شرح العقيدة الأصفهانية

شرح العقيدة الأصفهانية

المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني المتوفى 728 هـ شرح العقيدة الأصفهانية

المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ)

سئل شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين بن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه وهو مقيم بالديار المصرية في شهور سنة اثني عشر وسبعمائة أن يشرح العقيدة التي ألفها الشيخ شمس الدين محمد بن الأصفهاني الإمام المتكلم المشهور الذي قيل إنه لم يدخل إلى الديار المصرية أحد رؤوس علماء الكلام مثله وأن يبين ما فيها

فأجاب إلى ذلك واعتذر بأنه لا بد عند شرح ذلك الكلام من مخالفة بعض مقاصده لما توجبه قواعد الإسلام فإن الحق أحق أن يتبع والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين والله تعالى يقول (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)، (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)، (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا).

وليعلم أن الشرح المطلوب الآتي ذكره اشتمل ولله الحمد مع اختصاره على غرر قواعد أصول الدين التي لم ينهض بتحقيق الحق فيها إلا الجهابذة النقاد من سادات الأولين والآخرين كما ستشهد ذلك ويشهد به وقت التأمل أهل العدل والإنصاف من المحقين المحققين والله سبحانه ولي التوفيق والهادي إلى سواء الطريق وهو حسبنا ونعم الوكيل

وأول العقيدة المذكورة قوله: «الحمد لله حق حمده وصلواته على محمد رسوله وعبده للعالم خالق واجب الوجود لذاته واحد عالم قادر حي مريد متكلم سميع بصير والدليل على وجوده الممكنات لاستحالة وجودها بنفسها واستحالة وجودها بممكن آخر ضرورة استغناء المعلول بعلته عن كل ما سواه وافتقار الممكن إلى علته والدليل على وحدته أنه لا تركيب فيه بوجه وإلا لما كان واجب الوجود لذاته ضرورة افتقاره إلى ما تركب منه ويلزم من ذلك أن لا يكون من نوعه اثنان إذ لو كان لزم وجود الاثنين بلا امتياز وهو محال والدليل على علمه إيجاده الأشياء لاستحالة إيجاده الأشياء مع الجهل بها والدليل على قدرته إيجاده الأشياء وهي إما بالذات وهو محال إلا لكان العالم وكل واحد من مخلوقاته قديما وهو باطل فتعين أن يكون فاعلا بالاختيار وهو المطلوب والدليل على أنه حي علمه وقدرته لاستحالة قيام العلم والقدرة بغير الحي والدليل على إرادته تخصيصه الأشياء بخصوصيات واستحالة التخصيص من غير مخصص والدليل على كونه متكلما أنه آمروناه لأنه بعث الرسل لتبليغ أوامره ونواهيه ولا معنى لكونه متكلما إلا ذلك والدليل على كونه سميعا بصيرا السمعيات والدليل على نبوة الأنبياء المعجزات والدليل على نبوة نبينا محمد القرآن المعجز نظمه ومعناه

ثم نقول كل ما أخبر به محمد عليه الصلاة والسلام من عذاب القبر ومنكر ونكير وغير ذلك من أحوال القيامة والصراط والميزان والشفاعة والجنة والنار فهو حق لأنه ممكن وقد أخبر به الصادق فلزم صدقه والله الموفق»


فأجاب رضي الله تعالى عنه: الحمد لله رب العالمين ما في هذا الكلام من الأخبار بأن للعالم خالقا وأنه واجب الوجود بنفسه وأنه واحد عالم قادر حي مريد متكلم سميع بصير فهو حق لا ريب فيه وكذلك ما فيه من الإقرار بنبوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ونبوة محمد وأنه يجب التصديق بكل ما أخبر به من عذاب القبر ومنكر ونكير وغير ذلك من أحوال القيامة والصراط والميزان والشفاعة والجنة والنار فإنه حق فإن هذه الأسماء المقدسة المذكورة لله تعالى منها ما هو في كتاب الله تعالى كاسمه الواحد والعالم والقادر والحي والسميع والبصير

قال تعالى: وإلهكم إله واحد وقال تعالى: رفيع الدرجات ذو العرش يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار وقال تعالى: الله لا إله إلا هو الحي القيوم وعنت الوجوه للحي القيوم وقال تعالى: والله شكور حليم عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم وقال تعالى: إن الله على كل شيء قدير وقال تعالى: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ومثل هذا في القرآن كثير


هامش

وأما تسميته سبحانه بأنه مريد وأنه متكلم فإن هذين الاسمين لم يردا في القرآن ولا في الأسماء الحسنى المعروفة ومعناهما حق ولكن الأسماء الحسنى المعروفة هي التي يدعى الله بها وهي التي جاءت في الكتاب والسنة وهي التي تقتضي المدح والثناء بنفسها والعلم والقدرة والرحمة ونحو ذلك وهي في نفسها صفات مدح والأسماء الدالة عليها أسماء مدح

وأما الكلام والإرادة فلما كان جنسه ينقسم إلى محمود كالصدق والعدل وإلى مذموم كالظلم والكذب والله تعالى لا يوصف إلا بالمحمود دون المذموم جاء ما يوصف به من الكلام والإرادة في أسماء تخص المحمود كاسمه الحكيم والرحيم والصادق والمؤمن والشهيد والرؤوف والحليم والفتاح ونحو ذلك مما يتضمن معنى الكلام ومعنى الإرادة فإن الكلام نوعان إنشاء وإخبار والإخبار ينقسم إلى صدق وكذب والله تعالى يوصف بالصدق دون الكذب والإنشاء نوعان إنشاء تكوين وإنشاء تشريع فإنه سبحانه له الخلق والأمر وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون والتكوين يستلزم الإرادة عند جماهير الخلائق وكذلك يستلزم الكلام عند أكثر أهل الإثبات وأما التشريع فيستلزم الكلام وفي استلزامه الإرادة نزاع والصواب أنه يستلزم أحد نوعي الإرادة كما سنبين إن شاء الله والإنشاء يتضمن الأمر والنهي والإباحة والله تعالى يوصف بأنه يأمر بالخير وينهى عن الشر فهو سبحانه لا يأمر بالفحشاء وكذلك الإرادة قد نزه نفسه عن بعض أنواعها بقوله تعالى وما الله يريد ظلما للعباد وقوله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر فلهذا لم يجىء في أسمائه الحسنى المأثورة المتكلم والمريد

وأما ما يوصف به الرب من الكلام والإرادة فقد دلت عليه أسماؤه الحسنى وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الله تعالى متكلم بكلام قائم به وإن كلامه غير مخلوق وأنه مريد بإرادة قائمة به وإن إرادته ليست مخلوقة وأنكروا على الجهمية من المعتزلة وغيرهم الذين قالوا إن كلام الله مخلوق خلقه في غيره وإنه كلم موسى بكلام خلقه في الهواء واتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود ومعنى قولهم منه بدأ أي هو المتكلم به لم يخلقه في غيره كما قالت الجهمية من المعتزلة وغيرهم أنه بدأ من بعض المخلوقات وأنه سبحانه لم يقم به كلام ولم يرد السلف أنه كلام فارق ذاته فإن الكلام وغيره من الصفات لا تفارق الموصوف بل صفة المخلوق لا تفارقه وتنتقل إلى غيره فكيف تكون صفة الخالق تفارقه وتنتقل إلى غيره ولهذا قال الإمام أحمد كلام الله من الله ليس ببائن منه ورد بذلك على الجهمية المعتزلة وغيرهم الذين يقولون كلام الله بائن منه خلقه في بعض الأجسام ومعنى قول السلف إليه يعود ما جاء في الآثار إن القرآن يسري به حتى لا يبقى في المصاحف منه حرف ولا في القلوب منه آية وقد قال الله تعالى عن المخلوق كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ومع هذا فكلمة المخلوق لا تفارق ذاته وتنتقل إلى غيره

وما جاءت به الآثار عن النبي والصحابة والتابعين لهم بإحسان وغيرهم من أئمة المسلمين كالحديث الذي رواه أحمد في مسنده وكتبه إلى المتوكل في رسالته التي أرسل بها إليه عن النبي أنه قال ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه يعني القرآن وفي لفظ بأحب إليه مما خرج منه وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما سمع كلام مسيلمة إن هذا كلام لم يخرج من إل أي من رب وقول ابن عباس لما سمع قائلا يقول لميت لما وضع في لحده اللهم رب القرآن اغفر له فالتفت إليه ابن عباس فقال مه القرآن كلام الله ليس بمربوب منه خرج وإليه يعود وهذا الكلام معروف عن ابن عباس

وقول السلف القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود كما استفاضت الآثار عنهم بذلك كما هو مذكور عنهم في الكتب المنقولة عنهم بالأسانيد المشهورة لا يدل على أن الكلام يفارق المتكلم ويتنقل إلى غيره ولكن هذا دليل على أن الله هو المتكلم بالقرآن ومنه سمع لا أنه خلقه في غيره كما فسره بذلك أحمد وغيره من الأئمة قال أبو بكر الأشتر سئل أحمد عن قوله القرآن كلام الله منه خرج وإليه يعود فقال أحمد منه خرج هو المتكلم به وإليه يعود ذكره الخلال في كتاب السنة عن عبد الله بن أحمد وما جاءت به الآثار مثل قول خباب بن الأرت تقرب إلى الله بما استطعت فإنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه مما خرج منه وروي ذلك مرفوعا ونحو ذلك أولى أن لا يدل على أن الكلام يفارق المتكلم وينتقل إلى غيره ولكن هذا دليل على أن الله هو المتكلم بالقرآن ومنه سمع لا أنه خلقه في غيره وقد بين السلف والأئمة وأتباعهم فساد قول الجهمية وأتباعهم الذين يقولون كلامه مخلوق بوجوه كثيرة مثل قولهم لو كان مخلوقا في غيره لكان صفة لذلك المحل ولاشتق لذلك المحل منه اسم كما في سائر الصفات مثل العلم والقدرة والسمع والبصر والحياة وكما في الحركة والسكون والسواد والبياض وسائر الصفات التي تشترط لها الحياة فإنها إذا قامت بمحل كانت صفة لذلك المحل دون غيره واشتق لذلك المحل منها اسم دون غيره فإن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل دون غيره وسمى بالاسم المشتق منها ذلك المحل دون غيره وطرد هذا عند السلف وجمهور أهل الإثبات في أسماء الأفعال كالخالق والعادل وغير ذلك

وأما من لم يطرد ذلك بل زعم أنه يوصف بصفات الأفعال وهي عنده المفعولات المباينة له ويشقق له منها اسم فقوله متناقض ولهذا نقضت المعتزلة قول هؤلاء بما سلموه لهم وبسط هذا له موضع آخر

والمقصود هنا التنبيه على الفرق بين المتكلم والمريد وغيرهما حيث جاءت النصوص باسم العليم والقدير والسميع والبصير ولم تأت باسم المريد والمتكلم بما يدل على مطلق الإرادة والكلام وإنما جاءت بما يدل على الكلام المحمود والإرادة المحمودة لا باسم يشترك فيه المحمود والمذموم وأن الكلام والإرادة مما يقوم بالرب تعالى ويوصف به ليس ذلك أمرا منفصلا عنه كما تزعم الجهمية والتنبيه على أنه لو كان كلام الله مخلوقا في محل لكان ذلك المحل هو المتكلم به وكانت الشجرة مثلا هي القائلة لموسى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ولوجب أن يكون ما أنطق الله به بعض مخلوقاته كلاما له وقد قال تعالى وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وقد كان النبي يسلم عليه الحجر وقال إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن وقد سبح الحصى بيديه حتى سمع تسبيحه وأمثال ذلك كثير والله هو الذي أنطق هذه الأجسام فلو كان ما يخلقه من النطق والكلام كلاما له لكان ذلك كلام الله كما أن القرآن كلام وكان لا فرق بين أن ينطق هو وبين أن ينطق غيره من المخلوقات وهذا ظاهر الفساد

وكان قدماء الجهمية تنكر أن يكون الله يتكلم فإن حقيقة مذهبهم أن الله لا يتكلم ولهذا قتل المسلمون أول من أظهر هذه البدعة في الإسلام الجعد ابن درهم ضحى به خالد بن عبد الله القسري في يوم النحر وقال ضحوا أيها الناس تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه ثم إنهم صاروا يقولون إنه متكلم مجازا ثم أظهروا القول بأنه متكلم حقيقة وفسروا ذلك بأنه خالق للكلام في غيره وكان هذا من التلبيس على الناس فإن المتكلم عند الناس من قام به الكلام لا من أحدثه في غيره كما أن المريد والرحيم والسميع والبصير والعالم والقادر من قامت به الإرادة والرحمة والسمع والبصر والعلم والقدرة لا من أحدث ذلك في غيره وكذلك الإرادة

ومن الجهمية والمعتزلة وغيرهم من يقول أنه لا إرادة له كما يقوله من يقوله من المعتزلة البغداديين ومنهم من يقول له إرادة أحدثها لا في محل كما يقوله البصريون منهم والشيعة المتأخرون وافقوهم على ذلك ولهم قولان كالمعتزلة وهو من أفسد الأقوال من وجهين من جهة إثباتهم صفة لا في محل ومن جهة إثباتهم حادثا أحدثه لا بإرادة

فهذا المصنف احترز عن مذهب هؤلاء وأحسن في ذلك ولكن هذا المصنف اختصر هذه العقيدة من كتب المتكلمين الصفاتية الذين يثبتون ما ذكره من الصفات بما نبه عليه من الطرق العقلية ويسمون ذلك العقليات

وأما أمر المعاد فيجعلونه كله من باب السمعيات لأنه ممكن في العقل والصادق قد أخبر به وأما المعتزلة والفلاسفة والكرامية وغيرهم وكثير من أهل الحديث والفقه من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم وكثير من الصوفية وسلف الأمة وأئمتها فيجعلون المعاد أيضا من العقليات ويثبتونه بالعقل ويخوض أهل التأويل فيه كما خاضت الصفاتية في ذلك ولكن المصنف سلك في ذلك طريقة أبي عبد الله الرازي فأثبت العلم والقدرة والإرادة والحياة بالعقل وأثبت السمع والبصر والكلام بالسمع ولم يثبت شيئا من الصفات الخبرية وأما من قبل هؤلاء كأبي المعالي الجويني وأمثاله والقاضي أبي يعلى وأمثاله فيثبتون جميع هذه الصفات بالعقل كما كان يسلكه القاضي أبو بكر ومن قبله كأبي الحسن الأشعري وأبي العباس القلانسي ومن قبلهم كأبي محمد بن كلاب والحارث المحاسبي وغيرهما وهكذا السلف والأئمة كالإمام أحمد بن حنبل وأمثاله يثبتون هذه الصفات بالعقل كما ثبتت بالسمع وهذه الطريقة أعلى وأشرف من طريقة هؤلاء المتأخرين كما سنبين إن شاء الله تعالى وأيضا قائمة الصفاتية المتقدمون كابن كلاب والحارث المحاسبي والأشعري وأبي العباس القلانسي وأبي عبد الله بن مجاهد وأبي الحسن الطبري والقاضي أبو بكر ابن الباقلاني وأبي إسحق الإسفرائيني وابي بكر بن فورك وغيرهم يثبتون الصفات الخبرية التي ثبت أن رسول الله أخبر بها وكذلك سائر طوائف الإثبات كالسالمية والكرامية وغيرهم وهذا مذهب السلف والأئمة

ولا ريب أن ما أثبته هؤلاء الصفاتية من صفات الله تعالى ثابت بالشرع مع العقل وهو متفق عليه بين سلف الأمة وأئمتها وإنما خصوا هذه الصفات بالذكر دون غيرها لأنها هي التي دل العقل عليها عندهم كما نبه عليه المصنف ولكن لا يلزم من عدم الدليل المعين عدم المدلول فلا يلزم نفي ما سوى هذه من الصفات والسمع قد أثبت صفات أخرى وأيضا فإن الرازي ونحوه ممن لم يثبت السمع طريقا إلى إثبات الصفات ولا نزاع بينهم أنه طريق صحيح لكن يفرقون بين ما أثبتوه وبين ما توقفوا في ثبوته بأن العقل دل على أثبتناه ولم يدل على ما توقفنا فيه ولهم فيما لم يثبتوه طريقان منهم من نفاه ومنهم من توقف فيه فلم يحكم فيه بإثبات ولا نفي وهذه طريقة محققيهم كالرازي والآمدي وغيرهما بل ومن الناس من يثبت صفات أخرى بالعقل

فالذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل فإنه قد علم بالشرع مع العقل أن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله كما قال تعالى ليس كمثله شيء وقال تعالى هل تعلم له سميا وقال تعالى فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون وقال تعالى ولم يكن له كفوا أحد وقد علم بالعقل أن المثلين يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه فلو كان المخلوق مماثلا للخالق للزم اشتراكهما فيما يجب ويجوز ويمتنع والخالق يجب وجوده وقدمه والمخلوق يستحيل وجوب وجوده وقدمه بل يجب حدوثه وإمكانه فلو كانا متماثلين للزم اشتراكهما في ذلك فكان كل منهما يجب وجوده وقدمه ويمتنع وجوب وجوده وقدمه ويجب حدوثه وإمكانه فيكون كل منهما واجب القدم واجب الحدوث واجب الوجود ليس واجب الوجود يمتنع قدمه لا يمتنع قدمه وهذا جمع بين النقيضين

فإذا عرفت هذا فنقول إن الله سمى نفسه في القرآن بالرحمن الرحيم ووصف نفسه في القرآن بالرحمة والمحبة كما قال تعالى ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما وقال ورحمتي وسعت كل شيء وقال فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه وقال إن الله يحب المتقين ويحب المحسنين ويحب الصابرين ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ونحو ذلك

ومن الناس من جعل حبه ورحمته عبارة عما يخلقه من النعمة كما جعل بعضهم إرادته عبارة عن ما يخلقه من المخلوقات وهذا ظاهر البطلان لا سيما على أصل الصفاتية ومنهم من جعل حبه ورحمته هي إرادته ونفى أن تكون له صفات هي الحب والرضا والرحمة والغضب غير الإرادة

فيقال لهذا القائل لم أثبت له إرادة وإنه مريد حقيقة ونفيت حقيقة الحب والرحمة ونحو ذلك فإن قال لأن اثبات هذا تشبيه لأن الرحمة رقة تلحق المخلوق والرب ينزه عن مثل صفات المخلوقين قيل له وكذلك يقول من ينازع في الإرادة أن الإرادة المعروفة ميل الإنسان إلى ما ينفعه وما يضره والله تعالى منزه عن أن يحتاج إلى عباده وهم لا يبلغون ضره ولا نفعه بل هو الغني عن خلقه كلهم

فإن قلت الإرادة التي نثبتها لله ليست مثل إرادة المخلوق كما أنا قد اتفقنا وسائر المسلمين على أنه حي عليم قدير وليس هو مثل سائر الأحياء العلماء القادرين قال لك أهل الإثبات وكذلك الرحمة والمحبة التي نثبتها لله ليست مثل رحمة المخلوق ومحبة المخلوق فإن قلت لا أعقل من الرحمة والمحبة إلا هذا قال لك النفاة ونحن لا نعقل من الإرادة إلا هذا ومعلوم عند كل عاقل أن إرادتنا ومحبتنا ورحمتنا بالنسبة إلينا كإرادته ورحمته ومحبته بالنسبة إليه فلا يجوز التفريق بين المتماثلين فيثبت له إحدى الصفتين وتنفي الأخرى وليس في العقل ولا في السمع ما يوجب التفريق إذا كثر ما يقال إني أثبت الإرادة بالعقل لأن وجود التخصيص في المخلوقات دل على الإرادات فيقال لك انتفاء الدليل المعين لا يقتضي انتفاء المدلول فهب أن مثل هذا الدليل لا يثبت في الرحمة والمحبة فمن أين ذفيت ذلك ثم يقال بل السمع أثبت ذلك أيضا وقد يسلك في إثبات ذلك نظير الطريق العقلي الذي أثبت به الإرادة فيقال ما في المخلوقات من وجود المنافع للمحتاجين وكشف الضر عن المضرورين والاحسان إلى المخلوقات وأنواع الرزق والهدى والمسرات هو دليل على رحمة الخالق سبحانه والقرآن يثبت دلائل الربوية بهذا الطريق تارة يدلهم بالآيات المخلوقة على وجود الخالق ويثبت علمه وقدرته ومشيئته وتارة يدلهم بالنعم والآلاء على وجود بره وإحسانه المستلزم رحمته وهذا كثير في القرآن وإن لم يكن مثل الأول أو أكثر منه ولم يكن أقل منه بكثير كقوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وقوله أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون وقوله في سورة الرحمن بعد أن ذكر كل نوع من هذه الأنواع فبأي آلاء ربكما تكذبان وبالجملة ما ذكره في القرآن من الأمثال والآيات تارة يقرر نفس مشيئته وقدرته وخلقه وتارة يقرر بها إحسانه وإنعامه ورحمته

وهذه الطريقة مستلزمة للأولى من غير عكس فإنه يلزم من وجود الإحسان والرحمة وجود القدرة والمشيئة من غير عكس وقس على هذا غيره من الصفات وأمره هو أيضا مما يعلم بالسمع وبالعقل أيضا كما تعلم إرادته وكما تعلم محبته وهذه المسائل مبسوطة في مواضع وإنما ذكرنا في هذا الشرح ما يناسب حال هذه العقيدة المختصرة المشروحة وقد بسطنا في غير هذا الموضع الكلام الكلام في محبة الله وذكرنا أن للناس في هذا الأصل العظيم ثلاثة أقوال أحدها أن الله تعالى يحب ويحب كما قال تعالى فسوف يأتي اله بقوم يحبهم ويحبونه فهو المستحق أن يكون له كما المحبة دون ما سواه وهو سبحانه يحب ما أمر به ويحب عباده المؤمنين وهذا قول سلف الأمة وأئمتها وهذا قول أئمة شيوخ المعرفة والقول الثاني أنه يستحق أن يحب لكنه لا يحب إلا بمعنى أن يريد وهذا قول كثير من المتكلمين ومن وافقهم من الصوفية والثالث أنه لا يحب ولا يحب وإنما محبة العباد له إرادتهم طاعته وهذا قول الجهمية ومن وافقهم من متأخري أهل الكلام والرازي

ومما يوضح ذلك أن وجوب تصديق كل مسلم بما أخبر الله به ورسوله من صفاته ليس موقوفا على أن يقوم عليه دليل عقلي على تلك الصفة بعينها فإنه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول إذا أخبرنا بشيء من صفات الله تعالى وجب علينا التصديق به وإن لم نعلم ثبوته بعقولنا ومن لم يقر بما جاء به الرسول حتى يعلمه بعقله فقد أشبه الذين قال الله عنهم قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته ومن سلك هذا السبيل فهو في الحقيقة ليس مؤمنا بالرسول ولا متلقيا عنه الأخبار بشأن الربوية ولا فرق عنده بين أن يخبر الرسول بشيء من ذلك أولم يخبر به فإن ما أخبر به لا يقد به بل يتأوله أو يفوضه وما لم يخبر به إن علمه بعقله آمن به وإلا فلا فرق عند من سلك هذا السبيل بين وجود الرسول وإخباره وبين عدم الرسول وعدم إخباره وكان ما يذكره من القرآن والحديث والإجماع في هذا الباب عديم الأثر عنده وهذا قد صرح به أئمة هذا الطريق

ثم الطريق النبوية فمنهم من يحيل على القياس ومنهم من يحيل على الكشف وكل من الطريقتين فيها من الاضطراب والاختلاف مالا ينضبط وليست واحدة منهما تحصل المقصود بدون الطريق النبوية والطريق النبوية تحصل الأيمان النافع في الآخرة بدون ذلك ثم إن حصل قياس أو كشف يوافق ما أخبر به الرسول كان حسنا مع أن القرآن قد نبه على الطرق الاعتبارية التي بها يستدل على مثل ما في القرآن كما قال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق فأخبر أنه يري عباده عن الآيات المشهودة التي هي أدلة عقلية ما يتبين أن القرآن حق

وليس لقائل أن يقول إنما خصصت هذه الصفات بالذكر لأن السمع موقوف عليها دون غيرها فإن الأمر ليس كذلك لأن التصديق بالسمعيات ليس موقوفا على إثبات السمع والبصر ونحو ذلك

فصل

عدل

فإن قيل إنما نفينا الرحمة والمحبة والرضا والغضب ونحو ذلك من الصفات لأنه لايعقل لها حقيقة تليق بالخالق إلا الإرادة فالمحبة والرضا إرادة الإحسان والغضب إرادة العقاب منه فالفرق بينهما بحسب تعلقاتها لأن هذا في نفسها ليست عده قيل هذا باطل فإن نصوص الكتاب والسنة والإجماع مع الأدلة العقلية تبين الفرق فإن الله سبحانه يقول إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم وقال تعالى إذا يبيتون مالا يرضى من القول فبين أنه لا يرضى هذه المحرمات مع أن كل شيء كائن بسببه وقال تعالى والله لا يحب الفساد

وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام وبإجماع سلف الأمة قبل حدوث أقوال النفاة من الجهمية ونحوهم إن الله يحب الإيمان والعمل الصالح ولا يحب الكفر والفسوق والعصيان وإنه يرضى هذا ولا يرضى هذا والجميع بمشيئته وقدرته والذين لم يفرقوا لهم تأويلات تارة يقولون لا يرضاه لعباده المؤمنين فهم يقولون لا يحب الإيمان والعمل الصالح ممن لم يفعله كما لم يرده ممن لم يفعله ويقولون إنه يحب الكفر والفسوق والعصيان ممن فعله كما أراده ممن فعله

وفساد هذا القول مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام مع دلالة الكتاب والسنة وإجماع السلف على فساده وتأويلهم الثاني قالوا لا يرضاه دينا كما يقولون لا يريده دينا ومعناه عندهم أنه لا يريد أن يثبت فاعله إذ جميع الموجودات والأفعال عندهم بالنسبة إليه سواء لا يحب منها شيئا دون شيء ولا يبغض منها شيئا دون شيء وقد بسط الكلام على فساد هذا القول وتناقضه في مواضع أخر

وإنما المقصود هنا التنبيه على أن ما يجب إثباته لله تعالى من الصفات ليس مقصورا على ما ذكره هؤلاء مع إثباتهم بعض صفاته بالعقل وبعضها بالسمع فإن من عرف حقائق أقوال الناس وطرقهم التي دعتهم إلى تلك الأقوال حصل له العلم والرحمة فعلم الحق ورحم الخلق وكان مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهذه خاصة أهل السنة المتبعين للرسول فإنهم يتبعون الحق ويرحمون من خالفهم باجتهاده حيث عذره الله ورسوله وأهل البدع يبتدعون بدعة باطلة ويكفرون من خالفهم فيها

فصل

عدل

ومن شأن المصنفين في العقائد المختصرة على مذهب أهل السنة والجماعة أن يذكروا ما تتميز به أهل السنة والجماعة عن الكفار والمبتدعين فيذكروا إثبات الصفات وأن القرآن كلام الله غير مخلوق وأنه تعالى يرى في الآخرة خلافا للجهمية من المعتزلة وغيرهم ويذكرون أن الله خالق أفعال العباد وأنه مريد لجميع الكائنات وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن خلافا للقدرية من المعتزلة وغيرهم ويذكرون مسائل الأسماء والأحكام والوعد والوعيد وأن المؤمن لا يكفر بمجرد الذنب ولا يخلد في النار خلافا للخوارج والمعتزلة ويحققون القول في الإيمان ويثبتون الوعيد لأهل الكبائر مجملا خلافا للمرجئة ويذكرون إمامة الخلفاء الأربعة وفضائلهم خلافا للشيعة من الرافضة وغيرهم

وأما الإيمان بما اتفق عليه المسلمون من توحيد الله تعالى والإيمان برسله والإيمان باليوم الآخر فهذا لا بد منه وأما دلائل هذه المسائل ففي الكتب المبسوطة الكبار وهذا المصنف لم يسلك هذا الطريق بل اشار إشارة مختصرة إلى دليل ما ذكره من الأحكام ولم يستوف الأحكام التي تذكر في المعتقدات وعذره في ذلك أن يقول ذكرت جمل الإقرار بالربوبية والرسالة والمعاد فذكرت صفات الله الثبوتية وذكرت الرسالة وما جاءت به النبوات من الإيمان بالمعاد

وقوله إنه متكلم يناقض قول من قال القرآن مخلوق فإن حقيقة قول أولئك أنه ليس بمتكلم وإثبات الإرادة عامة يتناول جميع الكائنات وإثبات القدرة المطلقة تتضمن أنه خالق كل شيء بقدرته وبهذين يخرج قول المعتزلة في الكلام والقدرة والمعترض عليه يقول اقتصرت على بعض الصفات دون بعض

فإن كنت اقتصرت على ما يعلم العقل عندك فقد ذكرت السمع والبصر والكلام وأثبت ذلك بالسمع وإن كنت ذكرت ما يتوقف تصديق الرسول فهو لا يتوقف عندك على إثبات السمع والبصر والكلام لأنك أثبت ذلك بالسمع وحقيقة الأمر أنك أثبت هذه الصفات السبع لأنها هي المشهورة عند المتأخرين من الكلابية كأبي المعالي وأمثاله بأنها العقليات ولكن لم يثبتها جميعها بالعقل بل أثبت بعضها بالسمع موافقة للرازي فلهذا لم تطرد له في ذلك طريق واحد وهو قد نبه على الأدلة تنبيها يعلم به جنس ما يثبت به من الأدلة وإلا فما ذكره من الأدلة لا يكفي في العلم بهذه الأحكام فإن الدليل إن لم تقرر مقدماته ويجاب عما يعارضها لم يتم فكيف إذا لم تقرر مقدماته بل ولا نثبت ونحن نزيد على ما ذكره وعلى وجه تقريره

فأما قوله فالدليل على وجوده الممكنات لاستحالة وجودها بنفسها واستحالة وجوده بممكن آخر ضرورة استغناء المعلول بعلته عن كل ما سواه وافتقار الممكن إلى علته فهذا الدليل مبني على مقدمتين:

إحداهما أن الممكنات موجودة

والثانية أن الممكن لا يوجد إلا بواجب الوجود والمقدمة الأولى لم يقررها بحال ولا يمكن أن يسلك في ذلك طريقة ابن سينا وأمثاله من المتفلسة الذين قالوا نفس الوجود يشهد بوجود واجب الوجود فإن الوجود إما ممكن وإما واجب والممكن مستلزم للواجب فثبت وجود الواجب على هذا التقرير فإن هذه الطريقة وإن كانت صحيحة بلا ريب لكن نتيجتها إثبات وجود واجب وهذا لم ينازع فيه أحد من العقلاء المعتبرين ولا هو من المطالب العالية ولا فيه إثبات الخالق ولا إثبات وجود واجب أبدع السموات والأرض كما يسلمه الإلهيون من الفلاسفة كأرسطو وأتباعه المشائين وإنما فيه أن الوجود وجود واجب وهذا يسلمه منكروا الصانع كفرعون والدهرية المحضة من الفلاسفة والقرامطة ونحوهم ويقولون إن هذا الوجود واجب الوجود بنفسه وإلى هذا يؤول قول أهل الوحدة القائلين بأن الوجود واحد فإنهم يقولون في آخر الأمر ماثم موجود مباين للسموات والأرض وماثم غير وجود الموجود الممكن

ومصنف العقيدة أثبت الصانع بهذا الطريق فإنه لما أثبت أنه صنع الممكنات أثبت علمه وقدرته فلا بد أن يثبت أولا وجود شيء ممكن ليس بواجب ليبني عليه ثبوت وجود واجب مبدع لوجود ممكن ليتم ما سلكه وأما مجرد إثبات جود واجب فلا يفيد هذا المطلوب فليفهم اللبيب هذا

ولا ريب أنه اختصر هذه العقيدة من كتب أبي عبد الله بن الخطيب وقد تكلمنا على ما ذكره أبو عبد الله الرازي مبسوطا في مواضعه ونحن نقدر وجود الممكنات ليتم ما ذكره المصنف من الدليل ويتبين أن هذا الطريق أصح في العقل وأبين مما يذكر في كتب الأصول والأمهات التي اختصرت منها هذه العقيدة لكونها موافقة لطريقة القرآن فإن الفاضل إذا تأمل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية وجد الصواب منها يعود إلى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق العقلية وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقق ما قد نبهنا على بعضه في غير هذا الموضع

