا سفيان وكل من له تجارة في تلك العير التي كانت سببا في وقعة بدر، وكانت تلك العير موقوفة بدار الندوة ولم تعط لأربابها، فقالوا: إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا عمن أصاب منا ونحن طيبو النفس أن تجهزوا بربح هذه العير جيشنا إلى محمد.

فقال أبو سفيان: وأنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي فجعلوا لذلك ربح المال فسلم لأهل العير رؤوس أموالهم وكانت 50.000 دينار وأخرجوا أرباحها وكان الربح دينارا لكل دينار، وتجهزت قريش ومن والاهم من قبائل كنانة وتهامة، وقال صفوان بن أمية لأبي عزة الجمحي: يا أبا عزة إنك رجل شاعر فأعنا بلسانك ولك عليَّ إن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر، فقال: إن محمدا قد منّ عليّ وأطلقني وأنا أسير في أسارى بدر فلا أريد أن أظاهر عليه، قال: بلى فأعنا بلسانك.

خرج أبو عزة ومسافع يستفزان الناس بأشعارهما، ودعا جبير بن مطعم غلاما له حبشيا يقذف بالحربة قلما يخطىء بها، فقال له: اخرج مع الناس فإن أنت قتلت حمزة بن عبد المطلب بعمّي طعيمة بن عدي فأنت حر، لأن حمزة هو الذي قتل طعيمة يوم بدر، وقيل: إن ابنة سيده طعيمة قالت له: إن قتلت محمدا أو حمزة أو عليا في أبي فإنى لا أرى في القوم كفئا له غيرهم، فأنت عتيق.

وكان أبو سفيان بن حرب قائدهم وكانت عدتهم 3000 فيهم 700 دارع ومعهم 200 فرس، وجملة النساء 17 امرأة معهن الدفوف والمعازف أي آلات الملاهي والخمور والبغايا وخرجت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان التي قُتل أبوها في غزوة بدر لتنتقم لأبيها وقالت:

نحن بنات طارق ** نمشي على النمارق

إن تقبلوا نعانق ** أو تدبروا نفارق

فراق غير وامق

وخرجت أم حكيم بنت طارق مع زوجها عكرمة وريطة بنت منبه السهمية مع زوجها عمرو بن العاص وغيرهن يبكين قتلى بدر - إذ البكاء دأب النساء - وينحن عليهم ويحرضن على القتال وعدم الهزيمة والفرار.

وكان خروجهم من مكة لخمس مضين من شوال، وكتب العباس للنبي وأخبره بجمعهم وخروجهم وأرادوه على الخروج معهم فأبى واعتذر بما لحقه يوم بدر ولم يساعدهم بشيء من المال، فجاء كتابه للنبي وهو بقباء وكان العباس أرسل الكتاب مع رجل من بني غفار، استأجره وشرط عليه أن يأتي المدينة في ثلاثة أيام بلياليها ففعل ذلك، فلما جاء الكتاب فك ختمه ودفعه لأُبيّ بن كعب فقرأه عليه.

وهذا مما يؤيد أن النبي كان أميا بمعنى أنه ما كان يعرف القراءة والكتابة وإلا لكان قرأ الكتاب بنفسه وكتم سره بدلا من أن يطلب من أُبيّ بن كعب تلاوته ثم يستكتمه.

ثم نزل على سعد بن الربيع فأَخبره بكتاب العباس فقال: والله إني لأرجو أن يكون خيرا فاستكتمه إياه، ولما خرج رسول الله من عنده، قالت له امرأته: ما قال لك رسول الله فقال لها: يا أم محمد ما أنت وذاك فقالت: قد سمعت ما قال وأخبرته بما قال له رسول الله فاسترجع وأخذ بيدها ولحق النبي وأخبره خبرها، وقال: يا رسول الله إني خفت أن يفشو الخبر فترى أني أنا المفشي له، وقد استكتمني إياه، فقال له رسول الله «خل عنها».

سارت قريش وهم 3000 رجل ومعهم الأحابيش الذين حالفوا قريشا وهم بنو المصطلق وبنو الهون بن خزيمة وخرج معهم أبو عامر الراهب في 70 فارسا.، وسماه رسول الله الفاسق بدلا عن الراهب وابنه حنظلة من فضلاء الصحابة وهو من المستشهدين بأُحُد، اجتمع الأحابيش عند حبيش وهو جبل بأسفل مكة وتحالفوا على أنهم مع قريش يدا واحدة ما سجا ليل ووضح نهار وما رسا حبيش مكانه.

سارت قريش حتى نزلوا ببطن الوادي من قبل أُحُد مقابل المدينة بذي الحليفة، وكان وصولهم يوم الأربعاء ثاني عشر شوال فأقاموا به الأربعاء والخميس والجمعة، وتشاور المسلمون في الخروج من المدينة، وكان رأي عبد الله ابن أُبي بن سلول رأى النبي فإنه كان يرى عدم الخروج منها، ولكن ألحَّ عليه بعضُ الصحابة فخرج فأصبح بالشعب من أُحُد يوم السبت للنصف من شوال.

وقد رأى النبي رؤيا قبل خروجه، وكانت ليلة الجمعة، فلما أصبح قال: «والله إني قد رأيت خيرا رأيت بَقَرا تُذبح ورأيت في ذباب سيفي - طرفة - ثلما ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة وكأني مردف كبشا، فأما البقر فناس من أصحابي يقتلون، وأما الثلم الذي رأيت في سيفي فهو رجل من أهل بيتي يُقتل، وأولت الدرع الحصينة المدينة، وأولت الكبش بأني أقتل صاحب الكتيبة»، وقد صدق الله رؤياه فكان الرجل الذي من أهل بيته «حمزة» سيد الشهداء، وقتل عليّ رضي الله عنه «طلحة بن عثمان العبدري» صاحب لواء المشركين، فهو صاحب الكتيبة وكبش القوم سيدهم وكان الذي بسيفه ما أصاب وجهه الشريف في الغزوة كما سيأتي ذكره.

قال رسول الله لأصحابه: «امكثوا بالمدينة، فإن دخل القوم المدينة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت وكانوا قد شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية فهي كالحصن»، وكان ذلك رأي أكابر المهاجرين والأنصار وأرسل إلى عبد الله بن أبيّ بن سلول يستشيره تألفا له ولم يستشره قبل ذلك، فكان رأي عبد الله مع رأيه فقال رجال من المسلمين لم يحضروا بدرا وأسفوا على ما فاتهم من مشهدها: يا رسول الله، إنا كنا نتمنى هذا اليوم، أخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم ووافقهم حمزة بن عبد المطلب.

فقال ابن أبيّ: يا رسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا ما أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منهم، فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا، أقاموا بشر مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا، رجعوا خائبين كما جاءوا.

وقال حمزة بن عبد المطلب وسعد بن عبادة والنعمان بن مالك وطائفة من الأنصار: إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج جبنا عن لقائهم: فيكون هذا جرأة منهم علينا، وزاد حمزة فقال: والذي أنزل عليك الكتاب، لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة، وقال النعمان: يا رسول الله لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلنها.

فترجح عنده موافقة رأيهم وإن كرهه ابتداء ليقضي الله أمرا كان مفعولا ولم يكن قد أُوحِيَ إليه في شأن البقاء أو الخروج فأَنفذ مشورتهم.

صلى رسول الله بالناس الجمعة ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد وأخبرهم بأن النصر لهم ما صبروا وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم ثم صلى بالناس العصر، ثم دخل بيته ومعه صاحباه فعمماه وألبساه وتقلد السيف وخرج وقد لبس لأمته - درعه، وقيل: سلاحه - وألقى الترس في ظهره وأخذ قناته بيده.

اصطف الناس ينتظرون خروجه فقال لهم سعد بن مُعاذ رضي الله عنه وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله على الخروج فردوا الأمر إليه، وكان سعد بن معاذ سيد الأوس وهو في الأنصار كالصدّيق في المهاجرين.

ولما خرج رسول الله متقلدا سيفه، ندم الطالبون لخروجه على ما صنعوا وقالوا ما كان ينبغي لنا أن نخالفك، فاصنع ما شئت، وفي رواية: فإن شئت فاقعد، فقال: ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه فخرج يوم الجمعة وأصبح بالشعب من أُحد يوم السبت للنصف من شوال ومشى على رجليه ولما خالف رسول الله رأي ابن أُبيّ بخروجه إلى القتال، شق عليه ذلك، وقال: أطاع الولدان وعصاني.

واستعمل على المدينة «ابن أم مكتوم» رضي الله عنه، وعقد ثلاثة ألوية، لواء للأوس وجعله بيد أسيد بن حضير.، ولواء للخزرج وجعله بيد الحباب بن المنذر.، ولواء المهاجرين وجعله بيد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم.

وكان في المسلمين مائة دارع - الدارع، لابس الدرع - وركب فرسه وقيل: خرج ماشيا وخرج السعدان أمامه يعدوان - سعد بن معاذ وسعد بن عبادة - وكانا دارعين، ورد جماعة من المسلمين نحو سبعة عشر لصغر سنهم منهم: أسامة بن زيد وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري والنعمان بن بشير ورافع بن خديج وسمرة بن جندب، ثم أجاز رافع بن خديج لما قيل إنه رام، فخرج وأصيب بسهم في ترقوته فنزع السهم وبقي النصل إلى أن مات.

ورأى جماعة من اليهود مع عبد الله بن أبيّ يريدون الخروج فقال: «أوَقد أسلموا؟» قالوا: لا يا رسول الله، قال: «مروهم فليرجعوا، فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين»، وكان المسلمون الخارجون معه 1000 ثم انخذل عبد الله بن أبيّ ورجع هو ومن معه من المنافقين وكانوا 300 فبقي المسلمون 700 وكان عدد المشركين 3000 ولم يكن مع المسلمين يومئذ إلا فرسان: فرس لرسول الله وفرس لأبي بردة.

وقال ابن أبيّ حين أراد الرجوع: عصاني وأطاع الولدان ومن لا رأي به، علامَ نقتل أنفسنا؟ ارجعوا أيها الناس.

لما انخذل ابن أبيّ ومن معه سقط في أيدي طائفتين من المسلمين وهمّتا أن تفشلا وهما: بنو حارثة من الخزرج وبنو سلمة من الأوس.

ثم مضى رسول الله حتى نزل الشعب من أُحد في عدوة الوادي في الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أُحد وصلى الصبح بأصحابه صفوفا، ثم اصطف المسلمون بالسبخة وكان على ميمنة خيل المشركين خالد بن الوليد وعلى مسيرتها عكرمة بن أبي جهل وعلى المشاة صفوان بن أمية، وقيل: عمرو بن العاص.

وقال النبي للزبير بن العوام: «استقبل خالدا وكن بإزائه»، وأمر جماعة آخرين أن يكونوا بإزاء خيل أخرى للمشركين ولم يكن مع المسلمين إلا فرس أو فرسان، وجعل النبي على الرماة عبد الله بن جبير بن النعمان الأوسي وهو أخو خوات بن جبير، وكان الرماة خمسين رجلا، فأقامهم النبي على جبل صغير مرتفع، وقال لهم:

«احموا ظهورنا، لا يأتونا من خلفنا، وارشقوهم بالنبل فإن الخيل لا تقدم على النبل، إنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم».

وفي رواية قال لهم رسول الله:

«إن رأيتمونا تخطفنا الطير، فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم أو ظاهرناهم وهم قتلى فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم».

ثم عرض رسول الله سيفا وقال: «من يأخذ هذا السيف بحقه»؟ فقام رجل وبسطوا أيديهم كل إنسان منهم يقول: أنا يا رسول الله، منهم أبو بكر الصديق وعمر وعليّ والزبير، فأمسكه عنهم ولم يعطه لهم حتى قام إليه - أبو دجانة - فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: أن تضرب في وجه العدو حتى ينحني، قال: أنا آخذه يا رسول الله، قال: لعلك إن أعطيتكه تقاتل في الكيّول - مؤخر الصفوف -، قال: لا يا رسول الله، فأعطاه إياه وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب، فلما رآه يتبختر قال: إنها لمشية يبغضها الله تعالى إلا في مثل هذا الموطن، فحمل أبو دجانة لا يلقى أحدا من المشركين إلا قتله، وكان إذا كلّ السيف شحذه بالحجارة ثم يضرب به العدو.

ولما اصطف القوم نادى أبو سفيان: يا معشر الأوس والخزرج خلوا بيننا وبين عمنا وننصرف عنكم، فشتموه أقبح شتم ولعنوه أشد اللعن.

وخرج طلحة بن أبي طلحة وكان بيده لواء المشركين فطلب المبارزة مرارا فلم يخرج إليه أحد، فخرج إليه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فضربه فقطع رجليه فوقع على الأرض وبدت عورته فرجع عنه ولم يجهز عليه، فأخذ لواء المشركين أخو طلحة وهو عثمان بن أبي طلحة فحمل عليه حمزة فقطع يده وكتفه، فأخذه أخو عثمان وأخو طلحة وهو أبو سعيد بن أبي طلحة فرماه سعد بن أبي وقاص فأصاب حنجرته فقتله، فحمله مسافع بن طلحة ابن أبي طلحة الذي قتله عليّ رضي الله عنه فرماه عاصم أيضا فقتله، ثم حمل اللواء كلاب بن طلحة فقتله الزبير فحمله جلاس بن طلحة فقتله طلحة بن عبيد الله ثم حمله أرطأة بن شرحبيل فقتله عليّ رضي الله عنه ثم حمله أبو زيد بن عمرو فقتله قزمان، فحمله ولد لشرحبيل بن هاشم فقتله قزمان أيضا، ثم حمله صواب غلامهم وكان عبدا حبشيا فقتله عليٌّ، ثم لم يزل اللواء طريحا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لقريش فاستداروا حوله.

قد كان لواء المشركين شؤما عليهم، فكلما حمله أحد قُتل وهكذا قُتل أحد عشر رجلا حملوا اللواء بالتوالي وكان اهتمام المسلمين موجها إلى حامل العلم بنوع خاص لأنه كبش الكتيبة، ونكب بحمل العلم كل من مسافع والحارث وكلاب وجلاس وهؤلاء الأربعة أولاد طلحة بن أبي طلحة فكلهم قُتلوا كأبيهم وعمهم وهما عثمان وأبو سعيد.

ولما قُتل أصحاب اللواء صاروا كتائب متفرقة فجاش المسلمون فيهم ضربا حتى أجهضوهم وأزالوهم عن أمكنتهم وكان شعار المسلمين يومئذ: - أمت أمت - وشعار الكفار: - يا للعزى يا لهبل -.

الكرة على المسلمين

انهزم المشركون ووقع المسلمون ينتهبون المعسكر ويأخذون ما فيه من الغنائم واشتغلوا عن الحرب، فقال أصحاب عبد الله بن جبير وهم الرماة الذين أمرهم النبي بالبقاء بمكانهم «الغنيمة» أي قوم قد غلب أصحابكم، فما تنتظرون؟ ومعنى ذلك: أن الرماة طمعوا في الغنيمة ناسين أمر القائد العام وهو رسول الله فإنه أمرهم بالثبات في مراكزهم إذ قال لهم: إنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، فقال لهم قائدهم عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله يعني قوله: لا تبرحوا، فأبوا أن يطيعوه، وقالوا: والله لنأتين الناس ولنصيبن من الغنيمة فإن المشركين قد انهزموا فما مقامنا ها هنا؟ وقد ظن هؤلاء أن الحرب قد انتهت وأن قريشا قد هُزمت وقد ثبت عبد الله بن جبير في مكانه وثبت معه دون العشرة.

فلما توجه الرماة إلى محل الغنيمة، كرّ المشركون راجعين، ونظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل الذي كان فيه الرماة وقلة أهله التف بالخيل من وراء الجبل وتبعه عكرمة بن أبي جهل فحملوا على من بقي من الرماة فقتلوهم وقتلوا أميرهم عبد الله بن جبير ومثلوا به ووقعت الهزيمة في المسلمين بعد مدة وجيزة لأنهم خالفوا ما نهاهم عنه رسول الله فعوقبوا لمخالفته.

ووقع الاختلاط في جيش المسلمين وارتبكوا وصار يضرب بعضهم بعضا.

ثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم

ثبت رسول الله ولم يفارق مكانه الذي وصل إليه وقت انهزام المشركين ولم تزل قدمه شبرا واحدا عن موقفه مع أن الاختلاط كان شديدا حتى فقد المسلمون التمييز بينهم وبين أعدائهم وترك المسلمون شعارهم الذي يتعارفون به وهو: (أمت أمت) فوقع القتل في المسلمين بعضهم في بعض، وحافظ المشركون على شعارهم، ومما زاد في ارتباك المسلمين أن رجلا اسمه ابنُ قمئة الليثي قتل مصعب بن عمير وكان يشبه النبي إذا لبس لأمته فظن أنه قتل رسول الله فأذاع ذلك وكان مصعب يذب عن رسول الله وكان عدة الشهداء من المسلمين 70 رجلا وعدة القتلى من المشركين 23 رجلا، وكان بين القتلى حنظلة بن أبي سفيان، ووصل العدو إلى رسول الله وأصابته حجارتهم حتى وقع وأُغمي عليه وخدشت ركبتاه، فأخذ عليّ بيده ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما، وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى وشُج في وجهه وكلمت شفته السفلى وكُسرت الخوذة على رأسه، وامتصّ مالك بن سنان الخدري دم رسول الله ثم ازدرده.

ثم أراد رسول الله أن يعلو الصخرة التي في الشعب، فلما ذهب لينهض لم يستطع لأنه ضعف لكثرة ما خرج من دم رأسه الشريف ووجهه مع كونه عليه درعان فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض به حتى استوى عليها، وعطش عطشا شديدا، فخرج محمد بن مسلمة رضي الله عنه يطلب له ماء فلم يجد، فذهب إلى مياه فأتى منها بماء عذب، فشرب رسول الله ودعا له بخير.

وفي بعض الروايات: أن نساء المدينة خرجن وفيهن فاطمة بنت رسول الله، فلما لقيت رسول الله اعتنقته وجعلت تغسل جراحاته وعليّ رضي الله عنه يسكب الماء فتزايد الدم، فلما رأت ذلك أخذت شيئا من حصير مصنوع من البردى فأحرقته بالنار حتى صار رمادا، فأخذت ذلك الرماد وكمدته حتى لصق بالجرح فاستمسك الدم.

المنهزمون من المسلمين

وصار المسلمون ثلاث فرق: فرقة استمروا في الهزيمة إلى قرب المدينة فما رجعوا حتى انفض القتال، وهم الذين نزل فيهم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَنُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} (آل عمران: 155).

وفرقة صاروا حيارى لما سمعوا أن النبي قد قُتل، فصارت غاية الواحد منهم أن يدافع عن نفسه أو يواصل القتال إلى أن يُقتل وهم أكثر الصحابة.

وفرقة ثبتت مع النبي ثم تراجعت إليه الفرقة الثانية شيئا فشيئا لما عرفوا أنه حيّ، وكان في جملة من انهزم عثمان بن عفان، والوليد بن عقبة، وخارجة بن زيد، ورفاعة بن معلى، فأقاموا ثلاثة أيام ثم رجعوا إلى رسول الله.

قال موسى بن عقبة: لما غاب النبي عن أعين بعض القوم واختلط بعضهم ببعض وسمعوا الصارخ، قال رجال من المنافقين: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا، وقال بعض منهم: لو كان نبيا ما قُتل فارجعوا إلى دينكم الأول، وفي ذلك أنزل الله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَبِكُمْ} (آل عمران: 144)، وقال رجل منهم: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أُبي ليستأمن لنا من أبي سفيان، يا قوم إن محمدا قد قُتل فارجعوا إلى قومكم ليؤمنوكم قبل أن يأتيكم الكفار فيقتلوكم فإنهم يدخلون البيوت، فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك رضي الله عنهما: يا قوم إن كان محمد قد قُتل فإن رب محمد لم يُقتل، فقاتلوا عليه، وشهد له بهذه المقالة عند النبي سعد بن معاذ رضي الله عنه ووافق أنس بن النضر جماعة كثيرون على هذه المقالة وهم المؤمنون أهل الصدق واليقين الذين تمكن الإيمان من قلوبهم.

وروى ابن إسحاق أن أنس بن النضر، عم أنس بن مالك رضي الله عنهما جاء إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، فقال: إن كان قد قُتل - يعني محمدا - فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه.ثم استقبل العدو فقاتل حتى قُتل رضي الله عنه، قال أنس: ولقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة، فما عرفه إلا أخته، عرفته ببنانه - أي بأصابعه -.

وفي البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أُحد وانكشف المسلمون، قال: «اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني - المشركين» ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: «يا سعد الجنة ورب النضر إني أجد ريحها دون أحد»، قال سعد: فما أستطيع أن أصف ما صنع.

وقد مثل به المشركون، وما أفظع التمثل بالقتلى لكن هؤلاء قد أعماهم حب الانتقام.

وممن قال مثل مقالة أنس بن النضر، ثابت بن الدحداح رضي الله عنه فإنه قال: يا معشر الأنصار، إن كان محمد قد قُتل فإن الله حيٌّ لا يموت قاتلوا عن دينكم فإن الله مظفركم وناصركم، فنهض إليه نفر من الأنصار فحمل بهم على كتيبة فيها خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب، فحمل عليه خالد بن الوليد بالرمح فقتله وقتل من كان معه من الأنصار.

رسول الله ومن ثبت معه

ذكرنا أن رسول الله قد ثبت ولم يتزحزح عن موقفه عندما انهزم المسلمون واختلطوا وقتلوا وفرّ من فرّ منهم، قال ابن سعد: ما زال يرمي عن قوسه حتى صارت شظايا ويرمي بالحجر، وكان أقرب الناس إلى القوم، وهذا ما يؤيد أنه كان أشجعهم وأثبتهم، وجاء عن عليّ رضي الله عنه وغيره: كنا إذا اشتد البأس - أي حمى القتال - اتقينا برسول الله أي فيجعلونه في وجه القوم ويكونون خلفه.

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لما جال الناس عن رسول الله تلك الجولة يوم أُحد، قلت: أذود عن نفسي، فإما أن أستشهد وإما أن ألحق حتى ألقى رسول الله فبينا أنا كذلك إذا برجل محمّر وجهه ما أدري من هو، فأَقبل المشركون حتى قلت قد ركبوه فملأ يده من الحصى ثم رمى به في وجوههم فتنكبوا على أعقابهم القهقرى حتى أتوا الجبل، ففعل ذلك مرارا ولا أدري من هو، وبيني وبينه المقداد، فبينا أنا أريد أن أسأل المقداد عنه إذ قال المقداد: يا سعد هذا هو رسول الله يدعوك، فقلت: وأين هو؟ فأَشار إليه فقمت وكأنه لم يصبني شيء من الأذى وأجلسني أمامه وأقول: اللهم سهمك فارم به عدوك ورسول الله يقول: «اللهم استجب لسعد، اللهم سدد رميته وأجب دعوته» - فكان سعد مجاب الدعوة - حتى إذا فرغ النبل من كنانتي، نثر لي ما كان في كنانته وانكشف الناس عنه

وعن سعد رضي الله عنه قال: لقد رأيتني والنبي يناولني النبل ويقول: «إرم فداك أبي وأمي» حتى إنه ليناولني السهم ما له نصل فيقول: «إرم به»، وجاء أن سعدا رمى يوم أُحُد ألف سهم ما فيها سهم إلا ورسول الله يقول: «إرم فداك أبي وأمي»، ففداه ذلك اليوم ألف مرة، وعن علي رضي الله عنه قال: ما سمعت رسول الله قال: «فداك أبي وأمي» إلا لسعد رضي الله عنه - يعني يوم أُحد فلا ينافي أن النبي قال مثل ذلك للزبير رضي الله عنه يوم الخندق.

وثبت معه أربعة عشر: سبعة من المهاجرين وهم:

1 - أبو بكر الصديق.

2 - عمر بن الخطاب.

3 - عبد الرحمن بن عوف.

4 - سعد بن أبي وقاص.

5 - طلحة بن عبيد الله.

6 - الزبير بن العوام.

7 - أبو عبيدة بن الجراح.

أما عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقد صحت الأحاديث بأنه ممن ثبت، وبعض الرواة لم يذكر لأنه كان حامل اللواء بعد مصعب.

وسبعة من الأنصار وهم:

1 - أبو دجانة.

2 - الحباب بن المنذر.

3 - عاصم بن ثابت.

4 - الحارث بن الصمة.

5 - سهل بن حنيف.

6 - سعد بن معاذ.

7 - أسيد بن حضير.

وما زال النبي يرمي عن قوسه حتى اندقت سِيَتُها - والسية ما انعطف من طرفي القوس اللذين هما محل الوتر -، وفي رواية: حتى تقطع الوتر وبقي في يده قطعة قدر شبر.

شجاعة امرأة وثباتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

لما انكشف المسلمون واختلط أمرهم، ثبتت أم عمارة المازنية واسمها نسيبة وهي زوج زيد بن عاصم قالت: خرجت يوم أُحد لأنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء أسقي به الجرحى فانتهيت إلى رسول الله وهو في أصحابه والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون، انحزت إلى رسول الله فقمت أباشر القتال دونه وأذب عنه بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراحة إليّ، رُويَ أنه كان على عاتقها جرح أجوف له غور فقيل لها: من أصابك بهذا؟ قالت: ابن قمئة لما ولي الناس عن رسول الله أقبل ابن قمئة يقول: دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير رضي الله عنه فضربني هذه الضربة وضربته ضربات ولكن عدو الله كان عليه درعان.

وجاء في رواية: خرجت نسيبة يوم أُحد وزوجها زيد بن عاصم وابناها حبيب وعبد الله وقال لهم رسول الله بارك الله عليكم أهل بيت، فقالت له نسيبة رضي الله عنها: ادع الله أن نرافقك في الجنة، فقال: اللهم اجعلم رفقائي في الجنة، وعند ذلك قالت رضي الله عنها: ما أبالي ما أصابني من أمر الدنيا.

وقال في حقها: «ما التفت يمينا وشمالا يوم أُحد إلا ورأيتها تقاتل دوني»، وقد جُرحت رضي الله عنها اثني عشر جرحا ما بين طعنة برمح وضربة بسيف.

فهذه حقا شجاعة مدهشة لامرأة وقد تحملت ما أصابها من الجراح في سبيل الجهاد، وهو ما يعجز عن تحمله الرجال فضلا عن النساء، مع العلم بأن كثيرا قد فروا من القتال، لما أصابهم من الفزع والاختلاط، ويلاحظ أن المسلمين في قتالهم المشركين كانوا يرجون الاستشهاد كي يفوزوا بجنة الخلد، فما كانوا يبالون بحياتهم الدنيوية لأنها زائلة مشوبة بالأحزان والآلام، أما الآخرة فإنها دار بقاء ينعم فيها أهل الشهادة والصالحون، وكان النساء يحاربن مع الرجال ويضمدون الجراح.

وجاء في أسد الغابة: أن أم عمارة شهدت بيعة العقبة وشهدت أُحدا مع زوجها وابنيها وشهدت بيعة الرضوان وشهدت اليمامة فقاتلت حتى أصيبت يدها وجرحت يومئذ اثنتي عشرة جراحة، روى عنها عكرمة مولى ابن عباس أنها قالت للنبي أرى كل شيء للرجال، ما أرى النساء يذكرن بشيء، فنزل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَتِ} (الأحزاب: 35)، وبمثل هذه الروح انتصر المسلمون في جميع حروبهم وانتشر الإسلام.

إحدى المعجزات

لرسول الله معجزات كثيرة سيأتي ذكرها في كتابنا هذا، ومن هذه المعجزات المعجزة الآتية:

أصيبت عين قتادة بن النعمان من بني ظفر وقد تدلت على وجنتيه فردها عليه رسول الله فصحت وكانت أحسن عينيه - الطبري -، وقال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها فأخذها قتادة بن النعمان، فكانت عنده وأصيبت يومئذ عين قتادة حتى وقعت على وجنته.

قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله ردها بيده فكانت أحسن عينيه وأحدّهما وكانت لا ترمد إذا رمدت الأخرى.

قتل أبي بن خلف

أقبل أبيّ بن خلف يوم أُحد نحو النبي وهو يقول: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا، فاستقبله مصعب بن عمير رضي الله عنه فقتل مصعبا فاستقبله رجال من المسلمين فأمرهم رسول الله أن يخلوا طريقه فأقبل وهو يقول: يا كذاب أين تفر فتناول النبي الحربة من الحارث بن الصمة أو من الزبير بن العوّام رضي الله عنه فرماه بها فأصابت عنقه وخدشته خدشا غير كبير واحتقن الدم بذلك الخدش، فرجع وهو يقول: قتلني والله محمد، فقالوا له: ذهب والله فؤادك، إنا لنأخذ السهام من أضلاعنا فنرمي بها، فما بك والله من بأس، ما أجزعك إنما هو خدش، ولو كان هذا الذي بك بعين أحدنا ما ضره، فقال: واللات والعزى، لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز - سوق من أسواق الجاهلية عند عرفة - لماتوا أجمعون، إنه قال لي بمكة أنا أقتلك، فوالله لو بصق عليّ لقتلني، وكان أبيّ يقول بمكة للنبي يا محمد إن عندي العوذ - يعني فرسا له - أعلفه كل يوم فرقا (مكيال) من ذرة أقتلك عليها، فيقول رسول الله «أنا أقتلك إن شاء الله».

ولم يقتل رسول الله بيده الشريفة أحدا إلا أبيّ بن خلف لا قبل ولا بعد، ثم مات أبيّ وهم راجعون إلى مكة بسَرِف، وقيل: ببطن رابغ.

إصابة رسول الله صلى الله عليه وسلم

وصل العدو إلى رسول الله كما قدمنا فأصابته حجارتهم حتى وقع وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى وشج في وجهه وكلمت شفته السفلى وكان الذي أصاب رسول الله عتبة بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص والدم يسيل على وجهه وهو يقول: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم وهو يدعوهم إلى ربهم»، فنزل في ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَىْء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَلِمُونَ}ـ (آل عمران: 128).

ودخلت حلقتان من المغفر في وجنته وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه ورموه بالحجارة حتى سقط لشقه في حفرة واحتضنه طلحة بن عبيد الله، حتى استوى قائما، وانتزع أبو عبيدة عامر بن الجراح الحلقتين اللتين كانتا غاصتا في وجنته وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه فكان ساقط الثنيتين. وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الدم من وجنته ثم ازدرده فقال عليه الصلاة والسلام: «من مس دمه دمي لم تصبه النار» فاستشهد في هذه الغزوة.

وكان سبب وقوع رسول الله أن ابن قمئة علاه بالسيف فلم يؤثر السيف فيه إلا أن ثقل السيف أثر في عاتقه فشكا منه شهرا وقُذف رسول الله بالحجارة حتى وقع لشقه.

ولما أصيب رسول الله قالوا: لو دعوت عليهم، فقال: «إني لم أبعث لعانا ولكن بعثت داعيا ورحمة، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» فاعتذر عنهم وتضرع إلى الله أن يمهلهم حتى يكون منهم أو من ذريتهم من يؤمن وهذا غاية الحلم.

المثلة بالمسلمين وبحمزة رضي الله عنه

اشتغل المشركون ذكورا وإناثا بقتلى المسلمين يمثلون بهم يقطعون الآذان والأنوف والفروج ويبقرون البطون وهم يظنون أنهم أصابوا رسول الله وأشراف الصحابة.

واتخذت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان من آذان الرجال وأنوفهم خدما - أي خلاخل - وقلائد وأعطت خدمها وقلائدها وقرطها وحشيا غلام جبير وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها - مضغتها - فلم تستطع أن تستسيغها فلفظتها لأنها كانت نذرت إن قدرت على حمزة لتأكل من كبده، وهند هذه هي زوج أبي سفيان وأم معاوية وقد أسلمت في فتح مكة بعد زوجها كما سيأتي، وممن مُثّل به عبد الله بن جحش ودُفن هو وخاله حمزة في قبر واحد، ونهى الإسلام عن المثلة لأنها تدل على الوحشية وتنافي الإنسانية وقد قاتل حمزة ذلك اليوم قتالا شديدا وكان يقاتل بسيفين وآخر قتيل قتله رضي الله عنه سباع بن عبد العزى الخزاعي، فلما أكب عليه ليأخذ درعه قتله وحشيٌّ غلام جبير بن مطعم ثم أسلم بعد ذلك وكان قد استأجرته هند لقتل حمزة.

والتمس رسول الله عمه حمزة فوجده مبقور البطن ومجدوع الأنف والأذنين فساءه التمثيل به، فقال: لئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم، ولما رأى المسلمون حزن رسول الله وغيظه على من فعل بعمه ما فعل، قالوا: والله لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر لنمثلنَّ بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب، فالمثلة كانت تقترفها العرب في الجاهلية في الحرب انتقاما من أعدائهم إذا بلغ منهم الغيظ مبلغه، لكن الإسلام حرمها لشناعتها، فعن ابن عباس: إن الله عز وجل أنزل في قول رسول الله وقول أصحابه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّبِرينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مّمَّا يَمْكُرُونَ} (النحل: 126، 127).

فعفا رسول الله ونهى عن المثلة وقال: «أصبر وأحتسب».

هذا ما نهى عنه الدين الإسلامي الحنيف ونهى عنه قواد الجيوش الإسلامية جيوشهم، لكنا نرى بعض جيوش الدول المتمدنة في القرن العشرين تقترف المثلة بأعدائها وهم يزعمون أن الدين الإسلامي دين همجية ووحشية.، وتلك الوحشية تُرتكب في زمن المدنية.

وبينا رسول الله في الشعب مع أصحابه إذ علت طائفة من قريش الجبل معهم خالد بن الوليد، فقال رسول الله: «اللهم إنهم لا ينبغي لهم أن يعلونا، اللهم لا قوة لنا إلا بك» فقاتلهم عمر بن الخطاب وجماعة من المهاجرين حتى أهبطوا من الجبل.

أسباب انهزام المسلمين في وقعة أحد

كان أبو سفيان بن حرب هو الذي قاد قريشا كلها يوم أُحد ولم يكن بأعلم من رسول الله بقيادة الجيش وتنظيمه بل كان رجلا تاجرا لكنه استطاع أن يجند عددا كبيرا من قريش فكانت عدتهم 3000 فيهم 700 دارع ومعهم 200 فرس، ومجموع الذين خرجوا للقتال مع رسول الله 700 منهم 100 دارع ولم يكن فيهم سوى فرسين لأن عبد الله بن أبيّ انخذل عن رسول الله بثلث الناس وعاد بهم إلى المدينة.

ثم إن رسول الله بعد أن صف المسلمين بأصل أحد وجعل الرماة على جبل صغير وأمرهم بألا يبرحوا مكانهم قائلا لهم: «احموا ظهورنا حتى لا يأتونا من خلفنا» طمعوا في الغنيمة وهبطوا تاركين مركزهم، وبذلك تمكن خالد بن الوليد من الكرّ على المسلمين بالخيل من الخلف فانكشفوا ووقع الاختلاط بينهم وذاع في الجيش أن محمدا قُتل فازداد ارتباك المسلمين وفروا منهزمين وفرّ بعضهم إلى المدينة.

نعم إن رسول الله لم يتزحزح عن مركزه وشاهده بعض الصحابة فالتفوا حوله وثبتوا معه وقاتلوا قتالا شديدا حتى إن سعد بن أبي وقاص وحده رمى يومئذ بألف سهم ورمى رسول الله عن قوسه حتى اندقَّت سيتها واستطاع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يهبط الطائفة التي علت الجبل من قريش، لكن هذا كله كان بعد أن وقعت الهزيمة بالمسلمين بسبب مخالفتهم أمر رسول الله فقد كانوا منتصرين في بدء الموقعة، وقد قُتل في هذه الموقعة 74 من المسلمين و 20 من المشركين.

نداء أبي سفيان

أشرف أبو سفيان على القوم بعد الواقعة فقال: أفي القوم محمد؟ فقال رسول الله «لا تجيبوه» مرتين، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاثا، فقال رسول الله «لا تجيبوه»، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب ثلاثا، فقال رسول الله «لا تجيبوه»، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قُتلوا، لو كانوا في الأحياء لأجابوا فلم يملك عمر بن الخطاب نفسه أن قال: كذبت يا عدو الله فقد أبقى الله لك ما يخزيك، فقال: أعل هُبَل، أعل هُبَل، وقيل: إنه صرخ بأعلى صوته وقال: «أنعمت فعال إن الحرب سجال يوم أُحُد بيوم بدر أعل هُبَل»، وسبب ذلك أنه حين أراد الخروج كتب على سهم «نعم» وعلى الآخر «لا» وأجالهما عند هُبَل فخرج بهم «نعم» فتوجه إلى أحد فقال: أعل هبل أي زد علوا، فقال رسول الله «أجيبوه»، فقالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: «الله أعلى وأجل»، فقال أبو سفيان: ألا لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله: «أجيبوه»، قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: «الله مولانا ولا مولى لكم».

ولما أجاب عمر أبا سفيان قال له أبو سفيان: هلم يا عمر، فقال رسول الله: «ائته فانظر ما شأنه»، فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك يا عمر أقتلنا محمدا؟ فقال عمر: «اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن»، فقال: أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر لقول ابن قمئة له إني قتلت محمدا.

ثم نادى أبو سفيان: إنه قد كان في قتلاكم مُثُل، والله ما رضيت وما سخطت وما نهيت وما أمرت، وقد كان الحليس بن زبان أخو بني الحارث بن عبد مناة وهو يومئذ سيد الأحابيش قد مرّ بأبي سفيان بن حرب وهو يضرب شدق حمزة بن عبد المطلب بزج الرمح ويقول: ذق عقق، فقال الحليس: يا بني كنانة هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون، فقال: ويحك اكتمها عني فإنه كانت زلة، وهذا اعتراف منه بأنه ارتكب شططا وأتى أمرا منكرا.

ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إن موعدكم بدر للعام القابل، فقال رسول الله لرجل من أصحابه: «قل نعم هو بيننا وبينك موعد».

ثم بعث رسول الله عليّ بن أبي طالب فقال: «أخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وما يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنّهم»، قال عليّ: «فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل وتوجهوا إلى مكة» بعد أن تشاورا في نهب المدينة، فأشار عليهم صفوان بن أمية ألا تفعلوا.

من هذا يتضح أن أبا سفيان قد خشي عاقبة ما فعله من ضرب شدق حمزة، فقال للحليس: اكتمها عني فإنها كانت زلة وبرأ نفسه في ندائه قائلا والله ما رضيت وما سخطت وما نهيت وما أمرت أما نداؤه: «إن موعدكم بدر للعام القابل» فخطأ منه لأن هذا الإنذار يعطي المسلمين مهلة للاستعداد لمحاربته والتغلب عليه ومع أن جيش مكة تغلبوا على المسلمين في هذه الواقعة فإنهم اكتفوا بذلك ولم يجنوا ثمار انتصارهم، فلم يحاولوا الهجوم على المدينة بل قفلوا راجعين إلى مكة، والظاهر أن أبا سفيان تخوَّف أن يقتفي أثر المسلمين إلى المدينة.

استشهاد سعد بن الربيع الأنصاري

قال رسول الله من رجل ينظر: «ما فعل سعد بن الربيع؟ أفي الأحياء هو أم في الأموات؟» لأن النبي رأى الأسنة قد أشرعت إليه.

فقال رجل من الأنصار - هو أبي بن كعب رضي الله عنه -: أنا أنظر إليك يا رسول الله ما فعل سعد فنظر فوجده جريحا في القتلى وبه رمق وقد طعن اثنتي عشرة طعنة فقال له: إن رسول الله أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات، قال: أنا في الأموات، أبلغ رسول الله عني السلام وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم إنه لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف، قال: ثم لم أبرح أن مات فجئت رسول الله فأخبرته خبره، فقال رسول الله «رحمه الله، نصح الله والرسول حيا وميتا»، وخلف سعد بنتين فأعطاهما رسول الله من ميراثه الثلثين.

كان سعد بن الربيع كاتبا في الجاهلية ومن النقباء يوم العقبة وشهد بدرا واستشهد يوم أُحد، إن سؤال رسول الله عن سعد بن الربيع في مثل هذا المأزق الحرج هو من شدة عطفه ومحبته لأصحابه وهذا خلق عظيم فقد كان يسأل عنهم في الحرب وفي السلم ويهتم بشؤونهم وكانوا يحبونه حبا شديدا يفوق كل حب ويدافعون عنه إلى آخر رمق من حياتهم ويخشون أن يصل إليه أي أذى وإن نصيحة سعد بن الربيع لقومه بالمحافظة على رسول الله وهو يلفظ النفس الأخير من أبلغ الأدلة على فرط محبة أصحابه له لسمو مكانته في نفوسهم وقد كان قتادة بن النعمان يتقي السهام بوجهه دون وجه رسول الله فكان آخرها سهما ندرت منه حدقته فأخذها بيده وسعى بها إلى رسول الله فردها وكانت أحسن عينيه فانظر كيف بلغت محبة الصحابة لرسول الله

قتل مخيريق

قال ابن إسحاق: وكان ممن قتل يوم أُحد مُخيريق، وكان أحد بني ثعلبة بن الفِطيون، قال: لما كان يوم أُحد قال: يا معشر يهود الله لقد علمتم إن نصر محمد عليكم لحق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم، فأخذ سيفه وعدته وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء، ثم غدا إلى رسول الله فقاتل معه حتى قُتل، فقال رسول الله فيما بلغنا: «مخيريق خير يهود».

وكان مخيريق أحد بني النضير، حبرا عالما غنيا كثير الأموال من النخل وكا يعرف رسول الله بصفته وما يجد في علمه، وخالف قومه اليهود واشترك في موقعة أُحد التي لم يشترك فيها أحد من اليهود غيره فلما قتل قبض رسول الله أمواله وتصدق بها، وقيل لمّا حضرته الوفاة قال: أموالي إلى محمد يضعها حيث شاء، وكان ذا مال كثير، ففرقها رسول الله.

انتحار قزمان

قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: كان فينا رجل أتيٌّ لا يُدرى من أين هو يقال له قزمان، وكان رسول الله يقول - إذا ذكر له - إنه لمن أهل النار، فلما كان يوم أُحد قاتل قتالا شديدا فقتل وحده ثمانية أو سبعة من المشركين وكان ذا بأس فأثبتته الجراحة فاحتمل إلى دار بني ظفر، فجعل رجال من المسلمين يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر، قال: بماذا أبشر فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي ولولا ذلك ما قاتلت، فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهما من كنانته فقطع رواهشه فنزفه الدم فمات، فأخبر به رسول الله فقال: «أشهد أني رسول الله حقا» وذلك لأنه مات منتحرا.

دفن قتلى أحد

كثرت القتلى يوم أُحد فكان الرجل والرجلان والثلاثة يكفنون في الثوب الواحد ثم يدفنون في القبر الواحد بدمائهم وأمر النبي بدفن شهداء أُحد ولم يصلِّ على أحد منهم ولم يغسلهم، وحمل أناس موتاهم ليدفنوهم بالمدينة فجاءهم منادي رسول الله يقول: ردوا القتلى إلى مضاجعهم، فأدرك المنادي واحدا وهو شماس بن عثمان المخزومي فإنه قل وحمل إلى المدينة وبه رمق فقال رسول الله: «احملوه إلى أم سلمة»، فحمل إليها فمات عندها فأمر رسول الله أن يرد إلى أُحد فيدفن هناك ولم يكن قد دُفن بالمدينة أما من دُفن فأبقوه.

وقال رسول الله «انظروا عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو حرام فإنهما كانا متصافين في الدنيا فاجعلوهما في قبر واحد».

رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة

لما أراد رسول الله الرجوع إلى المدينة ركب فرسه وخرج المسلمون حوله وعامتهم جرحى ومعه أربع عشرة امرأة، فلما كانوا بأصل أُحد قال: «اصطفوا حتى أثني على ربي عز وجل» - فكان عليه الصلاة والسلام يحب النظام -، فاصطف الرجال خلفه صفوفا وخلفهم النساء فقال:

«اللهم لك الحمد كله، لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت ولا مقرب لما أبعدت ولا مبعد لما قربت» الحديث، ثم عاد إلى المدينة يهدّىء روع نساء القتلى ويدعو لهن وقد نهاهن عن اللطم وحلق الرؤوس وتخميش الوجوه وشق الجيوب.

ولم يخاطب رسول الله الذين انهزموا وعادوا إلى المدينة بالتغليظ والتشديد وإنما خاطبهم بالكلام اللين وعفا عنهم فزاد في الفضل والإحسان، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) وهذا اللين والعفو من حسن خلق الرسول

وباتت وجوه الأوس والخزرج تلك الليلة على بابه بالمسجد يحرسونه خوفا من قريش أن تعود إلى المدينة، لكنهم لم يعودوا.

شماتة اليهود والمنافقين

لما وصل المدينة، أظهر المنافقون واليهود الشماتة والشرور وصاروا يظهرون أقبح القول ومنه ما محمد إلا طالب ملك، ما أصيب بمثل هذا نبيّ قط، أصيب في بدنه وأصيب في أصحابه ويقولون، لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل وصار ابن أُبيّ يوبخ ابنه عبد الله الذي جرح في موقعة أُحد، فقال له ابنه: الذي صنع الله لرسوله خير، وهكذا كان اليهود ينتهزون الفرص لتخذيل المسلمين وتثبيط هممهم.

نزول الملائكة يوم أحد

قال عبيد بن عمير: لم تقاتل الملائكة يوم أُحد، وقال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة عن عبد الحميد بن سهيل عن عمر بن الحكم، قال: لم يمر رسول الله يوم أُحد بملك واحد وإنما كانوا يوم بدر، قال ومثله عن عكرمة، قال: وقال مجاهد: حضرت الملائكة يوم أُحد ولم تقاتل وإنما قاتلت يوم بدر، قال: ورُوي عن أبي هريرة أنه قال: وعدهم الله أن يمدهم لو صبروا فلما انكشفوا لم تقاتل الملائكة يومئذ إنما الثابت بنص القرآن ورواية الصحابة أنهم نزلوا وقاتلوا في غزوة بدر.

ذكر غزوة أحد في القرآن

أنزل الله تعالى من القرآن في غزوة أُحد ستين آية في سورة آل عمران، قال تعالى:

{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّىء الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (آل عمران: 121، 122).

قال أكثر العلماء بالمغازي: إن هذه الآية نزلت في وقعة أُحد، وقد كان المسلمون يومئذ كثيرين فلما انشقوا وخالفوا أمر الرسول انهزموا، وقال جل شأنه:

{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (آل عمران: 123): إنه تعالى لما ذكر قصة أُحد أتبعها بذكر قصة بدر لأن المسلمين كانوا في غاية الضعف والكفار في غاية القوة، ولكن لما كان الله ناصرا لهم قهروا خصومهم، ثم قال تعالى:

{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءالاَفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُنزَلِينَ} (آل عمران: 124)، إن هذا الوعد كان يوم بدر وهو قول أكثر المفسرين، وقد قالوا: إن الملائكة حاربوا يوم بدر ولم يقاتلوا في سائر الأيام وهذا المدد من المعجزات.

{بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالآفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُسَوّمِينَ} (آل عمران: 125).

فجعل مجيء خمسة آلاف من الملائكة مشروطا بثلاثة أمور: الصبر، والتقوى، ومجيء الكفار على الفور فلما لم توجد هذه الشرائط لا جرم لم يوجد المشروط.

{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِيَقْطَعَ طَرَفا مّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ} (آل عمران: 126، 127)، والمراد بالكبت الإخزاء والإهلاك والهزيمة والغيظ والإذلال، فكل ذلك ذكره المفسرون في تفسير الكبت.

{لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَىْء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَلِمُونَ} - (آل عمران: 128).

نزلت هذه الآية في قصة أُحد لأن النبي لما شجه عتبة بن أبي وقاص وكسر رباعيته جعل يمسح الدم عن وجهه وهو يقول: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم» فنزلت هذه الآية وقيل: إنه لعن أقواما فنزلت هذه الآية.

إلى أن قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئا وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّكِرِينَ} (آل عمران: 144).

ولما وقع الصراخ بأن محمدا قتل كما تقدم ذكره في غزوة أُحد، قال بعضهم: لو كان نبيا لما قُتل، ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم، فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك: «يا قوم إن كان قد قُتل محمد فإن رب محمد حيٌّ لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله قاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه»، ثم قال: «اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء» ثم سلَّ سيفه فقاتل حتى قُتل، ولما شج وجه رسول الله وكسرت رباعيته احتمله طلحة بن عبيد الله ودافع عنه أبو بكر وعليّ رضي الله عنه ونفر آخرون معهم، ثم إن رسول الله جعل ينادي ويقول: «إليّ عباد الله» حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هزيمتهم، فقالوا: يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا خبر قتلك فاستولى الرعب على قلوبنا فولينا مدبرين.

وقد ذكر الله تعالى الحكمة في ما أصاب المؤمنين بمخالفتهم أمر النبي وعرفهم سوء عاقبة المعصية وشؤم ارتكاب المخالفة بما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم رسول الله ألا يبرحوا عنه بقوله تعالى:

{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَزَعْتُمْ فِى الاْمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاْخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 152).

وقال تعالى تعزية لأصحاب رسول الله على ما أصابهم من الجراح والقتل بأُحد: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ لله} (آل عمران: 139)، يعني لا تضعفوا بالذي نالكم من عدوكم بأُحد من القتل والقروح عن جهاد عدوكم وحربهم ولا تحزنوا ولا تأسوا فتجزوا على ما أصابكم من المصيبة يومئذ فأنتم الأعلون، أي الظاهرون عليهم ولكم العقبى في الظفر والنصرة عليهم إن كنتم مؤمنين.

غزوة حمراء الأسد

حمراء الأسد موضع على ثمانية أميال من المدينة، وكانت الغزوة صبيحة أحد، إذ وقعت أُحد يوم السبت والغزوة المذكورة يوم الأحد لستّ عشرة مضت من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من الهجرة، وكانت لطلب العدو الذين كانوا بالأمس.

قال الواقدي: باتت وجوه الأنصار على بابه فلما طلع الفجر وأذن بلال بالصلاة جاء عبد الله بن عمرو المزني فأخبر النبي أنه أقبل من عند أهله بملل - اسم موضع قرب المدينة - إذا قريش قد نزلوا فسمعهم يقولون ما صنعتم شيئا، أصبتم شوكة القوم وحدهم ثم تركتموهم ولم تبيدوهم، قد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم فارجعوا نستأصل من بقي، وصفوان بن أمية يأبى ذلك عليهم ويقول: لا تفعلوا فإن القوم قد غضبوا وأخاف أن يجتمع عليكم من تخلف من الخزرج، فارجعوا والدولة لكم فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم، فقال «أرشدهم صفوان وما كان برشيد، والذي نفسي بيده لقد سوّمت لهم الحجارة ولو رجعوا لكانوا كالأمس الذاهب».

ولما صلى رسول الله الصبح ندب الناس وأذن مؤذن رسول الله بالخروج، أي أمر بلالا أن ينادي أن رسول الله يأمركم بطلب العدو وألا يخرج معنا أحد إلا من خرج معنا أمس، يعني من شهد أُحدا، وأراد بذلك إظهار الشدة بالعدو والزيادة في تعظيم من شهد أُحدا ومنع بذلك اختلاط المنافقين ولم يشهد هذه الغزوة إلا من شهد أُحدا عدا جابر بن عبدالله فإنه قال لرسول الله إن أبي خلفني يوم أُحد على أخوات لي سبع فلم أشهد الحرب فأذن لي أن أسير معك، فأذن له رسول الله فلم يخرج معه أحد لم يشهد القتال غيره.

وبعث رسول الله ثلاثة نفر من أسلم طليعة في آثار القوم فلحق اثنان منهم القوم بحمراء الأسد فبصروا بالرجلين فقتلوهما: ومضى رسول الله ودليله ثابت بن الضحاك بن ثعلبة بن الخزرج حتى عسكر بحمراء الأسد فوجد الرجلين فدفنهما، وكان رسول الله مجروحا وفي وجهه الحلقتين فقال رسول الله لطلحة: «يا طلحة لن ينالوا منا مثلها حتى يفتح الله علينا مكة»، وقال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: «يا ابن الخطاب إن قريشا لن ينالوا منا مثل هذا حتى نستلم الركن».

أقام رسول الله بحمراء الأسد الاثنين والثلاثاء والأربعاء، وكان المسلمون يوقدون تلك الليالي خمسمائة نار حتى تُرى من المكان البعيد وذهب صوت معسكرهم ونيراهم في كل وجه فكبت الله بذلك عدوهم.

وكان اللواء بيد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب بعد الذي كان منه يوم أُحد، فرجع إلى مكة.

وظفر في حمراء الأسد بأبي عزة الشاعر الذي منّ عليه وقد أسر ببدر من غير فداء لأجل بناته وأخذ عليه عهدا ألا يقاتله ولا يكثر عليه جمعا ولا يظاهر عليه أحدا فنقض العهد وخرج مع قريش لأُحد وصار يستنفر الناس ويحرّضهم على قتاله بأشعاره، فدعا رسول الله ألا يفلت فأسر فقال: يا محمد أقلني وامنن عليّ ودعني لبناتي وأعطيك عهدا ألا أعود لمثل ما فعلت، فقال رسول الله: «لا والله لا تمسح عارضيك بمكة تجلس بالحجر تقول خدعت محمدا، اضرب يا زيد عنقه لا يلدغ المؤمن جحر مرتين». فضرب عنقه وحمل رأسه إلى المدينة وهذا المثل الذي ضربه رسول الله لم يسمع من غيره.

ثم رجع رسول الله بأصحابه ووصلوا المدينة يوم الجمعة وقد غاب خمسا وظفر عند رجوعه إلى المدينة بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس وهو جد عبد الملك بن مروان فأمر بقتله.

قال الطبري: «وفيها - أي في السنة الثالثة من الهجرة - علقت فاطمة بالحسين صلوات الله عليهما وقيل: لم يكن بين ولادتها الحسن وحملها بالحسين إلا خمسون ليلة - وفيها - حملت - فيما قيل - جميلة بنت عبد الله بن أُبيّ بعبد الله بن حنظلة بن أبي عامر في شوال».

بعث الرجيع صفر سنة 4 هـ

مايو سنة 625 م

الرجيع ماء لهذيل، وقال ابن إسحاق والواقدي: الرجيع ماء لهذيل قرب الهدأة بين مكة والطائف.

وإنما أُضيف البعث إلى اسم ذلك الماء لأن الوقعة كانت بالقرب منه.

وبعث الرجيع هي سرية عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، وكان بعثه في صفر من السنة الرابعة - مايو سنة 625م -.

وسبب هذا أن بني لحيان من هذيل مشوا إلى عضل والقارة وهما قبيلتان من بني الهون بن خزيمة بن مدركة فجعلوا لهم إبلا على أن يكلموا رسول الله أن يخرج إليهم نفرا من أصحابه فقدم سبعة نفر مظهرين الإسلام، فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهونا في الدين ويقرئونا القرآن ويعلمونا شرائع الإسلام، وقيل: إنه أراد أن يبعث عيونا إلى مكة ليأتوه بخبر قريش، فلما جاء هؤلاء النفر يطلبون من يفقههم، بعث معهم ستة من أصحابه للأمرين جميعا وهذه البعثة مؤلفة من - عاصم بن ثابت، مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وخبيب بن عدي الأوسي البدري، وزيد بن الدَّثِنة، وعبد الله بن طارق، وخالد بن البكير.

خرج هؤلاء حتى أتوا الرجيع فغدروا بهم واستصرخوا عليهم هذيلا ليعينوهم على قتلهم، فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف، فأخذ عاصم ومن معه أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا: إنا والله لا نريد قتلكم ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم، وقالوا ذلك لأنهم يريدون أن يسلموهم لكفار قريش ويأخذوا في مقابلتهم أجرا لعلمهم أنه لا شيء أحب إلى قريش من أن يأتوا بأحد من أصحاب محمد يمثلون به ويقتلونه بمن قُتل منهم ببدر وأُحد، فأبوا أن يقبلوا منهم.

فأما مرثد وخالد بن البكير وعاصم بن ثابت فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدا، وقاتلوا حتى قُتلوا، وأما زيد وخبيب وعبد الله بن طارق فلانوا ورقوا ورغبوا في الحياة فأعطوا بأيديهم فأسروهم ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القرآن ثم أخذ واستأخر عنه القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فقبره بالظهران، وأما خبيب بن عدي وزيد بن عدي وزيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة فباعوهما فابتاع خبيبا حُجير بن أبي إهاب التميمي حليف بني نوفل لعقبة بن عامر بن نوفل وكان حجير أخا الحارث بن عامر لأمه ليقتله بأبيه، وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف وكان شراؤهما في ذي القعدة فحبسوهما حتى خرجت الأشهر الحرام فقتلوا زيدا، وأما خبيب فقد مكث أسيرا حتى خرجت الأشهر الحرام ثم أجمعوا على قتله، وكانوا في أول الأمر أساءوا إليه في حبسه فقال لهم: ما يصنع القوم الكرام هكذا بأسيرهم، فأحسنوا إليه بعد ذلك وجعلوه عند امرأة تحرسه وهي ماوية مولاة حجير وقد قالت ماوية: كان خبيب يتهجد بالقرآن فإذا سمعه النساء بكين ورققن عليه، فقلت له: هل لك من حاجة؟ قال: لا إلا أن تسقيني العذب ولا تطعميني ما ذُبح على النصب وتخبريني إذا أرادوا قتلي، فلما أرادوا ذلك أخبرته فوالله ما اكترث بذلك ولما خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه قال: ذروني أصلِّ ركعتين، فتركوه فصلى سجدتين فجرت سُنَّة لمن قُتل صبرا أن يصلي ركعتين ثم قال خبيب: لولا أن يقولوا جزعَ لزدت وما أبالي على أي شِقَّي كان لله مصرعي ثم قال:

وذلك في ذات الإله وإن يشأ ** يبارك على أوصال شلو ممزع

«اللهم أحصهم عددا وخذهم بددا»، ثم خرج به أبو سروعة بن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف فضربه فقتله، رحمه الله تعالى.

وعن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: لما أرادوا قتل خبيب ووضعوا فيه السلاح والرماح والحراب وهو مصلوب نادوه وناشدوه: أتحبّ أنّ محمدا مكانك؟ قال: والله ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه، وقيل: إن زيد بن الدثنة قالوا له ذلك أيضا عند قتله فأجابهم بمثل ذلك، فقال أبو سفيان رضي الله عنه: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمدا محمدا، وقد قتل زيدا نسطاس.

وقد كانت هذيل حين قتل عاصم بن ثابت قد أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد وكانت قد نذرت حين أصاب ابنها يوم أُحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحف رأسه الخمر فمنعه الدبر - الزنابير - فلما حالت بينهم وبينه قالوا: دعوه حتى يمسي فتذهب عنه فنأخذه فبعث الله سيلا فاحتمل عاصما فذهب به، وكان عاصم قد أعطى الله عهدا ألا يمسه مشرك أبدا ولا يمس مشركا أبدا تنجسا منه، فكان عمر بن الخطاب يقول حين بلغه أن الدبر منعته: «عجبا لحفظ الله العبد المؤمن كان عاصم نذر ألا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا في حياته فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع منه في حياته».

ولما قتل مَن وجَّهه النبي إلى عضل والقارة من أهل الرجيع وبلغ خبرهم رسول الله بعث عمرو بن أمية الضمري إلى مكة مع رجل من الأنصار وأمرهما بقتل أبي سفيان بن حرب، وكان عمرو بن أمية الضمري عالما بمكة جريئا، فلما وصلا مكة طافا بالبيت أسبوعا فعرف عمرا رجل منهم فصاح بأعلى صوته: هذا عمرو بن أمية، ففر هو وصاحبه ووصلا إلى المدينة ناجين.

سرية بئر معونة صفر سنة 4هـ

مايو سنة 625م

وتسمى هذه السرية سرية المنذر بن عمرو الخزرجي، وتسمى أيضا بسرية القراء وكانت هذه السرية في شهر صفر في السنة الرابعة من الهجرة (مايو سنة 625 م) على رأس أربعة أشهر من أُحد، وكان من أمرها كما قاله ابن إسحاق عن شيوخه أنه قدم على رسول الله أبو براء عامر بن مالك بن جعفر العامري، ويعرف بمُلاَعِب الأَسِنَّة، فعرض النبي عليه الإسلام فلم يسلم ولم يبعد وقال له: يا محمد إني أرى أمرك هذا حسنا شريفا وقومي خلفي، فلو أنك بعثت معي نفرا من أصحابك لرجوت أن يتبعوا أمرك فإن هم اتبعوك فما أعز أمرك، فقال: إني أخشى أهل نجد عليهم، فقال: أنا لهم جار، فبعث المنذر بن عمرو ومعه القراء وهم سبعون، فلما وصلوا إلى بئر معونة بعثوا حرام بن ملحان أخا أم سليم خال أنس بن مالك رضي الله عنه بكتابه إلى عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر الكلابي العامري وهو ابن أخي أبي براء فلم ينظر في الكتاب بل وثب على حرام فقتله واستصرخ بني عامر قومه فأبوا وقالوا: لا يخفر جوار أبي براء، فاستصرخ عليهم قبائل من سليم عصية ورعلا وذكوان، فنفروا معه ورأسوه واستبطأ المسلمون حراما فأقبلوا في أثره فلقيهم القوم فأحاطوا بهم فكاثروهم فتقاتلوا فقتلوا أصحاب رسول الله وجاء رسول الله خبر أهل بئر معونة فقال: «هذا سببه عمل أبي براء حيث أخذهم في جواره، قد كنت لهذا كارها متخوفا»، فبلغ ذلك أبا براء فمات عقب ذلك أسفا على ما صنع ابن أخيه عامر بن الطفيل، ومات عامر بن الطفيل.

قال حسان بن ثابت يرثي قتلى معونة:

على قتلى معونة فاستهلي ** بدمع العين سحَّا غير نزر

على خيل الرسول غداة لاَقوْا ** ولاقتهم مناياهم بقدر

ولم يجد رسول الله على قتلى ما وجد على قتلى بئر معونة لكونه لم يرسلهم لقتال إنما هم مبلغون رسالته وقد جرت عادة العرب قديما بأن الرسل لا تقتل لكنهم مع ذلك غدروا بهم.

قال العلامة الزرقاني: وإنما لم يخبره سبحانه وتعالى بما ترتب على ذهاب القراء وأهل الرجيع قبل خروجهم كما أخبره بنظير ذلك من الأشياء لأنه سبق في علمه تعالى إكرامهم بالشهادة وأراد حصول ذلك بمجيء أبي براء ومن جاء في طلب أصحاب الرجيع.

وكان مع هذه السرية عمرو بن أمية الضمري وقد قتلوا جميعا غيره وقد كان أسيرا في أيديهم فقال له عامر بن الطفيل: قد كان على أمي نسمةٌ فأنت حرٌّ عنها وجزّ ناصيته فأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه فلما قدم على رسول الله قال: أبت من بينهم؟ وكان عمرو لما خرج إلى المدينة صادف بمحل يسمى القرقرة رجلين من بني عامر ثم من بني كلاب فنزلا معه في ظل كان هو فيه وكان معهما عقد وعهد من رسول الله لم يشعر به عمرو، فقال لهما عمرو: ومن أنتما فذكرا له أنهما من بني عامر فتركهما حتى ناما فقتلهما وظن أنه ظفر بثأر بعض أصحابه الذين قتلوا ببئر معونة، وجاء وأخبر رسول الله بذلك فقال: بئس ما صنعت قد كان لهما مني أمان وجوار، لأدِينّهما فبعث بديتهما إلى قومهما.

ومن جملة القراء الذين قتلوا ببئر معونة عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه وهو الذي عُذِّبَ في الله فاشتراه أبو بكر فأعتقه، واستشهد في هذه الموقعة وهو ابن أربعين سنة.

غزوة بن النضير ربيع الأول سنة 4هـ

يونيه سنة 625 م

النضير اسم قبيلة من اليهود الذين كانوا بالمدينة وكانوا هم وقريظة نازلين بظاهر المدينة في حدائق وآطام لهم.

قال غير واحد من أهل السير: لما قدم اليهود المدينة نزلوا السافلة فاستوخموها فأتوا العالية فنزل بنو النضير بطُحان ونزل بنو قريظة مهزورا وهما واديان يهبطان من حرة هناك تنصب منها مياه عذبة، فاتخذ بنو النضير الحدائق والآطام وأقاموا بها وكان بينهم وبين المدينة نحو ميلين أو ثلاثة وكانوا يمتلكون نخيلا بجوار المدينة.

كانت هذه الغزوة في شهر ربيع الأول سنة أربع على رأس سبعة وثلاثين شهرا من الهجرة - يونيه سنة 625 م -.

خرج رسول الله يوم السبت فصلى في مسجد قُباء ومعه نفر من أصحابه، المهاجرين والأنصار، ثم أتى بني النضير فكلمهم أن يعينوه في دِية الكلبيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضَّمري، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم ما أحببت، وكان رسول الله جالسا إلى جنب جدار من بيوتهم فخلا بعضهم ببعض وهموا بالغدر به، وقال عمرو بن جحاش بن كعب بن بَسيل النضري: أنا أظهر على البيت فأطرح عليه صخرة، فقال سلام بن مشكم: لا تفعلوا والله ليخبرنّ بما هممتم به وإنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه، وجاء رسول الله الخبر بما هموا فنهض سريعا كأنه يريد حاجة فتوجه إلى المدينة ولحقه أصحابه.

ثم بعث إليهم رسول الله محمد بن مَسلمة أن اخرجوا من بلدي - يعني المدينة - فلا تساكنوني بها وقد هممتم بما هممتم به من الغدر وقد أجلتكم عشرا فمن رُئي بعد ذلك ضربت عنقه، فمكثوا على ذلك أياما يتجهزون وأرسلوا إلى ظَهرٍ لهم بذي الجَدر وتكاروا من ناس من أشجع إبلا فأرسل إليهم ابن أبي، لا تخرجوا من دياركم وأَقيموا في حصونكم فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصونكم فيموتون عن آخرهم وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غَطَفَان فطمع حييٌّ فيما قال ابن أبيّ، فأرسل إلى رسول الله إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك، فأظهر رسول الله التكبير وكبَّر المسلمون لتكبيره، وقد حاربت يهود فسار إليهم النبي في أصحابه فصلى العصر بفضاء بني النضير وعليّ رضي الله عنه يحمل رايته واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، فلما رأوا رسول الله قاموا على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة واعتزلتهم قريظة فلم تُعنهم وخذلهم ابن أُبي وحلفاؤهم من غطفان فأيسوا من نصرهم، فحاصرهم رسول الله وقطع نخلهم وعند ذلك قالوا: يا أبا القاسم قد كنت تنهي عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ هل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض ثم قالوا: نخرج عن بلادك، فقال: لا أقبله اليوم، ثم قال لهم: أخرجوا منها - ولكن دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة - فرضوا بذلك ونزلوا عليه، وكان حصارهم خمسة عشر يوما.

احتمل بنو النضير من أموالهم ما استقلت به الإبل فكان الرجل منهم يهدم بيته عما استحسن من خشبه كبابه وكنجاف به أي أسكفته فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، فكان من سار من أشرافهم إلى خيبر: سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب فلما نزلوها دان لهم أهلها.

ولما أيقن بنو النضير بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم فجعلوا يخربونها من داخل وقد كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم مما يستحسنونه أو الباب فيهدمون بيوتهم وينزعونها ويحملونها على الإبل.

لكن الدكتور إسرائيل ولفنسون يقول في رسالته (تاريخ اليهود في بلاد العرب): «إن هدم البيوت لم يكن القصد منه التخريب وأخذ الأخشاب بل إن هدم نجاف البيوت يتعلق بعقيدة تلمودية معروفة وهي أن كل يهودي على نجاف بيته صحيفة تشتمل على وصية موسى لبني إسرائيل أن يحتفظوا بالإيمان بإله واحد ولا يبدلوه ولو عُذبوا وقُتلوا، فاليهود حين ينزحون من منازلهم يأخذونها معهم وهي عادة متبعة عند اليهود إلى يومنا هذا، قال: ويظهر أن يهود بلاد العرب كانوا يضمون تلك الصحيفة في داخل النجاف خوفا من إتلاف الهواء أو مسّ الأيدي فلما رحلوا عن ديارهم هدموا نجاف البيوت وأخذوها».

وإنا نسلم أن هذه عادة اليهود ولا ننازعه في أنهم أخذوا تلك الصحائف المقدسة مع ما أخذوا لكن أخذ الصحائف فقط لا يستدعي هدم البيوت وإلا كان الواحد منهم إذا انتقل من بيت إلى آخر هدم البيت الأول لاستخراج صحيفته وهذا محال، وعبارة ابن إسحاق صريحة في أن الرجل منهم كان يهدم بيته عن نجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق، والنجاف الذي يُقال له الدوارة وهو الذي يستقبل الباب من أعلى الأسكفة، وفي السيرة الحلبية صاروا ينقضون العُمُد والسقوف وينزعون الخشب حتى الأوتاد، وينقضون الجدران حتى لا يسكنها المسلمون حسدا وبغضا.

قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث أنهم استقلوا بالنساء والأبناء والأموال معهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن خلفهم وإن فيهم لأم عمرو صاحبة عروة بن الورد العبسي التي ابتاعوا منه، وكانت إحدى نساء بني غفار، بزهاء وفخر ما رئي مثله من حي من الناس في زمانهم.

وقد حملوا أمتعتهم على ستمائة بعير، وحزن المنافقون عليهم حزنا شديدا لكونهم إخوانهم، وقبض رسول الله ما تركوه من الأموال والدروع والسلاح، فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة وهي الخوذة وثلاثمائة وأربعين سيفا، فكانت أموال بني النضير مختارا لرسول الله فكان ينفق منها على أهله ويدخر قوت سنة من الشعير والتمر لأزواجه وبني عبد المطلب وما فضل جعله في السلاح والكراع، هذا ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه.

وذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أنه قسمها بين المهاجرين ليرفع بذلك مؤونتهم عن الأنصار، وهذا يتفق مع ما رواه ابن إسحاق فإنه قال: وخلوا الأموال لرسول الله خاصة يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول الله على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرا فأعطاهما رسول الله وأعطى رسول الله سعد بن معاذ سيف ابن أبي الحقيق، أحد سادات بني النضير وكان سيفا له ذكر عندهم.

ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: يامين بن عمير بن كعب بن عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاها.