فنقول إنه يمكن تقريرها بما نشاهد من حدوث الحوادث فإنا نشاهد من حدوث الحوادث حدوث الحيوان والنبات والمعادن وهذه الحوادث ليست ممتنعة فإن الممتنع لا يوجد ولا واجبة الوجود بنفسها فإن واجب الوجود بنفسه لا يقبل العدم وهذه كانت معدومة ثم وجدت فعدمها ينفي وجوبها ووجودها ينفي امتناعها وهذا دليل قاطع واضح بين على ثبوت الممكنات لكن من سلك هذا الطريق لم يحتج إلى أن يثبت إمكانها بحدوثها ثم يستدل بإمكانها على الواجب بل نفس حدوثها دليل على إثبات المحدث لها فإن العلم بأن المحدث لا بد له من محدث أبين من العلم بأن الممكن لا بد له من واجب فتكون تلك الطريق أبين وأقصر وهذه أخفى وأطول حيث يستدل بالحدوث على الإمكان ثم بالإمكان على الواجب

وإن كان بعض الناس يستدل بالحوادث على المحدث فإن الحوادث لا تختص بما هي عليه إلا بمخصص فإنه يجوز أن تقع على خلاف ما وقعت عليه فتخصيص أحد طرفي الممكن لا بد له من مخصص فهذا الاستدلال وإن كان صحيحا فليس بمسلك سديد فإن العلم بأن المحدث لا بد له من محدث أبين من هذا المحتاج إلى هاتين المقدمتين اللتين هما أخفى من ذلك ومن استدل على الجلي بالخفي فإنه وإن تكلم حقا فلم يسلك طريق الاستدلال فإن كل مستلزم للشيء يصلح أن يكون دليلا عليه إذ يلزم من ثبوت اللزوم ثبوت اللازم والدليل وهذا من شأن الدليل فإنه من ثبوته ثبوت المدلول عليه ولهذا يجب طرد الدليل ولا يجب عكسه لكن إذا كان اللازم والمدلول عليه أظهر من الملزوم الذي هو الدليل كان الاستدلال باللزوم على اللازم خطأ في البيان والدلالة وإن سلك المصنف في إثبات الممكنات تقرير إمكان الإجسام كلها فهذا دليل طويل وفيه مقدمات متنازع فيها نزاعا طويلا وكثير من الناس يقدح فيها بما لم يكن دفعه فإثبات الصانع بمثل هذه المقدمات لو كانت صحيحة كان الدليل باطلا

وأما المقدمة الثانية وهي أن الممكن لا بد له من واجب فقد نبه على هذه المقدمة بقوله لاستحالة وجودها بنفسها فإن الممكن هو الذي يقبل الوجود والعدم كما نشاهده من المحدثات وما كان قابلا للوجود والعدم لم يكن وجوده بنفسه كما قال تعالى أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون يقول سبحانه أحدثوا من غير محدث أم هم أحدثوا أنفسهم ومعلوم أن الشيء لا يوجد نفسه فالممكن الذي ليس له من نفسه وجود ولا عدم لا يكون موجودا بنفسه بل إن حصل ما يوجده وإلا كان معدوما وكل ما أمكن وجوده بدل عن عدمه وعدمه بدل عن وجوده فليس له من نفسه وجود ولا عدم وهذا بين

ومما يقرره أن ما يمكن عدمه بدلا عن وجوده لا يكون وجوده بنفسه إذ لو كان وجوده بنفسه لكان واجبا بنفسه ولو كان واجبا بنفسه لم يقبل العدم وهو قد قبل العدم فليس موجودا بنفسه يقرر ذلك إن ما كان موجودا فأما أن يكون مفتقرا في وجوده إلى غيره وإما أن لا يكون فإن كان مفتقرا في وجوده إلى غيره لم يكن وجوده بنفسه بل بذلك الغير الذي هو مفتقر إليه أو به وبذلك الغير فعلى التقديرين لا يكون وجوده بنفسه وإن لم يكن مفتقرا في وجوده إلى غيره كان موجودا بنفسه فالموجود بنفسه لا يكون مفتقرا إلى غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون موجودا بنفسه فالموجود بنفسه الذي لا يفتقر إلى غيره واجب بنفسه إذ نفسه كافية في وجوده فلا يتوقف وجوده على شيء غير إنيته إن قدر أن إنيته شيء غير وجوده وإن قدر أن إنيته هي وجوده كما هو قول أهل السنة كان قول القائل موجودا بنفسه أي هويته ثابتة بهويته فحيث قدرت هويته لم يمكن عدمها فالموجود بنفسه لا يقبل العدم وما قبل العدم فليس موجودا بنفسه فيفتقر إلى غيره فكل ممكن مفتقر إلى غيره

وهذه المقامات ثابتة في نفس الأمر ويمكن تحريرها بوجوه من الطرق والعبارات والمعنى فيها واحد فتبين قول المصنف لاستحالة وجود الممكنات بأنفسها

وأما قوله واستحالة وجودها بممكن آخر ضرورة استغناء المعلول بعلته عن كل ما سواه وافتقار المعلول إلى علته فمقصوده أن يبين أن الممكنات كما لا توجد بأنفسها فلا توجد بممكن آخر فيلزم أنه لا بد له من واجب بنفسه وذلك لأنها لو وجدت بممكن استغنت به عما سواه لأن ذلك الممكن إن لم يكن علة تامة لوجودها لم توجد به وإن كان علة تامة لوجودها استغنت به عما سواه فإن العلة التامة تستلزم وجود المعلول فلا يفتقر المعلول إلى غيرها فلو وجدت الممكنات بممكن لزم أن يستغني به عما سواه وذلك الممكن من جملة الممكنات والممكن مفتقر إلى غيره فيلزم أن يكون مفتقرا إلى علة غير نفسه والمفتقر إلى غيره لا يكون مستغنيا بنفسه فيلزم أن يكون مفتقرا إلى غيره غير مفتقر إلى غيره غنيا بنفسه ليس بغني بنفسه وهو جمع بين النقيضين فلو كان فاعل الممكنات كلها ممكنا لزم أن يكون هذا الممكن غنيا بنفسه ليس بغني بنفسه فقيرا إلى غيره غير فقير إلى غيره حيث جعل ممكنا مفتقرا وجعل معلولا بعلة تامة فلا يفتقر فيلزم التناقض والأمر في هذا أوضح من هذا التطويل

وإنما سلك هذا المصنف طريقة أبي عبد الله بن الخطيب الرازي فإن هذه طرقه وكان ينسج على منواله وإلا فالعلم بأن جميع الممكنات تفتقر إلى غيرها كالعلم بأن هذا الممكن مفتقر إلى غيره فإن الافتقار إذا كان من جهة كونه ممكنا سواء كان الإمكان دليل الافتقار أو علة الافتقار فهو يعمها كلها فأي شيء قدر ممكنا كان الفقر ثابتا فيه إلى غيره فلا بد لكل ممكن من مفتقر إليه كما لا بد لهذا الممكن من غير يفتقر به ومعلوم أن افتقار الشيء إلى بعض أشد من افتقاره إلى نفسه فإذا كان الممكن لا يوجد بنفسه ولا يكون موجودا بنفسه فكيف يكون موجودا ببعضه وكيف يتصور أن يكون مجموع الممكنات موجودة بممكن من الممكنات وهي لا يكفي في وجودها مجموع الممكنات والهيئة الاجتماعية لا تخرجها عن الإمكان الذي هو علة الافتقار أو دليل الافتقار وهذا بين ولله الحمد

فصل

عدل

فلما قرر إثبات الصانع أخذ يثبت وحدانيته فقال والدليل على وحدته أنه لا تركيب فيه بوجه وإلا لما كان واجب الوجود لذاته ضرورة افتقاره إلى ما تركب منه ويلزم من ذلك أن لا يكون من نوعه اثنان إذ لو كان لزم وجود الاثنين بلا امتياز وهو محال وهذا الدليل أخذه من كلام أبي عبد الله الرازي وقد سلك فيه مسلك المتفلسفة كابن سينا وأمثاله فإن هذا هو عمدتهم فيما يدعونه من التوحيد وهو حجة باطلة ومقصودهم فيما يدعونه من التوحيد وقد بين ذلك علماء المسلمين كما بينه أبو حامد الغزالي في تهافت الفلاسفة وكما قد صرح الرازي وغيره من هذه الطرق في مواضع أخر

وأما قوله ويلزم من ذلك أن لا يكون من نوعه اثنان إذ لو كان لزم وجود الاثنين بلا امتياز وهو محال فطريقهم في تقرير هذا أنه لو كان اثنان واجبا الوجود لكانا مشتركين في وجوب الوجود فإن كان كل منهما ممتاز عن الآخر بتعينه كان كل منهما مركبا مما به الاشتراك وما به الامتياز فيكون كل منهما مركبا وقد تقدم إن التركيب محال وإن لم يكن أحدهما ممتاز عن الآخر لزم وجود اثنين بلا امتياز

وبهذه الحجة يثبتون إمكان الأجسام كلها لأنهم يقولون الجسم مركب إما من المادة والصورة وإما من الجواهر الفردة وكل مركب ممكن فبهذه الحجة تقوم الصفات وكانوا من أشد الناس تجهما لأنهم زعموا أن إثبات الصفات ينافي هذا التوحيد وقد تفطن لفساد هذه الحجة من تفطن لها من الفضلاء كأبي حامد الغزالي وغيره وذلك من وجوه

أحدهما أن يقال قول القائل إنه يلزم افتقاره إلى ما ركب منه وذلك ينافي وجوب الوجود ممنوع لأن غاية ما فيه أن ما ركب منه جزء من أجزائه

وقول القائل إن المركب مفتقر إلى جزئه ليس بأعظم من قوله إنه مفتقر إلى كله فإن الافتقار إلى المجموع أشد من الافتقار إلى بعض المجموع فالمفتقر إلى المجموع مفتقر إلى كل جزء منه والمفتقر إلى جزء منه لا يلزم أن يكون مفتقرا إلى الجزء الآخر ومعلوم أن افتقاره إلى الجميع هو افتقاره إلى نفسه وهو معنى قوله هو واجب بنفسه فعلم أن وجوبه بنفسه لا يوجب الافتقار المنافي لوجوب الوجود

الوجه الثاني أن يقال وجوب الوجود الذي دل عليه الدليل ينفي أن يفتقر إلى أن يكون مفتقرا إلى شيء خارج عن نفسه إذ لو كانت الممكنات لا بد لها من وجود غير ممكن موجود بنفسه وهذا ينفي أن يفتقر إلى شيء خارج عن نفسه فلو قيل إنه موجود بنفسه مستغن عن غيره وإنه مفتقر إلى غيره للزم الجمع بين النقيضين فأما ما هو داخل في مسمى نفسه فليس هو شيئا خارجا عن نفسه حتى يقال افتقاره إليه ينافي وجوده بنفسه

الوجه الثالث أن يقال اسم الغير فيه اصطلاحان أحدهما أن أحد الغيرين ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر والآخر أن الغيرين ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بوجود أو إمكان أو زمان والأول اصطلاح المعتزلة والكرامية والثاني اصطلاح الكلابية والأشعرية فإن قيل بالثاني فجزؤه وصفته ليس بغير له فلا يكون ثبوته موجبا لافتقاره إلى غيره وإن قيل بالأول فثبوت الغير بهذا التغير لا بد منه فإنه يمكن العلم بوجوده والعلم بوجوبه والعلم بانه خالق والعلم بعلمه والعلم بإرادته وهم يعبرون عن ذلك بالعقل والعناية وهذه المعاني أغيار على هذا الاصطلاح وثبوتها لازم لواجب الوجود وإذا كان ثبوت هذه الأغيار لازما له لم يجز القول بنفيها لأن نفيها يستلزم نفي واجب الوجود وعلم أن مثل هذا وإن سمي تركيبا فليس منافيا لوجوب الوجود

فإذا قيل واجب الوجود لا يفتقر إلى غيره قيل لا يفتقر إلى غير يجوز مفارقته له أم هو لازم لوجوده فالأول حق وأما الثاني فممنوع ونبين ذلك بالوجه الرابع وهو أن يقال استعمال لفظ الافتقار في مثل هذا ليس هو المعروف في اللغة والعقل فإن هذا إنما هو تلازم بمعنى أنه لا يوجب المركب إلا بوجود جزء أو لا يوجد أحد الجزئين إلا بوجود الآخر أو لا يوجد الجزء إلا بوجود الكل أو لا توجد الصفة إلا بوجود الموصوف أو لا يوجد الموصوف إلا بوجود الصفة

ومعلوم أن الشيئين المتلازمين في الوجود لا يجب أن يكون أحدهما مفتقرا إلى الآخر بل إن كان ممكنين جاز أن يكونا معلولي علة واحدة أوجبتهما من غير أن يفتقر أحدهما إلى الآخر وأما الأمور المتلازمة كالأبوة والبنوة لا يجب أن يكون أحدهما مفتقرا إلى الآخر فإن افتقار الشيء إلى غيره إنما يكون إذا كان ذاك الغير مؤثرا في وجوده كتأثير العلة فأما المتلازمان اللذان يكون وجود أحدهما مستلزم لوجود الآخر معه فإنه وإن قيل أن وجوده شرط لوجوده لكن لا يلزم أن يكون مفتقرا إليه بحيث يكون علة له وإذا كان المراد بالافتقار هنا التلازم فذلك لا ينافي وجوب الوجود يوضح ذلك

الوجه الخامس وهو أن يقال لا ريب إنه يمتنع أن يكون شيئان كل منها علة للآخر لأن العلة متقدمة على المعلول فلو كان علة لعلته للزم تقدمه على نفسه لكونه علة العلة وتأخره عن نفسه لكونه معلول العلة وذلك جمع بين النقيضين ولهذا كان الدور القبلي محالا ولا يمتنع أن يكون شيئان كل منهما شرط في الآخر لأن ذلك إنما يستلزم أن يكون كل منهما مع الآخر وليس ذلك يمتنع ولهذا قيل الدور المعي ليس بمحال فالمركب غايته أن يكون كل من أجزائه مشروطا بالجزء الآخر وأن يكون هو مشروطا بأجزائه ولا يقتضي التركيب وجود جزء قبل جزء ولا وجود جزء قبل أجزائه فإذا قيل إنه مفتقر إلى جزئه كان معناه لا يوجد إلا بوجود جزئه معه ويستلزم ذلك وجود جزئه ثم ذلك الجزء ليس هو علة له ولا هو خارجا عن نفسه فالقول بأن وجوده يستلزم وجود الجزء حق والتعبير عن ذلك بأنه يقتضي أن يكون مفتقرا إلى جزئه وجزؤه غيره ليس له معنى إلا ذلك وهذا لا يقتضي أنه مفتقر إلى علة ومحتاج إلى علة ولا شرط خارج عن واجب الوجود ولا دور قبلي وأما ما فيه من الدور المعي فليس ذلك بمحال ولا ينافي وجوب الوجود إلا أن يثبت أن مثل هذا التعدد ينافي وجوب الوجود وهم لم يثبتوا أن التعدد ينافي وجوب الوجود إلا بهذا فبطل أن يكون هذا دليلا على بطلان التعدد في وجوب الوجود

الوجه السادس أن يقال قول القائل واجب الوجود بنفسه هل يقتضي أن يكون مفتقرا إلى نفسه أم لا يقتضي ذلك فإن افتقاره كان افتقاره إلى جزئه أولى وأحرى بالالتزام فلا يكون ممتنعا وإن قيل لا يقتضيه قيل وكذلك التركيب لا يقتضي أن يكون المركب مفتقرا إلى جزئه فإنه إذا كانت نفسه لا توجد إلا بنفسه ولم يحسن أن يقال هو مفتقر إليها فالجميع الذي لا يوجد إلا بأجزائه أولى أن لا يقال له هو مفتقر إلى واحد منها إذ المركب ليس إلا الأجزاء وصورة التركيب

الوجه السابع أن يقال المعنى المعروف من لفظ التركيب أن يكون الجزءان مفترقين فيركبهما جميعا مركب لأن المركب اسم مفعول ركبه مركب فهو مركب كما يركب الطبيخ من أجزائه والأدوية المركبة من أجزائها وأمثال ذلك ومعلوم أن المركب بهذا الاعتبار مفتقر إلى من يركبه غيره إذ لو كانت ذاته تقتضي التركيب لم يجز عليه التفرق وواجب الوجود بنفسه لا يكون مفتقرا إلى شيء خارج عن نفسه لأن ذلك جمع بين النقيضين ولا ريب أن مثبتة الصفات ليس فيهم بل ولا في سائر فرق الأمة من يثبت هذا التركيب في حق الله تعالى ولكن المتفلسفة يسمون الموصوف مركبا ويسمون الصفات أجزاء فيقولون الإنسان مركب من الحيوانية والناطقية والنوع مركب من الجنس والفصل فأما أن يريدوا بالحيوانية والناطقية جوهرا أو عرضا فإن أرادوا بها جوهرا وهو الحيوان والناطق هما الإنسان وليس الجوهر الذي هو الإنسان ولا هو غير الجوهر الذي هو حيوان ناطق لكن الذهن يجرد هذه المعاني في الذهن فيتصور الناطق مطلقا والحيوان مطلقا والإنسان مطلقا لكن تجريد الذهن لها لا يقتضي أن يكون في الخارج ثلاثة جواهر والعلم بهذا ضروري وإن قيل إنه مركب من الحيوانية والناطقية وهما عرضان فالعرض لا يقوم إلا بالجوهر والحيوانية والناطقية صفة الإنسان فكيف يكون الجوهر مركبا من صفاته وصفاته لا قيام لها إلا به وهي مفتقرة إليه

وإذا قالوا لو سمينا هذا تركيبا لم ننازع في الألفاظ نزاعا لا فائدة فيه نقول كل موجود فلا بد أن يكون مركبا بهذا الاعتبار فإن وجود ذات عارية عن جميع الصفات ممتنع ووجود موجود مطلق لا يتعين ولا له حقيقة يختص بها عن سائر الحقائق ممتنع وكل ما اختص وتميز عن غيره فلا بد له من خاصة وفد بسطنا هذا في غير هذا الموضع ولسنا محتاجين هنا إلى إثبات وجوب مثل هذا بل يكفي أن نقول لا نسلم امتناع مثل هذا المعنى الذي سميتموه تركيبا وكثير من المتكلمين لا يسمون الاتصاف تركيبا بل يسمون التقدير تركيبا لأن المقدر مركب من الأجزاء الفردة أو من المادة والصورة وهذا أيضا فيه نزاع فطوائف من أهل الكلام كالهشامية والضرارية والنجارية والكلابية يقولون ليس بمركب بحال ومن قال إنه مركب قال لا يمكن وجود أجزائه وحينئذ فيقال لهم كما قيل للمتفلسفة وهم يسمون نفي مثل هذا التركيب توحيدا ويدخلون في ذلك نفي الصفات فيجعلون نفي علم الله وقدرته وحياته وكلامه وسمعه وبصره وسائر صفاته من التوحيد ويسمون أنفسهم الموحدين كما يدعي المعتزلة إنهم أهل التوحيد والعدل ويعنون بالتوحيد نفي الصفات

ولما كان أبو عبد الله محمد بن التومرت على مذهب المعتزلة في نفي الصفات لقب أصحابه بالموحدين وقد صرح في كتابه الكبير بنفي الصفات ولهذا لم يذكر في مرشدته شيئا من الصفات الثبوتية لا علم الله ولا قدرته ولا كلامه ولا شيئا من صفاته الثبوتية وإنما ذكر السلوب

والتوحيد الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه هو عبادة الله وحده لا شريك له وهو توحيد ألوهيته المتضمن توحيد ربوبيته كما قال تعالى وإلهكم إله واحد وقال تعالى لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة والمشركون كانوا يقرون بأن رب العالمين واحد لكن كانوا يعبدون معه غيره كما قال تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون وقال تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله وقال تعالى قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون

ونحن نوجه ذلك بعد ذكر حجته ووجه نظمها أن يقال واجب الوجود لا تركيب فيه وما لا تركيب فيه فهو واحد فواجب الوجود واحد وإنما قلنا لا تركيب لأن المركب مفتقر إلى ما تركب منه وما تركب منه غيره وواجب الوجود لا يفتقر إلى غيره فواجب الوجود لا تركيب فيه وهذا معنى قوله الدليل على وحدته أنه لا تركيب فيه بوجه وإلا لما كان واجب الوجود لذاته أي لو كان فيه تركيب بوجه لما كان واجب الوجود لذاته ثم قال ضرورة افتقاره إلى ما تركب منه كان مركبا للزم ضرورة أن يفتقر إلى ما ركب منه ثم إنه خذف تمام الحجة وهو إذا افتقر إلى ما تركب منه كان مفتقرا إلى غيره وواجب الوجود لا يفتقر إلى غيره

وأما قوله ويلزم من ذلك أن لا يكون من نوعه اثنان إذ لو كان اثنان واجب الوجود فإن كان بينهما امتياز لزم تركيبهما مما به الاشتراك وما به الامتياز وإلا لزم عدم التعيين فيقال الجواب عن ذلك من طريقين

أحدهما أنهما إذا اشتركا في وجوب الوجود وامتاز كل منهما بتعينه فمعلوم أن وجوب أحدهما ليس هو عين وجوب الآخر كما أن عينه ليست عينه بل هذا واجب وهذا واجب كما أن هذا عين وهذا عين واشتراكهما في وجوب الوجود المطلق كاشتراكهما في التعيين المطلق والمطلق إنما يكون مطلقا في الأذهان لا في الأعيان فعين هذا واجبة وجوبا يخصها وعين هذا واجبة وجوبا يخصها والذهن يجرد وجوبا مطلقا وتعينا مطلقا وإذا كان كذلك بطل قول القائل إن كلا منهما مركب مما به الاشتراك وما به الامتياز الامتياز بل ما به الاشتراك وهو الوجوب مثل ما به الامتياز وهو التعيين وهذه الحجة كثيرة في كلامهم والغلط فيها واقع لا حيلة فيه وإنما نشأ الغلط حيث أخذوا في الوجوب ما يشتركان فيه وفي التعيين ما يخص وهذا يمكن معارضته بمثله بأن يقال هما مشتركان في التعيين إذ هذا معين وهذا معين ويمتاز كل منهما بوجوبه إذ لكل منهما وجوب يخصصه وإذا أمكن العكس تبين أن ما فعلوه تحكم محض

الطريق الثاني أن يقال هب أن هذا تركب مما به الاشتراك والامتياز لكن دليله على نفي مثل هذا التركيب باطل كما تقدم

فصل

عدل

وأما قوله والدليل على علمه إيجاده الأشياء لاستحالة إيجاده للأشياء مع الجهل فهذا الدليل مشهور عند نظار المسلمين أولهم وآخرهم والقرآن قد دل عليه كما في قوله تعالى ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير والمتفلسفة أيضا سلكوه وبيانه من وجوه

أحدها أن إيجاده للاشياء هو بإرادته كما سيأتي والإرادة تستلزم تصور المراد قطعا وتصور المراد هو العلم فكان الإيجاد مستلزما للإرادة والإرادة مستلزمة للعلم فالإيجاد مستلزم للعلم

الثاني إن المخلوقات فيها من الإحكام والإتقان ما يستلزم علم الفاعل لها لأن الفعل المحكم المتقن يمتنع صدوره عن غير عالم وبهذين الطريقين يتقرر ما ذكره ولهم طرق منها أن من المخلوقات ما هو عالم والعلم صفة كمال ويمتنع أن لا يكون الخالق عالما وهذا له طريقان

أحدهما أن يقال نحن نعلم بالضرورة أن الخالق أكمل من المخلوق وأن الواجب أكمل من الممكن ونعلم ضرورة أنا إذا فرضنا شيئين أحدهما عالم والآخر غير عالم كان العالم أكمل منه فإذا لم يكن الخالق سبحانه عالم يلزم أن يكون غير عالم أي جاهلا وهو ممتنع

الثاني أن يقال كل علم في الممكنات التي هي المخلوقات فهو منهم ومن الممتنع أن يكون فاعل الكمال ومبدعه عاري منه بل هو أحق والله سبحانه وله المثل الأعلى لا يستوي هو والمخلوق لا في قياس تمثيل ولا قياس شمول بل كل ما أثبت لمخلوق فالخالق به أحق وكل نقص تنزه عنه مخلوق فتنزيه الخالق عنه أولى

فصل

عدل

وأما قوله والدليل على قدرته إيجاده الأشياء وهي إما بالذات وهو محال وإلا لكان العالم وكل واحد من مخلوقاته قديما وهو باطل فتعين أن يكون فاعلا بالاختيار وهو المطلوب فقد يقال هذا إنما أثبت به أنه فاعل بالاختيار وإن كان لم يقرر مقدمات دليله وفعله بالاختيار يثبت الإرادة ولا يثبت القدرة وهو قد أثبت الإرادة فيما بعد فظاهر هذا أنه كرر دليل الإرادة ولم يذكر على القدرة دليلا لكن تقرير ذلك أن يقال إنه إما أن يكون المبدع للأشياء مجرد ذات عارية عن الصفات يستلزم وجوده المفعول كما يقوله المتفلسفة القائلون بقدم الأفلاك وإما أن يكون ذاتا موصوفة بالصفات لا يجب معها وجود المخلوقات كما عليه أهل الملل

وإذا اردت التقسيم الحاضر قلت الفاعل إما مجرد الذات وإما الذات بصفة فإن كان الأول فمعلوم أن العلة التامة تستلزم وجود المعلول فإذا كان مجرد الذات هو الواجب فمجرد الذات علة تامة فيلزم وجود المعلول جميعه ويلزم قدم جميع الحوادث وهو خلاف المشاهدة وإن كان الثاني فالصفة التي يصلح بها الفعل هي القدرة أو يقال فإذا لم يكن موجبا لذاته بل بصفة تعين أن يكون مختارا فإنه إما موجب بالذات وإما فاعل بالاختيار والمختار إنما يفعل بالقدرة إذ القادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يفعل فأما من يلزمه المفعول بدون إرادته فهذا ليس بقادر بل ملزوم بمنزلة الذي تلزمه الحركات الطبيعية التي لا قدرة له على فعلها ولا تركها

فصل

عدل

وأما قوله والدليل على أنه حي علمه وقدرته لاستحالة قيام العلم والقدرة بغير الحي فهذا دليل مشهور للنظار يقولون قد علم أن من شرط العلم والقدرة الحياة فإن ما ليس بحي يمتنع أن يكون عالما إذ الميت لا يكون عالما والعلم بهذا ضروري

وقد يقولون هذه الشروط العقلية لا تختلف شاهدا ولا غائبا فتقدير عالم لا حياة به ممتنع بصريح العقل

وكذلك قوله والدليل على إرادته تخصيصه الأشياء بخصوصياته واستحالة المخصص من غير مخصص فإن هذا الدليل مشهور للنظار ويقرر هكذا أن العالم فيه تخصيصات كثيرة مثل تخصيص كل شيء بماله من القدر والصفات والحركات كطوله وقصره وطعمه ولونه وريحه وحياته وقدرته وعلمه وسمعه وبصره وسائر ما فيه مع العلم الضروري بأنه من الممكن أن يكون خلاف ذلك إذ ليس واجب الوجود بنفسه ومعلوم أن الذات المجردة التي لا إرادة لها لا تخصص وإنما يكون التخصيص بالإرادة ولو قيل التخصيص هو باسباب معلومة كالأرض والأشجار تكون مختلفة فإذا سقيت بماء واحد اختلف ثمارها لاختلاف القوابل كما أن الشمس تختلف آثارها بحسب القوافل كما تبيض الثوب وتسود وجه القصار وتلين اليابس الذي لم ينضج بما تجذبه إليه من الرطوبة وتجفف الرطب الذي كمل نضجه لانقطاع الرطوبة عنه

قيل هب أن الأمر كذلك فما الموجب لاختلاف القوابل حتى خصت هذه الشجرة وهذا الجسم بسبب آخر فلا بد أن ينتهي الأمر إلى سبب لا سبب فوقه فإن قيل هو شيء صدر عنه كما تقول المتفلسفة لا يصدر عن الواحد إلا واحد والصادر الأول هو العقل وصدر عن العقل عقل ونفس وفلك فهذا باطل لأنه إن كان الصادر الأول واحدا من كل وجه لم يصدر عنه أيضا إلا واحد وإن كان فيه كثرة فقد صدر عن الواحد أكثر من واحد وإن قيل الكثرة عدمية لزم أن يصدر عن العدم وجود ثم يقال الفلك الثامن كثير الكواكب دون التاسع فما الموجب لكثرة كواكبه ثم قيل السبب الأول إن كان فيه اختصاص بصفة وقدر كان تخصيصه بالإرادة لأن التخصيص بذات الإرادة لها ممتنع بصريح العقل وإن قيل ليس له اختصاص بصفة وقدر قيل هذا يقتضي أن يكون وجودا مطلقا والمطلق لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان

فصل

عدل

كثير من النظار كابن كلاب وموافقيه كالأشعري وأكثر متبعيه من أهل الكلام والرأي والحديث والتصوف من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم كالقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني وأبي الوليد الباجي وأبي منصور الماتريدي وغيرهم نقولون إنه يعلم المعلومات كلها بعلم واحد بالعين ويريد المرادات كلها بإرادة واحدة بالعين بل يقولون إن كلامه الذي يتضمن كل أمر أمر به وكل خبر أخبر به هو أيضا واحد بالعين وإن كان جمهور العقلاء يقولون إن فساد هذا معلوم بالضرورة بعد التصور التام ثم تنازع القائلون بهذا الأصل هل كلامه معنى فقط والقرآن العربي لم يتكلم به ولا بالتوراة العبرانية ولا تكلم بشيء من الحروف أو الحروف والأصوات التي نزل بها القرآن وغيره وهي قديمة أزلية على قولين

ومن القائلين بقدم أعيان الحروف أو الحروف والأصوات من لا يقول هي واحدة بالعين بل يقول هي متعددة وإن كانت لا نهاية لها ويقول ثبوت حروف أو حروف معان لا نهاية لها في آن واحد وإنها لم تزل ولا تزال ومن القائلين بقدم معنى الكلام وأنه لم يتكلم بحروف من يقول القديم خمسة معان ومنهم من يقول ذلك المعنى يعود إلى الخبر ويجعل الأمر داخلا في معنى الخبر ومنهم من يرد الخبر إلى العلم ومنهم من يقول مع ذلك إن العلم ليس صفة قائمة بالعلم

وأما أقوال السلف وعلماء الإسلام في هذا الأصل وما في ذلك من نصوص الكتاب والسنة فهذا أعظم من أن يسعه هذا الشرح ومن كتب التفسير المنقولة عن السلف مثل تفسير عبد الرزاق وعبد بن حميد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وبقي بن مخلد وعبد الرحمن بن إبراهيم وعبد الرحمن بن أبي حاتم ومحمد بن جرير الطبري وأبي بكر بن المنذر وأبي بكر بن عبد العزيز وأبي الشيخ الأصفهاني وأبي بكر بن مردويه وغيرهم من ذلك ما تطول حكايته وكذلك الكتب المصنفة في السنة والرد على الجهمية وأصول الدين المنقولة عن السلف مثل كتاب الرد على الجهمية لمحمد بن عبد الله الجعفي شيخ البخاري وكتاب خلق الأفعال للبخاري وكتاب السنة لأبي داود السجستاني ولأبي بكر الأثرم ولعبد الله بن أحمد بن حنبل ولحنبل بن إسحاق ولأبي بكر الخلال ولأبي الشيخ الأصفهاني ولأبي القاسم الطبراني ولأبي عبد الله بن منده وأمثالهم وكتاب الشريعة لأبي بكر الآجري والإبان لأبي عبد الله بن بطة وكتاب الأصول لأبي عمر الطلمنكي وكتاب رد عثمان بن سعيد الدارمي وكتاب الرد على الجهمية له وأضعاف هذه الكتب وذلك مثل ما ذكره الخلال وغيره عن إسحاق بن راهويه حدثنا بشر بن عمر قال سمعت غير واحد من المفسرين يقول الرحمن على العرش استوى أي ارتفع

وقال البخاري في صحيحه قال أبو العالية استوى إلى السماء ارتفع وقال مجاهد استوى علا على العرش وقال البغوي في تفسيره قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف استوى إلى السماء ارتفع إلى السماء وكذلك قال الخليل بن أحمد وروى البيهقي عن الفراء استوى أي صعد وهو كقول الرجل كان قاعدا فاستوى قائما