وقتل في هذه الغزوة عزوك، وكان شجاعا راميا من بني النضير قتله عليّ رضي الله عنه، ثم بعث رسول الله أبا دجانة وسهل بن حنيف في عشرة ليدركوا الذين فروا من عليّ رضي الله عنه فقتلوهم وطرحوا رؤوسهم في بعض الآبار.

قال ابن إسحاق: ونزل في أمر من بني النضير سورة - الحشر - بأسرها يذكر فيها ما أصابهم الله به من نقمته وما سلط عليه به رسول الله وما عمل به فيهم.

وفي البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما سورة - الحشر - قال: قل سورة النضير.

ملحوظة: لم أعثر في المراجع التي اطلعت عليها على عدد بني النضير الذين أجلاهم رسول الله من المدينة.

وقد رحل بعض بني النضير إلى خيبر على بعد مائة ميل من المدينة، وبعضهم إلى جُرَش بجنوب الشام، لذلك كان ابن عباس يسمي سورة «الحشر» سورة بني النضير كما في البخاري.

تحريم الخمر الإصلاح الاجتماعي العظيم

قال جماعة من الصحابة: يا رسول الله، أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزل فيها قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَفِعُ لِلنَّاسِ} (البقرة: 219)، فشربها قوم لوجود النفع وتركها آخرون لوجود الإثم، ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا فشربوا وسكروا فقام بعضهم يصلي المغرب وهو سكران فقرأ: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون فخلط في القراءة، فنزل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَوةَ وَأَنتُمْ سُكَرَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} (النساء: 43)، فقلّ شاربوها، ثم اجتمع قوم من الأنصار وفيهم سعد بن أبي وقاص فلما سكروا افتخروا وتناشدوا الأشعار حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء للأنصار فضربه أنصاري بلحي بعير فشجه شجّة موضحة فشكا إلى رسول الله فقال عمر: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فإنها تذهب بالعقل والمال فنزل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} (المائدة: 90، 91)، فقال عمر: انتهينا يا رب، وكفَّ الناس عن شربها، وحُرّمت الخمر بالمدينة.

والحكمة في تحريم الخمر تدريجيا على الترتيب أن القوم كانوا ألفوا شربها وكان انتفاعهم بذلك عظيما فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق ذلك عليهم.

روى أبو داود في سننه عن الشعبي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة: من العنب والتمر والحنطة والشعير والذرة، قال الخطابي: وتخصيص الخمر بهذه الأشياء الخمسة ليس لأجل أن الخمر لا يكون إلا من هذه الخمسة بأعيانها وإنما جرى ذكرها خصوصا لكونها معهودة في ذلك الزمان، والخمر التي حرّمها الشارع هي ما خامر العقل أو ستره، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله يقول: «أما بعد أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير»، والخمر ما خامر العقل (البخاري).

روى أبو داود عن جابر بن عبدالله قال رسول الله «ما أسكر كثيره فقليله حرام»، وقالت عائشة: سمعت رسول الله يقول: «كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق؛ فملء الكف منه حرام»، ونهى رسول الله عن كل مسكر ومفتر، والمفتر كل شراب يورث الفتور والتخدير في الأعضاء.

عن ديلم الحميري قال: سألت النبي فقلت: يا رسول الله إنا بأرض باردة نعالج فيها عملا شديدا وإنا نتخذ شرابا من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا، قال: «هل يسكر؟» قلت: نعم، قال: «فاجتنبوه»، قلت: فإن الناس غير تاركيه، قال: «فإن لم يتركوه فقاتلوهم».

فالشريعة الإسلامية أول شريعة حرّمت الخمر تحريما باتّا لما في شربها من شرور وآثام ومضرات خلقية وجسمانية ومالية وقد حدّ رسول الله والخلفاء بعده شاربيها، لكنها مع ذلك منتشرة في بلادنا الإسلامية، وتجبي الحكومات رسوما على الخمر كسائر التجارات.

حد الخمر

عن أنس رضي الله عنه قال: ضرب النبي في الخمر بالجريد والنعال وجلد أبو بكر رضي الله عنه أربعين، وفي رواية للترمذي: أتى رسول الله برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدة نحو أربعين، وفعله أبو بكر.

وقد حرّمت الخمر في السنة الرابعة من الهجرة أثناء غزوة بني النضير.

وحرّم بعض الناس الخمر في الجاهلية، وقيل: إن أول من حرّمها الوليد بن المغيرة، وقيل: قيس بن عاصم السعدي ومنهم مقيس بن صبابة السهميّ عبد المطلب وأبو طالب وقصيّ بن كلاب وورقة بن نوفل وشيبة بن ربيعة وغيرهم.

وقد انتشرت المسكرات في بلاد المسلمين وراجت تجارتها حتى دخلت القرى، وضعف رجال الدين عن إبطالها واقتصروا على الوعظ والإرشاد ولم نرَ منهم حركة اجتماعية قوية لحمل الحكومات على سنّ قانون التحريم حتى تعجّب الغربيون من إباحة المسكرات في بلاد يدين أهلها بالإسلام الذي يعتبر الخمر رجسا من عمل الشيطان فاللهم هبنا شجاعة وقوة وإقداما ووفق الحكومات الإسلامية إلى العمل بتعاليم دينهم القويم.

غزوة ذات الرقاع

اختلف في سبب تسمية هذه الغزوة بذات الرقاع، قيل: هي اسم شجرة في موضع الغزوة سُميت بها، وقيل: لأن أقدامهم نقبت من المشي فلفوا عليها الخرق، وقيل: بل سُميت برقاع كانت في ألويتهم، وقيل: ذات الرقاع جبل فيه سواد وبياض وحمرة فكأنها رقاع في الجبل فسُميت الغزوة بذلك الجبل، والأصح أنه موضع لقول دُعثور:

حتى إذا كنا بذات الرقاع

وتسمى هذه الغزوة غزوة محارب، وغزوة بني ثعلبة، وغزوة بني أنمار، وغزوة صلاة الخوف، لوقوعها فيها، قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله بالمدينة بعد غزوة بني النضير شهري ربيع وبعض شهر جمادى ثم غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة من غَطَفَان نخل وهي ذات الرقاع فلقي بها جمعا من غطفان فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب وقد خاف الناس بعضهم بعضا حتى صلى رسول الله صلاة الخوف ثم انصرف المسلمون، وكانت أول صلاة للخوف صلاها رسول الله.

صلاة الخوف - جاء في «صحيح البخاري» عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: غزوت مع رسول الله قبل نجد فوازينا العدو فصاففنا لهم فقام رسول الله يصلي لنا فقامت طائفة معه وأقبلت طائفة على العدو وركع رسول الله بمن معه وسجد سجدتين ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل فجاءوا فركع رسول الله بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين، وسبب خروجه إلى هذه الغزوة أنه بلغه أنهم جمعوا جموعا لمحاربته فأخبر أصحابه وأمرهم بالتجهز ثم خرج في أربعمائة من أصحابه وقيل أكثر من ذلك واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري رضي الله عنه، وقيل: عثمان بن عفان رضي الله عنه وسار إلى أن وصل إلى موضع يُسمى وادي الشقرة وبث السرايا فرجعوا إليه من الليل وأخبروه أنهم لم يروا أحدا فسار حتى نزل نخلا وهو موضع من نجد من أراضي غَطَفان فلم يجد في مجالسهم إلا نسوة فأخذهن، فبلغ الخبر القوم فخافوا وتفرقوا في رؤوس الجبال ثم اجتمع جمع منهم وجاءوا لمحاربة جيش رسول الله وأخاف الناس بعضهم بعضا ولم يكن بينه وبين القوم حرب.

غزوة بدر الأخيرة

وتُسمى غزوة بدر الصغرى وبدر الموعد؛ للمواعدة عليها مع أبي سفيان يوم أُحد وتُسمى بدرا الثالثة وتُسمى أيضا غزوة السويق.

خرج رسول الله إلى بدر ومعه ألف وخمسمائة من أصحابه وعشرة أفراس وذلك في شهر شعبان سنة أربع لميعاد أبي سفيان، واستعمل على المدينة عبد الله بن رواحة الخزرجي رضي الله عنه وحمل اللواء عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وخرج أبو سفيان في قريش وهم ألفان ومعهم خمسون فرسا حتى نزل موضعا قريبا من مرّ الظهران ثم بدا له الرجوع فقال: يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن وإن عامكم هذا عام جدب وإني راجع فارجعوا فرجع ورجع الناس فسماهم أهل مكة جيش السويق، يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق، وهو الناعم من دقيق الحنطة والشعير وهذه حيلة دبَّرها أبو سفيان لأنه لم يكن يريد حربا بل خرج لئلا يُقال أخلف وعده ولم يخرج، على أنه لم يعارضه أحد من قريش في الرجوع فكان الجيش كذلك لا يريد الحرب.

وكان أبو سفيان قد بعث إلى المدينة شخصا اسمه نُعَيْم ليرجف أصحاب رسول الله بكثرة العدو ليحملهم على عدم الخروج وذلك ليكون له عذر في الرجوع إلى مكة ولكن رسول الله لم يبال بما سمع من كثرة عدد الجيش وتثبيط همة الناس، فقال: والذي نفسي بيده لو لم يخرج معي أحد لخرجت وحدي.

وأقام ببدر ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان وفي هذه المدة باع المسلمون ما معهم من التجارة فربحوا كثيرا.

وفي سنة أربع هذه تزوج رسول الله أم سلمة بنت أبي أمية، وفيها أمر رسول الله زيد ابن ثابت أن يتعلم كتاب يهود فتعلمها وفي جمادى الأولى من هذه السنة توفي عبد الله بن عثمان ابن عفان وكان عمره ست سنين وهو ابن بنت رسول الله رقية وفيها ولد الحسين رضي الله عنه.

غزوة دومة الجندل وهي أول غزوات الشام

دُومَة الجنْدَل مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال وبعدها من المدينة خمس عشرة ليلة وهي أقرب بلاد الشام إلى المدينة وبقرب تبوك.

وكانت هذه الغزوة في ربيع الأول سنة خمس (يوليه سنة 626 م) واستعمل النبي على المدينة سباع بن عُرفُطة الغفاري، وسببها أنه بلغه أن بها جمعا كثيرا يظلمون من مرّ بهم وأنهم يريدون الدنو من المدينة فخرج في ألف من أصحابه ومعه دليل له من عذرة يُقال له مذكور فأصاب أهل دومة الجندل الرعب وتفرقوا ثم عاد إلى المدينة، قال ابن الأثير: وغنم المسلمون إبلا لهم، وقال ابن إسحاق: ثم رجع رسول الله قبل أن يصل إليها ولم يلق كيدا فأقام بالمدينة بقية سنته.

تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش

تزوج رسول الله زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية في شهر صفر من السنة الخامسة (يونيه سنة 626 م) وهي أخت عبد الله بن جحش وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي وكانت قديمة في الإسلام، تزوجها رسول الله بعد أن طلقها زوجها زيد بن حارثة.

كان زيد بن حارثة مولى خديجة وهبته لرسول الله قبل البعثة وهو ابن ثماني سنوات فأعتقه وتبناه، وكانوا يدعونه زيد بن محمد، وقد زوجه رسول الله بنت عمته - زينب بنت جحش - ولما خطبها رسول الله على زيد امتنعت من إنكاحه نفسها فقال لها رسول الله: «أنكحيه»، فقالت: يا رسول الله أؤامر - أي أشاور - نفسي وبينما هما يتحدثان أنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَلا مُّبِينا} (الأحزاب: 36)، وعند ذلك قالت زينب: رضيته لي يا رسول الله منكحا، قال: «نعم»، قالت: إذن لا أعصي رسول الله قد أنكحته نفسي، والسبب في إبائها بادىء الأمر أنها كانت ترى أن زيدا غير كفء لها وقالت: إنها خير منه حسبا ونسبا وكان امرأة فيها حدّة فلما نزلت الآية رضيت.

ثم إن زيدا كان يشكوها لرسول الله لأنها تؤذيه وتتكبّر عليه بسبب النسب وعدم الكفاءة، فكان يقول له: «أمسك عليك زوجك»، أي لا تطلقها، لكنه لم يطق معاشرتها وطلقها، وهذا طبيعي فإن الإنسان لا يستطيع معاشرة زوجة تتكبّر عليه وترى نفسها أرقى منه، وبعد أن انقضت عدتها تزوجها رسول الله لإبطال عادة التبني بفعله، فإن المشرع يستفاد من فعله كما يستفاد من قوله، وذلك أن الله أراد نسخ تحريم زوجة المتبنَّى، قال تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ} (الأحزاب: 40)، وقال: {ادْعُوهُمْ لاِبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} (الأحزاب: 5)، فكان يُدعى بعد ذلك زيد بن حارثة، وقال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَرا زَوَّجْنَكَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ} (الأحزاب: 37).

وقد كان الله أوحى إلى رسوله أن زيدا سيطلق زوجته وتتزوجها بعده، إلا أن النبي بالغ في الكتمان لزيد: «أمسك عليك زوجك» فعاتبه الله على ذلك حيث قال: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَهُ} (الأحزاب: 37)، وهو عتاب على ترك الأولى، وكان الأولى في مثل ذلك أن يصمت عليه الصلاة والسلام أو يفوّض الأمر إلى رأي زيد رضي الله عنه، ولم يخبر النبي بما أوحي إليه من تطليق زيد لزينب وتزوجه إياها مخافة طعن الأعداء والمنافقين فعوتب عليه ولأنه أيضا لم يؤمر بالإخبار به بل كان مجرد إعلام له خاصة، وللقُصّاص في هذه القصة كلام لا ينبغي أن يجعل في حيز القبول ويجب صيانة النبي عن مثله.

وكانت زينب بنت جحش تفخر على نساء النبي وتقول: زوَّجني الله من السماء، وأولم عليها رسول الله بخبز ولحم، وكانت امرأة صالحة صوّامة قوّامة كثيرة الخير تعمل بيدها وتتصدق به، وكان اسمها برَّة فسماها رسول الله زينب، وهي وقتئذ بنت خمس وثلاثين سنة وبسبب زينب نزل الحجاب.

وتوفيت سنة عشرين وهي بنت ثلاث وخمسين سنة وهي أول نساء رسول الله موتا بعده، أرسل إليها عمر بن الخطاب اثني عشر ألف درهم كما فرض لنساء النبي فأخذتها وفرَّقتها في ذي قرابتها وأيتامها ثم قالت: «اللهم لا يدركني عطاء لعمر بن الخطاب بعد هذا»، فماتت وصلى عليها عمر بن الخطاب ودخل قبرها أسامة بن زيد ومحمد بن عبد الله بن جحش، وعبد الله بن أبي أحمد بن جحش، قيل: هي أول امرأة صنع لها النعش أشارت به أسماء بنت عميس كانت رأته في الحبشة، ودُفنت بالبقيع فيما بين دار عقيل ودار ابن الحنفية.

وعن عائشة قالت: يرحم الله زينب بنت جحش لقد نالت في هذه الدنيا الشرف الذي لا يبلغه شرف، إن الله عز وجل زوَّجها نبيّه في الدنيا ونطق به في القرآن، إن رسول الله قال لنا ونحن حوله: «أسرعكن بي لحوقا أطولكن باعا»، فبشرها رسول الله بسرعة لحوقها به عليه السلام وهي زوجته في الجنة.

غزوة المريسيع أو غزوة بني المصطلق

المُرَيْسيع: ماء لبني خزاعة وتسمى هذه الغزوة غزوة بني المصطلق وهم بطن من خزاعة، وكانت في شعبان سنة خمس من الهجرة (ديسمبر سنة 626 م) وسببها أن الحارث بن ضرار الخزاعي كان قد جمع الجموع لمحاربة النبي فخرج رسول الله وخرج معه كثير من المنافقين لم يخرجوا في غزوة قط مثلها وكان معه ثلاثون من الخيل، عشرة للمهاجرين وعشرون للأنصار واستعمل على المدينة زيد بن حارثة مولاه وقيل: أبا ذر الغفاري، وخرجت معه عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، وقَتَل رسول الله جاسوسا للمشركين وبلغ عليه السلام المُرَيْسيع من ناحية قديد إلى الساحل وصف أصحابه للقتال ودفع راية المهاجرين لأبي بكر رضي الله عنه وراية الأنصار لسعد بن عبادة، وحمل المسلمون على المشركين فقتلوا عشرة وأسروا باقيهم وكانوا أكثر من سبعمائة، وسبوا الرجال والنساء والذرية وساقوا النعم والشاء ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد وهو هشام بن صبابة وقد قتل خطأ، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت وهو يرى أنه من العدو.

وكان من جملة السبي: جُوَيرية بنت الحارث بن أبي ضرار رئيس بني المصطلق، وكانت تحت مسافع ابن صفوان قتل في هذه الغزوة وكان اسمها برة فسماها رسول الله جُويرية، وعن عائشة قالت: لما قسم رسول الله سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن شماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسها وكانت امرأة حلوة مُلاّحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله تستعينه في كتابتها، قالت عائشة: فوالله ما هو إلا أن رأيتها فكرهتها وقلت: يرى منها ما قد رأيت، فلما دخلت على رسول الله قالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث سيد قومه وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، وقد كاتبت على نفسي فأعني على كتابتي، فقال رسول الله «أو خير من ذلك أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك». فقالت: نعم، ففعل رسول الله فبلغ الناس أنه زوجها فقال أصهار رسول الله فأرسلوا ما كان في أيديهم من بني المصطلق، فلقد أعتق بها مائة من أهل بيت بني المصطلق، فما أعلم امرأة أعظم بركة منها على قومها، ولما تزوجها رسول الله حجبها وقَسم لها، وكانت حين تزوجها رسول الله بنت عشرين سنة وتوفيت سنة خمسين وهي بنت خمس وستين سنة، وبسبب زواجها هدى الله أكثر بني المصطلق إلى الإسلام، ثم أسلم الحارث، ومن هنا تظهر حكمة رسول الله في زواجها.

قتل هشام بن صبابة

قلنا: إن هشام بن صبابة قُتل خطأ أصابه رجل من الأنصار، فبينا الناس على ذلك الماء - المريسيع - وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يُقال له جهجاه بن سعيد يقود فرسه فازدحم جهجاه وسنان الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فغضب عبد الله بن أبيّ ابن سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلام حديث السن فقال: أقد فعلوها قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا والله ما عدَوْنا وجلابيب قريش ما قال القائل: سمِّن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلّ»، ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوَّلوا إلى غير بلادكم، فسمع ذلك زيد بن أرقم وكان غلاما فمشى به إلى رسول الله وذلك عند فراغ رسول الله من عدوه، فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله مر به عباد بن بشر بن وقش فليقتله، فقال رسول الله «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه»؟ لا ولكن أذن بالرحيل وذلك في ساعة لم يكن رسول الله يرتحل فيها، فارتحل الناس وقد مشى عبد الله بن أبيّ بن سلول إلى رسول الله حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به، وكان عبد الله بن أبيّ في قومه شريفا عظيما فقال من حضر رسول الله من أصحابه من الأنصار: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل حَدَبا على عبد الله بن أبيّ ودفعا عنه، فلما استقل رسول الله وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه تحية النبوة وسلم عليه، ثم قال: يا رسول الله لقد رحت في ساعة مبكرة ما كنت تروح فيها، فقال رسول الله «أوَ ما بلغك ما قال صاحبكم؟» قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: «عبد الله بن أبيّ»، قال: وما قال؟ قال: «زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل»، قال أسيد: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله ارفق به فوالله لقد جاء بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.

ثم مَشَى رسول الله بالناس يومهم ذلك حتى أمسى وليلتهم حتى أصبح وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ثم نزل بالناس، فلم يكن إلا أن وجدوا مسّ الأرض وقعوا نياما. وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبيّ، ثم راح بالناس وسلك الحجاز حتى نزل على ماء بالحجاز فُوَيقَ النقيع يقال له نقعاء، فلما راح رسول الله هبَّت على الناس ريح شديدة آذتهم وتخوفوها فقال رسول الله «لا تخافوا فإنما هبَّت لموت عظيم من عظماء الكفار»، فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن ثابت ابن التابوت أحد بني قينقاع وكان من عظماء يهود وكهفا للمنافقين قد مات في ذلك اليوم ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين في عبد الله بن أبيّ بن سلول ومن كان على مثل أمره فقال: {إِذَا جَآءكَ الْمُنَفِقُونَ} (المنافقون: 1) فبعث رسول الله إلى زيد بن أرقم وقرأ الآية عليه ثم قال له: إن الله قد صدقك.

وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبيّ الذي كان من أمر أبيه فأتى رسول الله فقال: يا رسول الله إنه قد بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبيّ فيما بلغك عنه؟ فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبرّ بوالده مني وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبيّ يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار، فقال رسول الله بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا.

وقدم مقيس بن صبابة من مكة مسلما فيما يظهر فقال: يا رسول الله جئتك مسلما وجئت أطلب دية أخي قتل خطأ، فأمر رسول الله بدية أخيه هشام بن صبابة فأقام عند رسول الله غير كثير ثم عدا على قاتل أخيه فقتله ثم خرج إلى مكة مرتدا.

آية التيمم

نزلت آية التيمم في هذه الغزوة وذلك بسبب أن عائشة رضي الله عنها انقطع عقدها فأقام رسول الله وأقام الناس معه على التماسه حتى ابتعدوا عن الماء ونام رسول الله واضعا رأسه على فخذ عائشة رضي الله عنها فنام رسول الله حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم فكان ضياع العقد سببا في نزول هذه الآية، وقال أبو بكر لابنته بعد أن كان يعاتبها: «والله يا بنتي إنك كما علمت مباركة» وآية التيمم مذكورة في سورة النساء والمائدة.

عائشة وحديث الإفك

كان حديث الإفك في غزوة بني المصطلق ولا خلاف في ذلك ولكن علماء السير اختلفوا هل قصة آية التيمم أسبق أو قصة الإفك، وخلاصة حديث الإفك: أن عائشة رضي الله عنها بعد غزوة رسول الله وحين آذنوا بالرحيل ابتعدت عن الجيش لقضاء شأنها، وبينما هي مقبلة إلى رحلها وجدت أن عقدها قد انقطع فعادت تبحث عنه فوجدته، لكنها لما رجعت وجدت أن الجيش قد رحل فجلست وغلبها النوم فنامت فرآها صفوان بن المعطل السُّلَمي وكان وراء الجيش فاستيقظت باسترجاعه، فأناخ راحلته وأركبها وانطلق حتى أتى الجيش في نحر الظهيرة وهم نزول فأشاع عبد الله بن أبي في المعسكر حديث الإفك وانتشر بعد دخولهم المدينة لشدة عداوته لرسول الله ومرضت عائشة رضي الله عنها شهرا واستاء رسول الله استياءً شديدا ثم ذهبت عائشة إلى بيت أبيها، وقد علمت بحديث الناس، وقالت لأمها: ماذا يتحدث الناس؟ فقالت: يا بنية هوّني عليك فوالله لقلّما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلا أكثرن عليها، فبكت بكاءً شديدا مما يتحدث الناس، وكانت لا تنام الليل من شدة الحزن والبكاء.

قلق رسول الله واشتد قلقه واستبطأ الوحي، فلم ير غير استشارة أصحابه فدعا عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد واستشارهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار على رسول الله بما يعلم من براءة أهله، وأما عليّ رضي الله عنه فقال: يا رسول الله «لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير» وهذا القول بلغ عائشة فلم تنسه طول حياتها، ثم قال عليّ: سل الجارية التي كانت تخدم عائشة تصدقك، فدعا رسول الله بريرة وسألها فأقسمت أنها لم تر عليها شيئا، وكانت عائشة رضي الله عنها ترجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرئها الله بها، وما كانت تظن أن الله تعالى ينزل في شأنها وحيا، وبينا رسول الله في حيرة إذ نزل الوحي عليه ببراءة عائشة رضي الله عنها، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَآءوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النور: 11).

وعصبة الإفك حسان بن ثابت رضي الله عنه ومِسْطح بن أثاثة وحِمنة بنت جحش، وعبد الله بن أُبي المنافق فلما نزلت براءة عائشة جلدهم رسول الله كل واحد ثمانين جلدة إلا عبد الله بن أبيّ فإنه لم يجلده بل أهمله، وفي ذلك يقول عبد الله بن رواحة:

لقد ذاق حسان الذي هو أهله ** وحِمنةُ إذا قالوا هجيرا ومسطح

تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم ** وسخطة ذي العرش الكريم فأبرحوا

قال السهيلي: إن من نسب عائشة رضي الله عنها إلى الزنا كان كافرا لأن ذلك تكذيب للنصوص القرآنية ومكذبها كافر.

وقال عروة: ما رأيت أحدا أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة، ولو لم يكن لعائشة من الفضائل إلا قصة الإفك لكفى بها فضلا وعلو مجد فإنها نزل فيها من القرآن ما يُتلى إلى يوم القيامة.

جاء في «صحيح البخاري» عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين أزواجه فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها معه، فأقرع بيننا في غزاة غزاها فخرج سهمي فخرجت معه بعدما أنزل الحجاب فأنا أحمل في هودج وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله من غزوته تلك وقفل دنونا من المدينة فآذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عِقْدٌ لي من جَزع ظَفَار قد انقطع فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه فأقبل الذين يُرَحِّلون لي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلن ولم يغشهن اللحم وإنما يأكلن العُلْقَة من الطعام فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج فاحتملوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش فجئت منزلهم وليس فيه أحد فأممت الموضع الذي كنت فيه وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إليَّ، فبينا أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت وكان صفوان بن المعَطّل السُّلَمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين أناخ راحلته فوطىء يدها، فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك من هلك وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ويريبني في وجعي أني لا أرى من النبي اللطف الذي كنت أرى منه حين أمرض إنما يدخل فيسلم فيقول كيف تِيكم لا أشعر بشيء من ذلك حتى نقهت فخرجت أنا وأم مِسّطح قِبَل المناصع مُتَبَرَّزنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكُنُف قريبا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في البرية أو في التنزه فأقبلت أنا وأم مسطح بنت أبي رُهم فَعَثَرَتْ في مِرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئسما قلت: أتسبين رجلا شهد بدرا؟ فقالت: يا هَنْتَاهُ ألم تسمعي ما قالوا؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل عليَّ رسول الله فسلم، فقال: كيف تيكُمْ؟ فقلت: ائذن لي إلى أبَوَيّ، قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله فأتيتُ أبويّ، فقلت لأمي: ما يتحدث الناس به؟ فقالت: يا بنية هوِّني على نفسك الشأن فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، فقلت: سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبت تلك الليلة حتى أصبحتُ لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت فدعا رسول الله عليَّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار عليه بالذي يعلم في نفسه من الود لهم، فقال أسامة: أهلك يا رسول الله ولا نعلم إلا خيرا، وأما عليٌّ فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وسل الجارية تَصدقك، فدعا رسول الله بَرِيرَةَ، فقال: «يا بريرة هل رأيت فيها شيئا يريبك؟» فقالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها قط أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام على العجين فتأتي الدَّاجن فتأكله، فقام رسول الله من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبيّ بن سَلول، فقال رسول الله «من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، وقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي»، فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله أنا والله أعذِرُك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية فقال: كذبت والله لا تقتله ولا تقدر على ذلك، فقام أُسيد بن الحضير فقال: كذبت لعمر الله والله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيَّان الأوس والخزرج حتى هموا ورسول الله على المنبر فخفضهم حتى سكتوا وسكت، وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم فأصبح عندي أبواي، وقد بكيت ليلتين ويوما حتى أظن أن البكاء فالق كبدي، قالت: فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينما نحن كذلك إذ دخل رسول الله فجلس ولم يجلس عندي من يوم قيل لي ما قيل قبلها، وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت: فتشهد ثم قال: «يا عائشة لقد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب الله عليه»، فلما قضى رسول الله مقالته قَلَص دَمعي حتى ما أحس منه قطرة، وقلت لأبي: أجب عني رسول الله قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله فيما قال، قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله قالت: وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن، فقلت: والله لقد علمت أنكم سمعتم ما يتحدث به الناس ووقر في أنفسكم وصدقتم به ولئن قلت لكم إني بريئة، الله يعلم إني لبريئة لا تصدقوني ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم إني لبريئة لتصدقني، والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}، ثم تحولت على فراشي وأنا أرجو أن يبرئني الله، ولكن والله ما ظننت أن ينزل الله في شأني وحيا يُتلى ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم بالقرآن في أمري ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما رام مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل الله عليه الوحي، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في يوم شات فلما سُرِّي عن رسول الله وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي: «يا عائشة احمدي الله فقد برأك الله»، فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَآءوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ} (النور: 11) الآيات، فلما أنزل الله عز وجل هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه -: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعدما قال لعائشة، فأنزل الله عز وجل: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى الْقُرْبَى} إلى قوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النور: 22)، فقال أبو بكر: بلى والله، إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه، وكان رسول الله سأل زينب بنت جحش عن أمري فقال: «يا زينب ما علمت ما رأيت؟» فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيرا، قالت: وهي التي كانت تُساميني فعصمها الله بالورع، اهـ.

هذه قصة الإفك وقد ظهر أن المنافقين قد افتروها وعلى رأسهم عبد الله بن أبي لشدة حقدهم على رسول الله فنسبوا إلى عائشة، وهي من أشرف بيت، ما هي بريئة منه ليلوثوا سمعتها الطاهرة النقية، ولكن الحق تعالى برأها من كل سوء وأعلى قدرها فطمأن زوجها رسول الله وأبوها وأمها وجميع المسلمين، وإن كان هذا شأن الحاسدين في كل زمان فإن الله عز شأنه لا بد أن يكلأ عباده الصالحين ويرعاهم وينصرهم على القوم الظالمين.

غزوة الخندق وهي الأحزاب

كانت غزوة الخندق في شوال من السنة الخامسة (فبراير سنة 627 م) باتفاق المؤرخين لكن ابن خلدون يقول في تاريخه (والصحيح أنها في الرابعة ويقويه ابن عمر يقول: ردني رسول الله يوم أُحد وأنا ابن أربع عشرة سنة ثم أجازني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فليس بينهما إلا سنة واحدة وهو الصحيح فهي قبل دومة الجندل بلا شك).

تحزب الأحزاب

لما وقع إجلاء بني النضير، سار منهم جمع من كبرائهم ومنهم سلام بن مشكم ورئيسهم كنانة بن أبي الحقيق النضري وحييّ بن أخطب وهوذة بن قيس الوائلي وأبو عامر الفاسق إلى أن قدموا مكة على قريش يدعونهم ويحرضونهم على حرب رسول الله.

قال الأستاذ ولفنسون: «لما نزل أشراف بني النضير في خيبر يفكرون في الثأر من الأنصار وجعلوا يفكرون في الوسائل التي توصلهم إلى آطامهم وتردهم إلى مزارعهم في منطقة يثرب فعزم نفر من اليهود فيهم سلام بن أبي الحقيق وحييّ بن أخطب وكنانة بن الربيع أن يحزبوا الأحزاب على المسلمين».

أي الدينين خير؟

لما دعت اليهود قريشا لمحاربة النبي وقالوا لهم سنكون معكم حتى نستأصله ارتابوا في أمرهم لأن دين اليهود قريب في جوهره من الإسلام وبعيد عن عبادة الأصنام كل البعد وقريش عباد أصنام، ولذلك قالوا لهم:

يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟.

قالوا: بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه، فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا واستعدوا للحرب، ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاءوا غَطَفان ودعوهم إلى مشاركتهم في الحرب وذكروا لهم استعداد قريش فأجابوهم.

إن اليهود أجابوا قريشا بأن دين قريش (الوثني) خير من دين محمد مخالفين بذلك دينهم الداعي إلى عبادة الله الواحد توصلا إلى غرضهم وهو محاربة المسلمين وطردهم من المدينة وإعادة إخوانهم إلى ديارهم وكان خيرا لهم أن يعيشوا مع المسلمين في وفاق ويكفوا عن الدسائس والفتن والانضمام إلى الأعداء، فأنزل الله تعالى فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبا مّنَ الْكِتَبِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّغُوتِ} (النساء: 51) الآيات...

وقد أدرك الأستاذ ولفنسون أنهم أخطأوا في تفضيلهم دين قريش على الإسلام فقال في كتابه «تاريخ اليهود» صفحة 142 ما نصه:

«والذي يؤلم كل مؤمن بإله واحد من اليهود والمسلمين على السواء، إنما هو تلك المحادثة التي جرت بين نفر من اليهود وبين قريش الوثنيين حيث فضل هؤلاء النفر من اليهود أديان قريش على دين صاحب الرسالة الإسلامية».

ولا يخفى أن الذين أدلوا بهذا الحديث ليسوا من عامة اليهود حتى يقال إنهم لا يعلمون ما يقولون أو إنهم لا يمثلون اليهود بل هم من رؤسائهم وأصحاب النفوذ فيهم، فهل هؤلاء لا يستحقون التأديب؟.

خروج الأحزاب وقوادهم

خرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة في بني فزارة والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري في بني مرة ومسعود بن رُخيلة بن نويرة بن طريف فيمن تابعه من قومه من أشجع.

حفر الخندق

فلما سمع رسول الله بتحزبهم وخروجهم لمحاربته أمر بحفر الخندق حول المدينة في الجهات التي لم تكن حصينة لتعوق العدو المهاجم، والذي أشار عليه بحفره سلمان الفارسي رضي الله عنه، وقد كان الفرس يحفرون الخنادق للدفاع في الحرب، قال سلمان: يا رسول الله كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، وعلى كل حال فإن كلمة خندق فارسية الأصل.

اشتغل رسول الله بحفر الخندق بنفسه ليقتدي به المسلمون، وليشجعهم على العمل فاشتغل المسلمون معه، أما المنافقون فكانوا يتوانون وينصرفون بدون إذن رسول الله ويستثقلون العمل ويثبطون العزائم وتباطأ رجال من المنافقين وصار الواحد منهم ينصرف إلى أهله من غير استئذان.

سلمان منا أهل البيت

خط رسول الله الخندق ثم قطعه أربعين ذراعا بين كل عشرة فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي وكان رجلا قويا فقالت الأنصار: سلمان منا، وقالت المهاجرون: سلمان منا، فقال رسول الله «سلمان منا أهل البيت».

اعتراض صخرة بيضاء ومعجزة الرسول

بينما جماعة من المسلمين يعملون في حفر الخندق في الجزء المخصص لهم ومعهم سلمان الفارسي إذ ظهرت صخرة بيضاء مَرْوَة فكسرت حديد معاولهم وشقت عليهم، فقالوا: يا سلمان ارق إلى رسول الله فأخبره خبر هذه الصخرة فإما أن نعدل عنها فإن المعدل قريب وإما أن يأمر فيها بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه، فرقي سلمان حتى أتى رسول الله وهو ضارب عليه قبة تركية فقال: يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا، خرجت صخرة بيضاء من الخندق مروة فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما نحيكُ فيها قليلا ولا كثيرا، فمرنا فيها بأمرك فإنا لا نحب أن نجاوز خطك، فهبط رسول الله مع سلمان في الخندق وأخذ المعول من سلمان رضي الله عنه فقال: «باسم الله» ثم ضربها فنثر ثلثها وخرج منها نور أضاء ما بين لابتيها يعني لابتي المدينة، فقال: «الله أكبر أعطيتُ مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة من مكاني»، ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر فبرقت برقة من جهة فارس أضاءت ما بين لابتيها، فقال: «الله أكبر أُعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن فأبشروا بالنصر»، فسُرَّ المسلمون، ثم ضرب الثالثة وقال: «باسم الله» فقطع بقية الحجر وخرج نور من قبل اليَمَن فأضاء ما بين لابتي المدينة حتى كأنه مصباح في جوف ليل مظلم، فقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة».

وجاء في صحيح البخاري عن جابر رضي الله عنه قال:

«إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة فجاءوا النبي فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: «أنا نازل» ثم قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا فأخذ النبي المعول فضرب في الكدية فعادت كثيبا أهيل.

عدد الجيشين

كان أهل الخندق ثلاثة آلاف، ولما فرغ رسول الله من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من دومة بين الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من كنانة وأهل تهامة وأقبلت غَطَفَان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نَقَمَى بجانب أُحد.

نقض العهد

كان كعب بن أسد القرظي سيد بني قريظة قد وادع النبي على قومه وعاقده على ذلك فذهب إليه حُيَيّ بن أخطب النضري وهو أحد الذين حزبوا الأحزاب فلما سمع كعب حُيَيّ بن أخطب أغلق دونه باب حصنه فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له فألح عليه ابن أخطب ففتح له وما زال يستميله ويغريه حتى نقض كعب عهده وبرىء مما كان بينه وبين رسول الله وصار هو وقومه وبنو قريظة مع الأحزاب على رسول الله وعلم بذلك رسول الله وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف.

اشتداد الحصار

اشتد الخوف من تحزب الأحزاب ولا سيما بعد أن نقض بنو قريظة العهد وانضموا إلى الأعداء وظن المؤمنون كل الظن وانتهز المنافقون هذه الفرصة لتثبيط العزائم وهمّ بالفشل بنو حارثة وبنو سلمة معتذرين بأن بيوتهم عورة خارج المدينة ثم ثبتهم الله ودام الحصار على المسلمين قريبا من شهر ولم يكن بينهم غير الرمي بالنبال، وكان لدى المسلمين من المؤونة ما يكفيهم أكثر من عام.

اقتحام الخندق

خرجت فوارس من قريش على خيلهم بعد أن تهيأوا للقتال حتى وقفوا خارج الخندق فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم يمموا مكانا من الخندق ضيقا فضربوا خيلهم فاقتحمت منه فجالت بهم السبخة بين الخندق وسلع وخرج عليّ بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذ عليهم الثغرة التي اقتحموها وخرج عمرو بن عبد ود وطلب المبارزة وكان عمره تسعين سنة فبارزه عليّ بن أبي طالب فقتله، وذكر ابن إسحاق أن المشركين بعثوا إلى رسول الله يشترون جيفة عمرو بعشرة آلاف، فقال رسول الله: «هو لكم ولا نأكل ثمن الموتى»، وخرجت خيله منهزمة، حتى اقتحمت من الخندق هاربة وقتل مع عمرو رجلان منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار أصابه سهم فمات منه بمكة، ومن بني مخزوم نوفل بن عبد الله بن المغيرة وكان اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة فقال: يا معشر العرب قتلة أحسن من هذه فنزل إليه عليّ فقتله، ومن الذين كانوا يناوشون المسلمين خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وذلك قبل إسلامهما.

ورُمِي سعد بن معاذ يومئذ بسهم رماه رجل يقال له ابن العَرِقة العامري فقال: خذها وأنا ابن العرقة، فقال سعد: عرّق الله وجهك في النار فأصاب الأكحل منه فقطعه، فقال سعد: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني في (بني قريظة) وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية، ونقل سعد وهو مجروح إلى خيمة رُفيدة وقد كانت امرأة تداوي الجرحى في المسجد.

حسان بن ثابت يخشى القتال

كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع - حصن حسَّان بن ثابت - قالت: وكان حسان معنا فيه مع النساء والصبيان، قالت صفية: فمرّ بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله وليس بيننا وبينهم أحد يدافع عنا ورسول الله والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم إن أتانا آت، قالت: فقلت: يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا مَن وراءنا من يهود وقد شغل عنا رسول الله وأصحابه فانزل إليه فاقتله، فقال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت، فلما قال ذلك لي ولم أر عنده شيئا احتجزت ثم أخذت عمودا ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسان انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل، قال: ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب، فكانت صفية أشجع من حسان.

استمرار القتال وفوات الصلاة

استمر القتال في يوم من أيام الخندق من سائر جوانب الخندق إلى الليل ولم يصلّ ولا أحد من المسلمين صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصار المسلمون يقولون: ما صلينا، فيقول رسول الله «ولا أنا»، فلما انكشف القتال وجاء إلى قبته أمر بلالا فأذن وأقام للظهر فصلى، ثم أقام لكل صلاة وصلى هو وأصحابه.

وجاء في رواية جابر رضي الله عنه أنه أذن وأقام لكل صلاة، وجمع النووي بأنهما قضيتان جرتا في أيام الخندق فإنها كانت خمسة عشر يوما، وفي رواية: أن التي فاتت صلاة العصر ويحمل ذلك على أنه وقع في بعض تلك الأيام وجاء في بعض الروايات: «شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر حتى غابت الشمس ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا».

إن الحرب خدعة

جاء نُعيم بن مسعود بن عامر بن أُنيف بن ثعلبة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال له رسول الله «إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة»، فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديما في الجاهلية فقال لهم: يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وقد ظاهرتموهم عليه، وإن قريشا وغطفان ليسوا كهيئتكم، البلد بلدكم، به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره وإن قريشا وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم وبلدهم بغيره فليسوا كهيئتكم إن رأوا نُهْزَة وغنيمة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى تناجزوه، فقالوا: لقد أشرت برأي ونصح، ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: يا معشر قريش قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمدا وقد بلغني أمر رأيت حقا عليّ أن أبلغكموه نصحا فاكتموا عليّ، قالوا: نفعل ذلك، قال: فاعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك عنا أن نأخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم؟ فأرسل إليهم أن نعم، فإن بعث إليكم يهود يلتسمون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا، ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان أنتم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إليَّ ولا أراكم تتهمونني، قالوا: صدقت، قال: فاكتموا عليّ، قالوا: نفعل، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم.

فلما كانت ليلة السبت في شوال سنة خمس، وكان ما صنع الله عز وجل لرسوله أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفرٍ من قريش وغطفان فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم أن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك من محمد، فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان: تعلمون والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن أنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن وجدوا فرصة انتهزوها وإن كانوا غير ذلك تشمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلادكم، فأرسلوا إلى قريش وغطفان إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا، فأبوا عليهم وخَذل الله بينهم، وبذلك نجحت الخدعة.

وفي «طبقات ابن سعد»: حُصر رسول الله وأصحابه بضع عشرة ليلة حتى خلص إلى كل امرىء منهم الكرب فأراد رسول الله أن يعالج غطفان على أن يعطيهم ثلث الثمر ويخذلوا بين الناس وينصرفوا عنه فأبت ذلك الأنصار فترك ما كان من ذلك، وقد تبيَّن لنا أن نعيم بن مسعود قد قام بذلك خير قيام.

حرب الطبيعة

نجح نعيم بن مسعود في خدعته وأوقع الفشل بين بني قريظة وقريش، ثم جاءتهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم وأصيبوا بالبرد وماتت مواشيهم، فلما انتهى إلى رسول الله ما اختلف من أمرهم وما فرق الله من جماعتهم، دعا حذيفة فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا، وكان حذيفة صاحب سر رسول الله في المنافقين لم يعلمهم أحد إلا حذيفة، أعلمه بهم رسول الله قال حذيفة: فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناءً، قال تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحا وَجُنُودا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرا} (الأحزاب: 9).

خطبة أبي سفيان

قام أبو سفيان بن حرب فقال: «يا معشر قريش لينظر امرؤ جليسه»، قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ فقال: أنا فلان بن فلان، ثم قال أبو سفيان: «يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ولقينا من هذه الريح ما ترون والله ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء فارتحلوا فإني مرتحل» ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلا وهو قائم.

هذه خطبة أبي سفيان في الجيش، وكان قائدهم ولا بقاء للجند بعد رجوع القائد ونصيحته لهم بالعودة، ولا شك أنهم سئموا الإقامة ولم يروا فائدة من الانتظار أكثر مما انتظروا، وقد ساءت حالهم بسبب اشتداد البرد وهبوب الريح وعدم رغبة بني قريظة في القتال، وقد كانوا يؤملون دخول المدينة، فكان الخندق عقبة في سبيلهم بالرغم من كثرة عددهم، ولما سمعت غطفان بما فعلت قريش تشمروا راجعين إلى بلادهم تاركين ما استثقلوا من متاعهم فغنمه المسلمون، وانصرف المسلمون عن الخندق ورجعوا إلى المدينة ووضعوا السلاح بعد أن حاصرهم المشركون خمسة عشر يوما، وانصرف من غزوة الخندق يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة.

قال بعد انصراف الأحزاب: «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا»، وقد كان كما أخبر وكانت هذه الغزوة آخر محاولة من جانب أشراف مكة للقضاء على الدين الجديد ألا وهو الإسلام.

خسائر المسلمين

ذكر ابن إسحاق أنه استشهد من المسلمين يوم الخندق ستة لا غير: ثلاثة من الأوس وهم: سعد بن معاذ، وأنس بن أوس، وعبد الله بن سهيل، وثلاثة من الخزرج وهم: الطفيل بن النعمان، وثعلبة بن غنمة، وكعب بن زيد.

خسائر المشركين

أما عدد قتلى المشركين فثلاثة: منبه بن عبد العبدري أصابه سهم فمات منه بمكة، ونوفل بن عبد الله المخزومي، وعمرو بن عبد وُدّ.

غزوة بني قريظة ذو القعدة سنة خمس

إبريل سنة 627 م

بنو قُرَيْظَة قوم من اليهود بالمدينة من حلفاء الأوس، وسيد الأوس حينئذ سعد بن معاذ.

ذكرنا أن بني قريظة نقضوا العهد وحاربوا رسول الله مع الأحزاب واشتد البلاء على المسلمين ثم كفوا عن القتال لما أوقعه نُعيم من الفشل بينهم وبين قريش فكان تأديبهم أمرا لا مناص عنه لأن وجودهم بالمدينة فتنة تهدد المسلمين، ولأنهم هم الذين حزبوا الأحزاب، وانضموا إلى الأعداء، في غزوة الخندق.

لما انصرف رسول الله من الخندق دخل المدينة لسبع بقين من ذي القعدة سنة خمس هو وأصحابه ووضعوا السلاح وكان قد صلى الصبح ودخل بيت عائشة رضي الله عنها، فلما كان وقت الظهيرة أتى جبريل عليه السلام رسول الله معتجرا بعمامة من استبرق على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من ديباج فقال: أوَقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: «نعم»، فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم، وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله لما رجع يوم الخندق ووضع السلاح واغتسل فأتاه جبريل وقد عصب رأسه الغبار فقال: وضعت السلاح فوالله ما وضعته، فقال رسول الله «فأين؟» قال: ها هنا، وأومأ إلى بني قريظة، قالت: فخرج إليهم رسول الله

فأمر رسول الله مؤذنا فأذن في الناس من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم فيما قال ابن هشام.

وقدم رسول الله عليّ بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة وابتدرها الناس، وكان عدد من خرج إلى القتال ثلاثة آلاف والخيل ستة وثلاثين فرسا.

دنا عليّ كرّم الله وجهه من الحصن، ومعه نفر من المهاجرين والأنصار وغرز اللواء عند أصل الحصن، فسمع من بني قريظة مقالة قبيحة في حقه وحق أزواجه فرجع حتى لقي رسول الله بالطريق فقال: يا رسول الله لا عليك ألاّ تدنو من هؤلاء الأخابث، قال: لِمَ؟ أظنك سمعت لي منهم أذى، قال: نعم يا رسول الله لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا، فلما دنا رسول الله من حصونهم قال: «يا إخوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟» قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا.

ومرّ رسول الله بنفرٍ من أصحابه بالصوْرَين قبل أن يصل إلى بني قريظة فقال: «هل مرّ بكم أحد؟» قالوا: يا رسول الله قد مرّ بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة، عليها قطيفة ديباج فقال رسول الله «ذلك جبريل بُعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم».

وحاصرهم رسول الله خمسا وعشرين ليلة كما قال ابن إسحاق وقال الواقدي: إحدى وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب، وكان طعام الصحابة التمر يرسل به إليهم سعد بن عبادة.

وقد كان حُيَيّ بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه، فلما أيقنوا أن رسول الله غير منصرف عنهم حتى يناجزهم (يقاتلهم) قال كعب بن أسد لهم:

يا معشر اليهود إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيّها شئتم، قالوا: وما هن؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد كان تبين لكم أنه لنبيٌّ مرسل وإنه للذي كنتم تجدونه في كتابكم فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره.

قال: فإذا أبيتم عليَّ هذه فهَلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مُصْلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلا يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد فإن نهلك، نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه وإن نظفر فلعمري لنجدن النساء والأبناء.

قالوا: نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم؟.

قال: فإذا أبيتم هذه عليَّ فإن الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمِنوا فيها فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غِرَّة (غفلة).

قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا إلا من قد علمت فأصابه من المسخ ما لم يخف عليك.

قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما.

ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله أن ابعث إلينا أبا لُبابة وهو رفاعة بن عبد المنذر أخو بني عمرو بن عوف وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله إليهم فلما رأوه، قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان (أي أسرعوا إليه) يبكون في وجهه من شدة المحاصرة فرق لهم وقالوا له: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه «إنه الذبح» قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنتُ الله ورسوله (بإذاعة سره) ومن هذا يتبين أن أبا لبابة كان يعلم أنهم سيقتلون قبل أن يحكم فيهم سعد.

ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى أموت أو يتوب الله عليَّ مما صنعت وعاهد الله أن لا يطأ بني قريظة أبدا، وقال: لا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا، فلما بلغ رسول الله خبره وأبطأ عليه وكان قد استبطأه قال: «أما لو جاءني لاستغفرت له، فأما إذا فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه».

ثم إن توبة أبي لبابة أنزلت على رسول الله وهو في بيت أم سلمة فبشرت أبا لبابة بذلك ثم أطلقه رسول الله

فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت وقد كان رسول الله قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج فنزلوا على حكمه، فسأله إياهم عبد الله ابن أبي بن سلول فوهبهم له، فلما كلمه الأوس قال رسول الله «ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟» قالوا: بلى، قال: «فذاك إلى سعد بن معاذ» وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله في خيمة امرأة من المسلمين يُقال لها رُفَيدة في مسجده كانت تداوي الجرحى وتحتسب نفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وقد قال رسول الله لقومه حين أصابه السهم بالخندق: «اجعلوه في خيمة رُفيدة حتى أعوده من قريب».

حكم سعد بن معاذ

كان أبو لبابة بن عبد المنذر قد عرف حكم رسول الله في بني قريظة لأنه لما ذهب إليهم أشار بيده إلى حلقه «إنه الذبح» ثم ندم على هذه الإشارة واعتبرها خيانة لله ورسوله وكان ما كان منه، أما سعد بن معاذ فقد كان حكمه في بني قريظة معروفا أيضا لأنه لما أصيب في غزوة الخندق قال: «اللهم لا تمتني حتى تقرّ عيني في بني قريظة» وقد بقي مجروحا إلى أن استدعاه رسول الله ليحكم في بني قريظة فأتاه قومه فاحتملوه على حمار وكان رجلا جسيما وأقبلوا معه إلى رسول الله وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإن رسول الله إنما ولاك ذلك لتُحسن فيهم، فلما أكثروا عليه، قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي سمع منه.

فلما انتهى سعد إلى رسول الله والمسلمين، قال رسول الله «قوموا إلى سيدكم فأنزلوه»، فقال رسول الله «احكم فيهم»، قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل مُقاتِلتُهم وأن تُسبى ذراريُّهم وأن تُقسم أموالهم، فقال رسول الله «لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله»، فأمر رسول الله أن تكون النساء والذرية في دار ابنة الحارث امرأة من بني النجار وأمر بالأسارى أن يكونوا في دار أسامة بن زيد، ثم خرج رسول الله إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق ثم أمر بقتل كل من أنبت، فبعث إليهم فجاءوا إليه أرسالا تضرب أعناقهم ويلقون في تلك الخنادق وكان فيهم عدو الله حُييّ بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم وهم 600 أو 700، وقيل: إنهم كانوا من 800 إلى 900.

وقد قالوا لكعب: ما ترى ما يُصنع بنا؟ فقال كعب: في كل موطن لا تعقلون، ألا ترون الداعي لا ينزع وأنه من ذُهِبَ به منكم لا يرجع، هو والله القتل.

فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله ثم رد عليهم التراب وأتى بحييّ بن أخطب وعليه حلة له فقاحية (على لون الورد) قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة أنملة أنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى رسول الله قال: أما والله ما لمتُ نفسي في عداوتك، ولكنه من يَخذل الله يُخذل ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس لا بأس بأمر الله، كتاب الله وقدره وملحمة (فقال) قد كتبت على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه وضربت عنق كعب بن أسد سيد بني قريظة وكان المتولي قتل بني قريظة عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوام، وعند قتلهم الرجال صاحت نساؤهم وشقت جيوبها ونشرت شعورها وضربت خدودها وملأت المدينة نواحا.

عن عائشة رضي الله عنها قالت:

«لم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة، قالت: والله إنها لعندي تحدّث معي وتضحك ظهرا وبطنا ورسول الله يقتل رجالهم بالسوق إذ هتف هاتف باسمها أين فلانة؟ قالت: أنا والله، قلت: ويلك ما لك؟ قالت: أقتل، قلت: ولِمَ؟ قالت: حدث أحدثته، قالت: فانطلق بها فضربت عنقها فكانت عائشة تقول: ما أنسى عجبا منها طيب نفس وكثر ضحك وقد عرفت أنها تُقتل».

نقول: أشفقت عائشة رضي الله عنها على بنانة لطيب نفسها ومرحها حتى آخر لحظة من حياتها وكانت مع ذلك تعلم أنها ستُقتل لأنها قَتَلت أحد المسلمين بإلقاء الرحى عليه وهو خلاد بن سويد إذ لم تستطع أن تعيش بعد زوجها فنالت جزاءها، ولم يُقتل من نساء بني قريظة غيرها.

وكانت تدعى هذه المرأة بنانة امرأة الحكم القُرَظي كانت طرحت رحى على خلاد بن سويد فقتلته بإرشاد زوجها لأنه أحب ألا تبقى بعده فيتزوجها غيره ولم يُقتل أحد من المسلمين في هذه الغزوة غير خلاد، وشهد خلاد العقبة وبدرا وأُحدا.

غنائم المسلمين

أمر رسول الله أن يجمع ما في حصونهم من الحلقة والسلاح وغير ذلك فجمع فوجد فيها 1500 سيف و 300 درع و 2000 رمح و 500 تُرْس وحَجَفة، ووجد أثاث كثير وآنية كثيرة وجمال نواضح أي يسقى عليها الماء وماشية وشياه كثيرة، فخمس ذلك مع النخل والسبي ثم قسم الباقي على الغانمين وكانت أسهم القسمة 3072 سهما لأن المسلمين 3000 والخيل 36 للفرس سهمان ولصاحبه سهم، ثم بعث رسول الله سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبد الأشهل بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع لهم منها خيلا وسلاحا واصطفى لنفسه من نسائهم (ريحانة) بنت عمرو بن جنافة فكانت عند رسول الله حتى توفي عنها وهي في ملكه وعرض عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فقالت: يا رسول الله بل تتركني في ملكك فهو أخف عليَّ وعليك، فتركها ثم أسلمت.

وفاة سعد

لما انقضى شأن بني قريظة انفجر جُرح سعد بن معاذ فمات فيه شهيدا، قال ابن إسحاق: حدثني معاذ بن رفاعة الزرقي قال: من شئت من رجال قومي إن جبريل عليه السلام أتى رسول الله حين قبض سعد بن معاذ في جوف الليل معتجرا بعمامة من استبرق فقال: يا محمد من هذا الميت الذي فُتحت له أبواب السماء واهتز له العرش؟ قال: فقام رسول الله سريعا يجر ثوبه إلى سعد فوجده قد مات، وعن الحسن البصري قال: كان سعد رجلا بادنا فلما حمله الناس وجدوا له خفة فقال رجال من المسلمين: والله إنه كان لبادنا وما حملنا من جنازة أخف منه، فبلغ ذلك رسول الله فقال: «إن له حملة غيركم والذي نفسي بيده لقد استبشرت الملائكة بروح سعد واهتز له العرش»، وعن جابر بن عبد الله قال: لما دُفن سعد ونحن مع رسول الله سبّح رسول الله فسبح الناس معه ثم كبّر فكبّر الناس معه، فقالوا: يا رسول الله ممّ سبحت، قال: «لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرّج الله عنه»، وقد دُفن سعد ببقيع الغرقد، قال رسول الله «كل نائحة تكذب إلا نائحة سعد بن معاذ» وأم سعد كبيشة بنت رافع بن معاوية بن عبيد بن ثعلبة بن عبد بن الأبجر، وهي أول من بايع النبي من نساء الأنصار.

خسائر المسلمين في غزوة بني قريظة

خَلاد بن سُويد - طرحت عليه رحى، أما أبو سنان بن محصن فمات ورسول الله محاصر بني قريظة فدُفن في مقبرة بني قريظة التي يدفنون فيها إلى اليوم وإليه دفنوا أمواتهم في الإسلام.

وقد استفظع بعض المؤرخين الأجانب قتل بني قريظة بهذه الصورة، لكنهم نقضوا عهد رسول الله مع أنه حالفهم وأمّنهم ومنحهم حرية الدين والعبادة ومع هذا اتفقوا مع العدو في أحرج الساعات وحاربوا المسلمين فكان جزاؤهم الحكم بالإعدام، وإنا نجد في التاريخ الحديث ما يماثل ذلك فقد قضى محمد علي باشا الكبير على المماليك في القلعة لأنهم كانوا يتآمرون عليه وبذلك تخلص من عدوانهم وأمن شرهم.

ما نزل من القرآن في أمر الخندق وبني قريظة

قال ابن إسحاق: وأنزل الله تعالى في أمر الخندق وأمر بني قريظة من القرآن القصة في سورة الأحزاب يذكر فيها ما نزل من البلاء ونعمته عليهم وكفايته إياهم حين فرّج الله ذلك عنهم بعد مقالة مَن قال من أهل النفاق: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحا وَجُنُودا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرا} (الأحزاب: 9)، والجنود قريش وغطفان وبنو قريظة وكانت الجنود التي أرسل الله عليهم مع الريح الملائكة، يقول الله تعالى: {إِذْ جَآءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الاْبْصَرُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ} (الأحزاب: 10)، فالذين جاءوهم من فوقهم بنو قريظة والذين جاءوهم من أسفل منهم قريش وغطفان، يقول الله تعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالا شَدِيدا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَفِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورا} (الأحزاب: 11، 12)، لقول معتب بن قشير إذ يقول ما قال: {وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مّنْهُمْ يأَهْلَ.يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارا} (الأحزاب: 13)، لقول أوس بن قيظي ومن كان على مثل رأيه من قومه: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لاَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيرا وَلَقَدْ كَانُواْ عَهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الاْدْبَرَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا} (الأحزاب: 14، 15)، فهم بنو حارثة وهم الذين هموا أن يفشلوا يوم أُحد مع بني سلمة حين هموا بالفشل إلى قوله تعالى: {وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَهَرُوهُم مّنْ أَهْلِ الْكِتَبِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَرَهُمْ وَأَمْولَهُمْ وَأَرْضا لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرا} (الأحزاب: 26، 27) ظاهروهم أي عاونوهم من أهل الكتاب وهم بنو قريظة، من صياصيهم من الحصون والآطام التي كانوا فيها.

يهود المدينة وما آل إليه أمرهم

كان بين الأوس والخزرج حروب قديمة، فلما هاجر رسول الله إلى المدينة لقبهم بالأنصار لأنهم هم الذين نصروه فتآخى الفريقان وانمحى ما كان بينهما من العداوة وصاروا بنعمة الإسلام إخوانا وآخى عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار، أما يهود المدينة فقد كانت بنو قريظة والنضير حلفاء الأوس وبنو قينقاع حلفاء الخزرج وقد عاهدهم رسول الله وأقرهم على دينهم وأموالهم، لكنهم ثاروا ونقضوا عهده وتعنتوا في مناقشته وحسدوه على انتصاراته وكادوا له وعادوا ينكرون عليه نبوته، فلما رأى رسول الله منهم الغدر وشدة العناد ودس الدسائس، أراد التخلص منهم متحينا الفرص فدعا بني قينقاع إلى الإسلام بعد غزوة بدر وكانوا يسكنون بالمدينة، فلما أبوا وأجابوه بكل جرأة غزاهم وأجلاهم إلى أذرعات بالشام في السنة الثانية من الهجرة وأرسل من قتل كعب بن الأشرف الشاعر الذي كان يهجو رسول الله بأشعاره ويحض كفار قريش على قتاله وذلك في السنة الثالثة من الهجرة، وغزا في السنة الرابعة بني النضير، وقد تقدم سبب هذه الغزوة، وأجلاهم عن المدينة فمنهم من سار إلى الشام ومنهم من ذهب إلى خيبر، ثم غزا بني قريظة في السنة الخامسة لأنهم هم الذين حزبوا الأحزاب عليه في غزوة الخندق وانضموا إلى الأعداء في أحرج المواقف، وبعد غزوة بني قريظة لم تقم لليهود قائمة بالمدينة وخضع المنافقون كل الخضوع وقد كانوا فئة قليلة أما المدينة فلم تعد ملجأ للمضطهدين بل صارت مركزا لسلطة دينية عظيمة واستطاعت إخضاع جزيرة العرب بعد سنين قليلة.

سرية القرطا وإسلام ثمامة بن أثال الحنفي

كانت هذه السرية لعشر خلون من المحرم سنة ست من الهجرة.

بعث رسول الله محمد بن مسلمة الأنصاري في ثلاثين راكبا إبلا وخيلا، وأمره أن يسير الليل ويكمن النهار وأن يشن الغارة عليهم ففعل ما أمر به فلما أغار عليهم هرب باقيهم بعد من قتل وكان المقتول منهم عشرة، وقيل: نحو العشرين واستاق 150 بعيرا و 3000 شاة فعدلوا الجزور بعشرة من الغنم.

وقدم المدينة لليلة بقيت من المحرم وغاب تسع عشرة ليلة وأسر ثُمامة بن أٌثال.

روى ابن إسحاق عن أبي هريرة رضي الله عنه أن خيلا لرسول الله أخذت ولا يشعرون من هو حتى أتوا به رسول الله، فقال: «أتدرون من أخذتم؟ هذا ثمامة بن أثال الحنفي» فربطوه بسارية من سواري المسجد بأمره لينظر حسن صلاة المسلمين واجتماعهم عليها فيرق قلبه، فخرج إليه رسول الله فقال: «ماذا عندك يا ثمامة؟» قال: عندي خير يا محمد إن تَقتل تَقتُل ذا دم، وإن تُنعِم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه حتى كان الغد، ثم قال له: «ما عندك يا ثمامة؟» قال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: «ما عندك يا ثمامة؟» قال: عندي ما قلت لك، فقال: «أطلقوا ثمامة»، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) ثم قال: والله يا محمد ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك وقد أصبح وجهك أحبّ الوجوه إليّ، والله ما كان من دين أبغض إليّ من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إليّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره النبي بخير الدنيا والآخرة وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة يلبي وينفي الشريك عن الله قال له قائل: صبوت؟ قال: لا، ولكن أسلمت لله رب العالمين مع محمد رسول الله ولا والله تأتيكم من اليمامة حبّة حنطة حتى يأذن فيها النبي وقيل: إنه منع عن مكة الميرة من اليمامة حتى أكلت قريش العَلْهَز.

ثم صار ثمامة رضي الله عنه من فضلاء الصحابة وهدى الله به خلقا كثيرا من قومه ولم يرتد مع من ارتد من أهل اليمامة ولا خرج عن الطاعة قط وقام مقاما حميدا بعد وفاة النبي حين ارتدت اليمامة مع مسيلمة فقال: بسم الله الرحمن الرحيم: {حم تَنزِيلُ الْكِتَبِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (غافر: 1 - 3)، ثم قال: فأين هذا من هذيان مسيلمة؟ فأطاعه ثلاثة آلاف وانحازوا إلى المسلمين.

غزوة بني لحيان

كانت في أول شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة (يونيه - يوليه سنة 627 م) وسببها أن رسول الله حزن على عاصم بن ثابت وأصحابه القراء الذين قتلوا ببئر معونة في شهر صفر من السنة الرابعة، فأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة فخرج من المدينة فسلك على غُراب على طريقه إلى الشام ثم على مخيض ثم على البتراء، ثم صفق ذات اليسار فخرج على بين ثم على صخيرات اليمام ثم استقام به الطريق على المحجة من طريق مكة ثم أسرع السير حتى نزل على غُران وهي منازل بني لحيان إلى بلد يقال لها ساية، وكان معه 200 رجل ومعهم 20 فرسا واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.

وقد وجد رسول الله أن القوم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال، فأقام يوما أو يومين يبعث السرايا من كل ناحية من نواحيهم، ثم خرج حتى أتى عسفان فبعث أبا بكر رضي الله عنه في عشرة فوارس لتسمع بهم قريش فيذعرهم ثم رجع رسول الله ولم يلق كيدا، وكانت غيبته عن المدينة أربع عشرة ليلة.

إغارة عيينة بن حصن

ثم قدم رسول الله المدينة فلم يقم إلا ليالي قلائل حتى أغار عُييْنَة بن حصن بن بدر الفزاري في خيل لغطفان على لقاح رسول الله بالغابة وكانت عشرين لقحة وفيها رجل من بني غفار وامرأته فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة في اللقاح.

والرجل الذي قتلوه هو ابن أبي ذر رضي الله عنه واسمه ذر وكان يرعى الإبل وامرأته التي أسروها اسمها ليلى وقد نجت لأنهم أوثقوها وكانوا يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم فانطلقت وركبت ناقة للنبي ليلا على حين غفلتهم، ويُقال: إن الناقة اسمها العضباء، فانطلقت ولما علموا بها طلبوها فأعجزتهم ونذرت لئن نجت لتنحرنها، فلما قدمت على النبي أخبرته بذلك، وقالت: يا رسول الله إني نذرت لله تعالى أن أنحرها إن نجاني الله عليها، فقال: «بئسما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك أن تنحريها، إنه لا نذر لأحد في معصية ولا لأحد فيما لا يملك إنما هي ناقة من إبلي، ارجعي إلى أهلك على بركة الله».

غزوة ذي قرد وهي غزوة الغابة

ذو قرَد ماءٌ على نحو بريد من المدينة، مما يلي بلاد غطفان، وكانت في ربيع الأول سنة ست (يوليه سنة 627 م) وفي البخاري أنها كانت قبل خيبر بثلاثة أيام وبعد الحديبية بعشرين يوما.

وسببها إغارة عيينة بن حصن الفزاري على لقاح رسول الله كما تقدم.

لما أغاروا على اللقاح في يومهم ذلك جاء الصريخ فنادى الفزع الفزع، ونودي يا خيل الله اركبي، وأول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي.

ركب رسول الله في خمسمائة واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم كعادته، وخلف سعد بن عبادة رضي الله عنه في 300 رجل يحرسون المدينة، وعقد لواء للمقداد رضي الله عنه في رمحه، وقال: امض حتى تلحقك الخيول وأنا على إثرك.

وكانت نتيجة هذه الغزوة أنهم أدركوا العدو فهزموه وقتلوا رؤساءه واستنقذوا اللقاح، وقيل: بَعضَها، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد وهو محرز بن نضلة، وسار رسول الله حتى بلغ ذا قرد في اتجاه خيبر فالتجأ العدو إلى بني غطفان، وقد أبلى في هذه الغزوة سلمة بن الأكوع بلاءً حسنا وكان راميا.

قتل أبو قتادة مسعدة بن حكمة الفزاري فأعطاه رسول الله فرسَه وسلاحه ولقي عكاشة بن محصن رضي الله عنه في طريقه أبان بن عمرو وابنه عمرا على بعير فانتظمهما بالرمح فقتلهما جميعا.

وكانت مدةُ غيبة رسول الله خمسة أيام وصلى بذي قرد صلاة الخوف.

سرية الغمر أو سرية عكاشة بن محصن الأسدي

الغَمْر ماء لبني أسد على ليلتين من فَيد - قلعة بطريق مكة - وكانت في شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة.

خرج عكاشة رضي الله عنه في أربعين رجلا فنذر به القوم فهربوا فنزلوا على بلادهم فوجدوا ديارهم خالية لهربهم، فبعث المسلمون طليعة فرأوا أثر النعم قريبا فقصدوها فأصابوا رجلا منهم فأمنوه فدلهم على نعم لبني عم لهم فأغاروا عليها فاستاقوا 200 بعير وأطلقوا الرجل وقدموا بالإبل على رسول الله ولم يلقوا حربا.

سرية محمد بن مسلمة الأنصاري إلى ذي القصة

كانت في شهر ربيع الأول (الموافق شهر أغسطس سنة 627 م).

خرج محمد بن مسلمة ومعه عشرة إلى بني ثعلبة فورد عليهم ليلا بمن معه، وقد كمن لهم المشركون لشعورهم بمجيئهم إليهم، فتركوا محمد بن مسلمة حتى نام هو وأصحابه، ثم أحدقوا بهم فما شعر المسلمون إلا بالنبل قد خالطهم فوثب محمد بن مسلمة ومعه قوس فصاح في أصحابه: السلاح فوثبوا فتراموا بالنبل ساعة من الليل ثم انحاز أصحاب محمد إليه وقد قتلوا من القوم رجلا، ثم حمل القوم عليهم بالرماح فقتلوهم إلا محمد بن مسلمة فوقع جريحا فحمله رجل من المسلمين حتى ورد به المدينة جريحا.

فبعث رسول الله أبا عبيدة عامر بن الجراح في ربيع الآخر في أربعين رجلا إلى منازلهم فأغار عليهم فلم يجد أحدا ووجد نعما وشاء فساقه وأصاب رجلا واحدا فأسلم فتركه وأخذ نعما من نعمهم فاستاقه وشيئا من متاعهم وقدم به المدينة.

وظاهر من إرسال محمد بن مسلمة في عشرة رجال أن السبب هو ما بلغهم من أن بني ثعلبة وأنمار أجمعوا على أن يغيروا على سرح المدينة وهي ترعى بهيفاء وكانت الماشية قد ازدادت بسبب ما غنمه المسلمون، فلما قُتل محمد بن مسلمة بعث رسول الله أبا عبيدة طلبا لثأر المقتولين.

سرية زيد بن حارثة 2

وفي شهر ربيع الآخر أيضا كانت سرية زيد بن حارثة إلى بني سليم بالجموم فأصابوا نعما وشاء ووجدوا جماعة منهم فأسروهم.

ثم سرية زيد بن حارثة أيضا إلى العيص وكانت في جمادى الأولى سنة ست (سبتمبر سنة 627م).

وسببها: أنه عليه الصلاة والسلام بلغه أن عيرا قد أقبلت من الشام فبعث زيد بن حارثة ومعه سبعون راكبا ليتعرض لها فأدركها وأخذها وما فيها وأخذ يومئذ فضة كثيرة لصفوان بن أمية بن خلف وأسر منهم ناسا: منهم أبو العاص بن الربيع، وأم هالة بنت خويلد أخت خديجة، وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين تجارة ومالا وأمانة، وهو زوج زينب بنت رسول الله فدخلت زينب على رسول الله فسألته أن يرد عليه ما أخذ منه فقبل، وقال لها: أكرمي مثواه ولا يخلص إليك فإنك لا تحلين له، ثم ذهب أبو العاص إلى مكة فأدى إلى كل ذي مال ماله ثم أسلم وخرج فقدم المدينة.

وكانت زينب هاجرت قبله إلى المدينة وتركته على شركه ثم بعد أن أسلم وهاجر ردها إليه.

وكان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب من أبي العاص.

سرية أخرى لزيد بن حارثة

هذه السرية إلى حِسْمَى أرض ينزلها جزام وراء وادي القرى وذلك من جهة الشام وكانت في جمادى الآخرة سنة ست (أكتوبر سنة 627 م).

وسببها: أن رسول الله كان قد أوفد دحية بن خليفة الكلبي بكتاب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام فأعطاه جائزة وكساه، فلقيه الهنيد بن عارض في الطريق وهو عائد فقطعوا عليه الطريق وأصابوا كل شيء كان معه عند حسمى فسمع بذلك نفر من بني الضبيب رهط رفاعة بن زيد الجذامي ممن كان أسلم فاستنقذوا ما كان في أيديهم وردوه على دحية.

قدم دحية على رسول الله فأخبره بذلك، فبعث زيد بن حارثة في 500 رجل، فكان زيد يسير بالليل ويكمن بالنهار، ومعه دليل من بني عذرة فأقبل بهم حتى هجموا على القوم، فأغاروا عليهم، وأكثروا فيهم القتل وقتلوا الهنيد وابنه، وأخذوا ماشيتهم ونساءهم، فأخذوا من الإبل 1000 بعير ومن الشاة 5000 ومن السبي مائة من النساء والصبيان، ولا شك أن هذا الإحصاء تقريبي كما يستدل عليه من الأرقام.

ثم رحل رفاعة بن زيد الجذامي في نفر من قومه فدفع لرسول الله كتابه الذي كان كتبه له ولقومه حين قدم عليه فأسلم، فلما قرىء الكتاب لرسول الله قال: «كيف أصنع بالقتلى؟» فقال رفاعة: أنت أعلم يا رسول الله لا نحرّم عليك حلالا ولا نحل لك حراما، فأرسل رسول الله عليا إلى زيد فرد عليهم كل ما أخذ منهم.

سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل إسلام الأصبغ بن عمرو الكلبي

كان رسول الله غزا دومة الجندل في ربيع الأول سنة خمس (يوليه سنة 626 م) وقد تقدم ذكرها.

أما هذه السرية فكانت في شعبان سنة ست (نوفمبر سنة 627 م) أمر رسول الله عبد الرحمن بن عوف أن يتجهز لهذه السرية وقد أصبح وقد اعتم بعمامة من كرابيس سوداء فأدناه رسول الله منه فأقعده بين يديه وعممه بيده، ثم أمر بلالا أن يدفع إليه اللواء، ثم حمد الله وصلى على نفسه ثم قال: «خذه يا ابن عوف اغزوا جميعا في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا فهذا عهد الله وسيرة نبيه فيكم»، فأخذ عبد الرحمن اللواء، وبعثه رسول الله إلى كلب بدومة الجندل وقال: إن استجابوا لك فأسلموا فتزوج ابنة ملكهم، فسار عبد الرحمن بجيشه وكانوا 700 رجل حتى قدم دومة الجندل فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام وقد كانوا أبوا أول ما قدم عليهم أن يعطوا إلا السيف، ثم أسلم في اليوم الثالث (الأصبغ بن عمرو الكلبي وكان نصرانيا) وكان ملكهم ورئيسهم وأسلم معه ناس كثير من قومه وأقام عبد الرحمن بقيتهم بالجزية وتزوج تماضر بنت الأصبغ وقدم بها المدينة وفازت بصحبة رسول الله وهي أم ابنة أبي سلمة.

سرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر

خرج عليٌّ رضي الله عنه ومعه (100) رجل إلى بني سعد بن بكر، في شعبان سنة ست، وكان قد بلغ رسول الله أنهم ساعون في جمع الناس لإمداد يهود خيبر فأغاروا على نعم وشاء كثيرة وهرب الرعاء وساقوا النعم والشاء معهم وكانت 500 بعير و 200 شاة وقدم عليّ رضي الله عنه ومن معه المدينة.

سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة

كانت هذه السرية في رمضان سنة ست من الهجرة، وسببها: أن زيد بن حارثة رضي الله عنه خرج في تجارة إلى الشام ومعه بضائع لأصحاب النبي (وهذه أول مرة خرج فيها أحد من أصحاب رسول الله في تجارة إلى الشام)، فلما كان بوادي القرى لقيه ناس من فزارة من بني بدر فضربوه وضربوا أصحابه وأخذوا ما كان معهم، وقدم على رسول الله فأخبره فبعثه إليهم في جيش فأحاطوا بمن وجدوه من بني فزارة فقتلوهم وأخذوا (أم قرفة) وهي بنت ربيعة بن بدر الفزاري، وكانت ملكة رئيسة وذات شرف في قومها وكانت عجوزا كبيرة فأسرها قيس بن المحسر، وقيل: ابن سحل فقتلها قتلا فظيعا، ربط رجليها بحبلين ثم ربطهما إلى بعيرين حتى شقها، وإنما قتلها كذلك لسبّها رسول الله وقيل: لأنها جهزت ثلاثين راكبا من ولدها وولد ولدها، وقالت لهم: اغزوا المدينة واقتلوا محمدا، وقدم زيد بن حارثة من وجهه ذلك فقرع باب النبي فقام رسول الله إليه وهو يجر ثوبه حتى اعتنقه وقبله وسأله فأخبره بما ظفر به.

ذكر هذه الغزوة الواقدي وذكرها السيد دحلان في الجزء الثاني من كتاب السيرة النبوية، وإني أشك في تفاصيل القصة بهذه الصفة، أشك في اسم قيس هذا الذي أسر أم قرفة فقد قيل: إنه ابن المحسر، وقيل: ابن سحل، وقيل: ابن المحسن، وأشك في أن أحدا من أصحاب رسول الله يمثل بامرأة ويقتلها هذا القتل الشنيع مع العلم بأن رسول الله نهى عن المثلة، وأوصى عبد الرحمن بن عوف حين أرسله إلى دومة الجندل فقال: «اغزوا جَميعا في سَبيلِ اللَّهِ فقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ باللَّهِ وَلاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تُمَثِّلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدا فَهذا عَهْدُ اللَّهِ وَسِيرَةُ نَبِيِّهِ فِيكُمْ».

وليس بين سرية عبد الرحمن بن عوف وسرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة غير شهر واحد.

وسيأتي في سرية عبد الله بن عتيك أن رسول الله نهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة.

وعلى كل حال لا يمكن أن يبلغ النبي قتل أم قرفة على هذه الصورة الشنعاء من غير أن يبدي استياءه، لذلك كان ما روي من التمثيل بأم قرفة مردودا.

سرية عبد الله بن عتيك لقتل سلام بن أبي الحقيق رمضان سنة 6هـ

ديسمبر سنة 627م

كانت هذه السرية لقتل أبي رافع عبد الله أو سلام بن أبي الحقيق اليهودي وهو من أعداء رسول الله الذين حزبوا الأحزاب يوم الخندق وأعان المشركين بالمال الكثير.

وقد اختلف المؤرخون في تاريخ هذه الغزوة، فقد قيل: إنها كانت في ذي الحجة سنة خمس بعد الخندق، وفي البخاري قال الزهري بعد قتل كعب بن الأشرف الواقع سنة ثلاث، وذكرها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في السنة الثالثة في النصف من جمادى الآخرة. أما الواقدي فإنه زعم أن هذه السرية التي وجهها رسول الله إلى أبي رافع أو سلام بن أبي الحقيق، إنما وجهها في ذي الحجة من سنة أربع من الهجرة، والثابت أن سلام بن أبي الحقيق كان من الذين حزبوا الأحزاب في غزوة الخندق، وغزوة الخندق كانت في السنة الخامسة وكان سلام هذا ممن ذهب إلى خيبر بعد إجلاء بني النضير ثم إنه بعد الخندق أخذ يحرض بني فزارة والقبائل الأخرى، ولذلك نرجح أن هذه السرية كانت في السنة السادسة كما ذكرها السيد دحلان فقد قال: «إنها كانت في رمضان سنة ست» (شهر ديسمبر سنة 627م).

خرج إلى رسول الله خمسة من الخزرج وهم:

1 - عبد الله بن عتيك.

2 - عبد الله بن أنيس.

3 - أبو قتادة.

4 - الأسود بن خزاعى.

5 - مسعود بن سنان الأسلمي.

واستأذنوه في قتل سلام بن أبي الحقيق، وهو بخيبر لأن الأوس كانوا قد أصابوا كعب بن الأشرف فأراد الخزرج أن لا يكون للأوس فضل عليهم عند رسول الله

فأمرهم بقتله ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة وأمّرَ عليهم عبد الله بن عتيك، فذهبوا إلى خيبر فكمنوا فلمّا هدأت الرِجل والحركة جاءوا إلى منزله وكان في حصن مرتفع فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم، قال عبد الله بن عتيك: اجلسوا مكانكم فإني منطلق ومتلطف للبواب لَعَلّي أدخل الحصن، فأقبل حتى دنا من البواب ثم تقنع بثوبه ليخفي شخصه، كأنه يقضي حاجته مخافة أن يعرف فدخل واختبأ عند باب الحصن، ثم صعد إليه وكان عبد الله بن عتيك يتكلم اليهودية، فقدمه أصحابه ليتكلم بكلام أبي رافع، فاستفتح باب غرفته فرأته امرأته، فقالت: من أنت؟ قال: جئت أبا رافع بهدية، ففتحت له وقالت: ذاك صاحبك، فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح، فأشار إليها بالسيف فسكتت، قال: فقلت: أبا رافع، لا أعرف موضعه، فقال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فضربته ضربة وأنا دهش فما أغنت شيئا، ولم أقتله وصاح أبو رافع، فخرجت من البيت وكمنت غير بعيد، فقالت امرأته: يا أبا رافع هذا صوت عبد الله بن عتيك، قال: ثكلتك أمك وأين عبد الله بن عتيك؟ قال: ثم دخلت عليه كأني أغيثه وغيّرت صوتي، فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ قال: لأمك الويل إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف، فضربته ضربة أثخنته ولم أقتله فصاح وقام أهله وصاحت امرأته ثم وضعت ظبة السيف في بطنه حتى دخل في ظهره وسمعت صوت العظم فعرفت أني قتلته.

وفي الطبري: «ولما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها السيف ثم يذكر نهي رسول الله فيكف يده».

قال ابن عتيك: فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا حتى انتهيت إلى درجة فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة؛ وكان عبد الله بن عتيك سيّىء البصر ولما علم ابن عتيك أنه قتل أبا رافع أخبر رسول الله

ووقع في بعض الروايات: أن الذي قتل أبا رافع عبد الله بن أنيس والصواب ما في صحيح البخاري أن الذي قتله هو عبد الله بن عتيك، وفي أسد الغابة: «وهو الذي ولي قتل أبي رافع بن أبي الحقيق بيده وكان في بصره ضعف الخ».

سرية عبد الله بن رواحة إلى أسير بن رزام

كانت سرية عبد الله بن رواحة الأنصاري الخزرجي إلى أُسير بن رِزَام اليهودي بخيبر في شوال سنة ست من الهجرة (يناير سنة 628 م) وسببها: أنه لما قُتل أبو رافع سلام بن أبي الحقيق أمرت يهود عليها أسيرا فاقترح عليهم طريقة للانتقام من رسول الله فأقروه عليها؛ وحاصلها: أن يذهب إلى غَطَفَان ويجمعهم ويسير إلى رسول الله في عقر داره، فسار إلى غطفان فلما بلغه وجه عبد الله بن رواحة في ثلاثة نفر من شهر رمضان سرا ليستكشف له الخبر فذهب إلى ناحية خيبر ثم عاد فأخبر رسول الله بما سمع ورأى، وقدم عليه أيضا خارجة بن حُسيل وقال له: تركت أسير بن رزام يسير إليك في كتائب يهود، فندب رسول الله الناس له فانتدب له ثلاثون رجلا فبعث عليهم عبد الله بن رواحة فقدموا عليه فقالوا: إن رسول الله بعثنا إليك لتخرج إليه يستعملك على خيبر ويحسن إليك فطمع في ذلك فشاور يهود فخالفوه في الخروج وقالوا ما كان محمد رجلا من بني إسرائيل قال بلى قد مللنا الحرب، فخرج أسير وخرج معه ثلاثون رجلا من اليهود مع كل رجل رديف من المسلمين فلما كانوا بقرقرة ندم أسير على مسيره إلى رسول الله وأراد الفتك بعبد الله بن رواحة ففطن له وهو يريد السيف فاقتحم به عبد الله ثم ضربه بالسيف فقطع رجله فضربه أسير بمخرش في يده من شوحط فأمه، وفي رواية: عن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأهوى أسير بيده إلى سيفي ففطنت له (يتضح من ذلك أن أسيرا كان أعزل) فدفعت بعيري وقلت: غدرا أي عدو الله، مرتين، فنزلت فسقت بالقوم حتى انفرد لي أسير فضربته بالسيف فأندرت عامة فخذه وساقه فسقط عن بعيره ومال أصحاب النبي على أصحابه فقتلوهم ولم يفلت منه غير رجل واحد ولم يصب من المسلمين أحد ثم قدموا على رسول الله فحدثوه الحديث فقال: «حقا قد نجاكم الله من القوم الظالمين».

سرية كرز بن جابر الفهري

كان كُرز بن جابر الفهري رضي الله عنه أحد رؤساء قريش أسلم بعد الهجرة واستشهد عام الفتح وهو الذي خرج رسول الله لطلبه في غزوة بدر الأولى وقد مرَّ ذكرها.

كانت هذه السرية في جمادى الأولى سنة ست وسببها: أن أناسا من عكل وعُرَينة يبلغ عددهم نحو ثمانية قدموا على رسول الله فبايعوه على الإسلام وتلفظوا بكلمة التوحيد وكانوا حين قدموا المدينة سقاما مصفرة ألوانهم عظيمة بطونهم (قال مستر موير: إنهم كانوا مصابين بداء الطحال).

فقالوا: يا رسول الله إنا كنا أهل ضرع (أي ماشية وإبل) ولم نكن أهل ريف وكرهنا الإقامة بالمدينة فلو أذنت لنا فخرجنا إلى الإبل فأمر لهم بذود من الإبل ومعها راع وأمرهم باللحوق بها ليشربوا من ألبانها وأبوالها فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة وصحت أجسامهم باتباعهم إشارة رسول الله كفروا بعد إسلامهم وقتلوا راعي رسول الله وكان عبدا له، اسمه يسار، وحين قتلوه مثلوا به فقطعوا يدهُ ورجله وجعلوا الشوك في عينيه واستاقوا الذود وحُمل يسار ميتا إلى قباء فدفن هناك، فهؤلاء أعراب قساة غلاظ القلوب يقابلون الإحسان بالإساءة يكرمهم رسول الله فيهب لهم الماشية ويرسل معهم الراعي رأفة بهم ويصف لهم الدواء الشافي لدائهم فيأخذون الإبل ويشربون ألبانها وتصح أجسامهم ثم يجحدون النعمة ويكفرون بعد إسلامهم ويقتلون ذلك الراعي الأمين المسكين ويمثلون به أشنع تمثيل ويسرقون الإبل، جرائم متعددة يقترفونها، فهل هؤلاء يستحقون العفو والإحسان والمعاملة الح سنة؟ كلا بل الحكمة تقضي بقطع دابرهم واستئصال شأفتهم ليكونوا عبرة لمن اعتبر ولئلا يجرؤ بعد ذلك أحد من هؤلاء اللصوص القتلة الخائنين أن يعبث بالإسلام والمسلمين، وهذا ما فعله رسول الله فإنه عليه الصلاة والسلام لما جاءه الصريخ بما وقع منهم بعث في آثارهم خَيلا من المسلمين قريبا من العشرين وأمّر عليهم كرز بن جابر الفهري رضي الله عنه فلقحهم فجاء بهم فأمر النبي بقطع أيديهم وأرجلهم وسمّر أعينهم ولم يفلت منهم أحد وتركوا في ناحية الحرة في الشمس حتى ماتوا.

وأنزل الله في هؤلاء: {إِنَّمَا جَزَآء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (المائدة: 33) الآية، وهؤلاء كفروا وقتلوا ومثلوا وقطعوا الطريق وسرقوا.

أمر الحديبية ذو القعدة 6 هـ

(فبراير سنة 628 م)

الحدَيبية هي بئر سُمي المكان باسمها؛ وهي قرية متوسطة ليست بالكبيرة وبينها وبين مكة مرحلة وبينها وبين المدينةِ تسع مراحل وبعضها في الحل وبعضها في الحرم.

وسببها: أن النبي رأى في منامه أنه دخل البيت هو وأصحابه آمنين محلِّقين رؤوسهم ومقصرين.

فخرج رسول الله من المدينة في ذي القعدة من السنة السادسة (فبراير سنة 628 م) معتمرا «زائرا البيت» لا يريد حربا بعد أن مضى عليه ست سنوات بعد الهجرة لم يزر فيها مكة ولم يعتمر ولم يحجّ فاشتاق إليها فخرج في هذه السنة معتمرا واستنفر العرب من البوادي ومن حوله من الأعراب ممن أسلم ليخرجوا معه وهو يخشى من قريش أن يتعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت فأبطأ عليه كثير من الأعراب خشية من قريش أن يحاربوه فخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق من العرب وساق معه الهدي (ما يهدى إلى الحرم من النعم) وأحرم بالعمرة بذي الحليفة بعد أن صلى بالمسجد الذي بها ركعتين ليأمن الناس حربه وليعلموا أنه إنما خرج زائرا للبيت ومعظما له وأخرج معه زوجته أم سلمة رضي الله تعالى عنها، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه للصلاة وأبا رُهْم حافظا للمدينة وجملة أصحابه الذين خرجوا معه من 1400 إلى 1600 وركب رسول الله راحلته القصواء.

أما ما رواه ابن إسحاق من أنه ساق معه الهدي 70 بدنة وكان الناس 700 رجل فكانت كل بدنة عن عشرة نفر، فلا بد أن يكون هذا العدد في بدء خروجهم قبل أن ينضم إليه من عداهم من الأعراب، ولم يخرج معه بسلاح إلا سلاح المسافر، السيوف في القُرُب، فلما كان بعُسْفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي، فقال له: يا رسول الله هذه قريش قد سمعوا بمسيرك فخرجوا ومعهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور وقد نزلوا بذي طوى يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم، فقال رسول الله «يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة»، ثم قال: «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟» فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله، فسلك بهم طريقا وعرا (واسم هذا الرجل حمزة بن عمرو الأسلمي) فخرجوا منه بعد أن شق عليهم وأفضوا إلى طريق سهامة عند منقطع الوادي، قال رسول الله للناس: «قولوا نستغفر الله ونتوب إليه» فقالوا ذلك، فقال: «والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها».

ثم أمر رسول الله الناس فقال: «اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض في طريق على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة» فسلك الجيش ذلك الطريق فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا، رجعوا راكضين إلى قريش (ذكر أن فرسان قريش كانوا 200 منهم عكرمة بن أبي جهل وكان قائدهم خالد بن الوليد).

خرج رسول الله حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته القصواء فقال الناس خلأت، فقال: «ما خلأت وما هو لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها».

ثم قال للناس: «انزلوا، فقالوا: يا رسول الله ما بالوادي ماء ينزل عليه» فأخرج سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه فنزل به في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن واختلف فيمن نزل في القليب بسهم رسول الله فقيل: هو سائق بدنه ناجية بن جندب، وقيل: إنه البراء بن عازب، وقيل: عبادة بن خالد، وفي البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أنه جلس على البئر ثم دعا بإناء فمضمض ودعا ثم صبه فيها، ثم قال: «دعوها ساعة» فأرووا أنفسهم وركابهم حتى ارتحلوا، وفي حديث جابر عن البخاري ومسلم قال: عطش الناس يوم الحديبية وبين يدي رسول الله ركوة يتوضأ منها فأقبل الناس نحوه فقال: «ما بالكم؟» قالوا: يا رسول الله ليس عندنا ما نتوضأ به ولا نشرب إلاّ ما في ركوتك، فوضع يده في الرّكوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا، وهذه من معجزات رسول الله، وجمع ابن حيان بينهما بأن ذلك وقع في وقتين، وكانت قصة الركوة قبل قصة البئر.

فلما اطمأن رسول الله أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي في رجال من خزاعة فكلموه وسألوه ما الذي جاء به فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته، ثم قال لهم نحوا مما قال لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش، فقالوا: يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد إن محمدا لم يأت لقتال، إنما جاء زائرا لهذا البيت، فاتهموهم وجبهوهم (أي قابلوهم بما يكرهون) وقالوا: وإن كان جاء ولا يريد قتالا فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبدا ولا تحدث بذلك عنا العرب.

وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله مسلمها ومشركها لا يخفون عنه شيئا كان بمكة.

ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص أخا بني عامر فلما رآه رسول الله مقبلا، قال: «هذا رجل غادر» فلما انتهى إلى رسول الله وكلمه قال له رسول الله نحوا مما قال لبديل وأصحابه فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله

ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة وكان يومئذ سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله قال: «إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه»، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله إعظاما لما رأى، فقال لهم ذلك، فقالوا له: اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك، فغضب الحليس عند ذلك وقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم، أيصد عن بيت الله من جاء معظما له، والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد، فقالوا له: كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

ثم بعثوا إلى رسول الله عروة بن مسعود الثقفي فقال: يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس وقد سمعت بالذي نابكم فجمعت من أطاعني من قومي ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي، قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم، فخرج حتى أتى رسول الله فجلس بين يديه ثم قال: يا محمد أجمعت أوشاب الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك (أي أصلك وعشيرتك) لتفضها بهم؟ إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا (تكرر هذا الكلام فقد قاله «بشر بن سفيان») وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا.

وكان أبو بكر الصديق جالسا خلف رسول الله فقال له: (امصص بَظْر اللات أنحن ننكشف عنه؟) يريد، وهل نحن ننهزم عنه أي نتخلى عنه.

فقول أبي بكر: «امصص بَظْر اللات» مبالغة في سب عروة فإنه أقام معبود عروة وهو صنمه مقام امرأة تحقيرا لمعبوده وعادة العرب الشتم بذلك، وقد ساء أبا بكر قولُ عروة إن أصحابه ينكشفون عنه غدا أي يفرون فقال له ما قال وأجابه بما فيه تحقير له ولمعبوده.

فقال عروة بعد أن سمع هذه الإهانة: مَن هذا يا محمد؟ قال: هذا ابن قحافة، فقال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها ولكن هذه بها.

قال الزهري: إن اليد المذكورة هي أن عروة كان يحمل دية فأعانه فيها أبو بكر رضي الله عنه بعون حسن.

ثم جعل عروة يتناول لحية رسول الله وهو يكلمه والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله في الحديد فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول الله ويقول: أكفف يدك عن وجه رسول الله قبل ألا تصل إليك، فيقول عروة: ويحك ما أفظك وأغلظك فتبسم رسول الله فقال له عروة: مَن هذا يا محمد؟ قال: «هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة» قال: أي غدر وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس.

ولشرح هذا الموقف نقول: المغيرة بن شعبة هو ابن أخي عروة، وقد كان أثناء حديث عروة مع رسول الله قائما على رأس رسول الله ومعه السيف بقصد الحراسة وعليه المغفر فكان المُغيرة كلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي ضرب يده بنعل السيف ويقول: أكفف يدك عنه، وكانت عادة العرب أن يتناول الرجل لحية من يكلمه ولا سيما عند الملاطفة يريدون بذلك التحية والتواصل، وفي الغالب إنما يصنع ذلك النظير بالنظير فربما رأى عروة لمكانته ورفعته في قومه أنه نظير للنبي وما علم حينئذ أنه لا نظير له فاللائق منعه، لكن رسول الله لم يمنعه تأليفا له.

قال ابن هشام: أراد عروة بقوله هذا (أي غدر وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس) أن المغيرة بن شعبة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلا من بني مالك من ثقيف فتهايج الحيان من ثقيف بنو مالك رهط المقتولين، والأحلاف رهط المغيرة فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية وأصلح الأمر.

وبعد أن قال عروة ما قال كلمه رسول الله بنحو مما كلم أصحابه وأخبره أنه لم يأت يريد حربا.

فقام من عند رسول الله ورجع إلى أصحابه بمكة وقد بهره ما رأى من احترام أصحابه له، رأى أن رسول الله لا يتوضأ إلا ابتدر أصحابه وضوءه ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه، يدلك به من وقع في يده وجهه وجلده ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ولا يحدون النظر إليه تعظيما له فقال لقريش:

«أي قوم فوالله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، والله ما يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده إجلالا وتوقيرا وما يمدون النظر إليه تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا فروا رأيكم» وقال: إني أخاف أن لا تُنصروا عليه.

فلم يسمع القوم ما قاله عروة بن مسعود وما رغبهم فيه من الصلح، فانصرف هو ومن تبعه إلى الطائف ثم أسلم عروة بعد ذلك لما انصرف رسول الله عن ثقيف ثم قتل لما دعاهم إلى الإسلام.

قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله دعا خراش بن أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على بعير له يُقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له فعقروا به جمل رسول الله أرادوا قتله فمنعته الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله

وبعثت قريش أربعين أو خمسين رجلا منهم ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا فأخذوا أخذا فأتى بهم رسول الله فعفا عنهم وخلى سبيلهم وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله بالحجارة والنبل، ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال: «يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني: عثمان بن عفان، فدعا رسول الله عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحربهم وأنه إنما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته، فرضي عثمان لأنه كان غائبا عن مكة ولم يكن له أعداء بها ثم إنه من بني أمية.

فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله واحتبسته قريش عندها.

فبلغ رسول الله والمسلمين أن عثمان بن عفان قد قُتل.

وقيل: إن عثمان بن عفان دخل مكة ومعه عشرة من الصحابة بإذن رسول الله ليزوروا أهاليهم ولم يذكروا أسماءهم، وقيل: إن قريشا احتبست عثمان عندها ثلاثة أيام وأشاع الناس أنهم قتلوه هو والعشرة الذين معه، وعلى كل حال أبطأ عثمان رضي الله عنه عن الرجوع فقلق عليه المسلمون، فلما بلغ ذلك الخبر رسول الله قال: «لا نبرح حتى نناجز القوم، أي نقاتلهم».

بيعة الرضوان

دعا رسول الله المسلمين إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، وأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ينادي الناس إلى البيعة.

قال سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: بايعناه وبايعه الناس على عدم الفرار وأنه إما الفتح وإما الشهادة، وفي رواية: بايعناه على الموت، ولم يتخلف أحد من المسلمين حضرها إلاّ الجد بن قيس بني سلمة فكان جابر بن عبد الله يقول: والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته قد ضبأ إليها يستتر بها من الناس، وقيل: إنه كان يُرمى بالنفاق وكان أول من بايعه أبو سنان الأسدي وهو أخو عكاشة بن محصن رضي الله عنهم.

ولما لم يكن عثمان رضي الله عنه حاضرا بايع عنه النبي على تقدير حياته، فوضع يده اليمنى على اليسرى وقال: اللهم هذه عن عثمان فإنه في حاجتك وحاجة رسولك وفي ذلك إشارة إلى أن عثمان لم يُقتل، وإنما بايع القوم أخذا بثأر عثمان جريا على ظاهر الإشاعة وتثبيتا وتقوية لهم وقد بايع عثمان بعد رجوعه من مكة وكان عدد الذين بايعوا (1400).

قال تعالى يذكر هذه البيعة في سورة الفتح: {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (الفتح: 18).

تأثير البيعة في قريش

لما علمت قريش بهذه البيعة خافوا وأشار أهل الرأي فيهم بالصلح على أن يرجع ويعود من قابل فيقيم ثلاثا معه سلاح الراكب، السيوف في القُرُب والقوس.

الصلح

بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي إلى رسول الله وقالوا له: ائت محمدا فصالحه ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا فوالله لا تحدّث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا فلما أقبل سهيل قال رسول الله «قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل» وطالت المراجعة بينه وبين النبي فلما التأم الأمر بينهما على الصلح على ترك القتال ولم يبق إلا الكتاب وعند ذلك وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أوَلسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوَليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلامَ نعطي الدَّنِيَّة في ديننا، قال أبو بكر: الزم غَرْزَة فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله، ثم أتى رسول الله فقال: يا رسول الله أَلست برسول الله؟ قال: «بلى»، قال: أوَلسنا بالمسلمين؟ قال: «بلى»، قال: أوَليسوا بالمشركين؟ قال: «بلى»، قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا؟ قال: «أنا أعبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني»، فكان عمر يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيرا.

ثم دعا رسول الله عليّ بن أبي طالب فقال: «اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم» فقال سهيل: لا أعرف هذا أي الرحمن الرحيم ولكن اكتب باسمك اللهم، فكتبها وكان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم ثم قال: «اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو»، فقال سهيل: لو شهدتُ أنك رسول الله لم أقاتلك ولم أصدك عن البيت ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال رسول الله: «اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو»، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رَدَّه عليهم ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه وإن بيننا عيبة مكفوفة وإنه لا إسلال ولا إغلال وإنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه (وكان عليٌّ رضي الله عنه وبعض الحاضرين من المسلمين منهم أسيد بن حضير وسعد بن عبادة يعارضون في محو كلمة رسول الله) وتواثبت خزاعة وقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا نحن في عقد قريش وعهدهم وإنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة وإنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب: السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها، وكتبت نسخة أخرى من هذا العقد لتبقى عند المسلمين لأن سهيلا قال يكون هذا الكتاب معي، وقيل: إن الذي كتب النسخة الأخرى محمد بن مسلمة ولم يكن أحد في القوم راضيا بجميع ما رضي به النبي غير أبي بكر.

وقد جاء في كتاب الصلح: «وإن بيننا عيبة مكفوفة» أي أمورا مطوية في صدور سليمة إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها وأنه «لا إسلال ولا إغلال» أي لا سرقة ولا خيانة.

مزايا هذا الصلح

نقل النووي عن العلماء: «أن المصلحة المترتبة على هذا الصلح هي ما ظهر من ثمراته الباهرة وفوائده المتظاهرة التي علمها النبي وخفيت عليهم فحمله ذلك على موافقتهم وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين ولا تظهر عندهم أمور النبي كما هي ولا يجتمعون بمن يعلمهم بها مفصلة، فلما حصل الصلح اختلطوا بالمسلمين وجاءوا إلى المدينة وجاء المسلمون إلى مكة وخلوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونهم وسمعوا منهم أحوال النبي ومعجزاته الظاهرة وأعلام نبوته المتظاهرة وحسن سيرته وجميل طريقته وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك فمالت أنفسهم إلى الإيمان حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة فأسلموا فيما بين صلح الحديبية وفتح مكة كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهما وازداد الذين لم يسلموا ميلا إلى الإسلام، فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم لما قد تم لهم من الميل».

وإنا نضيف إلى ذلك أن مزايا هذا الصلح التي غابت عن أصحابه ولم تخف عنه عظيمة جدا فقد اعترف له في هذه المعاهدة بأنه قوة مستقلة نظير قريش وأن الهدنة توجد للمسلمين فرصة لنشر دينهم في جزيرة العرب بلا معارضة، ثم إن النبي كان واثقا من جهة أخرى من إخلاص أصحابه وحبهم له وشدة تمسكهم بالعقيدة الإسلامية فلا ينضمون إلى قريش بينما كان يتوقع إسلام بعض القبائل وفوق ذلك فقد سمح له بزيارة مكة لتأدية الفريضة الدينية مع المسلمين في العام القابل والإقامة بها مدة ثلاثة أيام من غير أن يتعرضوا لهم بسوء وبسبب ما جاء في هذه المعاهدة من المزايا ازداد عدد المسلمين زيادة عظيمة فبعد أن كان عدد جيش الحديبية (1400) بلغ عددهم عند فتح مكة بعد عامي (10.000) وفي دائرة المعارف الإسلامية: «إن محمدا فاز في صلح الحديبية على قريش فوزا سياسيا باهرا».

لما فرغ رسول الله من الصلح وأشهد عليه رجالا من المسلمين، أبا بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبا عبيدة بن الجراح ومحمد بن مسلمة، ورجالا من قريش حويطبا ومكرزا، قام إلى هديه فنحره ثم جلس فحلق رأسه وقيل: إن الذي حلقه في ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي وكان حجاما، فلما رأى الناس أن رسول الله قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون، فقال رسول الله «يرحم الله المحلقين»، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «يرحم الله المحلقين»، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «يرحم الله المحلقين»، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «والمقصرين»، فقالوا: فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين؟ قال: «لم يشكوا».

وأهدى رسول الله عام الحديبية في هديه جملا لأبي جهل في رأسه برة من فضة يغيظ بذلك المشركين، وكانت بدنه الي نحرها بالحديبية 70 وفرَّق رسول الله لحم الهدي على الفقراء، وكانت إقامته بالحديبية نحو عشرين يوما.

قال الزهري في حديثه: ثم انصرف رسول الله من وجهه ذلك قافلا حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحا مُّبِينا لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرطا مُّسْتَقِيما} (الفتح: 1، 2)، ثم كانت القصة فيه وفي أصحابه حتى انتهى إلى ذكر البيعة، فال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرا عَظِيما} (الفتح: 10).

واختلف الناس في المراد من الفتح، فقال ابن عباس وأنس والبراء بن عازب رضي الله عنهم: الفتح هنا فتح الحديبية، وقيل: الفتح المراد هو فتح مكة فنزلت السورة عند مرجعه من الحديبية عدة له بفتحها وعبر فيه بالماضي لتحقق وقوعه.

ونرجح أن الفتح المقصود هو فتح الحديبية لأن هذه الآية نزلت بعد انصرافه منها وهذا الفتح مقدمة لفتح مكة، وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والحاكم من حديث مجمع بن جارية الأنصاري الأوسي قال: شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها وجدنا رسول الله عند كُرَاع الغَميم وقد جمع الناس وقرأ عليهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحا مُّبِينا} (الفتح: 1)، فقال رجل: يا رسول الله أوَفتح هو؟ قال: «إي والذي نفسي بيده إنه لفتح»، وروى موسى بن عقبة والزهري والبيهقي عن عروة بن الزبير قال: أقبل النبي راجعا فقال رجل من أصحابه: ما هذا بفتح، لقد صددنا عن البيت وصدّ هدينا ورد رجلين من المؤمنين كانا خرجا إليه فبلغه قول ذلك الرجل فقال: «بئس الكلام بل هو أعظم الفتح قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبوا إليكم في الأمان ولقد رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين فهو أعظم الفتوح، أنسيتم يوم أُحُد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم، أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا؟» فال المسلمون: صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح، والله يا نبيّ الله ما فكرنا فيما فكرت فيه ولأنت أعلم بالله وأمره منا.

وصارت تلك الشجرة التي وقعت عندها البيعة يقال لها: «شجرة الرضوان» وبلغ عمر بن الخطاب في خلافته أن ناسا يصلون عندها فتوعدهم وأمر بها فقطعت خوف ظهور البدعة.

تنفيذ المعاهدة

قد راعى رسول الله تنفيذ هذه المعاهدة بدقة فكان في مدة الصلح يرد الرجال المهاجرين ولا يرد النساء بعد الامتحان وكان الامتحان أن تستخف المرأة المهاجرة أنها ما هاجرت ناشزا ولا هاجرت إلا لله ورسوله، قال تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا جَآءكُمُ الْمُؤْمِنَتُ مُهَجِرتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} (الممتحنة: 10)، فلما هاجرت إليه أم كلثوم بنت عقبة بن معيط رضي الله عنها وكانت أسلمت بمكة وبايعت قبل أن يهاجر ثم خرجت في مدة الصلح مهاجرة ماشية على قدميها من مكة إلى المدينة وصحبت رجلا من خزاعة وهي أخت عثمان بن عفان لأمه - لم يردها النبي ـ لأن الشرط يقضي برجوع الرجال فقط، ولما خرج أخوها عمارة والوليد في ردها بالعهد، أخبرهما رسول الله بأن النساء المؤمنات لا يرجعن وأن الشرط في الرجال فقط، وأن النساء يمتحن فرجعا إلى مكة وأخبرا قريشا بذلك فرضوا به.

ورد رسول الله أبا بصير فذهب - بعد أن قتل خنيسا الذي كان جاء في طلبه - إلى محل في طريق الشام يمر به ذوو الميرة واجتمع إليه جمع من المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة فكانوا يتسللون إليه وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو الذي رده يوم الحديبية وخرج من مكة في سبعين راكبا أسلموا فلحقوا بأبي بصير وكرهوا أن يقدموا على رسول الله في مدة الهدنة خوفا من أن يردهم إلى أهلهم وانضم إليهم ناس من غفار وأسلم وجهينة وطوائف من العرب ممن أسلم حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل فقطعوا مارة قريش لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه ولا تمرّ بهم عير إلا أخذوها حتى كتبت قريش له تسأله بالأرحام إلا آواهم ولا حاجة لهم بهم، فكتب رسول الله إلى أبي جندل وأبي بصير أن يقدما عليه وأن مَن معهم من المسلمين يلحقون ببلادهم وأهليهم ولا يتعرضوا لأحد مرّ بهم من قريش ولا لعيرهم فقدم كتاب رسول الله عليهما وأبو بصير مشرف على الموت لمرض حصل له فمات وكتاب رسول الله في يده يقرأه فدفنه أبو جندل مكانه وجعل عند قبره مسجدا، وقدم أبو جندل على رسول الله مع ناس من أصحابه ورجع باقيهم إلى أهلهم وأمنت قريش على عيرهم وتحقق قول رسول الله يوم الحديبية: «سيجعل الله لأبي جندل وأصحابه فرجا ومخرجا».

ولما أمن الكفار القتال اختلطوا بالمسلمين فأثر فيهم الإسلام فأسلم كثير منهم، وكان أبو بكر الصديق يقول: ما كان فتح في الإسلام أعظم من فتح الحديبية ولكن الناس قصر رأيهم عما كان بين محمد وربه، والعباد يعجلون والله لا يعجل لعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد.

رسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام

قبل أن نذكر كتب النبي إلى الملوك والأمراء يجدر بنا أن نلقي نظرة على حالة الامبراطورية الرومانية ودولة الفرس.

كانت الحروب ناشبة بين الامبراطورية الرومانية والفرس ففي سنة 621 م انتصرت جيوش الفرس واستولت على الشام ومصر وآسيا الصغرى وذلك قبل الهجرة ب سنة، وكان الفرس وقتئذ يهددون القسطنطينية وأخيرا ظهر هرقل وأصر على إعادة مجد دولته وفي زمن الهجرة (سنة 622 م) كان الامبراطور الروماني يطارد المغيرين من آسيا الصغرى، وفي الوقعة الثانية من وقائعه سارت جيوشه إلى قلب بلاد الفرس نفسها، وفي أثناء السنوات الثلاث التي كان فيها يسترد هرقل مجد الامبراطورية كان رسول الله في نزاع مع قريش وأعقب ذلك حصار الفرس للقسطنطينية الذي كان قبل حصار المدينة في غزوة الأحزاب بنصف سنة (يوليو سنة 626 م) وفي الوقعة الثالثة والى هرقل انتصاره السابق فانتصر انتصارا تاما في أول ديسمبر سنة 626 م في وقعة نينوى وبذلك انكسرت جيوش الفرس وتشتت شملهم، وفي التاسع والعشرين من هذا الشهر فرّ كسرى إلى عاصمة ملكه، وفي فبراير سنة 628 م قتله ابنه (شيرويه) واستولى على العرش وعقد معاهدة صلح مع الإمبراطور الروماني على أن تبقى حدود الدولتين عل ما كانت عليه من قبل وفي حوالي هذا الوقت كان النبي يعقد صلح الحديبية مع رؤساء قريش وفي ربيع هذه السنة خرج هرقل لزيارة القدس.

فلما رجع رسول الله من صلح الحديبية، ورأى سرعة إسلام الأفراد والقبائل، وجد أنه قد آن الوقت لتعميم الدعوة إلى الإسلام في خارج جزيرة العرب، فاختار لذلك الغرض رسله من تجار المسلمين الذين سبق أن رحلوا إلى تلك البلاد التي يريد دعوة ملوكها إلى الإسلام ممن يعرفون عاداتهم.

خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم

قيل لرسول الله عندما أراد إرسال كتبه إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الإسلام إنهم لا يقرأون الكتاب إلا إذا كان مختوما فاتخذ خاتما من فضة وكان نقشه ثلاثة أسطر: (محمد) سطر، (رسول) سطر، (الله) سطر، والأسطر الثلاثة تُقرأ من أسفل إلى فوق فمحمد آخر الأسطر، ورسول في الوسط والله فوق، وكانت الكتابة مقلوبة لتكون على الاستواء إذا ختم به فكان ذلك الخاتم في يده ثم في يد أبي بكر ثم في يد عمر ثم في يد عثمان رضي الله عنهم حتى وقع في بئر أريس في السنة التي قُتل فيها عثمان رضي الله عنه فالتمسوه ثلاثة أيام فلم يجدوه.

كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم

كان يفتتح أكثر كتبه بلفظ: «من محمد رسول الله إلى فلان»، وربما افتتحها بلفظ: «أما بعد»، وربما افتتحها بلفظ: «هذا كتاب»، وربما افتتحها بلفظ: «سلم أنت».

وكان يصرح في الغالب باسم المكتوب إليه في أول المكاتبات وربما اكتفى بشهرته فإنه كان المكتوب إليه ملكا كتب بعد ذكره اسمه «عظيم القوم الفلانيين» وربماكتب: «صاحب مملكة كذا».

وكان يعبّر عن نفسه في أثناء كتبه بلفظة الإفراد مثل: «أنا» و «لي» و «جاءني» و «وفد عليَّ» وما أشبه، وربما أتى بلفظ الجمع مثل: «بلغنا» و «جاءنا» ونحو ذلك.

وكان يخاطب المكتوب إليه عند الإفراد بكاف الخطاب، مثل: «لك وعليك» وتاء المخاطب، مثل: «أنت قلت ذا وفعلت كذا» وعند التثنية بلفظها مثل: «أنتما ولكما وعليكما»، وعند الجمع بلفظه مثل: «أنتم ولكم وعليكم» وما أشبه ذلك.

وكان يأتي في صدور كتبه بالسلام، فيقول في خطاب المسلم: «سلام عليك»، وربما قال: «السلام على من آمن بالله ورسوله»، وفي خطاب الكافر: «سلام على من اتبع الهدى» وربما أسقط السلام من صدر الكتاب.

وكان يأتي في صدور الكتب بالتحميد بعد السلام، فيقول: «فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو» وربما تركه، وقد يأتي بعد التحميد بالتشهد وقد لا يأتي به، وكان يتخلص من صدر الكتاب إلى المقصود تارة بأما بعد وتارة بغيرها.

وكان يختم كتبه بالسلام تارة، فيقول في خطاب المسلم: «والسلام عليك ورحمة الله وبركاته»، وربما اقتصر على السلام، ويقول في خطاب الكافر: «والسلام على من اتبع الهدى» وربما أسقط السلام من آخر كتبه.

1 - كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل

كان إرسال الكتاب إلى هِرَقْل سنة ست من الهجرة بعد رجوعه من الحديبية وكان وصوله إليه في المحرم سنة سبع وقد أمر رسول الله دحية بن خليفة الكلبي أن يدفعه إلى عظيم بصرى وهو الحارث ملك غسان ليدفعه إلى هرقل قد نذر أنه إذا ظهر على الفرس وأخرجهم من بلادهم زار القدس حاجا ماشيا على قدميه شكرا لله، فخرج في خريف سنة 628 م ( السنة السابعة من الهجرة) وفاء بنذره، وفي أثناء سفره سلم إليه حاكم بصرى كتاب النبي وكان دحية لما انتهى إلى الحارث أرسل معه عدي بن حاتم ليوصله إلى هرقل.

وهذا نص الكتاب:

(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتَّبع الهدى، أما بعد: أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن تتول فإن إثم الأكارين عليك) عن عبد الله بن عباس قال: «حدثني أبو سفيان بن حرب قال: كنا قوما تجارا وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله قد حصرتنا حتى نهكت أموالنا فلما كانت الهدنة بيننا وبين رسول الله لم نأمن ألا نجد أمنا فخرجت في نفر من قريش تجار إلى الشام وكان وجه متجرنا منها غزة فقدمناها حين ظهر هرقل على من كان بأرضه من فارس وأخرجهم منها وانتزع له منهم صليبه الأعظم وكانوا قد استلبوه إياه، فلما بلغ ذلك منهم أن صليبه قد استنقذ له وكانت حمص منزله خرج منها يمشي على قدميه متشكرا لله حين رد عليه ما رد ليصلي في بيت المقدس وتبسط له البسط وتُلقى عليها الرياحين، فلما انتهى إلى إيلياء وقضى فيها صلاته ومعه بطارقته وأشراف الروم، أصبح ذات غداة مهموما يقلب طرفه إلى السماء، فقال له بطارقته: والله لقد أصبحت أيها الملك الغداة مهموما، قال: أجل، أُريت في هذه الليلة أن ملك الختان ظاهر، قالوا: أيها الملك ما نعلم أمة تختن إلا يهود وهم في سلطانك وتحت يدك فابعث إلى كل من لك عليه سلطان في بلادك فمره فليضرب أعناق كل من تحت يده من يهود واسترح من هذا الهم، فوالله إنهم لفي ذلك من رأيهم يدبرونه إذ أتاه رسول صاحب بصرى برجل من العرب يقوده وكانت الملوك تهادي الأخبار بينها، فقال: أيها الملك إن هذا الرجل من العرب من أهل الشاء والإبل يحدث عن أمر عجب حدث ببلادهم فسله عنه، فلما انتهى به رسول صاحب بصرى إلى هرقل، قال هرقل لترجمانه: سله ما كان هذا الحدث الذي كان ببلاده؟ فسأله فقال: خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبي قد اتبعه ناس وصدقوه وخالفه ناس، وقد كانت بينهم ملاحم في مواطن كثيرة فتركتهم على ذلك، قال فلما أخبره الخبر، قال: جردوه، فجردوه فإذا هو مختون، فقال هرقل: هذا والله الذي أُريت لا ما تقولون، أعطوه ثوبه، ثم دعا صاحب شرطته فقال له: قلب لي الشام ظهرا وبطنا حتى تأتيني برجل من قوم الرجل، يعني النبي

قال أبو سفيان: فوالله إنا لبغزة إذ هجم علينا صاحب شرطته فقال: أنتم من قوم هذا الرجل الذي بالحجاز؟ قلنا: نعم، قال: انطلقوا بنا إلى الملك، فانطلقنا معه فلما انتهينا إليه قال: أنتم من رهط هذا الرجل؟ قلنا: نعم، قال: فأيكم أمس به رحما؟ قلت: أنا، قال أبو سفيان: وأيم الله ما رأيت من رجل أرى أنه كان أنكر من ذلك الأغلف يعني هرقل، فقال: ادنه فأقعدني بين يديه وأقعد أصحابي خلفي، ثم قال: إنّي سأسأله فإن كذب فردوا عليه، فوالله لو كذبت ما ردوا عليَّ ولكني كنت امرأ سيدا أتكرم عن الكذب وعرفت أن أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته أن يحفظوا ذلك عليّ ثم يحدثوا به عني، فلم أكذبه، فقال: أخبرني عن هذا الرجل الذي خرج بين أظهركم يدعي ما يدعي، قال: فجعلت أزهد له شأنه وأصغر له أمره، وأقول: أيها الملك ما يهمك من أمره؟ إن شأنه دون ما يبلغك فجعل لا يلتفت إلى ذلك، ثم قال: أنبئني عما أسألك عنه من شأنه، قلت: سل عما بدا لك، قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: محض أوسطنا نسبا، قال: فأخبرني هل كان أحد من أهل بيته يقول مثل ما قال فهو يتشبه به؟ قلت: لا، قال: فهل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ما ملكه؟ قلت: لا، قال: فأخبرني عن أتباعه منكم من هم؟ قال: قلت: الضعفاء والمساكين والأحداث والغلمان والنساء، وأما ذوو الأسنان والشرف من قومه فلم يتبعه منهم أحد، قال: أخبرني عمن تبعه أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟ قال: قلت ما تبعه رجل ففارقه، قال: أخبرني كيف الحرب بينكم وبينه؟ قال: قلت سجال يدال علينا وندال عليه، قال: فأخبرني هل يغدر؟ فلم أجد شيئا مما سألني عنه أغمزه فيه غيرها، قلت: لا ونحن منه في هدنة ولا نأمن غدره،

قال: فوالله ما التفت إليها مني ثم كرّ على الحديث.

قال: سألتك كيف نسبه فيكم فزعمت أنه محضٌ من أوسطكم نسبا وكذلك يأخذ الله النبي إذا أخذه لا يأخذه إلا من أوسط قومه نسبا، وسألتك هل كان أحد من أهل بيته يقول بقوله فهو يتشبه به فزعمت أن لا، وسألتك هل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث يطلب به ملكه فزعمت أن لا، وسألتك عن أتباعه فزعمت أنهم الضعفاء والمساكين والأحداث والنساء وكذلك أتباع الأنبياء في كل زمان، وسألتك عمن يتبعه أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه، فزعمت أن لا يتبعه أحد فيفارقه وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبا فتخرج منه، وسألتك هل يغدر فزعمت أن لا، فلئن كنت صدقتني عنه ليغلبنّي على ما تحت قدميّ هاتين ولوددت أني عنده فأغسل قدميه، انطلق لشأنك، قال: فقمت من عنده وأنا أضرب إحدى يديّ بالأخرى وأقول: أي عباد الله لقد أمِرَ أمر ابن أبي كبشة أصبح ملوك بني الأصفر يهابونه في سلطانهم بالشام، قال: وقدم عليه كتاب رسول الله فأخذ الكتاب فجعله بين فخذيه وخاصرته.

وفي البخاري: أن قيصر لما صار إلى حمص أذن لعظماء الروم في دسكرة له ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتتابعوا هذا النبي فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد أغلقت، وقالوا: أتدعونا أن نترك النصرانية ونصير عبيد الأعرابي؟ فلما رأى نفرتهم وأيس من إيمانهم قال: ردوهم عليّ وقال: إني قلت مقالتي أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه، اهـ فلم يسلم هرقل.

وجميع المصادر الأجنبية تنكر هذه المحاورات التي جرت بين هرقل وأبي سفيان مما يدل على ميله إلى الإسلام لأنه كان عريقا في المسيحية متمسكا بها فلا يتصور أن يقول لأبي سفيان: «لئن كنت صدقتني عنه ليغلبنّي على ما تحت قدميَّ هاتين ولوددت أني عنده أغسل قدميه» ولا يمكن أن يدعو قومه إلى اتباع النبي وترك النصرانية وهو رئيسها في وقت كان يحتفل فيه باسترداد الصليب الأعظم من الفرس.

2 - كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبي شمر الغساني

بعث رسول الله شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني وكان أميرا بدمشق من جهة قيصر ومعه كتاب رسول الله وهذا نصه:

(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله فإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبق ملكك) وختم الكتاب.

قال شجاع: فانتهيت فوجدته مشغولا بتهيئة الضيافة لقيصر وقد جاء من حمص إلى إيلياء حيث كشف الله عنه جنود فارس شكرا لله تعالى.

قال شجاع: فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة فقلت لحاجبه: إني رسولُ رسول الله فقال حاجبه: لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا، وجعل حاجبه يسألني عنه وما يدعو إليه فكنت أحدثه فيرق حتى يغلبه البكاء ويقول: إني قرأت في الإنجيل وإني أجد صفة هذا النبي بعينه وكنت أظنه يخرج بالشام فأراه خرج بأرض القَرَظ فأنا أؤمن به وأصدقه وأنا أخاف من الحارث بن أبي شمر أن يقتلني، وكان هذا الحاجب روميا اسمُه مرى.

قال شجاع: وكان يكرمني ويحسن ضيافتي ويخبرني باليأس من الحارث ويقول وهو يخاف قيصر، قال: فخرج الحارث يوما فوضع التاج على رأسه فأذن لي عليه فدفعت إليه الكتاب فقرأه ثم رمى به وقال: من ينتزع مني ملكي؟ أنا سائر إليه ولو كان باليمن جئته، عليّ بالناس فلم يزل جالسا حتى الليل وأمر بالخيل أن تنعل ثم قال: أخبر صاحبك بما ترى، وكتب إلى قيصر يخبره بخبري فصادف قيصر بإيلياء وعنده دحية رضي الله عنه وقد بعثه رسول الله فلما قرأ قيصر كتاب الحارث كتب إليه ألا تسر إليه وَالْه عنه ووافني بإيلياء.

ولما بلغ النبي خبره قال: «باد ملكه» ويفهم من هذا أنه لم يسلم.

3 - كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى عظيم الفرس Chosroes Eparwiz

كتب رسول الله إلى كسرى أبرويز بن هرمز وبعث بالكتاب مع عبد الله بن حذافة السهمي لأنه كان يتردد على كسرى كثيرا، وهذا نص الكتاب:

(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلى الناس كافة لينذر من كان حيا، أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس) أي إثم أتباعك.

فمزق كسرى كتاب رسول الله فقال رسول الله: «مزق الله ملكه».

ويلاحظ في هذا الكتاب أن النبي قال فيه: «وإني رسول الله إلى الناس كافة» وفي هذا ردّ على مَن زعم من المستشرقين وغيرهم أن محمدا أرسل إلى العرب فقط ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَكَ إِلاَّ كَآفَّةً لّلنَّاسِ بَشِيرا وَنَذِيرا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28).

ثم كتب كسرى إلى أمير له باليمن يقال له: «باذان»: أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به، فبعث «باذان» قهرمانه وهو «بابويه»، وكان كاتبا حاسبا بكتاب فارس وبعث معه رجلا من الفرس يقال له: «خرخسرة» وكتب معهما إلى رسول الله يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى وقال لبابويه: ائت بلد هذا الرجل وكلمه وأتني بخبره فخرجا حتى قدما الطائف فوجدا رجالا من قريش بنخب من أرض الطائف فسألاهم عنه فقالوا هو بالمدينة، واستبشروا بهما وفرحوا وقال بعضهم لبعض: أبشروا فقد نصب له كسرى ملك الملوك، وكفيتم الرجل فخرجا حتى قدما على رسول الله فكلمه بابويه، فقال: إن شاهنشاه ملك الملوك كسرى قد كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك وقد بعثني إليك لتنطلق معي فإن فعلت كتب فيك إلى ملك الملوك ينفعك ويكفه عنك وإن أبيت فهو من قد علمت فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك، ودخلا على رسول الله وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما فكره النظر إليهما ثم أقبل عليهما فقال: ويلكما من أمركما بهذا؟ قال: ربنا - يعنيان كسرى -، فقال رسول الله: «لكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي»، ثم قال لهما: «ارجعا حتى تأتياني غدا»، وأتى رسولَ الله الخبرُ من السماء أن الله قد سلط على كسرى ابنه (شيرويه) فقتله في شهر كذا وكذا ليلة كذا وكذا بعدما مضى من الليل كذا وكذا.

قال الواقدي: «قتل شيرويه أباه كسرى ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين من جمادى الأولى من سنة سبع لست ساعات مضت منها».

فدعاهما فأخبرهما فقالا: هل تدري ما تقول إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا أفنكتب هذا عنك ونخبره الملك؟ قال: نعم أخْبِراه ذلك عني وقولا له إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى وينتهي إلى منتهى الخف والحافر وقولا له إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك وملكتك على قومك من الأبناء، ثم أعطى «خرخسرة» منطقة فيها ذهب وفضة كان أهداها له بعض الملوك فخرجا من عنده حتى قدما على باذان فقال: والله ما هذا بكلام ملك وإني لأرى الرجل نبيا كما تقول ولتنظرن ما قد قال فلئن كان هذا حقا ما فيه كلام، إنه لنبيّ مرسل، وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا.

إسلام باذان

لم ينشب باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه وهو:

«أما بعد: فإني قد قتلت كسرى ولم أقتله إلا غضبا لفارس لما كان استحل من قتل أشرافهم وتجميرهم في ثغورهم فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك وانظر الرجل الذي كان كسرى كتب فيه إليك فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه»، فلما انتهى كتاب شيرويه إلى باذان قال: إن هذا الرجل لَرسول، فأسلم وأسلمت الأبناء معه من فارس من كان منهم باليمن فكانت حمير تقول لخرخسرة ذو المعجزة للمنطقة التي أعطاها إياها رسول الله والمنطقة بلسان حمير المعجزة فبنوه اليوم ينسبون إليها خرخسرة ذو المعجزة، وقد قال بابويه لباذان: ما كلمت رجلا قط أهيب عندي منه، فقال له باذان: هل معه شرط؟ قال: لا.

ولما أسلم باذان ولاه النبي على مخاليف اليمن وكان منزله بصنعاء دار مملكة التبابعة وبقي حتى مات بعد حجة الوداع، فولى النبي ابنه (شهرْ) بن باذان على صنعاء وولى على كل جهة واحدا من الصحابة رضوان الله عليهم.

ثم ملك الله المسلمين ملك كسرى وخزائنهم وأموالهم في خلافة عمر رضي الله عنه ومزقهم الله كل ممزق تحقيقا لدعوته

وقد أنكر الأستاذ نورث (C.R. North) في كتابه الذي أسماه موجزا عن الإسلام (An outline of Islam) طبعه سنة 1934 م ص 34: أن رسول الله أرسل كتابا إلى امبراطور الروم وآخر إلى امبراطور الفرس وزعم أن ذلك ليس له أساس تاريخي، وهكذا ينكر مؤرخو الفرنجة حتى الحقائق الثابتة.

4 - كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس عظيم القبط سنة 7هـ - 628م

بعث رسول الله حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه إلى المقوقس، وذلك أنه عند منصرفه من الحديبية قال: أيها الناس أيكم ينطلق بكتابي هذا إلى صاحب مصر وأجره على الله؟ فوثب إليه حاطب بن أبي بلتعة وقال: أنا يا رسول الله، فقال: «بارك الله فيك يا حاطب»، وهذا نص الكتاب:

«بسم اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى المُقَوْقِسِ عَظِيمِ القِبْطِ سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أمَّا بَعْدُ: فإنِّي أَدْعُوكَ بِدِعايَةِ الإِسلامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ كُلِّ القِبْطِ {قُلْ يأَهْلَ الْكِتَبِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}» وختم الكتاب.

وهذا الكتاب محفوظ بدار الآثار في الآستانة، قيل: عثر عليه عالم فرنسي في دير بمصر قرب أخميم في زمن سعيد باشا.

فسار حاطب بالكتاب حتى قدم على المقوقس إلى مصر فلم يجده فذهب إلى الإسكندرية وأعطاه كتاب رسول الله فضمه إلى صدره وجعله في حق عاج ودعا كاتبا له يكتب بالعربية فكتب:

(إلى النبي بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد: فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيا قد بقي وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام) وذكر له ما كان من إكرامه لحاطب، وقيل: إنه دفع له مائة دينار وخمسة أثواب ودعا رجلا عاقلا فلم يجد بمصر أحسن ولا أجمل من مارية (مريم) وأختها سيرين وهما من أهل حفَن من كورة أنصنا، قرية بصعيد مصر فبعث بها إلى رسول الله وأهدى له بغلة وعسلا من عسل بنها، وقيل: بعث له غير ذلك عشرين ثوبا من قباطي مصر وطيبا وعودا ومسكا، ولكنه لم يسلم، وقد قبل رسول الله هذه الهدايا، فأخذ مارية لنفسه، وأهدى سيرين لحسان بن ثابت وهي أم عبد الرحمن بن حسان، والبغلة تسمى «الدلدل» وكانت شهباء ولم يكن في العرب يومئذ بغلة غيرها ودعا في عسل بنها بالبركة.

وقد ذكر المرحوم حفني ناصف الهدايا التي أرسلها المقوقس إلى رسول الله وهي:

1 - مارية بنت شمعون وكانت أمها رومية.

2 - جارية أخرى يقال لها سيرين ولكنها أقل جمالا من مارية.

3 - جارية أخرى يقال لها قيسر.

4 - جارية سوداء يقال لها بريرة.

5 - غلام أسود يقال له هابو.

6 - بغلة شهباء وهي التي سُميت بدلدل.

7 - فرس مسرج ملجم وهو الذي سُمي بميمون.

8 - حمار أشهب وهو الذي سُمي بيعفور.

9 - مربعة فيها مكحلة ومرآة ومشط وقارورة دهن ومقص وسواك.

10 - جانب من عسل بنها.

11 - ألف مثقال من الذهب.

12 - عشرون ثوبا من قباطي مصر.

13 - جانب من العود والند والمسك.

14 - قدح من قوارير.

ويقال: إنه كان من ضمن الهدية طبيب، فقال له النبي «ارجع إلى أهلك نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع».

وقد أسلمت مارية قبل أن تصل إلى المدينة هي وسيرين بدعوة حاطب بن أبي بلتعة.

مارية القبطية

وصلت مارية إلى المدينة سنة 8 هـ.

كان رسول الله يُعجب بمارية القبطية وكانت بيضاء جعدة جميلة فأنزلها رسول الله وأختها على أم سليم بنت مِلحان فأسلمتا فوطىء مارية بالملك وحولها إلى مال له بالعارية كان من أموال بني النضير فكانت فيه في الصيف وفي خرافة النخل فكان يأتيها هناك وكانت ح سنة الدين ووهب أختها سيرين لحسان بن ثابت الشاعر فولدت له عبد الرحمن وولدت مارية لرسول الله غلاما فسماه إبراهيم، وتوفيت في خلافة عمر سنة 16 هـ ودُفنت بالبقيع وكان عمر يجمع الناس بنفسه لشهود جنازتها وصلى عليها.

إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم

لما وُلد إبراهيم عق عنه رسول الله بشاة يوم سابعه وحلق رأسه فتصدق بزنة شعره فضة على المساكين وأمر بشعره فدُفن في الأرض وكانت قابلة مارية سلمى مولاة رسول الله فخرجت إلى زوجها أبي رافع مولى رسول الله فأخبرته بأنها قد ولدت غلاما فجاء أبو رافع إلى رسول الله فبشره فوهب له عبدا وغار نساء رسول الله واشتد عليهن حين رُزق منها الولد، كانت ولادة إبراهيم في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة (أبريل سنة 630 م) ولد بالعالية وتنافست فيه نساء الأنصار أيتهن ترضعه فدفعه رسول الله إلى أم بُرْدة بنت المنذر بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار وزوجها البراء بن أوس بن خالد فكانت ترضعه.

5 - كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي أصحمة

التجأ المهاجرون الأولون إلى الحبشة فأكرمهم النجاشي وبقوا هنالك آمنين من اضطهاد قريش ولما هاجر رسول الله إلى المدينة عاد أربعون من المهاجرين والتحقوا بالنبي بالمدينة وبقي منهم في الحبشة نحو خمسين أو ستين تحت حماية النجاشي وقد حمل عمرو بن أمية الضمري رسالتين إليه يدعوه في إحداهما إلى الإسلام وفي الأخرى يأمره أن يزوجه أم حبيبة وهذه صورة كتاب رسول الله إلى النجاشي الذي يدعوه فيه إلى الإسلام:

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الحَبَشَةِ، سَلْمٌ أَنْتَ فإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ، المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ رُوحُ اللَّهِ وكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ البَتُولِ الطَّيِّبَةِ الحَصِينَةِ فَحَمَلَتْ بِعِيسَى مِنْ رُوحِهِ ونَفْخِهِ كَمَا خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ ونَفْخِهِ وَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَالْمُوَالاةِ عَلَى طَاعَتِهِ وَأَنْ تَتَّبِعَنِي وَتُؤْمِنَ بِالَّذِي جاءَني فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ ابْنَ عَمِّي جَعْفَرا وَنَفَرا مَعَهُ مِنَ المُسْلِمينَ فَإِذَا جاءوكَ فَاقْرِهِمْ وَدَعِ التَّجَبُّرَ فَإِنِّي أَدْعُوكَ وَجُنُودَكَ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ بَلَّغْتُ وَنَصَحْتُ فَاقْبَلُوا نُصْحِي وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى».

فلما وصل إليه الكتاب وضعه على عينيه ونزل عن سريره فجلس على الأرض ثم أسلم وكتب الجواب للنبيّ وهذا هو:

«بسم الله الرحمن الرحيم إلى محمد رسول الله، من النجاشي الأصحم بن أبجر: سلام عليك يا نبيّ الله ورحمة الله وبركات الله الذي لا إله إلا هو الذي هداني إلى الإسلام، أما بعد فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت عمك وأصحابك فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين وأرسل إليك بابني أرها بن الأصحم بن أبجر فإني لا أملك إلا نفسي وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله».

قال ابن إسحاق: «وذكر لي أن النجاشي بعث ابنه في ستين من الحبشة في سفينة فإذا كانوا في وسط البحر غرقت بهم سفينتهم فهلكوا».

وهذا الكتاب الذي أرسله النجاشي يؤيد إسلامه صراحة وأنه يرى في عيسى عليه السلام ما يراه الإسلام.

إسلام النجاشي

إن رواية ابن إسحاق صريحة بأن النجاشي أصحمة أسلم، وقد قرأ جعفر بن أبي طالب عليه سورة مريم وقول عيسى: {قَالَ إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ءاتَانِىَ الْكِتَبَ وَجَعَلَنِى نَبِيّا وَجَعَلَنِى مُبَارَكا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى بِالصَّلَوةِ وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيّا} (مريم: 30، 31) الآية، وفي هذه الآية نص عيسى عليه السلام على إثبات عبوديته وقال تعالى: {ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقّ الَّذِى فِيهِ يَمْتُرُونَ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَنَهُ إِذَا قَضَى أَمْرا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (مريم: 34، 35)، وفي قوله عيسى بن مريم إشارة إلى أنه ولد هذه المرأة وابنها لا أنه ابن الله، وقال عز شأنه: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرطٌ مُّسْتَقِيمٌ} (مريم: 36).

وقد شك بعضهم في إسلام النجاشي لكن المصادر التاريخية المهمة تصرح بإسلامه وفي قول عمرو بن العاص أنه بايع النجاشي على الإسلام وسيأتي ذكر ذلك في موضعه ولكنه كان يخفي إسلامه لأن أمته كانت مسيحية فخشي أن يثوروا عليه.

ومما يقوي إسلام النجاشي أنه كان مسيحيا نسطوريا ومذهب نسطور قائم على التوحيد وينكر ألوهية المسيح فمن ذلك قوله: (لا تقولوا مريم أم الله لأنها من البشر ويستحيل أن يولد الإله من البشر).

وقد ذكرت أن بحيرا الراهب الذي أكرم النبي عليه الصلاة والسلام عندما رحل إلى الشام وعرّفه بعلامات فيه، كان متبعا هذا المذهب - ونسطور هذا كان رجلا جليل القدر متبحرا في الديانة المسيحية والذي يدل على مكانته الرفيعة في الدين المسيحي أنه كان بطريرك القسطنطينية من عام 428 إلى 431م وكان له أتباع كثيرون أسلم عندما عرض عليه الإسلام رسول الله وقرأ سورة مريم التي تنطبق على مذهبه، ولأن الإسلام يحارب عبادة الأصنام ويدعو إلى التوحيد وينكر ألوهية عيسى عليه السلام ويقر نبوّته.

وجاء في مسند الشافعي (من كتاب الجنائز والحدود) عن أبي هريرة أن النبي نعى للناس النجاشي اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبّر أربع تكبيرات وهذا دليل على إسلام النجاشي لأن رسول الله لا يصلي إلا على مسلم.

وفي صحيح البخاري: عن جابر رضي الله عنه قال النبي حين مات النجاشي: «مات اليوم رجل صالح فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة».

زواج أم حبيبة بنت أبي سفيان برسول الله صلى الله عليه وسلم

عن محمد بن عمر قال: أرسل رسول الله إلى النجاشي ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان ويبعث بها إليه من عنده من المسلمين، فأرسل النجاشي - جارية له يقال لها: أبرهة، إلى أم حبيبة يخبرها بخطبة رسول الله إياها فأعطتها أوضاحا لها وفَتَخا سرورا بذلك، وأمرها أن توكل من يزوجها فوكلت خالد بن سعيد بن العاص فزوجها فخطب النجاشي على رسول الله وخطب خالد فأنكح أم حبيبة ثم دعا النجاشي بأربعمائة دينار صداقها فدفعها إلى خالد بن سعيد، فلما جاءت أم حبيبة تلك الدنانير جاءت بها أبرهة فأعطتها خمسين مثقالا، وقالت: كنت أعطيتك ذلك وليس بيدي شيء وقد جاء الله عز وجل بهذا، فقالت أبرهة: قد أمرني الملك أن لا آخذ منك شيئا وأن أرد إليك الذي أخذت منه فردته، وأنا صاحبة دهن الملك وثيابه وقد صدقت محمدا رسول الله وآمنت به وحاجتي إليك أن تقرئيه مني السلام، قالت: نعم، وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من عود وعنبر فكان رسول الله يراه عليها وعندها فلا ينكره، قالت أم حبيبة: فخرجنا في سفينتين وبعث معنا النواتي حتى قدمنا الحار ثم ركبنا الظهر إلى المدينة، فوجدنا رسول الله بخيبر فخرج من خرج إليه وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول الله فدخلت إليه فكان يسائلني عن النجاشي وقرأت عليه من أبرهة السلام فرد رسول الله عليها، ولما جاء أبا سفيان تزويج النبي أم حبيبة قال: «ذلك الفحل لا يقرع أنفه».

وقد أراد رسول الله بزواج أم حبيبة بنت أبي سفيان أن يستميل أباها إلى قضيته، وقد كان وصول مهاجري الحبشة إلى المدينة في فصل الخريف في جمادى الأولى السنة السابعة من الهجرة (أغسطس سنة 628 م) وفي «سيرة ابن هشام» أسماء من عادوا من الحبشة من أصحاب رسول الله

وكُنّيت بابنتها حبيبة بنت عبيد الله بن جحش واسمها رملة وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله فولدت هناك حبيبة فتنصّر عبيد الله ومات بالحبشة نصرانيا وبقيت أم حبيبة مسلمة بأرض الحبشة ثم خرجت وقدمت إلى المدينة بعد أن تزوجها رسول الله، وقيل: إن الذي وكلته أم حبيبة لعقد النكاح عثمان بن عفان، وتوفيت أم حبيبة سنة 44 هـ.