وروى الشافعي في مسنده عن أنس بن مالك أنه قال عن يوم الجمعة وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش وروى أبو بكر الأثرم عن الفضيل بن عياض قال ليس لنا أن نتوهم في الله كيف وكيف لأن الله وصف فأبلغ فقال قل هو الله أحمد الله الصمد فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه ومثل هذا النزول والضحك وهذه المباهاة وهذا الاطلاع كما شاء أن ينزل وكما شاء أن يضحك فليس لنا أن نتوهم أن ينزل عن مكانه كيف وكيف وإذا قال لك الجهمي أنا كفرت برب ينزل فقل أنت أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء

وقال البخاري في كتاب خلق الأفعال والفضيل بن عياض إذا قال لك الجهمي أنا أكفر برب يزول عن مكانه فقل أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء قال البخاري وحدث يزيد بن هارون عن الجهمية فقال من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما تقرر في قلوب العامة فهو جهمي وروى الخلال عن سليمان بن حرب أنه سأل بشر بن السري حماد بن زيد فقال يا أبا إسماعيل الحديث ينزل الله إلى السماء الدنيا أيتحول من مكان إلى مكان فسكت حماد بن زيد ثم قال هو في مكانه يقرب من خلقه كيف شاء وهذا نقله الأشعري في كتاب المقالات عن أهل السنة والحديث فقال ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن النبي ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين ولا يحدثون في دينهم ما لم يأذن به الله ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال وجاء ربك والملك صفا صفا وإن الله يقرب من خلقه كما يشاء كما قال ونحن أقرب إليه من حبل الوريد

ثم قال الأشعري وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب

وقال أبو عثمان النيسابوري الملقب بشيخ الإسلام في رسالته المشهورة في السنة قال ويثبت أهل الحديث نزول الرب سبحانه في كل ليلة إلى السماء الدنيا من غير تشبيه له بنزول المخلوقين ولا تمثيل ولا تكييف بل يثبتون له ما أثبته له رسول الله وينتهون فيه إليه ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره ويكلون علمه إلى الله وكذلك يثبتون ما أنزل الله في كتابه من ذكر المجيء والإتيان في ظلل من الغمام والملائكة وقوله عز وجل وجاء ربك والملك صفا صفا

وقال سمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري يقول سمعت إبراهيم بن أبي طالب سمعت أحمد بن سعيد الرباطي يقول حضرت مجلس الأمير عبد الله بن طاهر ذات يوم وحضر إسحاق بن إبراهيم يعني ابن راهويه فسئل عن حديث النزول صحيح هو فقال نعم فقال بعض قواد عبد الله يا أبا يعقوب أتزعم أن الله ينزل كل ليلة قال نعم قال كيف ينزل قال أثبته فوق حتى أصف لك النزول فقال الرجل أثبته فوق فقال إسحاق قال الله تعالى وجاء ربك والملك صفا صفا فقال له الأمير عبد الله بن طاهر يا أبا يعقوب هذا يوم القيامة فقال إسحاق أعز الله الأمير من يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم وروى بإسناده عن إسحاق قال قال لي الأمير عبد الله بن طاهر يا أبا يعقوب يعقوب هذا الحديث الذي تروونه عن النبي ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف ينزل قال قلت أعز الله الأمير لا يقال لأمر الرب كيف ينزل إنما ينزل بلا كيف

وبإسناده أيضا عن عبد الله بن المبارك أنه سأله سائل عن النزول ليلة النصف من شعبان فقال عبد الله يا ضعيف ليلة النصف أي وحدها هو ينزل في كل ليلة فقال الرجل يا أبا عبد الرحمن كيف ينزل ألم يخل ذلك المكان فقال عبد الله بن المبارك ينزل كيف شاء قال أبو عثمان النيسابوري فلما صح خبر النزول عن النبي أقر به أهل السنة وقبلوا الحديث وأثبتوا النزول على ما قاله رسول الله ولم يعتقدوا تشبيها له بنزول خلقه وعلموا وعرفوا واعتقدوا وتحققوا أن صفات الرب لا تشبه صفات الخلق كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق سبحانه وتعالى عما يقول المشبهة والمعطلة علوا كبيرا

وروى البيهقي بإسناده عن إسحاق بن راهوايه قال جمعني وهذا المبتدع يعني ابن صالح مجلس الأمير عبد الله بن طاهر فسألني الأمير عن أخبار النزول فثبتها فقال إبراهيم كفرت برب ينزل من سماء إلى سماء فقلت آمنت برب يفعل ما يشاء فرضي عبد الله كلامي وأنكر على إبراهيم وقال حرب بن إسماعيل الكرماني في كتابه المصنف في مسائل أحمد وإسحاق مع ما ذكر فيها من الآثار عن النبي والصحابة والتابعين ومن بعدهم قال:

باب القول في المذهب هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر المعروفين بها المقتدى بهم فيها وأدركت من علماء العراق والحجاز والشام عليها فمن خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن سبيل السنة ومنهج الحق وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم وبقي بن مخلد وعبد الله ابن الزبير الحميدي وسعيد ابن منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم

وذكر الكلام في الإيمان والقدر والوعيد والإمامة وما أخبر به الرسول من أشراط الساعة وأمر البرزخ وغير ذلك إلى أن قال وهو سبحانه بائن من خلقه لا يخلو من علمه مكان ولله عرش وللعرش حملة يحملونه وله حد الله أعلم بحده والله تعالى على عرشه عز ذكره وتعالى جده ولا إله غيره والله تعالى سميع لا يشك بصير لا يرتاب عليم لا يجهل جواد لا يبخل حليم لا يعجل حفيظ لا ينسى يقظان لا يسهو رقيب لا يغفل يتكلم ويتحرك ويسمع ويبصر وينظر ويقبض ويبسط ويفرح ويحب ويكره ويبغض ويسخط ويغضب ويرحم ويعفو ويغفر ويعطي ويمنع ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء متكلما عالما تبارك الله أحسن الخالقين

وروى أبو بكر الخلال في كتاب السنة قال أخبرني به يوسف بن موسى أن أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل قيل له أهل الجنة ينظرون إلى ربهم ويكلمونه ويكلمهم قال نعم ينظر إليهم وينظرون إليه ويكلمهم ويكلمونه كيف شاء وإذا شاء وقال أيضا أخبرني عن عبد الله بن حنبل أخبرني أبي حنبل ابن إسحاق قال قال عمي نحن نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء وكما شاء قال الخلال وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم قال قلت لأبي عبد الله الله يكلم عبده يوم القيامة قال نعم فمن يقضي بين الخلائق إلا الله عز وجل يكلم عبده ويسأله الله متكلم لم يزل الله متكلما يأمر بما شاء ويحكم بما شاء وليس له عدل ولا مثل كيف شاء وأين شاء قال الخلال وأن محمد ابن علي بن بحر أن يعقوب بن بحتان حدثهم أن أبا عبد الله سئل عمن زعم أن الله لم يتكلم بصوت قال بلى تكلم بصوت وهذه الأحاديث كما جاءت نرويها لكل حديث وجه يريدون أن يموهوا على الناس إن من زعم أن الله لم يكلم موسى فهو كافر

وأخبرنا المروزي سمعت أبا عبد الله وقيل له أن عبد الوهاب قد تكلم وقال من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله وعدو الإسلام فتبسم أبو عبد وقال ما أحسن ما قال عافاه الله وعن عبد الله بن أحمد أيضا سألت أبي عن قوم يقولون لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت فقال أبي بل تكلم تبارك وتعالى بصوت وهذه الأحاديث نرويها كما جاءت وحديث ابن مسعود إذا تكلم الله بالوحي سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان قال أبي والجهمية تنكره قال أبي وهؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس إن من زعم أن الله لم يتكلم فهو كافر

قلت قد بين الإمام أحمد وغيره من السلف أن الصوت الذي تكلم الله تعالى به ليس هو الصوت المسموع وسئل أحمد عن قوله ليس منا من لم يتغن بالقرآن قال هو الرجل يرفع صوته به هذا معناه وقال في قوله زينوا القرآن بأصواتكم يحسنه بصوته وقال البخاري في كتاب خلق الأفعال ويذكر عن النبي أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب وليس هذا لغير الله قال البخاري وفي هذا دليل على أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق لأن صوت الله يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب وأن الملائكة يصعقون من صوته فإذا ينادي الملائكة لم يصعقوا قال تعالى فلا تجعلوا لله أندادا فليس لصفة الله ند ولا مثل ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين

ثم روى بإسناده حديث عبد الله بن أنيس قال سمعت النبي يقول يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وواحد من أهل النار يطلبه بمظلمة وذكر الحديث الذي رواه أيضا في صحيحه في هذا المعنى في قوله حتى إذا فزع عن قلوبهم الآية عن أبي سعيد قال قال رسول الله يقول الله يوم القيامة يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار قال يا رب ما بعث النار قال من كل ألف أراه قال تسعمائة وتسعة وتسعون فحينئذ تضع الحامل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد

وذكر البخاري حديث ابن مسعود الذي استشهد به أحمد وذكر الحديث الذي رواه في صحيحه عن عكرمة قال سمعت أبا هريرة يقول أن نبي الله قال إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير وذكر البخاري حديث ابن عباس المعروف من حديث الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس عن نفر من الأنصار وقد رواه أحمد ومسلم في صحيحه وساقه البخاري من طريق ابن إسحاق عنه أن رسول الله قال لهم ما تقولون في هذه النجوم التي يرمى بها قالوا كنا نقول حين رأيناها يرمي بها مات ملك ولد مولود فقال رسول الله ليس ذلك كذلك ولكن إذا قضى الله في خلقه أمرا يسمعه حملة العرش فيسبحون فيسبح من تحتهم بتسبيحهم فيسبح من تحت ذلك فلم يزل التسبيح يهبط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا حتى يقول بعضهم لبعض لم سبحتم فيقولون سبح من فوقنا فسبحنا بتسبيحهم فيقولون ألا تسألون من فوقكم لم سبحتم فيسألونهم فيقولون قضى الله في خلقه كذا وكذا الأمر الذي كان يهبط الخبر من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيتحدثون به فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم منهم واختلاف ثم يأتون به الكهان من أهل الأرض فيحدثهم فيخطئون ويصيبون فيحدث به الكهان

قال البخاري ولقد بين نعيم بن حماد أن كلام الرب ليس يخلق وأن العرب لا تعرف الحي من الميت إلا بالفعل فمن كان له فعل فهو حي ومن لم يكن له فعل فهو ميت وأن أفعال العباد مخلوقة فضيق عليه حتى مضى لسبيله وتوجع أهل العلم لما نزل به

قال البخاري وفي اتفاق المسلمين دليل على أن نعيما ومن نحا نحوه ليس بمارق ولا مبتدع وقال أبو عبد الله بن حامد في كتابه في أصول الدين ومما يجب الإيمان به التصديق بأن الله متكلم وأن كلامه قديم وأنه لم يزل متكلما في كل أوقاته موصوفا بذلك وكلامه قديم غير محدث كالعلم والقدرة قال وقد علم أن المذهب أن كون الكلام صفة ومتكلما به ولم يزل موصوفا بذلك ومتكلما إذا شاء وبما شاء ولا نقول إنه ساكت في حال ومتكلم في حال من حيث حدوث الكلام قال ولا خلاف عن أبي عبد الله يعني يعنى أحمد بن حنبل أن الله لم يزل متكلما قبل أن يخلق الخلق وقبل كل الكائنات وأن الله كان فيما لم يزل متكلما كيف شاء وكما شاء إذا شاء أنزل كلامه وإذا شاء لم ينزله فقد ذكر ابن حامد أنه لا خلاف في مذهب أحمد أنه سبحانه لم يزل متكلما كيف شاء وكما شاء ثم ذكر قولين هل هو متكلم دائما بمشيئته أو أنه لم يزل موصوفا بذلك متكلما إذا شاء وساكتا إذا شاء لا بمعنى أنه يتكلم بعد أن لم يزل ساكتا فيكون كلامه حادثا كما يقول الكرامية فإن قول الكرامية في الكلام لم يقل به أحد من أصحاب أحمد وكذلك ذكر القولين أبو بكر عبد العزيز في أول كتابه الكبير المسمى بالمقنع

وقد ذكر ذلك عنه القاضي أبو يعلى في كتاب إيضاح البيان في مسألة القرآن قال أبو بكر لما سألوه إنكم إذا قلتم لم يزل متكلما كان ذلك عبثا فقال لأصحابنا قولان أحدهما أنه لم يزل متكلما كالعلم لأن ضد الكلام الخرس كما أن ضد العلم الجهل قال ومن أصحابنا من قال أثبت لنفسه أنه خالق ولم يجز أن يكون خالقا في كل حال بل قلنا إنه خالق في وقت إرادته أن يخلق وإن لم يكن خالقا في كل حال ولم يبطل أن يكون خالقا كذلك وإن لم يكن متكلما في كل حال لم يبطل أن يكون متكلما بل هو متكلم خالق وإن لم يكن خالقا في كل حال ولا متكلما في كل حال قال القاضي أبو يعلى في هذا الكتاب نقول إنه لم يزل متكلما وليس بمتكلم ولا مخاطب ولا آمر ولا ناه نص عليه أحمد في رواية حنبل فقال لم يزل الله متكلما عالما غفورا قال وقال في رواية عبد الله لم يزل الله متكلما إذا شاء وقال حنبل في موضع آخر سمعت أبا عبد الله يقول لم يزل الله متكلما والقرآن كلام الله غير مخلوق قلت أحمد أخبر بدوام كلامه سبحانه ولم يخبر بدوام تكلمه بالقرآن بل قال والقرآن كلام الله غير مخلوق

قال القاضي قال أحمد في الجزء الذي رد فيه على الجهمية والزنادقة وكذلك الله يتكلم كيف شاء من غير أن نقول من جوف ولا فم ولا شفتين وقال بعد ذلك بل نقول أن الله لم يزل متكلما إذا شاء ولا نقول إنه كان ولا يتكلم حتى خلق وقال أبو إسماعيل الأنصاري الملقب بشيخ الإسلام في مناقب الإمام أحمد لما ذكر كلامه في مسألة القرآن وترتيب حدوث البدع قال وجاءت طائفة فقالت لا يتكلم بعد ما تكلم فيكون كلامه حادثا قال وهذه أغلوطة أخرى في الدين غير واحدة فانتبه لها أبو بكر بن خزيمة وكانت نيسابور دار الآثار تمد إليها وتشد إليها الركائب ويجلب منها العلم فابن خزيمة في بيت ومحمد بن اسحاق يعنى السراج في بيت وأبو حامد ابن الشرقي في بيت قال فطار لتلك الفتنة الإمام أبو بكر فلم يزل يصيح بتشويهها وينصف في ردها كأنه منذر جيش حتى دون في الدفاتر وتمكن في السرائر وتفسير في الكتاتيب ونقش في المحاريب أن الله متكلم إن شاء تكلم وإن شاء سكت قال فجزى الله ذلك الإمام وأولئك النفر على نصر دينه وتوقير نبيه خيرا

قلت لفظ السكون يراد به السكوت عن شيء خاص وهذا مما جاءت به الآثار كقول النبي إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تسألوا عنها والحديث المعروف عن سليمان مرفوعا وموقوفا الحلال ما أحله الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه والعلماء يقولون مفهوم الموافقة أن يكون الحكم في السكوت عنه أولى منه في المنطوق به ومفهوم المخالفة أن يكون الحكم في السكوت مخالفا للحكم في المنطوق به أما السكوت المنطوق به فهذا هو الذي ذكروا فيه القولين والقاضي أبو يعلى وموافقوه على أصل ابن كلاب يتأولون كلام أحمد والآثار في ذلك بأن سكوت عن الأسماع لا عن التكليم

وكذلك تأول ابن عقيل كلام أبي إسماعيل الأنصاري وليس مرادهم ذلك كما هو بين لمن تدبر كلامهم مع أن الأسماع على أصل النفاة إنما هو خلق إدراك في السماع ليس سببا يقوم بالمتكلم فكيف يوصف بالسكوت لكونه لم يخلق إدراكا لغيره فأصل ابن كلاب الذي وافقه عليه القاضي وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم أنه منزه عن السكوت مطلقا فلا يجوز عندهم أن يسكت عن شيء من الأشياء إذ كلامه صفة قديمة لازمة لذاته لا تتعلق عندهم بمشيئته كالحياة حتى يقال إن شاء تكلم بكذا وإن شاء سكت عنه

ولا يجوز عندهم أن يقال إن الله سكت عن شيء كما جاءت به الآثار بل يتأولونه على عدم خلق الإدراك منزه عن الخرس باتفاق الأمة هذا مما احتجوا به على قدم الكلام وقالوا لو لم يكن متكلما للزم اتصافه بضده كالسكوت والخرس وذلك ممتنع عندهم سواء قيل هو سكوت مطلق أو سكوت عن شيء معين وقال أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرخي الشافعي في كتابه الذي سماه الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول وذكر اثني عشر إماما الشافعي ومالك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وسفيان بن عيينة وابن المبارك وإسحاق بن راهويه والبخاري وأبو زرعة وأبو حاتم قال فيه سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول سمعت الإمام أبا بكر عبيد الله بن أحمد يقول سمعت الشيخ أبا حامد الإسفرائيني يقول مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر والقرآن حمله جبريل مسموعا من الله تعالى والنبي سمعه من جبريل والصحابة سمعوه من النبي وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا فما بين الدفتين وما في صدورنا مسموعا ومكتوبا ومحفوظا ومنقوشا كل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر عليه لعائن الله والملائكة والناس أجمعين

قال أبو الحسن وكان الشيخ أبو حامد شديد الإنكار على الباقلاني وأصحاب الكلام وقال ولم تزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينتسبوا إلى الأشعري ويتبرءون مما بنى مذهبه عليه وينهون أصحابهم وأحبابهم من الحوم حواليه على ما سمعت عدة من المشايخ والأئمة منهم الحافظ المؤتمن بن أحمد الساجي يقولون سمعنا جماعة من المشايخ الثقاة قالوا كان الشيخ أبو حامد أحمد بن طاهر الإسفرائيني إمام الأئمة الذي طبق الأرض علما وأصحابا إذا سعى إلى الجمعة من قطعية الكرخ إلى الجامع المنصور يدخل الرباط المعروف بالروزي المحازي للجامع ويقبل على من حضر ويقول اشهدوا علي بأن القرآن كلام الله غير مخلوق كما قال أحمد بن حنبل لا كما يقول الباقلاني ويتكرر ذلك منه فيقبل له في ذلك فقال حتى تنتشر في الناس وفي أهل البلاد ويشيع الخبر في أهل البلاد أني بريء مما هم عليه يعني الأشعرية وبريء من مذهب أبي بكر الباقلاني فإن جماعة من المتفقهة الغرباء يدخلون على الباقلاني خفية ويقرءون عليه فيعتنون بمذهبه فإذا رجعوا إلى بلادهم أظهروا بدعتهم لا محالة فيظن ظان أنهم مني تعلموه وأنا قلته وأنا بريء من مذهب الباقلاني وعقيدته

قال وسمعت الفقيه الإمام أبا منصور سعد بن العجلي سمعت عدة من المشايخ والأئمة ببغداد أظن أبا إسحاق الشيرازي أحدهم قالوا كان أبو بكر الباقلاني يخرج إلى الحمام مبرقعا خوفا من الشيخ أبي حامد الإسفرائيني والكلام على ما وقع من إنكار أبي حامد وغيره من أئمة الإسلام على القاضي أبي بكر مع جلالة قدره وكثرة رده على أهل الإلحاد والبدع بسبب هذا الأصل الذي بنى عليه مذهبه طويل ولبسطه موضع آخر

وإنما المقصود هنا التنبيه على بعض من أثبت هذا الأصل ولم يوافق على النفاة والحارث المحاسبي قد ذكر القولين عن أهل السنة المثبتين الصفات والقدر فقال في كتاب فهم القرآن لما تكلم على مالا يدخل فيه النسخ وما يدخل فيه النسخ وما يظن أنه متعارض من الآيات وذكر عن أهل السنة في الإرادة والسمع والبصر قولين في مثل قوله تعالى لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله وقوله تعالى وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها وقوله تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون وكذلك قوله إنا معكم مستمعون وقوله تعالى وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ونحو ذلك فقال ذهب قوم من أهل السنة إلى أن لله استماعا حادثا في ذاته وذكر أن هؤلاء وبعض أهل البدع تأولوا ذلك في الإرادة على الحوادث قال فأما من أذى السنة فأراد إثبات القدر فقال إرادة الله تحدث من تقدير سابق للإرادة

وأما بعض أهل البدع فزعموا أن الإرادة إنما هي خلق حادث وليست مخلوقة ولكن بها كون الله المخلوقين قال وزعموا أن الخلق غير المخلوق وأن الخلق هو الإرادة وإنها ليست بصفة لله من نفسه قال وكذلك قال بعضهم أن رؤيته تحدث

قال محمد بن الهيصم في كتاب حمل الكلام لما ذكر حمل الكلام وأنه مبني على خمسة فصول

أحدها أن القرآن كلام الله وقد حكي عن جهم بن صفوان أن القرآن ليس كلام الله على الحقيقة وإنما هو كلام خلقه الله فنسب إليه كما قيل سماء الله وأرض الله وكما قيل بيت الله وشهر الله وأما المعتزلة فإنهم أطلقوا القول بأنه كلام الله على الحقيقة ثم وافقوا جهما في المعنى حيث قالوا كلام خلقه بائنا عنه وقال عامة المسلمين إن القرآن كلام الله على الحقيقة وأنه تكلم به

والفصل الثاني أن القرآن غير قديم فإن الكلابية وأصحاب الأشعري زعموا أن الله لم يزل متكلما بالقرآن وقال أهل الجماعة إنما تكلم بالقرآن حيث خاطب به جبريل وكذلك سائر الكتب

والفصل الثالث أن القرآن غير مخلوق فإن الجهمية والنجارية والمعتزلة زعموا إنه مخلوق وقال أهل الجماعة إنه ليس بمخلوق

والفصل الرابع أنه غير بائن منه فإن الجهمية وأتباعهم من المعتزلة قالوا إن القرآن بائن من الله وكذلك سائر كلامه وزعموا أن الله خلق كلاما في الشجرة فسمعه موسى وخلق كلاما في الهواء فسمعه جبريل ولا يصح عندهم أنه وجد من كلام يقوم به في الحقيقة وقال أهل الجماعة بل القرآن غير بائن من الله وإنما هو موجود منه وقائم منه

وذكر محمد بن الهيصم في مسألة الإرادة والخلق والمخلوق وغير ذلك ما يوافق التي ليست أعيانها قديمة ولا مخلوقة وهو يحكي ذلك عن أهل الجماعة وقال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه المعروف بنقص عثمان ابن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله في التوحيد قال وادعى المعارض أن قول النبي إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يمضي من الليل الثلث فيقول هل من مستغفر هل من تائب هل من داع قال فادعى أن لا ينزل بنفسه إنما ينزل أمره ورحمته وهو على العرش وكل مكان من غير زوال لأنه الحي القيوم والقيوم بزعمه من لا يزول قال فيقال لهذا المعارض وهذا أيضا من حجج النساء والصبيان ومن ليس عنده بيان ولا لمذهبه برهان لأن أمر الله ورحمته تنزل في كل ساعة ووقت وأوان فما بال النبي يحد لنزوله الليل دون النهار ويوقت في الليل شطره أو الأسحار أفأمره ورحمته تدعوان العباد إلى الاستغفار أو يقدر الأمر والرحمة أن يتكلما دونه فيقولا هل من داع فأجيب له هل من مستغفر فأغفر له هل من سائل فأعطيه فإن قررت مذهبك لزمك أن تدعي أن الرحمة والأمر هما اللذان يدعوان إلى الإجابة والاستغفار بكلامهما دون الله وهذا محال عند السفهاء فكيف عند الفقهاء

قد علمتم ذاك ولكن تكابرون وما بال أمره ورحمته ينزلان من عنده الليل ثم يمكثان إلى طلوع الفجر يرفعان لأن رفاعة يرويه ويقول في حديثه حتى ينفجر الفجر وقد علمتم إن شاء الله هذا التأويل أبطل باطل ولا يقبله إلا كل جاهل

وأما دعواك أن تفسير القيوم الذي لا يزول عن مكانه ولا يتحرك فلا يقبل منك هذا التفسير إلا بأمر صحيح مأثور عن النبي أو عن بعض أصحابه أو التابعين لأن الحي القيوم يفعل ما يشاء ويتحرك إذا شاء ويهبط ويرتفع إذا شاء ويقبض ويبسط ويقوم ويجلس إذا شاء لأن ذلك أمارة ما بين الحي والميت لأن كل متحرك لا محالة حي وكل ميت غير متحرك لا محالة ومن يلتفت إلى تفسيرك وتفسير صاحبك مع تفسير نبي الرحمة ورسول رب العزة إذ فسر نزوله مشروطا منصوصا ووقت له وقتا موضوحا لم يدع لك ولا لأصحابك فيه لبسا ولا عويصا

قال ثم أجمل المعارض جميع ما أنكره الجهمية من صفات الله تعالى وذواته المسماة في كتابه وآثار رسوله فعد منها بضعة وعشرين صفة نقشا وأخذ يتكلم عليها ويفسرها بما حكى المريسي وفسرها وتأولها حرفا حرفا خلاف ما عنى الله ورسوله وخلاف ما تأولها الفقهاء والصالحون لا يعتمد في أكثرها إلا على المريسي فبدأ منها بالوجه ثم بالسمع والبصر والغضب والرضاء والحب والبغض والفرح والكره والضحك والعجب والسخط والإرادة والمشيئة والأصابع والكف والقدمين وقوله كل شيء هالك إلا وجهه فأينما تولوا فثم وجه الله وهو السميع البصير لما خلقت بيدي وقالت اليهود يد الله مغلولة يد الله فوق أيديهم والسموات مطويات بيمينه وقوله فإنك بأعيينا وهل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وجاء ربك والملك صفا صفا الذين يحملون العرش ومن حوله وقوله ويحذركم الله نفسه ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة وكتب ربكم على نفسه الرحمة وتعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك والله يحب التوابين ويحب المتطهرين

قال عمد المعارض إلى هذه الصفات فنسقها ونظم بعضها إلى بعض كما نظمها شيئا بعد شيئ ثم قررها أبوابا في كتابه وتلطف بردها بالتأويل كتلطف الجهمية معتمدا فيها على الرابع الجهمي بشر بن غياث المريسي عند الجهال بالتشنيع بها على قوم يؤمنون بالله ويصدقون الله ورسوله فيها بغير تكيف ولا تمثيل فزعم أن هؤلاء المؤمنين بها يكيفونها وينسبونها بذوات أنفسهم وأن العلماء بزعمه قالوا ليس في شيء منها اجتهاد رأي ليدرك كيفية ذلك أو يشبه فيها شيء مما هو في الخلق قال وهذا خطأ كما أن الله ليس كمثله شيء فكذلك ليس ككيفيته شيء

قال أبو سعيد عثمان بن سعيد فقلنا لهذا المعارض المدلس بالتشنيع إن قوله كيفية هذه الصفات وتشبهها مما هو في الخلق خطأ فإنا لا نقول له كما قال هي عندنا له ونحن لا نكيفها ولا نشبهها بما هو في الخلق موجود أشد إلفا منكم غير أنا كما لا نشببها ولا نكيفها لا نكفر بها ولا نكذبها ولا نبطلها بتأويل الضلال كما أبطلها إمامك المريسي

قال وأما ما ذكرت من اجتهاد الرأي في تكييف صفات الله فإنا نجيز اجتهاد الرأي في كثير من الفرائض والأحكام التي نراها بأعيينا ونسمعها بآذاننا فكيف في صفات الله التي لم ترها العيون وقصرت عنها الظنون غير أنا لا نقول فيها كما قال المريسي إن هذه الصفات كلها شيء واحد وليس السمع منه غير البصر ولا الوجه منه غير اليد ولا الذات غير النفس وإن الرحمن ليس يعرف بزعمكم لنفسه سمعا من بصر ولا بصرا من سمع ولا وجها من يدين ولا يدين من وجه وهو كله يزعمكم سمع وبصر ووجه وأعلى وأسفل ويد ونفس وعلم ومشيئة وإرادة مثل خلق السموات والأرض والجبال والتلال والهواء التي لا يعرف لشيء منها شيء من هذه الصفات والذوات ولا يوقف بها منها على شيء فالله تعالى عندنا أن يكون كذلك فقد ميز الله تعالى في كتابه السمع من البصر وذكر الآيات الواردة في ذلك فقال تعالى إنني معكما أسمع وأرى إنا معكم مستمعون وقال ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ففرق بين الكلام والنظر دون السمع فقال عند السمع والصوت قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ولم يقل رأى قول الله التي تجادلك في زوجها وقال تعالى في موضع الرؤية الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين وقال تعالى وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ولم يقل يسمع الله تقلبك ويسمع الله عملكم فلم يذكر الرؤية فيما يسمع ولا السمع فيما يرى كما أنها عنده خلاف ما عندكم وذكر كلاما طويلا في الرد على النفاة

قلت وكلام أهل الحديث والسنة في هذا الأصل كثير جدا

وأما الآيات والأحاديث الدالة على هذا الأصل فكثيرة جدا يتعذر أو يتعسر حصرها لكن نذكر بعضها وقد جمع الإمام أحمد كثيرا من الآيات الدالة على هذا الأصل وغيره مما يقوله النفاة وذكرها عنه الخلال في كتاب السنة وذلك كقوله تعالى فلما أتاها نودى يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى وقوله تعالى وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين وقوله تعالى فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين وقوله تعالى وقوله تعالى فلما أتاها نودي من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن أبا موسى إني أنا الله رب العالمين وقوله تعالى وهل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى فوقت النداء بقوله فلما وبقوله إذ فعلم أنه كان في وقت مخصوص لم يناداه قبل ذلك وقوله تعالى ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين وقال تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فأخبر سبحانه أنه قال لهم ذلك بعد أن خلق آدم وصوره لا قبل ذلك وقال تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون وقال تعالى وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق

وقال تعالى بديع السموات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وقال تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون وإذا ظرف لما يستقبل من الزمان وأن الفعل المضارع للاستقبال وقال تعالى وإذ قال ربك للملائكة وقال تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان وقال تعالى وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وقال تعالى ثم استوى إلى السماء وهي دخان وقال تعالى والذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وقال تعالى هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وقال تعالى هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك وقال تعالى وجاء ربك والملك صفا صفا وقال تعالى ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون وقال تعالى وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا وقال تعالى وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال وقال تعالى لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله

وقال موسى ستجدني إن شاء الله صابرا وقال إسماعيل قال ستجدني إن شاء الله من الصابرين وقال صاحب مدين لموسى ستجدني إن شاء الله من الصالحين وأدوات الشرط تخلص الفعل للاستقبال ومن هذا الباب قوله من حلف فقال إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك رواه أهل السنن واتفق الفقهاء على ذلك وكذلك ما في الصحيحين من قول النبي عن سليمان أنه قال لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تأتي كل امرأة بفارس يقاتل في سبيل الله فقال له صاحبه قل إن شاء الله فلم يقل فلم تلد منهن إلا امرأة جاءت بشق ولد قال النبي فلو قال إن شاء الله لقاتلوا في سبيل الله فرسانا أجمعين وقال تعالى كل يوم هو في شأن وقال تعالى فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستعمون وقال تعالى لموسى وهارن إنني معكما أسمع وأرى وقال تعالى أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون وقال تعالى لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء وقال تعالى قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وقال تعالى الله نزل أحسن الحديث وقال تعالى فبأي حديث بعده يؤمنون وقال تعالى ومن أصدق من الله حديثا وقال تعالى فلما آسفونا انتقمنا منهم وقال تعالى ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم

وقال تعالى قل إن كنتم تحسبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم وقال تعالى إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم فأخبر أن طاعته سبب لمحبته ورضاه ومعصيته سبب لسخطه واسفه وقال تعالى فاذكروني أذكركم وجواب الشرط مع الشرط كالسبب مع مسببه ومثله في الصحيحين عن النبي أنه قال من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة

وقال تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما وأما أفعاله المتعدية إلى المفعول به الحادثة وذكرها في القرآن العزيز فكثير جدا كقوله ولسوف يعطيك ربك فترضى وقوله تعالى فسنيسره لليسرى فسنيسره للعسرى وقوله تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا وقوله تعالى من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره كلا لما يقض ما أمره فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا وقوله تعالى وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وقوله تعالى ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين وقوله تبارك وتعالى (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النظفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين)

وقال تعالى خلقكم من نفس واحدة ثم خلق منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج نخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون

وقوله تعالى أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماء ومرعاها وقوله تعالى ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه وقال تعالى من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه وقال تعالى ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون وقوله تعالى ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ومثل هذا كثير في القرآن والاحتجاج به ظاهر على قول الجمهور الذين يجعلون الخلق غير المخلوق وهو الصواب فإن الذين يقولون الخلق هو المخلوق قولهم فاسد

وقد بينا فساده في غير هذا الموضع وشبهتهم أنه لو كان غيره لكان إن كان قديما لزم قدم المخلوق وإن كان محدثا احتاج إلى خلق آخر فيلزم التسلسل وإن كان قائما به فيكون محلا للحوادث وقد أجابهم الناس عن هذا كل قوم بجواب بين فساد قولهم وطائفة منعت قدم المخلوق كالإرادة فإنهم سلموا أنها قديمة مع حدوث المراد وطائفة منعت قيامه به وقالت لا يقوم به الخلق فلا يكون محلا للحوادث فإذا قالوا إن الخلق هو المخلوق ولا يقوم به فلان يجوز أن يكون غير المخلوق ولا يقوم به أولى وطائفة قالت لا نسلم أنه إذا افتقر المخلوق المنفصل إلى خلق أن يفتقر ما يقوم به من الخلق إلى خلق آخر بل يكتفي فيه القدرة والمشيئة فإنكم إذا جوزتم وجود الحادث الذي يباينه بمجرد القدرة والمشيئة فوجود مالا يباينه بها أولى بالجواز وهؤلاء وغيرهم يمانعونهم في قيام الحوادث به وطائفة منعت امتناع التسلسل في الآثار والأفعال وقالت إنما يمتنع في الفاعلين لا في الفعل كما قد بسط في موضع آخر

وأما الأحاديث الدالة على هذا الأصل التي في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها عن النبي فأكثر من أن يحصيها واحد كقوله في الحديث المتفق على صحته عن زيد بن خالد قال صلى بنا رسول الله صلاة بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل فقال أتدرون ماذا قال ربكم الليلة قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي فمن قال مطرنا بفضل الله ورحمته فهو مؤمن بي كافر بالكوكب ومن قال مطرنا بنوء كذا وكذا فهو كافر بي مؤمن بالكوكب

وفي الصحيحين في حديث الشفاعة يقول كل من أولى العزم من الرسل مع آدم إن ربي قد غضب اليوم غضبا شديدا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وقوله في الحديث الصحيح إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء كجر السلسلة على الصفوان وقوله في الحديث الصحيح إن الله يحدث من أمره ما يشاء ومما أحدث أن لا يتكلموا في الصلاة وقوله في حديث التجلي المتفق على صحته من غير وجه ويقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون وقوله في الحديث المتفق عليه لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من من أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فنام تحت شجرة ينتظر الموت فلما استيقظ إذا بدابته عليها طعامه وشرابه فالله أشد فرحة بتوبة عبده من فرح هذا براحلته

وقوله في الحديث الصحيح يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة وقوله في حديث الرجل هو آخر من يدخل الجنة وهو حديث أبي هريرة الذي يقول الله فيه أولست قد أعطيت العهود والمواثيق أن لا تسأل غير الذي أعطيت فيقول يا رب لا تجعلني أشقى خلقك فيضحك الله منه ثم يأذن له في دخول الجنة وفي حديث ابن مسعود وهو حديث آخر قال النبي فيقول الله يا ابن آدم أترضى أن أعطيك الدنيا ومثلها معها فيقول أي رب أتستهزىء بي وأنت رب العالمين وضحك رسول الله فقال ألا تسألوني مما ضحكت فقالوا لم ضحكت فقال من ضحك رب العالمين حين قال أتستهزىء بي وأنت رب العالمين فيقول إني لا أستهزىء بك ولكني على ما أشاء قادر وفي حديث أبي رزين عن النبي قال ينظر إليكم أذلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرحكم قريب فقال له أبو رزين أو يضحك الرب قال نعم قال لن نعدم من رب يضحك خيرا وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدي فإذا قال الرحمن الرحيم قال الله أثنى علي عبدي فإذا قال مالك يوم الدين قال الله مجدني عبدي فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال الله عز وجل هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال الله هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل

وقوله في الحديث الصحيح المتفق عليه ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له حتى يطلع الفجر وقوله في الحديث الصحيح حديث الأنصاري الذي أضاف رجلا وآثره على نفسه وأهله فلما أصبح الرجل وغدا على النبي فقال لقد ضحك الله الليلة أو قال عجب من فعالكما أو قال من أفعالكما الليلة وأنزل الله تعالى ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة

وفي الصحيح عنه أنه قال الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها لينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء وفي الصحيح عنه أنه قال إن الله لا ينظر إلى صورتكم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم وفي الصحيحين عن أبي واقد الليثي أن رسول الله كان قاعدا في أصحابه إذا جاءه ثلاثة نفر فأما رجل فرأى في الحلقة فرجة فجلس فيها وأما رجل فجلس خلفهم وأما رجل فانطلق فقال النبي ألا أخبركم عن هؤلاء النفر أما الرجل الذي جلس في الحلقة فرجل آوى إلى الله فآواه الله وأما الرجل الذي جلس في خلف الحلقة فاستحى فاستحى الله منه وأما الرجل الذي انطلق فأعرض أعرض الله عنه وفي صحيح البخاري عنه أنه قال يقول الله تعالى من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعلة ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه

وفي الصحيحين عن البراء عن النبي أنه قال الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله وفي الصحيحين عن عبادة عن النبي أنه قال من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقالت عائشة إنا لنكره الموت قال ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت يبشر برضوان الله وكرامته فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله وسخطه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه

وفي الصحيحين عن أنس قالوا أنزل علينا ثم كان من المنسوخ أبلغوا قومنا إنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا وفي حديث عمر بن مالك الرواسي قال أتيت النبي فقلت يا رسول الله أرض عني قال فاعرض عني ثلاثا

فقلت يا رسول الله إن الرب ليرضى فارض عني فرضي عني وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال قال رسول الله اشتد غضب الله على قوم فعلوا برسول الله وهو حينئذ يشير إلى رباعيته وقال اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله

وفي صحيح مسلم عن عائشة أن النبي كان يقول في سجوده اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وفي الصحيحين عن النبي أنه قال لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو موضوع عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي وفي رواية سبقت وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وفي صلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي قالوا أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله أنه قال ما جلس قوم يذكرون الله إلا حفت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي قال يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم عن النبي أنه قال ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدمه وينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أمامه فتستقبله النار فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل فإن لم يجد فبكلمة طيبة

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله أنه قال إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم قال فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم منهم ما يقول عبادي قال تقول يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك قال فيقول هل رأوني قال فيقولون لا والله ما رأوك قال فيقول وكيف لو رأوني قال يقولون لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيدا وأكثر لك تسبيحا قال يقول فما يسألونني قال يسألونك الجنة قال يقول وهل رأوها قال يقولون لا والله يا رب ما رأوها قال يقول فكيف لو أنهم رأوها قال يقولون لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا وأشد لها طلبا وأعظم فيها رغبة قال فمما يتعوذون قال يقولون من النار قال يقول وهل رأوها قال يقولون لا والله يا رب ما رأوها قال يقول فكيف لو رأوها قال يقولون لو رأوها كانوا أشد منها فرارا وأشد لها مخافة قال فيقول فأشهدكم أني قد غفرت لهم قال يقول ملك من الملائكة فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة قال هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم

وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي أنه قال ليدنو أحدكم من ربه حتى ليقفه عليه فيقول عملت كذا وكذا فيقول نعم يا رب فيقرره ثم يقول قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفر لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته وهو قوله تعالى هاؤم اقرؤا كتابيه وأما الكافر والمنافق فينادون هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين فأخبر أنه سبحانه يقول قولا ثم يقول العبد ثم يقول الرب تعالى قولا آخر وهذا الأصل العظيم دلت عليه الكتب المنزلة من الله القرآن والتوراة والإنجيل وكان عليه سلف الأئمة وأئمتها بل وعليه جماهير العقلاء وأكابرهم من جميع الطوائف حتى من الفلاسفة

فصل

عدل

وأما قوله والدليل على كونه متكلما أنه آمر وناه لأنه بعث الرسل لتبليغ أوامره ونواهيه ولا معنى لكونه متكلما إلا ذلك فنقول السلف والأئمة وغيرهم لهم في إثبات كونه متكلما طريقان فإنهم يثبتون ذلك بالسمع تارة وبالعقل أخرى كما يوجد مثل ذلك في كلام الإمام أحمد وغيره من الأئمة وفي كلام متكلمة الصفاتية كعبد العزيز المكي وأبي محمد بن كلاب وأبي عبد الله بن كرام وأبي الحسن الأشعري ونحوهم والطرق التي أظهروها من العقليات قد دل القرآن عليها وأرشد إليها كما دل القرآن على الطرق العقلية التي يثبت بها سائر قواعد العقائد المسماة بأصول الدين لكن الدليل قد تتنوع عباراته وتراكيبه فإنه تارة يركب على وجه الشمول المنقسم إلى قياس تداخل وقياس تلازم وقياس تعاند الذي يسمى بالحملي والشرطي المتصل والشرطي المنفصل وتارة يركب على وجه قياس التمثيل المفيد لليقين بأن يجعل المشترك بين الأصل والفرع الذي يسمى في قياس التمثيل المناط والوصف والعلة والمشترك والجامع ونحو ذلك من العبارات هو الحد الأوسط في قياس الشمول فإذا قال ناظم القياس الأول نبيذ الحبوب المسكر حرام قياسا على خمر العنب لأنه خمر فكان حراما قياسا عليه فهذا كمال في نظم قياس الشمول هذا خمر وكل خمر حرام أو فيه الشدة المطربة وما فيه الشدة المطربة فهو حرام وما يثبت به هذه المقدمة الكبرى يثبت به كون المشترك علة الحكم وبهذا تبين أن قياس التمثيل قد يكون أتم في البيان من قياس الشمول فأما ما يقوله طائفة من النظار من أن قياس الشمول هو الذي يفيد اليقين دون التمثيل فهذا لا يصح إلا بحسب المواد بأن يوجد ذلك في مادة يقينية وهذا في مادة ظنية وحينئذ فقد يقال بل ذلك يفيد اليقين دون هذا وسبب غلطهم أنهم تعودوا كثيرا استعمال التمثيل في الظنيات واستعمال الشمول في اليقينيات عندهم فظنوا هذا من صورة القياس وليس الأمر كذلك بل هو من المادة

وقد بسط الكلام على هذا في مواضع غير هذا الموضع كالرد على الغالطين في النطق وغير ذلك ثم القياس تارة تعتبر فيه القدر المشترك من غير اعتبار الأولوية وتارة يعتبر فيه الأولوية فيؤلف على وجه قياس الأولى وهو إن كان قد يجعل نوعا من قياس الشمول والتمثيل فله خاصة يمتاز بها عن سائر الأنواع وهو أن يكون الحكم المطلوب أولى بالثبوت من الصورة المذكورة في الدليل الدال عليه وهذا النمط هو الذي كان السلف والأئمة كالإمام أحمد وغيره من السلف يسلكونه من القياس العقلي في أمر الربوبية وهو الذي جاء به القرآن وذلك أن الله سبحانه لا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قياس الشمول الذي تستوي أفراده ولا تحت قياس التمثيل الذي يستوي فيه حكم الأصل والفرع فإن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في نفسه المذكورة بأسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله ولكن يسلك في شأنه قياس الأولى كما قال ولله المثل الأعلى

فإنه من المعلوم أن كل كمال ونعت ممدوح لنفسه لا نقص فيه يكون لبعض الموجودات المخلوقة المحدثة فالرب الخالق الصمد القيوم القديم الواجب الوجود بنفسه هو أولى به وكل نقص وعيب يجب أن ينزه عنه بعض المخلوقات المحدثة الممكنة فالرب الخالق القدوس السلام القديم الواجب وجوده بنفسه هو أولى بأن ينزه عنه

وأما إذا سلك مسلك المشبهين لله يخلقه المشركين به الذين يجعلون له عدلا وندا ومثلا قيسوون بينه وبين غيره في الأمور كما يفعله أهل الضلال من أهل الفلسفة والكلام من المعتزلة وغيرهم فإن ذلك يكون قولا باطلا من وجوده منها أن تلك القضية الكلية التي تعمه وغيره قد لا يمكنهما إثباتها عامة إلا بمجرد قياس التمثيل وقياس التمثيل إن أفاد اليقين في غير هذا الموضع ففي هذا الموضع قد لا يفيد الظن للعلم بانتفاء الفارق

ومنها أنهم إذا حكموا على القدر المشترك الذي هو الحد الأوسط بحكم يتناوله والمخلوقات كانوا بين أمرين إما أن يجعلوه كالمخلوقات أو يجعلوا المخلوقات مثله فينتقض عليهم طرد الدليل فيبطل

ومثال ذلك إذا قال الفيلسوف إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وهو واحد فلا يصدر عنه إلا واحد فإنه يحتاج أن يعلم أولا قوله الواحد لا يصدر عنه إلا واحد فإن هذه قضية كلية وكل قياس شمولي فلا بد فيه من قضية كلية وعلله بأن كل واحد لا يصدر عنه إلا واحد إما أن يكون باستقراء الآحاد وإما بقياس بعضها إلى بعض وهذا استقراء ناقص وهذا تمثيل وهما عنده لا يفيدان اليقين فإن قال أعلم بالبديهة أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد كان هذا مكابرة لعقله فإن العلوم الكلية المطابقة للأمور الخارجية ليست مغروزة في الفطرة ابتداء بدون العلم بأمور معينة منها لكن لكثرة العلم بالأمور المعينة الجزئية يجرد العقل الكليات فتبقى القضية العامة ثابتة في العقل لا تحتاج إلى شواهد وأمثلة جزئية إلا أن يكون علم تلك القضية العقلية من تركيب قضايا أخر

وقوله الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ليس من هذا ولا من هذا ثم إذا قصور مفردات هذه القضية علم يقينا أنه ليس عنده منها علم بل علم أن الواقع خلافها فإن قوله الواحد إن عنى به الواحد الذي لا يعلم منه أمر إن ليس أحدهما الآخر فليس في الوجود واحد بهذا الاعتبار فإنه يعلم أن واجب الوجود موجود وأنه عاقل ومعقول وعقل وإن له عناية وأمثال هذه المعاني التي ليس أحدها هو الآخر فإن الوجوب ليس هو الوجود ولا الوجوب والوجود هو العاقل ولا العاقل هو المعقول ولا العاقل والمعقول هو ذو العناية وإن قال هذه كلها سلوب وإضافات محضة كان مكابرا لعقله فإن كون الشيء يعقل ليس هو كونه يعقل ولا كونه عالما مجرد نسبة محضة إلى المعلوم كالأمور الإضافية التي لا يتغير بها حال المضاف كالتيامن والتياسر فإنه من المعلوم أن كون الشيء متيامنا أو متياسرا عنك لا يختلف به حالك في الموضعين

وأما كون الشيء عالما فيخالف كونه غير عالم كما أن كونه محبا يخالف كونه غير محب وكونه قادرا يخالف كونه غير قادر ومن جعل الشيء حال كونه عالما وحال كونه غير عالم سواء فهو مصاب في فهو عقله وهذا من أعظم السفسطة وكذلك من جعل كونه ذا عناية هو مجرد كونه عاقلا فإن هذا من أعظم السفسطة والعقل الصريح يعلم أن كون الشيء عالما ليس هو مجرد كونه مريدا ولا مجرد كونه مريدا هو مجرد كونه عالما ولو قيل إن أحدهما يستلزم الآخر فالتلازم لا يوجب كون الملزوم هو اللازم وإذا قيل في أي موجود فرض أن علمه هو إرادته وإرادته هي حياته وأن ذلك هو وجوده كان فساد هذا من أبين الأمور في العقل كما إذا قيل إن هذه التفاحة طعمها هو مجرد لونها ولونها هو مجرد ريحها وريحها هو مجرد شكلها وشكلها هو عين ذاتها

فهذا الكلام من تصوره من الناس وفهمه حتى الصبيان المميزين علم أن قائله من أضل الناس وأجهلهم فهذا الواحد الذي يصفونه يمتنع في الموجود الواجب فهو في غيره أشد امتناعا ولهذا يؤول بهم الأمر إلى أن يجعلوه وجودا مطلقا بشرط الإطلاق كما يجعله المعتزلة ذاتا مجردا من الصفات وكلاهما مما يعلم بصريح العقل انتفاء ثبوته في الخارج بل المطلق لا بشرط يمتنع ثبوته في الخارج وهم يجعلون موضوع العلم الإلهي هذا الموجود المنقسم إلى واجب وممكن وجوهر وعرض وعلة ومعلول ويجعلون هذا هو الفلسفة الأولى والحكمة العظمى ولم يعلموا أن الكليات المقسومة سواءا سمي جنسا أو لم تسم جنسا لا توجد في الخارج كلية فليس في الخارج الحيوان المنقسم إلى ناطق وأعجم ولا الوجود المنقسم إلى جوهر وعرض بل كل حيوان يوجد في الخارج فهو من هذا القسم وكل موجود يوجد في الخارج فهو إما قائم بغيره وهو المقسوم الصادق على أقسامه فهو مطلق لا بشرط الإطلاق فإنه لو شرط فيه الإطلاق لم يصدق على المعينات فإن المعين ليس مطلقا بشرط الإطلاق فإنه لو شرط فيه الإطلاق لم يصدق على المعينات فإن المعين ليس مطلقا بشرط الإطلاق فإذا كان المطلق لا بشرط الإطلاق لا يوجد في الخارج فلا يوجد فيه حيوان مطلق بشرط الإطلاق ولا إنسان مطلق بشرط الإطلاق وهذا بين لجميع العقلاء

ثم قالوا في الموجود الواجب الوجود إنه وجود مطلق بشرط الإطلاق وقد علم بصريح العقل أن الوجود المطلق بشرط الإطلاق لا يكون في الخارج وإنما هو أمر يقدر في العقل لا حقيقة له في الخارج عن الذهن ولا ثبوت له في نفس الأمر وهذا عين التعطيل للموجود الواجب الذي شهد به الوجود من حيث هو وجود فإن الوجود من حيث هو وجود يشهد بوجود واجب الوجود كما قال ابن سينا وغيره وأصابوا في ذلك فإنه لا ريب أن ثم وجودا وأنه إما واجب وإما ممكن والممكن لا بد له من واجب فثبت أنه لا بد في الوجود من موجود واجب

فهذا البيان الذي ذكروه في إثبات واجب الوجود حق واضح مبين لكنهم زعموا مع ذلك أنه وجود مطلق بشرط الإطلاق لا يتعين ولا يتخصص بحقيقة يمتاز بها عن سائر الموجودات بل حقيقته وجود محض مطلق بشرط نفي جميع القيود والمعينات والمخصصات وهم يعلمون في المنطق وكل عاقل تصور هذا الكلام أن هذا لا حقيقة له ولا وجود له إلا في الذهن لا في الخارج فصار الموجود الواجب الذي يشهد به الوجود في الخارج لا يوجد إلا في الذهن وهذا من أبين التناقض والاضطراب والجمع بين النقيضين حيث جعلوه بموجب البرهان الحق موجودا في الخارج وبموجب سلب الصفات هو التوحيد الذي تخيلوه معدوما في الخارج فصار قولهم مستلزما لوجوده وعدمه وكذلك قول من سلك سبيلهم من القرامطة الباطنية كأصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم من الاتحادية أهل وحدة الوجود كابن سبعين وابن عربي ونحوهما بل وسبيل نفاة الصفات من أهل الكلام كالمعتزلة وغيرهم بل وسبيل سائر من نفى شيئا من الصفات فإن لازم كلامه تعطيله ونفيه مع إقراره بثبوته فيكون جامعا بين النقيضين وهذا مبسوط في غير هذا الموضع

وإنما المقصود هنا التنبيه على مثال أقيستهم الفاسدة التي يجعلونها براهين فيما خالفوا فيه الحق ثم إذا تبين أن هذا الواحد ليس له حقيقة في الخارج قيل لمن قال الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ما معنى الصدور أنت لا تعني به حدوثه عنه ولا فعله له بمشيئته وقدرته فعلا يسبق به الفاعل مفعوله وإنما تعنى به لزومه له ووجوبه به ونحن لا نتصور في الموجودات شيئا صدر عنه وحده شيء منفصل عنه كان لازما له قبل هذا الوجه بل ما لزمه وحده كان صفة له إما أن يكون اللازم للملزوم وحده شيئا منفصلا عنه فهذا بيان غير معقول ومعروف فهذا الصدور الذي ذكرته غير معروف

فقولك في هذه القضية الكلية للواحد لا يصدر عنه إلا واحد يقتضي الحكم على كل ما يتصور أنه واحد بأنه لا يصدر عنه إلا واحد فإذا لم يتصور هذا الصدور ولا يعلم صدق هذا السلب في صورة معينة من صور هذه القضية الكلية فمن أين تعلم هذه القضية الكلية

وإذا استدلوا على ذلك بالنار التي لا يصدر عنها إلا الإحراق وبسائر الأجسام البسيطة كالماء أو بالشمس التي يصدر عنها الشعاع لم يكن شيء من هذه المعينات داخلا في قضيتهم الكلية فإن الإحراق لا يصدر عن النار وحدها بل لا بد من محل قابل للإحراق ولهذا لا يصدر عنها الإحراق في السمندل والياقوت ونحوهما من الأجسام التي لا تقبل الإحراق وكذلك المبردات ثم إن الإحراق له موانع تمنعه فهو موقوف على ثبوت شروط وانتفاء موانع غير النار فلم يصر صادرا عن النار بالمعنى الذي أرادوه بالحجة وهو لزومه لذات النار بحيث لا ينفك عنها

وإنما يعقل هذا اللزوم في صفات الملزوم كاستدارة الشمس والضوء القائم بها ونحو ذلك فإن هذا لازم لا يفارق ذاتها بخلاف الضوء القائم بما يقابلها من الأجسام وهو الشعاع المنعكس على الأجسام المسطحة كالأرض والقائمة كأشخاص الجبال والحيوان والنبات والحيطان فإن هذا ليس لازما لذات الشمس بل هو موقوف على وجود هذه الحال التي يقوم بها هذا العرض

وهو أيضا ممنوع عنها بالحجب كالسحاب الكثيف والكسوف وغير ذلك وهذا الشعاع كالظل يكون بسبب الحجاب بينها وبين ما يظله الحجاب فيوجد تارة ويعدم أخرى ولهذا يوجد الليل تارة والنهار أخرى فهذا بيان أن ما قدروه من الواحد ومن الصدور عنه أمر لا يعقل في الخارج أصلا فضلا عن أن يكون قضية كلية عامة وأما إذا قدروا واحدا يفرضونه في أنفسهم وصدورا يفرضونه في أنفسهم فلا ريب أن هذا ملازمة حكم يكون في أنفسهم لكن لا يعلم أنه مطابق للخارج حتى يعلم أن هذا الواجب الوجود هو هذا الواحد وأن ابداعه للعالم هو هذا الصدور ولو علموا ذلك لم يحتاجوا إلى هذا القياس

فهذا القياس لا يفيدهم شيئا إذ مطلوبه علم معين بقضية كلية وتلك القضية لا مرد لها أصلا إلا ما يدعونه في ذلك المعين فهم إن علموا ثبوت الحكم لذلك المعين بدون تلك القضية لم يحتاجوا إليها وإن لم يعلموا ثبوت الحكم للمعين بدون تلك لم يعلم صدق القضية عليه فلا يفيد بل إذا عورضوا بنقيض ما قالوه كان أبين في القياس فيقال لهم ليس في الوجود واحد يصدر عنه واحد بل كل صادر في الوجود فهو عن اثنين فصاعدا فلا حادث عن المخلوقات إلا عن أصلين كالولد بين أبوين والتسخين والتدبير والإحراق والإغراق وغير ذلك لا بد فيه من اثنين والشعاع المنبسط لا بد فيه من اثنين فإذا لم يكن في الوجود واحد لا يصدر عنه واحد كان قول القائل ليس كل واحد لا يصدر عنه إلا واحد أصح في العقل والقياس من قولهم بل لو قال الواحد الذي ذكروه لا يصدر عنه شيء أصلا لكان قوله أصح في العقل والقياس من قولهم وكذلك إذا قيل الواحد الذي ذكروه لا يصدر عنه شيء إلا مع غيره لكان قوله أصح من قولهم وذلك يقتضي أن يكون للرب شريك وولد إذ مقصودهم بالصدور هو لزومه إياه وهذا هو التوليد العقلي وحقيقة قولهم إن العقول والنفوس متوادة عنه وقولهم بالعلة والمعلول هو القول بالتولد والمتولد عنه فاستطرد شيخ الإسلام كلامهم إلى أن قال فإنه يحتاج أن يعلم أولا أنهم وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير

وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع وبينا أن قول هؤلاء أفسد من قول مشركي العرب الذين قالوا إن الملائكة بنات الله وقالوا إن آلهتنا تشفع لنا فإن أولئك كانوا يقولون أن الرب فاعل مختار والملائكة مخلوقون له ولكن ضلوا في بعض ما وصفوه كما ضلت النصارى في بعض ما ذكروه وأما هؤلاء أعظم ضلالا من اليهود والنصارى ومشركي العرب فإنهم في الحقيقة لا يجعلون الرب تعالى خالقا لشيء ولا يفعل فعلا بمشيئته واختياره ولا يجعلون الملائكة عباده بل يجعلون العقل الأول هو رب كل ما سوى الله والشفاعة عندهم ليست سؤالا من الله تعالى من الشافع بل توجه إلى الشافع حتى يفيض منه على المستشفع ما ليس لله ولا للشافع به علم عندهم ولا يحصل بقدرته ولا مشيئته

والمقصود هنا التنبيه على أن طرق السلف والأئمة الموافقة للطرق التي دل القران عليها وأرشد إليها هي أكمل الطرق وأصحها وأكثر الناس صوابا في العقليات أقربهم إليهم كما أن أكثرهم صوابا في السمعيات أقربهم إليهم إذ العقل الصريح لا يخالف السمع الصحيح بل يصدقه ويوافقه كما قال تعالى ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق وقال تعالى ولا يأتونك بمثل ما جئناك بالحق وأحسن تفسيرا

ولهذا كان المتكلمة الصفاتية كابن كلاب والأشعري وابن كرام خيرا وأصح طريقا في العقليات والسمعيات من المعتزلة والمعتزلة خيرا وأصح طريقا في العقليات والسمعيات من المتفلسفة وإن كان في قول كل من هؤلاء ما ينكر عليه وما خالف فيه العقل والسمع ولكن من كان أكثر صوابا وأقوم قيلا كان أحق بأن يقدم على من هو دونه تنزيلا وتفصيلا

قالت عائشة أمرنا رسول الله أن ننزل الناس منازلهم وهذا من القسط الذي أمر الله به وأنزل به كتبه وبعث به رسوله قال تعالى يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله وقال تعالى لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط

والمقصود هنا التنبيه على طرق الناس في إثبات كون الله متكلما تنبيها مختصرا بحسب ما يحتمله جواب هذا السؤال والطرق نوعان سمعية وعقلية وإن كانت العقلية هي أيضا شرعية سمعية باعتبار أن السمع دل عليها وأرشد إليها وأن الشرع أحبها ودعا إليها لكن صاحب هذا المختصر إنما سلك طريقا سمعية اتباعا لمتبوعه أبي عبد الله بن الخطيب وهذه الطرق مبنية على مقدمتين

إحداهما أنه آمر ناه ومن كان كذلك فهو متكلم والمقدمة الأولى مدلول عليها بأن الرسل بلغوا أمره ونهيه وكل من المقدمتين واضحة فإن الكلام نوعان إنشاء وإخبار والإنشاء أمر ونهي وإباحة فإذا ثبت له نوع من أنواع الكلام ثبت مطلق الكلام فثبت أنه متكلم

وأما الثانية فقد علم بالاضطرار من دين جميع الرسل أنهم يخبرون عن الله بأنه أمر بكذا ونهى عن كذا فيلزم من ثبوت الرسالة ثبوت كلام الله تعالى وجحد كون الله متكلما هو جحد لما بلغت عنه الرسل من الأمر والنهي فإن قيل فما الفرق بين هذه الطرق وبين الطرق التي أثبت بها السمع والبصر وهو السمع وقيل هناك أثبت السمع والبصر بنفس الإخبار المنفصل مثل قوله وهو السميع البصير وهنا أثبت تكلمه بمجرد إرسال الرسل من غير تعيين نص حيث قال علمنا أن الله أرسل رسله بتبليغ أمره ونهيه ولم يتعرض لأخبار السمع بأنه متكلم فإن قيل إذا أثبت المثبت تكلمه بالسمع وجب أن يكون السمع قد علمت صحته قبل العلم بكونه متكلما لكن الرسول إذا قال إن الله أرسلني إليكم يأمركم بتوحيده وينهاكم عن الإشراك به مثلا فإن لم يعلموا قبل ذلك جوار كونه متكلما لم يعلموا إمكان إرساله فلا ثبت السمع قيل الجواب من وجهين أحدهما أن ما علم بالسمع وقوعه يكفي فيه الإمكان الذهني وهو كونه غير معلوم الامتناع بل كل مخبر أخبرنا بخبر ولم نعلم كذبه جوزنا صدقه ومتى كان فيه الصدق ممكنا لم يجز التكذيب بل أمكن أن يقام الدليل الدال على صدقه ووجوب تصديقه فيحب تصديقه وهذا الموضع يغلط فيه كثير من النظار فيظنون أنه يحتاج فيما يطلب الدليل على وقوعه أو فيما قام الدليل على وجوده العلم بإمكانه قبل ذلك وإنما يجب أن لا يعلم امتناعه فالرسل صلوات الله عليهم تخبر بمجارات العقول ومالا تعرفه العقول أو ما تعجز عن معرف فما علم العقل إمكانه ولم يعلم هل يكون أم لا يكون تخبر الرسل بوقوعه أم عدم وقوعه وما لم يعلم بالعقل إمكانه ولا امتناعه تخبر الرسل أيضا إما بإمكانه وإما بوقوعه المستلزم إمكانه ولكن لا تخبر الرسل بوجوده ولا إمكانه وما علم عدمه لا تخبر بوجوده فلا تأتي الرسل صلوات الله عليهم بما يعلم نقيضه ولكن قد تأتي بما لم يكن يعلم كما قال تعالى كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون

وكذلك الوحي النازل على الأنبياء يعلمهم ما لم يكونوا يعلمون لا يأتيهم بما يعلمون خلافه قال تعالى ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا انفسهم وما يضرونك من شئ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما

الوجه الثاني أن يقال إمكان التكلم معلوم بأدنى نظر العقل فإنه إذا عرف أنه حي عليم قدير علم أنه يمكن أن يكون متكلما فإن الكلام من الصفات المشروطه بالحياة والصفات المشروطة بالحياة إنما تمتنع عليه سبحانه ما يمتنع منها كالنوم والأكل والشرب لتضمنها نقصا ينزه عنه وليس في الكلام نقص بل سنبين إن شاء الله أنه من صفات الكمال ونبين ما يستحيل إتصافه به فهذا تقرير ما ذكره ويمكن أن يسلك في ذلك طريقا أعم مما ذكره فإنه استدل بالأمر والنهي خاصة والتحقيق أن الخبر يدل أيضا على أنه متكلم كما أن الأمر يدل على ذلك والرسل يبلغون عنه تارة والأمر والنهى وتارة الخبر إما عن نفسه وإما عن مخلوقاته فيبلغون خبره عن نفسه بأسمائه وصفاته وخبره عن مخلوقاته بالقصص كما يبلغون الخبر عن ملائكته وأنبيائه ومن تقدم من الأمم المؤمنين والمكذبين ويبلغون خبره عما يكون في القيامة من الثواب والعقاب والوعد والوعيد بل ما تبلغه الرسل من خبره أكثر مما تبلغه من أمره والخبر في القرآن أكثر من الأمر وإذا قيل لا معنى لكونه متكلما إلا أنه مخبر منبئ والتحقيق أن يقال لزم من كونه آمرا ناهيا أن يكون متكلما ويلزم من كونه مخبرا منبئا أن يكون متكلما