6 - كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة

أرسل رسول الله كتابا إلى هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة مع سليط بن عمرو العامري وهذه صورة الكتاب:

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هُوذَةَ بْنِ عَلِيّ، سَلاَمٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الهُدَى وَاعْلَمْ أنَّ دِينِي سَيَظْهَرُ إِلَى مُنْتَهَى الْخُفِّ وَالحَافِرِ فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ وَأَجْعَلْ لَكَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ».

فلما قرىء على هوذة الكتاب رد ردا لطيفا على سليط، قال الواقدي: إن أركون دمشق الروحي من عظماء النصارى كان عند هوذة فقال له هوذة: جاءني كتاب من النبي يدعوني إلى الإسلام فلم أجبه، فقال الأركون: لِمَ لا تجيبه؟ قال: ضننت بديني وأنا ملك قومي ولئن تبعته لن أملك، قال: بلى والله لئن اتبعته ليملكنك وإن الخير لك في اتباعه وإنه للنبي العربي الذي بشّر به عيسى بن مريم عليه السلام وإنه لمكتوب عندنا في الإنجيل محمد رسول الله.، وأركون هذا أسلم على يد خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر الصدّيق، ثم إن هوذة كتب للنبي جواب كتابه وقال فيه:

«ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله وأنا شاعر قومي وخطيبهم والعرب تهاب مكاني فاجعل لي بعض الأمر أتبعك».

وكأنه أراد الشركة في النبوة أو الخلافة بعده وأجاز سليطا بجائزة وكساه أثوابا من نسج هَجَرَ فقدم بكتابه على النبي وأخبره بخبره فلما قرأ الكتاب على النبي قال: «باد وباد ما في يديه».

ولما انصرف رسول الله من الفتح بلغه موت هوذة وقيل: إن رسول الله قال: «أما إن اليمامة سيظهر بها كذاب يتنبأ يُقتل بعدي»، وكان سنّ هوذة 150 سنة.

7 - كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى التميمي

كان المنذر بالبحرين، بعث النبي العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه ومعه كتاب يدعوه إلى الإسلام وهو:

(بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد: فإني أذكرك الله عز وجل فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه وإنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرا وإني قد شفعتك في قومك فاترك للمسلمين وأسلموا إليه وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته، فعليه الجزية).

وهذا جواب كتاب أرسله المنذر جوابا لكتاب أرسله إليه قبل ذلك يدعوه إلى الإسلام فأسلم وحسن إسلامه، ولم يعرف نص الكتاب الأول ولا حامله والظاهر أنه العلاء، وكتاب رسول الله الثاني يمنح الحرية لمن لا يريد الدخول في الإسلام على شرط دفع الجزية، وكان أهل البحرين إما مجوسا أو يهودا فلما عرض عليهم المنذر الإسلام دخل فيه من أحب ومنهم من كرهه وبقي على دينه.

وذكر الطبري، أن المنذر بن ساوى مات بالقرب من وفاته وقدم عليه عمرو بن العاص وحضر وفاته، وجاء في أسد الغابة في ترجمة نافع أبي سليمان مولى المنذر سار من البحرين حتى وفد إلى رسول الله وكذا في الطبراني وابن قانع.

8 - كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملكي عمان

عُمَان - بضم العين وتخفيف الميم - بلدة باليمن على ساحل بحر اليمن والهند في شرقي هجر. أما عَمّان بفتح العين وتشديد الميم فبلدة بالشام، والمراد هنا البلدة الأولى.

بعث رسول الله بكتابه مع عمرو بن العاص إلى جَيْفر وعبد ابني الجلندي وهذا نصّه:

(أما بعد: فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام، وليتكما وأن أبيتما أن تقرا بالإسلام، فإن ملككما زائل عنكما وخيلي تحل بساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما).

وكتب الكتاب، أبي بن كعب وختمه وكان جيفر أكبر سنا من عبد ومقدما عليه في الملك إلا أن عبدا كان أسهل خلقا وأليَن عريكة، فقابل عمرو وجيفر وسلمه كتاب رسول الله فقرأه وقرأه أخوه وسأله عن الإسلام وأسلما وأسلم معهما خلق كثير ووضعت الجزية على من لم يسلم.

نتيجة إرسال الرسل إلى الملوك والأمراء

ذكرنا الكتب التي أرسلها رسول الله إلى الملوك والأمراء يدعوهم فيها إلى الإسلام بعد صلح الحديبية وقبل وفتح مكة ولا شك أن في ذلك قوة عجيبة وشجاعة عظيمة لأن رسول الله وإن كان قد عقد الصلح مع مكة لكنه لم يكن قد تم له فتحها ولم يسلم أهلها وهذه الكتب ليس من السهل إرسالها إلى هؤلاء ولا سيما إلى هرقل وكسرى والمقوقس يدعوهم فيها إلى الإسلام ولو كان غير رسول الله لخشي عاقبة ذلك فإن هؤلاء ملوك أقوياء على تخوم بلاده ولكان إرساله الرسل سابقا لأوانه، إلا أن رسول الله لما كان واثقا من قوة رسالته ونصر الله سبحانه وتعالى أقدم على إرسال رسله بقلب ثابت وعزم صادق فكانت النتيجة ما يأتي:

1 - أنه تمكن من معرفة سياسة هؤلاء الملوك والأمراء نحوه وميلهم إليه فكانت هذه الكتب بمثابة جس نبضهم.

2 - إسلام «باذان» أمير اليمن ومن معه.

3 - أن المقوقس وإن كان لم يسلم إلا أنه أظهر الود بتلطفه مع رسول الله وإرساله الهدايا.

4 - إسلام النجاشي على ما هو مشهور في كتب التاريخ وإن كان لم يستطع حمل شعبه على الإسلام.

5 - إسلام المنذر بن ساوى التميمي صاحب البحرين.

6 - إسلام مَلَكَيْ عُمان وإسلام خلق كثير معهما.

نقول: لا شك أن الإسلام قد ربح بإرسال الرسل إلى هؤلاء الملوك والأمراء وعلا شأنه وصارت له مكانة دينية وسياسية بين الدول وذلك قبل فتح مكة.

غزوة خيبر محرم سنة 7 هـ

أغسطس سنة 628 م

خيبر واحة كبيرة على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام (والبريد اثنا عشر ميلا عربيا فتكون المسافة كلها 96 ميلا عربيا).

وسكان خيبر يهود، وهي ذات حصون ومزارع ونخل كثير، وكان سكانها غير مجتمعين في صعيد واحد بل كانوا متفرقين في الوديان المجاورة ويقطنون بيوتا حصينة وسط النخيل وحقول القمح، وكانت خيبر مركزا لدسائس اليهود الذين هاجروا إليها.

حصون خيبر

حصون خيبر الأساسية ثلاثة، وكل منها مؤلف من عدة حصون وهي كالآتي:

1 - حصون النطاة وهي أربعة: (النعام - الصعب - الكتيبة - بقلة).

2 - حصون الشِّق، اثنان: (حصن أُبيّ - وحصن البري).

3 - حصون الكتيبة وهي ثلاثة: (حصن القموص - الوطيح - سُلالم).

قال القزويني: وخيبر موصوفة بكثرة الحمى لا تفارق الحمى أهلها وكان أهلها يهود موصوفين بالمكر والخبث ومنها كان المسؤال بن عادياء المشهور بالوفاء.

كان يهود خيبر رجالا محاربين ولهم عدة حصون منيعة وهي سبعة ذكرناها آنفا، وقد كانوا عدا ذلك أهل مكر وخداع، فأراد رسول الله التخلص من جوارهم كما تخلص من يهود المدينة الذين لجأ بعضهم إلى خيبر.

كانت غزوة خيبر سنة سبع من الهجرة (أغسطس سنة 628 م) وذلك أن رسول الله لما عاد من الحديبية أقام بالمدينة ذا الحجة وبعض المحرم من السنة السابعة وولي تلك الحجة المشركون ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر وكان معه 1600 مسلحين تسليحا حسنا، منهم 200 فارس، ويلاحظ أن عدد الفرسان في هذه الغزوة قد ازداد لأنهم لم يكونوا في الغزوات السابقة يجاوزون الثلاثين وذلك بفضل عناية رسول الله بتربية الخيل، وخرج معه من نسائه أم سلمة رضي الله عنها وهي التي كانت خرجت معه إلى الحديبية واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري واستنفر من حوله ممن شهد الحديبية يغزون معه وجاء المخلفون عنه في غزوة الحديبية ليخرجوا معه رجاء الغنيمة، فقال: «لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، فأما الغنيمة فلا» (لأن الغرض الأساسي هو الجهاد لا الغنيمة) وكان الله قد وعد رسوله عند انصرافه من الحديبية في سورة الفتح بمغانم كثيرة بقوله تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} (الفتح: 20).

وفي البخاري عن أنس رضي الله عنه: «أن النبي أتى خيبر ليلا فنام هو وأصحابه دونها، ثم ركبوا إليها بكرة فصبحوها بالقتال»، وفي رواية لابن إسحاق: أنه لما أشرف على خيبر قال لأصحابه: «قفوا» ثم قال:

«اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها أقدموا بسم الله» وسار الجيش أربعة أيام إلى أن وصلوا خيبر.

فلما أصبح خرجت اليهود إلى زروعهم بمساحيهم ومكاتلهم ودفع رايته العقاب إلى الحباب بن المنذر، ودفع راية لسعد بن عبادة، ونزل بواد يقال له الرجيع بينهم وبين غطفان لئلا يمدوهم، وكانوا حلفاءهم ومُظاهرين لهم على رسول الله وأن غطفان تجهزوا وقصدوا خيبر، فسمعوا حسا خلفهم فظنوا أن المسلمين خلفوهم في ذراريهم فرجعوا وأقاموا وخذلوا أهل خيبر، وكان أهل خيبر 10.000 مقاتل.

وكان يهود خيبر أدخلوا أموالهم وعيالهم في حصن الكتيبة، وجمعوا المقاتلة في حصن النطاة، وكان النبي نزل قريبا من حصن النطاة فأشار عليه الحباب بن المنذر بالتحول قائلا: إن أهل النطاة لي بهم معرفة ليس قوم أبعد مدى منهم ولا أعدل رمية منهم وهم مرتفعون علينا وهو أسرع لانحطاط نبلهم ولا نأمن من بياتهم يدخلون في حمر النخل، فتحول رسول الله وتحول الناس إلى موضع حائل بين أهل خيبر وغطفان وابتنى هناك مسجدا صلى فيه طول مقامه بخيبر وأمر بقطع نخيل أهل حصون النطاة فوقع المسلمون في قطعها حتى قطعوا 400 نخلة ثم نهاهم عن القطع، فما قطع من نخيل خيبر غيرها، وقاتل يومه ذلك أشد القتال وعليه درعان وبيضة ومغفر وهو على فرس يُقال له الظرب في يده قناة وترس وفي ذلك اليوم قُتل محمود بن مسلمة أخو محمد بن مسلمة برحى ألقيت عليه من حصن ناعم، ألقاها عليه مرحب اليهودي وكان الحر في ذلك اليوم شديدا ومكث سبعة أيام يقاتل أهل حصن النطاة يذهب كل يوم بمحمد بن مسلمة للقتال ويخلف على محل العسكر عثمان بن عفان رضي الله عنه فإذا أمسى رجع إلى ذلك المحل ومن جرح من المسلمين يحمل إليه ليداوي جرحه، وكان اليهود كعادتهم يحاربون أمام الحصون لأنهم يخشون الحرب في الميدان فإذا انهزموا عادوا إلى حصونهم وأغلقوها دونهم.

ولما كانت الليلة السادسة أتى رجل من يهود خيبر في جوف الليل إلى النبي وأخبره أنه خرج من حصن النطاة من عند قوم يتسللون من الحصن في هذه الليلة ويذهبون إلى حصن يجعلون به ذراريهم ويتهيأون للقتال وأخبره أن في حصن الصعب من حصون النطاة، في بيت فيه تحت الأرض منجنيقا ودبابات ودروعا وسيوفا فإذا دخل فيه رسول الله أوقفه على أسراره.

وكان رسول الله تأخذه الشقيقة في بعض تلك الأيام فيبعث أناسا من أصحابه فلم يكن فتح ومنهم أبو بكر وعمر بن الخطاب.

ثم قال لمحمد بن مسلمة: «لأعطين الراية غدا لرجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، لا يولي الدبر يفتح الله عز وجل على يديه فيمكنه من قاتل أخيك».

وفي الغد بعث رسول الله إلى عليّ رضي الله عنه، وكان أرمد شديد الرمد، فجيء به إلى رسول الله وقد عصب عينيه فعقد له لواءه الأبيض وتفل في عينيه ودلكهما فبرأ حتى كأن لم يكن بهما وجع، وقال عليّ رضي الله عنه: فما رمدت بعد يومئذ، ثم دعا النبي لعليّ رضي الله عنه بقوله: «اللهم اكفه الحر والبرد»، قال عليّ رضي الله عنه: فما وجدت بعد ذلك لا حرا ولا بردا، فكان يلبس في الحر الشديد القباء المحشو الثخين ويلبس في البرد الشديد الثوب الخفيف فلا يبالي البرد.

فلما أخذ عليّ الراية قال: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال رسول الله «انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن لم يطيعوا لك بذلك فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم».

فخرج عليّ رضي الله عنه حتى ركز الراية تحت الحصن ثم خرج إليه أهل الحصن، وكان أول من خرج إليه منهم الحارث أخو مرحب وكان مشهورا بالشجاعة فقتله عليّ وانهزم اليهود إلى الحصن (وهو حصن ناعم) ثم خرج إليه مرحب لابسا درعين ومتقلدا سيفين ومعتما بعمامتين، ولبس فوقهما مغفرا وحجرا قد ثقبه قدر البيضة، ومعه رمح فبرز له عليّ رضي الله عنه، ثم حمل مرحب على عَلِيّ وضربه فطرح ترسه من يده، فتناول عليّ رضي الله عنه بابا كان عند الحصن فتترس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه الحصن ثم إن عليا ضرب مرحبا فتترس فوقع السيف على الترس فقده وشق المغفر والحجر الذي تحته والعمامتين وفلق هامته حتى أخذ السيف بالأضراس.

وقيل: إن محمد بن مسلمة هو الذي قتل مرحبا اليهودي انتقاما لأخيه محمود، والصحيح الذي عليه أكثر أهل السير والحديث أن عليَّ بن أبي طالب هو الذي قتل مرحبا.

ثم خرج ياسر أخو مرحب يطلب البراز وكان أيضا من مشاهير فرسان اليهود وشجعانهم فخرج إليه الزبير رضي الله عنه وقتله، وعند ذلك قال له رسول الله «فداك عم وخال، لكل نبيّ حواريّ وحواريّ الزبير».

وكان أول حصن فتحه المسلمون وهو حصن الناعم من حصون النطاة على يد عليّ رضي الله عنه، ثم القموص، ولم يزل القتال ناشبا بين المسلمين واليهود، والمسلمون يفتحون حصونهم حصنا بعد حصن حتى أتموا فتحها جميعا.

وقُتل من اليهود 93 واستشهد من المسلمين 15 رجلا، وأخذ رسول الله كنز آل أبي الحقيق وكان من بني النضير الذي حمله حييّ بن أخطب لما أُجلِيَ عن المدينة، وأمر رسول الله بقتل كنانة وأخيه الربيع لأنهما أخفيا مال حييّ وقد علم رسول الله بمكان المال وأُتِيَ إليه به وقوّم بعشرة آلاف دينار، ووجد في الكنز أساور ودمالج وخلاخيل وأقرطة وخواتيم وعقود الجوهر والزمرد وعقود أظفار مجزع بالذهب، وأصاب المسلمين مجاعة قبل فتح الحصون، فلما فتح حصن الصعب، وكان أكثر الحصون طعاما، فيه شعير ومر ووَدَك أي سمن وزيت وشحم ومتاع وماشية وكان به 500 مقاتل، أمر النبي المسلمين أن يأكلوا ويعلفوا ولا يخرجوا به إلى بلادهم، وكان صاحب الغنائم أبا اليسر كعب بن زائد الأنصاري.

فتحت الحصون كلها عنوة إلا حصن الوطيح وحصن سُلالم فقد مكث المسلمون على حصارها أربعة عشر يوما فلم يخرج أحد منهم فهمّ رسول الله أن يحمل عليهم وأن ينصب عليهم المنجنيق فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله الصلح على حقن دماء المقاتلة وترك الذرية والخروج من خيبر وأرضها بذراريهم وألا يصحب أحد منهم إلا ثوبا واحدا فصالحهم على ذلك وعلى أن ذمة الله تعالى ورسوله بريئة منهم إن كتموه شيئا، فتركوا ما لهم من أرض ومال وصفراء وبيضاء والكراع والحلقة والبز إلا ثوبا واحدا، ووجد المسلمون في الحصنين المذكورين 100 درع و 400 سيف و 1000 رمح و 500 قوس عربية بجعابها ووجدوا في أثناء الغنيمة صحائف متعددة من التوراة فجاءت يهود تطلبها فأمر رسول الله بدفعها إليهم وبهذه المناسبة نذكر ما كتبه الأستاذ ولفنسون في كتابه (تاريخ اليهود ببلاد العرب) صفحة 170:

«ويدل هذا على ما كان لهذه الصحائف في نفس الرسول من المكانة العالية ممَّا جعل اليهود يشيرون إلى النبيّ بالبنان ويحفظون له هذه اليد حيث لم يتعرض بسوء لصحفهم المقدسة ويذكرون بإزاء ما فعله الرومان حين تغلبوا على أورشليم وفتحوها سنة 70 ب.م، إذ أحرقوا الكتب المقدسة وداسوها بأرجلهم وما فعله المتعصبون من النصارى في اضطهاد اليهود في الأندلس حيث أحرقوا أيضا صحف التوراة، هذا هو البون الشاسع بين الفاتحين ممن ذكرناهم وبين رسول الإسلام» اهـ.

ونضيف إلى أن هذه ليست أول مرة تسامح فيها رسولُ الله وترك فيها صحائف اليهود المقدسة ولم يتعرض لها بسوء ولم يحقرها مع شدة عداوتهم له فقد سمح لهم قبل ذلك بأخذ صحفهم المقدسة المشتملة على وصية موسى لبني إسرائيل عند إجلائهم من المدينة في غزوة بني النضير كما تقدم.

ثم جمع رسول الله السبي فكان من نصيب دحية بن خليفة الكلبي صفية بنت حييّ وكانت امرأة حسناء فتنافس الناس فيها فجاء رجل إلى النبي وقال له: يا نبي الله أعطيت دحية صفية سيدة بني قريظة والنضير لا تصلح إلا لك، فقال: «ادعوه بها» فلما نظر إليها النبي قال لدحية: «خذ جارية من السبي غيرها» فأخذ أخت كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق زوج صفية وكانت صفية بنت حييّ من سبط هارون أخي موسى عليهما السلام فاصطفاها لنفسه وجعلها عند أم سليم التي هي أم أنس خادمه حتى اهتدت وأسلمت وكانت غاية في الجمال ثم أعتقها وتزوج بها وجعل عتقها صداقها وكان اسمها زينب فسماها رسول الله - صفية - وكان عمرها 17 عاما، وفي المواهب أنه أخذ صفية لأنها بنت ملك من ملوكهم.

وفي هذه الغزوة سمت اليهودية الشاة للنبي وأهدتها إليه، واسمها زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم وأخت مرحب انتقاما لقتل أبيها وزوجها وأخيها.

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتحت خيبر واطمأن بعد فتحها أهديت للنبي شاة فيها سم فلاك فقال «ارفعوا أيديكم»، وأرسل إلى اليهودية فقال: «هل سممت هذه الشاة؟» قالت: نعم، قال لها: «ما حملك على ذلك؟» قالت: إن كنت نبيا يطلعك الله وإن كنت كاذبا فأريح الناس منك، وقد استبان لي أنك صادق وأنا أشهد ومن حضرك أني عَلَى دينك وأن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فعفا عنها ولم يعاقبها، وتوفي من أصحابه الذين أكلوا معه بشر بن البراء رضي الله عنه واحتجم رسول الله على كاهلِه من أجل الذي أكل من الشاة.

وبعد فتح خيبر قدم من الحبشة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه من المسلمين وهم ستة عشر رجلا فتلقى النبي جعفرا وقبَّل جبهته وعانقه وقام له ثم قال: «ما أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر»، وقال لجعفر رضي الله عنه: «أشبهت خَلْقي وخُلُقي» فرقص جعفر رضي الله عنه لسروره بهذا الخطاب ولفرط ما أصابه من الفرح ولم ينكر عليه رقصه، وجعل ذلك أصلا لرقص الصوفية عندما يجدون من لذة المواجيد في مجالس الذكر والسماع، وقدم من الحبشة أبو موسى الأشعري وأخواه أبو رهم وأبو بردة وجماعة من قومه فأسهم لهم ولم يسهم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلا لمن شهدها معه.

وقد قسم رسول الله غنائم خيبر فأعطى الراجل سهما والفارس ثلاثة أسهم بعد أن خمسها خمسة أجزاء ثم دفع لأهل خيبر الأرض ليعملوا فيها بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع وقال لهم: إنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم، ثم استمر على ذلك إلى خلافة عمر رضي الله عنه إلى أن وقعت منهم خيانة وغدْر لبعض المسلمين فأجلاهم إلى الشام بعد أن استشار في ذلك الصحابة رضي الله عنهم.

ولما انصرف رسول الله من خيبر فكان ببعض الطريق فلما كان آخر الليل قال: هل من رجل يحفظ علينا الفجر لعلنا ننام؟ قال بلال: أنا يا رسول الله أحفظه عليك، فنزل رسول الله ونزل الناس فناموا وقام بلال يصلي فصلى ما شاء الله أن يصلي ثم استند إلى بعيره واستقبل الفجر يرمقه فغلبته عينه فنام فلم يوقظهم إلا مسّ الشمس وكان رسول الله أول أصحابه هبّا، فقال: ماذا صنعت بنا يا بلال؟ قال: يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، قال: صدقت، ثم اقتاد رسول الله بعيره غير كثير ثم أناخ فتوضأ وتوضأ الناس ثم أمر بلالا فأقام الصلاة فصلى رسول الله بالناس فلما سلم أقبل على الناس فقال: إذا نسيتم الصلاة فصلوها إذا ذكرتموها فإن الله تبارك وتعالى يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَوةَ لِذِكْرِى} (طه: 14)، وكان فتح خيبر في صفر.

تحريم لحوم الحمر الأهلية

نهى رسول الله في خيبر عن أكل لحوم الحُمر الأهلية فإنهم أصابهم جوع فوجدوا ثلاثين حمارا خرجت من بعض الحصون فأخذها رهط من المسلمين وذبحوها وجعلوا لحومها في القدور والبرام وجعلوا يطبخونها للأكل فمرّ بهم النبي فسألهم عما في القدور والبرام، قالوا: لحوم الحمر الإنسية، أي المخالطة للإنس، فنهاهم عن أكلها حتى إن القدور أُكفئت وهي تفور، وروى البخاري مثل ذلك وأمرهم بغسل القدور.

إصابة الصحابة بالحمى في خيبر

لما قدم رسول الله خيبر، كان التمر أخضر فأكثر الصحابة من أكله، فأصابتهم الحمى، فشكوا ذلك إلى رسول الله قال: «بردوا لها الماء في الشنان - أي القرب - ثم صبوا عليكم منه بين أذانَي الفجر واذكروا اسم الله عليه»، ففعلوا فذهبت عنهم الحمى.

هذا ما أصاب الصحابة من أكل التمر الأخضر، وفي مصر يُباع التمر الأخضر قبل نضج البلح فيمرض آكلوه بالحمى ولا سيّما الأطفال فيجب على الحكومة تحريم بيعه بتاتا قبل نضجه فإنه عسر الهضم.

صلح أهل فدك

فَدَك بلدة يهودية بالقرب من خيبر - لما علم أهلها بانهزام خيبر خافوا فبعثوا إلى رسول الله يصالحونه على النصف من فدَك فقدمت عليه رسلهم فقبل ذلك منهم فكانت فدك لرسول الله خالصة لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب يصرف ما يأتيه منها على أبناء السبيل فكان ينفق منها ويعود منها على صغير بني هاشم ويزوج منها أيمهم، ولما مات رسول الله وولي أبو بكر الخلافة، سألته فاطمة رضي الله عنها أن يجعلها أو نصفها لها فأبى وروى لها أنه قال: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة» أي على المسلمين.

غزوة وادي القرى

وادي القُرى، وادٍ بين الشام والمدينة وهو بين تيماء وخيبر، فيه قرى كثيرة وبها سُمي «وادي القُرى» نزلها اليهود وزرعوها.

لما انصرف رسول الله من خيبر نزل وادي القرى أصيلا مع الغروب وأهله يهود فدعاهم إلى الإسلام فامتنعوا فحاصرهم أربعة أيام وهيأ أصحابه للقتال فقُتل منهم أحد عشر رجلا وفتحها رسول الله عنوة وغنمه الله أموالهم وأصاب المسلمين أثاثا ومتاعا كثيرا وقسّم رسول الله ما أصابه على أصحابه وترك الأرض والنخل بأيدي اليهود وعاملهم عليها وولاها عمرو بن سعيد بن العاص وصالحه أهل تيماء على الجزية لما بلغهم فتح وادي القُرى وولاها يزيد بن أبي سفيان، وكان إسلامه يوم فتحها، وتيماء بلدة معروفة بين المدينة والشام على سبع مراحل من المدينة، ثم رجع إلى المدينة بعد أن بسط نفوذه على القبائل اليهودية شماليَّ المدينة.

قال مستر موير: إن غزوة وادي القرى كانت في جمادى الثانية سنة سبع (سبتمبر سنة 628 م) لأنه أرَّخ الزحف على خيبر بشهر جمادى الأولى (أغسطس سنة 628 م).

ويجعل بعضهم غزوة خيبر وغزوة وادي القُرى غزوة واحدة لأنه لم يرجع من خيبر.

خمس سرايا في خريف وشتاء السنة السابعة الهجرية

(سنة 628 م)

بعد عودة رسول الله من خيبر قضى بقية الخريف والشتاء في المدينة وفي هذه الأثناء بعث خمس سرايا منها ثلاث في شهر شعبان:

1 - سرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعه ثلاثون رجلا إلى قبيلة بني هوازن بجهة تُرَبة، دار بقرب مكة، فلما علموا بمجيئه هربوا فانصرف راجعا إلى المدينة.

2 - سرية أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى بني كلاب، قبيلة بنجد فسبى منهم جماعة وقتل آخرين.

3 - سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى بني مرة بفدك ومعه ثلاثون رجلا، فلما وصلوا إلى محل القوم لقوا رعاء الشاء فاستاق بشير النعم والشاء وانحدر إلى المدينة ثم أدركه العدد الكثير من بني مرة عند الليل فباتوا يرمونه بالنبل حتى فنيت نبل أصحابه فأصيبوا وولي من ولي وجرح بشير وعاد إلى المدينة بصعوبة.

4 - وفي رمضان كانت سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى أهل المنيعة بناحية نجد على ثمانية برد من المدينة في مائة وثلاثين راجلا فهجموا عليهم في وسط محالهم وقتلوا كثيرا منهم واستاقوا نعما وشاء إلى المدينة وفي هذه السرية قتل أسامة بن زيد رجلا يُقال له نهيك بن مرداس الأسلمي، وفي رواية: أن اسمه مرداس بن نهيك بعد أن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، فقال رسول الله «يا أسامة من لك بلا إله إلا الله»، فقال: يا رسول الله إنما قالها تعوذا من القتل، قال: «هل شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب؟» فقال أسامة: لا أقاتل أحدا يشهد أن لا إله إلا الله.

5 - وفي شوال أرسل بشير بن سعد أيضا إلى يُمن وجِناب وهي أرض لغطفان ومعه ثلاثمائة رجل لجمع تجمعوا بأرض غطفان وأعدهم عيينة بن حصين للإغارة على المدينة فلما بلغهم مسير بشير هربوا وأصاب لهم نعما كثيرة فغنمها.

قال الواقدي: وفي هذه السنة - السابعة - رد رسول الله زينب ابنته على أبي العاص بن الربيع وذلك في المحرم - أسر أبو العاص يوم بدر فمنّ عليه رسول الله بلا فداء بسبب زوجته زينب بنت رسول الله ورد عليه رسول الله زينب بنكاح جديد وقيل: بالنكاح الأول وأسلم قبيل فتح مكة -.

قال: وفيها قدم حاطب بن أبي بلتعة من المقوقس بمارية وأختها سيرين وبغلته دلدل وحماره يعفور وكساء وبعث معهما بخصيّ فكان معهما، وفي هذه السنة اتخذ النبي منبره الذي كان يخطب الناس عليه واتخذ له درجتين ومقعدا، وفي الطبري أنه عمل سنة ثمان.

عمرة القضاء أو عمرة القضية ذو القعدة سنة 7 هـ

فبراير سنة 629 م

قد اختلف في تسمية هذه العمرة عُمرة القضاء، فقال مالك والشافعي والجمهور: لأنه قاضى قريشا سنة الحديبية فالمراد بالقضاء الفصل الذي وقع عليه الحكم لا لأنها قضاء عن العمر التي صُدَّ عنها لأنها لم تكن فسدت حتى يجب قضاؤها بل كانت عمرة تامة، وقال أبو حنيفة وأحمد: إن مَن صدّ عن البيت فعليه القضاء فتسميتها قضاء عل هذا ظاهرة - وهذه العمرة ليست من الغزوات -.

لما رجع رسول الله إلى المدينة من خيبر أقام بها شهري ربيع وجماديين ورجب وشعبان وشوالا، ثم خرج في ذي القعدة في السنة السابعة - فبراير سنة 629 م - في الشهر الذي صدّه فيه المشركون بالحديبية معتمرا عمرة القضاء مكان عمرته التي صدوه عنها واستعمل على المدينة عويف بن الأضبط الديلي ويُقال لها عمرة القصاص لأنهم صدوا رسول الله في ذي القعدة في الشهر الحرام من سنة ست فاقتص رسول الله منهم وأمر ألا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية وخرج معهم غيرهم أيضا فكانوا ألفين سوى النساء والصبيان وساق معه ستين بدنة وحمل السلاح والدروع والرماح وقاد مائة فارس خوفا من غدر أهل مكة فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه وتحدثت قريش بينها أن محمدا في عسر وجهد فصفوا له عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه، فلما دخل رسول الله اضطبع بردائه وأخرج عضده اليمنى ثم قال: رحم الله امرأً أراهم اليوم من نفسه قوة، ثم استلم الركن اليماني مشى حتى يستلم الركن الأسود ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف والمسلمون يطوفون معه، كان بين يديه لما دخل مكة عبد الله بن رواحة آخذا بخطام ناقته. وكان المشركون على جبل قيقعان ثم سعى رسول الله بين الصفا والمروة على راحلته وبعد فراغه نحر هديه عند المروة وحلق رأسه هناك ثم أمر مائتين من أصحابه أن يذهبوا إلى أصحابه ببطن يأجج - موضع على ثمانية أميال من مكة - يقيمون على السلاح ويأتي الآخرون ليقضوا نسكهم ففعلوا وأقام بمكة ثلاثا كما شرطه قريش في الهدنة فلما كان الظهر من اليوم الرابع جاءه سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى فقالا: ننشدك العهد إلا ما خرجت من أرضنا فرد عليهما سعد بن عبادة رضي الله عنه فأسكته وأذن بالرحيل.

جاء في البخاري من حديث البراء فلما دخلها ومضى الأجل أتوا عليا رضي الله عنه فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل، فخرج رسول الله

زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بميمونة رضي الله عنها

تزوج رسول الله ميمونة بنت الحارث الهلالية سنة سبع في عمرة القضاء وكان اسمها برة، فسماها رسول الله ميمونة وهي أخت أم الفضل زوج العباس رضي الله عنهما وأخت أسماء بنت عميس لأمها زوج حمزة رضي الله عنه، وكان الذي زوجه إياها العباس بن عبد المطلب وأصدقها عنه أربعمائة دينار وأراد أن يبني بها في مكة فلم يمهلوه يبني بها وقال لهم: ما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم فصنعت لكم طعاما؟ فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك اخرج عنا من أرضنا، هذه الثلاثة قد مضت فخرج فبنى بها بسرف قرب مكة، ولقيت ميمونة رضي الله عنها من سفهاء مكة عناء، فعن أبي رافع رضي الله عنه لقينا عناء من أهل مكة من سفهاء المشركين من أذى ألسنتهم للنبي ولميمونة، فقلت لهم: ما شئتم، هذه والله الخيل والسلاح ببطن ناجح وأنتم تريدون نقض العهد والمدة، فولوا راجعين منكسين، وميمونة هي آخر امرأة تزوجها رسول الله وآخر مَن توفي من أزواجه، قال إيرفنج في كتابه - حياة محمد -: «إن النبي لم يتزوج بميمونة بنت الحارث إلا سياسة يريد بها استمالة رجلين قويين لأن ميمونة كانت أرملة مسنّة تبلغ من العمر إحدى خمسين سنة وهذان الرجلان هما خالد بن الوليد ابن أخت ميمونة وهو البطل المشهور الذي حارب محمدا في غزوة أُحد ولما أسلم سُمي سيف الله وصديقه عمرو بن العاص».

وهذا ما قلناه في سبب تعدد زوجات النبي فإن خالد بن الوليد أسلم بعد زواج رسول الله بخالته ميمونة بقليل وأسلم معه في يوم واحد عمرو بن العاص وميمونة رضي الله عنها آخر زوجاته

ما قبل سرية مؤتة من الحوادث

في خلال الصيف أعد رسول الله عدة سرايا قبل غزوة مؤتة وهي:

1 - سرية الأخرم: في ذي الحجة سنة سبع (أبريل سنة 629 م) في خمسين رجلا إلى بني سليم، خرج الأخرم يدعوهم إلى الإسلام فعلموا بخروجه فأمطروا المسلمين وابلا من النبل وأحاطوا بهم من كل ناحية حتى قُتل عامتهم وجُرح أميرهم ثم تحامل حتى بلغ رسول الله بالمدينة في أول صفر.

2 - سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح بالكدِيد في صفر سنة ثمان - يونيه سنة 629 م - خرج المسلمون حتى إذا كانوا بقديد لقوا الحارث بن مالك الليثي المعروف بابن البرصاء وهي أمه فأخذوه، فقال: إنه جاء يريد الإسلام ولكنهم أوثقوه وخلفوا عليه رجلا وشنوا عليهم الغارة واستاقوا النعم وحملوا ابن البرصاء وعادوا إلى المدينة وأسلم ابن البرصاء وتوفي آخر خلافة معاوية رضي الله عنه وله حديث واحد وهو قوله: سمعت رسول الله يقول يوم الفتح: «لا تغزى مكة بعد اليوم إلى يوم القيامة».

3 - سرية أخرى لغالب بن عبد الله الليثي: لما رجع غالب بن عبد الله الليثي من سريته الأولى بعثه رسول الله إلى موضع مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك - وقد تقدم ذكر سرية بشير التي جُرح فيها - ومعه 200 رجل وذلك في شهر صفر سنة ثمان، وقد نجحت هذه السرية نجاحا تاما فقد قاتل المسلمون ساعة ووضعوا السيف وقتلوا منهم قتلى وأصابوا منهم نعما وشاء وذرية فساقوها وعادوا إلى المدينة.

4 - سرية شجاع بن وهب الأسدي إلى جمع من هوازن يُقال لهم بنو عامر بالسيىء في شهر ربيع الأول سنة ثمان - يوليه سنة 629 م - ومعه أربعة وعشرون رجلا فأصابوا نعما كثيرة وشاء واستاقوا ذلك حتى قدموا المدينة وكانت غيبتهم خمس عشرة ليلة.

5 - سرية كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح من أرض الشام وراء ذات القرى في ربيع الأول سنة ثمان في خمسة عشر رجلا فوجدوا جمعا فجاءوا على الخيل فدعاهم المسلمون إلى الإسلام فلم يستجيبوا لهم ورشقوهم بالنبل فقاتلهم الصحابة أشد القتال حتى قتلوا ولم ينجح منهم غير رجل جريح في القتلى، قال ابن سعد: هو الأمير، فلما برد عليه الليل تحامل حتى أتى النبي فأخبره الخبر فشق عليه ذلك وهم بالبعث عليهم لكن بلغه أنهم ساروا إلى موضع آخر فتركهم.

إسلام عمرو بن العاص سنة 8 هـ

(سنة 629 - 630 م)

عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن غالب القرشي السهمي يُكنى أبا عبد الله، وقيل: أبا محمد؛ وأمه النابغة بنت حرملة، سبية من بني جلان بن عتيك بن أسلم بن أسلم بن يذكر بن عترة وأخوه لأمه عمرو بن أثاثة العدوي وعقبة بن نافع بن عبد قيس الفهري.

سأل رجل عمرو بن العاص عن أمه فقال: سلمى بنت حرملة تلقب بالنابغة من بني عترة أصابتها رماح العرب فبيعت بعكاظ فاشتراها الفاكه بن المغيرة ثم اشتراها منه عبد الله بن جدعان ثم صارت إلى العاص بن وائل فولدت له فأنجبت فإن كان جعل لك شيء فخذه، وهو الذي أرسلته قريش إلى النجاشي ليسلم إليهم من عنده من المسلمين، جعفر بن أبي طالب ومن معه فلم يفعل وقال له: يا عمرو كيف يعزب عنك أمر ابن عمك فوالله إنه لرسول الله حقا، قال: أنت تقول ذلك؟ إي والله فأطعني، فخرج من عنده مهاجرا إلى النبي فأسلم عام خيبر وقيل: أسلم عند النجاشي وهاجر إلى النبي وقيل: كان إسلامه في صفر سنة ثمان قبل الفتح بستة أشهر وكان قد هم بالانصراف إلى النبي من عند النجاشي ثم توقف إلى هذا الوقت وقدم على النبي هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة العبدري فتقدم خالد وأسلم وبايع ثم تقدم عمرو فأسلم وبايع على أن يغفر له ما كان قبله فقال له رسول الله «الإسلام والهجرة يجبّان ما قبلهما».

وحدث عمرو بن العاص رضي الله عنه عن سبب إسلامه كما رواه ابن إسحاق وغيره، قال عمرو: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني فقلت لهم: تعلمون والله أني أرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا وإني لقد رأيت أمرا فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلا خير، قالوا: إن هذا الرأي، قلت: فأجمعوا لنا ما نهديه له وكان أحب أن يهدي إليه من أرضنا الأدم فجمعنا له أدما كثيرا ثم خرجنا حتى قدمنا عليه فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري وكان رسول الله قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه فدخل عليه ثم خرج من عنده فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية الضمري لو قد دخلت على النجاشي لسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع فقال: مرحبا بصديقي، أهديت إليّ من بلادك شيئا؟ قلت له: نعم أيها الملك قد أهديت إليك أدما كثيرا، ثم قربته إليه فأعجبه واشتهاه ثم قلت له: إني قد رأيت رجلا خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا فأعطنيه لأقتله فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا، فغضب ثم مدّ يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقا منه، ثم قلت له: أيها الملك والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى عليه السلام لتقتله؟ قلت: أيها الملك أكذاك هو؟ قال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه فإنه والله لعلى الحق وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، قلت: أفتبايعني له على الإسلام؟ قال: نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام ثم خرجت إلى أصحابي وقد حال رأيي عما كان عليه وكتمت أصحابي إسلامي ثم خرجت عامدا إلى رسول الله فلقيت خالد بن الوليد وذلك قبيل فتح مكة وهو مقبل من مكة فقلت له: أين يا أبا سليمان؟ قال: والله لقد استقام الميسم وإن الرجل لنبيّ أذهب والله فأسلم، فحتى متى؟ والله ما جئت إلا لأسلم، فقدمنا المدينة على رسول الله فتقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع ثم دنوت فقلت: يا رسول الله إني أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي ولا أذكر ما تأخر، فقال رسول الله «يا عمرو بايع فإن الإسلام يجب ما كان قبله وإن الهجرة تجب ما كان قبلها» فبايعته ثم انصرفت.

روى الزبير بن بكار أن رجلا قال لعمرو بن العاص رضي الله عنه: ما أبطأ بك عن الإسلام وأنت أنت في عقلك؟ قال: كنا مع قوم لهم علينا تقدم وكانوا ممن توازي أحلامهم الجبال فلذنا بهم فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا نظرنا وتدبرنا فإذا حق بَيِّن فوقع الإسلام في قلبي.

وفي إسلام عمرو على يد النجاشي لطيفة هي أن صحابيا أسلم على يد تابعيّ ولا يعرف مثله.

وقد كان عمرو بن العاص رجلا سياسيا حزبيا وقد نقلنا قوله من فيه عن ذهابه إلى الحبشة وسبب إسلامه ومنه يتبين أنه فكر طويلا في انتشار الإسلام وفي مركزه فرأى أخيرا أن خير ما يتخلص به من حرج مركزه هو أن يهاجر إلى الحبشة موفدا من قبل قريش يقصد قتل عمرو بن أمية الضمري ظنا منه أن النجاشي سيسلمه إياه فقدم له الهدايا تزلفا إليه واعتمد على صداقة الملك له، وبذلك يكون قد خدم قريشا من جهة وأقام بالحبشة بعيدا عن النضال بين رسول الله وقريش حتى إذا انتصر رسول الله وفتح مكة كان هو آمنا بالحبشة لكن النجاشي لم يسلمه عمرو بن أمية الضمري ولا غيره من المسلمين وغضب عليه وفوق ذلك عرض عليه الإسلام فلم يرَ بدا من مبايعة النجاشي على الإسلام لأنه رأى أن النجاشي نفسه قد أسلم اعتقادا منه برسالة محمد وأنه سيظهر على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده وفي قول عمرو دليل واضح على إسلام النجاشي.

وكان إسلام عمرو قبل الفتح في السنة الثامنة من الهجرة (سنة 629 - 630 م) وكان يبلغ من العمر إذ ذاك نحو اثنتين وأربعين سنة وقد اكتسب الإسلام بإسلامه هو وخالد بن الوليد قائدين عظيمين وبطلين كبيرين قاما بدور مهم في تاريخ الفتح الإسلامي ونشر الدعوة وإعزاز الدين.

وقد روت أم سلمة زوج رسول الله وكانت من المهاجرات إلى الحبشة تفاصيل ذات شأن عن إقامة المسلمين بها وإيفاد قريش لعبد الله بن ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص والتدابير التي دبرها عمرو والمناقشة التي حصلت بحضرة النجاشي وحضور البطارقة والقتال الذي نشب بينه وبين من نازعه بسبب اعترافه بصحة المبادىء الإسلامية مما لم يذكره عمرو بن العاص وهذه روايتها رضي الله عنها.

قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي آمنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذَى ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم فجمعوا أدما كثيرا ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي وأمّروهما أمرهم وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم ثم قدما إلى النجاشي هداياه ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم، قالت: فخرجا فقدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار وعند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي ثم قالا لكل بطريق منهم إنه قد صبأ إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلما الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم فإن قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم، ثم إنهما قربا هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك إنه صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم فهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه، ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم، فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم، فغضب النجاشي ثم قال: لاها الله ايم الله إذا لا أسلمهم إليهما ولا أكاد قوما جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني، ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا كائن في ذلك ما هو كائن، فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟.

فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له:

«أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار، يأكل القوي منّا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - فعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا وحرّمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله وأن نستحل من الخبائث ما كنا نستحل، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك، فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ، فقرأ عليه صدرا من - كهعيص - فبكى والله النجاشي حتى اخضلّ لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ثم قال النجاشي: إن هذا والله والذي جاء به (عيسى) ليخرجان من مشكاة واحدة، انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكما أبدا ولا أكاد، قالت أم سلمة: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لأنبئنهم غدا بعيبهم عندهم ثم أستأصل به خضراءهم، قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرته أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد الله، ثم غدا عليه الغد فقال له: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه، فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثله فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فيه ما قال الله وما جاء به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن، فلما دخلوا عليه، قال لهم: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا: «هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول»، فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عودا، ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال فقال: وإن نخرتم والله اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي من سبكم غرم ثم من سبكم غرم، فما أحب أن لي دبرا ذهبا وأني آذيت رجلا منكم، ردوا عليهما هداياهم فلا حاجة لنا بها فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليّ ملكي فآخذ الرشوة فيه وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه.

قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار، قالت: فوالله إنا على ذلك إذ نزل به - يعني - من ينازعه في ملكه، قالت: فوالله ما علمنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك تخوفا أن يظهر ذلك على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه وسار النجاشي وبينهما عرض النيل، فقال أصحاب رسول الله من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟ فقال الزبير بن العوام: أنا وكان أحدث القوم سنا فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم ثم انطلق حتى حضرهم، قالت: ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده واستوثق عليه أمر الحبشة فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله وهو بمكة.

هاتان روايتان عن ذهاب عمرو بن العاص إلى الحبشة وما جرى بينه وبين النجاشي خاصا بالمهاجرين المسلمين، الرواية الأولى عن عمرو نفسه والثانية عن أم سلمة، والرواية الأولى مذكورة في سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق، والثانية في مسند الإمام أحمد بن حنبل، ويستفاد من رواية عمرو بن العاص أنه ذهب إلى الحبشة موفدا من قريش ومعه أدم كثير ليقدمه إلى النجاشي هدية له بقصد تسليم المهاجرين كلهم أو بعضهم إليه وأنه تمكن من مقابلة النجاشي وطلب منه ذلك فغضب غضبا شديدا وأبى إجابة طلبه ورد هديته إليه لكن عَمْرا لم يذكر المناقشة التي حدثت أمام النجاشي بينه وبين جعفر بن أبي طالب بحضور البطارقة في أمر عيسى بن مريم عليه السلام واقتناع النجاشي بما أجاب به جعفر رضي الله عنه، غير أن عمرو بن العاص قال: إن النجاشي صافحه وأسلم، وقالت أم سلمة: إنه ظهر من ينازعه في ملكه - على أثر إقراره بما قاله جعفر طبعا - ومما لا شك فيه أن عمرو بن العاص لم ينجح في مهمته سواء أكان موفدا من قبل قريش أم ذاهبا من تلقاء نفسه ليرى له مخرجا من موقفه إزاء رسول الله لأنه بقي إلى ذلك الوقت ولم يسلم بعد أن انتشر الإسلام في المدينة وما جاورها وقَوِيَ المسلمون وصاروا يهددون مكة فخاف إن هو بقي على حاله ولم يسلم أن يظهر الإسلام في مكة أيضا فيذعن عند ذلك مضطرا، فلما رأى أن النجاشي لم يسلم له بشيء وأنه متمسك بمراعاة حسن جوار من عنده من المهاجرين ومصدق برسالة النبي عاد وهو موطن النفس على أن يذهب توا إلى رسول الله ويسلم عنده وقد تم له ذلك بالفعل فأسلم هو وخالد بن الوليد.

خالد بن الوليد وإسلامه

خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم أبو سليمان، وقيل أبو الوليد القرشي المخزومي أمه لبابة الصغرى وهي بنت الحارث بن حزن الهلالية وهي أخت ميمونة بنت الحارث زوج النبي وأخت لبابة الكبرى زوج العباس بن عبد المطلب عم النبي وهو بن خالة أولاد العباس بن عبد المطلب الذين من لبابة.

وكان أحد أشراف قريش في الجاهلية وكان إليه القبة وأعنة الخيل في الجاهلية، أما القبة فكانوا يضربونها يجمعون فيها ما يجهزون الجيش، وأما الأعنة فإنه كان يكون المقدم على خيول قريش في الحرب فكان رجلا حربيا فارسيا.

ولما أراد الإسلام قدم على رسول الله هو وعمرو بن العاص وطلحة بن أبي طلحة العبدري فلما رآهم رسول الله قال لأصحابه: رمتكم مكة بأفلاذ كبدها.

وقد تقدم أن ذكرنا في أمر الحديبية أن النبي سار حتى انتهى إلى عسفان فلقيه بشر بن أبي سفيان الكعبي وقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعوا بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمر وقد نزلوا بذي طوى يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبدا وهذا خالد بن الوليد في خيل قريش قد قدموه إلى كراع الغميم.

قال خالد بن الوليد: لما أراد الله عز وجل بي ما أراد من الخير قذف في قلبي الإسلام وحضر لي رشدي وقلت: قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد فليس موطن أشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني في غير شيء وأن محمدا يظهر، فلما جاء لعمرة القضية تغيبت ولم أشهد دخوله فكان أخي الوليد بن الوليد دخل معه فطلبني فلم يجدني فكتب إليّ كتابا فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام وعقلك ومثل الإسلام يجهله أحد؟ قد سألني رسول الله عنك فقال: أين خالد؟ فقلت: يأتي الله به، فقال: ما مثله يجهل الإسلام ولو كان يجعل نكايته مع المسلمين على المشركين كان خيرا له ولقدمناه على غيره فاستدرك يا أخي ما قد فاتك من مواطن صالحة».

فلما جاءني كتابه نشطت للخروج وزادني رغبة في الإسلام وسرتني مقالة رسول الله ورأيت في المنام كأني في بلاد ضيقة جدبة فخرجت إلى بلاد خضراء واسعة، فلما أجمعت على الخروج إلى المدينة لقيت صفوان بن أمية فقلت: يا أبا وهب أما ترى أن محمدا ظهر على العرب والعجم فلو قدمنا عليه واتبعناه فإن شرفه شرف لنا؟ فقال: لو لم يكن يبقى غيري ما اتبعته أبدا، فقلت: هذا رجل قُتل أبوه وأخوه ببدر، فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل ما قلت لصفوان فقال مثل الذي قال صفوان، قلت: فاكتم ذكر ما قلت لك، قال: لا أذكره، ثم لقيت عثمان بن طلحة الحجبي قلت: هذا لي صديق فأردت أن أذكر له ثم ذكرت قتل أبيه طلحة وعمه عثمان وإخوته الأربع مسافع والحلاس والحارث وكلاب فإنهم قُتلوا كلهم يوم أُحد فكرهت أن أذكر له ثم قلت له: إنما نحن بمنزلة ثعلب في جحر لو صب فيه ذنوب من ماء لخرج، ثم قلت له ما قلت لصفوان وعكرمة فأسرع الإجابة وواعدني إن سبقني أقام بمحل كذا وإن سبقته إليه انتظرته، فلم يطلع الفجر حتى التقينا فعدونا حتى انتهينا إلى الهدة فوجدنا عمرو بن العاص بها، فقال: مرحبا بالقوم، فقلنا: وبك، قال: أين مسيركم؟ قلنا: الدخول في الإسلام، قال: وذلك الذي أقدمني، وفي لفظ: قال عمرو لخالد: يا أبا سليمان أين تريد؟ قال: والله لقد استقام الميسم وإن هذا الرجل لنبيّ فأذهب فأسلم فحتى متى؟ قال عمرو: وأنا والله ما جئت إلا لأسلم، فاصطحبنا جميعا.

فوصلوا المدينة وقال خالد: فلبست من صالح ثيابي ثم عمدت إلى رسول الله فلقيت أخي فقال: أسرع، فإن رسول الله قد سُرَّ بقدومكم وهو ينتظركم فأسرعنا المشي فاطلعت عليه فما زال رسول الله يبتسم حتى وقفت عليه فسلمت عليه بالنبوة فرد عليّ السلام بوجه طلق فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: «الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلا رجوت أن لا يسلمك إلا إلى خير»، قلت: يا رسول الله ادع الله لي يغفر تلك المواطن التي كنت أشهدها عليك، فقال «الإسلام يجبّ ما كان قبله» وتقدم عثمان وعمرو فأسلما.

وكان عمرو بن العاص أسن منهما.

قال خالد بن الوليد: اعتمر رسول الله فحلق رأسه فابتدر الناس شعره فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة فلم أشهد قتالا وهي معي إلا تبين لي النصر، والأكثر على أنه مات بحمص سنة 21 وعمره بضع وأربعون سنة في خلافة عمر بن الخطاب.

سرية مؤتة لمحاربة الروم جمادى الأولى سنة 8 هـ

سبتمبر سنة 629 م

مؤتة من عمل البلقاء وهي مدينة معروفة بالشام على مرحلتين من بيت المقدس جنوب شرق البحر الميت وكانت في جمادى الأولى سنة ثمان (سبتمبر سنة 629 م).

وقد سمى البخاري هذه السرية غزوة، وإن لم يخرج فيها النبي لكثرة جيش المسلمين فيها.

وسببها: أن النبي كان أرسل الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى أمير بصرى من جهة هرقل وهو الحارث بن أبي شمر الغساني، فلما نزل مؤتة تعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، وهو من أمراء قيصر على الشام فقال: أين تريد لعلك من رسل محمد؟ قال: نعم، فأوثقه وضرب عنقه ولم يقتل لرسول الله رسول غيره.

فلما بلغ رسول الله، اشتد الأمر عليه وجهز جيشا لمقاتلة ملك الروم.

هذا هو السبب الذي ذكره أغلب المؤرخين إلا أن ابن إسحاق لم يذكر سببا لهذه السرية، وهذه أول سرية حارب فيها المسلمون جيشا مسيحيا من أعظم جيوش العالم في ذلك الوقت.

فأمّر رسول الله مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه على ثلاثة آلاف وندب رسول الله الناس وقال: «إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس، فإن أصيب فليرتض المسلمون رجلا من بينهم يجعلونه عليهم أميرا»، - أي قائدا للجيش -.

وكان ممن حضر يهودي اسمه النعمان فقال: يا محمد إن كنت سميت من سمّيت أصيبوا جميعا لأن أنبياء بني إسرائيل كانوا إذا استعملوا الرجل على القوم ثم قالوا: إن أصيب فلان فلو سموا مئة أصيبوا جميعا، ثم جعل يقول لزيد: اعهد - أي أوص - فإنك لا ترجع إلى محمد إن كان نبيا، قال زيد: أشهد أنه رسول صادق بار وعقد لواء أبيض ودفعه إلى زيد، ولم يسبق لزيد تولي القيادة من قبل، وأوصاه أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير وأن يدعوا مَن هناك إلى الإسلام فإن أجابوا وإلا فاستعينوا عليهم بالله وقاتلوهم، فأسرع الناس بالخروج وعسكروا بالجرف.

وصية رسول الله للجيش قبل رحيله إلى مؤتة

قال رسول الله يوصي الجيش: «أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرا، اغزوا باسم الله في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا كبيرا فانيا ولا منعزلا بصومعة ولا تقربوا نخلا ولا تقطعوا شجرا ولا تهدموا بناءً».

هذه وصية عظيمة إلى جيش المسلمين قبل مسيره إلى مؤتة لمحاربة الروم، وهي جديرة بأن تتلى مرارا ويتدبرها رؤساء الجيوش في العالم قاطبة ويعملوا بمقتضاها حرفا حرفا - إن كان لا مناص عن الحرب ولا مفر منها - فإن الحروب الحديثة التي دارت رحاها جاوزت الحدود في البغي والظلم والقسوة والتعدي على السكان الآمنين الذين لا شأن لهم في القتال فهدمت بيوتهم وخربت المدن، فقاسى أهلوها كل شقاء يتصور، ولم يحسب المغيرون القساة حساب الأطفال والنساء والشيوخ ورجال الدين، ودور المرضى والجرحى، كل ذلك في القرن العشرين، زمن المدنية وتقدم العلوم.

ألا فليتدبروا هذه الوصية الجليلة الصادرة عن قلب ملؤه الرحمة والإنسانية، فقد نهى رسول الله جيشه عن الغدر وقتل الأطفال والنساء والشيوخ ورجال الدين المنعزلين في الصوامع، ونهى عن قطع الأشجار وهدم البيوت، حتى بيوت المحاربين فضلا عن المسالمين.

فهذا قانون الإسلام في الحروب وهو قانون إنساني محض وهذه أوامر رسول الله الذي يأتمر المسلمون بأوامره ويتبعون سننه.

ولما فصل الجيش من المدينة سمع العدو بمسيرهم، وقام شرحبيل بن عمرو الغساني فجمع أكثر من مئة ألف من الروم وضم إليهم القبائل القريبة الموالية فلما نزل المسلمون معان من أرض الشام بلغهم أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء فأقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله فنخبره بعدد عدونا؛ فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له فشجع الناسَ عبدُ الله بن رواحة على المضي فقال: «إن التي تكرهون للتى خرجتم لها، إياها تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا كثرة ولا قوة، وإنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فربما فعل، وإن تكن الأخرى فهي الشهادة وليست بشر المنزلتين» فقال الناس: لقد صدق ابن رواحة.

فمضوا إلى مؤتة ووافاهم المشركون تحت إمرة إثيودور أخي هرقل فجاء منهم من لا قبل لأحد به من العدد الكثير الزائد على مئة ألف والسلاح والخيل وآلات الحرب مع من انضم إليهم من قبائل العرب المتنصّرة من بني بكر ولخم وجذام مئة ألف، فقاتل الأمراء الثلاثة يومئذ على أرجلهم فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقاتل المسلمون معه بشجاعة على صفوفهم حتى قتل طعنا بالرماح ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فقاتل به وهو على فرسه فألجمه القتال وأحاط به فنزل عن فرس له شقراء فعقرها وقاتل حتى قتل، وإنما عقرها خوفا أن يأخذها العدو فيقاتل عليها المسلمين ولما أخذ اللواء قاتل قتالا شديدا فقطعت يمينه فأخذ اللواء بيساره فقطعت يساره فاحتضنه وقاتل حتى قتل ووجد فيه بضع وسبعون جرحا ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة وتقدم به وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم نزل عن فرسه وقاتل حتى قتل.

روى سعيد بن منصور أنهم دفنوا يومئذ زيدا وجعفرا وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم في قبر واحد ثم أخذ اللواء ثابت بن أقرم العجلاني البلوي حليف الأنصاري وكان من أهل بدر فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل فاصطلحوا على خالد بن الوليد، وفي الصحيح: حتى أخذ الراية «سيف من سيوف الله»، فقاتلهم خالد بن الوليد قتالا شديدا وكان لم يمض على إسلامه إلا ثلاثة أشهر تقريبا، وقد تفرق المسلمون لما قتل عبد الله بن رواحة وانهزموا حتى لم يُرَ اثنان جميعا فاستطاع خالد بن الوليد بعد أن أخذ اللواء وتولى القيادة أن يجمع شملهم وجعل مقدمته ساقة وميمنته ميسرة فظن العدو أن المدد جاءهم، قال ابن إسحاق: فلما أخذ الراية - خالد - دافع القوم وخاس بهم ثم انحاز وانحيز عنه حتى انصرف، وسمى ابن إسحاق اثني عشر قتيلا من المسلمين في هذه الغزوة ولا نعلم عدد قتلى العدو، وكانت مدة القتال سبعة أيام.

وأخبر النبي أصحابه بما حدث في ساحة القتال قبل رجوع الجيش إلى المدينة ونادى في الناس الصلاة جامعة ثم صعد المنبر وعيناه تذرفان وقال:

«يا أيها الناس باب خير، باب خير، أخبركم عن جيشكم هذا الغازي أنهم انطلقوا فلقوا العدو، فقتل زيد شهيدا فاستغفروا له، ثم أخذ الراية جعفر فشد على القوم حتى قتل شهيدا فاستغفروا له، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة وأثبت قدميه حتى قتل شهيدا فاستغفروا له، ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ولم يكن من الأمراء وهو أمّر نفسه ولكنه سيف من سيوف الله فآب بنصره» فمن يومئذ سُمي خالد: «سيف الله».

قال بعضهم: كون ما وقع يوم مؤتة فتحا ونصرا واضح لإحاطة العدو بهم وتكاثرهم عليهم لأنهم كانوا أكثر من مائتي ألف والصحابة رضي الله عنهم ثلاثة آلاف وكان مقتضى العادة أنهم يُقتلون عن آخرهم.

وفي هذه الغزوة فرت طائفة من الصحابة إلى المدينة لما عاينوا كثرة جموع الروم فصار أهل المدينة يقولون: إنهم «أنتم الفرارون»، ورسول الله يقول: «بل هم الكرارون» ولقي هؤلاء الذين رجعوا إلى المدينة شرا حتى إن الرجل يجيء إلى أهل بيته يدق عليهم بابه فيأبون يفتحون له ويقولون: هلا تقدمت مع أصحابك فقتلت؟ حتى إن نفرا منهم جلسوا في بيوتهم استحياء كلما خرج واحد منهم صاحوا به وصار رسول الله يرسل إليهم رجلا، رجلا.

وأول من جاء بخبر الجيش يعلى بن أمية رضي الله عنه فلما قدم قال له النبي «إن شئت فأخبرني وإن شئت أخبرتك»، قال: فأخبرني يا رسول الله لأزداد يقينا، فأخبره رسول الله الخبر كله ووصف له ما كان فقال: «والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا واحدا وإن أمرهم لكما ذكرت»، لكن مستر «موير» اعتبر تلك الرواية التي ذكر فيها أن النبي أخبر بما حدث في ساحة القتال قبل أن يصله الخبر خرافة، لأن الخبر كان قد وصل رسول الله من أول رسول أرسله خالد بن الوليد إلى المدينة وعلى ذلك فليست هناك معجزة كما يقول المسلمون، لكنه لم يعلق شيئا على معجزة رسول الله التي تنبأ فيها بإصابة زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة قبل أن يذهبوا إلى الحرب وقد أصيبوا جميعا بالترتيب كما ذكر، فكان حقا عليه وهو مؤرخ أن يصرح برأيه في هذه المسألة لا أن يذكرها بلا تعليق ويغض الطرف عنها، والحقيقة أنه لما رأى أن هذه المعجزة واضحة وضوح الشمس في رائعة النهار لم يشأ أن يقرها ويعترف بها.

مواساة رسول الله صلى الله عليه وسلم لآل جعفر

عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها زوج جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، قالت: دخل عليَّ رسول الله يوم أصيب جعفر وأصحابه فقال: «ائتني ببني جعفر» فأتيته بهم فشمهم وذرفت عيناه، وفي رواية: وبكى حتى نقطت لحيته الشريفة فقلت: يا رسول الله بأبي وأمي ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: نعم أصيبوا هذا اليوم، قالت: فقمت أصيح واجتمع عليّ النساء وجعل رسول الله يقول لي: «يا أسماء لا تقولي هُجْرا ولا تضربي خدا»، وقال: «اللهم قدمه إلى أحسن الثواب واخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحدا من عبادك في ذريته».

وخرج رسول الله إلى أهله فقال: «لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاما فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم»، وقيل: إنه دخل على فاطمة وهي تقول: واعماه، فقال: «على مثل جعفر فلتبك البواكي»، ثم قال «اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد شغلوا عن أنفسهم اليوم»، وهذا الطعام الذي جعل لآل جعفر رضي الله عنه هو أصل طعام التعزية وتسميه العرب «الوضيمة».

ولحسان بن ثابت قصيدة في رثاء جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.

إسلام فروة بن عامر الجذامي

كان فروة عاملا للروم على من يليهم من العرب بمعان فأهدى إلى النبي بغلته البيضاء وبعث إليه رسالة بإسلامه مع رسول فلما بلغ الروم ذلك من إسلامه حتى أخذوه فحبسوه عندهم فلما اجتمعت الروم لصلبه على ماء لهم يقال له عفرى بفلسطين قال:

ألا هل أتى سلمى بأن حليلها ** على ماء عفرى فوق إحدى الرواحل

على ناقة لم يضرب الفحل أمها ** مشذَّبة أطرافها بالمناجل

قال ابن إسحاق: زعم الزهري أنهم لما قدموه ليقتلوه قال:

بلغ سراة المسلمين بأنني ** سلم لربي أعظمي وبناني

وقال مسيو برسيفال M.C. de Paceval: إن الصلب وقع بعد غزوة مؤتة عقابا له على ذنبه، والراجح أن ذلك كان بعد فتح مكة سنة تسع وهي سنة الوفود ودخول العرب في دين الله أفواجا.

سرية عمرو بن العاص أو سرية ذات السلاسل جمادى الآخرة 8هـ

أكتوبر سنة 629م

كانت غزوة مؤتة في جمادى الأولى وقد تولى القيادة فيها خالد بن الوليد بعد أن قُتل الأمراء الثلاثة الذين تقدم ذكرهم وكان قد أسلم حديثا مع عمرو بن العاص، فأظهر كفاية حربية أمام جيش الروم العظيم وتمكن من جمع شمل الصحابة بعد أن تفرقوا وعاد فريق منهم إلى المدينة فرجع خالد سالما ولم يتحمل المسلمون إلا خسارة قليلة.

وفي جمادى الآخرة أي بعد شهر (أكتوبر سنة 629 م) جاء دور عمرو بن العاص فأرسله رسول الله إلى بلاد بلي وعذرة في (300) مع سراة المهاجرين والأنصار ومعهم (30) فرسا وسببها أنه بلغه أن جمعا من قضاعة تجمعوا للإغارة على المسلمين وأرادوا أن يدنوا من أطراف المدينة منتهزين فرصة انهزام المسلمين في مؤتة.

وسُميت هذه السرية: (ذات السلاسل) لأن الأعداء ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفروا، وقيل: سُميت بذلك لأن بها ماء يُقال لها السلسل.

عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: بعث إليّ النبي يأمرني أن آخذ ثيابي وسلاحي فقال: «يا عمرو إني أريد أن أبعثك على جيش فيغنمك الله ويسلمك»، قلت: لم أسلم رغبة في المال، قال: «نعم المال الصالح للرجل الصالح»، فعقد له لواء أبيض وجعل معه راية سوداء فسار هو ومن معه وكان يكمن النهار ويسير الليل فلما قرب منهم بلغه أن جموع العدو كثيرة فبعث رافع بن مكيث الجهني إلى رسول الله يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح وعقد له لواء وبعث معه (200) من سراة المهاجرين والأنصار وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وأمره أن يلحق بعمرو وأن يكونا جميعا ولا يختلفا فأراد أبو عبيدة أن يتولى القيادة، فقال عمرو: إنما قدمت عليّ مددا وأنا الأمير، فقال أبو عبيدة: لا ولكن أنا على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه، وكان أبو عبيدة رجلا سهلا هينا عليه أمر الدنيا فقال: يا عمرو إن رسول الله قال لي: لا تختلفا وإنك إن عصيتني أطعتك، فأطاع له أبو عبيدة فكان عمرو يصلي بالناس وسار حتى وصل إلى العدو فحمل عليهم المسلمون فهربوا في البلاد وتفرقوا مذعورين بعد أن اقتتلوا ساعة فهزمهم المسلمون ولم يغنموا شيئا.

أما البلاذري فيقول: إن المسلمين غنموا.

وأرسل عمرو بن العاص رسولا إلى النبي ينبئه بانتصاره في أول غزوة له وأنه عزز نفوذ رسول الله على تخوم الشام ثم عاد إلى المدينة.

وقد حدّثت عمرو بن العاص نفسه بأن رسول الله لم يبعثه على قوم فيهم أبو بكر وعمر إلا لمنزلة عنده، قال عمرو: فأتيته حتى قعدت بين يديه فقلت: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة»، قلت: إني لست أعني النساء إنما أعني الرجال، قال: «أبوها»، قلت: ثم من؟ قال: «ثم عمر بن الخطاب» قعد رجالا فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم وقلت في نفسي: لا أعود أسأله عن هذا.

سرية أبو عبيدة بن الجراح

سمى البخاري هذه السرية بغزوة «سيف البحر» بكسر السين واشتهرت «بسريّة الخبط»، بعث رسول الله في شهر رجب سنة ثمان (نوفمبر سنة 629 م) أبا عبيدة بن الجراح على رأس ثلاثمائة رجل، وكان فيهم عمر بن الخطاب إلى أرض جُهينة ليلقى عيرا لقريش ولمحاربة حيّ من جهينة، فنفد ما كان معهم من الزاد فأكلوا الخبط وهو ورق السلم وأصابهم جوع شديد، قال أهل السير: ثم أخرج الله لهم دابة من البحر تسمى العنبر وهي سمكة كبيرة فأكلوا منها.

وفي شعبان سنة ثمان (ديسمبر سنة 629 م) أرسل رسول الله أبا قتادة رضي الله عنه إلى نجد ومعه خمسة عشر رجلا وأمره أن يشن الغارة على غطفان بأرض محارب فقاتلهم وسبى سبيا كثيرا واستاق النعم. وفي أول شهر رمضان من هذه السنة أرسل رسول الله أبا قتادة أيضا إلى إضم على ثلاثة برد من المدينة في ثمانية رجال ليوهم قريشا أنه توجه إلى تلك الناحية بعد أن نقضت قريش العهد حتى يفاجئهم على غير استعداد منهم لحربه، خرج أبو قتادة ومن معه فلقوا عامر بن الأضبط الأشجعي فسلم عليهم بتحية الإسلام فقتله ملحم بن جثامة - واسمه يزيد بن قيس - لشيء كان بينه وبينه وأخذ بعيره ومتاعه فلما قدموا على رسول الله وأخبروه الخبر نزل فيهم القرآن: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنا} (النساء: 94) الآية.

والاختلاف في المراد بهذه الآية كثير جدا، قيل: نزلت في المقداد، وقيل: في غالب الليثي.

ثم إن أبا قتادة ومن معه لم يلقوا جمعا وبلغهم أنه خرج من المدينة وتوجه إلى مكة فلحقوه بالسقيا فأخبروه الخبر، فسأله محلم أن يستغفر له، فقال: «لا غفر الله لك» زجرا، كيلا يتهاون الناس بقتل النفس المؤمنة، فقام محلم وهو يتلقى دموعه ببرديه فما مضت له سابعة من الليالي حتى مات، وذكر الطبري أن محلم بن جثامة توفي في حياة النبي فدفنوه فلفظته الأرض مرة أخرى فأمر به فأُلقِيَ بين جبلين وجعل عليه حجارة وقال رسول الله «إن الأرض لتقبل من هو أشهر منه ولكن الله أراد أن يريكم آية في قتل المؤمن».

غزوة فتح مكة رمضان سنة 8 هـ

(يناير سنة 630 م)

لما كان صلح الحديبية بين رسول الله وبين قريش كان فيما شرطوا لرسول الله وشرط لهم أن من أحب أن يدخل في عقد رسول الله وعهده فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه، فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم ودخلت خزاعة في عقد رسول الله وعهده.

والسبب في دخول خزاعة في عقد رسول الله أن خزاعة كانت حليفة جده عبد المطلب حين تنازع مع عمه نوفل في ساحات وأفنية من السقاية كانت في يد عبد المطلب فأخذها منه نوفل فاستنهض عبد المطلب قومه فلم ينهض معه منهم أحد وقالوا: لا ندخل بينك وبين عمك، ثم كتب إلى أخواله بني النجار فجاء منهم سبعون وقالوا: ورب هذه البنية لتردن على ابن أختنا ما أخذت منه وإلا ملأنا منك السيف، فرده، ثم حالف نوفل بني أخيه عبد شمس فخالف عبد المطلب خزاعة وكان عليه الصلاة والسلام عارفا بذلك ولقد جاءته خزاعة يوم الحديبية بكتاب جده عبد المطلب فقرأه عليه أُبيّ بن كعب رضي الله عنه فأقرهم النبي

وقد كان بين بني بكر وبين خزاعة حروب وقتلى في الجاهلية وتشاغلوا في ذلك لما ظهر الإسلام.

فلما كانت هدنة الحديبية ووقف القتال بين المسلمين وقريش، اغتنمتها طائفة من بني بكر يُقال لهم «بنو نفاثة» ذلك أن شخصا منهم هجا رسول الله وصار يتغنى بالهجاء، فسمعه غلام من خزاعة أي من القبيلة التي دخلت في عقد رسول الله فثارت ثائرته فضربه وشجّه فثار الشر بين القبيلتين مما كان بينهم من العداوة، فطلب بنو نفاثة من أشراف قريش أن يعينوهم بالرجال والسلاح على خزاعة فأمدوهم، فجاءوا خزاعة ليلا وهم آمنون على ماء لهم يقال له الوتير وقتلوا منهم عشرين أو ثلاثة وعشرين وقاتل معهم جمع من قريش مستخفيا - منهم: صفوان بن أمية، وحويطب بن عبد العزى، وعكرمة بن أبي جهل، وشيبة بن عثمان، وسهيل بن عمرو - وهؤلاء أسلموا جميعا بعد ذلك - وما زالوا بهم حتى أدخلوهم دار بديل بن ورقاء الخزاعي بمكة فلما ناصرت قريش بني بكر على خزاعة ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله من الميثاق، ندموا، وجاء الحارث بن هشام إلى أبي سفيان وأخبره بما فعل القوم، فقال:

«هذا أمر لم أشهده ولم أغب عنه، وإنه لشر والله ليغزونا محمد، ولقد حدثتني هند بنت عتبة - يعني زوجته - أنها رأت رؤيا كرهتها، رأت دما أقبل من الحجون يسيل حتى وقف بالخندمة، فكره القوم ذلك».

وعند ذلك خرج عمرو بن سالم الخزاعي، سيد خزاعة حتى قدم على رسول الله المدينة ودخل المسجد ووقف على رسول الله وهو جالس في المسجد بين الناس وأنشد:

يا رب إني ناشد محمدا ** حلفَ أبينا وأبيه الأتلدا

قد كنتم ولدا وكنا والدَا ** ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصرا أعتدا ** وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا ** إن سيم خَسفا وجهه تربدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا ** إن قريشا أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكدا ** وجعلوا لي في كداء رصدا

وزعموا أن لست أدعو أحدا ** وهم أذل وأقل عددا

هم بيتونا بالوتير هُجدا ** وقتلونا ركعا وسجدا

فقال رسول الله «نصرت يا عمرو بن سالم» ودمعت عيناه، وفي رواية: فقام وهو يجر رداءه ويقول: «لا نصرت إن لم أنصركم بما أنصر به نفسي»، وفي رواية قال: «والذي نفسي بيده لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي وأهل بيتي»، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لقد رأيت رسول الله غضب مما كان من شأن بني كعب غضبا لم أره غضبه منذ زمان ثم قال لعمرو بن سالم وأصحابه بعد أن علم منهم حقيقة ما حدث: ارجعوا وتفرقوا في الأودية، فرجعوا وتفرقوا وكان عددهم نحو أربعين راكبا من خزاعة، وقصد رسول الله بتفرقهم إخفاء مجيئهم.

وخرج بُدَيلُ بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله المدينة فأخبروه بما أصيب منهم وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ثم انصرفوا راجعين إلى مكة ولكن لم يبلغنا ماذا قال وفد بديل وبما أجابهم رسول الله.

قريش تبعث أبا سفيان إلى المدينة

كان رسول الله قال للناس: كأنكم بأبي سفيان قد جاء ليشدد العقد ويزيد في المدة، ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه فلقوا أبا سفيان بعسفان قد بعثته قريش إلى رسول الله ليشدد العقد ويزيد في المدة وقد خافوا مما صنعوا، فلما لقي أبو سفيان بديلا، قال: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى رسول الله، قال: سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي، قال: أوَ ما أتيت محمدا؟ قال: لا، فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان كان جاء المدينة لقد علف بها النوى فعمد إلى مبرك ناقته فأخذ من بعرها ففته فرأى فيه النوى - وهذا من فراسة العرب - فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا، ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان - زوج رسول الله - فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله طوته عنه، فقال: يا بنية والله ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني قالت: بل هو فراش رسول الله وأنت مشرك نجس فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله، قال: والله لقد أصابك بعدي شر، فقالت: «بل هداني الله تعالى للإسلام وأنت تعبد حجرا لا يسمع ولا يبصر، واعجبا منك يا أبت وأنت سيد قريش وكبيرها»، فقال: «أنا أترك ما كان يعبد آبائي وأتبع دين محمد؟»، ثم خرج حتى أتى رسول الله فكلمه في تجديد العقد وزيادة مدة الهدنة فلم يرد عليه شيئا، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله فقال: «ما أنا بفاعل» ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله؟ فوالله لو لم آخذ إلا الذر لجاهدتكم، ثم خرج فدخل على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وعنده فاطمة ابنة رسول الله وعندها الحسن بن عليّ غلام يدب بين يديها فقال: يا عليّ إنك أمسّ القوم بي رحما وأقربهم مني قرابة، وقد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا، اشفع لنا إلى رسول الله، قال: ويحك يا أبا سفيان والله لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، فالتفت إلى فاطمة فقال: يا ابنة محمد هل لك أن تأمري بُنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما بلغ بنيَّ ذلك أن يجير بين الناس وما يجير على رسول الله أحد، قال: أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت عليَّ فانصحني فقال له: والله ما أعلم شيئا يغني عنك ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك، قال: أوَ ترى ذلك مغنيا عني شيئا؟» قال: لا والله ما أظن ولكن لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: «أيها الناس إني قد أجرت بين الناس» ثم ركب بعيره وانطلق.

نقول: أراد أبو سفيان من ذهابه إلى المدينة أن يشدد العقد ويزيد في المدة ولكن النبي أعرض عنه، ولم يجبه بشيء ووجد من أبي بكر وعمر وعليّ وفاطمة رضي الله عنهم كل إعراض ولم يعده أحد منهم بشيء حتى يئس ورجع بخفي حنين لكنه على كل حال كان يعلم أن رسول الله قد عزم على أمر بإزاء ما كان من تعدي بني بكر ومساعدة نفر من قريش لهم في هذا التعدي لأن ذلك نقض للعهد.

أما ما تخيله بعض المستشرقين من أن أبا سفيان اتفق مع رسول الله على أنه إذا دخل مكة اجتنب سفك الدماء وأن أبا سفيان يقوم من جانبه بمنع أهل مكة من المقاومة فهذا لا أساس له، وليس في السير شيء يدل على هذا الاتفاق.

وقد قالوا أيضا: إن رسول الله كان ينتظر أي فرصة تسنح لفتح مكة فلما وقع الاعتداء على خزاعة تظاهر بالغضب، ووعد بأخذ الثأر والانتصار لهم، والحقيقة أن اعتداء بني بكر نقض صريح للعهد، وكيف لا يغضب وقد قُتل من خزاعة وهم حلفاؤه أكثر من عشرين نفرا وقد لجأوا إليه وناشدوه أن يدفع عنهم هذا الاعتداء.

والدليل على أن أبا سفيان عاد من غير أن يحظى بأي اتفاق لما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمدا فكلمته فوالله ما رد علَيَّ شيئا، ثم جئت ابن أبي قحافة - أبا بكر - فلم أجد عنده خيرا، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أعدى القوم، ثم جئت عليّ بن أبي طالب فوجدته أليَن القوم وقد أشار علَيَّ بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغنيني شيئا أم لا؟ قالوا: وبماذا أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا، قالوا: ويلك والله إن زاد على أن لعب بك فما يغني عنا ما قلت، قال: لا والله ما وجدت غير ذلك.

غير أن قريشا لما طالت غيبة أبي سفيان اتهمته أشد التهمة وقالوا: قد صبأ واتبع محمدا سرا وكتم إسلامه.

ولكنه لم يصبأ ولم يتبع رسول الله إنما طالت غيبته بسبب أنه أكثر من الالتجاء والتحدث إلى أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار ليشفعوا له إلى رسول الله فلما طال انتظاره وأيس منهم عاد إلى مكة من غير أن ينال طائلا.

استعداد رسول الله صلى الله عليه وسلم للزحف على مكة

أخذ رسول الله يستعد سرا للزحف على مكة، وكان يقول: «اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة ولا يسمعون بنا إلا فلتة»، وقال لعائشة رضي الله عنها: «جهزينا وأخفي أمرك»، فجهزت قمحا وسويقا ودقيقا وذلك قبل أن يستشير أحدا، ثم أخبر أبا بكر أنه يريد قريشا وقال له: «أخف ذلك يا أبا بكر»، وأمر الناس بالجهاز وطوى عنهم الوجه الذي يريده وأرسل إلى أهل البادية ومن حوله من المسلمين في كل ناحية يقول لهم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة»، وذلك بعد أن تشاور مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في السير إلى مكة، فذكر له أبو بكر ما يشير به إلى عدم السير حيث قال له: «هم قومك» وحضّه عمر حيث قال: «نعم، هم رأس الكفر، زعموا أنك ساحر وأنك كذاب» وذكر له كل سوء كانوا يقولونه: «أيم الله لا تذل العرب حتى تذل أهل مكة» فعندئذ ذكر رسول الله، أن أبا بكر كإبراهيم وكان في الله ألين من اللين، وأن عمر كنوح وكان في الله أشد من الحجر، وأن الأمر أمر عمر، وأمر بالأنقاب، وأوقف بكل طريق جماعة ليعرف من يمر بها وقال لهم: لا تدعوا أحدا يمر بكم تنكرونه إلا رددتموه.

كتاب حاطب إلى مكة

ولما علم الناس بمسير رسول الله إلى قريش، كتب حاطب بن أبي بلتعة البدري، حليف بني أسد كتابا إلى مكة يخبرهم بمسير النبي وأرسله مع امرأة استأجرها بعشرة دنانير وكساها بردا وقال لها: أخفيه ما استطعت ولا تمري على الطريق فإن عليه حراسا، فجعلت الكتاب في ضفائر رأسها خوفا من أن يطلع عليها أحد ثم خرجت به وسلكت غير الطريق، وأتى رسول الله الخبر من السماء بما صنع حاطب فبعث عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوام فقال: «أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى قريش يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم فخذوه منها وخلوا سبيلها» - وقد كان حاطب رسول رسول الله إلى المقوقس سنة ست -.

فخرجا حتى أدركا هذه المرأة بالحليفة، حليفة بني أبي أحمد فاستنزلاها فالتمسا في رحلها الكتاب فلم يجدا شيئا فقال لها عليّ بن أبي طالب: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله ولا كذبنا ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك، فلما رأت الجدّ منه قالت: أعرض، فعرض فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليه فأتى به رسول الله فدعا رسول الله حاطبا فقال: «يا حاطب ما حملك على هذا؟» فقال: يا رسول الله أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما غيّرت وما بدّلت ولكني كنت امرأً ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني أضرب عنقه فإن الرجل قد نافق - أي خالف الأمر -، فقال رسول الله «إنه شهد بدرا وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أصحاب بدر يوم بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»، فأنزل الله عز وجل في حاطب: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآء تُلْقُونَ} إلى قوله: {وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} (الممتحنة: 1 - 4) إلى آخر القصة.

وقد جاء في كتابه ما يأتي:

«من حاطب بن أبي بلتعة إلى سهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، أما بعد يا معشر قريش فإن رسول الله جاءكم بجيش يسير كالسيل فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده فانظروا لأنفسكم، والسلام».

وفي رواية: أن لفظ الكتاب:

«إن رسول الله أذن في الناس بالغزو ولا أراه يريد غيركم وقد أحببت أن تكون لي عندكم يد».

وعلى كل حال فإن في إرسال هذا الكتاب لقريش إفشاء لسرّ أمر رسول الله بكتمه ولولا أن حاطبا كان من المجاهدين في غزوة بدر لعاقبه رسول الله ألا ترى أن عمر كان يريد ضرب عنقه، وقيل: إن عمر رضي الله عنه قال: قاتلك الله ترى رسول الله يأخذ بالأنقاب وتكتب إلى قريش.

ثم مضى رسول الله لسفره واستخلف على المدينة أبا رُهْم كلثوم بن حصين بن خلف الغفاري، وقيل: استخلف ابن أم مكتوم وبه جزم الحافظ الدمياطي.

وخرج لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان - أول يناير سنة 630 م - فصام رسول الله وصام الناس معه حتى إذا كان بالكَدِيدِ ما بين - عُسفان وأمج - أفطر رسول الله ثم مضى حتى نزل مرّ الظهران في عشرة آلاف من المسلمين، وكان قد بعث إلى من حوله من العرب وطلب حضورهم وهم: أسلم، وغفار، وأشجع وسليم وبعث رسلا في كل ناحية، وقيل: إن العشرة آلاف خرج بهم من نفس المدينة، ثم تلاحق به ألفان فيكون المجموع 12000، ولم يتخلف عنه أحد من المهاجرين والأنصار.

وذكرت السيرة الحلبية أن عدد الجيش كان كما يأتي:

700 مهاجر ومعهم 300 فرس.

4000 من الأنصار ومعهم 500 فرس.

1000 من مزينة ومعها 100 فرس.

400 من أسلم ومعها 30 فرسا.

800 من جهينة ومعها 50 فرسا. ================__ 6900 980

لكن هذا العدد أقل من المشهور بكثير بل هو أقل ممن خرج من المدينة وحدها.

وكان معه من زوجاته أم سلمة وميمونة رضي الله عنهما، وكان خروجه بعد العصر، ولم يزل رسول الله مفطرا رفقا بالمسلمين حتى انسلخ الشهر لأنه وإن قدم مكة قبل تمام الشهر لكنه كان في أهبة القتال، وقد عُمِّيَت الأخبار عن قريش فلا يأتيهم خبر عن رسول الله ولا يدرون ما هو فاعل، وخرج في تلك الليلة أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء الخزاعي، يتجسسون الخبر عن رسول الله فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران، قال العباس - وكان قد خرج من مكة -: سمعت أبا سفيان وهو يقول: «والله ما رأيت كاليوم قط نيرانا»، فقال بديل: هذه والله نيران خزاعة حمشتها الحرب، فقال أبو سفيان: خزاعة ألأم من ذلك وأذل، قال العباس فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة - يعني أبا سفيان -، فقال: أبو الفضل؟ - العباس -، فقلت: نعم، فقال: لبيك فداك أبي وأمي فما وراءك؟ فقلت: هذا رسول الله ورائي قد دلف إليكم بما لا قبل لكم به، بعشرة آلاف من المسلمين، قال: فما تأمرني؟ فقلت: تركب عجز هذه البغلة فاستأمن لك رسول الله فوالله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فردفني فخرجت به أركض بغلة رسول الله نحو رسول الله فكلما مررت بنار من نيران المسلمين ونظروا إليَّ قالوا عم رسول الله على بغلة رسول الله حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، فقال لأبي سفيان: الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ثم اشتد نحو النبي وركضت البغلة وقد أردفت أبا سفيان حتى اقتحمت على باب القبة وسبقت عمر بما تسبق به الدابة البطيئة الرجل البطيء فدخل عمر على رسول الله فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد، فدعني أضرب عنقه، فقلت: يا رسول الله إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله فأخذت برأسه فقلت: والله لا يناجيه اليوم أحد دوني فلما أكثر فيه عمر قلت: مهلا يا عمر فوالله ما تصنع هذا إلا أنه رجل من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، فقال: مهلا يا عباس فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم وذلك لأني أعلم أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال رسول الله «اذهب فقد أمناه حتى تغدو به عليّ بالغداة» فرجع به إلى منزله، فلما أصبح غدا به على رسول الله فلما رآه قال: «ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟» فقال: بأبي أنت وأمي، ما أوصلك وأحلمك وأكرمك والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئا، فقال: «ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟» فقال: بأبي أنت وأمي ما أوصلك وما أحلمك وما أكرمك أما هذه ففي النفس منها شيء، فقال العباس: فقلت له: ويلك تشهد شهادة الحق قبل والله أن تضرب عنقك، قال: فتشهد، فقال رسول الله للعباس حين تشهَّد أبو سفيان: «انصرف يا عباس فاحبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى تمر عليه جنود الله»، فقلت له: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل منه شيئا يكون في قومه، فقال: نعم «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن»، فخرجتُ حتى حبسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي فمرت عليه القبائل فيقول: من هؤلاء يا عباس؟ فأقول: سُلَيْم، فيقول: ما لي ولسليم، فتمر به قبيلة فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: أسلم، فيقول: ما لي ولأسلم، وتمر جهينة فيقول: ما لي ولجهينة حتى مرّ رسول الله في كتيبته الخضراء وفيها المهاجرون والأنصار في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق فقال: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ فقلت: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار، فقال: يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما فقلت: ويحك إنها النبوة،

فقال: نعم إذن، فقلت: الحق الآن بقومك فحذرهم، فخرج سريعا حتى أتى مكة فصرخ في المسجد: - يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به - قالوا فمه، فقال: - من دخل داري فهو آمن -، قالوا: ويحك ما تغني عنا دارك، فقال: - ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن -، كذا في رواية ابن إسحاق، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد وذكر موسى بن عقبة وغيره أن العباس قال: قلت: يا رسول الله أبو سفيان وحكيم وبديل قد أجرتهم وهم يدخلون عليك، قال: «أدخلهم»، فدخلوا عليه، فمكثوا عنده عامة الليل يستخبرهم فدعاهم إلى الإسلام، وأن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، فشهد بديل وحكيم، وقال أبو سفيان: ما أعلم ذلك والله إن في النفس من هذا شيئا فأرجئها، وفي رواية: قال له «يا أبا سفيان أسلم تسلم»، قال: كيف أصنع باللات والعزى؟ فقال له عمر: إخرأ عليهما، وكان عمر رضي الله عنه خارج القبة ثم قال عمر: أما والله لو كنت خارج القبة ما قلتها، فقال أبو سفيان: ويحك يا عمر إنك رجل فاحش، دعني مع ابن عمي فإياه أكلم.، الخ.

وكان ممن لقيه في الطريق أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن عمه وأخوه من الرضاع من حليمة السعدية، وكان مع أبي سفيان ولده جعفر وعبد الله بن أبي أمية المخزومي ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب هو أخو أم سلمة زوج النبي لأبيها لأن أمها عاتكة بنت عامر بن قيس.

يقال: إن الذين كانوا يشبهون النبي جعفر بن أبي طالب، والحسن بن عليّ، وقثم بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث.

وكان أبو سفيان بن الحارث من الشعراء المطبوعين وكان سبق له هجاء رسول الله وإيّاه عارض حسان بن ثابت بقوله:

ألا أبلغ أبا سفيان عني ** مغلغلة فقد برح برح الخفاء

هجوت محمدا فأجبت عنه ** وعند الله في ذاك الجزاء

وكان لقاء أبي سفيان ومن معه النبي بنيق العقاب فيما بين مكة والمدينة، فالتمسا الدخول على رسول الله فكلمته أم سلمة فيهما فقالت: يا رسول الله ابن عمك وابن عمتك وصهرك، قال: «لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال بمكة ما قال» - يعني قوله له: والله لا آمنت بك حتى تتخذ سلما إلى السماء فتعرج فيه وأنا أنظر ثم تأتي بصك وأربعة من الملائكة يشهدون أن الله أرسلك -.

فلما خرج الخبر إليهما بذلك ومع أبي سفيان بُنيّ له فقال: والله ليأذنن لي أو لآخذن بيد بُنيّ هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشا وجوعا، فلما بلغ ذلك رسول الله رقّ لهما ثم أذن لهما فأسلما وأنشد أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره مما كان مضى منه:

لعمرك إني يوم أحمل راية ** لتغلب خيلُ اللات خيل محمد

لكالمدلج الحيران أظلم ليله ** فهذا أواني حين أهدى وأهتدي

وهاد هداني غير نفسي ودلني ** على الله من طَرّدت كل مطرّد

أصدُّ وأنأى جاهدا عن محمد ** وأُدعى ولو لم أنتسب من محمد

هم ما هم من لم يقل بهواهم ** وإن كان ذا رأي يُلمْ ويفنّد

أريد لأرضيهم ولست بلائط ** مع القوم ما لم أهد في كل مقعد

فقل لثقيف لا أريد قتالها ** وقل لثقيف تلك عيري أوْ عدي

وما كنت في الجيش الذي نال عامرا ** وما كان عن جري لساني ولا يدي

قبائل جاءت من بلاد بعيدة ** نزائع جاءت من سهام وسُرْدد

قال ابن إسحاق: فزعموا أنه حين أنشد رسول الله قوله ودلني على الله من طردت كل مطرد، ضرب رسول الله في صدره وقال: «أنت طردتني كل مرطد»، وقال عليٌّ رضي الله عنه لأبي سفيان بن الحارث عند إذنه له في الدخول عليه: ائت من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَطِئِينَ} فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا، ففعل ذلك أبو سفيان فقال له {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ} (يوسف: 92).

رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه بالإفطار في رمضان

صام رسول الله في سفره، إذ كان الشهر رمضان وصام الناس حتى إذا كانوا بالكديد - محل بين عسفان وقديد - أفطر ونادى منادي رسول الله: من أحب أن يصوم فليصم ومن أحب أن يفطر فليفطر، وفي بعض الأيام صب رسول الله على رأسه الماء ووجهه من شدة العطش وهو صائم، وفي رواية: أنه لما بلغ الكديد بلغه أن الناس شق عليهم الصيام وأنهم ينظرون فيما فعل أي من صومه، فاستوى على راحلته بعد العصر ودعا بإناء فيه ماء، وقيل: لبن، فشرب ثم ناوله لرجل بجنبه فشرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس صام، فقال: «أولئك هم العصاة لأنهم خالفوه أمره لهم بالفطر ليقووا على مقاتلة العدو»، ولأنه قال للصحابة لما دنوا من عدوهم، «إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم»، فلم يزل رسول الله يفطر حتى انتهى شهر رمضان.

عقد الألوية والرايات

عقد رسول الله الألوية والرايات بقديد ودفعها للقبائل كما يأتي:

أعطى لبني سليم لواء وراية، ولبني غفار راية، ولأسلم لواءين، ولبني كعب راية، ولمزينة ثلاثة ألوية، ولجهينة أربعة ألوية، ولجماعة أسلموا من بكر لواء، ولأشجع لواءين.

نيران جيش المسلمين

لما نزل مرّ الظهران أمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار لتراها قريش أو تسمع بها فترغب عن كثرتها وجعل على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

قال الواقدي: خرج رسول الله إلى مكة فقائل يقول يريد قريشا، وقائل يقول يريد هوازن، وقائل يقول يريد ثقيفا.

ثم دعا رسول الله أن تعمي عليهم الأخبار واستجاب الله لرسوله فأخذ العيون والأخبار عن أهل مكة ولم يبلغهم مسيره وهم مغتمون محزونون خائفون.

وقد كان زحف الجيش سريعا جدا فإنه وصل إلى مرّ الظهران وهي على مرحلة من مكة في اليوم السابع أو الثامن.

ولما رأى أبو سفيان بن حرب كثرة النيران قال: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا.

وأمر رسول الله كل قبيلة أن تكون عند راية صاحبها وتظهر ما معها من القوّة والعدة فأصبح الناس على ظهر، وقدم بين يديه الكتائب ومرت القبائل على قادتها والكتائب على راياتها فجعلت القبائل كتيبة كتيبة، - وفي أثناء مرور الجيش كان أبو سفيان واقفا ينظر إليهم - فأول من قدم خالد بن الوليد رضي الله عنه في بني سليم ثم مر على أثره الزبير بن العوام ثم مرت كتيبة بني غفار وكان يحمل رايتهم أبو ذر وهكذا إلى أن مر الجيش بأسره كما تقدم غير أنه لما حاذى سعد بن عبادة أبا سفيان قال: «يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة»، فقال أبو سفيان: يا عباس حبذا يوم الذمار، وسمع مقالة سعد بن عبادة أحد الصحابة فقال: يا رسول الله ما نأمن أن تكون لسعد صولة في قريش، فقال لعلي رضي الله عنه أدركه فخذ الراية منه ثم أمره أن يسلمها لابنه قيس بن سعد بن عبادة لأنه خشي تغير خاطر سعد فأمر بدفعها لابنه.

وأمر رسول الله أن تركز رايته بالحجون، قال الحلبي في «السيرة»: - وفي ذلك المحل بُنيَ مسجد يقال له مسجد الراية - ودخل من الثنية العليا وأمر خالد بن الوليد ومن معه أن يدخلوا من الثنية السفلى.

روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته القصواء مردفا أسامة بن زيد رضي الله عنهما خلفه ودخل واضعا رأسه الشريف على راحلته تواضعا لله تعالى حين رأى ذلك الفتح العظيم وكثرة المسلمين وهو يقول: «اللهم إن العيش عيش الآخرة» وكان دخوله يوم الاثنين وكان معتجرا بشقة برد حبرة حمراء.

وكان لواؤه يوم دخل مكة أبيض ورايته سوداء تسمى العقاب وكانت من برد لعائشة رضي الله عنها وهي التي كانت بخيبر واغتسل لدخول مكة.

وقد أمر رسول الله رؤساء الجيش أن يكفوا أيديهم وقال: «لا تقاتلوا إلا من قاتلكم»، فاندفع خالد بن الوليد رضي الله عنه حتى دخل من أسفل مكة وقد تجمع بها ناس من بني بكر وبني الحارث بن عبد مناف وناس من هذيل الذين استنصرت بهم قريش، فقاتلوا خالدا ومنعوه الدخول وشهروا السلاح ورموه بالنبل وقالوا: لا تدخلوا عنوة، فصاح خالد في أصحابه فقاتلهم فانهزموا شر انهزام وقتل من بني بكر نحو 24 رجلا، ومن هذيل أربعة حتى انتهى بهم القتال إلى الحَزورة وكانت سوقا بمكة ثم دخلوا الدور وارتفعت طائفة منهم على الجبال هربا وتبعهم المسلمون فصاح حكيم بن حزام وأبو سفيان: «يا معشر قريش علام تقتلون أنفسكم؟ من دخل داري فهو آمن ومن وضع السلاح فهو آمن»، فجعلوا يقتحمون الدور ويغلقون أبوابها ويطرحون السلاح في الطرق فيأخذه المسلمون، وقتل من المسلمين رجلان أخطآ الطريق أحدهما كرز بن جابر الفهري والآخر خالد الأشقر الخزاعي، قال موسى بن عقبة: قال رسول الله بعد أن اطمأن لخالد رضي الله عنه: «قاتلت وقد نهيتك عن القتال»، فقال: هم بدأونا بالقتال ورمونا بالنبال وقد كففت يدي ما استطعت، فقال قضاء الله خير.

وكان دخوله لعشر بقين من رمضان (يناير سنة 630 م) ومعه زوجتاه أم سلمة وميمونة رضي الله عنهما، وأم سلمة هي بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي واسمها هند، وأما ميمونة فهي بنت الحارث وهي خالة خالد بن الوليد.

المحكوم عليهم بالقتل

وقد استثنى رسول الله أناسا من الدخول في الأمان وأمر بقتلهم وهم خمسة عشر ما بين رجل وامرأة وهذه أسماؤهم:

1 - عبد الله بن سرح بن الحارث العامري - أخو عثمان بن عفان من الرضاعة -.

2 - عبد الله بن خطل.

3 - عكرمة بن أبي جهل.

4 - الحويرث بن نُقيد.

5 - مِقْيس بن صبابة.

6 - هبار بن الأسود بن المطلب.

7 - كعب بن زهير بن أبي سلمى المزني.

8 - الحارث بن هشام المخزومي وهو أخو أبي جهل لأبويه.

9 - زهير بن أمية المخزومي أخو أم سلمة.

10 - صفوان بن أمية بن خلف الجمحي.

11 - وحشي بن حرب قاتل حمزة.

هؤلاء هم الرجال، وأما النساء فهن:

12، 13 - قينتان كانت عند عبد الله بن خطل تغنيان بهجاء النبي والمسلمين.

14 - سارة مولاة لبني المطلب بن عبد مناف.

15 - هند بنت عتبة زوج أبي سفيان أم معاوية.

وأكثر هؤلاء أسلموا، وفيما يلي نذكر سبب إهدار دمهم:

1 - أما عبد الله بن أبي سرح فإنه كان أسلم ثم ارتد ولحق بمكة وصار يتكلم بكلام قبيح في حق النبي فأهدر دمه يوم الفتح، فلما علم بإهدار دمه لجأ إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه وكان أخا له في الرضاع فقال: يا أخي استأمن لي رسول الله قبل أن يضرب عنقي، فغيبه عثمان رضي الله عنه حتى هدأ الناس واطمأنوا ثم أتى به إلى رسول الله وصار يقول عثمان: يا رسول الله أمّنته فبايعته والنبي يعرض عنه مرارا ثم قال نعم فبسط يده فبايعه وأسلم وحسن إسلامه.

وفي «السيرة الحلبية»: وإنما أمر بقتل ابن أبي سرح لأنه كان أسلم قبل الفتح وكان يكتب لرسول الله الوحي، وكان إذا أملى عليه سميعا بصيرا كتب عليما حكيما، وإذا أملى عليه، عليما حكيما كتب غفورا رحيما، وكان يفعل هذه الخيانات حتى صدر عنه أنه قال: إن محمدا لا يعلم ما يقول، فلما ظهرت خيانته لم يستطع أن يقيم بالمدينة فارتد وهرب إلى مكة، وقيل: إنه لما كتب: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَنَ مِن سُلَلَةٍ مّن طِينٍ} (المؤمنون: 1)، إلى قوله: {ثُمَّ أَنشَأْنَهُ خَلْقا ءاخَرَ} (المؤمنون: 14)، تعجب من تفصيل خلق الإنسان فنطق بقوله فتبارك الله أحسن الخالقين قبل إملائه، فقال رسول الله اكتب ذلك، هكذا أنزلت، فقال عبد الله: إن كان محمد نبيا يوحى إليه، فأنا نبي يوحى إليّ، فارتد ولحق بمكة، فقال لقريش: إني كنت أصرّف محمدا كيف شئت، كان يملي عليّ «عزيز حكيم» فأقول أو عليم حكيم، فيقول: نعم كل صواب، وكل ما أقوله يقول، اكتب هكذا نزلت.، الخ.

وأخطأ الأستاذ درمنجم في كتاب «حياة محمد» فقال: إن اسمه عبد الله بن سعد والصواب ما ذكرنا.

2 - عبد الله بن خطل: فإنه كان ممن قدم المدينة قبل الفتح وأسلم وكان اسمه «عبد العزى» فسماه النبي عبد الله، وبعثه لأخذ الصدقة وأرسل معه طعاما ونام ثم استيقظ فلم يجده صنع له شيئا وهو نائم فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا وكان شاعرا فجعل يهجو النبي في شعره وكان له قينتان تغنيانه بهجاء رسول الله فلما كان يوم فتح مكة ركب فرسه ولبس درعه وأخذ بيده قناة وصار يقسم لا يدخلها محمد عنوة، فلما رأى خيل المسلمين خاف وذهب إلى الكعبة وألقى سلاحه وتعلق بأستارها فوجده رسول الله عند طوافه وهو بهذه الحال فقال: اقتلوه فإن الكعبة لا تعيذ عاصيا ولا تمنع من إقامة حد واجب، فقتل واختلف فيمن قتله، فأما القينتان واسمهما فرتنا وقريبة فقتلت قريبة واستؤمن رسول الله لفرتنا فأمنها فأسلمت وعاشت إلى خلافة عثمان.

3 - عكرمة بن أبي جهل: أمر رسول الله بقتله لأنه كان من أشد الناس على رسول الله وكان أشد الناس على المسلمين ولما بلغه أن النبي أهدر دمه هرب ليلقي نفسه في بئر أو يموت تائها في البلاد أو كما نقول الآن: هرب لينتحر غرقا أو جوعا، وكانت امرأته أم حكيم رضي الله عنها بنت عمة الحارث بن هشام رضي الله عنه أسلمت قبله فاستأمنت له رسول الله فأمنه فقال هو آمن فخرجت في طلبه فأدركته فرجع معه وأسلم أمام رسول الله وكان بعد ذلك من فضلاء الصحابة وخالد بن الوليد ابن عمه وقُتل عكرمة في اليرموك.

4 - الحويرث بن نُقَيد: أهدر دمه رسول الله لأنه كان يعظم القول فيه وينشد الهجاء فيه ويكثر أذاه وهو بمكة وكان قد شارك هبار بن الأسود في نخس جمل زينب بنت رسول الله لما هاجرت من مكة، فقتله عليّ رضي الله عنه.

5 - مِقْيس بن صبابة: كان قد أسلم ثم أتى على أنصاري فقتله وكان الأنصاري قتل أخاه هشام بن صبابة خطأ في غزوة - ذي قرد - ظنه من العدو فجاء مقيس فأخذ الدية ثم قتل الأنصاري ثم ارتد ورجع إلى قريش فأهدر رسول الله دمه فقتله نميلة بن عبد الله الليثي، رجل من قومه.

6 - هبار بن الأسود، كان شديد الأذى للمسلمين، وكان عرض لزينب رضي الله عنها بنت رسول الله حين هاجرت فنخس بها الجمل حين سقطت على صخرة وأسقطت جنينها ولم تزل مريضة حتى ماتت واشترك معه في النخس الحويرث بن نقيد الذي مرّ ذكره، وأهدر دم هبار بن الأسود يوم الفتح فهرب واختفى ثم جاء النبي واعترف بذنبه وأسلم فعفا عنه ومنع المسلمين من سبه مع أنه كان سببا في وفاة ابنته.

7 - كعب بن زهير: كان شاعرا وكان يهجو النبي بشعره، وكان يعير أخاه بجيرا لإسلامه فأهدر دمه فلما بلغه أنه أمر بقتله خاف وخرج حتى قدم المدينة بعد رجوع النبي من فتح مكة وأسلم أمامه وأنشد قصيدته المعروفة التي أولها:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

وقال فيها:

إن الرسول لنور يستضاء به ** مهند من سيوف الله مسلول

فلما وصل إلى هذا البيت رمى عليه الصلاة والسلام إليه بردة كانت عليه وإن معاوية رضي الله عنه في زمن خلافته بذل له فيها عشرة آلاف درهم فقال: ما كنت لأؤثر بثوب رسول الله الذي أعطانيه أحدا، فلما مات بعث معاوية إلى ورثته بعشرين ألفا فأخذها منهم وهي البردة التي كانت عند السلاطين، وكان الخلفاء يلبسونها في الأعياد، وقيل: إنها فقدت في وقعة التتار.

وقد كان كعب بن زهير من فحول الشعراء، وكذا أبوه زهير وأخوه بجير وابنه عقبة بن كعب وابن ابنه العوام بن عقبة.

8 - الحارث بن هشام: كان شديدا على النبي وعلى المسلمين وابنه عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.

9 - زهير بن أمية: كان أيضا شديدا في كفره، كالحارث بن هاشم فأهدر رسول الله دمهما يوم الفتح فهربا واختبآ في بيت أم هانىء بنت أبي طالب أخت عليّ رضي الله عنه فأجارتهما فأجاز جوارها ثم جاءت بهما فأسلما وحسن إسلامهما.

10 - صفوان بن أمية: كان من أشد الناس عداوة وأذية لرسول الله والمسلمين، فأهدر رسول الله دمه فاختفى وأراد أن يلقي نفسه في البحر، فجاء ابن عمه عمير بن وهب الجمحي رضي الله عنه وقال: يا نبي الله إن صفوان سيد قومه وقد هرب ليقذف نفسه في البحر فأمنه فإنك أمَّنت الأحمر والأسود، فقال رسول الله: «أدرك ابن عمك فهو آمن»، فقال: أعطني آية يُعرف بها أمانك فإني قد طلبت منه العود فقال لا أعود معك إلا أن تأتيني بعلامة أعرفها فأعطاه عمامته التي دخل بها مكة فلحقه بها وهو يريد أن يركب البحر فقال له صفوان: اغرب عني لا تكلمني، فقال: أي صفوان فداك أبي وأمي جئتك من عند أفضل الناس وأبرّ الناس وأحلم الناس وخير الناس وهو ابن عمك عزه عزك وشرفه شرفك وملكه ملكك، قال: إني أخافه على نفسي، قال: هو أحلم من ذلك وأكرم وأراه العمامة التي جاء بها فرجع معه حتى وقف على رسول الله فقال: إن هذا يزعم أنك أمنتني، قال: «صدق»، فقال: أمهلني بالخيار شهرين، فقال «أنت بالخيار أربعة أشهر»، ولما أراد الخروج إلى حرب هوازن استقرض منه أربعين ألف درهم، وطلب منه دروعا كانت عنده، فقال: أغصبا يا محمد؟ قال: «لا ولكن عارية مرجوحة أو مضمونة»، ثم خرج مع النبي حين خرج لحرب هوازن وهو على شركه فلما قسم رسول الله غنائم هوازن بحنين أعطاه مائة من الإبل ثم مائة ثم مائة ثم رآه يرمق شعبا مملوءا نعما وشاء، فقال له «يعجبك هذا؟» قال: نعم، قال: «هو لك وما فيه»، فقبض صفوان ما في الشعب وقال: إن الملوك لا تطيب نفوسها بمثل هذا، ما طابت نفس أحد قط بمثل هذا إلا نبي، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فأسلم وحسن إسلامه، وترك المدة التي كان طلبها.

11 - وحشي بن حرب: أهدر رسول الله دمه لأنه قتل حمزة رضي الله عنه يوم أُحد، وكانت الصحابة أحرص شيء على قتله، فلما فتحت مكة هرب إلى الطائف ولما خرج وفد الطائف ليسلموا ضاقت عليه المذاهب فخرج حتى قدم على رسول الله وشهد شهادة الحق ثم خرج وحشي مع مَن خرج لقتال أهل الردة في خلافة أبي بكر فقتل مسيلمة الكذاب بحربته التي قتل بها حمزة رضي الله عنه فكان يقول أرجو أن تكون هذه بتلك أي أن هذه تكفر تلك.

12، 13 - أما القينتان فقد تقدم ذكرهما.

14 - وأما سارة مولاة بني المطلب فقد أهدر رسول الله دمها لأنها كانت مغنية بمكة تغني بهجاء النبي وقيل: هي التي كان معها كتاب حاطب بن أبي بلتعة وكانت قدمت المدينة تشكو الحاجة وتطلب الصلة فقال لها رسول الله «ما كان في غنائك ما يغنيك؟» فقالت: إن قريشا قد قُتل من قُتل منهم ببدر تركوا الغناء فوصلها وأوقر لها بعيرا طعاما فرجعت إلى مكة وكان ابن خطل يلقي إليها هجاء رسول الله فتغنّي به فاختفت عند فتح مكة ثم استؤمن لها رسول الله فجاءته وأسلمت وحسن إسلامها، وعاشت إلى خلافة أبي بكر.

15 - هند بنت عتبة بن ربيعة زوج أبي سفيان وأم ابنه معاوية، أهدر دمها رسول الله لأنها مثّلت بعمه حمزة رضي الله عنه يوم أُحد ولاكت كبده، فلما كان يوم الفتح اختفت في بيت أبي سفيان زوجها ثم أسلمت، قيل: إن بين إسلامها وإسلام زوجها ليلة واحدة، وكانت هند امرأة ذات أنفة وعقل، حضرت قتال الروم يوم اليرموك مع أبي سفيان، وكانت تشجّع المسلمين وتحرّضهم على القتال مع بقية النسوة اللاتي كنّ معها.

من هذا يتبين أن عدد الذين أهدر دمهم رسول الله خمسة عشر، لم يقتل منهم إلا أربعة وأسلم الباقون، قال مستر موير: إن الذين قتلوا فعلا هم أربعة فقط، وقد اختفى عتبة ومعتب ابنا أبي لهب ثم أسلما واختفى أيضا سهيل بن عمرو وكان ابنه مسلما ثم أسلم بالجِعرانة.

وجاء في كتاب – تاريخ الأمم الإسلامية - للمرحوم الشيخ محمد الخضري بك ص 187 ما يأتي:

«وأمر حين دخوله مكة بقتل أفراد ذوي جرائم خاصة بهم فقتل أكثرهم»، وهذا ليس بصحيح فالذين قتلوا هم الأقلون لا الأكثرون، وضربت لرسول الله قبة من أدم بالحجون، فمضى الزبير بن العوام برايته حتى ركزها عندها وجاء رسول الله فدخلها فقيل له: ألا تنزل منزلك؟ فقال: وهل ترك عقيل لنا منزلا؟.

الطواف: ولما انتهى رسول الله إلى الكعبة ومعه المسلمون استلم الركن بمحجنه - المحجن عصا في طرفها عُقابة كالصولجان - وكبَّر فكبَّر المسلمون لتكبيره ورجعوا التكبير حتى ارتجت مكة تكبيرا حتى جعل يشير إليهم رسول الله أن اسكتوا والمشركون فوق الجبال ينظرون، فطاف بالبيت ومحمد بن مسلمة آخذ بزمام الناقة سبعا يستلم الحجر الأسود كل طوفة بمحجنه، وكان ذلك يوم الاثنين لعشر بقين من رمضان كما تقدم وهو حلال غير محرم، ولما فرغ رسول الله من طوافه نزل عن راحلته ثم انتهى إلى المقام فصلى ركعتين، ثم انصرف إلى زمزم وقال: لولا أن تغلب بنو عبد المطلب لنزعت منها دلوا فنزع له العباس دلوا فشرب منه وتوضأ والمسلمون يبتدرون وضوءه يصبونه على وجوههم والمشركون يعجبون ويقولون: ما رأينا ملكا قط أبلغ من هذا ولا سمعنا به.

دخوله الكعبة

جلس رسول الله في ناحية المسجد وأبو بكر رضي الله عنه قائم على رأسه بالسيف ثم دعا عثمان بن طلحة حاجب الكعبة فأخذ منه مفتاح الكعبة ودخلها وصلى ركعتين بين العمودين اليمانيين، ثم وقف على باب الكعبة وقال:

«لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدميّ هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتل الخطأ مثل العمد، السوط والعصا فيهما الدية مغلظة فيها أربعون خلفة في بطونها أولادها، يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم خُلق من تراب، ثم تلا رسول الله {يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَكُمْ شُعُوبا وَقَبَآئِلَ لِتَعَرَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَكُمْ} (الحجرات: 13) الآية، يا معشر قريش ويا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، ثم قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» فأعتقهم رسول الله وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوة وكانوا له فيئا فبذلك يسمى أهل مكة «الطلقاء» أما مفتاح الكعبة فقد رده رسول الله إلى عثمان بن طلحة وقال: خذوها يا بني أبي طلحة خالدة لا ينزعها منكم أحد إلا ظالم ودفع السقاية إلى العباس بن عبد المطلب، وفي هذا اليوم صار رسول الله سيد مكة بعد أن هاجر منها مضطهدا واستولى جيشه عليها وقضى على الشرك وهدم الأصنام كما سيأتي.

بيعة أهل مكة

اجتمع الناس بمكة لبيعة رسول الله فجلس لهم على الصفا وعمر بن الخطاب تحت رسول الله أسفل من مجلسه يأخذ على الناس فبايع رسول الله على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا، وكذلك كانت بيعته لمن بايع رسول الله من الناس على الإسلام، وبينما رسول الله يبايع الناس، جاءه رجل فأخذته الرعدة، فقال رسول الله: هوّن عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد، ومن جملة من بايعه في ذلك اليوم على الإسلام «معاوية بن أبي سفيان» فرحَّب به رسول الله ثم كان من كتَّاب الوحي، فلما فرغ رسول الله من بيعة الرجال بايع النساء واجتمع إليه من نساء قريش فيهن هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان منتقبة متنكرة لحدثها وما كان من صنيعها بحمزة فهي تخاف أن يأخذها رسول الله بحدثها، فلما دنون منه ليبايعنه قال رسول الله «تبايعنني على أن لا تشركن بالله شيئا»، فقالت هند: وإنك لتأخذ علينا أمرا ما تأخذه على الرجال وسنؤتيكه، قال: «ولا تسرقن»، قالت: والله إني كنت لأصيب من مال أبي سفيان الهنة والهنة وما أدري أكان ذلك حلالا أم لا؟ فقال أبو سفيان - وكان شاهدا لما تقول -: أما ما أصبتِ فيما مضى فأنتِ منه في حل، فقال رسول الله: «وإنك لهند بنت عتبة؟» فقالت: أنا هند بنت عتبة فاعف عمّا سلف، عفا الله عنك، قال: «ولا تزنين»، قالت: يا رسول الله هل تزني الحرة؟ قال: ولا تقتلن أولادكن، قالت: قد ربيناهم صغارا وقتلتهم يوم بدر كبارا فأنت وهم أعلم - فضحك عمر بن الخطاب من قولها حتى استغرب -، «ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن»، قالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح ولَبعض التجاوز أمثل، قال: «ولا تعصينني في معروف»، قالت: ما جلسنا هذا المجلس ونحن نريد أن نعصيك في معروف، فقال رسول الله لعمر: «بايعهن واستغفر لهن رسول الله»، وكان رسول الله لا يصافح النساء، ولا يمس امرأة ولا تمسه إلا امرأة أحلها الله له أو ذات محرم منه، إنما كان رسول الله يبايع النساء بالكلام ولما أسلمت هند، عمدت إلى صنم كان في بيتها وجعلت تضربه بالقدوم وتقول: «كنا منك في غرور».

هذا وقد ذهب الشافعي وأحمد رضي الله عنهما إلى أن رسول الله دخل مكة وملكها صلحا ويرى أبو حنيفة والأكثرون أنه فتحها عنوة، وعلى كل حال لم يحارب رسول الله قريشا ولم يأمر أحدا من قواده بحربهم بل دخل مكة بلا حرب، لم ينتقم ممن اضطهدوه وأخرجوه من بلده وتآمروا على قتله بل صفح عنهم عند القدرة بل لم يحمل عند دخوله مكة سيفا.

هدم الأصنام

دخل رسول الله مكة يوم الفتح وعلى الكعبة (360) صنما لكل حيّ من أحياء العرب صنم قد شدوا أقدامه بالرصاص، فجاء ومعه قضيب فجعل يهوي به إلى كل صنم منها فيخر لوجهه وهو يقول: {وَقُلْ جَآء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَطِلُ إِنَّ الْبَطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (الإسراء: 81)، وأمر بكسر هُبل وقد أُخرجت جميع الأصنام من المسجد وأُحرقت ومُحيت كل صورة بالكعبة وأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في أيديهما الأزلام التي كانوا يستقسمون بها، ونادى منادي رسول الله بمكة من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره، فكسروا الأصنام التي كانت في بيوتهم بلا تردد ثم بعث رسول الله السرايا لكسر الأصنام التي حول مكة لأنهم كانوا اتخذوا لهم أصناما جعلوا لها بيوتا يعظمونها ويهدون لها ويطوفون بها كما يطوفون بالكعبة، فكان في كل حيّ صنم فمنها: «العزى ومناة وسواع وبوانة وذو الكفين».

أذان بلال على ظهر الكعبة

أمر رسول الله بلالا رضي الله عنه أن يؤذن ظهر يوم الفتح على ظهر الكعبة، فلم يَرُق أذان بلال لبعض مَنْ سمعه من أهل مكة فمن قائل:«أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا»، وقال الحكم بن العاص: «والله إن هذا لحدث عظيم، عبد بني جمح يصيح على بنية أبي طلحة ولم يقل أبو سفيان شيئا خشية أن يعلم بقوله رسول الله حتى من الحصباء وصار بعض من قريش يستهزئون ويحكمون صوت بلال غيظا وكان من جملتهم أبو محذورة وكان من أحسنهم صوتا فلما سمعه رسول الله أمره أن يؤذن لأهل مكة وكان سنه 16 سنة.

إسلام أبي قحافة عثمان بن عامر التيمي والد أبي بكر الصديق

ذهب أبو بكر رضي الله عنه وجاء بأبيه عثمان ويُكنى بأبي قحافة يقوده وقد كف بصره فلما رآه قال: هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه؟ فقال أبو بكر: هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه، فأجلسه بين يدي رسول الله فمسح رسول الله صدره وقال: «أسلم تسلم»، فأسلم وهنأ رسول الله أبا بكر بإسلام أبيه، ويلاحظ أن إسلام أبي قحافة تأخر إلى فتح مكة فلم يسلم إلا بعد عشرين سنة أي بعد أن أسلمت قريش، قال المسعودي: «توفي أبو قحافة في خلافة عمر بن الخطاب وهو ابن تسع وتسعين سنة وذلك في سنة 13 هجرية وهي السنة التي استخلف فيها عمر بن الخطاب» وهو أول من ورث خليفة في الإسلام.

أقام رسول الله بمكة بعد فتحها ثمانية عشر يوما - كما اعتمده البخاري - يقصر الصلاة في مدة إقامته بها لأنه كان يترقب المسير إلى حرب هوازن لسماعه بتجهزهم لمحاربته.

ولما فتح رسول الله مكة أشار إلى الأصنام فسقطت لوجهها، فقال راشد بن حفص:

قالت هلم إلى الحديث فقلت لا ** يأبى عليك الله والإسلام

لو ما شهدت محمدا وقبيله ** بالفتح حين تكسر الأصنام

لرأيت نور الله أضحى ساطعا ** والشرك يغشى وجهه الإظلام

وكان راشد هذا سادن صنم بني سليم الذي يدعى سواعا، قال له رسول الله «ما اسمك؟» قال: غاوي بن ظالم، فقال: «أنت راشد بن عبد الله».

وبعد فتح مكة ترك العرب عبادة الأصنام واعتنقوا الإسلام وحاربوا مع رسول الله لنشر دينه فكان ذلك انتصارا عظيما وفتحا مبينا، وقد حرَّمَ الإسلام الصور والرهبنة وساوى بين الناس ورفع شأن المرأة ومنحها حقوقا كانت محرومة منها وقضى على الفسق والفجور وحرَّم وأد الأولاد وحروب الجاهلية والأخذ بالثأر وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير والميسر والربا والرشوة مما كان شائعا في الجاهلية ونشر العدل بين الناس وأمَّنهم على أرواحهم وأموالهم واحترم حرمة المنازل وأوجب احترام الوالدين وحماية الأرامل والأيتام وفرض الزكاة وحضَّ على الرفق بالحيوان إلى غير ذلك مما هو مفصَّل في كتب الشريعة.

سرية خالد بن الوليد إلى العزى

بعد أن قضى رسول الله على الأصنام التي كانت على الكعبة ومحا كل صورة بها وكسرت الأصنام التي كانت في البيوت بأمره، وجه نظره إلى هدم الأصنام الأخرى لمكة حتى تطهر البلاد من الوثنية ويعبد الله الواحد القهار وتثبت دعائم الدين الصحيح فبعث حين فتح مكة لخمس ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة خالد بن الوليد إلى العزى ليهدمها فخرج في ثلاثين فارسا من أصحابه حتى انتهى إليها فهدمها ثم رجع إلى رسول الله فأخبره، فقال: هل رأيت شيئا؟ قال: لا، قال: لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها، فرجع خالد وهو متغيظ فوجد سيفه فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ناشرة الرأس فجعل السادن يصيح بها فضربها خالد فجزلها باثنتين ورجع إلى رسول الله فأخبره فقال: نَعم تلك العزى وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبدا، وكانت بنخلة - على بعد ليلة من مكة -، كانت لقريش وجميع بني كنانة، وكانت أعظم أصنامهم وكان سدنتها بنو شيبان من بني سليم.

قال ابن حبيب: العُزَّى شجرة كانت بنخلة عندها وثن تعبده غطفان فلما بعث رسول الله خالد بن الوليد قطع الشجرة وهدم البيت وكسر الوثن، والبيت كان مبنيا على العزى وكانوا يهدون لها كما يهدون للكعبة ويطوفون وينحرون عندها.

سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة

مناة صنم للأوس والخزرج وغسان وكانت بالمشلَّل ومَناة من أقدم الأصنام وكانت العرب تسمّي عبد مناة وكانوا يحجون إليها ولم يكن أشد إعظاما لها من الأوس والخزرج.

بعث رسول الله سعد بن زيد الأنصاري الأشهلي إلى مناة ليهدمها وذلك لست بقين من شهر رمضان فخرج في عشرين فارسا حتى انتهى إليها وعليها سادن (خادم)، فقال السادن: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك، فأقبل سعد يمشي إليها فخرجت إليه امرأة سوداء عريانة ثائرة الرأس تدعو بالويل وتضرب صدرها، فقال السادن: مناة دونك بعض غضباتك فضربها سعد فقتلها وأقبل إلى الصنم ومعه أصحابه فهدموه ولم يجدوا في خزانتها شيئا، وما ذكر من أن الذي ذهب لهدمها سعد بن زيد الأشهلي هو ما مشى عليه في المواهب تبعا لطبقات ابن سعد، وفي سيرة ابن هشام: أنه علِيّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

وسعد بن زيد الأشهلي هو الذي كان بعثه النبي بسبايا من سبايا قريظة إلى نجد ليبتاع بهم خيلا وسلاحا، ومن المضحك حقا، اختفاء تلك المرأة السوداء في الصنم لتخيف من يتعدى عليه وإيهام عبَّاده بما له من قوة ورهبة.

سرية عمرو بن العاص إلى سواع

بعث رسول الله في شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة بعد فتح مكة عمرو بن العاص إلى سواع - اسم صنم لهذيل - على ثلاثة أميال من مكة وكان بأرض يقال لها رُهاط من بطن نخلة وكانت سدنته من بني لحيان، قال عمرو فانتهيت إليه وعنده سادن فقال: ما تريد؟ قلت: أمرني رسول الله أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك، قلت: لِمَ؟ قال: تُمنع، قلت: حتى الآن أنت في الباطل ويحك وهل يسمع أو يبصر؟ قال: فدنوت منه فكسرته وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزائنه فلم يجدوا منه شيئا، ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله، ولم نجد في كتب التاريخ عدد الذين كانوا مع عمرو بن العاص رضي الله عنه عندما ذهب إلى سواع.

سرية خالد بن الوليد إلى جذيمة

بعث رسول الله خالد بن الوليد في شوال سنة ثمان من الهجرة إلى بني جذيمة من كنانة وكانوا بأسفل مكة على ليلة ناحية يَلَمْلَمَ وهو يوم الغُيمصاء داعيا إلى الإسلام ولم يبعثه مقاتلا فخرج في 350 رجلا من المهاجرين والأنصار وبني سليم فانتهى إليهم خالد فقال: من أنتم؟ قالوا: مسلمون قد صلينا وصدقنا بمحمد وبنينا المساجد في ساحاتنا وأذّنا فيها، قال: فما بال السلاح عليكم؟ فقالوا: إن بيننا وبين قوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوا هم فأخذنا السلاح، قال: فضعوا السلاح، فوضعوه، فقال لهم: استأسروا القوم، فأمر بعضهم فكتف بعضا وفرقهم في أصحابه، فلما كان في السحر نادى خالد: من كان معه أسيرٌ فليدافّه، فأما بنو سليم فقتلوا من كان في أيديهم، وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا أسارهم فبلغ النبي ما صنع خالد فرفع يديه فقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد»، وبعث عليّ بن أبي طالب ومعه مال فودى لهم قتلاهم وما ذهب منهم ثم انصرف إلى رسول الله فأخبره.

كانت بنو جذيمة قد أصابوا في الجاهلية عوف بن عبد عوف أبا عبد الرحمن بن عوف والفاكه بن المغيرة - عم خالد - وكانا أقبلا تاجرين من اليمن حتى إذا نزلا بهم قتلوهما وأخذوا أموالهما، فلما أرسل خالد بن الوليد إلى بني جذيمة وقتل منهم من قُتل مع أنه لم يؤمر بقتالهم تبرأ رسول الله مما صنع خالد لأنهم أعلنوا إسلامهم، وكان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف كلام في ذلك إذ قال له عبد الرحمن: عملت بأمر الجاهلية في الإسلام، فقال خالد: إنما ثأرت بأبيك، فقال عبد الرحمن بن عوف: كذبت، قد قتلت قاتل أبي ولكنك إنما ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة حتى كان بينهما شيء، فبلغ ذلك رسول الله فقال: «مهلا يا خالد، دع عنك أصحابي فوالله لو كان لك أُحدٌ ذهبا ثم أنفقه في سبيل الله ما أدركت غَدْوَة رجل من أصحابي ولا رَوحته»؛ فالنبي كان يقول الحق ولا يخشى أحدا مهما أوتي من قوة، لذلك لم يخف عن خالد استياءه مما فعل.

غزوة حنين 10 شوال سنة 8 هـ

فبراير سنة 630 م

حُنينٍ وادٍ في طريق الطائف إلى جنب ذي المجاز بينه وبين مكة ثلاث ليال وتسمى غزوة أوطاس اسم لموضع كانت به الموقعة وهو واد في ديار هوازن، وتسمى الغزوة أيضا غزوة هوازن، وهوازن اسم قبيلة كبيرة من العرب فيها عدة بطون وكانت هذه الغزوة في 10 شوال سنة ثمان من الهجرة - فبراير سنة 630م -.

وسببها أن رسول الله لما فتح مكة خافت أشراف هوازن وثقيف أن يسير إليهم ويغزوهم فعزموا على قتاله قبل أن يقاتلهم ويقال: إنهم كانوا يستعدون للقتال قبل فتح مكة وذلك حين سمعوا بخروج رسول الله من المدينة وهم يظنون أنه إنما يريدهم فأسندوا الرياسة والقيادة إلى مالك بن عوف أحد بني نصر وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة، فاجتمع إليه من القبائل جموع كثيرة منهم بنو سعد بن بكر وهم الذين كان رسول الله مسترضعا فيهم ومعهم دُرَيد بن الصِّمَّة رئيس بني جُشَم وسيدهم وكان شجاعا مجربا لكنه كان شيخا بلغ مئة وعشرين سنة، وقيل: أكثر من ذلك، وقد عمي وصار لا ينتفع إلا برأيه وخبرته ومعرفته بالحروف، وكان قائد ثقيف كنانة بن عبد ياليل وقد أسلم بعد ذلك.

قوة العدو واستعداده

كان قائد هذا الجيش كما قلنا مالك بن عوف فأمرهم أن يسوقوا معهم إلى الحرب كل شيء: المواشي والأموال والنساء والأبناء كي يثبتوا ولا ينهزموا إلا أنهم اشترطوا عليه أن يأخذ برأي دريد بن الصمة لأنه شجاع وخبير بالحروب، فلما نزلوا بأوطاس قال دريد: ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاء وخوار البقر؟ فقيل له: إن مالك بن عوف ساقهم إلى القتال، فاستدعاه فلما جاء سأله فقال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله يقاتل عنهم، فلم ير رأيه وأشار عليه برد الذرية والأموال فلم يقبل ورماه بضعف الرأي لكبر سنه، ثم أمر مالك بالخيل فجعلت صفوفا ثم جعل النساء فوق الإبل وراء المقاتلة صفوفا ثم جعل الإبل والبقر والغنم وراء ذلك كيلا يفروا ويقاتلوا عن مالهم ونسائهم وذراريهم، ثم قال للناس: إذا رأيتموني شددت عليهم شدوا عليهم شدة رجل واحد.

وكان جملة من اجتمع من بني سعد وثقيف 4000 وانضم إليهم من سائر العرب جموع كثيرة وكان مجموعهم كلهم نحو 30.000 مقاتل، وقيل: 20.000 وكانت هوازن رماة.

قوة جيش المسلمين واستعدادهم

كان مع النبي 12.000 - منهم 10.000 الذين جاءوا معه من المدينة لفتح مكة و 2000 من الذين أسلموا في فتح مكة - فقال أبو بكر: «لا نغلب اليوم من قلة»، وقيل قالها غيره.

وذكروا لرسول الله عند عزمه على الخروج أن عند صفوان بن أمية دروعا وسلاحا فأرسل إليه فأعطاه مئة درع بما يكفيها من السلاح، وفي رواية 400 درع وسأله رسول الله أن يكفيهم حملها إلى موضع القتال ففعل، واستعار أيضا من نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وهو ابن عمه 3000 رمح وقال: كأني أنظر إلى رماحك هذه تقصف ظهر المشركين.

خرج رسول الله من مكة يوم السبت لست خلون من شوال سنة ثمان من الهجرة - 28 يناير سنة 630 م - وأهل مكة معه ركبانا ومشاة حتى النساء ومن لم يكمل إسلامه، استعمل رسول الله عَتّاب بن أسيد بن العيص على مكة أميرا وكان شابا وترك مُعاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي يعلِّم الناس الأحكام والشرائع لأنه كان عالما بالقرآن ومتبحرا في الدين.

ترتيب صفوف المسلمين وتوزيع الرايات

ولما اقترب رسول الله من مكان العدو رتب أصحابه وصفَّهم ووضع الألوية والرايات من المهاجرين والأنصار بالكيفية الآتية:

1 - عليّ بن أبي طالب - لواء المهاجرين.

2 - راية لسعد بن أبي وقّاص.

3 - راية لعمر بن الخطاب.

4 - الحباب بن المنذر - لواء الخزرج.

5 - أسيد بن حضير - لواء الأوس.

ورتَّب قبائل العرب ووزع عليهم الألوية والرايات ولبس رسول الله درعين والبيضة والمغفر وركب بغلته دُلْدُلْ وقدم سليما من يوم خرج من مكة واستعمل عليهم خالد بن الوليد فلم يزل في مقدمته حتى ورد الجعرانة.

جواسيس العدو

أرسل مالك بن عوف رئيس هوازن ثلاثة نفر من الجواسيس ينظرون إلى جيش المسلمين فرجعوا خائفين ونصحوا بالعودة فرماهم بالجبن وحبسهم عنده خوفا أن يشيعوا ذلك في جيشه فتثبط هممهم وتخور عزائمهم.

جاسوس المسلمين

وأرسل رسول الله رجلا من أصحابه وهو عبد الله بن أبي حَدْرد الأسلمي وأمره أن يدخل في جيش العدو ويسمع منهم ما أجمعوا عليه فمكث يوما أو يومين، ثم أتى النبي وأخبره أنه انتهى إلى خباء مالك بن عوف وعنده رؤساء هوازن فسمعه يقول لأصحابه: إن محمدا لم يقاتل يوما قط قبل هذه المرة وإنما كان يلقي قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فيظهر عليهم فإذا كان السحر فصفوا مواشيكم ونساءكم وأبناءكم من ورائكم، ثم صفوا، ثم تكون الحملة منكم واكسروا أغماد سيوفكم فتلقونه بعشرين ألف سيف واحملوا حملة رجل واحد واعلموا أن الغلبة لمن حمل أولا.

القتال

لما كان رسول الله بحنين وانحدر في الوادي وذلك عند غبش الصبح خرج عليهم القوم وكانوا قد كمنوا لهم في شعاب الوادي ومضايقه عملا بإشارة دريد بن الصمة فحمل عليهم المسلمون فانكشفوا ثم انشغلوا بالغنائم، وذلك يذكرنا بما حدث في غزوة أُحد فإنهم لما رأوا العدو ولّى هاربا انشغلوا عن الحرب بجمع الغنائم وفارق الرماة المكان الذي أمر النبي بالبقاء فيه فانكشف المسلمون وكرَّ عليهم خالد بن الوليد.، الخ، وفي هذه الغزوة لما انشغل المسلمون بالغنائم استقبلهم العدو بالسهام فعادوا منهزمين لا يلوي أحد على أحد وانكشفت خيل بني سليم مولِّية وكانت مع النبي وأصحابه فتبعهم أهل مكة والناس فانهزموا، وكانت هوازن رماة.

ثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم

وقد ثبت رسول الله كما ثبت في غزوة أُحُد وكان ثباته سببا في كسب الموقعة فإنه انحاز ذات اليمين ومعه نفر قليل منهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلِيّ، والعباس وابنه الفضل، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عمه وأسامة بن زيد، وربيعة والحارث بن عبد المطلب، وعتبة، ومعتب - ابنا أبي لهب -، وأيمن بن أم أيمن، واختلف في عدد من ثبت مع رسول الله، وقيل: إنهم لم يبلغوا مئة وكان رسول الله يركض وهو على بغلته نحو هوازن وهو يقول:

- أنا النبيُّ لا كذب، أنا ابن عبد المطلب -، ولم يقل: أنا ابن عبد الله لأن العرب كانت تنسبه إلى جده عبد المطلب لشهرته ولموت عبد الله في حياته.

وأخذ كفا من تراب فرماه في وجوه العدو قائلا: «شاهت الوجوه، فانهزموا»، وهذا الرمي وقع مثله في غزوة بدر وهو من معجزاته

الانتصار بعد الهزيمة

لما ثبت رسول الله ولم يبق معه إلا بعض أصحابه، قال لعمه العباس: أصرخ: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السَّمُرَة، وكان العباس عظيم الصوت، وفي رواية: قال له: ناد يا أصحاب البيعة يوم الحديبية، يا أصحاب سورة البقرة، فأقبلوا كأنهم الإبل إذا حنَت على أولادها فأمرهم أن يصدقوا الحملة على العدو فاقتتلوا قتالا شديدا فنظر إلى قتالهم فقال: «الآن حمي الوطيس» فولى المشركون الأدبار والمسلمون يقتلون ويأسرون فيهم ويتبعون آثارهم وقتل بعض المسلمين ذرية العدو فنهاهم رسول الله عن قتل الذرية وقال: «من قتل قتيلا فله سلبه»، وقُتل دريد بن الصمة فقتله ربيعة بن رفيع السلمي وجُرح خالد بن الوليد جراحات أثقلت به، فتفل النبي في جرحه فبرىء، ولما وقعت الهزيمة أسلم الناس من كفار مكة وغيرهم.

غنائم المسلمين

كانت غنائم المسلمين كما يأتي:

أُسر من العدو خلق كثير، ومن النساء نحو 6000 وغَنِم المسلمون من الإبل 24000 بعير، ومن الغنم أكثر من 40000 شاة، ومن الفضة 4000 أوقية.

تقسيم الغنائم

بدأ رسول الله بالأموال فقسمها وأعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس فأعطى أبا سفيان بن حرب 40 أوقية من الفضة و 100 من الإبل وكذا ابناه يزيد ومعاوية، وأعطى حكيم بن حزام 100 من الإبل ثم سأله مئة أخرى فأعطاه إياها، وأعطى النضر بن الحارث بن كلدة 100 من الإبل وكذا أسيد بن جارية الثقفي والحارث بن هشام، وصفوان بن أمية، وقيس بن عدي، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، والأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن، ومالك بن عوف.

وأعطى العباس بن مرداس 40 من الإبل فقال في ذلك شعرا فأعطاه 100 من الإبل، وأعطى مخرمة بن نوفل 50 بعير وكذا العلاء بن حارثة وسعيد بن يربوع وعثمان بن وهب وهشام بن عمرو العامري، فبلغ ما أعطى ممن ذكروا 14850 من الإبل وأعطى ذلك كله من الخمس - قال ابن سعد وهو أثبت الأقاويل عندنا - ثم أمر زيد بن ثابت بإحصاء الناس والغنائم ثم فضها على الناس فكانت سهام كل رجل أربعا من الإبل وأربعين شاة فإن كان فارسا أخذ اثني عشر من الإبل و 120 شاة، وإن كان معه أكثر من فرس لم يسهم له.

رد السبي

قدم وفد هوازن على النبي وهم أربعة عشر رجلا ورأسهم زهير بن صرد وفيهم أبو برقان عم رسول الله من الرضاعة وهو من بني سعد، وقد جاءوا مسلمين فسألوه أن يمن عليهم بالسبي، فرضي رسول الله ورضي المسلمون بما رضي به رسول الله وردّوا عليهم نساءهم وأبناءهم ولم يختلف منهم أحد غير عيينة بن حصن وكان من الأعراب الجفاة فإنه أبى أن يرد عجوزا صارت في يده منهم ثم ردها بعد ذلك ووفد عليه مالك بن عوف رئيس هوازن فرد عليه أهله وماله وأعطاه مئة من الإبل كما تقدم وأسلم وحسن إسلامه واستعمله رسول الله على من أسلم من قومه.

الغنائم والأنصار

لما رأت الأنصار ما أعطى رسول الله في قريش والعرب تكلموا في ذل وقالوا: حنَّ الرجل إلى أهله، فقال رسول الله: «يا معشر الأنصار أما ترضون أن يرجع الناس بالشاء والبعير وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟» قالوا: رضينا يا رسول الله بك حظا وقسما، فقال رسول الله: «اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار».

رجوع رسول الله إلى المدينة

انصرف رسول الله وكان قد انتهى إلى الجِعرانة ليلة الخميس لخمس ليال خلون من ذي القعدة فأقام بها ثلاث عشرة ليلة، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة بقين من ذي القعدة ليلا فأحرم بعمرة ودخل مكة فطاف وسعى وحلق رأسه ورجع إلى الجعرانة من ليلته كبائت ثم غدا يوم الخميس حتى خرج على سَرِف ثم أخذ الطريق على مرّ الظهران ثم إلى المدينة.

ولقد أنزل الله تعالى في هذه الموقعة في سورة التوبة: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذلِكَ جَزَآء الْكَفِرِينَ} (التوبة: 25، 26).

وفي هذه الغزوة سُمِيَ طلحة بن عبيد الله «الجواد» لكثرة إنفاقه على العسكر، وقيل: سُمِّي «الفيَّاض».