وأما قول القائل لا معنى لكونه متكلما إلا أنه آمر ناه وإنه مخبر ففيه نظر فإن المتكلم يكون تارة آمرا وتارة مخبرا وهو في حالة كونه مخبرا متكلم وإن لم يكن آمرا وفي حال آمرا متكلم وإن لم يكن مخبرا سواء قدر إمكان انفكاك أحدهما عن الآخر أو قدر تلازمهما في حق بعض المتكلمين

ولقائل أن يقول هذا الذي ذكره قليل الفائدة فإنه إن كان المقصود به إثبات كونه متكلما على من يقر بالرسل فجميع هؤلاء يقرون بأنه متكلم إذ لا يمكن أحدا ممن يؤمن بالتوراة أو الإنجيل أو القرآن أن ينكر أن الله تكلم وهذه الكتب مملوءة بذكر ذلك وأهل الملل مطبقون على ذلك وإن كان مقصوده إثبات ذلك على من لا يقر بالرسل فتقرير المسألة تقرير لهذا فحاصله أن ما ذكره من كونه متكلما هو حقيقة أن الرسل صادقون فيما أخبروا عنه فإذا أثبت ذلك بصدق الرسل كان إثباتا للشيء بنفسه وإنما المقصود إثبات أنه متكلم حقيقة بكلام يقوم بنفسه خلافا للمتفلسفة التي تحمل كلامه إنما هو تعريف فعلي وهو ما يفيض النفوس من التعريفات وللجهمية من المعتزلة وغيرهم الذين يجعلون كلامه ما يخلقه في غيره من الحروف والأصوات وهذا الذي اعتنى به السلف في الرد على من يقول القرآن مخلوق خلقه الله في الهواء لم يقم به كلام فكيف بمن يقول ليس كلامه إلا ما يحدث في النفوس من التعريف والإعلام من غير أن يكون له كلام منفصل عن نفوس الأنبياء والمرسلين وقد بسطنا القول في مسألة الكلام واضطراب الناس فيها في غير هذا الموضع

ولا ريب أنه سلك في هذا الاعتقاد مسلك الصفاتية المخالفين للمعتزلة ولهذا عد الصفات السبع وأما المعتزلة فيقتصرون على أنه حي عالم قادر وقد يزيد البصريون الإدراك كالسمع والبصر

وأما كونه متكلما ومريدا فهذا عندهم من باب المفعولات لا من باب الصفات إذ معنى كونه متكلما عندهم أنه خلق كلاما في غيره كسائر ما يخلقه من المخلوقات بخلاف كونه حيا عالما قادرا أو مدركا عند البصريين فإن ذلك ثبت له لذاته سواء خلق شيئا أو لم يخلقه ولهذا كان عام التعلق لا يختص بمعلوم دون معلوم كما تختص الإرادة والكلام بمراد دون مراد ومأمور دون مأمور وهذا القدر الذي أثبته من كونه متكلما آمرا ناهيا لا ينازعه فيه معتزلي بل ولا متفلسف إلهي يقر بالنبوات في الجملة كما يقر بها المتفلسفة الذين حقيقة أمرهم أنهم يؤمنون ببعض الصفات ويكفرون ببعض كما أن اليهود والنصارى يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض

ولقائل أن يقول إن هذا السؤال ليس لازما له في مسألة الكلام بل وفي سائر المسائل فإنه لم يثبت شيئا من الصفات القائمة بنفسه وإنما أثبت أحكام الصفات وأثبت الأسماء والمعتزلة توافق على الأسماء والأحكام بل والفلاسفة أيضا توافق على إطلاق ما ذكره من الأسماء والصفات فلا يكون في هذا الاعتقاد فرق بين مذهب الصفاتية أهل الإثبات كابن كلاب والأشعري وأتباعهما ولا بين المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم وأبي الحسين البصري وأمثالهم بل هذا الاعتقاد مشترك بين المعتزلة والأشعرية وغيرهم من الطوائف يبين هذا أنه لم يذكر في اعتقاده ما تتميز به الأشعرية عن المعتزلة ولا ذكر أن القرآن كلام الله غير مخلوق ولا ذكر مسألة الرؤية وإن رؤية الله جائزة في الدنيا واقعة في الآخرة ولا ذكر أيضا مسائل القدر وأن الله خالق أفعال العباد وإنه مريد للكائنات ولا ذكر أيضا مسائل الأسماء والأحكام وأن الفاسق لا يخرج عن الإيمان بالكلية ولا يجب إنفاذ الوعيد بل يجوز العفو عن أهل الكبائر ولا ذكر مسائل الإمامة والتفضيل وكل هذه الأصول تذكر في مختصرات المعتقدات التي يصنفها متأخرو الأشاعرة كالعقيدة القدسية لأبي حامد والعقيدة البرهانية المختصرة من إرشاد أبي المعالي ونحوهما فضلا عن الاعتقاد الذي تذكره أئمة الأشعرية كالقاضي أبي بكر وذويه فإنهم يزيدون على ذلك إثبات الصفات الخبرية وإثبات العلو وأمثال ذلك فضلا عن الاعتقاد الذي ذكره الأشعري في المقالات عن أهل السنة وأصحاب الحديث فإن فيه جملا مفصلة فضلا عما يذكره السلف والأئمة الكبار من الإثبات والتفصيل المبين للسنة الفاصل بينها وبين كل بدعة ولهذا كان أصحاب هذا المصنف مع انتسابهم إلى الأشعري إنما هم في باب الصفات مقرون بما تقر به المعتزلة ولا يقرون بما تقر به الأشعرية من الزيادات وبحوث أبي عبد الله بن الخطيب تعطيهم ذلك فإن الوقف والحيرة ظاهر على كلامه في إثبات الصفات ومسألة الرؤيا والكلام وأمثالها بخلاف مسائل القدر فإنه جازم فيها بمخالفة المعتزلة وهذه الطريقة تشبه من بعض الوجوه طريقة ضرار بن عمرو وحسين النجار وأمثالهما ممن كان يقر بالقدر ولكنه في الصفات بين المعتزلة والأشعرية أو تشبه طريقة الواقفية الذين كانوا يقفون في القرآن فلا يقولون هو مخلوق ولا غير مخلوق

وكلام أئمة السنة في ذم هؤلاء وكلام متكلمة الصفاتية كالأشعري وغيره في ذلك مشهور معروف فإن قيل فالمعتزلة لا تقر بمنكر ونكير والصراط والميزان ونحو ذلك مما ذكره هذا المصنف قيل المعتزلة في ذلك على قولين منهم من يثبت ذلك ومنهم من ينفيه على أن ما ذكره ليس فيه ما يدل على إثبات هذه الأمور وإنما فيه الإقرار بكل ما أخبر به الرسول من هذه الأمور وليس في المعتزلة ولا غيرهم من المسلمين من يقول لا أقر بما أخبر به الرسول بل كل مسلم يقول إن ما أخبر به الرسول فهو حق يجب تصديقه به

وكل المسلمين من أهل السنة والبدعة يقولون آمنت بالله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله فإنه متى لم يقر بهذا فهو كفر كفرا ظاهرا ولا يتميز بهذا القول المجمل مذهب أهل السنة عن غيرهم ولهذا لا يكتفي إمام من أئمة السنة بمجرد هذا ومن نقل عن الشافعي وغيره أنه اكتفى بهذا فقد كذب عليه وإنما هذا قول بعض المتأخرين وهو قول صحيح لا يخالف فيه إلا كافر لكن العلم بالسنة مفصلا مقام آخر فالمبتدع إذا نازع السني لا ينازعه في تصديق الرسول في كل ما أخبر به لكن ينازع هل أخبر بذلك الرسول أم لا وهل خبره على ظاهره أم لا وهو لم يثبت لا هذا ولا هذا إذ هما من علم النقل ودلالة الألفاظ وليس فيما ذكره شيء من هذا وهذا كما أن كلامه في التوحيد ليس مبنيا على أصول الأشعرية ولا أصول المعتزلة بل على أصول المتفلسفة فهو متردد بين الفلسفة والاعتزال وأخذ من بحوث المنتسبين إلى الأشعرية كالرازي ونحوه ما قد يقوله هؤلاء وهؤلاء

وكذلك يحكي عنه خواص أصحابه أنه كان في الباطن يميل إلى ذلك وقد ظهر ذلك في خواص المحدثين من أصحابه كالقشيري وغيره ومعلوم أنه تكلم بمبلغ علمه وحسب اجتهاده ونهاية عقله وغاية نظره

ولكن المقصود أن تعرف المقالات والمذاهب وما هي عليه من الدرجات والمراتب ليعطي كل ذي حق حقه ويعرف المسلم أين يضع رجله

إذا تبين هذا فنحن ننبه على ما يتميز به أهل السنة عن المعتزلة ومن هو أبعد عن الحق منهم كالمتفلسفة فنقول إذا ثبت بهذا الدليل إنه سبحانه متكلم وثبت أن الرسل أخبروا بذلك فنقول الذي أخبرت به الرسل أنه متكلم بكلام قائم بنفسه هذا هو الذي نبينه وهذا هو الذي فهمه عنهم أصحابهم ثم تابعوهم بإحسان بل علموا هذا من دليل الرسل بالاضطرار ولم يكن في صدر الأمة وسلفها من ينكر ذلك وأول من ابتدع خلاف ذلك الجعد بن درهم ثم صاحبه الجهم بن صفوان وكلاهما قتل أما الجعد بن درهم الذي كان يقال إنه معلم مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية وكان يقال له الجعدي نسبة إلى الجعد فإنه قتله خالد بن عبد الله القسري ضحى به بواسط يوم النحر وقال أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه وكانوا أول ما أظهروا بدعتهم قالوا إن الله لا يتكلم ولا يكلم كما حكي عن الجعد وهذه حقيقة قولهم فكل من قال القرآن مخلوق فحقيقة قوله أن الله لم يتكلم ولا يكلم ولا يأمر ولا ينهى ولا يحب فلما رأوا ما في ذلك من مخالفة القرآن والمسلمين قالوا إنه يتكلم مجازا يخلق شيئا يعبر عنه لا إنه في نفسه يتكلم فلما شنع المسلمون عليهم قالوا يتكلم حقيقة ولكن المتكلم هو من أحدث الكلام وفعله ولو في غيره فكل من أحدث كلاما ولو في غيره كان متكلما بذلك الكلام حقيقة وقالوا المتكلم من فعل الكلام لا من قام به الكلام وهذا الذي استقر عليه قول المعتزلة وهم يموهون على الناس فيقولون أجمع المسلمون على أن الله متكلم ولكن اختلفوا في معنى المتكلم هل هو من فعل الكلام أو من قام به الكلام وما زعموه من أن المتكلم يكون متكلما بكلام قائم بغير قول خرجوا به عن العقل والشرع واللغة

وكان قدماء الصفاتية من السلف والأئمة والكلابية والكرامية والأشعرية يحققون هذا المقام ويثبتون ضلال الجهمية من المعتزلة وغيرهم فيه ولكن الرازي ونحوه أعرض عنه وقال هذا بحث لفظي وزعم أنه قليل الفائدة ثم سلك مسلكا ضعيفا في الرد عليهم قد بيناه في غير هذا الموضع

وهذا غلط عظيم جدا من وجهين أحدهما أن المسألة إذا كانت سمعية وأنت إنما أثبت إنه متكلم بأن الرسل بلغت أمره ونهيه الذي هو كلامه كان من تمام ذلك البحث عن مراد الرسل بكونه أمرا ناهيا متكلما هل مرادهم بذلك أنه خلق كلاما في غيره أو أنه قام به كلام تكلم به والدلائل السمعية مقرونة بالبحث عن ألفاظ الرسل ولغاتهم التي بها خاطبوا الخلق فصارت هذه المقدمة هي الركن المعتمد في الرد على المعتزلة كما سلكه قدماه الصفاتية وأئمتهم بل هي الركن المعتمد في معنى كونه متكلما إذا ثبت ذلك بالطرق السمعية

الثاني إن المسألة ليست لغوية فقط بل كون الصفة إذا قامت بمحل هل يعود حكمها على ذلك المحل أو على غيره هو أن البحوث العقلية النافعة في هذا المقام والسلف رضي الله عنهم عرفوا حقيقة المذهب وردوه بناء على هذا الأصل كما ذكره البخاري في كتاب خلق الأفعال وقال قال ابن مقاتل سمعت ابن المبارك يقول من قال إني أنا الله لا إله إلا أنا مخلوق فهو كافر ولا ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك وقال إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية وقال سليمان بن داود الهاشمي من قال إن القرآن مخلوق فهو كافر وإن كان القرآن مخلوقا كما زعموا فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال أنا ربكم الأعلى وزعموا أن هذا مخلوق ومن قال إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني مخلوق فهذا أيضا قد ادعى ما ادعى فرعون فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار من هذا وكلاهما عنده مخلوق فأخبر بذلك أبو عبيد فاستحسنه وأعجبه

قال البخاري قال أبو الوليد سمعت يحيى بن سعيد وذكر له أن قوما يقولون القرآن مخلوق فقال كيف يصنعون ب قل هو الله أحد الله الصمد كيف يصنعون بقوله إني أنا الله لا إله إلا أنا وروي عن وكيع بن الجراح أنه قال لا تستخفوا بقولهم القرآن مخلوق فإنه من شر قولهم إنما يذهبون إلى التعطيل

ومعنى كلام السلف أن من قال إن كلام الله مخلوق فحقيقة قوله أن الله تعالى لا يتكلم وإن المحل الذي قام به إنني أنا الله لا إله إلا أنا هو المدعى الإلهية كما أن فرعون لما قام به أنا ربكم الأعلى كان مدعيا للربوبية وكلام السلف مبني على ما يعلمونه من أن الله خالق أفعال العباد وأقوالهم وإذا كان كلامه ما خلقه في غيره كان كل كلام كلامه وكان كلام فرعون كلامه إذ المتكلم من قام به الكلام فلا يكون متكلما بكلام يكون في غيره كسائر الصفات والأفعال فإنه لا يكون عالما بعلم يقوم بغيره ولا قادر بقدرة تقوم بغيره ولا حيا بحياة تقوم بغيره وكسائر الموصوفين فإن الشيء لا يكون حيا عالما قادرا بحياة أو علم أو قدرة تقوم بغيره ولا يكون متحركا أو ساكنا يحركة أو سكون يقوم بغيره كما لا يكون متلونا بلون يقوم بغيره

وهنا أربع مسائل مسألتان عقليتان ومسألتان سمعيتان لغويتان الأولى أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها إلى ذلك المحل فكان هو الموصوف بها فالعلم والقدرة والكلام والحركة والسكون إذا قام بمحل كان ذلك المحل هو العالم القادر المتكلم أو المتحرك أو الساكن الثانية أن حكمها لا يعود على غير ذلك المحل فلا يكون عالما بعلم يقوم بغيره ولا قادرا بقدرة تقوم بغيره ولا متكلما بكلام يقوم بغيره ولا متحركا بحركة تقوم بغيره وهاتان عقليتان

الثالثة أنه يشتق لذلك المحل من تلك الصفة اسم إذا كانت تلك الصفة مما يشتق لمحلها منها اسم كما إذا قام العلم أو القدرة أو الكلام أو الحركة بمحل قيل عالم أو قادر أو متكلم أو متحرك بخلاف أصناف الروائح التي لا يشتق لمحلها منها اسم

الرابعة أنه لا يشتق الاسم لمحل لم يقم به تلك الصفة فلا يقال لمحل لم يقم به العلم أو القدرة أو الإرادة أو كلام أو الحركة إنه عالم أو قادر أو مريد أو متكلم أو متحرك

والجهمية والمعتزلة عارضوا هذا بالصفات الفعلية فقالوا إنه كما أنه خالق عادل بخلق وعدل لا يقوم به بل هو موجود في غيره فكذلك هو متكلم مريد بكلام وإرادة لا تقوم به بل يقوم الكلام بغيره ممن سلم لهم هذا النقص كالأشعري ومن اتبعه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد أظهر تناقضهم ولم يجيبوهم بجواب مستقيم وأما السلف وجمهور المسلمين من جميع الطوائف فإنهم طردوا أصلهم وقالوا بل الأفعال تقوم به كما تقوم به الصفات والخلق ليس هو المخلوق وذكر البخاري أن هذا إجماع العلماء ومن قال الصفات تنقسم إلى صفات ذاتية وفعلية ولم يجعل الأفعال تقوم به فكلامه فيه تلبيس فإنه سبحانه لا يوصف بشيء لا يقوم به وإن سلم أنه يتصف بما لا يقوم به فهذا هو أصل الجهمية الذين يصفونه بمخلوقاته ويقولون إنه متكلم ومريد وراض وغضبان ومحب ومبغض وراحم لمخلوقات يخلقها منفصلة عنه لا بأمور تقوم بذاته

إذا تبين ذلك فالسلف لما علموا هذا علموا أن قول من قال إني أنا الله لا إله إلا أنا مخلوق يوجب أن يكون هذا الكلام كلاما للشجرة لا كلاما لله لأنه قام بالشجرة لم يقم بالله كما ان كلام فرعون قام به وإن كان الله خالق ذلك كله فإنه خالق العباد وأفعالهم وكلامهم وهذا أيضا مما يبين أنه لو كان من يخلق الكلام في غيره متكلما لوجب أن يكون كل كلام في الوجود كلامه وهذا يقوله غالية الجهمية الاتحادية كصاحب الفصوص ونحوه فإنه يقول

وكل كلام في الوجود كلامه... سواء علينا نثره ونظامه

ومعلوم أن هذا الكلام أعظم من كفر عباد الأصنام كما ذكر ابن المبارك وغيره من السلف وأيضا فإن الله تعالى قد أنطق أشياء كما قال تعالى يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين وقال حتى إذا ما جاؤها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتهم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء فهو منطق كل شيء وخالق نطقه ولا نزاع أنه خالق النطق في غير الحي المختار وإنما تنازعت القدرية في خلق أقوال الأحياء وأفعالهم فإن كان حقيقة كلامه ما خلقه في غيره من الكلام فهذا جميعه كلامه وما في هذا الكلام المخلوق من ضمير المتكلم إما أن يعود إلى خالقه أو إلى محله فإن عاد إلى خالقه كانت شهادة الأعضاء شهادة الله وكان قول فرعون أنا ربكم الأعلى قولا لله وكان قولهم لجلودهم لم شهدتم علينا قولا لله وكان قول الجلود أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء بمعنى أنطقت نفسي

ولم يكن فرق عندهم بين نطق وأنطق وإن عاد الضمير إلى محله كان الكلام المخلوق في الشجرة إنني أنا الله لا إله إلا أنا كلاما للشجرة فتكون الشجرة هي القائلة إنني أنا الله لا إله إلا أنا وهذه حقيقة قولهم لما ثبت من أن الكلام كلام لمن قام به فيكون ضمير المتكلم فيه عائدا إلى محله ولما كان هذا المعنى مستقرا في فطر الناس وعقولهم كان السلف يقصدون بمجرد قولهم القرآن كلام الله الرد على هؤلاء الجهمية الذين حقيقة قولهم إن القرآن ليس كلام الله وإنما هو كلام لجسم مخلوق وحقيقة قولهم إن الله لم يكلم موسى وإنما كلمه مخلوق من مخلوقاته قال البخاري قال عبد الرحمن ابن عفان سمعت سفيان بن عيينة في السنة التي ضرب فيها المريسي فقام ابن عيينة من مجلسه مغضبا قال ويحكم القرآن كلام الله قد صحبت الناس وأدركتهم هذا عمرو بن دينار وهذا ابن المنكدر حتى ذكر منصور والأعمش ومسعر بن كدام فقال ابن عيينة قد تكلموا في الاعتزال والرفض والقدر وأمرونا باجتناب القوم فما نعرف القرآن إلا كلام الله ومن قال غير هذا فعليه لعنة الله وما أشبه هذا القول بقول النصارى لا تجالسوهم ولا تسمعوا كلامهم

وابن عيينة أخرج هذا القول عن الرفض والاعتزال لأن المعتزلة أولا الذين كانوا في زمن عمرو بن عبيد وأمثاله لم يكونوا جهمية وإنما كانوا يتكلموا في الوعيد وإنكار القدر وإنما حدث فيهم نفي الصفات بعد هذا ولهذا لما ذكر الإمام أحمد بن حنبل في رده على الجهمية قول جهم قال فاتبعه قوم من أصحاب عمرو بن عبيد وغيره واشتهر هذا القول عن أبي الهذيل العلاف والنظام وأشباههم من أهل الكلام

وأما الرافضة فلم يكن في قدمائهم من يقول بنفي الصفات بل كان الغلو في التجسم مشهورا عن شيوخهم هشام بن الحكيم وأمثاله

وقال البخاري حدثني الحكم بن محمد الطبري كتبت عنه بمكة قال حدثنا سفيان بن عيينة قال أدركت مشيختنا منذ سبعين سنة منهم عمرو بن دينار يقولون القرآن كلام الله وليس بمخلوق قلت كان المريسي قد صنف كتابا في نفي الصفات وجعل يقرؤه بمكة في أواخر حياة ابن عيينة فشاع بين علماء أهل مكة ذلك وقالوا صنف كتابا في التعطيل فسعوا في عقوبته وحبسه وذلك قبل أن يتصل بالمأمون ويجري من المحنة ما جرى وقول ابن عيينة ما أشبه هذا الكلام بكلام النصارى هو كما قال كما قد بسط في غير هذا الموضع فإن عيسى مخلوق وهم يجعلونه نفس الكلم لا يجعلونه المخلوق بالكلمة وأيضا فأئمة نصارى كغشتكين أحد فضلائهم الأكابر يقولون إن الله ظهر في صورة البشر مترائيا لنا كما ظهر كلامه لموسى في الشجرة فالصوت المسموع هو كلام الله وإن كان خلقه في غيره وهذا المرئي هو الله وإن كان قد حل في غيره

قال البخاري وقال علي بن عاصم ما الذين قالوا بأن لله ولدا أكفر من الذين قالوا إن الله لا يتكلم قال وقال علي بن عبد الله يعني بن المديني القرآن كلام الله من قال إنه مخلوق فهو كافر لا يصلى خلفه قال وقال أبو الوليد من قال القرآن مخلوق فهو كافر ومن لم يعقد قلبه على أن القرآن ليس بمخلوق فهو خارج عن الإسلام قال وقال أبو عبيد نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت قوما أضل في كفرهم منهم وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم قال وقال معاوية بن عمار سمعت جعفر بن محمد يقول القرآن كلام الله ليس بمخلوق وهذا باب واسع كبير منتشر في كتب السنة والحديث فهذا تمام ما قرره في مسألة الكلام

فصل

عدل

وللناس طرق أخرى في إثبات كون الله متكلما منها ما في القرآن من الأخبار عن ذلك كقوله تعالى قال الله ويقول الله وقوله وكلم الله موسى تكليما وقوله ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه وما ذكره في القرآن من كلمة وكلماته كقوله تعالى ولولا كلمة سبقت من ربك وقوله وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا وما فيه من ذكر مناداته ومناجاته كقوله وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا وقوله ويوم يناديهم أين شركائي الذين كنتم تزعمون ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين وما في القرآن من ذكر أنبائه وقصصه كقوله قد نبأنا الله من أخباركم وقوله نحن نقص عليك أحسن القصص وما في القرآن من ذكر حديثه كقوله الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا وقوله الله نزل أحسن الحديث من القول منه وقوله ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وقوله تعالى قوله الحق وله الملك الآية

وما ذكر في القرآن أنه منه أو ما أضيف إليه فإن كان عينا قائمة بنفسها أو أمرا قائما بتلك العين كان مخلوقا كقوله في عيسى وروح منه وقوله وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه وقوله تعالى وما بكم من نعمة فمن الله

وأما ما كان صفة لا تقوم بنفسها ولم يذكر لها محل غير الله كان صفة له فكالقول والعلم والأمر إذا أريد به المصدر كان المصدر من هذا الباب كقوله تعالى ألا له الخلق والأمر وإن أريد به المخلوق المكون بالأمر كان من الأول كقوله تعالى أتى أمر الله فلا تستعجلوا

وبهذا يفرق بين كلام الله سبحانه وعلم الله وبين عبد الله وبيت الله وناقة الله وقوله فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا وهذا أمر معقول في الخطاب فإذا قلت علم فلان وكلامه ومشيئته لم يكن شيئا باينا عنه والسبب في ذلك أن هذه الأمور صفات لما تقوم به فإذا أضيفت إليه كان ذلك إضافة صفة لموصوف إذ لو قامت بغيره لكانت صفة لذلك الغير لا لغيره

واعلم أن الاستدلال على الكلام بمثل هذه السمعيات أكمل من الاستدلال على السمع والبصر بالسمعيات لأن ما أخبر الله به عن نفسه من قوله وكلامه ونبائه وقصصه وأمره ونهيه وتكليمه وندائه ومناجاته وأمثال ذلك أضعاف وأضعاف ما أخبر به من كونه سميعا بصيرا

وأيضا فإنه نوع الإخبار عن كل نوع من أنواع الكلام وثنى ذلك وكرره في مواضع ولا يحصى ما في القرآن من ذلك إلا بكلفة ومن المعلوم بالاضطرار أن المخاطبين لا يفهمون من هذا الكلام عند الإطلاق إنه خلق صوتا في غيره وإنما يفهمون منه هو الذي تكلم بذلك وقاله كما قالت عائشة في حديث الإفك ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بوحي يتلى فلو كان المراد بهذه الجمل الكثيرة العظيمة البينة الصريحة خلاف مفهومها ومقتضاها لوجب بيان ذلك إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ثم لا يقدر أحد أن يحكي عنهم أنهم جعلوا الكلام كلاما لمن أحدثه في غيره بل لا يوجد في كلامهم قال ويقول تكلم ويتكلم إلا إذا كان الكلام قائما بذاته

وإذا احتجت الجهمية من المعتزلة ونحوهم بأن أحدنا إنما كان متكلما لأنه فعل الكلام قيل هو لم يحدثه في غيره ولم يباين كلامه نفسه وأنتم تجعلون الكلام البائن للمتكلم كلاما له فإن قالوا ولا نعقل الكلام إلا كلام لمن فعله بمشيئته وقدرته فإن كلام أحدنا لم يكن كلاما له بمجرد قيامه بذاته بل لكونه فعله قيل:

أما كلام أحد فهو قائم به وهو تكلم به في ذاته ومشيئته وقدرته فهو قد جمع الوصفين أنه قائم بذاته وأنه تكلم به بمشيئته وقدرته فليس جعلكم الكلام كلامه لمجرد كونه فعله بأولى من جعل غيركم الكلام كلاما له لمجرد كونه قام بذاته

وهذا موضع تنازعت فيه الصفاتية بعد اتفاقهم على تضليل الجهمية من الفلاسفة والمعتزلة ونحوهم على قولين مشهورين حتى القائلون بأن الكلام معنى قائم بنفس المتكلم وراء الأصوات تنازعوا في ذلك كما ذكره أبو محمد ابن كلاب فيما حكاه عنه أبو بكر ابن فورك قال ابن فورك فأما صريح عبارته وما نص عليه في كتاب الصفات الكبيرة في تحقيق الكلام فإنه قال فأما الكلام فإنه على ما شاهدناه منه معنى قائم بالنفس فقوم يزعمون أنه نعت لها وقوم يزعمون أنه فعل من أفعالها إلا أنهم يعبرون عنه بالألفاظ والكتاب والإيماء وكل ذلك قد يسمى كلاما وقولا لأدائه ما يؤدى عن تلك المعاني الخفيات

وكذلك أبو بكر عبد العزيز ذكر في كتابه ما ذكره القاضي أبو يعلى عنه أن أصحاب الإمام أحمد تنازعوا في معنى قولهم القرآن غير مخلوق هل المراد به أنه صفة لازمة له كالعلم والقدرة أو أنه يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء وهذه المسألة متعلقة بمسألة قيام الأفعال بذاته المتعلقة بمشيئته هل يجوز أم لا كالإتيان والمجيء والاستواء ونحو ذلك وتسمى مسألة حلول الحوادث وكل طائفة من طوائف الأمة وغيرهم فيها على قولين حتى الفلاسفة لهم فيها قولان لمتقدميهم ومتأخريهم

وذكر أبو عبد الله الرازي أن جميع الطوائف تلزمهم هذه المسألة وإن لم يلتزموها وأول من صرح بنفيها الجهمية من المعتزلة ونحوهم ووافقهم على ذلك أبو محمد بن كلاب وأتباعه كالحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي وأبي الحسن الأشعري ومن وافقهم من أتباع الأئمة كالقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء بن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني وهو قول طائفة من متأخري أهل الحديث كأبي حاتم البستي والخطابي ونحوهما وكثير من طوائف أهل الكلام يثبتها كالهشامية والكرامية والزهيرية وأبي معاذ التومني وأمثالهم كما ذكره الأشعري عنهم في المقالات وهو قول أساطين فلسفة المتقدمين كأبي البركات صاحب المعتبر وأمثاله من المتفلسفة وهو قول جمهور أئمة الحديث كما ذكره عثمان بن سعيد الدارمي وإمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة وغيرهما عن مذهب السلف والأئمة وكما ذكره شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري وأبو عمر بن عبد البر النميري

وقاله طوائف من أصحاب أحمد كالخلال وصاحبه وأبي حامد وأمثالهم وقاله داود بن علي الأصفهاني وأتباعه وهو مقتضى ما ذكروه عن السلف والأئمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري صاحب الصحيح وأمثالهم وعليه يدل كلام السلف فهؤلاء إذا قالوا المتكلم من قام به الكلام وهو يتكلم بمشيئته وقدرته خصموا المعتزلة وانقطعت حجتهم عنهم فإنهم اعتبروا الوصفين جميعا فمن جعل المتكلم من قام به الكلام وإن لم يكن متكلما بمشيئته وقدرته أو جعله من فعله بمشيئته وقدرته وإن لم يكن قائما به لحذف أحد الوصفين

ولا ريب أن الطرق الدالة على الإثبات والنفي إما السمع وإما العقل أما السمع فليس مع النفاة منه شيء بل القرآن والأحاديث هي من جانب الإثبات كقوله تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون وقوله تعالى ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين وقوله وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وقوله خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش وقوله ثم استوى إلى السماء وهي دخان وقوله هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك وأمثال ذلك مما في القرآن فإنه كثير جدا

وكذلك الأحاديث الصحيحة كقوله عليه الصلاة والسلام لما صلى بهم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل أتدرون ماذا قال ربكم الليلة قالوا الله ورسوله أعلم قال فإنه قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكوكب وما يذكره من خطابه للعباد يوم القيامة وخطابه للملائكة وأمثال ذلك بل كل ما تحتج به المعتزلة على أن القرآن مخلوق من نحو هذا فإنه لا يدل على أنه بائن منه وإنما يدل على أنه يتكلم بمشيئته وقدرته فيمكن هؤلاء التزامه ويكون قولهم متضمنا للإيمان بجميع ما أنزله الله مما يدل على أنه يتكلم بمشيئته وقدرته وعلى أن كلامه غير مخلوق بخلاف غيرهم فإنه يقرر بعض النصوص ويرد بعضها بتحريف أو تفويض ومن جعله متكلما بمشيئة وقدرته وقال إن كلامه قائم به زال عنه هذا كله والمنازع لهم يحتاج أن يقرر بالعقل امتناع ذلك ثم يبين أنه يمكن تأويله

فأما الطرق العقلية فالمثبتون يقولون إنها من جانبهم دون جانب النفاة كما تزعم النفاة أنها من جانبهم وذلك أنهم قالوا إن قدرته على ما يقوم به من الكلام والفعل صفة كمال كما أن ما يقوم به من العلم والقدرة صفة كمال ومن المعلوم أن من قدر على أن يفعل ويتكلم أكمل ممن لا يقدر على ذلك كما أن قدرته على أن يبدع الأشياء صفة كمال والقادر على الخلق أكمل ممن لا يقدر على الخلق

وقالوا الحي لا يخلو عن هذا والحياة هي المصصحة لهذا كما هي المصححة لسائر الصفات وإذا قدر حي لا يقدر على أن يفعل بنفسه ويتكلم بنفسه كان عجزا بمنزلة الزمن والأخرص كما أنه إذا قدر حي لا يسمع ولا يبصر كان أصم أعمى فما من طريق يسلكه الصفاتية في إثبات صفاته إلا يسلك هؤلاء نظيره من إثبات ذلك

ولا ريب أن النفاه نوعان أحدهما وهم الأصل المعتزلة ونحوهم من الجهمية فهؤلاء ينفون الصفات مطلقا وحجتهم على نفي قيام الأفعال به من جنس حجتهم على نفي قيام الصفات به وهم يسوون في النفي بين هذا وهذا كما صرحوا بذلك وليس لهم حجة تختص بنفس قيام الحوادث وأما مثبته الصفات الذين ينفون الأفعال الاختيارية القائمة به كابن كلاب والأشعري فإنهم فرقوا بين هذين بأنه لو جاز قيام الحوادث به لم يخل منها لأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث وبهذا استدلوا على حدوث الأجسام لأنها لا تخلو من الأعراض الحادثة كالحركة والسكون والاجتماع والافتراق فأجابهم الأولون بثلاثة أجوبة أحدهما أن استدلالكم بقيام الأفعال به على حدوثه هو نظير استدلال المعتزلة بقيام الصفات به على حدوثه وقالوا الصفات أعراض والأعراض لا تقوم إلا بجسم ففرقتم أنتم بين الصفات وهي اللازمة وبين الأعراض وهو فرق سوري يرجع في الحقيقة إلى الاصطلاح فإن جاز أن تقوم به الصفات التي هي أعراض في غيره ولا يكون جسما محدثا جاز أن تقوم به الأفعال التي هي حركات في غيره ولا يكون جسما محدثا وهذا إلزام

الثاني قالوا لهم لا نسلم أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده وقد اعترف أبو عبد الله الرازي وأبو الحسن الآمدي ونحوهما بفساد هذا الأصل وعليه بنى الأشعري وأصحابه كلامهم في مسألة امتناع قيام الحوادث به ومسألة القرآن ونحوهما من المسائل

الثالث هب أنه لا يخلو عنه وعن ضده وأن ذلك يستلزم تعاقب الحوادث لكن لا نسلم أن ذلك يسلتزم حدوث ما قام به قالوا والدليل الذي ذكرتموه على حدوث العالم من هذا الوجه دليل ضعيف وقد ألزمكم الفلاسفة فيه إلزاما لم تنفصلوا عنه ولا يمكنكم الانفصال عنه إلا بتجويز ذلك على القديم فإنهم قالوا ما حدث بعد أن لم يكن فلا بد له من سبب حادث فإن ذلك الحادث ممكن والممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح والمرجح إن لم يجب حصول الممكن عند حصوله لم يكن مرجحا تاما فافتقر إلى تمامه ثم القول في حدث ذلك التمام كالقول في حدوث الأول فلا بد من مرجح تام يجب عنده الحادث فلا بد لكل حادث من سبب تام يحصل الحادث عند تمام ذلك السبب فإذا كان العالم محدثا بعد أن لم يكن ولم يحدث سبب يقتضي حدوثه فلم يكن حين ابداعه أمر يوجب ترجيحه لم يكن قبل إبداعه بل الحالان سواء فيلزم ترجيح الحدوث بلا مرجح

وهذا الموضع هو أصعب المواضع على المتكلمين في بحثهم مع الفلاسفة في مسألة حدوث العالم وهذه الشبهة أقوى شبهة الفلاسفة فإنهم لما رأوا أن الحدوث يمتنع إلا بسبب حادث قالوا والقول في ذلك الحادث كالقول في الأول

وقال هؤلاء المثبتة لقيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى وعلى أصلنا يبطل كلام الفلاسفة فإنه يقال لهم أنتم تجوزون قيام الحوادث بالقديم إذ الفلك قديم عندكم والحركات تقوم به وتجوزون حوادث لا أول لها وتعاقب الحركات على الشيء لا يسلتزم حدوثه واذا كان كذلك فلم يجوز أن يكون الخالق للعالم له أفعال اختيارية تقوم بها يحدث بها الحوادث ولا يكون تسلسلها وتعاقبها دليلا على حدوث ما قامت به

قال هؤلاء لأصحابهم الذين أثبتوا حدوث العالم بهذه الطرق تسلط عليكم الفلاسفة في مسألة حدوث العالم فإنكم إذا أثبتم حدوث العالم وقلتم المحدث لا بد له من محدث لأن تخصيص الحوادث ببعض الأوقات دون بعض لا بد له من مخصص قال لكم الدهرية فأنتم تجوزون الحدوث من غير سبب حاديث يقتضي التخصيص ببعض الحوادث دون بعض

فإن قلتم القديم يخصص مثلا عن مثل بلا سبب أصلا جوزتم تخصيص أحد المثلين على الأخر بغير مخصص وهذا يفسد عليكم إثبات العلم بالصانع وهو المقصود بطريقكم فسلكتم طريقا لم تحصل المقصود من العرفان وسلطتم عليكم أهل الضلال والعدوان كمن أراد أن يغزو العدو بغير طريق شرعي فلا فتح بلادهم ولا حفظ بلاده بل سلطهم حتى صاروا يحاربونه بعد أن كانوا عاجزين عنه

ولهذا ذم السلف والأئمة أهل الكلام المحدث المخالف للكتاب والسنة إذ كان فيه من الباطل في الأدلة والأحكام ما أوجب تكذيب بعض ما أخبر به الرسول وتسلط العدو على أهل الإسلام وليس هذا موضع بسط الكلام في هذه الأمور الكبيرة العظيمة بل نبهنا عليها تنبيها مختصرا بحسب ما يحتمله هذا المقام فإن الكلام في مسألة الكلام حير عقول أكثر الأنام الذين ضعفت معرفتهم وأتباعهم لما بعث الله به رسله الكرام ولهم طرق سمعية في تقريره يطول ذكرها

وأما الطرق العقلية فمن وجوه أحدها أن الحي إذا لم يتصف بالكلام لزم اتصافه بضده كالسكوت والخرس وهذه آفة يتنزه الله عنها فتعين اتصافه بالكلام وهذا المسلك يسلكونه في إثبات كونه سميعا بصيرا أيضا فإنه إذا كان حيا ولم يكن سميعا بصيرا لزم اتصافه بضد ذلك من الصميم والعمى

الثاني أن الكلام صفة كمال وهنالك من جعله صفة لا تتعلق بمشيئته واختياره جعله كالعلم والقدرة ومن قال إنه يتعلق بمشيئته وقدرته قال كونه متكلما يتكلم إذا شاء صفة كمال وقد يقول بطرد ذلك في كونه فاعلا الأفعال الاختيارية القائمة بنفسه ويجعل هذا كله من صفات الكمال وقد يقول القدرة على ذلك هي صفة الكمال إذ الكمال لا يجوز أن يفارق الذات فإنه لم يزل ولا يزال كاملا مستحقا لجميع صفات الكمال فالقدرة على كونه يقول ما شاء ويفعل ما شاء صفة كمال فالقدرة وحدها غير القدرة مع ما يقترن بها من المقدورية وهذا ينبني على أن ما يقوم به من ذلك هل كله مسبوق بالعدم أو لم يزل ذلك يقوم به وفيه لهم قولان أحدهما أنه مسبوق بالعدم كما تقوله الكرامية وغيرهم

والثاني أنه ليس مسبوقا بالعدم وهو مذهب أكثر أهل الحديث وكثير من أهل الكلام والفقه والتصوف

الثالث أن يقال المخلوق ينقسم إلى متكلم وغير متكلم والمتكلم أكمل من غير المتكلم وكل كمال هو في المخلوق مستفاد من الخالق فالخالق به أحق وأولى ومن جعله لا يتكلم فقد شبهه بالموات والجماد الذي لا يتكلم وذلك صفة نقص إذ المتكلم أكمل من غيره قال تعالى في ذم من يعبد من لا يتكلم ولا ينفع ولا يضر أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا وقال في الآية الأخرى ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا وقال تعالى ضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم فعاب الصنم بأنه أبكم لا يقدر على شيء إذ كان من المعلوم أن العجز عن النطق والفعل صفة نقص فالنطق والقدرة صفة كمال

والفرق بين هذه الطريق وبين التي قبلها أن هذه الاستدلال بما في المخلوق من الكمال على أن الخالق أحق به وأنه يمتنع أن يكون مضاهيا للناقص والأولى أنه مستحق لصفات الكمال من حيث هي مع قطع النظر عن كونها ثابتة في المخلوقات لامتناع النقص عليه بوجه من الوجوه سبحانه وتعالى

فصل

عدل

قال والدليل على كونه سميعا بصيرا السمعيات قلت إثبات كونه سميعا بصيرا وأنه ليس هو مجرد العلم بالمسموعات والمرئيات هو قول أهل الإثبات قاطبة من أهل الإثبات قاطبة من أهل السنة والجماعة من السلف والأئمة وأهل الحديث والفقه والتصوف والمتكلمين من الصفاتية كأبي محمد بن كلاب وأبي العباس القلانسي وأبي الحسن الأشعري وأصحابه وطائفة من المعتزلة البصريين بل قدماؤهم على ذلك ويجعلونه سميعا بصيرا لنفسه كما يجعلونه عالما قادرا لنفسه وإثبات ذلك كإثبات كونه متكلما بل هو أقوى من بضع الوجوة فإن المعتزلة البصريين يثبتونه مدركا مثل كونه عليما قديرا بخلاف كونه متكلما فإنه من باب كونه خالقا

وللناس في إثبات كونه سميعا بصيرا طرق أحدها السمع كما ذكره وهو ما في الكتاب والسنة من وصفه بأنه سميع بصير ولا يجوز أن يراد بذلك مجرد العلم بما يسمع ويرى لأن الله فرق بين العلم وبين السمع والبصر وفرق بين السمع والبصر وهو لا يفرق بين علم وعلم لتنوع المعلومات قال تعالى وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم وفي موضع آخر إنه سميع عليم قال تعالى وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ذكر سمعه لأقوالهم وعلمه ليتناول باطن أحوالهم وقال لموسى وهارون إنني معكما أسمع وأرى وفي السنن عن النبي أنه قرأ على المنبر إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ووضع إبهامه على أذنه وسبابته على عينه ولا ريب أن مقصوده بذلك تحقيق الصفة لا تمثيل الخالق بالمخلوق فلو كان السمع والبصر العلم لم يصح ذلك

الطريق الثاني إنه لو لم يتصف بالسمع والبصر لاتصف بضد ذلك وهو العمى والصمم كما قالوا مثل ذلك في الكلام وذلك لأن المصحح لكون الشيء سميعا بصيرا متكلما هو الحياة فإذا انتفت الحياة امتنع إتصاف المتصف بذلك فالجمادات لا توصف بذلك لانتفاء الحياة فيها وإذا كان المصحح هو الحياة كان الحي قابلا لذلك فإن لم يتصف به لزم اتصافه بأضداده بناء على أن القابل للضدين لا يخلو من اتصافه بأحدهما إذ لو جاز خلو الموصوف عن جميع الصفات المتضادات لزم وجود عين لا صفة لها وهو وجود جوهر بلا عرض يقوم به

وقد علم بالاضطرار امتناع خلو الجواهر عن الأعراض وهو امتناع خلو الأعيان والذات من الصفات وذلك بمنزلة أن يقدر المقدر جسما لا متحركا ولا ساكنا ولا حيا ولا ميتا ولا مستديرا ولا ذا جوانب ولهذا أطبق العقلاء من أهل الكلام والفلسفة وغيرهم على إنكار زعم تجويز وجود جوهر خال عن جميع الأعراض وهو الذي يحكي عن قدماء الفلاسفة من تجويز وجود مادة خالية عن جميع الصور ويذكر هذا عن شيعة أفلاطون وقد رد ذلك عليهم أرسطو وأتباعه وقد بسطنا الكلام في الرد على هؤلاء في غير هذا الموضع وبينا أن ما يدعيه شيعة أفلاطون من إثبات مادة في الخارج خالية عن جميع الصور ومن إثبات خلاء موجود غير الأجسام وصفاتها من إثبات المثل الأفلاطونية وهو إثبات حقائق كلية خارجة عن الذهن غير مقارنة للأعيان الموجودة المعينة فظنوها ثابتة في الخارج عن أذهانهم كما ظن قدماؤهم الفيثاغورية أن العدد أمر موجود في الخارج بل وما ظنه أرسطو وشيعته من إثبات مادة في الخارج مغايرة للجسم المحسوس وصفاته وإثبات ماهيات كلية للأعيان مقارنة لأشخاصها في الخارج هو أيضا من باب الخيال حيث اشتبه عليه ما في الذهن بما في الخارج وفرق بين الوجود والماهية في الخارج

وأصل ذلك أن الماهية في غالب اصطلاحهم اسم لما يتصور في الأذهان والوجود اسم لما يوجد في الأعيان والفرق بين ما في الذهن وما في الخارج لا ينازع فيه عاقل فهمه لكنهم بعدها ظنوا أن في الخارج ماهية للشيء الموجود مغايرة للشخص الموجود في الخارج

وهذا غلط ما في النفس سواء سمي وجودا ذهنيا أو ماهية ذهنية أو غير ذلك هو مغاير لما في الخارج سواء سمى ذلك وجودا أو ماهية أو غير ذلك وأما أن يقال أن في الخارج في الجوهر المعين الموجود كالإنسان مثلا جوهرين أحدهما ماهية والآخر وجوده فهذا باطل كبطلان قولهم أن فيه جوهرين أحدهما مادته والآخر صورته وكقولهم أنه مركب من الحيوانية والناطفية فإن الحيوانية والناطقية إن أرادوا إنها جوهران وهما الحيوان والناطق فالشخص المعين هو الحيوان وهو الناطق وليس هنا شخصان أحدهما حيوان والآخر ناطق وإن أردوا نفس الحياة والنطق فهذان صفتان قائمتان بالإنسان وصفة الموصوف قائمة به قيام العرض بالجوهر والجوهر لا يتركب من أعراضه القائمة به ولا يكون وجود أعراضه سابقا لذاته والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أن أرسطو وأتباعه وأمثاله من أهل الفلسفة أنكروا على من جوز منهم وجود مادة بلا صورة فهم مع أصناف الكلام وسائر العقلاء متفقون على امتناع خلو الجسم عن جميع الصفات والأعراض وإن جوز ذلك الصالحي ابتداء فلم يجوزه دواما والجمهور منعوه ابتداء ودواما وإن ما تنازع الناس في استلزامه لجميع أجناس الأعراض فقيل إنه لا بد أن يقوم به من الأعراض المتضادة واحد منها وما لا ضد له لا بد أن يقوم به واحد من جنسه وهذا قول الأشعري ومن اتبعه وقيل لا بد أن يقوم به الأكوان وهي الحركة أو السكون والاجتماع والافتراق ويجوز خلوه عن غيرها وهو قول البصريين من المعتزلة وقيل يجوز خلوه عن الأكوان دون الألوان كما يذكر الكعبي وأتباعه من البغدادين منهم وهؤلاء قد يتنازعون في قبول الشيء من الأجسام بكثير من الأعراض ويتفقون على امتناع خلو الجسم عن العرض وضده بعد قبوله له وذلك لأن خلو الموصوف عن الضدين اللذين لا ثالث لهما مع قبوله لهما ممتنع في العقول وبهذا يتبين أن الحي القابل للسمع والبصر والكلام إما أن يتصف بذلك وإما أن يتصف بضده وهو الصمم والبكم والخرس ومن قدر خلوه عنهما فهو مشابه للقرامطة الذين قالوا لا يوصف بأنه حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز بل قالوا لا يوصف بالإيجاب ولا بالسلب فلا يقال هو حي عالم ولا يقال ليس بحي عالم ولا يقال هو عليم قدير ولا يقال ليس بقدير عليم ولا يقال هو متكلم مريد ولا يقال ليس بمتكلم مريد

قالوا لأن من الإثبات تشبيها بما تثبت له هذه الصفات وفي النفي تشبيه له بما ينفي عنه هذه الصفات وقد قاربهم في ذلك من قال من متكلمة الظاهرية كابن حزم أن أسماءه الحسنى كالحي والعليم والقدير بمنزلة أسماء الأعلام التي لا تدل على حياة ولا علم ولا قدرة وقال لا فرق بين الحي وبين العليم وبين القدير في المعنى أصلا ومعلوم أن مثل هذه المقالات سفسطة في العقليات وقرمطة في السمعيات فإنا نعلم بالاضطرار الفرق بين الحي والقدير والعليم والملك والقدوس والغفور

وإن العبد إذا قال رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور كان قد أحسن في مناجاة ربه وإذا قال اغفر لي وتب علي إنك أنت الجبار المتكبر الشديد العقاب لم يكن محسنا في مناجاته وأن الله أنكر على المشركين الذين امتنعوا من تسميته بالرحمن فقال تعالى وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا وقال تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون وقال تعالى كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب وقال تعالى قل ادعو الله أوادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى

ومعلوم أن الأسماء إذا كانت أعلاما وجامدات لا تدل على معنى لم يكن فرق فيها بين اسم واسم فلا يلحد أحد في اسم دون اسم ولا ينكر عاقل اسما دون اسم بل قد يمتنع عن تسميته مطلقا ولم يكن المشركون يمتنعون عن تسمية الله بكثير من أسمائه وإنما امتنعوا عن بعضها وأيضا فالله له الأسماء الحسنى دون السوأى وإنما يتميز الاسم الحسن عن الاسم السيء بمعناه فلو كانت كلها بمنزلة الأعلام الجامدات التي لا تدل على معنى لا تنقسم إلى حسنى وسوأى بل هذا القائل لو سمى معبوده بالميت والعاجز والجاهل بدل الحي والعالم والقادر لجاز ذلك عنده

فهذا ونحوه قرمطة ظاهرة من هؤلاء الظاهرية الذين يدعون الوقوف مع الظاهر وقد قالوا بنحو مقالة القرامطة الباطنية في باب توحيد الله وأسمائه وصفاته مع إدعائهم الحديث ومذهب السلف وإنكارهم على الأشعري وأصحابه أعظم إنكار ومعلوم أن الأشعري وأصحابه أقرب إلى السلف والأئمة ومذهب أهل الحديث في هذا الباب من هؤلاء بكثير وأيضا فهم يدعون أنهم يوافقون أحمد بن حنبل ونحوه من الأئمة في مسائل القرآن والصفات وينكرون على الأشعري وأصحابه والأشعري وأصحابه أقرب إلى أحمد بن حنبل ونحوه من الأئمة في مسائل القرآن والصفات منهم تحقيقا وانتسابا أما تحقيقا فمن عرف مذهب الأشعري وأصحابه ومذهب ابن حزم وأمثاله من الظاهرية في باب الصفات تبين له ذلك وعلم هو وكل من فهم المقالتين أن هؤلاء الظاهرية الباطنية أقرب إلى المعتزلة بل إلى الفلاسفة من الأشعرية

وأن الأشعرية أقرب إلى السلف والأئمة وأهل الحديث منهم وأيضا فإن إمامهم داود وأكابر أصحابه كانوا من المثبتين للصفات على مذهب أهل السنة والحديث ولكن من أصحابه كانوا من المثبتين الصفات على مذهب أهل السنة والحديث ولكن من أصحابه طائفة سلكت مسلكت المعتزلة وهؤلاء وافقوا المعتزلة في مسائل الصفات وإن خالفوهم في القدر والوعيد وأما الانتساب فانتساب الأشعري وأصحابه إلى الإمام أحمد خصوصا وسائر أئمة أهل الحديث عموما ظاهر مشهور في كتبهم كلها

وما في كتب الأشعري مما يوجد مخالفا للإمام أحمد وغيره من الأئمة فيوجد في كلام كثير من المنتسبين إلى أحمد كأبي الوفاء بن عقيل وأبي الفرح ابن الجوزي وصدقه ابن الحسين وأمثالهم ما هو أبعد عن قول أحمد والأئمة من قول الأشعري وأئمة أصحابه ومن هو أقرب إلى أحمد والأئمة من مثل ابن عقيل وابن الجوزي ونحهما كأبي الحسن التميمي وابنه أبي الفضل التميمي وابن ابنه رزق الله التميمي ونحوهم وأئمة أصحاب الأشعري كالقاضي أبي بكر ابن الباقلاني وشيخه أبي عبد الله بن عبد الله بن مجاهد وأصحابه كأبي علي بن شاذان وأبي محمد بن اللبان بل وشيوخ شيوخه كأبي العباس القلانسي وأمثاله بل والحافظ أبي بكر البيهقي وأمثاله أقرب إلى السنة من كثير من أصحاب الأشعري المتأخرين الذين خرجوا عن كثير من قوله إلى قول المعتزلة أو الجهمية أو الفلاسفة

فإن كثير من متأخري أصحاب الأشعري خرجوا عن قوله إلى قول المعتزلة أو الجهمية أو الفلاسفة إذ صاروا واقفين في ذلك كما سننبه عليه

وما في هذا الاعتقاد المشروح هو موافق لقول الواقفة الذين لا يقولون بقول الأشعري وغيره من متكلمة أهل الإثبات وأهل السنة والحديث والسلف بل يثبتون ما وافقه عليه المعتزلة البصريون فإن المعتزلة البصريين يثبتون ما في هذا الاعتقاد ولكن الأشعري وسائر متكلمة أهل الإثبات مع أئمة السنة والجماعة يثبتون الرؤية ويقولون القرآن غير مخلوق ويقولون إن الله حي بحياة عالم بعلك قادر بقدرة وليس في هذا الاعتقاد شئ من هذا الإثبات

وقد رأيت اعتقاد مختصرا لصاحب مصنف هذا الاعتقاد المشروح وهو مشهور بالعلم والحديث وهو في الظاهر الأشعري عند الناس ورأيت اعتقاده على هذا النمط ذكر فيه أن الله متكلم آمر ناه كما يوافق عليه المعتزلة ولم يذكر أن القرآن غير مخلوق ولا أثبت الرؤية بل جعلها مما تأول وكان يميل إلى الجهمية الذين ناظروا أحمد بن حنبل وسائر أئمة السنة في مسألة القرآن ويرجح جانبهم وحكى عنهم ذم وسب لأحمد بن حنبل وهو بنى اعتقاده وركبه من قول الجهمية ومن قول الفلاسفة القائلين بقدم العقول والنفوس وهو من جنس القول المضاف إلى ديمقراطيس وليس هذا مذهب الأشعرية بل هم متفقون على أن القرآن غير مخلوق وعلى أن الله يرى في الآخرة وإن قيل إن في ذلك تدليسا أو خطأ أو غير ذلك فليس المقصود هنا تصويب قائل معين ولا تخطئة ولا بيان ما في مقالته من الخطأ والصواب وموافقة السلف ومخالفتهم بل أن يعلم مقالة كل شخص على حقيقتها

ثم الحق يجب اتباعه بما أقام الله عليه من البرهان ثم هذا الاعتقاد المشروح مع أنه ليس فيه زيادة على اعتقاد المعتزلة البصريين فاعتقاد المعتزلة البصريين خير منه فإن في هذا المعتقد من اعتقاد المتفلسفة في التوحيد مالا يرضاه المعتزلة كما نبهنا عليه فيما تقدم وبيناه أن ما ذكره من التوحيد ودليله هو مأخوذ من أصول الفلاسفة وأنه من أبطل الكلام وهذه الجمل نافعة فإن كثيرا من الناس ينتسب إلى السنة أو الحديث أو اتباع مذهب السلف أو الأئمة أو مذهب الإمام أحمد أو غيره من الأئمة أو قول الأشعري أو غيره ويكون في أقواله ما ليس بموافق لقول من انتسب إليهم

فمعرفة ذلك نافعة جدا كما تقدم في الظاهرية الذين ينتسبون إلى الحديث والسنة حتى أنكروا القياس الشرعي المأثور عن السلف والأئمة ودخلوا في الكلام الذي ذمه السلف والأئمة حتى نفوا حقيقة أسماء الله وصفاته وصاروا مشابهين للقرامطة الباطنية بحيث تكون مقالة المعتزلة في أسماء الله أحسن من مقالتهم فهم مع دعوى الظاهر يقرمطون في توحيد الله وأسمائه

وأما السفسطة في العقليات فظاهرة فإنه من المعلوم بصريح العقل امتناع ارتفاع نقيضين جميعا وإنه لا واسطة بين النفي والإثبات فمن قال إنه لا يصف الرب بالإثبات فلا يقول إنه حي عليم قدير ولا يصفه بالنفي فلا يقول ليس بحي عليم قدير فقد امتنع عن النقيضين جميعا والامتناع عن النقيضين كالجمع بين النقبضين لا يجتمعان ولا يرتفعان وهذا مما رأيته قد اعتمد عليه أئمة القرامطة كصاحب كتاب الأقاليد الملكوتية أبي يعقوب السجستاني فإنهم قالوا نحن لم نجمع بين النقيضين

فنقول إنه حي وليس بحي بل رفعنا النقيضين فقلنا لا موصوف ولا لا موصوف قال هذا القرمطي المصنف الذي رأيته في أفضل هؤلاء القرامطة الإقليد العاشر في أن من عبد الله نفي الصفات والحدود لم يعبده حق عبادته إذ عبادته واقعة لبعض المخلوقين فإن قوما من الأوائل وجماعة من فرق الإسلام لم يعبدوا الله حق عبادته ولم يعرفوه بحقيقة المعرفة فقالوا إن الله غير موصوف ولا محدود ولا منعوت ولا مرئي ولا في مكان وتوهموا أن هذا المقدار تمجيد لله عز وجل وتعظيم له وأنهم قد تخلصوا من الشرك والتشبيه وإذا هم قد وقعوا في الحيرة والتيه لأنهم نفوا الصفات والحدود والنعوت عن الباري تقدست عظمته لئلا يكون بينه وبين خلقه مشابهة ولا مماثله فنحن نسألهم بعد عن الموصوف والمحدود والمنعوت من خلقه أهو الصفة والحد والنعت أم الموصوف غير صفته والمحدود غير حده والمنعوت غير نعته

فإن قالوا إن الصفة هي الموصوف والحد هو المحدود والنعت هو المنعوت لزمهم أن يقولوا إن السواد هو الأسود والبياض هو الأبيض وإن قالوا الموصوف غير صفته والمنعوت غير نعته والمحدود غير حده وهو أعني الموصوف والمحدود والمنعوت جميعا مخلوق هذا الخالق الذي نزهتموه عن الصفة والحد والنعت أشركتم الخالق بالمخلوق الذي هو الصفة والحد والنعت في باب أنها غير الموصوف عندكم وإن جاز أن يشارك المخلوق الخالق في وجه من الوجوه لم لا يجوز أن يشاركه في جميع الوجوه قال فإذا من عبد الله ينفي الصفات واقع التشبيه كما أن من عبده بسمة الصفات واقع في التشبيه الجلي

ثم أخذ يرد على المعتزلة لكن رده عليهم ما أثبتوه من الحق واحتج عليهم بما وافقوه فيه من النفي فإنه بهذا الطريق تمكنت القرامطة والزنادقة الملاحدة من إفساد دين الإسلام حيث احتجوا على كل مبتدع بما وافقهم عليه من البدعة من النفي والتعطيل وألزموه لازم قوله حتى قرروا التعطيل المحض قال القرمطي ومن أعظم ما أنت به طائفة من أهل هذه النحلة في إقامة رأيهم من أن المبدع سبحانه غير موصوف ولا منعوت أنهم أثبتوا له الأسامي التي لا تتعرى عن الصفات والنعوت فقالوا إنه سميع بالذات بصير بالذات عالم بالذات ونفوا عنه السمع والبصر والعلم ولم يعلموا أن هذه الأسامي إذا لزمت ذاتا من الذوات لزمته الصفات التي من أجلها وقعت الأسامي إذ لو جاز أن يكون عالما بغير علم أو سميعا بغير سمع أو بصيرا بغير بصر لجاز أن يكون الجاهل مع عدم العلم عالما والأعمى مع فقد البصر بصيرا والأصم مع غيبوبة السمع سميعا فلما لم يجز ما وصفناه صح أن العالم إنما صار عالما لوجود العلم والبصير لوجود البصر والسميع لوجود السمع قال فإن قال قائل منهم إنما نفينا عن البصير البصر إذ كان اسم البصير متوجها نحو ذات الخالق لأنا هكذا شاهدنا أن من كان اسمه البصير لزمه من أجل البصر أن يجوز عليه العمى ومن كان اسمه السميع يلزمه من أجل السمع أن يجوز عليه الصمم ومن كان اسمه العالم يلحقه من أجل العلم أن يجوز عليه الجهل والله تعالى لا يلحق به الجهل والعمى والصمم فنفينا عنه ما يلزم بزواله ضده يقال له ليس علة وجوب العمى البصر ولا علة وجوب الصمم السمع ولا علة وجوب الجهل العلم ولو كانت العلة فيه ما ذكرناه كان واجبا أنه متى وجد البصر وجد العمى أو متى وجد السمع وجد الصمم أو متى وجد العلم وجد الجهل فلما وجد البصر في بعض ذوي البصر من غير ظهور عمى به ووجد كذلك في بعض ذوي السمع من غير وجود صمم يتبعه ووجد العلم في بعضهم من غير وجود جهل به صح أن العلة في ظهور الجهل والصمم والعمى ليس هو العلم والسمع والبصر بل في قبول إمكان الآفة في بعض ذوي العلم والسمع والبصر والله تعالى ذكره ليس بمحل الآفات ولا الآفات بداخلة عليه فهو إذا كان اسم العالم والسميع والبصير يتوجه نحو ذاته ذا علم وسمع وبصر فتعالى الله عما أضاف إليه الجهلة المغترون من هذه الأسامي بأنها لازمة له لزوم الذوات بل هذه الأسامي مما تتوجه نحو الحدود المنصوبة من العلوي والسفلي والروحاني والجسماني لمصلحة العباد تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا

قال ويقال لهم إن كان الاستشهاد الذي استشهدتموه صحيحا فإن الاستشهاد الآخر الذي لا يفارق الاستشهاد الأول مثله في باب الصحة لأنكم إن كنتم هكذا شاهدتم أن من كان عالما من أجل علمه أو سميعا من أجل سمعه أو بصيرا من أجل بصره جاز عليه الجهل والعمى والصمم فنحن كذلك شاهدنا أن من كان عالما فإن العلم سابقه ومن كان بصيرا كان البصر قرينه ومن كان سميعا كان السمع شهيده فإن جاز لكم أن تتعدوا حكم الشاهد على الغائب في أحدهما فتقولوا جاز أن يكون في الغائب عالم بغير علم وبصير بغير بصر وسميع بغير سمع جاز لنا أن نتعدى حكم الشاهد على الغائب في الباب الآخر فنقول إنا وإن كنا لم نشاهد عالما بعلم إلا وقد جاز عليه الجهل وبصيرا بالبصر إلا وقد جاز عليه العمى وسميعا بالسمع إلا وقد جاز عليه الصمم أن يكون في الغائب عالم بعلم لا يجوز عليه الجهل وبصير بالبصر لا يجوز عليه العمى وسميع بالسمع لا يجوز عليه الصمم وإلا فما الفصل ولا سبيل لهم إلى التفصيل بين الاستشهادين فاعرفه

فليتدبر المؤمن العليم كيف ألزم هؤلاء الزنادقة الملاحدة المنافقون الذين هم أكفر من اليهود والنصارى ومشركي العرب كالمعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات نفي أسماء الله الحسنى وأن تكون أسماؤه الحسنى لبعض المخلوقات فيكون المخلوق هو المسمى بأسمائه الحسنى كقوله في الأول والآخر والظاهر والباطن أن الظاهر هو محمد الناطق والباطن هو على الأساس ومحمد هو الأول وعلي هو الآخر وتأويلهم قوله تعالى بل يداه مبسوطتان أن اليد الواحدة هو محمد والأخرى علي وقوله تعالى تبت يدا أبي لهب أن يديه هما أبو بكر وعمر لكونهما كانا مع أبي لهب في الباطن فأمرهما بقتل النبي فعجزا عن ذلك فأنزل الله تبت يدا أبي لهب وأمثال هذه التأويلات المعروفة عن القرامطة وأصل كلامهم استدلالهم بما يزعمونه من نفي التشبيه وإلزامهم لكل من وافقهم على شيء من النفي يطرد مقالته وإتباع لوازمها ولازمها التعطيل الذي يصدونه

قال القرمطي وأيضا فمن نزه خالقه عن الصفة والحد والنعت ولم يجرده عما لا صفة له ولا حد ولا نعت فقد أثبته بما لم يجرده عنه وإذا كان إثباته لمعبوده ينفي الصفة والحد والنعت فقد كان إثباته مهملا غير معروف لأن مالا صفة له ولا حد ولا نعت ليس هو الله بزعمه فقط بل هو والنفس والعقل وجميع الجواهر البسيطة من الملائكة وغيرهم