سرية عامر الأشعري أو سرية غزوة أوطاس - هوازن

أبو عامر الأشعري هم عم أبي موسى الأشعري وكان أبو عامر من كبار الصحابة، لما فرغ رسول الله من حُنين بعثه على جيش إلى أوطاس خلف الفارين من هوازن وكان المنهزمون انقسموا ثلاث فرق: فرقة منهم لحقت بالطائف، وفرقة بنخلة، وفرقة بأوطاس، فانتهى إليهم أبو عامر فإذا هم مجتمعون فناوشوه القتال وقتل منهم أبو عامر تسعة مبارَزة بعد أن يدعو كل واحد منهم إلى الإسلام وأفلت منه العاشر ثم استشهد أبو عامر، قتله أخوان هما: العلاء وأوفى ابنا الحارث بن جشم، ثم خلف أبا عامر أبو موسى رضي الله عنه باستخلاف عمر له فأقره الناس فقاتل القوم حتى هزمهم وظفر المسلمون بالغنائم والسبايا.

سرية الطفيل بن عمرو الدوسي إلى ذي الكفين

لما أراد رسول الله السير إلى الطائف بعث الطفيل بن عمرو الدَّوسي إلى ذي الكفين وذلك في شوال سنة ثمان من الهجرة ليهدمه وأمره أن يستمد قومه ويوافيه بالطائف فخرج سريعا إلى قومه فهدم ذا الكفين وجعل يحش النار في جوفه ويحرقه ويقول:

يا ذا الكفين لست من عبادكا ** ميلادنا أقدم من ميلادكا

إني حششت النار في فؤادكا

وانحدر معه من قومه 400 سراعا فوافوا النبي بالطائف بعد مقدمه بأربعة أيام وقدم بدبابة ومنجنيق.

هذا وقد ذكرت الدبابات والمنجنيق لأول مرة في غزوة خيبر.

غزوة الطائف شوال سنة 8 هـ

فبراير سنة 630 م

كانت غزوة الطائف في شوال سنة ثمان من الهجرة - فبراير سنة 630 م - وقد تقدم ذكر الطائف عندما سافر إليها رسول الله بعد وفاة أبي طالب وخديجة يلتمس من ثقيف النصرة فخذلوه وعاد إلى مكة وكان ذلك سنة عشر من البعثة، أما في هذه المرة فإنه خرج من حُنين يريد الطائف ليغزوها لما علم أن مالك بن عوف وجمعا من أشراف قومه لحقوا بالطائف عند انهزامهم وقد كانت ثقيف رَمّوا حصنهم وأدخلوا فيه ما يصلحهم ل سنة فلما انهزموا من أوطاس دخلوا حصنهم وأغلقوه عليهم وتهيأوا للقتال وكان معهم مالك بن عوف النضري وسار رسول الله فنزل قريبا من حصن الطائف وعسكر هناك فرموا المسلمين بالنبل رميا شديدا حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة وقتل منهم اثنا عشر رجلا فيهم عبد الله بن أبي بكر الصدّيق يومئذ فاندمل الجراح ثم انتقض به بعد ذلك فمات منه وأصيبت عين أبي سفيان فأتى النبي وعينه في يده فقال: يا رسول الله هذه عيني أصيبت في سبيل الله، فقال له: «إن شئتَ دعوتُ فرددت عليك وإن شئت فعين في الجنة»، قال: في الجنة، ورمى بها في يده.

فارتفع رسول الله إلى موضع مسجد الطائف الذي أنشىء بعد ذلك وكان معه من نسائه أم سلمة وزينب فضرب لهما قبتين وكان يصلي بين القبتين الصلاة مقصورة ودام حصار الطائف ثمانية عشر يوما. ونصب عليهم المنجنيق ونثر الحسَك سقبين من عيدان حول الحصن ونادى منادي رسول الله: أيما عبد نزل من الحصن وخرج لنا فهو حر، فخرج منهم بضعة عشر رجلا فأعتقهم رسول الله.

وأمر رسول الله بقطع أعنابهم وتحريقها فقطع المسلمون قطعا ذريعا ثم سألوه أن يدعها فتركها، ولم يؤذن لرسول الله في فتح الطائف فأمر عمر بن الخطاب فأذن في الناس بالرحيل فضج الناس من ذلك ثم أذعنوا.

واستعمل المسلمون في هذه الغزوة الدَّبابة وهي آلة من آلات الحرب تجعل من الجلود يدخل فيها الرجال فيدبون بها إلى الأسوار لينقبوها.

ويجدر بنا أن نذكر حادثة لطيفة، وذلك أنه كانت في سبي حنين أخت رسول الله من الرضاعة وهي الشيماء، قيل: وأمها حليمة رضي الله عنها ولما قالت له الشيماء: أنا أختك يا رسول الله، قال: «وما علامة ذلك؟» فأخبرته بعضة عضها إياها حين كان مسترضعا عندهم وأرته إياها فعرفها وتذكر ذلك، فقام وبسط لها رداءه وصنع مثل ذلك بأمه حليمة رضي الله عنها حين جاءته ودمعت عيناه، وقال للشيماء لما أن عرفها: «سلي تعطي واشفعي تشفعي»، وقيل: إن قومها قالوا لها: إن هذا الرجل أخوك فلو أتيته فسألته في قومك لرجونا أن يحابينا فاستوهبته السبي وهم ستة آلاف فوهبهم لها، فما عرفت مكرمة مثلها ولا امرأة أيمن على قومها منها وخيَّرها فقال: إن أحببت فعندي محببة مكرمة وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك، قالت: بل تمتعني وأرجع إلى قومي، فأعطاها نعما وشاء وغلاما يقال له مكحول وجارية.

بعث قيس بن سعد إلى صداء

بعث رسول الله قيس بن عبادة الخزرجي إلى ناحية اليمن بعد انصرافه من الجعرانة في 400 فارس وأمره أن يقاتل قبيلة صُداء، حي من اليمن، وفي معجم البلدان: صداء مخلاف باليمن بينه وبين صنعاء اثنان وأربعون فرسخا سُمي باسم القبيلة، فقدم زياد بن الحارث الصدائي فسأل عن ذلك البعث فأخبرته به فقال: يا رسول الله أنا وافدهم إليك فاردد الجيش وأنا أتكفل بإسلام قومي وطاعتهم، فقال: اذهب إليهم فردّهم، فقال: إن راحلتي قد كلت فبعث إليهم فردهم ورجع الصدائي إلى قومه فقدموا بعد خمسة عشر يوما فأسلموا، وقيل: كتب إليهم فجاء وفدهم بإسلامهم فقال رسول الله: «إنك مطاع في قومك يا أخا صداء»، فقال: بل الله هداهم، قال: ألا تؤمرني عليهم؟ قال: بلى ولا خير في الإمارة لرجل مؤمن، فتركها وأمره رسول الله أن يؤذن في صلاة الفجر فأذن فأراد بلال أن يقيم فقال رسول الله: إن أخا صداء ومن أذن فهو يقيم.

سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى تميم

بعث رسول الله في المحرم سنة تسع من الهجرة - أبريل سنة 630 م - عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم في خمسين فارسا من العرب ليس فيهم مُهاجري ولا أنصاري فكان يسير الليل ويكمن النهار فهجم عليهم في صحراء فدخلوا وسرحوا مواشيهم فلما رأوا الجمع ولّوا وأخذ منهم أحد عشر رجلا ووجدوا في المحلة إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا فجلبهم إلى المدينة فأمر بهم رسول الله فحبسوا في دار رملة بنت الحارث فقدم فيهم عدة من رؤسائهم فلما رأوهم بكى إليهم النساء والذراري فعجلوا فجاءوا إلى باب النبي وكلموه في شأن السبي فرد عليهم رسول الله أسراهم واختلف في عدد الوفد فقيل: كانوا سبعين، وقيل: كانوا ثمانين وقد أسلموا وبقوا في المدينة مدة يتعلمون القرآن والدين.

وسبب هذه السرية: أن رسول الله بعث بشر بن سفيان العدوي الكلبي إلى بني كعب من خزاعة لأخذ صدقاتهم وكانوا مع بني تميم على ماء فأخذ بشر صدقات بني كعب، فقال لهم بنو تميم وقد استكثروا ذلك: لم تعطونهم أموالكم؟ فاجتمعوا وانتهزوا السلاح ومنعوا بشرا من أخذ الصدقة فقال لهم بنو كعب: نحن أسلمنا ولا بد في ديننا من دفع الزكاة، فقال بنو تميم: والله لا ندع بعيرا واحدا يخرج، فلما رأى بشر ذلك قدم المدينة وأخبر النبي بذلك، فبعث رسول الله عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم كما تقدم.

سرية الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق

بعث رسول الله الوليد بن عقبة بن أبي معيط لأخذ الصدقات من بني المصطلق، كانوا قد أسلموا وبنوا المساجد وكان بينهم وبين الوليد عداوة في الجاهلية، إلا أنهم لما سمعوا بمجيء الوليد لأخذ الصدقات، خرج منهم عشرون رجلا بالإبل والغنم يؤدونها عن زكاتهم فرحا به وتعظيما لله ولرسوله فظن أنهم يريدون قتله لرؤية السلاح معهم مع أنهم إنما خرجوا بالسلاح تجملا فرجع من الطريق قبل أن يصلوا إليه، فذهب إلى المدينة وأخبر النبي أنهم ارتدوا ولقوه بالسلاح يحولون بينه وبين الصدقة، فهمّ رسول الله أن يبعث إليهم من يغزوهم وبلغ ذلك القوم فقدم عليه الركب الذين لقوا الوليد فأخبروا النبي الخبر على حقيقته فنزلت هذه الآية: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَآءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ} (الحجرات: 6).

فقرأ عليهم القرآن وبعث معهم عباد بن بشر يأخذ صدقات أموالهم ويعلمهم شرائع الإسلام ويقرئهم القرآن.

والوليد بن عقبة كان أخا لعثمان رضي الله عنه من أمه، أسلم يوم فتح مكة هو وأخوه خالد بن عقبة وهو الذي صلى صلاة الصبح بأهل الكوفة أربع ركعات فقال: أزيدكم وكان سكران ولما شهدوا عليه بالشرب أمر عثمان فجلد وعزل من الكوفة والفاسق الذي ذكر في الآية المتقدمة هو الوليد بن عقبة فهو الذي جاء إلى رسول الله وأخبره بارتداد بني المصطلق وأنهم لقوه بالسلاح، وكان الوليد شريب خمر وكان شاعرا كريما.

سرية قطبة بن عامر إلى خثعم

في صفر سنة تسع من الهجرة أرسل رسول الله قطبة بن عامر بن حديدة في عشرين رجلا إلى حي من خثعم بناحية تَبَالَة، وأمره أن يشن الغارة عليهم فخرجوا على عشرة أبعرة يعتقبونها فأخذوا رجلا فسألوه فاستعجم عليهم فجعل يصيح بالحاضر ويحذرهم فضربوا عنقه ثم أمهلوا حتى نام الحاضر فشنوا عليهم الغارة فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثرت الجرحى في الفريقين جميعا وقتل قطبة بن عامر من قتل وساقوا النعم والشاء والنساء إلى المدينة وجاء سيل أتيّ فحال بينهم وبينه فما يجدون إليه سبيلا وكانت سهمانهم أربعة أبعرة أربعة أبعرة والبعير يعدل بعشرة من الغنم بعد أن أخرج الخمس.

سرية الضحاك بن سفيان إلى بني كلاب

في شهر ربيع الأول سنة تسع من الهجرة أرسل رسول الله جيشا إلى القُرْطاء عليهم الضحاك بن أبي بكر الكلابي - وكان من الشجعان الأبطال - ومعه الأصيد بن سلمة بن قرط فلقوهم بالزُّج زُج لاَوَة فدعوهم إلى الإسلام فأبوا فقاتلوهم فهزموهم وغنم أموالهم، فلحق الأصيد أباه سلمة وسلمة على فرس له في غدير بالزج فدعا أباه إلى الإسلام وأعطاه الأمان فسبه وسب دينه فضرب الأصيد عرقوبي فرس أبيه فلما وقع الفرس على عرقوبيه ارتكز سلمة على رمحه في الماء ثم استمسك به حتى جاءه أحدهم فقتله ولم يقتله ابنه.

سرية علقمة بن مجزز المدلجي إلى الحبشة

كانت سرية علقمة بن مجزِّز المدلجي إلى الحبشة في شهر ربيع الأول سنة تسع من الهجرة (يوليه سنة 630 م) وسببها: أنه بلغ رسول الله أن أناسا من الحبشة ثار بهم أهل جدة فبعث إليهم علقمة بن مجزز في ثلاثمائة فانتهى إلى جزيرة في البحر وقد خاض إليهم البحر فهربوا منه، فلما رجع تعجل بعض القوم إلى أهلهم قبل بقية الجيش فأذن لهم فتعجل عبد الله بن حذافة السهمي فيهم فأمّره على من تعجل وكانت فيه دعابة - مزاح - فنزلوا ببعض الطريق وأوقدوا نارا يصطلون عليها ويصطنعون، فقال لهم: أليس طاعتي واجبة؟ قالوا: بلى، قال: فاقتحموا هذه النار، فقام بعض القوم فاحتجزوا حتى ظن أنهم واثبون فيها، فقال: اجلسوا إنما كنت أضحك، فبلغ ذلك رسول الله فقال: «من أمركم بمعصية فلا تطيعوه»، وعلقمة هذا هو الذي بعثه عمر بن الخطاب إلى الحبشة فهلك هو وجيشه، أما عبد الله بن حذافة فهو من قدماء المهاجرين ممن شهد بدرا ومات بمصر في خلافة عثمان رضي الله عنه.

سرية علي بن أبي طالب إلى الفلس

بعث رسول الله علِيّ بن أبي طالب إلى الفُلُس، صنم كان بنجد تعبده طيِّىء ليهدمه وذلك في شهر ربيع الآخر سنة تسع من الهجرة من 150 رجلا من الأنصار على مائة بعير وخمسين فرسا ومعه راية سوداء ولواء أبيض فشنوا الغارة على محلة آل حاتم مع الفجر فهدموا الفلس وخرّبوه وملأوا أيديهم من السبي والنعم والشاء والفضة وفي السبي سَفانة بنت حاتم الطائي وأخت عدي بن حاتم، وهرب عدي إلى الشام، ووجدوا في خزانة الفلس ثلاثة أسياف: رَسُوب والمخذم وسيف يُقال له اليماني وثلاث أدراع، واستعمل رسول الله على السبي أبا قتادة واستعمل على الماشية والرِثَّة عبد الله بن عتيك فلما نزلوا ركك اقتسموا الغنائم وعزل للنبي صفيا رسوبا والمخذم، ثم صار له بعْدُ السيف الآخر، وعزل الخمس وعزل آل حاتم فلم يقسمهم حتى قدم بهم المدينة، وقد منّ رسول الله على سفانة فأسلمت وحسن إسلامها وكان المنّ عليها سببا لإسلام أخيها عدي بن حاتم، فإنها خرجت حتى قدمت الشام على أخيها، فقال: ما ترين في هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعا، فإن يك نبيا فللسابق إليه فضيلة، وإن يكن ملكا فلن تزال في عزّ اليمن وأنت أنت، فقال: والله هذا هو الرأي، فقدم على رسول الله وأسلم.

غزوة تبوك أو العسرة

رجب سنة 9 هـ - أكتوبر سنة 630 م

تَبُوك موضع بين وادي القرى والشام بينه وبين المدينة من جهة الشام أربع عشرة مرحلة وبين دمشق إحدى عشرة مرحلة وهي غزوة العسرة، مأخوذة من قوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} (التوبة: 117)، وكانت في رجب سنة تسع من الهجرة - سبتمبر - أكتوبر سنة 630 م - وهي آخر غزواته وكان الوقت حين خروجه حرا شديدا وقحطا شديدا ولذلك لم يور عنها كعادته في سائر الغزوات بل بيَّنها للناس وأخبرهم أنه يريد الروم وكانوا من شدة الحر ينحرون البعير فيشربون ما في كرشه من الماء فسميت غزوة العسرة أي الشدة والضيق وهي آخر غزواته

وسببها: أن الروم قد جمعت جموعا كثيرة بالشام وأن هرقل قد رزق أصحابه ل سنة وأجلبت معه لخم وجذام وعاملة وغسان وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء وقيل: إن الإمبراطور هرقل كان في حمص.

إخلاص الصحابة وصدقاتهم

ندب رسول الله إلى الخروج وأعلمهم المكان الذي يريد ليتأهبوا لذلك وبعث إلى مكة وإلى قبائل العرب يستنفرهم وأمر الناس بالصدقة وحثهم على النفقة والحُملان فجاءوا بصدقات كثيرة فكان أول من جاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه فجاء ماله كله 40000 درهم فقال له «هل أبقيت لأهلك شيئا؟» قال: أبقيت لهم الله ورسوله، وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله فسأله: «هل أبقيت لهم شيئا؟» قال: نعم نصف مالي، وجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بمائتي أوقية، وتصدق عاصم بن عدي بسبعين وَسْقا من تمر وجهِّز عثمان رضي الله عنه ثلث الجيش.

البكاءون

جاء البكاءون وهم سبعة يطلبون من رسول الله ما يركبون عليه فقال: ما أجد ما أحملكم عليه، وقيل: كانوا أكثر من سبعة، فلما قال لهم ذلك انصرفوا باكين وهم الذين قال الله فيهم: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ لله} (التوبة: 92).

المتخلفون

وجاء ناس من المنافقين يستأذنون رسول الله في التخلف من غير علة فأذن لهم وهم بضعة وثمانون رجلا وقال قائل من المنافقين: لا تنفروا في الحر زهادة في الجهاد وشَكّا في الحق وإرجافا بالرسول وكان من المتخلفين عبد الله بن أبي بن سلول.

المعذرون

وجاء المعذّرون من الأعراب وهم الذين يعتذرون بالباطل ليؤذن لهم في التخلف فاعتذروا إليه فلم يعذرهم وقيل: هم أسد وغطفان.

واستخلف رسول الله على عسكره أبا بكر الصديق يصلي بالناس واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة - قال ابن سعد وهو أثبت عندنا ممن قال استخلف غيره - واستخلف علِيّ بن أبي طالب على أهله مدة غيبته بتبوك فأرجف المنافقون بعلِيّ بن أبي طالب وقالوا: ما خلفه إلا استثقالا له وتخففا منه، فلما قال ذلك المنافقون أخذ علِيّ سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله وهو بالجُرف فقال: يا نبي الله زعم المنافقون أنك إنما خلفتني أنك استثقلتني وتخففت مني، فقال: «كذبوا ولكني إنما خلفتك لما ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك أفلا ترضى يا علِيّ أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبيّ بعدي»، فرجع علِيّ إلى المدينة.

ولما ارتحل رسول الله عن ثنية الوداع متوجها إلى تبوك عقد الألوية والرايات فدفع لواءه الأعظم لأبي بكر ورايته العظمى للزبير ودفع راية الأوس لأسيد بن حضير وراية الخزرج للحباب بن المنذر ودفع لكل بطن من الأنصار وقبائل العرب لواء أو راية.

عدد جيش المسلمين

سار رسول الله بالناس وهم 30000 والخيل 10000 وقد كان هذا الجيش بعد تخلف المنافقين وغيرهم، أعظم جيش تألف في العرب.

قدم رسول الله تبوك ومعه هذا العدد من الجيش فأقام بها عشرين ليلة يصلي بها ركعتين.

بعث خالد بن الوليد

أرسل رسول الله خالد بن الوليد في 420 فارسا في رجب سنة تسع سرية، إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل وبينها وبين المدينة خمس عشرة ليلة وكان أكيدر من كندة قد ملكهم وكان نصرانيا وكان ملكا من قِبَل هرقل فانتهى إليه خالد وقد خرج من حصنه في ليلة مقمرة هو وأخوه حسَّان فشدت عليه خيل خالد بن الوليد فاستأسر أكيدر وامتنع أخوه حسَّان وقاتل حتى قتل وهرب من كان معهما فدخل الحصن وأجار خالد أكيدر من القتل حتى يأتي به رسول الله على أن يفتح له دومة الجندل ففعل وصالحه على 2000 بعير و 800 فرس و 400 درع و 400 رمح فعزل للنبي صفيا خالصا ثم قسم ما بقي بين أصحابه فصار لكل رجل منهم خمس فرائض ثم خرج خالد بن الوليد بأكيدر وبأخيه مصاد وكان في الحصن وبما صالحه عليه قافلا إلى المدينة فقدم بأكيدر على رسول الله فأهدى له هدية صالحة على الجزية وحقن دمه ودم أخيه وخلى سبيلهما وكتب له رسول الله كتابا فيه أمانهم وما صالحهم عليه وختمه يومئذ بظفره وكان رسول الله استعمل على حرسه بتبوك عباد بن بشر فكان يطوف في أصحابه على العسكر.

ثم انصرف رسول الله من تبوك إلى المدينة بعد أن أقام بها نحو عشرين ليلة ولم يلق كيدا ولما دنا من المدينة تلقّاه عامة الذين تخلفوا فقال رسول الله لأصحابه: «لا تكلموا رجلا منهم»، فأعرض عنهم رسول الله والمسلمون حتى إن الرجل ليعرض عن أبيه وأخيه وجعل المنافقون يحلفون ويعتذرون، فقبل ظاهرهم وعلانيتهم واستغفر لهم وقد كانوا يخبرون عنه أخبار السوء وكان قدوم رسول الله من تبوك في رمضان.

المعجزات وخوارق العادات

في هذه الغزوة وقع لرسول الله بعض المعجزات وخوارق العادات والإخبار بالمغيبات نذكر منها:

كان رسول الله حين مرّ بالحجر نزلها واستقى الناس من بئرها فلما راحوا منها قال رسول الله: «لا تشربوا من مائها شيئا ولا تتوضأوا منها للصلاة وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئا ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له»، ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله إلا رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الآخر في طلب بعير له، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خُنق على مذهبه، وأما الذي ذهب لطلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته في جبل طيىء فأخبر بذلك رسول الله فقال: «ألم أنهكم أن يخرج أحد إلا ومعه صاحب؟« ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفي، وأما الآخر الذي وقع بجبل طيىء فإن طيئا أهدته لرسول الله حين قدم المدينة.

ولما أصبح الناس ولا ماء معهم شكوا ذلك إلى رسول الله فدعا الله فأرسل الله سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء.

وضلت ناقة رسول الله ببعض الطريق، فخرج أصحابه في طلبها، وعند رسول الله رجل من بعض أصحابه يُقال له عمارة بن حزم الأنصاري، وكان في رحله زيد بن لصيت القينقاعي، وكان منافقا فقال زيد بن لصيت، وهو في رحل عمارة وعمارة عند رسول الله: أليس يزعم محمد أنه يخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله وعمارة عنده: إن رجلا قال إن هذا محمدا يخبركم أنه نبي، وهو يزعم أنه يخبركم بخبر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟ وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله وقد دلني الله عليها وهي في الوادي من شعب كذا وكذا قد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتوا بها، فذهبوا فجاءوا بها إلى آخر القصة، ثم مضى رسول الله سائرا فجعل يتخلف عنه الرجل فيقولون: يا رسول الله تخلف فلان، فيقول: «دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه»، حتى قيل: يا رسول الله تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره فقال: «دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه»، وتلوّم أبو ذر على بعيره فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول الله ماشيا ونزل رسول الله في بعض منازله فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله هذا الرجل يمشي على الطريق وحده، فقال رسول الله: «كن أبا ذر»، فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله هو أبو ذر، فقال رسول الله: «يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويُبعث وحده»، وقد تحقق قوله عليه الصلاة والسلام، فإن عثمان رضي الله عنه لما نفى أبا ذر نزل أبو ذر الرّبذَة فأصابه بها قَدَره ولم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه، فأوصاهما أن اغسلاني وكفناني ثم ضعاني على قارعة الطريق، فأول مركب يمر بكم فقولوا: هذا أبو ذر صاحب رسول الله فأعينونا على دفنه، فلما مات فعلا ذلك به ثم وضعاه على قارعة الطريق فأقبل عبد الله بن مسعود ورهط من أهل العراق عُمّارا فلم يرعهم إلا جنازة على الطريق قد كادت الإبل تطؤها، وقام الغلام فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله فأعينونا على دفنه، فاستهل عبد الله بن مسعود يبكي ويقول: صدق رسول الله: «تمشي وحدك، وتموت وحدك وتُبعث وحدك» ثم نزل هو وأصحابه فواروه ثم حدثهم ابن مسعود حديثه وما قال له رسول الله في مسيره إلى تبوك واسم أبي ذر (جندب بن جنادة) ومات في سنة 32 هـ.

هدم مسجد الضرار بقباء

لما رجع رسول الله من تبوك قبل أن يدخل المدينة جاءه جماعة من المنافقين وسألوه أن يأتي مسجدهم بقباء ليصلي فيه وهو (مسجد الضرار) الذي بنوه مضاهاة لمسجد قباء لإضرار المسلمين وتفريق كلمتهم وجماعتهم وكان المنافقون يجتمعون فيه ويعيبون النبي ويستهزئون، فدعا رسول الله بقميصه ليلبسه ويأتيهم فأنزل الله عليه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَذِبُونَ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهّرِينَ} (التوبة: 107، 108).

فدعا رسول الله مالك بن الدخشم ومعن بن عدي بن عامر بن السكن ووحشيا وقال: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه» فخرجوا مسرعين حتى أتوا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدُّخشم فقال مالك: أنظروني حتى آتيكم بنار فدخل عند أهله فأخذ من سعف النخل فأشعله ثم خرجوا يشتدون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فحرَّقوه وهدموه وتفرق عنه أهله وأمر رسول الله أن يتخذوا ذلك الموضع كناسة تلقى فيه الجيف والقمامات.

كان أصحاب مسجد الضرار أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلِّي لنا فيه فقال: «إني على جناح سفر وحال شغل ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم» فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد من السماء.

وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا: خذام بن خالد ومن داره أخرج مسجد الشقاق، وثعلبة بن حاطب، ومُعتِّب بن قُشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعياد بن حُنيف، وجارية بن عامر وابناه مجمع بن جارية، وزيد بن جارية، ونَبْتل بن الحارث، وبخزج، وبجاد بن عثمان، ووديعة بن ثابت.

أما مالك بن الدخشم الذي مرَّ ذكره وهو أحد الذين هدموا مسجد الضرار، فقد كان يُتهم بالنفاق، وهو الذي قال فيه عتبان بن مالك لرسول الله إنه منافق فقال رسول الله: «أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟» فقال: بلى ولا شهادة له، فقال رسول الله: «أليس يصلي؟» قال: بلى ولا صلاة له، فقال رسول الله: «أولئك الذين نهاني الله عنهم، ولا يصح عنه النفاق وقد ظهر من حسن إسلامه ما يمنع من اتهامه».

لماذا بني مسجد الضرار؟

وصف الله مسجد الضرار بصفات أربع:

1 - بقوله: ضرارا، والضرار محاولة الضر.

2 - وبقوله: وكفرا، قال ابن عباس: يريد به ضرارا للمؤمنين وكفرا بالنبي عليه السلام وبما جاء به.

3 - وبقوله تفريقا بين المؤمنين، لأن المنافقين قالوا: نبني مسجدا فنصلي فيه ولا نصلي خلف محمد، فإن أتانا فيه صلينا معه وفرقنا وبينه وبين الذين يصلون في مسجده فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة وبطلان الألفة.

4 - وبقوله: إرصادا لمن حارب الله ورسوله.

هذه هي الأسباب التي بنى المنافقون من أجلها مسجد الضّرار كما ذكرت في القرآن الكريم، ثم إنه تعالى لما وصف هذا المسجد بهذه الصفات الأربع قال: وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى أي: ليحلفن ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى، وهو الرفق بالمسلمين في التوسعة على أهل الضعف، والعلة والعجز عن المسير إلى مسجد رسول الله، وذلك أنهم قالوا لرسول الله: إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ثم قال تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَذِبُونَ}، والمعنى أن الله تعالى اطلع الرسول على أنهم حلفوا كاذبين.

وقد تقدم أن هذا المسجد كان مآله الهدم والحرق وصار موضعا لإلقاء الجيف والقمامات.

موت عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين

وفي هذه السنة - التاسعة - في شهر ذي القعدة مات عبد الله بن أبيّ بن سلول «رأس المنافقين» بعد أن مرض عشرين ليلة.

وحدث أنه لما كان عبد الله مريضا عاده رسول الله فطلب منه أن يصلي عليه إذا مات ويقوم على قبره، ثم إنه أرسل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يطلب منه قميصه ليكفن فيه فأرسل إليه القميص الفوقاني، فرده وطلب منه الذي يلي جسده ليكفن فيه فقال عمر رضي الله عنه: لا تعط قميصك الرجسَ النجس، فقال عليه الصلاة والسلام: «إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئا فلعل الله يدخل به ألفا في الإسلام وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله»، فلما رأوه يطلب هذا القميص ويرجو أن ينفعه أسلم منهم يومئذ ألف، فلما مات جاءه ابنه يعرفه فقال عليه الصلاة والسلام لابنه: «صل عليه وادفنه»، فقال: إن لم تصل عليه يا رسول الله لم يصل عليه مسلم، فقام عليه الصلاة والسلام ليصلي عليه فقام عمر فحال بين رسول الله وبين القبلة لئلا يصلي عليه فنزل قوله تعالى: {وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَدا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَسِقُونَ} (التوبة: 84).

قال الزجاج: كان رسول الله إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فمنع ها هنا منه.

وفي الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنه: فصلى عليه ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت (أي الآية السابقة)، ولم يأخذ رسول الله بقول عمر رضي الله عنه جريا على ظاهر حكم الإسلام واستصحابا لظاهر الحكم ولإكرام ولده الذي تحقق صلاحه واستئلافا لقومه.

وعن عبد الله بن عباس قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لما توفي عبد الله بن أبي بن سلول ودعي رسول الله للصلاة عليه فقام إليه فلما وقف عليه يريد الصلاة تحولتُ حتى قمتُ في صدره فقلت: يا رسول الله أتُصلي على عدو الله عبد الله بن أُبي القائل يوم كذا، كذا وكذا، أعدِّد أيامه ورسول الله عليه السلام يبتسم حتى إذا أكثرت عليه قال: «أخِّر عني يا عمر إني خيرت فاخترت وقد قيل لي استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم فلو أني أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت» قال: ثم صلى عليه ومشى معه فقام على قبره حتى فرغ منه، قال: أتعجب لي وجرأتي على رسول الله والله ورسوله أعلم فوالله ما كان إلا يسيرٌ حتى نزلت هاتان الآيتان ولا تصل على أحد منهم مات أبدا فما صلى رسول الله على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله.

حجة أبي بكر الصديق

بعث رسول الله في السنة التاسعة في شهر ذي الحجة (مارس سنة 631 م) أبا بكر الصديق يحج بالناس فخرج في ثلاثمائة رجل من المدينة وبعث معه بعشرين بدنة قلدها وأشعرها بيده الشريفة وساق أبو بكر رضي الله عنه خمس بدنات ثم تبعه عليّ رضي الله عنه على ناقة رسول الله «القصواء» فقال له أبو بكر: استعملك رسول الله على الحجّ؟ قال: لا ولكن بعثني أقرأ براءة على الناس وأنبذ إلى كل ذي عهد عهده، وكان العهد بين رسول الله وبين المشركين عاما وخاصا، فالعام ألا يصد أحد عن البيت إذا جاءه ولا يخاف أحد في الأشهر الحرم، والخاص بين رسول الله وبين قبائل العرب إلى آجال مسماة وكانت عادة العرب ألا ينبذ العهد إلا من كان قريبا ممن أراد النبذ، فلذلك بعث رسول الله عليا رضي الله عنه ولم يكتف بأبي بكر رضي الله عنه فحج بالناس، قرأ علِيّ بن أبي طالب براءة على الناس يوم النحر عند الجمرة ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وقال: لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عُريان ثم رجعا قافلين إلى المدينة، وقد كان علِيّ رضي الله عنه يصلي خلف أبي بكر إلى أن رجع إلى المدينة.

وفي ذلك رد على الرافضة فإنهم زعموا أن النبي عزل أبا بكر رضي الله عنه عن إمارة الحج بعلِيّ.

سرية خالد بن الوليد إلى بني الحارث بن كعب بنجران

بعث رسول الله خالد بن الوليد في شهر ربيع الأول سنة عشر (يونية سنة 631 م) سرية في أربعمائة إلى بني الحارث بن كعب بنجران وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا فإن استجابوا لك فاقبل منهم وأقم فيهم وعلمهم كتاب الله وسنّة نبيّه ومعالم الإسلام، فإن لم يفعلوا فقاتلهم، وكان أهل نجران على شريعة عيسى عليه السلام فخرج خالد حتى قدم عليهم فبعث الركبان يضربون في كل وجه ويدعون الناس إلى الإسلام ويقولون: يا أيها الناس أسلموا تسلموا فأسلم الناس ودخلوا فيما دعاهم إليه، فأقام خالد فيهم يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنّة نبيّه، ثم كتب خالد إلى رسول الله

«بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد النبي رسول الله من خالد بن الوليد، السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد يا رسول الله صلى الله عليك فإنك بعثتني إلى بني الحارث بن كعب وأمرتني إذا أتيتهم ألا أقاتلهم ثلاثة، وأن أدعوهم إلى الإسلام، إن أسلموا قبلت منهم وعلمتهم معالم الإسلام وكتاب الله وسنّة نبيّه وإن لم يسلموا قاتلتهم، وإني قدمت عليهم فدعوتهم إلى الإسلام ثلاثة أيام كما أمرني رسول الله وبعثت فيهم ركبانا: يا بني الحارث أسلموا تسلموا فأسلموا ولم يقاتلوا، وأنا مقيم بين أظهرهم وآمرهم بما أمرهم الله به وأنهاهم عما نهاهم الله عنه وأعلمهم معالم الإسلام وسنّة النبي حتى يكتب إليّ رسول الله والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته» وهذا الكتاب شرح فيه خالد مهمته وأنه قام بها كما أُمر، فكتب إليه رسول الله

«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي رسول الله إلى خالد بن الوليد، سلام عليك، فإنّي أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو: أما بعد فإن كتابك جاءني مع رسلك بنجران أن بني الحارث قد أسلموا قبل أن يقاتلوا وأجابوا ما دعوتهم إليه من الإسلام وشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن قد هداهم الله بهداه فبشرهم وأنذرهم وأقبل وليقبل معك وفدهم، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته».

فأقبل خالد بن الوليد إلى رسول الله وأقبل وفد بني الحارث بن كعب فيهم قيس بن الحصين بن يزيد بن قنان ذو الغصة، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المحجَّل، وعبد الله بن قريظ الزيادي، وشداد بن عبد الله القَناني، وعمرو بن عبد الله الضبابي فلما قدموا على رسول الله فرآهم قال: من هؤلاء القوم كأنهم رجال الهند؟ قيل: يا رسول الله هؤلاء بنو الحارث بن كعب، فلما وقفوا عند رسول الله سلموا عليه، فقالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال رسول الله: «وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ثم قال رسول الله: أنتم الذين إذا زجروا استقدموا»، فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها رسول الله الثانية والثالثة والرابعة، فقال يزيد بن عبد المدان: نعم يا رسول الله، نحن الذين إذا زجرنا استقدمنا، فقالها أربع مرات، فقال رسول الله: «لو أن خالد بن الوليد لم يكتب إليَّ فيكم أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا لألقيت رؤوسكم تحت أقدامكم»، فقال يزيد بن عبد المدان: أما والله يا رسول الله ما حمدناك ولا حمدنا خالدا، فقال: فمن حمدتم؟ قالوا: حمدنا الله الذي هدانا بك، قال: صدقتم، ثم قال رسول الله: «بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟» قالوا: لم نكن نغلب أحدا، فقال رسول الله: «بلى قد كنتم تغلبون من قاتلكم»، قالوا: يا رسول الله، كنا نغلب من قاتلنا أنا كنا بني عبيد وكنا نجتمع ولا نتفرق، ولا نبدأ أحدا بظلم، قال: «صدقتم»، ثم أمّر رسول الله على بلحارث بن كعب قيس بن الحصين فرجع فرجع وفد بلحارث بن كعب إلى قومهم ولم يمكثوا بعد أن قدموا إلى قومهم إلا أربعة أشهر حتى توفي رسول الله.

وفاة إبراهيم

توفي إبراهيم بن رسول الله من زوجته مارية في شهر ربيع الأول سنة عشر (يونيه 631 م) وكان عمره ستة عشر شهرا

دخل رسول الله وهو معتمد على عبد الرحمن بن عوف وإبراهيم يجود بنفسه، فلما مات دمعت عينا رسول الله فقال له عبد الرحمن: أي رسول الله هذا الذي تنهى الناس عنه، متى يراك المسلمون تبكي يبكوا، فلما سريت عنه عبرته قال: «إنما هذا رحمة وإن من لا يرحم لا يُرحم إنما ننهى الناس عن النياحة وأن يندب الرجل بما ليس فيه»، ثمّ قال: «لولا أنه وعد جامع وسبيل مئتاء وأن آخرنا لاحق بأولنا لوجدنا عليه وجدا غير هذا، وإنا عليه لمحزونون تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب وفضل رضاعه في الجنة»، وأمر النبي بدفن إبراهيم في البقيع، وصلى عليه وكبّر أربعا وقد أجمع جماهير العلماء على الصلاة على الأطفال إذا استهلوا ولما دُفن أمر برش قربة ماء على قبره وهو أول قبر رُش عليه الماء، ولما سوى جدثه كان رسول الله رأى كالحجر في جانب الجدث، فجعل رسول الله يسوي بأصبعه ويقول: «إذا عمل أحدكم عملا فليتقنه فإنه مما يسلي نفس المصاب».

وانكسفت الشمس يوم مات إبراهيم فأذاع الناس: إن الشمس كسفت حزنا على موت إبراهيم، فقال رسول الله «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد»، ولو كان النبي مخادعا أو كاذبا لاستغل هذه الفرصة السانحة وأذاع في طول البلاد وعرضها أن الشمس إنما انكسفت لوفاة ابنه أو لوافق الناس على ما أذاعوا، وأن هذه إحدى معجزات النبوة، لكنه أبى إلا الصدق وأذاع الحقيقة.

قال مسيو در منجم في كتابه (حياة محمد) (فصل 21) بمناسبة هذا الحادث: «إن محمدا كان واسع العقل فرد على هذه الخرافة الجميلة بقوله: (إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد) وهذه كلمات لا يقولها مخادع».

وهذا ما قلناه لأن المخادع يتعلق بالأوهام ويسارع إلى انتهاز مثل هذه الفرص ولكن النبي كان صادقا في أقواله، صادقا في أفعاله، لا يستند إلى الأكاذيب في رفع شأنه وتعزيز مركزه.

قال النووي في «تهذيب الأسماء»: وأما ما رُوي عن بعض المتقدّمين: «لو عاش إبراهيم لكان نبيا» فباطل وجسارة على الكلام في المغيبات ومجازفة وهجوم على عظيم من الزلات.

أبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل بعثهما إلى اليمن

أبو موسى الأشعري واسمه عبد الله بن قيس، أسلم قديما ثم أرسله رسول الله إلى زبيد وعدن فكان عاملا عليهما، واستدل العلماء بإرساله على أنه كان عالما فطنا حاذقا ولولا ذلك لم يوله النبي الإمارة ولذلك اعتمد عليه عمر ثم عثمان ثم عليّ رضي الله عنهم، ونسبته الخوارج والروافض إلى الغفلة وعدم الفطنة لما صدر منه في التحكيم بصفين، وسيأتي ذكر ذلك في كتابنا (علِيّ) رضي الله عنه إن شاء الله.

وأما معاذ بن جبل فهو أحد السبعين الذين شهدوا العقبة من الأنصار وشهد بدرا وأُحدا والمشاهد كلها مع رسول الله وهو أنصاري خزرجي وكان عمره لما أسلم ثماني عشرة سنة، قال رسول الله «خذوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وأُبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة».

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله «أرحمُ أمتي بأمتي أبو بكر» وذكر الحديث، وقال: «وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل».

وكان معاذ رضي الله عنه ممن يفتون في عهد رسول الله وكان من أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا وأسمحهم كفا فكثرت ديونه فأرسله رسول الله إلى اليمن وقال: «لعل الله يجبرك ويؤدي عنك دينك».

وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله لمعاذ: «إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب».

وعن معاذ أنه قال: لما بعثني إلى اليمن قال: «قد بعثتك إلى قوم رقيقة قلوبهم، فقاتل بمن أطاعك من عصاك».

ولما بعث رسول الله معاذا خرج يوصيه ومعاذ راكب ورسول الله يمشي تحت ظل راحلته فلمّا فرغ قال: «يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا ولعلك أن تمر بمسجدي وقبري»، فبكى معاذ رضي الله عنه لفراقه، ولم يزل معاذ على اليمن إلى أن قدم في خلافة أبي بكر ثم توجه إلى الشام فمات بها.

بعث علي بن أبي طالب إلى اليمن

بعث رسول الله عليّ بن أبي طالب إلى اليمن في شهر رمضان سنة عشر (ديسمبر سنة 631 م) فخرج عليّ في 300 فارس فلما انتهى إلى تلك الناحية فرق أصحابه فأتوا بنهب: غنائم ونساء وأطفال وكانت الغنائم نعما وشاء ثم لقي جمعهم فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ورموا المسلمين بالنبل والحجارة وخرج منهم رجل من مَذْحِج يدعو إلى المبارزة، فبرز إليه الأسود بن خزاعي، فقتله الأسود وأخذ سلبه ثم صفَّ عليّ رضي الله عنه أصحابه ودفع لواءه إلى مسعود بن سنان، فقتل منهم نحو عشرين رجلا، فتفرقوا وانهزموا فكف عن طلبهم قليلا ثم دعاهم إلى الإسلام، فأسرعوا وأجابوا وبايعه نفر من رؤسائهم على الإسلام، وجمع عليّ الغنائم فجزأها خمسة أجزاء فكتب على سهم منها لله، وأقرع عليها فخرج أول السهام الخمس وقسم على أصحابه بقية المغنم ثم قفل علِيّ رضي الله عنه فوافى النبي بمكة قد قدمها للحجّ سنة عشر وكان ذلك في الربيع.

وقد كان رسول الله بعث عليا رضي الله عنه إلى اليمن سنة ثمان وهو أول بعث إلى اليمن بعد فتح مكة، وبعثه إلى همدان فأسلمت جميعا فكتب عليٌّ إلى رسول الله بإسلامهم فلما قرىء الكتاب خرّ ساجدا ثم رفع رأسه وقال: السلام على همدان، أما البعث الثاني فكان في رمضان سنة عشر إلى مذ حج.

حجة الوداع

في شهر ذي الحجة سنة عشر من الهجرة (مارس سنة 632 م) حج رسول الله حجة الوداع، وسُميت بذلك لأنه ودّع الناس فيها، وعن عائشة زوج النبي قالت: خرج رسول الله إلى الحج لخمس ليال بقين من ذي القعدة فلما كان بسرف أمر الناس أن يحلوا بعمرة إلا من ساق الهدي، وكان رسول الله قد ساق الهدي وناس معه، قال ابن إسحاق: ثم مضى رسول الله على حجّه فأرى الناس مناسكهم وأعلمهم سنن حجهم وخطب الناس خطبته التي بيَّن فيها ما بيَّن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

«أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلَّغ فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها وإن كل ربا موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون، قضى الله أنه لا ربا وأن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع وأن أول دمائكم أضع دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وكان مسترضعا في بني ليث فقتله هُذَيْلٌ فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية، أما بعد أيها الناس فإن الشيطان قد يئس من أن يُعبد بأرضكم هذه أبدا ولكنه إن يُطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم، أيها الناس إن النسيء زيادة في الكفر يُضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرّم الله فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله وإن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حُرُم، ثلاثة متوالية ورجب وصفر الذي بين جمادى وشعبان، أما بعد أيها الناس فإن لكم على نسائكم حقا ولهن عليكم حقا لكم عليهن ألا يوطِئن فرشكم أحدا تكرهونه وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فإن الله أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهم شيئا وإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلغت وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، أمرا بيّنا: كتاب الله وسنّة نبيّه، أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه تعلمنّ أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة فلا يحل لامرىء من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمنّ أنفسكم»، اللهم هل بلغت فذكر لي أن الناس قالوا اللهم نعم فقال رسول الله «اللهم اشهد» اهـ، وكان الذي يبلغ عنه بعرفة ربيعة بن أمية بن خلف لكثرة الناس وقد تنبأ رسول الله في هذه الخطبة بأن أجله قد قرب وأنه لا يحج بعد هذه المرة لقولة في أولها: «فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا»، وأوصى الناس بالنساء خيرا ومنع الرجال من معاملتهن بالظلم حضهم على معاشرتهن بالمعروف، وكما أن للرجال حقا عليهن فكذلك للنساء حقا عليهم، وهذا من غير شك رفع لشأنهن فلم تعد المرأة كمية مهملة أو مهضومة الحقوق بعد أن عُنِيَ الرسول بها في خطبته، فليفهم ذلك المسلمون في جميع أنحاء الأرض وليعملوا بنصح الرسول.

وتُسمى هذه الحجة أيضا حجة التمام والكمال لنزول قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِينا} (المائدة: 3)، ورسول الله واقف بعرفة ولم يحج رسول الله بعد أن هاجر غير هذه الحجة، ولم يترك الحج وهو بمكة قط لأن قريشا في الجاهلية لم يكونوا يتركون الحج وإنما يتأخر منهم من لم يكن بمكة أو عاقه ضعف، قال ابن الأثير في النهاية: كان يحج كل سنة قبل أن يهاجر.

واستعمل على المدينة أبا دجانة الساعدي، وقيل: سباع بن عرفة الغفاري، وكانت نساؤه كلهن معه، وكان دخوله مكة صبح الرابع من ذي الحجة يوم الأحد.

يقول مستر موير «الراجح أن النبي خرج من المدينة يوم السبت 25 ذي القعدة (23 فبراير سنة 632 م) وبلغ سَرف مساء الأحد في اليوم العاشر ودخل مكة يوم الثلاثاء».

وخرج معه 90000 ويقال أكثر من ذلك وأما الذين حجوا معه فأكثر من ذلك طبعا لانضمام أهل مكة إليهم والذين أتوا من اليمن مسلمين.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن نجيح أن رسول الله حين وقف بعرفة قال هذا الموقف - للجبل الذي هو عليه - وكل عرفة موقف، وقال حين وقف على قُزَح صبيحة المزدلفة: هذا الموقف وكل المزدلفة موقف ثم لما نحر بالمنحر بمنى قال هذا النحر وكل مِنى منحر، فقضى رسول الله الحج وقد أراهم مناسكهم وأعلمهم ما فرض الله عليهم من حجهم من الموقف ورمي الجِمار وطواف البيت وما أحل لهم من حجهم وما حرم عليهم، ثم عاد رسول الله إلى المدينة.

بعث أسامة بن زيد

قفل رسول الله فأقام في المدينة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وضرب على الناس بعثا إلى الشام أمّر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة مولاه، وأمره أن يوطىء الخيل تخوم البلقاء والدّاروم من أرض فلسطين فتجهز الناس وأوْعَبَ مع أُسامة بن زيد المهاجرين الأولين، فبينما الناس على ذلك ابتدأ شكواه التي قبضه الله عز وجل فيها واعترض المنافقون على بعث أسامة، فرد عليهم أنه حقيق بالإمارة، وإن قلتم فيه لقد قلتم في أبيه من قبل وإن كان لخليقا لها وكان سنّ أسامة عندئذ عشرين عاما، فاعترضوا على توليته قيادة الجيش لصغر سنّه.

عدد الغزوات والبعوث

وكان جميع ما غزا رسول الله بنفسه بناء على ما ذكره ابن إسحاق 27 غزوة وبعوثه وسراياه 38، قال الطبري: وكانت غزواته بنفسه ستا وعشرين غزوة ويقول بعضهم: إنها كانت سبعا وعشرين غزوة، فمن قال هي ست وعشرون جعل غزوة النبي من خيبر إلى وادي القرى غزوة واحدة، لأنه لم يرجع من خيبر حين فرغ من أهلها إلى منزله ولكنه مضى منها إلى وادي القرى فجعل ذلك غزوة واحدة، ومن قال هي سبع وعشرون غزوة جعل غزوة خيبر غزوة، وغزوة وادي القرى غزوة أخرى، فيجعل العدد سبعا وعشرين.

الوفود

وفدت على رسول الله وفود كثيرة نذكرها هنا مع الاختصار، فقد وفد عليه وفد هوازن بالجعرانة، وكذا وفد عليه مالك بن عوف النضري وذلك في أواخر سنة ثمان وكذا وفد عليه بنو تميم في سرية عيينة بن حسن وكان ذلك في المحرم سنة تسع، ووفد عليه نصارى نجران بالمدينة بعد الهجرة وكانوا ستين راكبا جاءوه يجادلونه في شأن عيسى عليه السلام، وصالحوا النبي على الجزية وكتب لهم كتابا وأرسل معهم أبا عبيدة عامر بن الجرّاح رضي الله عنه وقال لهم: «هذا أمين هذه الأمة»، وفي أهل نجران والرد عليهم أنزل الله أكثر آيات سورة آل عمران، ووفد عليه الداريون: أبو تميم الداري وأخوه نعيم وأربعة آخرون على دين النصرانية، وكان وفدهم عليه مرّتين مرة بمكة قبل الهجرة ومرة بعدها، ولما قدم رسول الله إلى المدينة من تبوك في رمضان وفد عليه وفد ثقيف، ووفد عليه وفد بني عامر بن صعصعة وفيهم عامر بن الطفيل العامري وأربد بن قيس وجبار بن سُلمى، رؤساء القوم وكان عامر بن الطفيل سيدهم، وكان من أجمل الناس وكان مضمرا الغدر بالنبي وطلب من رسول الله أن يجعل له الأمر بعد أن أسلم، ولما خرج عامر بن الطفيل ومن معه إلى بلادهم أصيب في الطريق بالطاعون ومات ولم يسلم وقد وهم بعضهم فادعى بقاء عامر بن الطفيل على الإسلام إلى أن مات، وذلك إنما هو عامر بن الطفيل الأسلمي فإنه صحابي.

ووفد على النبي وفد ضمام بن ثعلبة سنة تسع وسأله ضمام: هل الله سبحانه وتعالى أمره بعبادة الله وحده لا شريك له وخلع الأصنام وبالزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا؟ فقال رسول الله: «اللهم نعم»، فأسلم ورجع إلى قومه وسب اللات والعزى وما زال يدعوهم إلى الإسلام حتى أسلموا جميعا رجالا ونساءً، ووفد عليه وفد عبد القيس وكانت منازلهم بالبحرين، وكان فيمن وفد منهم الجارود، وكان نصرانيا قد قرأ الكتب وقيل: كان مجيئهم سنة عشر فعرض عليه رسول الله الإسلام فأسلم وأسلم أصحابه، وسألوه عن النبيذ فقالوا: يا رسول الله إن أرضنا أرض وخمة لا يصلحنا إلا النبيذ فنهاهم عن شربها.

فوفد بني حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل وفدوا عليه وكانوا سبعة عشر رجلا ومعهم مسيلمة الكذاب، وكان أمره عند قومه كبيرا فكلم النبي وسأله أن يشركه معه في النبوة وهو الذي ادعى النبوة في حياة رسول الله، كما ادعى النبوة الأسود العنسي صاحب صنعاء، وصار مسيلمة يتكلم بالهذيان ليضاهي به القرآن؟ فمن ذلك أنشأ سجعا على منوال سورة الكوثر فقال: (إنا أعطيناك الجواهر فصل لربك وهاجر، إن مبغضك رجل فاجر) وقد وضع قومه الصلاة وأحل لهم الخمر والزنا ترغيبا لهم في اتباعه.

ووفد عليه وفد طيىء وفيهم قبيصة بن الأسود وسيدهم زيد الخيل، وكان جوادا فارسا حسن الخلق فعرض رسول الله عليه الإسلام وأسلم من معه وحسن إسلامهم.

ووفد عدي بن حاتم الطائي، كان عدي نصرانيا عظيما في قومه فأسلم، ومن الوفود وفد عروة المرادي ووفد بني زبيد ووفد كندة، قبيلة باليمن ينسبون إلى كندة لقب جدهم ثور بن عفير، وله جدة منهم وهي أم جده كلاب وفيهم الأشعث بن قيس، وكان وجيها في قومه فأسلم وارتد بعد النبي وعاد إلى الإسلام في خلافة أبي بكر، ووفد أَزد شنوءة وهم من الأزد وفيهم صرد بن عبد الله الأزدي، وكان أفضلهم فأمَّره على من أسلم من قومه، ووفد الحارث بن كعب، ووفد رفاعة بن زيد الجذامي، ووفد همدان فيهم مالك بن نمط، وكان شاعرا مجيدا فلقوا رسول الله مرجعه من تبوك، ووفد تجيب وهي قبيلة من كندة وجعلوا يسألون رسول الله عن القرآن والسنن، ووفد بني ثعلبة، ووفد بني سعد هذيم من قضاعة، أسلموا وبايعوا رسول الله على الإسلام ورجعوا إلى قومهم فرزقهم الله الإسلام، ووفد بني فزارة وفيهم خارجة بن حصن أخو عيينة بن حصن، مقرين بالإسلام، ووفد بني أسد فيهم حضرمي بن عامر فأسلموا وقالوا: يا رسول الله أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلتك العرب فأنزل الله على رسوله {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَمَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلاْيمَنِ إِنُ كُنتُمْ صَدِقِينَ} (الحجرات: 17)، وأقاموا أياما يتعلمون الفرائض، ووفد بني عذرة، قبيلة باليمن ونهاهم عن سؤال الكهنة والذبائح التي كانوا يذبحونها لأصنامهم، ووفد بِلَيّ وهم حيّ من قضاعة فأسلموا وكان شيخ الوفد أبو الضبيب فقال: يا رسول الله إن لي رغبة في الضيافة، فهل لي في ذلك أجر؟ قال: نعم وكل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقة، قال: يا رسول الله فما وقت الضيافة؟ قال: ثلاثة أيام، قال: فما بعد ذلك؟ قال: صدقة ولا يحل للضيف أن يقيم عندك فيحرجك، أي يضيق عليك، ووفد بني مرة ورأسهم الحارث بن عوف، ووفد خولان وهي قبيلة من اليمن وكان لهم صنم يعبدونه اسمه «عم أنس» ولما رجعوا هدموه، ووفد بني محارب وفيهم خزيمة بن سوار وكانوا أغلظ العرب وأشدهم على رسول الله أيام عرضه نفسه على القبائل في المواسم يدعوهم إلى الله تعالى، ووفد صداء وهم حي من عرب اليمن بايعوا رسول الله على الإسلام ثم رجعوا إلى قومهم وفشا الإسلام فيهم، وكان زياد بن حارث الصدائي مطاعا في قومه، ووفد سلامان فيهم خبيب بن عمرو السلاماني فأسلموا، وسأل خبيب رسول الله عن أفضل الأعمال، قال: الصلاة في وقتها وصلوا معه يومئذ الظهر والعصر، ووفد بني عبس، ووفد مزينة وهي قبيلة تنسب إلى مزينة امرأة عمرو بن أُد بن طابخة بن إلياس بن مضر، ووفد الأشعريين قوم أبي موسى الأشعري وهم منسوبون إلى أشعر بن أُدَد فأسلموا وبايعوا، وقال في حقهم رسول الله: «أتاكم أهل اليمن كأنهم السحاب وهم خيار من في الأرض»، وقال: الأشعريون كصرة فيها مسك، ووفد دوس وهم قوم أبي هريرة ينتهي نسبهم إلى الأزد وكان قدومهم بخيبر سنة سبع، ووفد بهراء قبيلة من قضاعة قدموا من اليمن أسلموا وتعلموا الفرائض، ثم انصرفوا إلى أهليهم باليمن، ووفد غامد قبيلة من الأزد باليمن سنة عشر، أقروا بالإسلام وكتب لهم رسول الله كتابا فيه شرائع الإسلام وأمر النبي أُبيّ بن كعب الأنصاري أن يعلمهم القرآن، ووفد الأزد ينسبون إلى جدهم الأعلى وهو الأزد بن الغوث وهم الذين قال في حقهم رسول الله: (حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء)، ووفد بني المنتفق وهي قبيلة من عامر بن صعصعة وفيهم لقيط بن عامر بن صبرة بن عبد الله بن المنتفق، قال عنهم رسول الله: إنهم من أتقى الناس لله في الدنيا والآخرة، ووفد النَخَع قبيلة من اليمن وهم آخر الوفود، وكان وفدهم سنة إحدى عشرة في النصف من المحرم وعددهم مائتا رجل، قدموا مقرين بالإسلام وقد كانوا بايعوا مُعاذ بن جبل.

وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11هـ

7 يونيه سنة 632م

مرض رسول الله في أواخر صفر سنة 11 هجرية (632 م)، وكانت مدة مرضه في بيت زوجته ميمونة ولما اشتد مرضه استأذن زوجاته أن يمرَّض في بيت عائشة فخرج يهادي بين العباس بن عبد المطلب وعلِيّ بن أبي طالب حتى دخل بيت عائشة وأمر أن يُهريق عليه الماء فصبوه عليه لما كان يشعر به من الحمى، وقال: ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر وهذا أوان انقطاع أَبْهَرِي من ذلك السمَّ، ولما تعذر عليه الخروج للصلاة، قال: مروا أبا بكر فليصلّ بالناس، فقالت له عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق إذا قام مقامك لا يسمع الناس من البكاء، قال: مروا أبا بكر فليصلّ بالناس فعاودته مثل مقالتها، فقال: إنكن صواحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالناس، فصلى بهم سبع عشرة صلاة أولاها عشاء ليلة الجمعة وآخرها صبح يوم الاثنين.

وفي تقديم أبي بكر للصلاة إشارة إلى أنه الخليفة بعده، فقالوا: إن النبي رضيه لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟ غير أن النبي خرج معصوب الرأس لأنه كان يشكو، وجلس في أسفل مرقاة من المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: «يا أيها الناس بلغني أنكم تخافون من موت نبيكم، هل خلد نبي قبلي فيمن بُعث إليه فأخلد فيكم، ألا إني لاحق بربي وإنكم لاحقون بي فأوصيكم بالمهاجرين الأولين خيرا وأوصي المهاجرين فيما بينهم فإن الله تعالى يقول: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَنَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ} (العصر: 1 - 3).

وإن الأمور تجري بإذن الله ولا يحملنكم استبطاء أمر على استعجاله، فإن الله عز وجل لا يعجل بعجلة أحد ومن غالب الله غلبه، ومن خادع الله خدعه، فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم وأوصيكم بالأنصار خيرا فإنهم الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلكم أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم في الثمار؟ ألم يوسعوا لكم في الديار؟ ألم يؤثروكم على أنفسكم وبهم الخصاصة؟ ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم وليتجاوز عن مسيئهم، ألا ولا تستأثروا عليهم، ألا وإني فرط لكم وأنتم لاحقون بي، ألا فإن موعدكم الحوض، ألا فمن أحب أن يرده عليّ غدا فليكفف يده ولسانه».

وهذه آخر خطبة للنبي فلم يصعد المنبر بعد ذلك اليوم، وقد أوصى المسلمين بالمحبة والاتحاد وصلة الرحم، المهاجرين منهم والأنصار، وهو في أشد حالات المرض ونهاهم عن التقاطع.

ثم أُغميَ على رسول الله ورأسه في حجر عائشة رضي الله عنها، وكانت تدعو له بالشفاء وكان يقول: «إن للموت لسكرات»، وقالت فاطمة لما تغشاه الكرب: واكرب أبتاه، فقال: لا كرب على أبيك بعد اليوم.

وفي البخاري من حديث أنس رضي الله عنه: أن المسلمين بينما هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين وأبو بكر يصلي لهم، لم يفاجئهم إلا رسول الله قد كشف سَجَف حجرة عائشة رضي الله عنها فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة ثم تبسم يضحك فنكص أبو بكر رضي الله عنه ليصل الصف وظن أن رسول الله يريد أن يخرج للصلاة، قال أنس: وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحا برسول الله فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم ثم دخل الحجرة وأرخى الستر، زاد في رواية: فتوفي من يومه، واجتمع حوله أصحابه يبكون، قالت عائشة رضي الله عنها: توفي رسول الله في بيتي وبين سحري ونحري، والمراد أنه توفي وهو في حجرها وكان أبو بكر رضي الله عنه غائبا فسلّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سيفه وتوعد من يقول: مات رسول الله مع أنه سمع خطبة رسول الله التي قال فيها: «يا أيها الناس بلغني أنكم تخافون من موت نبيّكم، هل خلد نبي قبلي فيمن بعث إليه فأخلد فيكم، ألا إني لاحق بربي».

فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حين بلغه الخبر إلى بيت عائشة رضي الله عنها فكشف عن وجه رسول الله فجثا يقبله ويبكي ثم خرج فقال: أيها الحالف على رسلك، فلما تكلم أبو بكر رضي الله عنه جلس عمر فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه ثم قال:

(ألا مَن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومَن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت) وقد قال تعالى: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} (الزمر: 30)، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (آل عمران: 144) الآية، فنشج الناس يبكون رواه البخاري، فكان أجزع الناس كلهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما سمع قول أبي بكر قال: فوالله لكأني لم أتل هذه الآية قط.

ووقوف أبي بكر هذا الموقف يدل على رباطة جأشه عند الكروب وضبط النفس وعلى حكمته وشجاعته، فإن رسول الله لما توفي طاشت العقول فمنهم من خَبِل، ومنهم من أقعد ولم يطق القيام، ومنهم من أخرس فلم يطق الكلام، ومنهم من أضنى وكان عمر رضي الله عنه ممن خبل، وكان عثمان رضي الله عنه ممن أخرس فكان لا يستطيع أن يتكلم، وكان عليّ رضي الله عنه ممّن أقعد فلم يستطع أن يتحرك، وأضنى عبد الله بن أنيس فمات كمدا وكان أثبتهم أبو بكر، قال القرطبي: وهذا أول دليل على كمال شجاعة الصديق رضي الله عنه لأن الشجاعة هي ثبوت القلوب عند حلول المصائب ولا مصيبة أعظم من موت رسول الله فظهرت عنده شجاعة الصدّيق وعلمه رضي الله عنه.

ورُوي أن بلالا رضي الله عنه كان يؤذن بعد وفاته وقبل دفنه فإذا قال: أشهد أن محمدا رسول الله ارتج المسجد بالبكاء والنحيب.

وكانت وفاته يوم الاثنين في شهر ربيع الأول سنة 11 هـ قمرية بلا خلاف، واختلف في أي الاثنين كانت وفاته فقال فقهاء الحجاز: إن رسول الله قبض يوم الاثنين لليلتين مضتا من شهر ربيع الأول، وقال الواقدي: توفي يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، ودُفن من الغد نصف النهار حين زاغت الشمس وذلك يوم الثلاثاء، وكان عمره ثلاثا وستين سنة قمريّة، ورثته عمته صفية، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو بكر، وحسان بن ثابت وغيرهم.

وغسلوه وعليه قميصه يضعون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص غسله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه والماء من بئر غرس التي بقباء، وكان العباس وابنه الفضل يعينانه في تقليب جسمه الشريف وكفنوه في ثلاثة أثواب بيض من القطن ليس فيها قميص ولا عمامة، ولما فرغوا من جهازه وُضع على سريره في بيته ثم دخل الناس عليه أرسالا أي جماعات متتابعين يصلون عليه وحفر له في المكان الذي توفي فيه بعد أن رفعوا فراشه الذي توفي عليه وفرش عليه قطيفه كان يلبسها ويفترشها، قال أبو بكر رضي الله عنه: سمعت رسول الله يقول: «ما مات نبيٌّ قط إلا يُدفن حيث تُقبض روحه»، قال عليّ: وأنا أيضا سمعته، وكان المباشر للحفر أبو طلحة زيد بن سهل الأنصاري رضي الله عنه، حفر لحدا في موضع فراشه حيث قبض، ونزل في قبره عمه العباس وعليّ والفضل وقثم بن العباس رضي الله عنهم، ورش قبره بلال بقربة بدأ من قبل رأسه وجعل عليه من حصباء العرصة حمرا وبيضا ورفع قبره عن الأرض قدر شبر.

ولا يفوتنا أن نذكر أن المنافقين أكثروا من التحدث بتأمير أسامة حت بلغ رسول الله فخرج وهو مريض عاصبا رأسه من الصداع فرد عليهم، ومما قاله في هذا الشأن: «قد بلغني أن أقواما يقولون في إمارة أسامة ولعمري لئن قالوا في إمارته لقد قالوا في إمارة أبيه من قبله وإن كان أبوه لخليقا للإمارة وإنه لخليق لها فأنفذوا بعث أسامة»، وهذا يدل على أن رسول الله كان مهتما لآخر لحظة في حياته ببعث أسامة وبشؤون المسلمين وتوحيد كلمتهم.

وقد توفي رسول الله ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله وما ترك دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا، عن عائشة رضي الله عنها: «ولقد مات وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي فأكلت منه حتى طال عليَّ فأكلته ففني فيا ليلتني لم آكله»، وروى الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، توفي رسول الله ولم يشبع هو ولا أهل بيته من خبز الشعير، وما ترك رسول الله إلا سلاحه وبغلته وأرضا جعلها صدقة.

رثاء أبي بكر

قال محمد بن عمر الواقدي عن رجاله، قال أبو بكر الصديق يرثي رسول الله

يا عين بكي ولا تسأمي ** وحُقَّ البكاء على السَّيِّد

على خير خِنْدف عند البَلا ** ء أمسى يُغيَّب في المُلْحَد

فصَلَّى المليكُ وَلِيُّ العبا ** د وربُّ البلاد على أحمد

فكيف الحياة لفقد الحبيبـ ** -ـب وزين المعاشِرِ في المشهد

فليت المماتَ لنا كلنا ** وكنا جميعا مع المهتدي

وقال رضي الله عنه أيضا:

لما رأيت نبيّنا متجدلا ** ضاقت عليَّ بعرضهن الدور

وارتعتُ روعةَ مستهامٍ والهٍ ** والعظم مني واهنٌ مكسور

أعتيقُ ويحك إن حِبك قد ثوى ** وبقيت منفردا وأنت حسير

يا ليتني من قبل مَهْلِك صاحبي ** غُيِّبتُ في جدث، عليَّ صُخور

فَلْتَحْدُثَنَّ بدائعٌ مِنْ بَعده ** تَعْيَى بهنّ جوانحٌ وصدور

رثاء حسان بن ثابت ** والله ما حملت أنثى ولا وضعتْ

مثلَ النبي رسول الأمة الهادي ** أمسى نساؤك عَطَّلن البيوت فما

يضربن خلف قفا سِترٍ بأوتاد ** مِثلَ الرَّواهب يلبسن المسوح وقد

أيقنّ بالبؤس بعد النعمة البادي ** وقال أيضا:

ما بال عينك لا تنام كأنما ** كُحلت مآقيها بكحل الأرمد

جزعا على المهدي أصبح ثاويا ** يا خيرَ من وطىء الحصى لا تبعد

يا ويحَ أنصار النبي ورهطه ** بعد المُغَيَّب في الضريح المُلْحَد

جنبي يقيك التُّرْب لهفي ليتني ** كنتُ المُغَيَّبَ في الضريح الملحد

يا بكر آمنة المبارك ذكره ** ولدته مُحْصَنَةٌ بسعد الأسعد

نورا أضاء على البرية كلها ** من يُهْدَ للنور المبارك يهتدي

أأقيم بعدك بالمدينة بينهم ** يا لهف نفسي ليتني لم أولد

بأبي وأمي من شهدتُ وفاته ** في يوم الإثنين النبي المهتدي

فظللت بعد وفاته متلددا ** يا ليتني صُبحت سُمَّ الأسود

أو حلَّ أمر الله فينا عاجلا ** في روحة من يومنا أو من غد

فتقوم ساعتنا فنلقى سيدا ** محضا مضاربه كريمَ المحتد

يا رب فاجمعنا معا ونبينا ** في جنة تقفى عيون الحُسَّد

في جنة الفردوس واكتبها لنا ** يا ذا الجلال وذا العلا والسُّؤد

والله أسمع ما حييت بهالك ** إلا بكيت على النبي محمد

ضاقت بالأنصار البلاد فأصبحوا ** سودا وجوههم كلهم الإئمد

ولقد ولدناه وفينا قبره ** وفضول نعمته بنا لا تُجحد

والله أهداه لنا وهدى به ** أنصاره في كل ساعة مَسْهد

صلى الإله ومن يحفّ بعرشه ** والطيبون على المبارك أحمد

وقال أيضا:

يا عين جودي بدمع منك أسيال ** ولا تَمَلَّنَ من سحّ وإعوال

لا ينفدن لي بعد اليوم دمعكما ** إني مصاب وإني لست بالسالي

فإن منعكما من بعد بذلكما ** إياي مثلُ الذي قد غرّ بالآل

لكن أفيضي على صدري بأربعة ** إن الجوانح فيها هاجس صالي

سَحَّ الشَّعيب وماء الغرب يمنحه ** ساقٍ يُحَمِّلهُ ساق بإزلال

حامي الحقيقةِ نَسَّالُ الوديقة فكّاكُ ** العناة كريمُ ماجدٌ عال

كشّاف مكرمة مطعامُ مسغبة ** وهّاب عانية وَجْناءِ شِملال

عَفٌّ مكاسبه جزل مواهبه ** خيرُ البرية سمح غير نَكال

واري الزناد وقوّاد الجياد إلى ** يوم الطراد إذا شبَّت بأجذال

ولا أُزكّي على الرحمن ذا بشر ** لكن علمك عند الواحد العالي

إني أرى الدهر والأيام تفجعني ** بالصالحين وأبقى ناعم البال

يا عين فابكي رسول الله إذ ذكرت ** ذات الإله فنعم القائد الوالي

وممن رثاه شعرا، كعب بن مالك، وأروى بنت عبد المطلب، وعاتكة بنت عبد المطلب، وصفية، وهند بنت الحارث، وهند بنت أثاثة، وعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وأم أيمن.

ما نزل من القرآن بالمدينة

نزل على رسول الله بالمدينة من القرآن اثنتان وثلاثون سورة، أول ما نزل ويل للمطففين، ثم سورة البقرة، ثم سورة الأنفال، ثم سورة آل عمران، ثم الحشر، ثم سورة الأحزاب، ثم سورة النور، ثم الممتحنة، ثم إنا فتحنا لك، ثم سورة النساء، ثم سورة الحج، ثم سورة الحديد، ثم سورة محمد، ثم هل أتى على الإنسان، ثم سورة الطلاق، ثم سورة لم يكن، ثم سورة الجمعة، ثم تنزيل السجدة، ثم المؤمن، ثم إذا جاءك المنافقون، ثم المجادلة، ثم الحجرات، ثم التحريم، ثم التغابن، ثم الصف، ثم المائدة، ثم براءة، ثم إذا جاء نصر الله والفتح، ثم إذا وقعت الواقعة، ثم والعاديات ثم المعوذتان، وكان آخر ما نزل: {لَقَدْ جَآءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} (التوبة: 128) إلى آخر السورة، وقد قيل إن آخر ما نزل عليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِينا} (المائدة: 3)، وهي الرواية الصحيحة.

مراتب الوحي والرد على المستشرقين

نذكر في هذا الفصل مراتب الوحي ثم نرد على المستشرقين الذين زعموا أن رسول الله كانت تعتريه نوبات صرعية إنكارا لنزول الوحي.

ولنبدأ بمراتب الوحي وهي سبعة:

1 - الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.

2 - ما كان يلقيه الملك في قلبه من غير أن يراه ويخلق الله فيه علما ضروريا يعلم به أنه وحي لا إلهام.

3 - خطاب الملك حين كان يتمثل له رجلا فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول.

4 - كان يأتيه مخاطبا له بصوت مثل صلصلة الجرس وكان هذا النوع أشده عليه، وفي حديث لابن عباس: كان يعالج من التنزيل شدة.

5 - رؤية جبريل في صورته التي خلقه الله عليها فيوحى إليه.

6 - ما أوحاه الله إليه وهو فوق السموات من فرض الصلوات وغيرها بسماع الكلام الأزلي الذي ليس بحرف ولا صوت من غير واسطة مع الرؤية للذات المقدسة.

7 - ما أوحاه إليه بلا واسطة أيضا، بل بسماع الكلام الأزلي لكن بلا رؤية كما وقع لموسى عليه السلام.

هذه هي مراتب الوحي وقد كان رسول الله يعاني من الوحي شدة فظن المستشرقون أن هذه الشدة التي كانت ترى عليه إنما هي نوبة صرعية، لكن أعراض الصرع المدروسة طبيّا تخالف ما كان يشاهد عليه عند نزول الوحي.

فالمصروع تعتريه النوبة فجأة فيقطع كلامه ويسقط من يده ما قد يكون قابضا عليه وتثبت حدقة عينه ويصفر وجهه وقد يصيح صيحة عالية ويقع مغشيا عليه كمن أطلق عليه عيار ناري ولا يبذل أي مجهود للخلاص من حالته، ولهذا كثيرا ما يصاب بجروح وقد يصاب بحروق خطرة إذا سقط بالقرب من نار وتتقلص عضلات الوجه في النوبة الصرعية ومنها عضلات الفك، فيعض المصروع لسانه ويمتزج لعابه بالدم ويسيل من فمه وإذا ترك وشأنه نام ساعات فإذا ترك وشأنه نام ساعات فإذا أفاق شكا صداعا وارتباكا في العقل، ثم إن الجروح التي تصيب رأس المصروع من السقوط فجأة تسبب له تهيجا في الدماغ.

هذه هي أعراض الصرع الطبية، فكيف يقال: إن رسول الله كانت تعتريه نوبات صرعية ولم يرو لنا أنه سقط مغشيا عليه أو أصيب بجروح في رأسه أو عضّ لسانه أو شفتيه أو سال الدم منه أو أصيب بحروق أو فقد ذاكرته أو حاد عن مبدئه؛ بل لم يقل أحد من الرواة إنه صاح صياحا عاليا، أليس في مخالفة حالاته للأعراض الصرعية التي يعرفها كل طبيب رد كاف على هؤلاء المستشرقين؟.

كان رسول الله بعد شدة الوحي يملي القرآن بوضوح وحضور ذهن، ويقرر الأطباء أن المصروع لا يمكن أن يكون حاضر الذهن بعد النوبة، ومحال أن يعيش صحيح الجسم قويا طول حياته، كذلك لا يمكن أن يكون المصروع نبيا أو مشرعا حافظا لقواه العقلية والجسمية وهذا ما صرح به أحد مؤلفي السيرة وهو مستر بودلي في كتابه عن حياة الرسول طبعة سنة 1946 صفحة 55 - 56، وقال أيضا: «إن المعجزات ترجع إلى ألفي عام قبل المسيح وعلى ذلك فالذين يسخرون من محمد على جبل حراء فليسخروا من موسى على جبل سينا ومن المسيح على جبل الجليل»، فالحالة التي كانت تعتريه ليست نوبة صرعية قطعا، ومن شاء فليراجع الكتب الطبية في هذا الموضوع ليتأكد من أعراض الصرع التي ذكرناها، إنما كانت تنتابه شدة من الوحي، لا تلبث أن تزول، ومن أهم أعراض الصرع، اضمحلال القوى العقلية فضلا عن الجسمية، وهذا يخالف حالة رسول الله فإنه لبث محافظا على قواه طول حياته ولم يحد عن مبدئه وعن تبليغ الرسالة حتى آخر يوم من حياته فدعا إلى الله وحارب عبادة الأصنام والشرك وبقي متصفا بجليل صفاته وكرم أخلاقه حتى قبضه الله تعالى.

زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم

تزوج رسول الله خمس عشرة امرأة، ودخل بثلاث عشرة وجمع بين إحدى عشرة، وتوفي عن تسع، أولاهن (خديجة) بنت خويلد ولم يتزوج عليها حتى ماتت.

ثم تزوج (سَوْدة) بنت زَمْعَة وكانت تحت ابن عمها السكران ابن عمرو وهو من مهاجرة الحبشة ثم قدما مكة فمات بها ولم يعقب فتزوجها النبي بعده في رمضان سنة عشر من النبوة بعد وفاة خديجة، توفيت (سودة) في شوال سنة 54 هـ في خلافة معاوية بالمدينة.

ثم تزوج (عائشة) بنت أبي بكر سنة اثنتين ولم يتزوج بكرا غيرها، عقد عليها بمكة وهي ابنة ست سنين وبنى عليها بالمدينة وهي ابنة تسع، وتزوج (حفصة) بنت عمر بن الخطاب وكانت تحت خنيس بن حذافة السهمي وكان رسول الله أرسله إلى كسرى ولما مات خنيس بن حذافة وتأيمت حفصة ذكرها عمر لأبي بكر وعرضها عليه فلم يرد عليه أبو بكر كلمة فغضب عمر من ذلك فعرضها على عثمان حين ماتت رقية بنت رسول الله فقال عثمان: ما أريد أن أتزوج اليوم، فانطلق عمر إلى رسول الله فشكا إليه عثمان فقال رسول الله: «يتزوج حفصة من هو خير من عثمان ويتزوج عثمان من هو خير من حفصة» ثم خطبها إلى عمر فتزوجها رسول الله بعد غزوة أُحد سنة ثلاث وكان سنها عشرين سنة وتوفيت سنة 45 في خلافة مروان بن الحكم وكان عمرها ستين سنة، ثم تزوج (زينب) بنت خزيمة بن الحارث سنة ثلاث، يُقال لها أم المساكين لكثرة إطعامها للمساكين وصدقتها عليهم وكانت تحت عبد الله بن جحش فقتل عنها يوم أُحد ولم تلبث عند رسول الله إلا يسيرا شهرين أو ثلاثة حتى توفيت في حياته.

ثم تزوج (زينب) بنت جحش وهي بنت عمته سنة خمس وهي أول من مات من أزواجه في خلافة عمر وتُكنى أم الحكم وكانت قديمة الإسلام وكانت قد تزوجها زيد بن حارثة مولى رسول الله ليعلمها كتاب الله وسنّة رسوله وكان اسمها برّة فسماها زينب وبسببها نزل الحجاب.

ثم تزوج (أم حبيبة) واسمها (رملة) بنت أبي سفيان صخر بن حرب وأمها صفية بنت أبي العاص عمة عثمان بن عفان، أسلمت قديما بمكة وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبد الله بن جحش فتنصر بالحبشة ومات بها وأبت هي أن تتنصر وثبتت على إسلامها فتزوجها رسول الله وهي بالحبشة سنة ست، روى مسلم بن الحجّاج في صحيحه: أن أبا سفيان طلب من النبي أن يتزوجها فأجابه إلى ذلك وهذا مما يعد من أوهام مسلم لأن رسول الله قد تزوجها وهي بالحبشة قبل إسلام أبي سفيان ولم يختلف أهل السير في ذلك وأصدقها النجاشي أربعمائة دينار وكان وليَّها عثمان بن عفان.

ثم تزوج (أم سلمة) بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي واسمها هند، سنة أربع وكانت قبل النبي عند أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي فولدت له سلمة وعمر ودرة وزينب وتوفي فخلفه عليها رسول الله بعده، وكانت من المهاجرت إلى الحبشة وإلى المدينة وكانت سنها حين تزوجها رسول الله ثلاثين سنة، وتزوج (ميمونة) بنت الحارث وهي خالة خالد بن الوليد وكانت قبل رسول الله عند أبي رهم العامري، تزوجها رسول الله سنة سبع في عمرة القضاء في ذي القعدة.

وتزوج (صفية) بنت حُيَيّ بن أخطب سنة سبع ولم تبلغ 17 سنة وكانت زوج سلام بن مشكم اليهودي ثم خلفه عليها كنانة بن أبي الحقيق وهما شاعران فقتل عنها كنانة يوم خيبر ثم تزوجها رسول الله وتوفيت سنة 52 هـ، وتزوج (جويرية) بنت الحارث بن أبي ضرار سنة خمس سباها رسول الله يوم المريسيع وهي غزوة بني المصطلق وكانت تحت مسافع بن صفوان المصطلقي ذي الشفرين، وعن عائشة قالت: لما قسم رسول الله سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن شماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسها.، الخ.

ولما بلغ الناس أنه تزوجها قالوا: أصهار رسول الله فأطلقوا جميع الأسرى الذين بأيديهم.

وتزوج (خولة) بنت حكيم وهي التي وهبت نفسها للنبي

وتزوج امرأة يُقال لها(عمرة) فطلقها ولم يبْن بها وذلك أن أباها قال له وأزيدك أنها لم تمرض قط، فقال: ما لهذه عند الله من خير فطلقها، تزوج امرأة يقال لها (أميمة) بنت النعمان فطلقها قبل أن يدخل بها، وخطب امرأة من بني مرة بن عوف فردها أبوها وقال: إن بها برصا فلما رجع إليها وجدها برصاء.

إن رسول الله تزوج هؤلاء قبل تحريم ما زاد على الأربع وهن: عائشة وميمونة وصفية وحفصة وهند وزينب وجويرية ورملة وسودة.

تعدد زوجات رسول الله

اعترض بعض الذين كتبوا سيرة الرسول من المسيحيين على كثرة أزواجه وزعموا أنه كان شهوانيا، والحقيقة أن كثرة أزواجه لم تكن بدافع شهواني فإنه أراد بذلك أن يوجد بينه وبين أصحابه وكبار قومه صلة قوية ورابطة متينة بواسطة المصاهرة لأن ذلك مما يساعده ويشد أزره للدفاع عن مبدئه السامي ونشر الدعوة إلى الإسلام.

أما أنه لم يكن شهوانيا فأمر لا بنكر، وظاهر من حياته وأطواره لأنه تزوج خديجة وكانت في الأربعين من عمرها وهو في عنفوان شبابه في سن الخامسة والعشرين ولم يتزوج غيرها إلى أن توفيت وكان عمره إذ ذاك خمسين سنة فإذا لم يكن إلى هذا العمر رجل شهوة بل كان رجلا قانعا بزوجة واحدة فهل من العدل أن نقول إنه كان شهوانيا بعد ذلك؟.

لم يكن رسول الله يعرف الفراغ بل كان في جهاد مستمر فلم يذق للراحة طعما من مبدأ الرسالة إلى أن مات فكان يقضي أوقاته في نشر الدعوة ومحاربة الوثنية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدفاع عن المسلمين وجمع شملهم وتعليمهم أمور دينهم وتثبيت دعائم المدنية الصحيحة الخالية من الشوائب، ومكافحة الأعداء باللسان والسيف، وكان مع ذلك يتعبد آناء الليل وأطراف النهار، وعلى العموم فقد تحمل من الأعباء ما تنوء به الجبال ولم تشغله كثرة نسائه عن عبادة ربه وعن القيام بواجبات الرسالة.

وأما أنه كان يقصد من تعدد زوجاته إيجاد روابط المصاهرة وتأليف القلوب لنشر الدعوة فهذا واضح أيضا فإن زوجته (عائشة) هي بنت أبي بكر الصديق و (حفصة) بنت عمر بن الخطاب وقد كان عرضها عمر بعد موت زوجها على أبي بكر وعثمان فأبيا زواجها فتزوجها رسول الله و (أم حبيبة) هي بنت أبي سفيان وقد كان من أكبر أعداء رسول الله ومن أشراف قريش، وعدا ذلك قد كانت أم حبيبة كما تقدم أسلمت قديما وهاجرت إلى الحبشة وتنصر زوجها هنالك وأبت أن تتنصر معه فأكرمهما النبي بزواجها وزوجته (ميمونة) هي خالة خالد بن الوليد الذي صار من أعظم أبطال المسلمين وقوادهم الذين اكتسبوا شهرة خالدة، وأما زوجته (صفية بنت حيي) فإنما تزوجها لأنها بنت ملك من ملوك اليهود فلا تصلح إلا له وقد تنافس المسلمين فيها لما وقعت في نصيب دحية بن خليفة الكلبي.

وقد كان رسول الله قويا صحيح الجسم كما أنه كان ذا إرادة تفل الحديد، وكان بشرا يأكل ويشرب ويشتهي، وقد عصمه الله تعالى عن الذنوب وتزوج (زينب بنت جحش) وكانت عند مولاه زيد بن حارثة وطلقها زيد بعد أن كرهها، وتزوجها رسول الله لإبطال عادة التبني ونسخ تحريم الزواج بامرأة المتبنّى، هذا ملخص العلة في تعدد زوجاته بعد أن بلغ من العمر الخمسين وبعد أن انقضى زمن شبابه: زمن حدة الشهوة، هذا ولا يخفى أن تعدد الزوجات كان عادة مألوفة عند العرب.

على أن عقلاء الإفرنج أدركوا حقيقة هذه المسألة فردوا على ما افتراه بعضهم من قصار النظر، فقال الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل:

«وما كان محمد أخا شهوات برغم ما اتهم به ظلما وعدوانا، وشد ما نجور ونخطىء إذا حسبناه رجلا شهويا لا هم له إلا قضاء مآربه من الملاذ، كلاّ فما أبعد ما كان بينه وبين الملاذ أية كانت، لقد كان زاهدا متقشفا في مسكنه ومأكله ومشربه وملبسه وسائر أموره وأحواله وكان طعامه عادة الخبز والماء وربما تتابعت الشهور ولم توقد بداره نار.

وإنهم ليذكرون - ونعم ما يذكرون - أنه كان يصلح ويرفؤ ثوبه بيده، فهل بعد ذلك مكرمة ومعجزة؟.

فحبذا محمد من رجل خشن اللباس، خشن الطعام، مجتهد في الله قائم النهار، ساهر الليل، دائبا في نشر دين الله الخ.

هذا وقد كان لسليمان ثلاثمائة امرأة وثلاثمائة سرية وقد كان لداود عليه السلام على زهده وأكله من عمل يده تسع وتسعين امرأة وتمت بزواج أورياء مائة.

المرأة في الإسلام

لم يكن للمرأة في الجاهلية أي شأن، فلم يكن لها حق الميراث كالأطفال ويقولون: لا يرث إلا من طاعن بالرماح وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة.

وأمر الله تعالى بمعاشرة النساء بالمعروف حيث قال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء: 19).

وأمر النساء بالخضوع للرجال، قال تعالى: {الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَآء} (النساء: 34)، وحثّ رسول الله على معاملتهن باللين والرفق فأوصى بهن الأزواج حين قال: «استوصوا بالنساء خيرا» وشرط الإسلام رضا المرأة قبل الزواج ومنع أخذ الزوجة بغير رضاها وجاء في الحديث: «الجنة تحت أقدام الأمّهات» وللنساء في الميراث نصف ما للرجال، وحرم القرآن وأد البنات، ومنع الإسلام الزواج المؤقت (زواج المتعة)، وحرم الزنا ولم يبح تعدد الزوجات إلا عند توافر العدل: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوحِدَةً} (النساء: 3)، وأباح الطلاق، وصرح النبي أن أبغض الحلال عند الله الطلاق، وتعدد الزوجات بلا شك خير من الزنا المستور وهو يمنع العهارة وعزوبة النساء المنتشرة في هذه الأيام بكثرة.

حكمة تعدد الزوجات

إن الدين الإسلامي لما كان دينا عاما فقد أباح تعدد الزوجات قال تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَآء مَثْنَى وَثُلَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوحِدَةً} (النساء: 3)، وذلك لضرورات اجتماعية وشخصية:

فأما الضرورات الاجتماعية، فهو نقص عدد الرجال عن النساء بسبب قتل الرجال في ميادين الحرب، هذا ولم يستطع رؤساء الحكومات ولا علماء الاجتماع ولا المصلحون ولا المؤتمرات الدولية منع الحروب، فقد نشبت الحرب العالمية وذهب ضحيتها الملايين من النفوس البشرية وها هي الأمم تستعد الآن للحرب أخذا بالثأر وطمعا في التوسع والاستعمار، وتنشىء الطيارات والأساطيل والمدافع وقد فشل مؤتمر نزع السلاح في مهمته.

ولا تزال القبائل في إفريقية وأمريكا وآسيا تشن الغارات ويقتل عدد كبير من رجالها ونتيجة هذه الحروب والغارات نقص عدد الرجال عن النساء نقصا يقدر بحسب فظاعتها.

ونقص الرجال عن النساء - خصوصا إذا كان النقص عظيما - ضار بالأمة من جملة وجوه منها نقص الثروة لقلة الأيدي العاملة، وضعف قوتها من الوجهة الحربية، وتعرضها لغارات المغيرين ومطامع الطامعين من الأمم القوية فلا يعيد مثل هذه الأمة التي أصيبت بنقص رجالها إلى قوتها وكثرة مواليدها إلا تعدد الزوجات.

وقد كتب العالم الإنجليزي هربرت سبنسر في كتاب «أصول علم الاجتماع»:

«إذا طرأ على الأمة حال اجتاحت رجالها بالحروب ولم يكن لكل رجل من الباقين زوجة واحدة وبقيت نساء عديدات بلا أزواج ينتج من ذلك نقص في عدد المواليد لا محالة ولا يكون عددهم مساويا لعدد الوفيات، فإذا تقابلت أمتان مع فرض أنهما متساويتان في جميع الوسائل المعيشية، وكانت إحداهما لا تستفيد من جميع نسائها بالاستيلاد فلا تستطيع أن تقاوم خصيمتها التي يستولد رجالها جميع نسائها وتكون النتيجة أن الأمة الموحدة للزوجات تفنى أمام الأمم المعدّدة للزوجات».

ثم إن زيادة عدد النساء بلا أزواج مدعاة لانتشار الفسق والفجور والفاقة، ولا شك أن إباحة تعدد الزوجات للقادرين عليه علاج لكل ما تقدم.

فأما الضرورات الشخصية، فمعلوم أن الزنا محرم شرعا فلو أن الإسلام حرم التعدد لضاقت السبل أمام المتديِّن الذي يعبد الله ويتبع أوامره ويجتنب نواهيه لأن هناك ظروفا شتى قاهرة تضطر الإنسان إلى الزواج بأكثر من امرأة واحدة نذكر منها:

1 - مرض الزوجة مرضا مزمنا يجعل الزوج ينفر منها بحيث يجعلها غير صالحة للملامسة والتمتع وليس لها من يعولها إذا طلقها ولا تستطيع الكسب ولا يمكن أن تتزوَّج بغيره فليس من المروءة والإنسانية طلاقها وليس من الحكمة منعه من التزوج لئلا يتعطل نسله أو تميل به الشهوات الطبيعية إلى الزنا، وقد حدث مثل ذلك بالضبط لأحد الصالحين وكان قاضيا بالمحاكم الأهلية رحمه الله تعالى فإنه بعد أن تزوج بمدة يسيرة أصيبت زوجته بالشلل فكانت حالتها منفّرة ولا تستطيع الحركة ولا تناول الطعام بيدها وليس لها من يعولها إذا طلقها بل يستحيل عليه ذلك لما جُبل عليه من المروءة والشفقة، ولما كان متمسكا بدينه تزوج غيرها بعد أن قرر الأطباء عدم شفائها وخصص لها خادمة وكان يخدمها بنفسه وقد طال مرضها وبقيت على هذه الحال إلى أن توفيت.

2 - امتناع الرجل عن الاتصال بزوجته مدة الوضع والنفاس وما ينالها بسبب ذلك من الآلام والضعف.

3 - جاذبية المرأة وجمالها وتأثيرها في الرجل مع قدرته على التعدد من الوجهة الجسمانية والمالية.

4 - بلوغ الزوجة سن الشيخوخة.

5 - عقم المرأة مع رغبة الرجل في الذرية.

6 - الرغبة في كثرة النسل رغبة في النفوذ والجاه.

7 - الأسباب الاقتصادية فإن النساء والأولاد يساعدون الرجل في عمله وهذا مشاهد في البلاد الزراعية كالقطر المصري، وقد يضطر الرجل أن يتزوج امرأة غنية بسبب سوء حالته الماليَّة.

وقد كان تعدد الزوجات شائعا عند العرب ولم يكن في الجاهلية قانون يحدد عدد الزوجات، وقد أسلم غيلان بن سلمة وتحته عشر نسوة فقال له رسول الله «أمسك أربعا وفارق باقيهن».

قال الأستاذ جوستاف لوبون:

«إن تعدد الزوجات على مثال ما شرعه الإسلام من أفضل الأنظمة وأنهضها بأدب الأمة التي تذهب إليه وتعتصم به وأوثقها للأسرة عقدا وأشدها لآصرتها أزرا وسبيله أن تكون المرأة المسلمة أسعد حالا وأوجه شأنا وأحق باحترام الرجل من أختها الغربية».

وقال: «ولست أدري على أي قاعدة يبني الأوروبيون حكمهم بانحطاط ذلك النظام - نظام تعدد الزوجات - عن نظام التفرد عند الأوروبيين المشوب بالكذب والنفاق؟ على حين أرى هنالك أسبابا تحملني على إيثار نظام التعدد على ما سواه، وليس عجيبا بعد ذلك أن نرى الشرقيين الذين ينتجعون إلينا ويتنقلون بين مدائننا يحارون من قسوتنا في الحكم على نظام تعدد الزوجات فقال:

وقد حبَّذ شوبنهور الفيلسوف الألماني تعدد الزوجات فيهم:

«أما آن لنا أن نعد بعد ذلك تعدّد الزوجات ح سنة حقيقة لنوع النساء بأسره؟» قال ذلك بعد أن شرح مضار الاقتصار على زوجة واحدة فمما قال: «في مدينة لندرة وحدها ثمانون ألف بنت عمومية سفك دم شرفهن على مذبحة الزواج ضحية الاقتصار على زوجة واحدة ونتيجة تعنت السيدة الأوروبية وما تدعيه لنفسها من الأباطيل».

وقال: «إذا رجعنا إلى أصول الأشياء وحقيقتها لا نجد سببا يمنع الرجل من التزوج بثانية إذا أصيبت امرأته بمرض مزمن تألم منه أو كانت عقيما أو أصبحت على توالي السنين عجوزا».

إن الرجل المتزوج في الأمم المسيحية التي لا تبيح تعدد الزوجات، لا يقتصر في الحقيقة على امرأة واحدة بل نراه يتخذ كثيرا من الخليلات ويبيح لنفسه التمتع بمن أحب منهن، لكنه إذا أبدى رأيه أو كتب في موضوع الزواج طعن على تعدد الزوجات ورمى المسلمين بالهمجية والتعدي على حقوق الزوجة وزعم أنهم شهوانيون.

ولذلك قال الأستاذ لوبون عن نظام تفرد «الزوجة» بين الأوروبيين إنه: مشوب بالكذب والنفاق..، وصرح بذلك أيضا شوبنهور فقال:

«أين لنا بمن يقتصر حقيقة على زوجة واحدة، بل لا ننكر أننا في بعض أيامنا أو في معظمها كلنا أو جلنا نتخذ كثيرا من النساء».

على أن الشريعة الإسلامية كما هو واضح من نص القرآن الكريم لم تبح تعدد الزوجات، بلا قيد ولا شرط، بل اشترطت العدل، قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوحِدَةً}، والمعنى فإن خفتم ألا تعدلوا بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها فاكتفوا بزوجة واحدة: {ذلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} (النساء: 3) والمعنى ذلك أقرب من ألا تعولوا أي لا تجوروا ولا تميلوا.

والذي يؤخذ من مجموع نصوص القرآن والسنّة أن الزوج يعتبر آثما إذا تزوج على امرأته لمجرد الإضرار بها، قال تعالى: {وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنَّ} (الطلاق: 6).

فالإسلام لم يبح التعدد جزافا بل اشترط العدل، فكأنه في الحقيقة ضيّق حدود التعدد، فالذين يعددون الزوجات ويضربون صفحا عن هذا الشرط، هم في الحقيقة يخالفون الدين، فلا شأن لنا بهم، وفعلهم لا يؤخذ حجة على الدين.

بنوه وبناته صلى الله عليه وسلم

ولدت خديجة لرسول الله ولده كلهم إلا إبراهيم الذي ولد بالمدينة، فإنه من مارية القبطية من قرية حفن من كورة أنصناء، وقد أهداها المقوقس عظيم القبط إلى النبي وأهدى معها أختها سيرين وهي التي وهبها رسول الله لحسان بن ثابت.

وأكبر بنيه القاسم، وبه يُكنى، ولد قبل النبوة بمكة، وهو أول من مات من ولده.

ثم ولد له زينب، ثم رقية، ثم فاطمة، ثم أم كلثوم، ثم ولد له في الإسلام عبد الله (وهو الطيب والطاهر) وهؤلاء كلهم من خديجة، ومات بعد القاسم عبد الله، فقال العاص بن وائل السهمي: «قد انقطع ولده فهو أبتر» فأنزل الله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاْبْتَرُ} (الكوثر: 3)، وعبد الله هو آخر الأولاد من خديجة.

أما إبراهيم فولد له سنة ثمان ومات وهو ابن ستة عشر شهرا، وقيل: ثمانية عشر، في سنة عشر من الهجرة.

أما بناته فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن معه

وتزوج زينب أبو العاص بن الربيع بن العزى بن عبد شمس وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد أخت خديجة لأمها وأبيها، توفيت زينب سنة ثمان من الهجرة، ولدت لأبي العاص عليا وأمامة وفاطمة تزوجها عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ورقية وأم كلثوم تزوجهما عثمان بن عفان، وتوفيتا عنده ولهذا سُمِي ذا النورين، توفيت رقية يوم بدر في رمضان سنة اثنتين من الهجرة وتوفيت أم كلثوم سنة تسع من الهجرة، فالبنات أربع والبنون ثلاثة.

صفته صلى الله عليه وسلم

كان رسول الله أبيض مشربا بحمرة واسع الجبين، عظيم الرأس من غير إفراط، حسن الجسم، عظيم الجبهة دقيق الحاجبين مقرونهما كانت الفرجة التي بين حاجبيه يسيرة لا تبين إلا لمن دقق النظر، أهدب الأشفار، أدعج العينين أقنى الأنف واضح الخدين ليس فيهما نتوء ولا ارتفاع كث اللحية (كثير شعرها) أسودها عرقه في وجهه، واسع الفم من غير إفراط، والعرب تتمدح به لدلالة السعة على الفصاحة، مفلج الثنايا (متفرقها) قوي الأسنان ضخم الكراديس (رؤوس العظام) غليظ الكتفين واسعهما ناعمهما شثن الكفين والقدمين بين كتفيه خاتم النبوة وخاتمه غدة حمراء، مثل بيضة الحمامة غليظ الأصابع من غير قصر ولا خشونة واسع الصدر سهل البطن، غليظ القدمين، سبابة قدمه أطول من الوسطى، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزندين، لم يكن بالطويل ولا القصير وهو إلى الطول أقرب، شديد سواد الشعر، شعره وسط بين الجعودة والسبوطة، إذا التفت التفت جميعا، نقيّ الثوب ليّن الكلام، حسن الصوت قويه، لا يقول هجرا، ولا ينطق هذرا، يخاطب كل إنسان على قدر عقله، يكلم كل قبيلة بما تعرفه، واسع الاطلاع بلغات العرب إذا فرح غض طرفه، ما رؤي ضاحكا إنما كان يبتسم وكان الضحك منه نادرا ولم يقهقه، ما تثاءب قط، وما احتلم قط، ليس بمسترخي البدن، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظ ولا غليظ لا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مزّاح، وكان يمزح ولا يقول إلا حقا، يقابل السيئة بالح سنة، يصل من قطعه ويعطي من حرمه ويعفو عمن ظلمه، لا يتكلّم إلا فيما يرجو ثوابه ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق والمسألة، لا يقطع على أحد حديثه، ولا يتكلم في غير حاجة، وكان كلامه يحفظه عنه كل من سمع، يعظم النعمة وإن دقت، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها وإنما يغضب إذا تعرض للحق بشيء، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم ويتفقد أصحابه ويسأل عنهم فإن كان غائبا دعا له، وإن كان شاهدا زاره وإن كان مريضا عاده، وإذا انتهى إلى قوم جلس حين ينتهي به المجلس (تواضعا) من جالسه أو نادمه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، من سأله حاجة لم يرده إلا بها، عنده الناس في الحق سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء لا ترفع فيه الأصوات ولا يتنازعون عنده الحديث، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، وقد قال «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وكان أشد الناس خشية وخوفا من الله، ما ضرب بيده الشريفة امرأة ولا خادما من أهله، حلمه يسبق غضبه ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما أسخى الناس كفا وأشدهم حياء، يحب الفأل الحسن ويغير الاسم القبيح بالحسن، يشاور أصحابه في الأمر، وكان إذا كره شيئا عرف في وجهه ولم يشافِهْ أحدا بمكروه، يمازح صبيان أصحابه ويجلسهم في حجره ويقعدون في صدره الشريف فيقبلهم ويلتزمهم، يشهد الجنائز ويقبل عذر المعتذر، ما وضع أحد فمه في أذنه إلا استمر صاغيا له حتى يفرغ من حديثه ويذهب، يمشي مع الأرملة والمسكين والضعيف في حوائجهم، ما صافح أحدا بيده فيرسل يده حتى يكون الآخر هو الذي يرسلها، ويبدأ أصحابه بالمصافحة، لم يُرَ قط مادا رجليه بين أصحابه، كان يجلس على الأرض والحصير والبساط، يكرم من يدخل عليه وربما بسط له رداءه وآثره بالوسادة التي تحته ويعزم عليه إن أبى، ويدعو أصحابه بأحب أسمائهم ويكنيهم، ولا يجلس إليه أحد وهو يصلي إلا خفف صلاته وسأله عن حالته فإذا فرغ عاد إلى صلاته، كان يركب الحمار وربما ركبه عريانا ويردف خلفه وكان يجلس على الأرض ويحب السواك ويكتحل بالإثمد عند النوم ثلاثا في كل عين، وحج على رحل رث عليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم وقال: «اللهم اجعله حجا مبرورا لا رياء فيه ولا سمعة»، وكان غالب ما يلبس هو وأصحابه ما نسج من القطن وربما لبسوا ما نسج من الصوف والكتان، يحلب شاته ويخصف نعله ويرقع ثوبه ويخدم نفسه ويقم البيت، ما يُرى فارغا قط في بيته، ويأكل مع الخادم ويطحن معه ويحمل بضاعته من السوق، ويحب الطيب ويأمر به، ويأمر أصحابه بالمشي أمامه، توفي ودرعه مرهونة عند يهودي على نفقة عياله، ما شبع ثلاثة أيّام تباعا من خبز البر حتى فارق الدنيا، وما أكل خبزا منخولا وكان يبيت الليالي المتتابعة طاويا، وما أكل على خوان قط إنما كان يأكل على السفرة وربما وضع طعامه على الأرض، لا يجمع في بطنه بين طعامين، إن أكل لحما لم يزد عليه وإن أكل تمرا لم يزد عليه وإن أكل خبزا لم يزد عليه، وكان يصلي على الحصير وعلى الفروة المدبوغة وربما نام على الحصير فأثرت في جسده الشريف، وكان ينام على شيء من أدم محشو ليفا.

وكان أفصح الناس وأعذبهم كلاما وأسرعهم أداء وأحلاهم منطقا حتى إن كلامه يأخذ بالقلوب ويسبي الأرواح، وكان إذا تكلم تكلم بكلام مفصل مبين يعده العاد، ليس بهذر مسرع لا يحفظ، ولا متقطع تخلله السكتات بين أفراد الكلام، لم يكن بكاؤه بشهيق ورفع صوت كما لم يكن ضحكه بقهقهة، وكان يبكي أحيانا في صلاة الليل.

وخطب رسول الله على الأرض وعلى المنبر وعلى البعير وعلى الناقة، وكان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش، وكان لا يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله، وكان إذا صعد المنبر أقبل بوجهه على الناس ثم قال: السلام عليكم ويختم خطبته بالاستغفار، وكان كثيرا ما يخطب بالقرآن وإذا قام يخطب أخذ عصا فتوكأ عليها وكان أحيانا يتوكأ على قوس ولم يحفظ عنه أنه توكأ على سيف.

ولم يكن يفجأ أهله عند دخوله إلى المنزل بغتة يتخونهم، ولكن كان يدخل على أهله على علم منهم بدخوله، وكان يسلم عليهم وكان إذا دخل بدأ بالسؤال أي سأل عنهم، وربما قال هل عندكم من غداء وربما سكت حتى يحضر بين يديه ما تيسر، وكان إذا دخل على أهله بالليل يسلم تسليما لا يوقظ النائم ويسمع اليقظان، وإذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول: السلام عليكم السلام عليكم، لم يكن يرد السلام بيده ولا رأسه ولا أصبعه.

وكان إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بها وجهه، وكان أكثر دعائه: «يا مقلّب القلوب ثبت قلبي على دينك» وكان إذا أصابه غم أو كرب يقول: «حسبي الرب من العباد، حسبي الخالق من المخولقين، حسبي الرازق من المرزوقين، حسبي الذي هو حسبي حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله لا إله إلا الله هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم»، وإذا اجتهد في الدعاء قال: «يا حيُّ يا قيوم» وإذا أراد أمرا قال: «اللهم خِرْ لي واختر لي» وإذا جاءه أمر يُسَرُّ به خرّ ساجدا شكرا لله عز وجل، وكان يعجبه أن يدعى الرجل بأحب أسمائه.

وإذا عزّى قال: «يرحمه الله ويؤجركم»، وإذا هنأ قال: «بارك الله لكم وبارك الله عليكم»، وإذا أراد سفرا قال: «اللهم بك أحول وبك أسير»، وإذا سمع المؤذن قال مثل ما يقول حتى إذا بلغ حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح قال: «لا حول ولا قوة إلا بالله».

الشمائل المحمدية

عاش رسول الله ثلاثة وستين عاما وبدأ دعوته بعد سن الأربعين أي أنه ظل يكافح ويجاهد ثلاثا وعشرين سنة في القضاء على الوثنية ونشر تعاليم الإسلام والحضارة المؤسسة على التوحيد والفضيلة، فكانت ساعات عمره شهورا وشهوره أعواما وأعوامه أجيالا، كان يجاهد بلسانه وسيفه ويعلم أصحابه وأتباعه أمور الدين ويؤدبهم ويهذبهم بالفعال والأقوال والاقتداء بسيرته النقية الطاهرة ويرشدهم إلى صلاح الدنيا والآخرة ويحذرهم ارتكاب المعاصي ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر وينطق في أحاديثه بالحكم وجوامع الكلم التي لم يسبق إليها أحد من البشر، ويقود أصحابه إلى ساحات الوغى وينظم الجيوش ويصدر الأوامر للقواد ويحثهم على الجهاد والصبر، ويدبر لهم الخطط الحربية ويحكم بين الناس بالعدل، فكان معلما ومربيا ومؤدبا وواعظا ومرشدا وبشيرا ونذيرا وخطيبا وإماما وأبا بارا وأخا صادقا وقائدا ومشرعا وقاضيا، وإذا دخل منزله علم نساءه وأحسن عشرتهن ووفّق بينهن، وإذا خلا إلى نفسه انقطع إلى عبادة ربه والتضرع إليه حتى لا يطيق أحد أن يجاريه في صلواته ودعواته مهما اجتهد، وإنا نرى أعظم الناس قوة واقتدارا إذا انصرف إلى أمور الدنيا أو النظر في الشؤون العامة، فرط في العبادة أو لم يستطع أداءها على الوجه الأكمل، ومن انصرف إلى العبادة، أهمل النظر في شؤون أهله وعشيرته ولفظ الدنيا، أما رسول الله فقد جمع بين الدين والدنيا وفاز بالسعادتين بدرجة فاقت القوة البشرية، لذلك تم على يديه في تلك السنوات القليلة ما عجزت عنه الأمم بأسرها في قرون.

إن من يطالع سيرة رسول الله بإمعان ويفكر في أخلاقه وفي تلك الشخصية العظيمة ويتصور كيف أنه كان متصفا بمجموع تلك الأخلاق السامية ليعترف بأنه عليه السلام سيد الخلق حقيقة.

كانت أخلاقه عليه السلام غير متكلفة لأن المتكلف لا يدوم أمره طويلا بل يرجع إلى الطبع وهذا ما أكسبها عظمة وجلالا.

قالوا: إن الخلق ملكة نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة، والإتيان بالأفعال الجميلة شيء وسهولة الإتيان بها شيء آخر فالحالة التي باعتبارها تحصل تلك السهولة هي الخلق.

فلم يك رسول الله يتكلف شيئا من الفضائل أصلا، ثم إن اجتماع الفضائل في شخص واحد مع عدم التكلف أمر خارق للعادة لأن الإنسان مخلوقة فيه شهوات لا يمكن أن يردها إلى حد الاعتدال من غير إفراط أو تفريط إلا إذا عوّد نفسه سنين عديدة واجتهد وقد لا يستطيع.

والعاقل إذ شعر بنقيصة فيه وأراد محاربتها ومحوها بالتعود وقوة الإرادة كان لا بد من مرور زمن طويل حتى تزول وتنمحي، وهو في أثناء محاربتها عرضة لأن تظهر عليه تلك النقيصة أو آثارها من حين لآخر وبالرغم منه، وعند ذلك يلاحظها الناس فيه فإن كان رجلا عظيما أثبتوها عليه في تاريخ حياته فيقولون مثلا كان بخيلا ثم اعتاد السخاء أو جبانا فتشجع بمعاشرة الشجعان والاقتداء بهم.، الخ.

ولم نرَ إنسانا له نقيصة واحدة فقط مع كثرة تجاربنا ومعاشرتنا الناس، نعم قد يتوهم كل إنسان أنه كامل لا عيب فيه ولا نقص، لأن العين لا ترى نفسها إلا بطريق المرآة ومرآة الإنسان أصدقاؤه وخلانه ومعاشروه، ثم إن اعتقاد المرء بكماله وتنزهه عن القبائح والرذائل يمنعه من الاطلاع على عيوبه وهفواته وسقطاته وإن كانت كثيرة، ولو أنه سمع رأي الناس فيه وإن كانوا أقل منه منزلة لتبين له كثير من المساوىء التي كانت خافية عليه بسبب اعتقاده الكمال في نفسه.

نقول ذلك إذ قد يعترض علينا أحد فيقول إنك لم تر إنسانا له نقيصة واحدة فقط مع أني لا أذكر لنفسي عيوبا تؤخذ عليَّ وكل الناس يمدحونني ويوقرونني، فهذا القول إنما هو ادعاء رجل محجوب أعمى، فالأولى أن يسأل عن عيوبه حتى يهتدي إليها فيصلحها، قال أبو بكر الصديق وهو ممن لايخفى على أحد علمه وفضله وصدقه وإخلاصه وتقواه: «رحم الله امرأ أهدى إليَّ عيوبي» يعني أن له عيوبا يريد الاهتداء إليها، والناس الآن قد بلغ بهم الغرور والكبر والزهو ما جرأهم على القول بتنزههم عن المعايب، لذلك حرموا من إصلاح أنفسهم.

الخلو من المعايب واجتماع الفضائل في شخص فرد من المستحيلات إلا إذا خُلق الإنسان معتدل المزاج، معتدل الشهوات، صحيح الجسم، صحيح العقل، قوي الأعصاب من نسل سليم، ليس له وراثة مرضية، خاليا من مطامع المادة، ومثل هذا الشخص لم يوجد.

أما اعتقاد الإنسان الكمال في نفسه فهذا من حبه لذاته، ومن أحب ذاته أحب كمال ذاته وأحب أن يوصف بصفات الكمال، وهذه غريزة تظهر في الأطفال،فإنك إذا مدحت طفلا صغيرا بما يفهم ظهرت على ملامحه سيماء السرور، فإن كان قبيح المنظر ووصفته بالجمال أمَّن على كلامك وابتسم.

وقد سأل شاعر عن رجل خال من كل عيب لأنه لم يجد إنسانا كاملا فقال:

من ذا الذي ما ساء قط ** ومن له الحسنى فقطْ

فسمع هاتفا يقول:

محمدُ الهادي الذي ** عليه جبريلُ هبطْ

وقال حسان بن ثابت يصف رسول الله بقوله:

خُلقت مُبَرَّأ من كل عيب ** كأنك قد خُلقت كما تشاء

فالذي خُلق مبرّأ من كل عيب إنما هو رسول الله كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه، أما أولو الفضل من الناس فكفى أن تعد معايبهم على حد قول الشاعر:

ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها ** كفى المرء نبلا أن تُعد معايبُه

اجتمعت الفضائل في رسول الله وتنزه عن المعايب لأن الله سبحانه وتعالى اصطفاه من بين خلقه لتبليغ رسالته وطهره من الأرجاس وحفظه من كل سوء وعلّمه وهذبه وأدّبه ليكون قدوة يقتدي الناس به في دينهم ودنياهم، قال عليه الصلاة والسلام: «أدّبني ربي فأحسن تأديبي» فأين نحن ممن أدبه ربه فأحسن تأديبه ثم أثنى عليه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4).

قال رسول الله: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وبديهيّ أن الذي بعث ليتمم مكارم الأخلاق لا بد أن يكون أتم الناس خلقا، فإن من كان به نقص أو عيب لم يصلح للقيام بمهمة إتمام مكارم الأخلاق.

عن قتادة: سألت عائشة عن خلق رسول الله فقالت: «كان خلقه القرآن»، يعني التأدب بآدابه والتخلق بمحاسنه والالتزام بأوامره وزواجره.

لقد جمعت عائشة رضي الله عنها أخلاق رسول الله في هذه الجملة الوجيزة، لأنها لو أرادت أن تذكر أخلاقه وصفاته بالتفصيل لما استطاعت، فأحالت السائل إلى القرآن وما فيه من آداب وخلق وفضل ومعاملات.، الخ.

وقال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} (النساء: 113)، وقال: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيما} (النساء: 113).

وقد ذكرت في القرآن الكريم أسماؤه وكلها نعوت ليست أعلاما محضة لمجرد التعريف بل أسماء مشتقة من صفات قائمة به توجب له المدح والكمال، فمنها «محمّد» وهو أشهرها وهو اسم مفعول من حُمِّد فهو محمد إذا كان كثير الخصال التي يحمد عليها، وأحمد مشتق من الحمد أيضا، ومعناه أحمد الحامدين لربه، وقال بعضهم: أحق الناس وأولاهم بأن يحمد فيكون كمحمد في المعنى، وهذان الاسمان اشتقا من أخلاقه وخصاله المحمودة التي لأجلها استحق أن يسمى محمدا وأحمد هو الذي يحمده أهل السماء وأهل الأرض وأهل الدنيا والآخرة لكثرة خصاله المحمودة التي تفوق عد العادين وإحصاء المحصين.

ومن أسمائه البشير فهو المبشّر لمن أطاعه بالثواب، والنذير المنذر لمن عصاه بالعقاب، وقد ثبت عنه في الصحيح: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» أي ولا فخر أعظم من ذلك وسماه الله سراجا منيرا، وسمى الشمس سراجا وهّاجا، والمنير هو الذي ينير من غير إحراق بخلاف الوهَّاج فإن فيه نوع إحراق.

قال أنس رضي الله عنه: كان أحسن الناس خلقا وكان عليه الصلاة والسلام أرجح الناس حلما، وقال أيضا: خدمت رسول الله عشر سنين فما قال لي أفّ قط، وما قال لشيء صنعتُه لِمَ صنعته ولا لشيء تركته لِمَ تركته.

هذا ما قاله أنس رضي الله عنه خادم رسول الله فهل يستطيع إنسان عنده خادم أن يعامله بمثل هذه المعاملة؟ مَن ذا الذي لا يقول لخادمه أفّ وهي أقل ما يعبّر عن الاستياء وعدم الرضا والسخط؟ ومَن ذا الذي لا يعارض ولا ينهر ولا يشتم الخادم؟ وهؤلاء الأدباء والعلماء والفلاسفة والأمراء والوجهاء، نراهم يسيئون معاملة خدمهم بل معاملة أصدقائهم وأقاربهم، إذن هذه صفة كمالٍ لا يمكننا بلوغها.

(عفوه وحلمه)

ورُوِي أنه لما كسرت رباعيته وشج وجهه يوم أُحد شق ذلك على أصحابه وقالوا لو دعوت عليهم، فقال: «إني لم أُبعث لَعَّانا ولكني بُعِثتُ داعيا ورحمة، اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون» فبدلا من أن يدعو عليهم لاعتدائهم عليه، دعا لهم بالهداية، وهذا منتهى الحكمة وحُسن الخلق.

والذي نعلمه من خلق الناس حتى أكابر القوم أن الواحد منهم لا يتحمل أن يوجه إليه أحد كلمة تخدش إحساسه ولو عفوا، بل يغضب ويحقد وينتقم ويدبر الخيل للكيد وينتهز الفرص للإيقاع به، فأين هذا الخلق ممن كسرت رباعيته فقابل الإساءة بالإحسان.

وقد عفا رسول الله عمن شهر السيف عليه يريد قتله، وعن اليهودية التي سمته في الشاة بعد اعترافها ولم يؤاخذ اليهودي الذي سحره، كل ذلك وهو قادر على توقيع أقسى العقوبة عليهم، فهل بعد ذلك حلم وعفو؟ إنه ما كان يغضب لنفسه ولا ينتصر لها وإنما يغضب إذا انتهكت حرمات الله.

(كرمه)

وكان أسخى الناس كفا ما سئل شيئا فقال لا، وعن صفوان بن أمية قال: أعطاني رسول الله يوم حنين وإنه لأبغض الناس إليّ، فما زال يعطيني حتى أنه لأحبّ الناس إليّ، ولما رأى صفوان كثرة ما أعطاه رسول الله، قال: والله ما طابت بهذا إلا نفس نبيّ، فأسلم، وكان الذي أعطاه رسول الله لصفوان غنما ملأت واديا بين جبلين وأعطى العباس من الذهب ما لم يطق حمله، وحملت إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير ثم قام إليها يقسمها فما رد سائلا حتى فرغ منها وقسَّم الأموال في غزوة حنين فأعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس فأعطى أبا سفيان بن حرب 40 أوقية من الفضة و 100 من الإبل وكذا بنيه يزيد ومعاوية، وأعطى حكيم بن حزام 100 من الإبل ثم سأله أخرى فأعطاه إيَّاها، وأعطى النضر بن الحارث بن كلدة 100 من الإبل وكذا أسيد بن جارية الثقفي والحارث بن هشام وصفوان بن أمية وقيس بن عدي وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى والأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن مالك بن عوف، وأعطى العباس بن مرداس 40 من الإبل، فقال في ذلك شعرا فأعطاه 100 من الإبل، وأعطى مخرمة بن نوفل 50 بعيرا وكذا العلاء بن حارثة وسعيد بن يربوع وعثمان بن وهب وهشام بن عمرو العامري، فبلغ ما أعطاه (14850) من الإبل.

تدبروا في هذه العطايا الطائلة التي يبذلها رسول الله عن طيب نفس وهو لا يملك شيئا ولا يحمل منها إلى بيته درهما ولا يقتني شيئا وقد يبيت طاويا هو وأهله، لا يجد ما يأكل ويعطي العباس من الذهب ما لا يطيق ويهب المؤلفة قلوبهم من الإبل ما يذهل ألبابهم ويسلب عقولهم ولما رأى صفوان كثرة ما أعطاه رسول الله انبهر وأسلم.

سائلوا أنفسكم واسألوا أكرم إنسان تعرفونه أو تسمعون عنه، هل تسمح له نفسه بمثل هذه العطايا العظيمة الجزيلة مع حرمان شخصه منها كل الحرمان؟ ليس أحد من البشر يبذل مثل هذا البذل ويحرم نفسه، نعم إن في الناس أصحاب الملايين كما في أمريكا، لكنهم إن بذلوا شيئا من الأموال في سبيل الخير أبقوا لأنفسهم أضعاف أضعافه، وتمتعوا بجميع أنواع اللذات التي قد لا تخطر لنا ببال، هذا شأن من اتصفوا بالكرم وعرفوا بالبذل من سائر الخلق، أما الأغنياء الذين يكنزون المال ويعضون عليه بالنواجذ، ولا يجودون بشيء منه إلا مضطرين مرغمين فلا نُعنَى بالتكلم عنهم لأنهم خارجون عن دائرة بحثنا فلا نفكر فيهم، بل هم أقل شأنا من أن نذكرهم فهل أدركتم بعد ذلك أن كرم رسول الله لا يعادله كرم ولا يصل إليه أحد؟.

(شجاعته)

قال عليُّ بن أبي طالب وهو من عُرف بالشجاعة: «كنا إذا حمي الوطيس أو اشتد البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله فما يكون أحد أقرب من العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله يومئذ وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأسا، وقيل: كان الشجاع هو الذي يقرب منه لقربه من العدو، وفي غزوة أُحد لما انهزم المسلمون ثبت رسول الله إلى النهاية.

أي شجاعة أعظم من شجاعة رسول الله لندع الغزوات والانتصار فيها، فقد فتح جزيرة العرب وقاد الجيوش، واحتمل الجوع والبرد والحر وقطع الطرق الوعرة والمسافات الشاسعة ولم ترهبه كثرة عدد العدو وسلاحه، لندع كل ذلك فإن هناك مواطن ومواقف تستلزم من الشجاعة ورباطة الجأش ما هو أعظم من مواطن القتال والنزال، ذلك أنه قام يدعو إلى الإسلام وحده، وينشر الدين وحده وبقي متمسكا بمبدئه لا يحيد عنه قيد أنملة متبعا الأوامر الإلهية مجتنبا النواهي بكل دقة، مجاهدا في سبيل الله ونصرة المبدأ، متحملا الإهانات والأذى والاضطهاد والهجرة وقتل الأصدقاء والأقارب والتمثيل بهم ولك ما يتصوره العقل البشري من ضروب الآلام والمشقات والمتاعب والمصاعب إلى أن فاز بالنصر المبين، فهل هناك شجاعة تعدل شجاعة رسول الله يقولون: إن الشجاعة صبر ساعة، وحياته من مبدأ رسالته إلى أن توفاه الله تعالى صبر متوال يستنفد شجاعة الشجعان وصبر الصابرين ولا يطيقه أحد من خلق الله، ومن ذا الذي يطيق أن يشغل عقله وجسمه وجميع مواهبه ليل نهار طول هذه السنين وأن يكون دائم الحركة دائم الفكر في تعليم الناس وتهذيبهم والقضاء بينهم وسياسة أمورهم وقيادة جيوشهم ووضع الخطط الحربية، وتوزيع الغنائم والنظر في شؤونهم الدينية من عبادات ومعاملات ومقابلة الوفود والتحدث إليهم إلى غير ذلك مما يطول بنا ذكره؟.

إن هذا السفر مهما كثرت صفحاته لا يتّسع لذكرشمائل رسول الله بالتفصيل ويكفينا هذا القدر فإن ما لا يدرك كله لا يترك جلّه.

اتباع التعاليم الإسلامية

علينا معاشر المسلمين أن نتمسك بالشريعة الإسلامية الغراء ونقتدي بأخلاق رسول الله حتى نصل إلى أوج السعادة في الدارين، وإن من تمعن في كتاب الله يجد أنه حوى مكارم الأخلاق، فقد حث على الفضائل والآداب السامية ونهى عن الرذائل والدنايا، والمدنية الحديثة مع ما بلغته من الرقي في العلوم والآداب فإنها لا تعد شيئا في جانب تعاليم الإسلام النقية الطاهرة، فنحن أحق بالاتّصاف بكل فضيلة والابتعاد عن كل رذيلة من أي أمة أخرى.

لقد قضى المسلمون على مخازي الوثنية وآفات الجاهلية، وفتح الله عليهم وسادوا الأمم ونشروا العلوم بفضل عقيدتهم وبما اتصفوا به من صفات الرجولة والأخلاق القوية التي استفادوها من القرآن الكريم وتعاليم رسول الله

إن من المحزن حقا أن نرى الآن تدهور الأخلاق وانتشار الفساد والتهاون بأنواعه: تهاونا في إقامة الشعائر الدينية، تهاونا في اكتساب العلوم ومنافسة الأمم، تهاونا في الحقوق الوطنية، تهاونا في الذود عن كرامة الأمة والأسرة.

من المحزن حقا أن نرى فتورا في الهمم وتقصيرا في الواجبات واستهتارا بالفضائل وإقداما على اقتراف الرذائل، ومباهاة بالجرائم والمخازي والفضائح.

هل كان سلفنا الصالح يتركون بلادهم طعمة ونهبا لكل طامع ولا يحركون ساكنا؟ هل كانوا يتخاذلون ويتباغضون ولا يتعاونون؟ هل كانوا لا يشفقون على الضعفاء والمساكين ولا يبرون الأقارب ولا يعودون المرضى ولا يغيثون الملهوفين؟ هل كانوا جامدي الإحساس لا يشعرون بمصائب الناس؟ هل كانوا يكتمون الحق ولا يحاربون الباطل ولا ينصفون المظلوم، ولا يضمدون جراح المكلوم؟ هل كانوا يغفلون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويدعون أنهم عاجزون مقهورون لا حول لهم ولا قوة؟ ثمّ يتركون حبل الأمور على غاربها طمعا في ربح قليل أو كثير وحبا في المناصب والجاه وتعلقا بزخارف الدنيا الزائلة إنهم لو فعلوا ذلك لما قامت لهم قائمة وما كان لهم ذلك الأثر المجيد في تاريخ الدنيا.

إن الأجانب قد درسوا حالتنا الاجتماعية وما وصلنا إليه من انحطاط وجهالة وخور في العزائم، وأخيرا حكموا بأن هذا راجع إلى جوهر ديننا وتعاليمه لينفرونا منه ويصدونا عنه لئلا ترجع إلى الإسلام شوكته الأولى وعزه القديم، وقد اغتر بكلامهم بعض قصار النظر من المسلمين فعززوا آراءهم وطعنوا على الدين طعنات شتى زاعمين أنهم مصلحون، وهم في الحقيقة مفسدون يخربون بيوتهم بأيديهم، ويا ليتهم وقفوا عند هذا الحد، بل حللوا المحرمات ونشروا الفساد وروّجوا الضلال وتعلقوا بمظاهر المدنية الغربية من خمور وفجور ولهو وخلاعة وإباحية وما دروا أن علماء الغرب وعقلاءهم ساخطون ناقمون على انتشار الفساد، وقد صرحوا مرارا وتكرارا أن هذه المساوىء منذرة بسقوط الأمم، مؤذنة بخرابها مع أنها الآن في غاية القوة والمنعة.

ألا إن معاول الهدم أقوى أثرا وأسرع فعلا من مجهودات المصلحين، فاتقوا الله فيما تكتبون وتخطبون وتصرحون. أقيموا بناء المجد التالد وتزودوا من العلم النافع فإن من العلم ما هو أشد ضررا من الجهل، ومن لم يفده العلم فقد باء بخسران مبين، ولا تجاروا الناس في أهوائهم طمعا في الاشتهار بينهم والتقرب إليهم، هذا ما أردت أن أكتبه بشأن ما لاتِّباع التعاليم الإسلامية من الأهمية، وهذه نصيحتي الخالصة للمسلمين عامة.

الاقتداء بأخلاق رسول الله

يجب على المسلمين الاقتداء بأخلاق رسول الله لأنه خير قدوة لنا، قال ذو النون المصري: من علامات المحب لله عز وجل متابعة حبيب الله في أخلاقه وأفعاله وأوامره وسننه، وأنا أورد هنا بعض صفاته التي اكتسبناها من سيرته وننبه على التحلي بها وذلك بغاية الاختصار.

1 - كان رسول الله نقي الثوب.

إن النظافة من الإيمان فالمسلم يجب عليه أن يكون نظيف الثياب والأعضاء، إذ الوضوء فرض والغسل فرض، وقد قال تعالى لرسول الله: {وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ} (المدثر: 4)، هذا ما يأمرنا به ديننا وكان النبي يعتني بنظافة الظاهر كما يعتني بنظافة الباطن ويحث على استعمال السواك وطهارة الفم والأسنان ويتطيب ويمشط شعر رأسه ولحيته ويَقُمُّ بيته بنفسه أي يكنسه، والناس يستنكفون من مباشرة نظافة البيت، فتأمل.

2 - لا يقول هُجرا ولا ينطق هذرا.

وما أكثر قول الهجر والهذر عندنا، وما أكثر الماجنين والسبابين، فهلا اقتدينا برسول الله وتأدبنا بأدبه في الكتابة والقول وجانبنا الهجر والسب واللعن.

3 - لا يقطع على أحد حديثه.

فانظر أيها المسلم إلى هذا الأدب والحلم وسعة العقل، فكثرة الكلام وقطع الحديث على المتكلم والهذر والمزاح البارد والغيبة والنميمة والمراء ليس من خلق الإسلام ولا من المروءة.

4 - يتفقد أصحابه ويسأل عنهم.

لا فرق في ذلك بين كبير وصغير غني وفقير، لكن الناس يخصون الأغنياء بالسؤال عنهم، ويتكبّر الأغنياء على الفقراء ويتعاظمون عليهم ويرون أنهم من طينة غير طينتهم، ومن هذا نشأت العداوة والبغضاء وتفككت روابط الأسر والأمة، وقد كان رسول الله مؤلفا للقلوب فيصل من قطعه ويعطي من حرمه ويعفو عمن ظلمه ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق والمسألة ويعود المريض ويشهد الجنائز.

5 - إذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس.

أين هذا الخلق الكريم المتواضع من الذين دأبهم التصدر في المجالس بحق وبغير حق وسواء كان المجلس خاليا أم مكتظا، إن الناس يظنون أن التواضع ضعة وضعف لكن في التواضع رفعة، ولن يسود إنسان بالفظاظة والغلظة.

6 - كان أسخى الناس كفا.

وإنا نذكِّر الناس أن البخيل ممقوت وقد قال بعضهم: إن البخل من سوء ظن المرء بالله، ولا نعلم أن بخيلا أحبه الناس واحترموه:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ** فطالما استعبد الإنسان إحسان

7 - لم يُرَ قط مادا رجليه بين أصحابه.

لكنا الآن نفعل كل ما يخالف الآداب بلا اكتراث ظنا منا أن ذلك من الحرية، لكن الحرية في المجتمع لا تكون من طرف واحد، بل يجب مراعاة إحساس الأصدقاء والناس، فالأولاد يجب عليهم التأدب في حضرة آبائهم ومعلميهم وأقرانهم كما أنه على الآخرين مراعاة الأدب معهم للاقتداء بهم ومحبتهم.

8 - كان يخدم نفسه.

ومن ذلك أنه كان يخصف نعله ويرفع ثوبه ويحمل حاجته ويكنس بيته ويحلب الشاة، وهذا اعتماد على النفس فليؤد كل عمله غير معتمد على غيره ولا مستنكف من العمل مهما كان، وإذا كان رسول الله - وهو سيد الخلق والمسلمون أطوع إليه من بنانه - يكنس بيته بنفسه فهل يستنكف أحد منا مزاولة أي شأن من شؤون الحياة وهل تستنكف سيدة البيت أن تخدم نفسها وزوجها وأولادها ظنا منها أن ذلك مما لا يليق بها لغناها وترفها وحسن هندامها إن الاعتماد على النفس هو القوة والبطولة والرقي والاستقلال.

9 - قال «إذا عمل أحدكم عملا فليتقنه».

لما سُوِّيَ جدث ابنه إبراهيم رأى حجرا في جانب الجدث فجعل يسويه بأصبعه ويقول: «إذا عمل أحدكم عملا فليتقنه فإنه مما يسلي نفس المصاب».

الإتقان أيها المسلمون الإتقان، فلا تستهينوا بالأعمال ولا يستصغرنَّ أحدكم أمرا مهما قلَّ شأنه، فالعلم يحتاج إلى الإتقان والصناعة تحتاج إلى الإتقان والتجارة تحتاج إلى الإتقان، والنظام الذي هو أساس الحضارة والعمران ما هو إلا الإتقان؟ وما سوى ذلك فهو إهمال وتقصير يؤديان إلى الانحطاط والارتباك والخراب.

10 - كان رسول الله يستشير أصحابه.

قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ} (آل عمران: 159)، إن الله سبحانه وتعالى أمر رسوله وهو سيد الخلق وأرجح الناس عقلا وأغزرهم علما وأسدهم رأيا أن يستشير أصحابه ولا ينفرد برأيه، قال الضحاك: «أمره بمشاورتهم لما علم فيها من الفضل»، وقال الحسن البصري: «أمره بمشاورتهم ليستن به المسلمون ويتبعه فيها المؤمنون وإن كان عن مشورتهم غنيا».

فالاستبداد بالرأي مناف للإسلام كما رأيت وهو من علامات الكبر والغطرسة وليس في الاستشارة أي ضعف بل إنها دليل على العقل وبعد النظر والرغبة في الإصلاح والإسلام من مبدئه يقدر فوائد الاستشارة ويعمل بها.

11 - الثبات على المبدأ.

إن من تصفح سيرة الرسول يتضح له أنه لم يتحول عن مبدئه قيد أنملة واحتمل إيذاء المشركين بكل صبر ولم يذق للراحة طعما في سبيل نشر الدين ولم يقبل ما عرضته عليه قريش من ملك ومال وجاه، فما كانت نتيجة ثباته على المبدأ؟ كانت النتيجة أنه هزم المشركين وفتح بلادهم وهدم الأصنام ونشر الإسلام وتوفي بعد أن بلغ رسالات ربه بكل أمانة وبعد أن قام بالواجب عليه خير قيام فليعتبر المسلمون بينهم وليقتدوا به في جميع أمورهم ليفوزوا بنعيم الدارين.

معجزات رسول الله

المعجزة هي الأمر الخالق للعادة المقرون بالتحدي، وسُميت معجزة لعجز البشر عن الإتيان بمثلها، وهي تدل على صدق من ظهرت على يديه، وشرط تسميتها معجزة أن تظهر على يد مدعي الرسالة على طبق دعواه.

إن أكثر معجزات رسول الله متواترة رواها جمع وكانت تظهر في مواطن اجتماعهم وفي محافل المسلمين ومجتمع العساكر والجند ولم ينقل عن أحد من الصحابة مخالفته ولا إنكار من روى ذلك.

معجزة القرآن

من أعظم دلائل نبوته القرآن الكريم، فقد تحدى العرب بما فيه من الإعجاز ودعاهم إلى معارضته والإتيان بسورة من مثله فعجزوا عن الإتيان بشيء مثله مع أنه كان أميا وكانت قريش أهل البلاغة والفصاحة والشعر وكانوا يرتجلون الكلام البليغ في المحافل ارتجالا قال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88)، ولم يقتصر إعجاز القرآن على نظمه وبلاغته بل تعداه إلى ما حواه من حكم وأخلاق ودين وتشريع وعلوم عقلية وأخبار عن الأمم الماضية وأخبار بالغيوب مع ما كان معروفا من حال النبي من أنه كان أميا لا يكتب ولا يقرأ، وقد اعترف أهل الفصاحة والبلاغة بأن القرآن ليس من كلام البشر ولم يقدر أحد على معارضته ومنهم عتبة بن ربيعة فإنه لما سمع القرآن من رسول الله رجع إلى قريش وقال: «والله لقد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا الكهانة، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ»، ومنهم الوليد بن المغيرة وكان المقدم في قريش بلاغة وفصاحة فإنه لما قرأ عليه رسول الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل: 90)، قال له: أعده فأعاده ذلك فقال: «والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما يقول هذا بشر وإنه ليعلو ولا يُعلى»، فقالت قريش: قد صبأ الوليد والله لتصبأن قريش كلها، أما أنيس أخو أبي ذر الذي ناقض اثني عشر شاعرا في الجاهلية فإنه رجع بعدما سمع القرآن من رسول الله وقال: رأيت رجلا بمكة يزعم أن الله أرسله، فقال له أبو ذر: فما يقول الناس فيه؟ قال: يقولون شاعر، كاهن، ساحر، لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، وقد وضعت قوله على أنواع الشعر فلم يلتئم ولا يلتئم على لسان أحد، وإنه لصادق وإنهم لكاذبون، وقد أسلم ضماد بن ثعلبة الأسدي عندما سمع رسول الله يقول:

«الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له»، وأسلم عمر بن الخطاب الذي كان من أشد الناس على رسول الله بعد أن قرأ القرآن في بيت أخته فاطمة بنت الخطاب، وقد تقدمت قصته، وأسلم كذلك الطفيل بن عمرو الدوسي وهو شاعر مشهور بعد أن تلا عليه رسول الله آيات من القرآن وقال: «والله ما سمعت قولا قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه» وقد أوردنا قصة إسلامه فلتراجع في موضعها.

ولما كان العرب أهل الفصاحة والبلاغة فقد كان المنصفون منهم يسلمون عند سماعهم القرآن من غير معارضة ولا مكابرة لأن الحق أحق أن يتبع، أما الذين في قلوبهم مرض فقد كانوا يبذلون كل جهد لمنع الناس من سماع رسول الله يتلو القرآن خشية أن يؤثر فيهم ويسلموا، وحكى أبو عبيدة أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر: 94)، فسجد وقال: «سجدت لفصاحة هذا الكلام»، وسمع أعرابي آخر رجلا يقرأ: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّا} (يوسف: 80)، فقال: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام، هذا ومعجزة القرآن باقية ما بقيت الدنيا وسائر معجزات الأنبياء ذهبت للحين ولم يشاهدها إلا الحاضرون.

وحكى الأصمعي أنه رأى جارية صغيرة السن بلغت خمس سنين أو ستا وهي تقول: أستغفر الله من ذنوبي كلها، قال الأصمعي: فقلت لها: ممّ تستغفرين وأنت صغيرة لم يجر عليك قلم؟ فقالت:

أستغفر الله لذنبي كله ** قتلت إنسانا لغير حله

مثل غزال ناعم في دَلِّه ** انتصف الليل ولم أصله

فقلت لها: قاتلك الله ما أفصحك فقالت: أتعد هذا فصاحة بعد قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى اليَمّ وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (القصص: 7).

فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين: فالأمران: أن أرضعيه وألقيه، والنهيان: ولا تخافي ولا تحزني، والخبران: وأوحينا فإذا خفت وقيل الخبران والبشارتان، إنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين فهو خبر من جهة وبشارة من جهة أخرى.

وقد حاول بعضهم معارضة القرآن فجاء كلامه سخيفا مضحكا، فمن ذلك قول مسيلمة الكذاب وهو عربي صميم «يا ضفدع كم تنقّين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الماء تكدرين ولا الشرب تمنعين» ولما سمع قوله تعالى: {وَالنَّزِعَتِ غَرْقا} (النازعات: 1) قال: «والزارعات زرعا والحاصدات حصدا والذاريات قمحا والطاحنات طحنا والحافرات حفرا والثاردات ثردا واللاقمات لقما، لقد فضلت على أهل الوبر وما سبقكم أهل المدر.. الخ»، ومن كلامه: «ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج من بطنها نسمة تسعى من بين شراسيف وأحشا»، وقال بعضهم: «الفيل وما أدراك ما الفيل، له ذنب وثيل ومشفر طويل وإن ذلك من خلق ربنا لقليل»، وهذا كلام لا طعم له ولا حلاوة فيه، خال من المعنى، يمجه كل ذوق ولا يتمالك سامعه من الضحك، وقد أراد بعضهم معارضة سورة الإخلاص فأخفق واعترته رقة في قلبه فتاب، وحاول ابن المقفع المعارضة فلم يستطع واعترف بإعجاز القرآن، والقرآن كله قليله وكثيره معجز.

وقد ورد في القرآن الإخبار بالمغيبات مما سبق ومما كان في وقت نزوله ومما سيقع بعد ذلك كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآء اللَّهُ ءامِنِينَ} (الفتح: 27)، وذلك قبل عام الحديبية وقوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ فِى أَدْنَى الأرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِى بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الاْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} (الروم: 2 - 4)، وقال تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ} (التوبة: 33)، وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ} (الحجر: 9)، وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرْضِ } (النور: 55) الآية، وقوله: {إِذَا جَآء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (النصر: 1) إلى آخرها، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67)، فلما نزلت هذه الآية منع رسول الله أصحابه من حراسته، هذه الآية تدل على صحة نبوة رسول الله إذ كانت من أخبار الغيوب لأنه لم يصل إليه أحد بقتل ولا قهر ولا أسر على كثرة أعدائه، وقوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (القمر: 45).

نزلت هذه الآية بمكة والمسلمون مستضعفون فلم يدروا ما هذا الجمع الذي سيهزم ولا المراد من الآية فلما كان يوم بدر وكان بعد سبع سنين من نزولها، لبس رسول الله درعه وهو يقول: «سيُهزم الجميع ويولون الدبر»، قال عمر رضي الله عنه: فعلمت المراد منها حينئذ.

وإني أنتهز هذه الفرصة فأنشر إلى العالم الإسلامي رأي عالم إنجليزي في رسول الله وهو مستر بوسورث سميث مؤلف كتاب (محمد والإسلام) آملا أن يتدبره القارىء بإمعان مع العلم أنه رجل مسيحيٌّ ولكنه منصف أبت عليه نفسه إلا تقرير الحقيقة بغض النظر عن أي اعتبار آخر، قال ما ترجمته:

(إن المعجزة الخالدة التي ادعاها هي القرآن، والحقيقة أنها لذلك، وإذا قدرنا ظروف العصر الذي عاش فيه واحترام أتباعه له احتراما لا حدّ له، ووازنّاه بآباء الكنيسة أو بقديسي القرون الوسطى لتبين لنا أن أعظم ما هو معجز في محمد - رسول الله - أنه لم يدَّع القدرة على الإتيان بالمعجزات، وما قال شيئا إلا فعله وشاهده منه في الحال أتباعه، ولم ينسب إليه الصحابة معجزات لم يأتها أو أنكر صدورها منه، فأي برهان على إخلاصه أقطع من ذلك؟.

وقد كان محمد يدعي إلى آخر حياته كما ادعى من مبدأ أمره أنه رسول الله حقا، وإني أعتقد أن الفلسفة العالية والمسيحية الصادقة ستعترف له بذلك يوما من الأيام».

انشقاق القمر

ومن معجزاته انشقاق القمر، وقد نطق به القرآن قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} (القمر: 1، 2).

وقد أجمع المسلمون على وقوع ذلك منه في زمنه عليه الصلاة والسلام وجاءت بذلك الأحاديث المتواترة من طرق متعددة تفيد القطع.

قال الفخر الرازي في «تفسيره»:

والمفسرون بأسرهم على أن المراد أن القمر انشق وحصل فيه الانشقاق ودلت الأخبار على حديث الانشقاق.

وفي الصحيح خبر مشهور رواه جمع من الصحابة، قالوا: سئل رسول الله آية الانشقاق بعينها معجزة فسأل ربه فشقه، وقال بعض المفسرين: المراد سينشق وهو بعيد ولا معنى له، لأن من منع ذلك وهو الفلسفي يمنعه في الماضي والمستقبل ومن يجوّزه لا حاجة به إلى التأويل، وإنما ذهب إليه الذاهب لأن الانشقاق أمر هائل، فلو وقع لعم وجه الأرض فكان ينبغي أن يبلغ حد التواتر، نقول: النبي لما كان يتحدى بالقرآن وكانوا يقولون إنا نأتي بأفصح ما يكون من الكلام وعجزوا عنه، فكان القرآن معجزة باقية إلى قيام القيامة لا يتمسك بمعجزة أخرى، فلم ينقله العلماء بحيث يبلغ حد التواتر، وأما المؤرخون فقد تركوه لأن التواريخ في أكثر الأمر يستعملها المنجم وهو لما وقع الأمر قالوا بأنه مثل خسوف القمر وظهور شيء في الجو على شكل نصف القمر في موضع آخر فتركوا حكايته في تواريخهم، والقرآن أدل دليل وأقوى مثبت له وإمكانه لا يشك فيه، وقد أخبر عنه الصادق الأمين فيجب اعتقاد وقوعه، وحديث امتناع الخرق والالتئام حديث اللئام وقد ثبت جواز الخرق والتخريب على السموات وذكرناه مرارا فلا نعيده.

وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت، وإن القمر قد انشق على عهد نبيّكم.

وقال الزمخشري في «تفسيره»:

انشقاق القمر من آيات رسول الله ومعجزاته النيِّرة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن الكفار سألوا رسول الله آية فانشق القمر مرتين، وكذا عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما، قال ابن عباس: انفلق فلقتين فلقة ذهبت وفلقة بقيت، وقال ابن مسعود: رأيت حراء بين فلقتي القمر، وعن بعض الناس أن معناه ينشق يوم القيامة، وقوله: {وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ}، يرده وكفى به رادّا، وفي قراءة حذيفة: وقد انشق القمر، أي اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أن القمر قد انشق، كما تقول أقبل الأمير وقد جاء المبشر بقدومه.

وفي «تفسير الطبري»: وقوله: وانشق القمر يقول جل ثناؤه وانفلق القمر، وكان ذلك فيما ذكر على عهد رسول الله وهو بمكة قبل هجرته إلى المدينة وذلك أن كفار أهل مكة سألوه آية فأراهم انشقاق القمر حجة على صدق قوله وحقيقة نبوته فلما أراهم أعرضوا وكذبوا وقالوا: هذا سحر مستمر، سحرنا محمد فقال الله جل ثناؤه: {وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الآثار وقال به أهل التأويل.

وحدث أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر مرتين، وعن عبد الله قال: انشق القمر ونحن مع رسول الله بمنى حتى ذهبت منه فرقة خلف الجبل، فقال رسول الله «اشهدوا»، وعن عبد الله أيضا قال: انشق القمر على عهد رسول الله فصار فرقتين فقال رسول الله لأبي بكر: «اشهد يا أبا بكر»، فقال المشركون: سحر القمر حتى انشق، قال القسطلاني شارح البخاري: وهذه معجزة من أمهات المعجزات الفائقة على معجزات سائر الأنبياء لأن معجزاتهم عليهم السلام لم تتجاوز الأرضيات.

وكان انشقاق القمر قبل الهجرة بخمس سنين.

فانشقاق القمر ثابت بنص القرآن، أما من قال بأن المراد أنه سينشق، فهو إما منكر للمعجزات حتى المذكورة في القرآن، وإما أنه لا يفهم اللغة العربية فقد قال تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} (القمر: 2، 3)، لأن الكفار لما رأوا انشقاق القمر بعد أن سألوا رسول الله كابروا وقالوا: إنه سحر مستمر، ولو كانت الآية تدل على أن القمر سينشق لما كان هناك معنى قوله: وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر، والآية هي معجزة الانشقاق والذين أنكروها بعد رؤيتها هم كفار قريش، وكان ذلك دأبهم، وقد روى أحاديث الانشقاق أهلُ السنن كالبخاري ومسلم والإمام وأحمد والبيهقي وبقية أهل السنن وقد ذكرنا تفسير كبار المفسرين.

قال الشيخ حمزة فتح الله رحمه الله في كتابه «باكورة الكلام في حقوق النساء في الإسلام»: - ومن ذلك يعلم أنه لا محذور في انشقاق القمر لسيدنا رسول الله وأن تأويل آيته بوضع المستقبل موضع الماضي لتحققه لا داعي إليه فضلا عن كونه خلاف الصحيح، وقد ذكرت الجرائد الأجنبية مقالة عربتها جريدة الإنسان العربية التي كانت تطبع بالآستانة العلية حاصلها: أنه عثر في ممالك الصين على بناء قديم مكتوب عليه أنه بني عام كذا، الذي وقع فيه حادث سماوي عظيم وهو انشقاق القمر نصفين فحرر الحساب فوافق سنة انشقاقه لسيدنا ومولانا رسول الله ـ اهـ.

ومن المعجزات نبع الماء من بين الأصابع روى حديث نبع الماء من بين أصابعه جماعة من الصحابة منهم أنس وجابر وابن مسعود، وحدث ذلك يوم الحديبية وفي غزوة بواط أمام الجموع الكثيرة ولم ينكر هذا الحديث أحد من الصحابة.

في «صحيح البخاري» عن أنس رضي الله عنه أنه قال: «أتى النبي بإناء وهو بالزوراء فوضع يده في الإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه فتوضأ القوم»، قال قتادة: قلت لأنس: كم كنتم؟ قال: ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: رأيت رسول الله وحانت صلاة العصر فالتمس الوضوء فلم يجدوه فأتى رسول الله بوضوء، فوضع رسول الله يده في ذلك الإناء فأمر الناس أن يتوضأوا منه فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه فتوضأ الناس حتى توضأوا من عند آخرهم.

(تكثير الطعام)

ومن معجزاته تكثير الطعام ببركته ودعائه وقد حدث ذلك مرارا.

(حنين الجذع)

كان مسجد النبي مسقوفا على جذوع نخل فكان رسول الله إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر سمع لذلك الجذع صوت كصوت العشار، سمعه أهل المسجد حتى ارتج المسجد وكثر بكاء الناس لذلك، ما زال يحن حتى تصدع وانشق فنزل فالتزمه وحضنه فسكن، وحديث الجذع مشهور رواه من الصحابة بضعة عشر، منهم: أُبيّ بن كعب، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وسهل بن سعيد، وأبو سعيد الخدري، وبريرة، وأم سلمة، والمطلب بن أبي وداعة؛ كلهم حدَّث بمعنى هذا الحديث.

وروى حديث الجذع البخاري عن جابر بن عبد الله.

(إبراء المرضى وذوي العاهات)

وقد ذكرنا أنه ردّ عين قتادة وتفل في عين عليّ يوم خيبر، وكان أرمدا فبرأ، الإسراء والمعراج، نسج العنكبوت في الغار، وما وقع لسراقة، ودعاؤه لعبد الرحمن بن عوف بالبركة فصار أغنى العرب، وكذا دعاؤه لثعلبة بالغنى، ودعاؤه لمعاوية بالتمكن في البلاد فنال الخلافة، ولسعد بن أبي وقاص أن يجيب الله دعوته فما دعا على أحد إلا استجيب له، وقال للنابغة: «لا يقضض الله فاك» فما سقطت له سن وعاش 120 سنة، وتسبيح الحصى في يده، وكان رجل يقال له بسر بن راعي العير يأكل بشماله، فقال له رسول الله «كُلْ بيمينك» قال: لا أستطيع، قال: «لا استطعت»، فما وصلت شماله بعد إلى فيه هذا قليل من كثير من معجزاته

وفي ترجمة رافع بن عميرة أنه كان لصا في الجاهلية فدعاه الذئب إلى اللحوق برسول الله وهو في ضأن له، وقال رافع في ذلك:

رعيت الضأن أحميها بكلبي ** من اللصت الخفي وكل ذيب

ولما أن سمعت الذئب نادى ** يبشرني بأحمد من قريب

سعيت إليه قد شمرت ثوبي ** على الساقين قاصده الركيب

فألفيت النبي يقول قولا ** صدوقا ليس بالقول الكذوب

فبشرني بقول الحق حتى ** تبينت الشريعة للمنيب

وأبصرت الضياء يضيء حولي ** أمامي إن سعيت ومن جنوبي

اللصت وهو اللص، وشهد رافع غزوة ذات السلاسل وصحب أبا بكر الصدّيق فيها وخبره مشهور.

ومن معجزاته دعاؤه لعلي رضي الله عنه بذهاب الحر والبرد فلم يحس فيهما بعد، ولابن عباس بالفقه في الدين وعلم التأويل فصار بحرا، ولأنس بكثرة المال والولد وطول العمر فرزق مائة ولد، وعاش مائة عام، وصارت نخله تحمل في العام مرتين، وقال في عثمان: تصيبه بلوى عظيمة، فكان ما كان.

خصائصه صلى الله عليه وسلم

من خصائصه تحريم أكل الصدقة، وآل محمد لا يأكلون الصدقة، وأن يتعلم الكتابة أو الشعر وإنشاؤه وروايته لا التمثل به، ويحرم عليه أنه إذا لبس لأمته - سلاحه - للقتال أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه، وهذا الأخير مما شاركه فيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وخائنة الأعين وهي الإيماء إلى مباح من قتل أو ضرب على خلاف ما يظهر، وإمساك من كرهته، ونكاحُ الكتابية ونكاح الأمة لأنه لا يخشى العنت أي الزنا، ومن خصائصه القبلة في الصوم مع وجود الشهوة فقد كان يقبّل عائشة وهو صائم، وله أن يتزوج في حال إحرامه وأن يصطفي من الغنيمة ما يشاء قبل القسمة، وأن يتزوج من غير مهر كما وقع لصفية رضي الله عنها، وأن يدخل مكة بغير إحرام اتفاقا، وأن يقضي بعلمه ولو في حدود الله تعالى، وجُمع له بين الحكم بالظاهر والباطن معا وجُمعت له الشريعة والحقيقة ولم يكن للأنبياء إلا إحداهما، وأن يقضي لنفسه ولولده وأن يقبل الهدية ممن يريد وأن يقضي في حال غضبه، وإباحةُ ترك إخراج زكاة المال لأنه كبقية الأنبياء لا ملك لهم مع الله، وما في أيديهم من المال وديعة لله عندهم يبذلونه في محله ويمنعونه في غير محله، ولأن الزكاة طهرة وهم مبرؤون من الدنس، ومما اختص به عن الأنبياء أنه يحرم نكاح أزواجه بعد موته، ومن خصائصه العصمة من الذنب وعدم التثاؤب والاحتلام.

وأبيح له التزوج فوق تسع وتزوجُه محرما وبلا ولي وشهود، وبلفظ الهبة إيجابا لا قبولا وتزويجه من شاء لمن شاء، ومكثه بالمسجد جنبا، وشهادته لنفسه ولفزعه وحكمه لهما، وشهادته كاثنين.

وأنه خاتم الأنبياء، وأول من تنشق الأرض عنه، وأول شافع ومشفّع وأول من يدخل الجنة وأقسم الله بحياته، ويرى من خلفه، ويبصر في الظلام كما يبصر في الضوء، ولا فيء له في شمس ولا قمر، ولا يقع الذباب على جسده، ويحرم رفع الصوت عنده، ونداؤه باسمه ومن رواء الحجرات، والتكني بكنيته، ولا يورث.

موالي رسول الله

1 - زيد بن حارثة، وأمه سعدى بنت ثعلبة، ويكنى زيد: «أبا أسامة».

وهو أشهر موالي رسول الله وحِبه، أصابه سباء في الجاهلية، فأخذوا زيدا فقدموا به سوق عكاظ فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد، فوهبته خديجة لرسول الله بمكة قبل النبوة وهو ابن ثماني سنين فأعتقه وتبناه، قال ابن عمر: «ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد، حتى أنزل الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لاِبَآئِهِمْ} (الأحزاب: 5)، وخرج أبوه حارثة وأخوه كعب لما علما أنه بمكة لفدائه، فاختار رسول الله، وقال لرسول الله «أنت مني مكان الأب والعم» وذلك لما رآه من حسن المعاملة والحرية، حتى قال: رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا، فأخرجه رسول الله إلى الحجر وقال: «يا من حضر، اشهدوا أن زيدا ابني يرثني وأرثه» فانصرف بعدئذ أبوه وعمه مطمئنين مسرورين وهو أول من أسلم من الموالي، زوجه رسول الله - أم أيمن - فولدت له أُسامة، ثم تزوج - زينب بنت جحش - وهي ابنة عمة رسول الله، وهي التي تزوجها رسول الله بعد زيد، قالت عائشة: لو كان رسول الله كاتما شيئا من الوحي، لكتم هذه الآية: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَرا زَوَّجْنَكَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَرا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا} (الأحزاب: 37)، فإن رسول الله لما تزوَّجها - يعني زينب - قالوا إنه تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيّينَ} (الأحزاب: 40)، ولما سيّر رسول الله الجيش إلى الشام، جعل أميرا عليهم زيد بن حارثة، وقد تقدم ذلك في كتابنا هذا، ولم يسم الله تعالى أحدا من أصحاب النبي إلا زيد بن حارثة.

2 - شقران، اشتهر بهذا اللقب، قيل: اسمه «صالح» وكان عبدا حبشيا لعبد الرحمن بن عوف فوهبه للنبي منصرفه من الحديبية وأعتقه، وكان يحدو بالنساء، قال له رسول الله وقد حدا بهن: «رويدا رويدا يا أنجشة، رفقا بالقوارير» يعني النساء، لأن الحداء إذا سمعته الإبل، أسرعت في المشي فتزعج الراكب، والنساء لضعفهن يتأثرن من شدة الحركة، وشبههن رسول الله في ضعفهن بالقوارير، وهي الأواني من الزجاج.

3 - أبو رافع: اختلف في اسمه، فقيل: أسلم، وقيل: إبراهيم، وقيل: صالح، قال أبو رافع: كنت مولى للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخل أهل البيت، فأسلم العباس وأسلمت أم الفضل وأسلمت أنا، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم، وكان يكتم إسلامه وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وقد أعتق رسول الله أبا رافع.

4 - سلمان الفارسي: وكنيته أبو عبيد الله من أهل أصبهان وقد تقدمت ترجمة حياته عند ذكر إسلامه في كتابنا هذا.

5 - سفينة: قيل كان من الفرس، وكان يسكن بطن نخلة - قرية قريبة من المدينة - كان لأم سلمة، زوج النبي فأعتقته وشرطت عليه خدمة رسول الله، قيل اسمه: مهران، وقيل: رومان، كنيته - أبو عبد الرحمن - وسماه رسول الله (سفينة) لأنه حمل أمتعة للصحابة ثقلت عليهم، فقال رسول الله: «إحمل، فإنما أنت سفينة»، وكان يؤذن لرسول الله، وشهد معه بدرا وأُحدا وسائر المشاهد.

6 - أبو كبشة: واسمه (سليم) اشتراه رسول الله وأعتقه، شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله توفي في اليوم الذي ولي فيه عمر بن الخطاب الخلافة.

7 - رُوَيْفع: أبو مويهبة، كان من مولَّدي مزينة، اشتراه رسول الله فأعتقه.

8 - رباح الأسود: كان يؤذن لرسول الله أحيانا.

9 - فضالة: كان من أهل اليمن، نزل بالشام، ولم يذكر عنه شيء غير ذلك.

10 - مِدْعَم: العبد الأسود، أهداه رفاعة بن زيد الجذامي لرسول الله، فأعتقه، قتل بوادي القرى.

11 - يسار: الراعي كان يرعى إبله فقتله العُرَنيّون وسملوا عينه وحُمل ميتا إلى قباء ودُفن هناك.

روى سلمة بن الأكوع: أن النبي كان له مولى اسمه - يسار - فنظر إليه وهو يحسن الصلاة فأعتقه وبعثه في لقاح في الحرة فكان بها، فأظهر ناس من عُرَينة الإسلام، وجاءوا وهم مرضى قد عظمت بطونهم، فبعث النبي بهم إلى يسار فكانوا يشربون ألبان الإبل حتى انطوت بطونهم فقتلوا الراعي واستاقوا الإبل.

12 - مهران: قيل: هو مولى آل أبي طالب واختلف في اسمه، عن عطاء بن السائب قال: أتيت أم كلثوم بنت عليّ بشيء من الصدقة فردتها وقالت: حدثني مولى للنبي يقال له (مهران): أن رسول الله قال: «إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة».

13 - مابور: الخصي، أهداه المقوقس إلى النبي قيل: إنه هو الذي قُذفت مارية به، فبعث رسول الله علِيّا ليقتله فرآه خصيا فتركه.

14 - سندر.

ومن النساء: أم أيمن، وأميمة، وسيرين التي أهديت له مع مارية القبطية، وهي أختها، وقيل: إن المقوقس أهدى معهما قنسر وأنها أخت مارية وسيرين.

حراسه صلى الله عليه وسلم

كان لرسول الله حراس قبل أن ينزل عليه قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67)، فمنهم: سعد بن معاذ حرسه ليلة يوم بدر، وفي ذلك اليوم لم يحرسه إلا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، شاهرا سيفه حين نام بالعريش، وقال بعضهم: إن سعد بن معاذ كان مع أبي بكر في العريش يحرسانه في بدر، ومحمد بن مسلمة رضي الله عنه حرسه يوم أُحد، والزبير بن العوام رضي الله عنه، حرسه يوم الخندق، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه، حرسه يوم الحديبية، وأبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، حرسه ليلة بَنَى بصفية ببعض طرق خيبر، وبلال، وسعد بن أبي وقاص، وذكوان بن عبد قيس رضي الله عنهم حرسوه بوادي القرى، وابن أبي مرثد الغنوي، حرسه في الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة حنين حيث قال «ألا رجل يحرسنا الليلة؟» فقال: أنا يا رسول الله، فدعا له وبعد نزول الآية وهي: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) ترك الحرس، والمراد من قوله تعالى، يعصمك من الناس أي من القتل وفيه التنبيه على أنه يجب عليه أن يحتمل كل ما هو دون النفس من أنواع البلاء، ونزلت هذه الآية بعد يوم أُحد، والمراد من الناس الكفار، عن أنس رضي الله عنه، كان رسول الله يحرسه سعد وحذيفة حتى نزلت هذه الآية، فأخرج رأسه من قبة أدم وقال: «انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله»، وقد عصمه الله تعالى إلى آخر حياته.

أمناء رسول الله

منهم: عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، كان أمين رسول الله على نسائه، وكذا أسد بن أسيد الساعدي، كان أمينه على نسائه وهو آخر من مات من أهل بدر، وبلال المؤذن كان أمينه على نفقاته، ومعيقيب، كان أمينه على خاتمه الشريف.

شعراؤه صلى الله عليه وسلم

1 - حسَّان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك رضي الله عنهم كانوا يناضلون عنه بشعرهم ويهجون كفار قريش.

أما حسان بن ثابت فيقال له شاعر رسول الله وكان من الأنصار، كان رسول الله ينصب له منبرا في المسجد يقول عليه قائما ينافح عن رسول الله، ورسول الله يقول: «إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح عن رسول الله»، وكان حسان يمضي إلى أبي بكر رضي الله عنه ليقفه على أنساب قريش فجعل يهجوهم، فلما سمعت قريش شعر حسان قالوا: هذا شعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة.

قال ابن سيرين: انتدب لهجو رسول الله من المشركين أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن الزبعري، وعمرو بن العاص، وضرار بن الخطاب، وانتدب لهجو المشركين ثلاثة من الأنصار، حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، فكان حسان وكعب يعارضانهم بمثل قولهم في الوقائع والأيام والمآثر ويذكرون مثالبهم، وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر وبعبادة ما لا يسمع ولا ينفع، فكان قوله أهون القول عليهم، وكان قول حسان وكعب أشد القول عليهم، فلما أسلموا وفقهوا، كان قول عبد الله أشد القول عليهم، ووهب له النبي جاريته «سيرين أخت مارية القبطية»، وعاش حسان 120 سنة: ستين في الجاهلية وستين في الإسلام؛ وقيل: إنه توفي قبل الأربعين في خلافة علِيّ رضي الله عنه.

2 - وأما عبد الله بن رواحة، فهو خزرجي أنصاري من بني عبد الحارث يكنى أبا محمد، وكان من شهد العقبة، وكان نقيب بني الحارث بن الخزرج، شهد بدرا وأُحدا والخندق والحديبية وخيبر وعمرة القضاء والمشاهد كلها مع رسول الله، إلا الفتح وما بعده لأنه كان قد قتل قبله، وهو أحد الأمراء في غزوة مؤتة، وكان من الشعراء الذين يناضلون عن رسول الله، ومن شعره في النبي

إني تفرّست فيك الخير أعرفُه ** والله يعلم ما إن خانني البصر

أنت النبيّ ومن يُحرَم شفاعتَهُ ** يوم الحساب فقد أزرى به القدر

فثبّت الله ما آتاك من حَسَن ** تثبيت موسى ونصرا كالذي نُصروا

فقال رسول الله: «وأنت فثبتك الله يا ابن رواحة»، فقتل شهيدا في غزوة مؤتة كما تقدم.

3 - وكان كعب بن مالك أنصاريا من الخزرج، شهد العقبة، ولبس كعب يوم أُحد لأمة وكانت صفراء، وجرح أحد عشر جرحا، وكان من شعراء رسول الله وكان يخوف المشركين، قال ابن سيرين: بلغني أن دوسا أسلمت فرقا، أي خوفا من قول كعب بن مالك:

قضينا من تِهامة كل وِتر ** وخيبر ثم أغمدنا السيوفا

تخبّرنا ولو نطفت لقالت ** قواطعهُنّ دوسا أو ثقيفا

فقالت دوس: انطلقوا فخذوا لأنفسكم، لا ينزل بكم ما نزل بثقيف.

هؤلاء الشعراء الثلاثة، هم الذين كانوا يناضلون عن رسول الله بشعرهم، ويهجون قريشا ويعيبون عليهم عبادة الأصنام، ويفخرون بانتصار المؤمنين من الأنصار، أما المهاجرون فلم يكن فيهم شعراء كالأنصار يهجون قريشا، وغالب الظن أن سبب ذلك هو أنهم تحاشوا هجاء مشركي قريش لما كان بينهم من الروابط العديدة، فكانوا يحاربونهم ولا يهجونهم بالشعر.

مؤذنوه صلى الله عليه وسلم

هم: بلال وابن أم مكتوم بالمدينة، وسعد القرظ (ذكره الحلبي في السيرة ولم يذكره ابن الأثير في أسد الغابة) وأبو محذورة رضي الله عنه بمكة، واتفق الزبير وعمه مصعب وابن إسحاق والمسيبي أن اسم أبي محذورة (أوس) وكان رسول الله سمعه يحكي الأذان فأعجبه صوته فأمر أن يؤتى به، فأسلم يومئذ وأمره بالأذان بمكة منصرفه من حنين فلم يزل يؤذن فيها، وكان أبو محذورة من أحسن الناس صوتا، توفي بمكة سنة 59 هـ.

أما بلال بن رباح، فهو مولى أبي بكر الصديق، كان مؤذنا لرسول الله وكان من السابقين إلى الإسلام والمعذبين في الله، تقدم ذكره، كان يؤذن لرسول الله في حياته سفرا وحضرا، وهو أول من أذن في الإسلام وأذن لأبي بكر ولعمر بن الخطاب لما دخل الشام مرة واحدة، فلم يُرَ باكيا أكثر من ذلك اليوم، ولما كان بلال بالشام، رأى النبيَّ في منامه وهو يقول: «ما هذه الجفوة يا بلال، ما آن لك أن تزورنا» فانتبه حزينا، فركب إلى المدينة فأتى قبر النبي وجعل يبكي عنده ويتمرغ عليه، فأقبل الحسن والحسين، فجعل يقبلهما ويضمهما، فقالا له: أتشتهي أن تؤذن في السَّحَر؟ فعلا سطح المسجد، فلما قال: الله أكبر الله أكبر، ارتجت المدينة، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله، زادت رجتها، فلما قال: أشهد أن محمدا رسول الله، خرج النساء من خدورهن، فما رئي يوم أكثر باكيا وباكيةً من ذلك اليوم، وتوفي بلال بدمشق ودفن بباب الصغير سنة 20 وهو ابن بضع وستين سنة، وقيل: مات بحلب ودفن على باب الأربعين ولم يعقب، وكان آدم، شديد الأدمة، نحيفا، طويلا، أحنى خفيف العارضين، ورُوِيَ أن بلالا قال آخر الأذان: «الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله».

خدمه صلى الله عليه وسلم

أشهر خدمه من الرجال: أنس بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، كان من أخص خدامه، خدمه من حين قدم المدينة إلى وفاته عشر سنين، خدمه في السفر والحضر، توفي بعد أن جاوز المائة، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، كان صاحب سواكه ونعله إذا قام ألبسه إياهما وإذا جلس جعلهما في ذراعيه حتى يقوم، وكان يمشي بالعصا أمامه حتى يدخل الحجرة، ومعيقيب الرومي، كان صاحب خاتمه، وعقبة بن عامر الجهني، كان صاحب بغلته، يقودها في الأسفار وكان عالما بكتاب الله وبالفرائض فصيحا شاعرا وهو من الأنصار، ولي مصر لمعاوية وتوفي بها، وأسقع بن شريك، صاحب راحلته، وبلال مؤذنه كان على نفقاته، ومن النساء: أمة الله بنت رزينة، وخولة جدة حفص بن سعيد، ومارية أم الرباب، ومارية جدة المثنى بن صالح بن مهران، قالت مارية: ما مسست شيئا قط ألين من كف رسول الله

خيله وبغاله وإبله

كان له سبعة أفراس وكان له ست بغال وكان له من الحمر اثنان، وكان له من الإبل المعدة للركوب ثلاثة.

فأما أفراسه، ففرس يقال له (السَّكْب) شبه بسكب الماء وانصبابه، لشدة جريه، وهي أول فرس ملكه اشتراه من أعرابي وكان اسمه عند الأعرابي الضرس، وكان أغر، أي له غرة، وهي بياض في وجهه محجلا، طليق اليمين، كميتا، أي بين السواد والحمرة.

وفرس يقال له: (المرتجز) سُمي به لحسن صهيله، مأخوذ من الرجز الذي هو ضرب من الشعر، وكان أبيض.

وفرس يقال له: (اللحيف) أهداه له فروة بن عمرو من أرض البلقاء بالشام.

وفرس يقال له: (اللزاز) أهداه له المقوقس.

وفرس يقال له: (الظَّرِف) الكريم الجيد من الخيل، و (الورد) وهو بين الكميت والأشقر، أهداه له تميم الداري وأهداه لعمر بن الخطاب، (وسَبْحَة) أي سريع الجري وقيل: كان له فرس يسمى اليعسوب سُمي به لأنه كان أجود خيله.

أما بغاله فبغلة شهباء يقال لها (دُلْدُل) أهداها له المقوقس، والدلدل في الأصل، القنفذ، وهذه أول بغلة ركبت في الإسلام وكان يركبها في المدينة وفي الأسفار وعاشت حتى ذهبت أسنانها فكان يدل لها الشعير وعميت، وقاتل عليها عليّ كرم الله وجهه الخوارج بعد أن ركبها عثمان رضي الله عنه، وركبها بعد علِيّ ابنه الحسن ثم الحسين ثم محمد بن الحنفية.

وبغلة يقال لها: (فضة) أهداها له عمرو بن عمرو الجذامي، ووهبها لأبي بكر رضي الله عنه، وبغلة أهداها له كسرى وأخرى من دومة الجندل وأخرى من عند النجاشي.

أما حُمُرهُ فحمار يقال له: (يعفور) وكان أشهب، ومات في حجة الوداع.

أما إبله التي كان يركبها، فناقة يقال لها: (القَصْوى) وهي التي اشتراها من أبي بكر وهاجر عليها، وناقة يقال لها: (الجدعاء) وناقة يقال لها: (العضباء) وهي التي كانت لا تسبق ويقال: إنها لم تأكل ولم تشرب بعد وفاة رسول الله حتى ماتت وقد قيل: إن هذه الأسماء الثلاثة اسم لناقة واحدة.

أسماء أسلحته

كان لرسول الله من السيوف تسعة ومن الدروع سبعة ومن القسي خمسة ومن الأتراس ثلاثة ومن الرماح اثنان ومن الحراب خمسة ومن الخوذ اثنتان.

السيوف

1 - مأثور، ورثه عن أبيه وقدم به المدينة.

2 - العضب أي القاطع، أرسل به إليه سعد بن عبادة رضي الله عنه عند توجهه إلى بدر.

3 - ذو الفقار، كان في وسطه مثل فقرات الظهر، غنمه يوم بدر، كان للعاص بن وائل، وكان لا يفارقه في حرب من الحروب.

4 - الصَّمصامة وهو سيف عمرو بن معد يكرب، أهداه النبي لخالد بن سعد بن العاص حيث استعمله على اليمن.

5 - القَلَعي نسبة إلى برج القلعة، موضع بالبادية.

6 - الحيف وهو الموت.

7 - الرَّسُوب، أي يرسب ويستقر في الضربة، وهو أحد السيوف التسعة التي أهدتها بلقيس لسليمان عليه السلام.

8 - المِخْذَم، أي القاطع، وهما كانا معلقين على صنم طي الذي يُقال له الغلس.

9 - القضيب، من قضب الشيء: قطعه.

الدروع

1 - ذات الفُضول، لطولها، أرسل بها إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر، وكانت من حديد، وهي التي رهنها عند أبي الشحم اليهودي على ثلاثين صاعا من الشعير، وكان الدين إلى سنة.

2 - ذات الوِشَاح.

3 - ذات الحواشي.

4 - السفرية، والسفر موضع يصنع به الدروع ويُقال: اسمها السعدية.

5 - الفضة وهي من دروع بني قينقاع.

6 - البتراء، قيل لها ذلك لقصرها.

7 - الخِرْنِق، قيل لها ذلك لنعومتها.

القسي

1 - قوس يُقال لها (البيضاء) من شوحط وهو من شجر الجبال، يتخذ منه القسي، وهو من سلاح بني قينقاع.

2 - الروحاء.

3 - الصفراء، من نبع، وهو شجر يتخذ منه القسي ومن أغصانه السهام، كسرت يوم أُحُد.

4 - الزوراء، ويقال لها: الكتوم لانخفاض صوتها إذا رمى عنها، قيل: وهي التي اندقت سيتها يوم أُحد.

5 - قوس يقال لها: السداد.

الأتراس

1 - ترس يقال لها: (الألزلوق)، لأن السلاح يزلق عنيها.

2 - فُتَقَ.

3 - تمثال عقاب أو كبش، فكرهه رسول الله وقد أذهبه الله عز وجل، وقيل: وضع يده الشريفة عليه فذهب.

الرماح

1 - المُثْنَى.

2 - المُثْوِي، من الثوى وهو الإقامة؛ لأن المطعون به يقيم موضعه ولا ينتقل.

الحراب

1 - حربة يقال لها: (النبعة).

2 - البيضاء.

3 - حربة صغيرة تشبه العكاظ يقال لها: (العنزة)، وقيل: جاء بها الزبير رضي الله عنه من أرض الحبشة أعطاها له النجاشي وقاتل بها بين يدي النجاشي عدوا للنجاشي وظهر النجاشي على ذلك العدو، وشهد بها الزبير بدرا وأُحدا وخيبر ثم أخذها منه النبي بعد منصرفه من خيبر فكانت تحمل بين يديه يوم العيد، يحملها بلال رضي الله عنه فتركز بين يديه ويصلي إليها وكذا كان يصلي إليها في أسفاره ويمشي بها وهي في يده.

4 - المهر.

5 - النمر.

الخوذ

الخوذ جمع خوذة وهي ما يجعل على الرأس من الزرد مثل القلنسوة، فخوذة يقال لها: (الموشح) وخوذة يقال لها: (السبوغ) أو ذات السبوغ.

تأديب الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم

قال «أدّبني ربي فأحسن تأديبي»، وقد جاء في القرآن الكريم آيات فيها تأديب للنبي فكان عليه الصلاة والسلام يعيها ويعمل بها ويتجنب النواهي ويتبع الأوامر، وهو وإن كان معصوما إلا أن الله سبحانه وتعالى كان يحفظه ويعظه ويأمره وينهاه ويعاتبه ويرشده إلى الصراط المستقيم ويبصره بكل شيء، فهذه العناية من الله تعالى بتهذيبه وإرشاده، وتمسك الرسول بطاعة الله تعالى باتباع أوامره واجتناب نواهيه بكل دقة، جعلته سيد الخلق وأعظم قدوة للناس أجمعين، وقد أثنى عليه الله تعالى فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4)، وهذا ثناء ليس بعده ثناء، فقد قال رسول الله «بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، فكان هو ممثلا لهذه المكارم ولا شك أنه وصل إلى هذه المرتبة العظيمة بتأديب الله تعالى.

إن الله سبحانه وتعالى علّم رسوله عليه السلام كيفية الدعوة إلى سبيل الله وهداية الخلق وكيف يعدل بين الناس ومشاورة أصحابه وعلمه أن يصبر على أذى الناس ويصفح عن المسيء ويجازي المحسن وكيف يخاطبهم ويجادلهم الخ، وهذه التعاليم مذكورة في القرآن في عدة مواطن عند المناسبات، ولم يكتم رسول الله شيئا من هذه الأوامر والنواهي، فكان أمينا على إثبات كل ما نزل به الوحي.

وقد رأيت أن أذكر الآيات التي أدّب الله تعالى بها رسول الله ليتدبرها المسلمون، إذ منها ما هو خاص بالرسول ومنها عام لجميع المؤمنين.

الشورى

أمر الله تعالى رسول الله بمشاورة أصحابه، فقال في سورة آل عمران: {وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ} (آل عمران: 159)، فالشريعة الإسلامية أول شريعة أمرت بالشورى، وقد كان الملوك قبل ذلك يستبدون برعاياهم ولا يرون الشورى واجبة عليهم، وقد أُمِرَ الرسول بمشاورة أصحابه وإن كان ليس في حاجة إليهم، ليقتدي به غيره في المشاورة وتصير سنة في أمته.

اليتيم والسائل

قال تعالى في سورة الضحى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ} (الضحى: 9 - 11)، أي لا تعبس وجهك إلى اليتيم وعامله بمثل ما عاملتُك به، ورُوي أنها نزلت حين صاح النبي على ولد خديجة، وقوله فلا تنهر أي فلا تزجر، والمراد مطلق السائل.

ولقد عاتب الله رسوله في القرآن في شأن الفقراء في ثلاثة مواضع:

أحدها: أنه كان جالسا فجاءه عثمان بعِذْق من تمر - أي بشماريخ من تمر - فوضعه بين يديه، فأراد أن يأكل، فوقف سائل بالباب، فقال: رحم الله عبدا يرحمنا، فأمر بدفعه إلى السائل، فكره عثمان ذلك إذ أراد أن يأكله النبي فخرج واشتراه من السائل ثم رجع السائل ففعل مثل ذلك ثلاث مرات، وكان يعطيه النبي إلى أن قال له «أسائل أنت أم بائع؟» فنزل قوله تعالى: {وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ} (الضحى: 10).

والثاني: أنه كان جالسا وحوله صناديد قريش، إذ جاء ابن أم مكتوم، الضرير، فتخطى رقاب القوم حتى جلس بين يديه، وقال: علِّمني مما علمك الله، فشق ذلك عليه فعبس وتولى.

والثالث: حين قالت له قريش، لو جعلت لنا مجلسا وللفقراء مجلسا آخر، فهمَّ أن يفعل ذلك، فنزل قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ}... الآية (الكهف: 28).

الصبر والعبادة

قال تعالى في سورة الإنسان: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِما أَوْ كَفُورا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ لَيْلا طَوِيلا} (الإنسان: 24 - 26).

أمر الله رسوله بالصبر في كل ما حكم به وتحمل المشاق في العبادات والطاعات وأداء الرسالة وألا يطيع الكفار والآثمين، والمقصود بيان أن الناس محتاجون إلى مواصلة التنبيه والإرشاد، وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف: 35).

هجر الرجز

قال تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر: 5)، والرجز اسم للقبيح المستقذر، وهو معنى الرِّجس، فقوله: والرجز فاهجر، كلام جامع لمكارم الأخلاق، كأنه قال له، اهجر الجفاء والسفه وكل شيء قبيح ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين المستعملين للرجز، والمراد المداومة على ذلك الهجر، وقال: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} (المدثر: 6) أي، ولا تمنن بهذه الأعمال الشاقة على ربك.

النهي عن تحريم ما أحله الله

قال الله جل شأنه في سورة التحريم: {يأَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التحريم: 1) ينهاه الله تعالى عن تحريم ما أحله الله مرضاة أزواجه قال في الكشاف، رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام خلا بمارية في يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة، فقال لها: «اكتمي عليَّ، وقد حرّمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي»، فأخبرت به عائشة وكانتا متصادقتين، وقيل: خلا بها في يوم حفصة، فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتم، فطلقها واعتزل نساءه، ومكث تسعا وعشرين ليلة في بيت مارية، ورُوي أن عمر قال: لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك، فنزل جبريل عليه السلام وقال: راجعها فإنها صوَّامة قوَّامة، وإنها من نسائك في الجنة، ورُوِي أنه ما طلقها وإنما نوَّه بطلاقها، ورُوِيَ أنه شرب عسلا في بيت زينب بنت جحش، فتواطأت عائشة وحفصة، فقالتا له: إنا نشم رائحة المغافير وكان رسول الله يكره النفل من الطعام، فحرَّم العسل، فمعناه لم تحرم ما أحل الله لك من ملك اليمين أو من العسل؟ قال مسروق: حرم النبي أُمَّ ولده، وحلف ألا يقربها، فأنزل الله هذه الآية، فقيل له: أما الحرام فحلال، وأما اليمين التي حلفت عليها فقد فرض الله لكم تحلة أيمانكم، قال الشعبي: كان مع الحرام يمين، فعوتب في الحرام، وإنما يكفر اليمين، فذلك قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَنِكُمْ} (التحريم: 2) الآية، وقوله: «لم تحرم» استفهام بمعنى الإنكار، والإنكار من الله تعالى نهي، وتحريم الحلال مكروه، والحلال لا يحرّم إلا بتحريم الله تعالى، والمراد من هذا التحريم هو الامتناع عن الانتفاع بالأزواج.

العفو والإعراض عن الجاهلين

قال تعالى في سورة الأعراف: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَهِلِينَ} (الأعراف: 199)، العفو لغة، التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، وأصله المحو والطمس، وكل من استحق عقوبة فتركتها فقد عفوت عنه، وعفا عن ذنبه عفوا: صفح، وقوله: خذ العفو، قيل: الفضل الذي يجيء بغير كلفة، والمعنى: إقبل الميسور من أخلاق الناس ولا تستقص عليهم، وفي حديث ابن الزبير: أمر الله نبيَّه أن يأخذ العفو من أخلاق الناس، قال: هو السهل الميَسَّر، أي أمره أن يحتمل أخلاقهم ويقبل منها ما سهل وتيسر ولا يستقصي عليهم، ويدخل في ذلك التساهل وعدم التشديد في كل ما يتعلق بالحقوق المالية، ويدخل فيه أيضا التخلق مع الناس بالخلق الطيب وترك الغلظة والفظاظة، كما قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159)، وأما ما لا يجوز دخول المساهلة والمسامحة فيه، فالحكم فيه أن يأمر بالمعروف، وقال أيضا: {وَأَعْرِض عَنِ الْجَهِلِينَ} (الأعراف: 199) وأمره الله تعالى أن يصل من قطعه ويعطي من حرمه ويعفو عمن ظلمه، وهذا مطابق لهذه الآية.

التواضع للمؤمنين

قال تعالى في سورة الحجر: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَكَ سَبْعًا مّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءانَ الْعَظِيمَ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر: 87، 88).

السبع المثاني هي فاتحة الكتاب، وهو قول عمر وعلِيّ وابن مسعود وأبي هريرة والحسن وأبي العالية ومجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة، ورُوِي أن النبي قرأ الفاتحة وقال: «هي السبع المثاني» رواه أبو هريرة.

قال ابن عباس: «لا تمدَّنَّ عينيك أي لا تتمنّى ما فضلنا به أحدا من متاع الدنيا»، ورُوِي أنه نظر إلى نعم بني المصطلق، وقيل: وافت من بعض البلاد سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضر فيها أنواع من البز، أي الثياب والطيب والجواهر، وسائر الأمتعة، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا، لتقوّينا بها ولأنفقناها في سبيل الله تعالى، فقال الله تعالى لهم: لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع، والحاصل أن قوله: ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم، نهي له عن الالتفات إلى أموالهم، وقوله: ولا تحزن عليهم، نهي له عن الالتفات إليهم، ثم قال: واخفض جناحك للمؤمنين، الخفض معناه في اللغة نفيض الرفع، وجناح الإنسان: يده، وخفض الجناح، كناية عن اللين والرفق والتواضع، والمقصود أنه تعالى لما نهاه عن الالتفات إلى أولئك الأغنياء من الكفار، أمره بالتواضع لفقراء المسلمين، ونظيره قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَفِرِينَ} (المائدة: 54).

المجادلة بالحسنى

قال تعالى في سورة النحل: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَدِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} (النحل: 125)، أمر الله رسوله أن يدعو الناس بإحدى هذه الطرق الثلاث وهي: الحكمة، والموعظة الح سنة، والمجادلة بالطريق الأحسن.

إيتاء ذي القربى والمساكين

قال تعالى في سورة الإسراء: {وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْونَ الشَّيَطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَنُ لِرَبّهِ كَفُورًا} (الإسراء: 26، 27).

أمره الله تعالى أن يؤتي أقاربه الحقوق التي وجبت لهم في الفيء وأوجب عليه أيضا، إخراج حق المساكين وأبناء السبيل أيضا من هذين المثالين، والتبذير في اللغة، إفساد المال وإنفاقه في السرف إلا أنه لا سرف في الخير.

معاملة العدو

قال تعالى في سورة فصلت: {وَلاَ تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 34)، يعني ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق الذي هو أحسن الطرق، فإنك إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد مرة ولم تقابل سفاهتهم بالغضب ولا إضرارهم بالإيذاء والإيحاش، استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا تلك الأفعال القبيحة، ثم قال: فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، يعني إذا قابلت إساءتهم بالإحسان وأفعالهم القبيحة بالأفعال الح سنة، تركوا أفعالهم القبيحة وانقلبوا من العداوة إلى المحبة ومن البغضاء إلى المودة.

الاقتصاد في الإنفاق

الاقتصاد وسط بين التقتير والتبذير وكل فضيلة وسط بين رذيلتين، قال الشاعر:

خير الأمور الوسط ** حب التناهي غلط

وقد ذمّ الله تعالى المقترين والبخلاء، وذم المبذرين، والناس إما مقتّرون أو مبذرون، وقليل منهم المقتصدون وترى البخيل يعلل بخله ويبرر تقتيره ويزعم أن الحكمة تقضي بالتقتير وادخار الأموال لإنفاقها في وقت العسر ويبقى هكذا مقترا طول حياته ويخشى أن ينفق حتى في أوقات العسر والشدة، كذلك يعلل المبذر تبذيره ويبرره فينفق أمواله في المحرمات والكماليات حتى يأتي عليها ويصبح فقيرا لا يجد قوت يومه، قال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْونَ الشَّيَطِينِ} (الإسراء: 27)، وقال في حق الذين يكنزون المال: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ كَثِيرا مّنَ الاْحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة: 34، 35)، والسرف وإن كان ممقوتا مذموما إلا أنه لا سرف في الخير.

وقد أمرنا الله تعالى بمراعاة الاقتصاد في النفقة فإن ذلك سبيل السعادة، قال تعالى في سورة الإسراء: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورا إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} (الإسراء: 29، 30)، وقد شرح الله تعالى وصف عباده المؤمنين في الإنفاق في سورة الفرقان فقال: {وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما} (الفرقان: 67)، فها هنا أمر رسوله بمثل ذلك الوصف فقال: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك، أي لا تمسك عن الإنفاق بحيث تضيق على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات، والمعنى: لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط ولا تبسطها كل البسط، أي ولا تتوسع في الإنفاق توسعة مفرطة بحيث لا يبقى في يدك شيء، ثم قال تعالى: فتقعد ملوما محسورا - أي يلوم نفسه، وأصحابه أيضا يلومونه على تضييع المال بالكلية وإبقاء الأهل والولد في الضر والمحنة.

هذا مثل من الأمثلة العديدة لتأديب الله تعالى لرسوله وقد ذكرنا الآيات التي وردت في هذا الصدد مع تفسيرها تفسيرا مجملا ليتعظ بها المسلمون وليعلموا عناية الله برسوله عليه الصلاة والسلام.

منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن

ذكرنا فيما تقدم ما كان من تأديب الله تعالى لرسول الله تارة بالأمر وتارة بالنهي أو العتاب، وقد وردت الآيات القرآنية بذلك، ونحن هنا نثبت منزلة الرسول في القرآن الكريم.

طاعة الله وطاعة الرسول

جعل الله سبحانه وتعالى طاعته مقرونة بطاعة رسول الله، وهذا تشريف له عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظا} (النساء: 80)، وقال: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: 59)، وقال: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَرُ} (النساء: 13)، وقال: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزا عَظِيما} (الأحزاب: 71)، فطاعة الله هي طاعة الرسول، وقال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظا} (النساء: 80) أي من أطاع الرسول لكونه رسولا مبلغا إلى الخلق أحكام الله، فهو في الحقيقة ما أطاع إلا الله.

الثناء على أخلاقه

قال تعالى يثني على أخلاقه {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4)، وليس بعد ذلك ثناء فإن حسن الخلق أعظم ما يتحلى به الإنسان، فكان رسول الله هو المثل الأعلى وقدوة الخلق في محاسن الأخلاق التي لا يعدلها شيء، وقال رسول الله «بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159)، فكان رسول الله ليّن الجانب، حسن الأخلاق، جميل السجايا، بعيدا عن الغلظة، يعدل بين الناس ولا يظلم أحدا وبذلك اجتذب إليه المؤمنين، ولو كان فظا لنفروا منه ونبذوه وانفضوا من حوله.

بعثة الرسول إلى كل العالمين

قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ} (آل عمران: 164)، قوله تعالى من أنفسهم، أي من أهل بلدهم ومن أقاربهم، وقد مَنَّ عليهم ببعثة الرسول، أي أنعم عليهم وأحسن إليهم بذلك، وهذا الإحسان عام في حق العالمين لأنه مبعوث إلى كل العالمين كما قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَكَ إِلاَّ كَآفَّةً لّلنَّاسِ} (سبأ: 28)، إلا أنه لم ينتفع بهذا الإنعام إلا من أسلم، فلهذا خصّ تعالى هذه المنّة بالمؤمنين.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيما} (الأحزاب: 56)، الصلاة: الدعاء، يقال في اللغة: صلى عليه، أي دعا له، وهذا المعنى غير معقول في حق الله تعالى فإنه لا يدعو له، لأن الدعاء للغير طلب نعمة من ثالث، لكن صلاة الله على رسوله: رحمته وحسن ثنائه عليه، والصلاة من الملائكة: دعاء واستغفار، ومن الله رحمة وفيه تعظيم النبي

وقد سئل النبي عليه السلام: كيف نصلي عليك يا رسول الله؟ فقال: قولوا: «اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد».

التأدب في حضرة الرسول

قال تعالى يعلِّم المؤمنين أن يتأدبوا في حضرة رسول الله لعظم شأنه وعلو مرتبته: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَلُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} (الحجرات: 2).

نهى الله تعالى المؤمنين أن يرفعوا أصواتهم في حضرة رسول الله فوق صوته لأن من يرفع صوته عند غيره، يجعل لنفسه اعتبارا زائدا وعظمة، وقد يكون المراد المنع من كثرة الكلام عنده لأن ذلك لا يليق في مجلس الرسول لعظم قدره، والمنع من رفع الصوت لا يكون إلا للاحترام وإظهار الاحتشام ومراعاة الأدب، وقوله أن تحبط أعمالكم، أي تبطل أو تفسد، وهذا إنذار لمن يرفع صوته.

وقال تعالى يثني على الذين يلتزمون الأدب ويغضون أصواتهم إجلالا واحتراما لرسول الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} (الحجرات: 3) يُقال: غض صوته أي خفضه ولم يرفعه.

تحكيم رسول الله

قال تعالى: {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيما} (النساء: 65) شجر أي اختلف واختلط، والحرج: الضيق، وهذا يدل على أن من لم يرض بحكم رسول الله لا يكون مؤمنا.

عاقبة مشاقة رسول الله

قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءتْ مَصِيرا} (النساء: 115).

فمشاقّة الرسول موجبة لهذا الوعيد، ودلت هذه الآية على وجوب عصمة محمد عن جميع الذنوب، فلو صدر الذنب عن الرسول، لوجبت مشاقّته لكن مشاقّته محرمة بهذه الآية، فوجب أن لا يصدر الذنب عنه ودلت أيضا على أنه يجب الاقتداء بالرسول في أفعاله، إذ لو كان فعل الأمة غير فعله لزم كون كل واحد منهما في شق آخر من العمل فتحصل المشاقة لكن المشاقّة محرمة، فيلزم وجوب الاقتداء به في أفعاله.

هذا بعض ما ورد في القرآن الكريم خاصا بمنزلة رسول الله وعظيم قدره ورفعة شأنه، فقد أمر الله أن يطيعه المؤمنون، وقرن طاعته تعالى بطاعته ونهى عن عصيانه وأنذر من عصاه بنار جهنم، لأن عصيانه من عصيان الله جل شأنه، ونهى عن مشاقّته لأنه معصوم عن الذنوب، ومن كان معصوما، حرّمت مشاقّته، وأمر المؤمنين بالتزام الأدب في حضرته ونهى أن ترفع الأصوات في مجلسه فإنه ليس كأحدهم، فلا يليق أن يرفعوا أصواتهم وأن يكثروا من الكلام أمامه، وإذا كانت مراعاة الأدب واجبة أمام الملوك والحكام فهي أوجب أمام الرسول لأنه سيِّد الخلق وأقربهم إلى الخالق وأعظم خُلقا، وقد مَنَّ الله تعالى على الناس برسالته وجعلها رحمة لهم، قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَلَمِينَ} (الأنبياء: 107)، وكان رسول الله يراعي الأدب مع أصحابه وكانوا يقتبسون من جليل صفاته ويقتدون به، وقد أمرنا الله أن نصلي عليه فاللهم وفقنا إلى طاعتك وطاعة رسولك، واهدنا الصراط المستقيم، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

الأحاديث النبوية وتدوينها

روى البخاري، أن عمر بن عبد العزيز هو الذي أمر بتدوين الحديث، قال: إن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن حزم الأنصاري المدني: «انظر إلى ما كان من حديث رسول الله فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا يقبل إلا حديث رسول الله ولتفشوا العلم حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا».

وابن حزم هذا، ولاه عمر بن عبد العزيز إمرة المدينة وتوفي سنة 120 هـ فجمع شيئا من الآثار النبوية، ثم تتابع العلماء في التدوين والتصنيف، وتفرد بالكوفة أبو بكر بن أبي شيبة بتكثير الأبواب وجودة الترتيب وحسن التأليف، ولكن هذه الآثار لما كانت في مبدأ الأمر تؤخذ من الأفواه، كان المصنف إذا روى له أحد حديثا، طالبه بإسناده وعمن أخذه فيذكر له سنده حتى ينتهي إلى النبي إن كان من كلامه، أو إلى الصحابي أو إلى التابعي إن كان من كلامهما، وكان قد تسرب إلى تلك الآثار أشياء من الوضع فاحتاج المصنفون إلى تدوين قانون مخصوص يتجلى به السمين من الغث، وجعلوا ذلك القانون على أعمدة العمود الأول: في فن التاريخ ليعلم منه تاريخ الراوي ووفاته حتى إذا قال حدثني فلان ولم يكن مدركا لزمنه، علموا أنه كاذب عليه، ولهذا قال الإمام أحمد، لما استعمل الرواة الكذب، استعملنا لهم التاريخ.

والعمود الثاني: فن الجرح والتعديل، كقولهم فلان: «ثقة» «وضّاع».

العمود الثالث: النظر في كيفية أخذ الرواة بعضهم عن بعض بقراءة أو كتابة أو مناولة أو إجازة وتفاوت رتبها، وما للعلماء في ذلك من خلاف بالقبول والرد، ثم أتبعوا ذلك بكلام في ألفاظ تقع في متون الحديث من غريب أو مشكل أو تصحيف أو مفترق منها أو مختلف ما يناسب ذلك أيضا بالناسخ والمنسوخ من الحديث، وهو من أهم علومه وأصعبها، وقد دوَّن علماء الحديث كتبا في مصطلحه، فمنهم القاضي أبو محمد الرامهرمزي، فإنه ألف كتابه المحدث الفاضل، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري، ثم تلاه أبو نعيم الأصفهاني، ثم جاء بعدهم الخطيب البغدادي، صاحب تاريخ بغداد، وألف في قواعد الرواية كتابا سماه «الكفاية» وفي آدابها كتابا سماه «الجامع لآداب الشيخ والسامع»، وقل فن من فنون الحديث إلا وقد صنف فيه كتابا حتّى إن كل من أنصف يعلم أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه، ثم جاء من تأخر عن الخطيب ممن أخذ نصيبا من هذا الفن فألف فيه، فجمع القاضي عياض كتابا لطيفا سماه «الإلماع» وجمع أبو حفص الميانجي جزءا سماه «ما لا يسع المحدث جهله» ثم كثرت المصنفات في ذلك إلى أن جاء الفقيه الحافظ للسنّة، عبد الرحمن الشهرزوري المعروف بابن الصلاح نزيل دمشق، فجمع لما ولي تدريس الحديث بالمدرسة الأشرفية، كتابه المشهور في مصطلح الحديث، فهذّب فنونه وأملاه شيئا بعد شيء، ثم تلاه محيي الدين النووي والحافظان العراقي وابن حجر.

ثم إنه من المعلوم، أنهم قسموا السنن المضافة إلى رسول الله قولا أو فعلا أو تقريرا أو صفة إلى ثلاثة أقسام:

1 – الصحيح.

2 – الحسن.

3 – الضعيف.

وقسموا كلا منها أقساما، فالأول الصحيح وهو ما اتصل سنده بالرجال العدول، الضابطين من غير شذوذ ولا علة، فالعدل: هو من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة، والضابط: من ثبت ما سمعه في صدره بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء، ومن يضبط كتابه أي يصونه عنده منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدّى عنه، وقوله من غير شذوذ معناه أن لا يشذ الراوي فيخالف في روايته من هو أرجح منه، وأن يكون خاليا من علة قادحة فيه كإرسال المرفوع ورفع المرسل، ولهذا يتفاوت الصحيح في القوة بحسب ضبط رجاله واشتهارهم بالحفظ والورع وتحري مخرجيه واحتياطهم، ولهذا اتفقوا على أن أصح الحديث ما اتفق على إخراجه البخاري ومسلم، ثم ما انفرد به البخاري، ثم مسلم، ثم ما كان على شرطهما، ثم شرط البخاري، ثم شرط مسلم، ثم شرط غيرهما، القسم الثاني، الحسن، وهو ما كان رجال سنده معروفين، مشهورين بالعدالة والضبط، اشتهارا دون اشتهار رجال الصحيح، والغريب، ما استغربه أهل الحديث لمعان، فرب حديث يكون غريبا، لا يروى إلا من وجه واحد كأن تدور روايته على واحد وإن كان الحديث مشهورا عند أهل العلم لكثرة من روى عن ذلك الواحد، ورب حديث إنما يستغرب لزيادة تكون في الحديث، وإنما تصح إذا كانت الزيادة ممن يعتمد على حفظه، واعلم أن قولهم هذا حديث صحيح أو ضعيف، إنما هو بالنظر لظاهر الإسناد وليس هذا منهم على سبيل القطع، القسم الثالث: الضعيف، وهو ما تقاصر إسناده عن أن يصل إلى رتبة الحسن، فعدم وصوله إلى درجة الصحيح، من باب أولى، وللضعيف أقسام كثيرة، منها ما له لقب خاص كالمضطرب والمقلوب والموضوع والمنكر، ومنها ما ليس له ذلك.

مختارات من الأحاديث النبوية

1 - «آية المنافق ثلاث إذا حدَّث كذّب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان».

(عن أبي هريرة، رواه الشيخان)

2 - «أبغض الحلال إلى الله الطلاق».

(عن ابن عمر، رواه أبو داود وابن ماجه)

3 - «اتقوا الله واعدلوا في أولادكم».

(عن النعمان بن بشير، أخرجه الشيخان)

4 - «اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشحَّ فإنه أهلك من كان قبلكم».

(عن جابر، أخرجه مسلم)

5 - «اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل الربا وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المُحْصَنات الغافلات».

(عن أبي هريرة، أخرجه الشيخان)

6 - «أحب الأعمال إلى الله، أدومها وإن قلّ».

(عن عائشة، رواه الشيخان)

7 - «أحب الناس إلى الله تعالى يوم القيامة وأدناهم منه مجلسا، إمام عادل، وأبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأبعدهم منه مجلسا، إمام جائر».

(عن أبي سعيد، أخرجه الترمذي)

8 - «البِرُّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس».

(عن النوّاس بن سمعان، أخرجه مسلم)

9 - «إذا استأذنت أحدَكم امرأتهُ إلى المسجد فلا يمنعها».

(عن سالم عن أبيه، رواه مسلم)

10 - «إذا التقى المسلمان بسيفهما فقتل أحدهما صاحبه، فالقاتل والمقتول في النار»، قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصا على قتل صاحبه».

(عن أبي بكرة، رواه الشيخان)

11 - «إذا أُمَّ أحدكم الناس، فليخفف، فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف والمريض وذا الحاجة، وإذا صلى لنفسه فليطوّل ما شاء».

(عن أبي هريرة، رواه الشيخان)

12 - «إذا تقاضى إليك رجلان، فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر، فسوف تدري كيف تقضي».

(عن علِيّ رضي الله عنه، رواه أحمد وأبو داود والترمذي)

13 - «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر».

(عن عمرو بن العاص: متفق عليه)

14 - «إذا رأى أحدكم جنازة، فإن لم يكن ماشيا معها، فليقم حتى يخلفها أو تخلفه أو توضع من قبل أن تخلفه».

(عن عامر بن ربيعة، رواه البخاري)

15 - «إذا مات ابن آدم، انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».

(عن مسلم عن أبي هريرة)

16 - «أربع مَن كنّ فيه، كان منافقا خالصا، ومَن كانت فيه خَلّة منهن، كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها: إذا حدَّثَ كَذَب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر».

(عن عبد الله بن عمر، رواه الشيخان)

17 - «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقول الزور».

(عن علِيّ رضي الله عنه، رواه الشيخان)

18 - «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك».

(عن أبي هريرة، رواه الشيخان)

19 - «الأرواح جنود مجَنَّدة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف».

(عن أبي هريرة، رواه الشيخان)

20 - «إنا لن نستعمل على عملنا من أراده».

(عن أبي موسى، رواه الشيخان)

21 - «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم».

(عن أبي هريرة، متفق عليه)

22 - «إن الله تعالى حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات، وكره لكم قيلا وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال».

(عن المغيرة بن شعبة، رواه الشيخان)

23 - «إن الله تعالى قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله».

(عن عتبان بن مالك، رواه الشيخان)

24 - «إن الدعاء هو العبادة».

(عن أبي هريرة، رواه الأربعة)

25 - «إن الدين يُسر ولن يُشَادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغَدْوة والرّوحة وشيء من الدُّلْجة».

(عن أبي هريرة، أخرجه البخاري)

26 - «إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها».

(عن أبي سعيد الخدري، رواه مسلم)

27 - «إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة، هو مَنْ تركه الناس اتقاء فُحشه».

(عن عائشة، رواه الشيخان)

28 - «إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة».

(عن أبي هريرة، رواه البخاري)

29 - «إن الميت ليعذب ببكاء الحي».

(عن عمر، رواه الشيخان)

30 - «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه».

(عن عمر، رواه الشيخان)

31 - «إنما الطاعة في المعروف».

(عن علِيّ رضي الله عنه، رواه الشيخان)

32 - «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت».

(عن ابن مسعود، أخرجه البخاري)

33 - «إن من الشعر لحكمة».

(عن أُبيّ بن كعب، أخرجه البخاري)

34 - «المؤمن للمؤمن كالبنيان يَشُدُّ بعضه بعضا».

(عن أبي موسى، رواه البخاري)

35 - «إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطوّل فيها فأسمع بكاء الصبيّ فأتجوّز في صلاتي كراهية أن أشقّ على أمه».

(عن قتادة، رواه البخاري)

36 - «إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب».

(عن أبي هريرة، أخرجه أبو داود، ولابن ماجه من حديث أنس مثله)

37 - «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه وبلقائه وبرسله، وتؤمن بالبعث الآخر».

(عن أبي هريرة، رواه الشيخان)

38 - «الإيمان بضع وستون شُعبة، والحياء شُعبة من الإيمان».

(عن أبي هريرة، رواه البخاري)

39 - «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقامَ الصلاة، وإيتاءَ الزكاة، والحج، وصوم رمضان».

(عن ابن عمر، رواه البخاري)

40 - «بئس الطعام، طعام الوليمة، يُدعى إليه الأغنياء، ويُترك الفقراء، ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله».

(عن أبي هريرة، رواه الشيخان)

41 - «تجدون من شر الناس عند الله تعالى يوم القيامة ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه».

(عن أبي هريرة، أخرجه الستة)

42 - «تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي، ومن رآني في المنام، فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي، ومن كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار».

(عن أبي هريرة، أخرجه البخاري)

43 - «تهادوا تحابوا».

(عن أبي هريرة، رواه البخاري)

44 - «ثلاث لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم - قال أبو معاوية - ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر».

(عن أبي هريرة، أخرجه مسلم)

45 - «حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصحه، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه».

(عن أبي هريرة، رواه مسلم)

46 - «الحياء لا يأتي إلا بخير».

(عن عمران بن الحصين، رواه الشيخان)

47 - «الحياء من الإيمان».

(عن ابن عمر، متفق عليه)

48 - «الخالة بمنزلة الأم».

(عن البراء، رواه الشيخان)

49 - «خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك، قاله لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان».

(عن عائشة، رواه الشيخان)

50 - «خياركم، أحاسنكم أخلاقا».

(عن ابن عمر، رواه الشيخان)

51 - «دخلت امرأة النار في هِرَّة ربطتها، فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خَشاش الأرض حتى ماتت» (خشاش الأرض: هوامها).

(عن أبي هريرة، رواه الشيخان)

52 - «الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».

(عن تميم الداري، أخرجه مسلم)

53 - «الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل، الصائم النهار».

(عن أبي هريرة، رواه الشيخان)

54 - «سِباب المسلم فسوق وقتاله كفر».

(عن ابن مسعود، رواه الشيخان)

55 - «السَّخِيُّ قريبٌ من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار، ولجاهل سخيٌّ، أحب إلى الله تعالى من عابد بخيل».

(عن أبي هريرة، أخرجه الترمذي)

56 - «السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة».

(عن ابن عمر، أخرجه البخاري)

57 - «العائد في هبته، كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه».

(عن ابن عباس، متفق عليه)

58 - «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صِدِّيقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذابا».

(عن ابن مسعود، متفق عليه)

59 - «قد أذن الله لكنّ أن تخرجن لحوائجكن».

(عن عائشة، رواه الشيخان)

60 - «كل شراب أسكر فهو حرام».

(عن عائشة، أخرجه الستة)

61 - «كلكلم راع وكل راع مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته».

(عن ابن عمر، أخرجه الخمسة)

62 - «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام».

(عن ابن عمر، أخرجه مسلم)

63 - «كل معروف صدقة».

(عن جابر، أخرجه البخاري)

64 - «لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه، فهو كفر».

(عن أبي هريرة، رواه مسلم)

65 - «لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدَّموا».

(عن عائشة، رواه البخاري)

66 - «لا تمنعو النساء المساجد إذا استأذنَّكم إليها».

(عن عبد الله بن عمر، رواه مسلم)

67 - «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها».

(عن عبد الله بن مسعود، أخرجه البخاري)

68 - «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان».

(عن أبي بكرة، متفق عليه)

69 - «لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة».

(عن ابن مسعود، متفق عليه)

70 - «لا يحل لرجل مسلم أن يعطي العطية ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده».

(عن ابن عمر وابن عباس، رواه أحمد والأربعة)

71 - «لا يَخْلُوَنَّ رجل بامرأة إلا مع ذي مَحرَم».

(عن ابن عباس، رواه البخاري)

72 - «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبَر».

(عن عبد الله بن مسعود، رواه مسلم)

73 - «لا يدخل الجنة قَتَّات» - أي نمّام.

(عن حذيفة، متفق عليه)

74 - «لا يرث المسلمُ الكافرَ، ولا يرث الكافرُ المسلمَ».

(عن أسامة بن زيد، متفق عليه)

75 - «لا يرحم الله من لا يرحم الناس».

(عن جرير، أخرجه الشيخان والترمذي)

76 - «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن».

(عن أبي هريرة، رواه مسلم)

77 - «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين».

(عن أبي هريرة، أخرجه الشيخان)

78 - «لا يؤمن أحدكم حتى يحبُّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه».

(عن أنس، رواه البخاري)

79 - «لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة».

(عن أبي هريرة، رواه البخاري)

80 - «ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب».

(عن أبي هريرة، متفق عليه)

81 - «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا».

(عن أم كلثوم بنت عقبة، أخرجه البخاري)

82 - «ليسلم الصغير على الكبير والمار على القاعد والقليل على الكثير».

(عن أبي هريرة، متفق عليه، وفي رواية لمسلم: والراكب على الماشي)

83 - «ليس المسكين الذين يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يُفطن له فيُتَصدَّق عليه ولا يقول فيسأل الناس».

(عن أبي هريرة، رواه البخاري)

84 - «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية».

(عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق، عن عبد الله، رواه مسلم والبخاري)

85 - «ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة».

(عن معقل، رواه مسلم)

86 - «ما من عبد يسترعيه الله رَعِيَّة يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة».

(عن معقل، رواه مسلم)

87 - «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه».

(عن أبي هريرة، رواه البخاري)

88 - «المسلم مَن سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه».

(عن عبد الله بن عمر، رواه البخاري)

89 - «من أحب أن يُبسط له في رزقه وأن يُنسأ في أثره، فَلْيَصِل رحمه».

(عن أبي هريرة، أخرجه البخاري)

90 - «مَن بَدّل دينه فاقتلوه».

(عن ابن عباس، رواه البخاري)

91 - «من حُسْن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».

(عن أبي هريرة، رواه البخاري)

92 - «مَن حمل علينا السلاح فليس منا».

(عن ابن عمر، متفق عليه)

93 - «من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه، فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه، فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا».

(عن أبي هريرة، رواه مسلم)

94 - «من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى، جاء يوم القيامة وشقه مائل».

(عن أبي هريرة، رواه أحمد والأربعة وسنده صحيح)

95 - «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه».

(عن أبي هريرة، رواه مسلم)

96 - «من نَفَّسَ عن مسلم كربة من كرب الدنيا، نَفَّسَ الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يَسَّر على مُعسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه».

(عن أبي هريرة، أخرجه مسلم)

97 - «من ولاَّه الله شيئا من أمور المسلمين فاحتجب عن حاجتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته».

(عن أبي مريم الأزدي، أخرجه أبو داود والترمذي)

98 - «من يقل عليّ ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار».

(عن سلمة بن الأكوع، رواه البخاري)

99 - «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم».

(عن ابن عمر، أخرجه ابن ماجه بإسناد حسن)

100 - «والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره، خير له من أن يأتي رجلا فيسأله، أعطاه أو منعه».

(عن أبي هريرة، رواه البخاري)

101 - «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة، فليتزوّج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء».

(عن عبد الله بن مسعود، متفق عليه)

خاتمة الكتاب

أما بعد، فيقول العبد الفقير إلى الله جلّ شأنه، الراجي عفوه ومثوبته محمد رضا: لقد انتهيت من تأليف هذا الكتاب الذي قضيت شطرا كبيرا من حياتي في جمعه وتصنيفه وتحقيق موضوعاته ومسائله؛ لأقدم للعالم الإسلامي كتابا يعتمد عليه في السيرة النبوية الشريفة، على أني أعترف أن الإنسان مهما تحرى الصواب، فهو عرضة للخطأ والزلل، وحسب المؤلف أن يبذل وسعه ويفرغ جهده.

فأرجو القارىء الكريم أن يغتفر ما قد يعثر عليه من هفوات وسقطات، قد لا يخلو منها كتاب، ففوق كل ذي عليم، وما أُوتينا من العلم إلا قليلا وقد قيل: «من ألّفَ، فقد استهدف»، والله أسأل أن يوفقنا إلى ما فيه رضاه ويهدينا سواء السبيل ويرينا الخير خيرا فنتبعه، والشر شرا فنجتنبه، ويهبنا الصدق في القول والإخلاص في العمل، وينفع بهذا الكتاب طلاب العلم وأن يصلح به النفوس ويهدي الأمم الإسلامية إلى الاقتداء بسيد الخلق، والعمل بسنته، حتى يعيدوا مجدهم ويرفعوا قدرهم، اللهم آمين.