والله تعالى أثبت من أن يكون إثباته مهملا غير معلوم فإذا الإثبات الذي يليق بمجد المبدع ولا يلحقها الإهمال هو نفي الصفة ونفي أن لا صفة ونفي الحد ونفي أن لا حد لتبقى هذه العظمة لمبدع العالمين إذ لا يحتمل أن يكون معه لمخلوق شركة في هذا التقديس وامتنع أن يكون الإثبات من هذه الطريق مهملا فاعرفه قال فإن قال إن من شريطة القضايا المتناقضة أن يكون أحد طرفيها صدقا والآخر كذبا فقولكم لا موصوفة ولا لا موصوفة قضيتان متناقضتان لا بد لأحدهما من أن تكون صادقة والأخرى كاذبة

يقال له غلطت في معرفة القضايا المتناقضة وذلك أن القضايا المتناقضة أحد طرفي النقيض منه موجب والآخر سالب فإن كانت القضية كلية موجبة كان نقيضها جزئية سالبة كقولنا كل إنسان حي وهو قضية كلية موجبة نقيضة لا كل إنسان حي

فلما كان من شرط من النقيض أنه لا بد من أن يكون أحد طرفيها موجبة والآخر سالبة رجعنا إلى قضيتنا في المبدع هل نجد فيها هذه الشريطة فوجدناها في كلتا طرفيها لم يوجب له شيئا بل كلتا طرفيها سالبتان وهي قولنا لا موصوف ولا لا موصوف فهي إذا لم يناقض بعضها بعضا وإنما تتناقض القضية في هذا الموضع أن نقول له صفة وأن ليس له صفة أو نقول له حد وأن لا حد له أو إنه في مكان وإنه لا في مكان فيلزمنا حينئذ إثبات لاجتماع طرفي النقيض على الصدق فأما إذا كانت القضيتان سالبتين إحداهما سلب الصفة اللاحقة بالجسمانيين والأخرى نفي الصفة اللازمة للروحايين كان من ذلك تجريد الخالق عن سمات المربوبين وصفات المخلوقين قال فقد صح أن من نزه خالقه عن الصفة والحد والنعت واقع في التشبيه الخفي كما أن من وصفه وحده ونعته واقع في التشبيه الجلي قلت فهذا حقيقة مذهب القرامطة وهو قد رد على من وصفه منهم بالنفي دون الإثبات ونفي النفي قال لأن في الإثبات تشبيها له بالجسمانيين وفي النفي تشبيها له بالروحانيين وهي العقول والنفوس عندهم أنها موصوفة عندهم بالنفي دون الإثبات ولهذا يقولون بسائط ليس فيها تركيب عقلي من الجنس والفصل كما إله ليس فيها تركيب الأجسام

وظن هذا الملحد وأمثاله أنهم بذلك خلصوا من الالزمات ومعلوم عند من عرف حقيقة قولهم أن هذا القول من أفسد الأقوال شرعا وعقلا وأبعدها من مذاهب المسلمين واليهود والنصارى بل مع ما قد حققوه من الفلسفة وعرفوه من مذهب أهل الكلام وادعوه من العلوم الباطنة ومعرفة التأويل ودعوى العصمة في أئمتهم وقد قرروا أنا لا نقول الجمع بين النقيضين فليس في قولنا مجال فيقال لهم ولكن سلبتم النقيضين جميعا وكما أنه يمتنع الجمع بين النقيضين فيمتنع الخلو من النقيضين فالنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ولهذا كان المنطقيون يقسمون الشرطية المنفصلة إلى مانعة الجمع ومانعة الخلو ومانعتي الجمع والخلو فالمانعة من الجمع والخلو كقول القائل الشيء إما أن يكون موجودا وإما أن يكون معدوما وإما أن يكون ثابتا وإما أن يكون منفيا فتفيد الاستثنآت الأربعة لكنه موجود فليس بمعدوم أو هو معدوم فليس بموجود أو ليس بموجود فهو معدوم أو ليس بمعدوم فهو موجود وكذلك ما كان من الإثبات بمنزلة النقيضين كقول القائل هذا العدد إما شفع وإما وتر فكونه شفعا ووترا لا يجتمعان ولا يرتفعان وهؤلاء ادعوا إثبات شيء يخلو عنه النقيضان فإن جوزوا خلوه عن النقيضين جاز اجتماع النقيضين فيه وهذا مذهب أهل الوحدة القائلين بوحدة الوجود كصاحب الفصوص وابن سبعين وابن أبي المنصور وابن الفارض والقونوي وأمثالهم فإن قولهم وقول القرامطة من مشكاة واحدة والاتحادية قد يصرحون باجتماع النقيضين

وكذلك يذكرون مثل هذا عن الحلاج والحلاج لما دخل بغداد كانوا ينادون عليه هذا داعى القرامطة وكان يظهر للشيعة أنه منهم ودخل على ابن نوبخت رئيس الشيعة ليتبعه فطالبه بكرامات عجز عنها ومقالات أهل الضلال كلها تستلزم الجمع بين النقيضين أو رفع النقيضين جميعا لكن منهم من يعرف لازم قوله فيلتزمه ومنهم من لا يعرف ذلك وكل أمرين لا يجتمعان ولا يرتفعان فهما في المعنى نقيضان لكن هذا ظاهر في الوجود والعدم

وقول مثبتة الحالين الذين يقولون لا موجودة ولا معدومة هو شعبة من مذهب القرامطة وإنما التحقيق إنها ليست موجودة في الأعيان ولا منتفية في الأذهان

ومن الأمور الثبوتية ما يكونان بمنزلة الوجود والعدم كقولنا إن العدد إما شفع وإما وتر وقولنا أن كل موجودين إما أن يقترنا في الوجود أو يتقدم أحدهما على الآخر وكل موجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وكل جسم إما متحرك وإما ساكن وإما حي وإما ميت وكل حي إما عالم وإما جاهل وإما قادر وإما عاجز وإما سميع وإما أصم وإما أعمى وإما بصير بل وكذلك كل موجودين فإما أن يكونا متجانسين وإما أن يكونا متباينين وأمثال هذه القضايا

وكل من رام سلب هذين جميعا كان من جنس القرامطة الرافعة للنقيضين لكن التناقض قد يظهر باللفظ كما إذا قلنا إما أن يكون وإما أن لا يكون وقد يظهر بالمعنى كما إذا قلنا إما قديم بنفسه وإما قائم بغيره وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع بل وقد زدنا في جواب السائل عما هو مقصوده لكن نبهنا على أصول نافعة جامعة

الطريق الثالث لأهل النظر في إثبات السمع والبصر أن السمع والبصر من صفات الكمال فإن الحي السميع البصير أكمل من حي ليس بسميع ولا بصير كما أن الموجود الحي أكمل من موجود ليس بحي والموجود العالم أكمل من موجود ليس بعالم وهذا معلوم بضرورة العقل وإذا كانت صفة كمال فلو لم يتصف الرب بها لكان ناقصا والله منزه عن كل نقص وكل كمال محض لا نقص فيه فهو جائز عليه وما كان جائزا عليه من صفات الكمال فهو ثابت له فإنه لو لم يتصف به لكان ثبوته له موقوفا على غير نفسه فيكون مفتقرا إلى غيره في ثبوت الكمال له وهذا ممتنع إذا لم يتوقف كمال إلا على نفسه فيلزم من ثبوت نفسه ثبوت الكمال لها وكل ما ينزه عنه فإنه يستلزم نقصا يجب تنزيهه له وأيضا فلو لم يتصف بهذا الكلام لكان السميع البصير من مخلوقاته أكمل منه

ومن المعلوم في بداية العقول أن المخلوق لا يكون أكمل من الخالق إذ الكمال لا يكون إلا بأمر وجودي والعدم المحض ليس فيه كمال وكل موجود للمخلوق فالله خالقه ويمتنع أن يكون الوجود الناقص مبدعا وفاعلا للوجود الكامل إذ من المستقر في بداية العقول أن وجود العلة أكمل من وجود المعلول دع وجود الخالق الباري الصانع فإنه من المعلوم بالاضطرار إنه أكمل من وجود المخلوق المصنوع المفعول

وقد بسطنا الكلام على مثل هذه الطريقة في غير هذا الموضع وبينا أن الله سبحانه وتعالى يستعمل في حقه قياس الأولى كما جاء بذلك القرآن وهو الطريق التي يسلكها السلف والأئمة كأحمد وغيره من الأئمة فكل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أولى به وكل نقص ينزه عنه مخلوق فالخالق أولى أن ينزه عنه كما قال تعالى ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم وقال تعالى وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم وقوله تعالى ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون

وذلك لأن صفات الكمال أمور وجودية أو أمور سلبية مستلزمة لأمور وجودية كقوله تعالى الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم فنفي السنة والنوم استلزم كمال صفة الحياة والقيومية وكذلك قوله وما ربك بظلام للعبيد استلزم ثبوت العدل وقوله تعالى ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض استلزم كمال العلم ونظائر ذلك كثيرة وأما العدم المحض فلا كمال فيه وإذا كان كذلك فكل كمال لا نقص فيه بوجه ثبت للمخلوق فالخالق أحق به من وجهين

أحدهما أن الخالق الموجود الواجب بذاته القديم أكمل من المخلوق القابل للعدم المحدث المربوب

الثاني أن كل كمال فيه فإنما استفاده من ربه وخالقه فإذا كان هو مبدعا للكمال وخالقا له كان من المعلوم بالاضطرار أن معطي الكمال وخالقه ومبدعه أولى بأن يكون متصفا به من المستفيد المبدع المعطي وقد قال الله تعالى ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما بوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم

وهذا المثل وإن كان يفيد الدعاء إلى عبادة الله وحده دون عبادة ما سواه ونفى عبادة الأوثان لوجود هذا الفرقان فإذا علم انتفاء التساوي بين الكامل والناقص وعلم أن الرب أكمل من خلقه وجب أن يكون أكمل منهم وأحق منهم بكل كمال بطريق الأولى والأحرى

الطريق الرابع في إثبات السمع والبصر والكلام إن نفي هذه الصفات نقائص مطلقا سواء نفيت عن حي أو جماد وما انتفت عنه هذه الصفات لا يجوز أن يحدث عنه شيء ولا يخلقه ولا يجيب سائلا ولا يعبد ولا يدعى كما قال الخليل يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا وقال إبراهيم لقومه هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون وقال تعالى واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوا وكانوا ظالمين وقال تعالى فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسى أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا

وهذا لأنه من المستقر في الفطر أن مالا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم لا يكون ربا معبودا كما أن مالا يغنى شيئا ولا يهدى ولا يملك ضرا ولا نفعا لا يكون ربا معبودا ومن المعلوم أن خالق العالم هو الذي ينفع عباده بالرزق وغيره ويهديهم وهو الذي يملك أن يضرهم بأنواع الضرر فإن هذه الأمور من جملة الحوادث التي يحدثها رب العالمين فلو قدر أنه ليس محدثا لها كانت حادثة بغير محدث أو كان محدثها غيره وإذا كان محدثها غيره فالقول في إحداث ذلك الغير كالقول في سائر الحوادث فلا بد أن تنتهي إلى قديم لا محدث ولذلك من المستقر في العقول أن مالا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ناقص عن صفات الكمال لأنه لا يسمع كلام أحد ولا يبصر أحد ولا يأمر بأمر ولا ينهى عن شيء ولا يخبر بشيء فإن لم يكن كالحي الأعمى الأصم كان بمنزلة ما هو شر منه وهو الجماد الذي ليس فيه قبول أن يسمع ويبصر ويتكلم ونفي قبول هذه الصفات أبلغ في النقص والعجز وأقرب إلى إنصاف المعدوم ممن يقبلها واتصف بأضدادها إذ الإنسان الأعمى أكمل من الحجر والإنسان الأبكم أكمل من التراب ونحو ذلك مما لا يوصف بشيء من هذه الصفات وإذا كان نفي هذه الصفات معلوما بالفطرة إنه من أعظم النقائص والعيوب وأقرب شبها بالمعدوم كان من المعلوم بالفطرة أن الخالق أبعد عن هذه النقائص والعيوب من كل ما ينفى عنه وإن اتصافه بهذه العيوب من أعظم الممتنعات وهذه الطريق ليست الثانية ولا الثالثة فإن الثانية مبنية على أنه حي فلا بد من اتصافه بها أو بضدها والثالثة مبنية على أنها صفات كمال فيجب اتصاف الرب بها وأما هذه فمبنية على أن نفي هذه الصفات نقائص ومعايب ومذام يمتنع وصف الرب بها والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل

عدل

ثم قال المصنف والدليل على نبوة الأنبياء المعجزات والدليل على نبوة محمد القرآن المعجز نظمه ومعناه قال شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الطريقة هي من أتم الطرق عند أهل الكلام والنظر حيث يقررون نبوة الأنبياء بالمعجزات ولا ريب أن المعجزات دليل صحيح لتقرير نبوة الأنبياء لكن كثير من هؤلاء بل كل من بني إيمانه عليها يظن أن لا نعرف نبوة الأنبياء إلا بالمعجزات ثم لهم في تقرير دلالة المعجزة على الصدق طرق متنوعة وفي بعضها من التنازع والاضطراب ما سننبه عليه والتزم كثير من هؤلاء إنكار خرق العادات لغير الأنبياء حتى أنكروا كرامات الأولياء والسحر ونحو ذلك

وللنظار هنا طرق متعددة منهم من لا يجعل المعجزة دليلا بل يجعل الدليل استواء ما يدعو إليه وصحته وسلامته من التناقض كما يقول طائفة من النظار ومنهم من يوجب تصديقه بدون هذا وهذا ومنهم من يجعل المعجزة دليلا ويجعل أدلة أخرى غير المعجزة وهذا أصح الطرق ومن لم يجعل طريقها إلا المعجزة اضطر لهذه الأمور التي فيها تكذيب لحق أو تصديق لباطل ولهذا كان السلف والأئمة يذمون الكلام المبتدع فإن أصحابه يخطئون إما في مسائلهم وإما في دلائلهم فكثيرا ما يثبتون دين المسلمين في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله على أصول ضعيفة بل فاسدة ويلتزمون لذلك لوازم يخالفون بها السمع الصحيح والعقل الصريح وهذا حال الجهمية من المعتزلة وغيرهم حيث أثبتوا حدوث العالم بحدوث الأجسام وأثبتوا ذلك بحدوث صفاتها التي هي الأعراض فاضطرهم ذلك إلى القول بحدوث كل موصوف فنفوا عن الله الصفات وقالوا بأن القرآن مخلوق وأنه لا يرى في الآخرة وقالوا إنه لا مباين ولا محايث وأمثال ذلك من مقالات النفاة التي تستلزم التعطيل كما

قد بسطناه في غير هذا الموضع وليس الأمر كذلك بل معرفتها بغير المعجزات ممكنة فإن المقصود إنما هو معرفة صدق مدعى النبوة أو كذبه فإنه إذا قال إني رسول الله فهذا الكلام إما أن يكون صدقا وإما أن يكون كذبا وإن شئت قلت هذا خبر فإما أن يكون مطابقا للمخبر وإما أن يكون مخالفا له سواء كانت مخالفته له على وجه العمد أو الخطأ إذ قد يظن الرجل في نفسه أو غيره أنه رسول الله غير متعمد للكذب بل خطأ وضلال مثل كثير ممن يتمثل له الشيطان ويقول إني ربك ويخاطبه بأشياء وقد يقول له أحللت لك ما حرمت على غيرك وأنت عبدي ورسولي وأنت أفضل أهل الأرض وأمثال هذه الأكاذيب فإن مثل هذا قد وقع لكثير من الناس فإذا كان مدعي الرسالة لم يكن صادقا فلا بد أن يكون كاذبا عمدا أو ضلالا فالتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما هو دون دعوى النبوة فكيف بدعوى النبوة

ومعلوم أن مدعى الرسالة إما أن يكون من أفضل الخلق وأكملهم وإما أن يكون من أنقص الخلق وأرذلهم ولهذا قال أحد أكابر ثقيف للنبي لما بلغهم الرسالة ودعاهم إلى الإسلام والله لا أقول لك كلمة واحدة إن كنت صادقا فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك وإن كنت كاذبا فأنت أحقر من أن أرد عليك فكيف يشتبه أفضل الخلق وأكملهم بأنقص الخلق وأرذلهم وما أحسن قول حسان... لو لم تكن فيه آيات مبينة... كانت بديهته تأتيك بالخير...

وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز

وما من أحد ادعى النبوة من الصادقين إلا وقد ظهر عليه من العلم والصدق والبر وأنواع الخيرات ما ظهر لمن له أدنى تمييز فإن الرسول لا بد أن يخبر الناس بأمور ويأمرهم بأمور ولا بد أن يفعل أمورا.

والكذاب يظهر في نفس ما يأمر به ويخبر عنه وما يفعله ما يبين به كذبه من وجوه كثيرة.

والصادق يظهر في نفس ما يأمر به وما يخبر عنه ويفعله ما يظهر به صدقه من وجوه كثيرة بل كل شخصين ادعيا أمرا من الأمور أحدهما صادق في دعواه والآخر كاذب فلا بد أن يبين صدق هذا وكذب هذا من وجوه كثيرة إذ الصدق مستلزم للبر والكذب مستلزم للفجور كما في الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي أنه قال عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا

ولهذا قال تعالى قل هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تتنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون بين سبحانه أنه ليس بكاهن تنزل عليه الشياطين ولا شاعر حيث كانوا يقولون ساحر وشاعر فبين أن الشياطين تنزل على الكاذب الفاجر يلقون إليهم السمع وأكثرهم كاذبون فهؤلاء الكهان ونحوهم وإن كانوا يخبرون أحيانا بشيء من المغيبات ويكون صدقا فمعهم من الكذب والفجور ما يبين أن الذي يخبرون به ليس عن ملك وليسوا بأنبياء

ولهذا لما قال النبي لابن صياد قد خبأت لك خبيئا قال هو المدخ قال له النبي إخسأ فلن تعدو قدرك يعني إنما أنت كاهن كما قال للنبي يأتيني صادق وكاذب وقال أرى عرشا على الماء وذلك هو عرش الشيطان كما ثبت مثل ذلك في الصحيح عن النبي وبين الله تعالى أن الشعراء يتبعهم الغاوون والغاوي الذي يتبع هواه وشهوته وإن كان ذلك مضرا له في العاقبة قال تعالى ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون فهذه صفة الشعراء كما أن تلك صفة من تنزل عليه الشياطين فمن عرف الرسول وصدقه ووفاءه ومطابقة قوله لعلمه علم علما يقينا أنه ليس بشاعر ولا كاهن ولا كاذب والناس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة حتى في المدعين للصناعات والمقالات كالفلاحة والنساجة والكتابة وعلم النحو والطب والفقه وغير ذلك فما من أحد يدعي العلم بصناعة أو مقالة إلا والتفريق في ذلك بين الصادق والكاذب له وجوه كثيرة وكذلك من أظهر قصدا وعملا كمن يظهر الديانة والأمانة والنصيحة والمحبة وأمثال ذلك من الأخلاق فإنه لا بد أن يتبين صدقه وكذبه من وجوه متعددة

والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لا بد أن يتصف الرسول بها وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب ولا يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب من وجوه كثيرة لا سيما والعالم لا يخلو من آثار نبي من لدن آدم إلى زماننا وقد علم جنس ما جاءت به الأنبياء والمرسلون وما كانوا يدعون إليه ويأمرون به ولم تزل آثار المرسلين في الأرض ولم يزل عند النار من آثار الرسل ما يعرفون به جنس ما جاءت به الرسل ويفرقون به بين الرسل وغير الرسل

فلو قدر أن رجلا جاء في زمان إمكان بعث الرسل وأمر بالشرك وعبادة الأوثان وإباحة الفواحش والظلم والكذب ولم يأمر بعبادة الله ولا بالإيمان باليوم الآخر هل كان مثل هذا يحتاج أن يطالب بمعجزة أو يشك في كذبه أنه نبي ولو قدر أنه أتى بما يظن أنه معجزة لعلم أنه من جنس المخاريق أو الفتن والمحنة ولهذا لما كان الدجال يدعى الإلهية لم يكن ما يأتي به دالا على صدقه للعلم بأن دعواه ممتنعة في نفسها وإنه كذاب وكذلك من نشأ في بني إسرائيل معروفا بينهم بالصدق والبر والتقوى بحيث قد خبر خبرة باطنة يعلم منها تمام عقله ودينه ثم أخبر بأن الله نبأه وأرسله إليهم فإن هذا لا يكون أولى بالرد من أن يخبرنا الرجل الذي لا يشك في عقله ودينه وصدقه أنه رأى رؤيا

وهذا المقام يشبه من بعض الوجوه تنازع الناس في أن خبر الواحد هل يجوز أن يقترن به من القرائن والضمائم ما يفيد معه العلم ولا ريب أن المحققين من كل طائفة على أن خبر الواحد والاثنين والثلاثة قد يقترن به من القرائن ما يحصل معه الضروري بخبر المخبر بل القرائن وحدها قد تفيد العلم الضروري كما يعرف الرجل رضاء الرجل وغضبه وحبه وبغضه وفرحه وحزنه وغير ذلك مما في نفسه بأمور تظهر على وجهه قد لا يمكنه التعبير عنها كما قال تعالى ولو شاء لأريناكم فلعرفتهم بسيماهم ثم قال ولتعرفنهم في لحن القول فأقسم أنه لا بد أن يعرف المنافقين في لحن القول وعلق معرفتهم بالسيما على المشيئة لأن ظهور ما في نفس الإنسان من كلامه أبين من ظهوره على صفحات وجهه وقد قيل ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه فإذا كان مثل هذا يعلم به ما في نفس الإنسان من غير إخبار فإذا اقترن بذلك أخباره كان أولى بحصول العلم ولا يقول عاقل من العقلاء إن مجرد خبر الواحد أو خبر كل واحد يفيد العلم بل ولا خبر كل خمسة أو عشرة بل قد يخبر ألف أو أكثر من ألف ويكونون كاذبين إذ كانوا متواطئين وإذا كان صدق المخبر أو كذبه يعلم بما يقترن به من القرائن بل في لحن قوله وصفحات وجهه ويحصل بذلك علم ضروري لا يمكن المرء أن يدفعه عن نفسه فكيف بدعوى المدعي إنه رسول الله كيف يخفي صدقه وكذبه أم كيف لا يتميز الصادق في ذلك من الكاذب بوجوه من الأدلة لا تعد ولا تحصى وإذا كان الكاذب إنما يأتي من وجهين إما أن يتعمد الكذب وإما أن يلبس عليه كمن يأتيه الشيطان فمن المعلوم الذي لا ريب فيه إن من الناس من يعلم منه إنه لا يتعمد الكذب بل كثير ممن خبره الناس وجربوه من شيوخهم ومعامليهم يعلمون منهم علما قاطعا إنهم لا يتعمدون الكذب وإن كانوا يعلمون أن ذلك ممكن فليس كل ما علم إمكانه جوز وقوعه فإنا نعلم أن الله قادر على قلب الجبال ياقوتا والبحار دما ونعلم إنه لا يفعل ذلك ونعلم من حال البشر من حيث الجملة إنه يجوز أن يكون أحدهم يهوديا ونصرانيا ونحو ذلك

ونعلم مع هذا أن هذا لم يقع بل ولا يقع من الأشخاص وإن من أخبرنا بوقوعه منهم كذبناه قطعا

ونحن لا ننكر أن الرجل قد يتغير ويصير متعمد الكذب بعد أن لم يكن كذلك لكن إذا استحال وتغير ظهر ذلك لمن يخبره ويطلع على أموره

ولهذا لما كانت خديجة رضي الله عنها تعلم من النبي إنه الصادق البار قال لها لما جاءه الوحي إني قد خشيت على عقلي فقالت كلا والله لا يخزيك الله إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق فهو لم يخف من تعمد الكذب فإنه يعلم من نفسه إنه لم يكذب لكن خاف في أول الأمر أن يكون قد عرض له عارض سوء وهو المقام الثاني فذكرت خديجة ما ينفي هذا وهو ما كان مجبولا عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم والأعمال وهو الصدق المستلزم للعدل والإحسان إلى الخلق ومن جمع فيه الصدق والعدل والإحسان لم يكن مما يخزيه الله وصلة الرحم وقرى الضيف وحمل الكل وإعطاء المعدوم والإعانة على نوائب الحق هي من أعظم أنواع البر والإحسان وقد علم من سنة الله أن من جبله الله على الأخلاق المحمودة ونزهه عن الأخلاق المذمومة فإنه لا يخزيه وأيضا فالنبوة في الآدميين هي من عهد آدم عليه السلام فإنه كان نبيا وكان بنوه يعلمون نبوته وأحواله بالاضطرار

وقد علم جنس ما يدعو إليه الرس وجنس أحوالهم فالمدعي للرسالة في زمن الإمكان إذا أتى بما ظهر به مخالفته للرسل علم أنه ليس منهم

وإذا أتى بما هو من خصائص الرسل علم إنه منهم لا سيما إذا علم أنه لا بد من رسول منتظر وعلم أن لذلك الرسول صفات متعددة تميزه عمن سواه فهذا قد يبلغ بصاحبه إلى العلم الضروري بأن هذا هو الرسول المنتظر ولهذا قال تعالى الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون

والمسلك الأول النوعي هو مما استدل به النجاشي على نبوته فإنه لما استخبرهم عما يخبر به واستقرأهم القرآن فقرؤه عليه قال إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة وكذلك قبله ورقة بن نوفل لما أخبره النبي بما رآه وكان ورقة قد تنصر وكان يكتب الإنجيل بالعبرانية فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع من ابن أخيك ما يقول فأخبره النبي بخبره فقال هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى وإن قومك سيخرجونك فقال النبي أو مخرجي هم فقال نعم لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي

والمسلك الثاني الشخصي استدل به هرقل ملك الروم فإن النبي لما كتب إليه كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام طلب هرقل من كان هنا من العرب وكان أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة إلى غزة فطلبهم وسألهم عن أحوال النبي فسأل أبا سفيان وأمر الباقين إن كذب أن يكذبوه فصار يجدهم موافقين له في الأخبار فسألهم هل كان في آبائه ملك قالوا لا وهل قال هذا القول أحد قبله قالوا لا وسألهم أهو ذو نسب فيكم قالوا نعم وسألهم هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فقالوا لا جربنا عليه كذبا وسألهم هل اتبعه ضعفاء الناس أم أشرافهم فذكروا أن الضعفاء اتبعوه وسألهم هل يزيدون أم ينقصون فذكروا إنهم يزيدون وسألهم هل يرجع أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه فقالوا لا وسألهم هل قاتلتموه قالوا نعم وسألهم عن الحرب بينهم وبينه فقالوا يدال علينا المرة وندال عليه الأخرى وسألهم عليه الأخرى وسألهم هل يغدر فذكروا أنه لا يغدر وسألهم بماذا يأمركم فقالوا يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيء وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة فهذه أكثر من عشر مسائل

ثم بين لهم ما في هذه المسائل من الدلالة وإنه سألهم عن أسباب الكذب وعلاماته فرآها منتفية وسألهم عن علامات الصدق فوجدها ثابتة فسألهم هل كان في آبائه ملك فقالوا لا قال قلت فلو كان في آبائه ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه وسألتك هل قال هذا القول فيكم أحد قبله فقلت لا فقلت لو قال هذا القول أحد قبله لقلت رجل ائتم بقول قيل قبله ولا ريب أن اتباع الرجل لعادة آبائه واقتدائه بمن كان قبله كثيرا ما يكون في الآدميين بخلاف الابتداء بقول لم يعرف في تلك الأمة قبله وطلب أمر لا يناسب حال أهل بيته فإن هذا قليل في العادة لكنه قد يقع

ولهذا أردفه بقوله فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فقالوا لا قال فقد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله وذلك أن مثل هذا يكون كذبا محضا يكذبه لغير عادة جرت وهذا لا يفعله إلا من يكون من شأنه أن يكذب فإذا لم يكن من خلقه الكذب قط بل لم يعرف منه إلا الصدق وهو يتورع أن يكذب على الناس كان تورعه عن أن يكذب على الله أولى وأحق والإنسان قد يخرج عن عادته في نفسه إلى عادة بني جنسه فإذا انتفى هذا وهذا كان هذا أبعد عن الكذب وأقرب إلى الصدق

ثم أردف ذلك بالسؤال عن علامات الصدق فقال وسألتكم أضعفاء الناس يتبعونه أم أشرافهم فقلتم ضعفاؤهم وهم إتباع الرسل قال فهذه علامات من علامات الرسل وهو اتباع الضعفاء له ابتداء قال الله تعالى حكاية عن قوم نوح قالوا أنؤمن لك وأتبعك الأرذلون وقالوا ما نرك أتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وقال تعالى في قصة صالح وقال الملأ الذين استكبروا للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استبكروا إنا بالذي آمنتم به كافرون وقال تعالى في قصة شعيب قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين

ثم قال هرقل وسألتكم أيزيدون أم ينقصون فقلتم بل يزيدون وكذلك الإيمان حتى يتم وسألتكم هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه فقلتم لا وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد فسألهم عن زيادة اتباعه ودوامهم على اتباعه فأخبروه أنهم يزيدون ويدومون وهذا من علامات الصدق والحق فإن الكذب والباطل لا بد أن ينكشف في آخر الأمر فيرجع عنه أصحابه ويمتنع عنه من لم يدخل فيه

ولهذا أخبرت الأنبياء المتقدمون أن المتنبىء الكذاب لا يدوم إلا مدة يسيرة وهذه من بعض حجج ملوك النصارى الذين يقال إنهم من ولد قيصر هذا أو غيرهم حيث رأى رجلا يسب النبي من رؤس النصارى ويرميه بالكذب فجمع علماء النصارى وسألهم عن المتنبىء الكذاب كم تبقى نبوته فأخبروه بما عندهم من النقل عن الأنبياء إن الكذاب المفتري لا يبقى إلا كذا وكذا سنة لمدة قريبة إما ثلاثين سنة أو نحوها فقال لهم هذا دين محمد له أكثر من خمسمائة سنة أو ستمائة سنة وهو ظاهر مقبول متبوع فكيف يكون هذا كذابا ثم ضرب عنق ذلك الرجل

وسألهم هرقل عن محاربته ومسألته فأخبروه أنه في الحرب تارة يغلب كما غلب يوم بدر وتارة يغلب كما غلب يوم أحد وإنه إذا عاهد لا يغدر فقال لهم وسألتكم كيف الحرب بينكم وبينه فقلتم إنها دوال يدال علينا المرة وندال عليه الأخرى وكذلك الرسل تبتلى وتكون العاقبة لها قال وسألتكم هل يغدر فقلتم إنه لا يغدر وكذلك الرسل لا تغدر فهو لما كان عنده من علمه بعادة الرسل وسنة الله فيهم أنه تارة ينصرهم وتارة يبتليهم وأنهم لا يغدرون علم أن هذا من علامات الرسل فإن سنة الله في الأنبياء والمؤمنين أنه يبتليهم بالسراء والضراء لينالوا درجة الشكر والصبر كما في الصحيح عن النبي أنه قال والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له

وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له والله تعالى قد بين في القرآن ما في إدالة العدو عليهم يوم أحد من الحكمة فقال ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين

فمن الحكم تمييز المؤمن عن غيره فإنهم إذا كانوا دائما منصورين لم يظهر لهم وليهم وعدوهم إذا الجميع يظهرون الموالاة فإذا غلبوا ظهر عدوهم قال تعالى وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما ماتوا وما قتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين وقال تعالى ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين إلى قوله ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين وقال تعالى ما كان ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وأمثال ذلك ومن الحكم أن يتخذ منكم شهداء فإن منزلة الشهادة منزلة عليه في الجنة ولا بد من الموت فموت العبد شهيدا أكمل له وأعظم لأجره وثوابه ويكفر عنه بالشهادة ذنوبه وظلمه لنفسه والله لا يجب الظالمين

ومن ذلك أن يمحص الله الذين آمنوا فيخلصهم من الذنوب فإنهم إذا انتصروا دائما حصل للنفوس من الطغيان وضعف الإيمان ما يوجب لها العقوبة والهوان قال تعالى إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وقال تعالى إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى وفي الصحيحين عن النبي أنه قال مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تقيمها الرياح تقومها تارة وتمليها أخرى ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تزال ثابتة على أصلها حتى يكون انجفافها مرة واحدة

وسئل أي الناس أشد بلاء فقال الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل يبتلي الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه رقة خفف عنه وإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه ولا يزال البلاء بالمؤمن في نفسه وأهله وماله حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة

وقد قال تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب وقال تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين وفي الأثر فيما روي عن الله تعالى يا ابن آدم البلاء يجمع بيني وبينك والعافية تجمع بينك وبين نفسك وفي الأثر أيضا إنهم إذا قالوا للمريض اللهم ارحمه يقول الله كيف أرحمه من شيء به أرحمه وقد شهدنا أن العسكر إذا انكسر خشع لله وذل وتاب إلى الله من الذنوب وطلب النصر من الله وبرىء من حوله وقوته متوكلا على الله ولهذا ذكرهم الله بحالهم يوم بدر وبحالهم يوم حنين فقال ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون وقال تعالى لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين

وشواهد هذا الأصل كثيرة وهو أمر يجده الناس بقلوبهم ويخشونه ويعرفونه من أنفسهم ومن غيرهم وهو من المعارف الضرورية الحاصلة بالتجربة لمن جربها والأخبار المتواترة لمن سمعها ثم ذكر حكمة أخرى فقال ويمحق الكافرين وذلك أن الله سبحانه إنما يعاقب الناس بأعمالهم والكافر إذا كانت له حسنات أطعمه الله بحسناته في الدنيا فإذا لم تبقى له حسنة عاقبه بكفره والكفار إذا أديلوا يحصل لهم من الطغيان والعدوان وشدة الكفر والتكذيب ما يستحقون به المحق ففي إدالتهم ما يمحقهم الله به وأما الغدر فإن الرسل لا تغدر أصلا إذ الغدر قرين الكذب كما في الصحيحين عن النبي إنه قال آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وفي الصحيحين أيضا عن النبي أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر قلت الغدر ونحوه داخل في الكذب كما قال تعالى ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون

وقال تعالى ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون

فالغدر يتضمن كذبا في المستقبل والرسل صلوات الله عليهم منزهون عن ذلك فكان هذا من العلامات قال وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والصلة وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم وهذه صفة نبي وقد كنت أعلم أن نبيا يبعث ولم أكن أظن أنه منكم ولوددت أني أخلص إليه ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه وإن يكن ما يقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين وكان المخاطب بذلك أبو سفيان بن حرب وهو حينئذ كافر من أشد الناس بغضا وعداوة للنبي قال أبو سفيان فقلت لأصحابي ونحن خروج لقد أمر أمر ابن أبي كبشة أنه يخافه ملك بني الأصفر وما زلت موقنا بأن أمر رسول الله سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام وأنا كاره قلت فمثل هذا السؤال والبحث أفاد هذا العاقل اللبيب علما جازما بأن هذا هو النبي الذي ينتظره

وقد اعترض على هذا بعض من لم يدرك غور كلامه وسؤاله كالمازردي ونحوه وقال إنه بمثل هذا لا تعلم النبوة وإنما تعلم بالمعجزة وليس الأمر على ما قال بل كل عاقل سليم الفطرة إذا سمع هذا السؤال والبحث علم أنه من أدل الأمور على عقل السائل وخبرته واستنباطه ما يتميز به هل هو صادق أو كاذب وأنه بهذه الأمور تميز له ذلك ومما ينبغي أن يعرف أن ما يحصل في القلب لمجموع أمور قد يستقل بعضها به بل كل ما يحصل للإنسان من شبع وري وسكر وفرح وغم بأمور مجتمعة لا يحصل ببعضها لكن بعضها قد يحصل بعض العلم

وكذلك العلم بمجرد الأخبار وبما جربه من المجربات وبما في نفس الإنسان من الأمور فإن الخبر الواحد يحصل في القلب نوع ظن ثم الآخر يقويه إلى أن ينتهي إلى العلم حتى يتزايد فيقوى وكذلك ما يجربه الإنسان من الأمور وما يراه من أحوال الشخص

وكذلك ما يستدل به على كذبه وصدقه وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى أبقى في العالم الآثار الدالة على ما فعله بأنبيائه والمؤمنين من الكرامة وما فعله بمكذبيهم من العقوبة وذلك أيضا معلوم بالتواتر كتواتر الطوفان وإغراق فرعون وجنوده

والله تعالى كثيرا ما يذكر ذلك في القرآن كقوله وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور وقال تعالى وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيض إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد وقال تعالى كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب إلى قوله تعالى أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب إلى قوله سبحانه إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد إلى قوله تعالى ولقد أرسلنا رسلنا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضى بالحق وخسر هنالك المبطلون إلى قوله تعالى أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يكن ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون

ولما ذكر في سورة الشعراء قصص الأنبياء نبيا بعد نبي كقصة موسى وإبراهيم ونوح ومن بعده يقول في آخر كل قصة إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم كقوله تعالى فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وأزلفنا ثم الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم

وكذلك قال في آخر كل قصة إلى أن قال في قصة شعيب فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم وقال تعالى كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب وقال تعالى في قوم شعيب فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون وقال تعالى ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ظلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون

فهو سبحانه يذكر ما ظهر للموحدين من مساكنهم التي كانت حول أهل مكة فإن عامة من قص الله نبأه من الرسل وأممهم بعثوا حول مكة كهود باليمن وصالح بالحجر من ناحية الشام وإبراهيم وموسى وعيسى ويونس ولوط وأنبياء بني إسرائيل بأرض الشام ومصر والجزيرة وما يليها من العراق

وقال تعالى لما قص قصة قوم لوط فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها ليسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين وقال تعالى وإن لوطا لمن المرسلين إذ نجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين ثم دمرنا الآخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وتركنا فيها آيه للذين يخافون العذاب الأليم

وقال تعالى ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول وقال تعالى لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف وقال تعالى قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار وقال تعالى هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار

وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون

ومثل هذا في القرآن متعدد في غير موضع يذكر الله تعالى قصص رسله ومن آمن بهم وما حصل لهم من النصر والسعادة وحسن العاقبة وقصص من كفر بهم وكذبهم وما حصل لهم من البلاء والعذاب وسوء العاقبة وهذا من أعظم الأدلة والبراهين على صدق الرسل وبرهم وكذب من خالفهم وفجوره ثم إنه سبحانه بين أن ذلك يعلم بالبصر أو السمع أو بهما:

فالبصر والمشاهدة لمن رآهم أو رأى آثارهم الدالة عليهم كمن شاهد أصحاب الفيل وما أحاط بهم ومن شاهد آثارهم بأرض الشام واليمن والحجاز وغير ذلك كأثار أصحاب الحجر وقوم لوط ونحو ذلك

والسمع فبالأخبار التي تفيد العلم كتواتر الأخبار بما جرى في قصة موسى وفرعون وغرق فرعون في القلزم وكذلك تواتر الأخبار بقصة الخليل مع النمروذ وتواتر الأخبار بقصة نوح وإغراق أهل الأرض وأمثال ذلك من الأخبار المتواترة عند أهل الملل وغير أهل الملل مع أن في بعض قصص من تواترت به هذه الأخبار ما يحصل العلم بخبرهم واشتراك البصر والسمع كما يشاهد بعض الآثار من تواتر الأخبار ومما يبين الحال كما نشاهد السفن ويعلم بالخبر أن ابتداءها كان سفينة نوح كما قال تعالى وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون وقوله تعالى إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية وكذلك نشاهد أرض الحجور وما فيها من البيوت المنقورة في الجبال ونعلم بالخبر تفصيل الحال وأمثال ذلك

وبالجملة فالعلم بأنه كان في الأرض من يقول بأنهم رسل الله وإن أقواما ابتعوهم وأن أقواما خالفوهم وأن الله نصر الرسل والمؤمنين وجعل العاقبة لهم وعاقب أعداءهم هو من أظهر العلوم المتواترة وأجلاها ونقل هذه الأمور أظهر وأوضح من نقل أخبار ملوك الفرس والعرب في جاهليتها وأخبار اليونان وعلماء الطب والنجوم والفلسفة اليونانية كبقراط وجالينوس وبطليموس وسقراط وافلاطون وأرسطو وأتباعه فكل عاقل يعلم أن نقل أخبار الأنبياء وأتباعهم ينقلها من أهل الملل من لا يحصى عدده إلا الله ويدونونها في الكتب وأهلها من أعظم الناس تدينا بوجوب الصدق وتحريم الكذب ففي العادة المشتركة بينهم وبين سائر بني آدم ما يمنع التفاهم وتواطأهم على الكذب بل ما يمنع اتفاقهم على كتمان ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله وفي عادتهم الخاصة ودينهم الخاص برهان آخر أخص من الأول وأكمل وهذا معلوم على سبيل التفصيل من حال أمتنا فإنا نعلم علما ضروريا بالنقل المتواتر من عادة سلف الأمة ودينهم الموجب للصدق والبيان المانع من الكذب والكتمان ما يوجب علما ضروريا لنا بما تواتر لنا عنهم وبانتفاء أمور لو كانت موجودة لنقلوها وأهل الكتابين قلنا عندهم من التواتر بحمل الأمور ما يحصل به المقصود في هذا الموضع وإن كان قد يجيء كذب أو كتمان في بعض التفاصيل من أهل الكتابين قبلنا وفي بعض أمتنا فهذا هو أقل بكثير مما يقع من الكذب والكتمان بأخبار الفرس واليونان والهند وغيرهم ممن ينقل أخبار ملوكهم وعلمائهم ونحو ذلك وما من عاقل يسمع الخبر عن هؤلاء وعن هؤلاء كما هو موجود في هذا الزمان في الكتب والألسنة إلا ويحصل له من العلوم الضرورية بأحوال الأنبياء وأوليائهم وأعدائهم أعظم مما يحصل من العلوم بأحوال ملوك الفرس والروم وعلمائهم وأوليائهم وأعدائهم وهذا بين ولله الحمد

ولولا أن هذا الجواب إنما كان القصد به الكلام على هذه العقيدة المختصرة لكان البسط لي في هذا الموضع أولى من ذلك فإن هذه المقامات تحتمل بسطا عظيما لكن نبهنا على مقدمات نافعة فإن أكثر أهل الكلام مقصرون في حجج الاستدلال على تقرير ما يجب تقريره من التوحيد والنبوة تقصيرا كثيرا جدا كما أنهم كثيرا ما يخطئون فيما يذكرونه من المسائل ومن لا يعرف الحقائق يظن أن ما ذكروه هو الغاية في أصول الدين والنهاية في دلائته ومسائله فيورثه ذلك مخالفة الكتاب والسنة بل وصريح العقل في مواضع ويورثه استضعافا لكثير من أصولهم وشكا فيما ذكروه من أصول الدين واسترابة بل قد يورثه ترجيحا لأقوال من يخالف الرسل من متفلسفة وصابئين ومشركين ونحوهم حتى يبقى في الباطن منافقا زنديقا وفي الظاهر متكلما يذب عن النبوات

ولهذا قال أحمد وغيره ممن قال من السلف علماء الكلام زنادقة وما ارتدى أحد بالكلام إلا كان في قلبه غل على أهل الإسلام لأنهم بنوا أمرهم على أصول فاسدة أوقعتهم في الضلال وليس هذا موضع بسط هذا وقد بسطناه في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أن طرق العلم بالرسالة كثيرة جدا متنوعة ونحن اليوم إذا علمنا بالتواتر أحوال الأنبياء وأوليائهم وأعدائهم علمنا علما يقينا أنهم كانوا صادقين على الحق من وجوه متعددة منها أنهم أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم وخذلان أولئك وبقاء العاقبة لهم أخبارا كثيرة في أمور كثيرة وهي كلها صادقة لم يقع في شيء منها تخلف ولا غلط بخلاف من يخبر به من ليس متبعا لهم من تنزل عليه الشياطين أو يستدل على ذلك بالأحوال الفلكية وغيره

وهؤلاء لا بد أن يكونوا كثيرا بل الغالب من أخبارهم الكذب وإن صدقوا أحيانا ومن ذلك أن ما أحدثه الله تعالى من نصرهم وإهلاك عدوهم إذا عرف الوجه الذي حصل عليه كحصول الغرق لفرعون وقومه بعد أن دخل البحر خلف موسى وقومه كان هذا مما يورث علما ضروريا أن الله تعالى أحدث هذا نصرا لموسى عليه السلام وقومه ونجاة لهم وعقوبة لفرعون وقومه ونكالا لهم وكذلك أمر نوح والخليل عليهما السلام وكذلك قصة الفيل وغير ذلك

ومن الطرق أيضا أن من تأمل ما جاء به الرسل عليهم السلام فيما أخبرت به وما أمرت به علم بالضرورة أن مثل هذا لا يصدر إلا عن أعلم الناس وأصدقهم وأبرهم وأن مثل هذا يمتنع صدوره عن كاذب متعمد للكذب مفتر على الله يخبر عنه بالكذب الصريح أو مخطىء جاهل ضال يظن أن الله تعالى أرسله ولم يرسله وذلك لأن فيما أخبروا به وما أمروا به من الأحكام والإتقان وكشف الحقائق وهدي الخلائق وبيان ما يعلمه العقل جملة ويعجز عن معرفته تفصيلا ما يبين أنهم من العلم والمعرفة والخبرة في الغاية التي باينوا بها أعلم الخلق ممن سواهم فيمتنع أن يصدر مثل ذلك عن جاهل ضال وفيها من الرحمة والمصلحة والهدى والخير ودلالة الخلق على ما ينفعهم ومنع ما يضرهم ما يبين أن ذلك صدر عن راحم بار يقصد غاية الخير والمنفعة للخلق وإذا كان ذلك يدل على كمال علمهم وكمال حسن قصدهم فمن تم علمه وتم حسن قصده امتنع أن يكون كاذبا على الله يدعي عليه هذه الدعوى العظيمة التي لا يكون أفجر من صاحبها إذا كان كاذبا متعمدا ولا أجهل منه إن كان مخطئا

وهذه الطريق تسلك جملة في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وتفصيلا في حق واحد واحد بعينه فيستدل المستبدل بما يعلمه من الحق والخير جملة على علم صاحبه وصدقه ثم يستدل بعلمه وصدقه على ما لم يعلمه تفصيلا والعلم بجنس الحق والباطل والخير والشر والصدق والكذب معلوم بالفطرة والعقل الصريح بل جملة ذلك مما اتفق عليه بنو آدم ولذلك يسمى ذلك معروفا ومنكرا فإذا علم أنه فيما علم الناس أنه الحق وإنه خير هو أحق منهم به وأنصح الخلق فيه وأصدقهم فيما يقول علم بذلك أنه صادق عالم ناصح لا كاذب ولا جاهل ولا غاش

وهذه الطريق يسلكها كل أحد بحسبه ولا يحتاج في هذه الطريق إلى أن يعلم أولا خواص النبوة وحقيقتها وكيفيتها بل أن يعلم أنه صادق بار فيما يخبر به ويأمر به ثم من خبره يعلم حقيقة النبوة والرسالة

وقد سلك آخرون من المتكلمين والمتفلسفة والمتصوفة وغيرهم طريق أخرى تشبه هذه من وجه دون وجه وهو أن يعلم النبوة أولا وأنها موجودة في بني آدم وأنهم محتاجون إليهم ويعلم صفاتها ثم يعلم عين النبي ثم المتكلمون من المعتزلة وغيرهم يوجبون النبوة على الله على طريقتهم في إيجاب ما يوجبونه عليه والمتفلسفة قد يوجبون ذلك على طريقتهم فيما يجب وجوده في العالم وغيره يوجب ذلك لما علم من عادته في حكمته ورحمته وإعطائه الخلق ما يحتاجون إليه

وبالجملة فيعلمون نوعها في العالم ثم يعلمون الواحد من الجنس بثبوت حقيقة النوع فيه وهذه الطريقة يسلكها كثير من المتكلمة والمتصوفة والمتفلسفة والعامة وغيرهم لكن المتفلسفة كابن سينا وأمثاله أدركوا من النبوة بقدر ما أعطتهم موادهم الفلسفية التي علموا بها أن النبي يكون له كمال القوة العلمية وكمال قوة السمع والبصر وكمال قوة النفس بحيث يعلم ويسمع ويبصر ما يقصر غيره عنه ويفعل في العالم بهمته ما يعجز غيره عنه وهؤلاء يجعلون نفس النبوة ثلاثة أمور

أحدها أن تكون له قوة عقلية بل نسبة ينال بها العلم من غير تعلم

والثاني أن تكون له قوة خيالية يتخيل بها الحقائق العقلية موجودة خالية وثقة من أجناس منام النائم فيرى في نفسه ضوءا وذلك هو الرسالة عندهم ويسمع وذلك هو كلام الله عندهم

الثالث أن تكون لنفسه قوة على ان تؤثر في العالم وهذه الأقوال الثلاثه تحصل لخلق كثير هم دون رتبة الصالحين فضلا عن النبوة ولهذا كانت النبوة عندهم مكتسبة فصار كثير منهم يطلب أن يصير نبيا كما جرى للسهروردي المقتول ولابن سبعين ولهذا كان ابن سبعين يقول لقد زدت في حديث قال لا نبي بعد نبي عربي وهؤلاء يجعلون النبوة إنما هي من جنس واحد وقوة الناس في العلم والقدرة لكن يقول بينهما من الفصل بإرادة النبي الخير وإرادة الساحر الشر ويقولون الملك والشيطان قوي لكن قوة الملك قوة صالحة وقوة الشيطان قوة فاسدة وأما من يقول الملائكة والجن هم جنس واحد لا فرق بينهما في الصفات فهؤلاء يقولون إن هذا القدر يحصل نوع منه لغيرهم من الأولياء لكن يحصل لهم ما هو دون ذلك وهذا على طريقة عقلاء المتفلسفة الذين يفضلون النبي على الفيلسوف والولي كابن سينا وأمثاله

وأما غلاتهم كالفارابي وأمثاله الذين قد يفضلون الفيلسوف على النبي كما يفضل أشباههم كابن عربي الطائي صاحب الفتوحات المكية وفصوص الحكم وغيرهما فإنهم يفضلون الولي على النبي وكان يدعي أنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى النبي وإن الملك على أصلهم هو الحال الذي في نفس النبي والنبي بزعمهم يأخذ عن ذلك الحال والحال يأخذ عن العقل ثم زعم هذا إنه يأخذ عن العقل الذي في هذا الخيال فلهذا قال إنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك ما يوحي به إلى النبي فهؤلاء شاركوهم في أصل طريقهم لكن عظم ضلالهم وجهلهم بقدر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أن أصل معرفة هؤلاء بقدر النبوة معرفة ناقصة بتراء بل من عرف ما جاءت به الأنبياء وما يذكرونه في قدرة النبوة علم إنهم آمنوا ببعض ما جاءت به الرسل وكفروا ببعض فكما أن اليهود والنصارى آمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض فهؤلاء آمنوا ببعض صفات النبوة وكفروا ببعض ولهذا قد يكون فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى وقد يكون في اليهود والنصارى من هو أكفر منهم بحسب ما آمن به كل من هؤلاء بما جاءت به الرسل وما كفروا به

وأبو حامد كثيرا ما يسلك هذا الطريق في كتبه لكنه لا يوافق المتفلسفة على كل ما يقولونه بل يكفرهم ببعض ويضللهم في موضع وإن كان في الكتب المضافة إليه ما قد يوافق بعض أصولهم بل في الكتب التي يقال أنها مضنون بها على غير أهلها ما هو فلسفة محضة مخالفة لدين المسلمين واليهود والنصارى وإن كانت قد عبر عنها بعبارات إسلامية لكن هذه الكتب في الناس من يقول إنها مكذوبة على أبي حامد ومنهم من يقول بل رجع عنها ولا ريب أنه صرح في مواضع ببعض ما قاله في هذه الكتب وأخبر في المنقذ من الضلال وغيره من كتبه بما في ذلك من الضلال وذكر كيف كان طلبه للعلوم أولا حتى قال أقبلت بحد بليغ أتأمل في المحسوسات والضروريات وانظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها فانتهى بي طول التسلسل إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضا

وأخذ يتبع الشك فيها وذكر بعض شبه السوفسطائية في الحسيات إلى أن قال فلما خطر لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس حاولت لذلك علاجا فلم يتيسر إذ لم يمكن دفعه إلا بدليل ولم يمكن نصبه دليل إلا من تركيب العلوم الأولية وإذا لم تكن مسلمة لم يمكن ترتيب الدليل فأعضل هذا الداء ودام قريبا من شهرين أنا فيها على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم المنطق والمقال حتى شفى الله تعالى عني ذلك المرض والإعلال وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها على أمين ويقين ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام بل بنور قذفه الله تعالى في الصدور وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف قال فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المجردة فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة

إلى أن قال

والمقصود من هذه الحكاية أن يعلم كمال الجد في الطلب حتى انتهى إلى طلب مالا يطلب لأن الأوليات ليست مطلوبة فإنها حاضرة والحاضر إذا طلب بعد واختفى قال ولما كفاني الله تعالى هذا المرض انحصرت أصناف الطالبين عندي في أربع فرق المتكلمون وهم يدعون أنهم أهل الرأي والنظر والباطنية وهم يدعون أنهم أصحاب التعليم والمخصصون بالاقتباس من الإمام المعصوم والفلاسفة وهم يزعمون أنهم أصحاب المنطق والبرهان والصوفية وهم يدعون إنهم خاصة الحضرة وأهل المشاهدة والمكاشفة فقلت في نفسي الحق لا يعدو هذه الأصناف الأربعة فهؤلاء السالكون سبيل طلب الحق فإن شذ الحق عنهم فلا يبقى في درك الحق مطمع إلى أن قال فابتدأت لسلوك هذه الطرق واستقصاء ما عند هؤلاء الفرق مبتدئا بعلم الكلام ومثنيا بطريق الفلسفة ومثلثا بتعليمات الباطنية ومربعا بطريق الصوفية قال ثم إني ابتدأت بعلم الكلام فحصلته وعقلته وطالعت كتب المحققين منهم وصنفت فيه ما أردت أن أصنف فصادفته علما وافيا بمقصوده غير واف بمقصودي وإنما المقصود منه حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش المبتدعة فقد ألقى الله تعالى إلى عباده على لسان رسوله عقيدة هي الحق على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم كما نطق بمقدماته القرآن والأخبار ثم ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة أمورا مخالفة للسنة فلهجوا بها وكادوا يشوشون عقيدة أهل الحق على أهلها فأنشأ الله تعالى طائفة من المتكلمين وحرك دواعيهم لنصرة السنة بكلام مرتب يكشف عن تلبيسات أهل البدع المحدثة على خلاف السنة المأثورة إلى أن قال وكان أكثر حرصهم في استخراج مناقضات الخصوم ومؤاخذتهم بلوازمهم ومسلماتهم إلى أن قال فلم يكن الكلام في حقي كافيا ولا لدائي الذي أشكوه شافيا إلى أن قال فلم يحصل منه ما يمحو بالكلية ظلمات الحيرة في اختلافات الخلق ولا أبعد أن يكون قد حصل ذلك لغيري بل لا أشك في حصول ذلك لطائفة ولكن حصولا مشوبا بالتقليد في بعض الأمور التي ليست من الأوليات إلى أن قال ثم إني ابتدأت بعد الفراغ من علم الكلام بعلم الفلسفة وعلمت يقينا أنه لا يقف على فساد نوع من المعلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم حتى يساوي أعلمهم في أصل العلم ثم يزيد عليه ويجاوز درجته فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غور وغائله إلى أن قال لم أزل حتى اطلعت على ما فيه من خداع وتلبيس وتحقيق تخييل اطلاعا لم أشك فيه فاستمع الآن حكايته وحكاية حاصل علومهم فإني رأيتهم أصنافا ورأيت علومهم أقساما وهم على كثرة أصنافهم تلزمهم وصمة الكفر والإلحاد وإن كان بين القدماء منهم والأقدمين وبين الأواخر منهم والأوائل تفاوت عظيم في البعد عن الحق والقرب منه

ثم قال: اعلم أنهم على كثرة فرقهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام الدهريون والطبائعيون والإلهيون

الصنف الأول الدهريون وهم طائفة من الأقدميين جحدوا الصانع المدبر العالم القادر وزعموا أن العالم لم يزل موجودا وجحدوا كذلك ولم يزل الحيوان من نطفة والنطفة من حيوان كذلك كان وكذلك يكون أبدا وهؤلاء الزنادقة

الصنف الثاني الطبيعيون وهم قوم أكثر بحثهم عن عالم الطبيعة وعن عجائب الحيوان والنبات إلى أن قال إلا أن هؤلاء لكثرة بحثهم عن الطبيعة ظهر عندهم لاعتدال المزاج تأثير عظيم في قوام قوى الحيوان به فظنوا أن القوة العاقلة من الإنسان تابعة لمزاجه أيضا وإنها تبطل ببطلان مزاجه فتنعدم ثم إذا انعدمت فلا تعقل إعادة المعدوم كما زعموا فذهبوا إلى أن النفس تموت ولا تعود فجحدوا الآخرة وأنكروا الجنة والنار والقيامة والحساب فلم يبق عندهم للطاعة ثواب ولا للمعصية عقاب فانحل عنهم اللجام وانهمكوا في الشهوات انهماك الأنعام

وهؤلاء أيضا زنادقة لأن أصل الإيمان هو الإيمان بالله واليوم الآخر وهؤلاء جحدوا اليوم الآخر وإن آمنوا بالله تعالى وصفاته

والصنف الثالث الإلهيون وهم المتأخرون مثل سقراط وهو أستاذ أفلاطون وأفلاطون أستاذ أرسطاطاليس وأرسطاطاليس هو الذي رتب لهم المنطق وهذب لهم العلوم وخمر لهم ما لم يكن مخمرا من قبل وأوضح لهم ما كان أحجى من علومهم وهم بجملتهم ردوا على الصنفين الأولين من الدهرية والطبيعية وأوردوا في الكشف عن فضائحهم ما أغنوا به غيرهم وكفى الله المؤمنين القتال بقتالهم ثم رد أرسطاطاليس على أفلاطون وسقراط ومن كان قبله من الإلهين ردا لم يقصر فيه حتى تبرأ عن جميعهم إلا أنه استبقى أيضا من رذائل كفرهم وبدعتهم بقايا لم يوفق للنزوع عنها فوجب تكفيرهم وتكفير متبعيهم من المتفلسفة الإسلاميين كابن سينا والفارابي وأمثالهما على أنه لم يقل بنقل علم أرسطاطاليس أحد من متفلسفة الإسلاميين كقيام هذين الرجلين وما نقله غيرهما ليس يخلو عن تخبيط وتخليط بتشوش فيه قلب المطالع حتى لا يفهم ومن لا يفهم كيف يرد أو يقبل ومجموع ما صح عندنا من فلسفة أرسطاطاليس بحسب نقل هذين الرجلين ينحصر في أقسام قسم يجب التكفير به وقسم يجب التبديع به وقسم لا يجب إنكاره أصلا فلنفصله

ثم ذكر أنها ستة أقسام رياضية ومنطقية وطبيعية وإلهية وسياسية وخلقية وتكلم على ذلك بما ليس هذا موضعه وقد بينا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع إلى أن قال ثم إني لما فرغت من علم الفلسفة وتحصيله وتفهيمه وتزييف ما تزيف منه علمت أن ذلك أيضا غير واف بكمال الغرض فإن العقل ليس مستقلا بالإحاطة بجميع المطالب ولا كاشفا للغطاء عن جميع المعضلات

ثم ذكر مذهب الباطنية وتلبيسهم وأنه ليس معهم شيء من الشفاء المنجي من ظلمات الآراء ثم هم مع عجزهم عن إقامة البرهان عن تعيين الإمام المعصوم صدقناهم في الحاجة إلى التعليم وإلى المعلم المعصوم وأنه هو الذي عينوه

ثم سألناهم عن العلم الذي تعلموه من هذا المعصوم وعرضنا عليهم إشكالات فلم يفهموها فضلا عن القيام بحلها فلما عجزوا أحالوا على الإمام الغائب وقالوا لا بد من السفر إليه والعجب أنهم ضيعوا عمرهم في طلب المعلم والنجاح في الظفر به ولم يتعلموا منه شيئا أصلا كالمتضمخ بالنجاسة يتعب في طلب الماء فإذا وجد ما يستعمله بقي مضمخا بالنجاسة ومنهم من ادعى شيئا من علمهم وكان حاصل ما ذكره من ركيك فلسفة فيثاغورس وهو رجل من قدماء الأوائل ومذهبه أول مذاهب الفلاسفة وقد رد عليه أرسطاطاليس بل استدرك كلامه واسترذله وهو المحكي في كتاب رسائل أخوان الصفا وهو على التحقيق حشو الفلسفة

فالعجب ممن يتعب طول العمر في طلب العلم ثم يتبع لمثل ذلك العلم الركيك المستغث ويطن أنه ظفر بأقصى مقاصد العلوم فهؤلاء أيضا جربناهم وسبرنا باطنهم وظاهرهم فرجع حاصلهم إلى استدراج العوام وضعفاء العقول ببيان الحاجة إلى المعلم ومجادلتهم في إنكارهم الحاجة إلى التعليم بكلام قوي مفحم حتى إذا ساعدهم على الحاجة إلى المعلم مساعد وقال هات علمه وأفدنا من تعليمه وقف فقال الآن إذا سلمت لي هذا فاطلبه فإنما غرضي هذا القدر فقط إذ علم أنه لو زاد على ذلك لافتضح ولعجز عن حل أدنى المشكلات بل عجز عن فهمه فضلا عن جوابه قال ثم إني لما فرغت من هذه أقبلت بهمتي على طريق الصوفية وعلمت أن طريقهم إنما يتم بعلم وعمل وكان حاصل علمهم قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله وكان العلم أيسر علي من العمل فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي وكتب الحارث المحاسبي والمتفرقات المنثورة عن الجنيد والشبلي وأبي يزيد البسطامي قدس الله أرواحهم وغير ذلك من كلام المشائخ حتى اطلعت على كثير من مقاصدهم العلمية وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعلم والسماع وظهر لي أن أخص خواصهم مالا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات وكم من الفرق بين أن يعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطهما وبين أن يكون صحيحا شبعان وبين أن يعرف حد السكر وإنه عبارة عن حالة تحصل عن استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة إلى معادن الفكر وبين أن يكون سكران بل السكران لا يعرف حد السكر وأركانه وهو سكران وما معه من علمه شيء والطبيب يعرف حد السكر وأركانه وما معه من السكر شيء والطبيب في حالة المرض يعرف حد الصحة وأدويتها وهو فاقد الصحة

فكذلك الفرق بين من يعرف حقيقة الزهد وشروطها وأسبابها وبين من يكون حالة الزهد عزوف النفس عن الدنيا فعلمت يقينا أنهم أرباب أحوال لا أصحاب أقوال وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم قد حصلته ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالتعلم والسماع بل بالذوق والسلوك وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستها والمسالك التي سلكتها في تفتيشي عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية إيمان يقيني بالله تعالى وبالنبوة وباليوم الآخر

وهذه الأصول الثلاثة كانت رسخت في نفسي بلا دليل محرر بل باسباب وقرائن وتجارب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلها وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع في سعادة الآخرة إلا بالتقوى وكف النفس عن الهوى وإن رأس ذلك كله قطع علاقة القلب عن الدنيا والتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى وإن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال

وذكر حاله في خروجه عن ذلك ومجيئه إلى الشام ثم الحجاز إلى أن قال

وانكشف لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها والقدر الذي أذكره لينتفع به أني علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطرق الله تعالى الخاصة وأن سيرتهم أحسن السير وطريقتهم أصوب الطرق وأخلافهم أزكى الأخلاق بل لو جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء وعلم والواقعين على أسرار الشريعة من العلماء ليغيروا شيئا من سيرتهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه لم يجدوا إليه سبيلا فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في باطنهم وظاهرهم مقتبسة من نور مشكاة النبوه فليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به إلى أن قال ومما بان لي بالضرورة من ممارسة طريقهم حقيقة النبوة وخاصتها ثم تكلم في حقيقة النبوة واضطرار كافة الخلق إليها

فقال اعلم أن جوهر الإنسان من أول الفطرة خلق خاليا ساذجا لا خبر معه من عوالم الله تعالى والعوالم كثيرة لا يحصيها إلا الله كما قال سبحانه وما يعلم جنود ربك إلا هو ثم ذكر ما يدركه بالحواس ثم بالتمييز ثم يترقى في طور آخر فيخلق له العقل فيدرك الواجبات والجائزات والمستحيلات وأمورا لا توجد في الأطوار التي قبله ووراء العقل طور آخر يتفتح فيه عين أخرى يبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل وأمور أخرى العقل معزول عنها لعزل قوة الحسن عن مدركات التمييز وكما أن المميز لو عرض عليه مدركات العقل لأباه واستبعده فكذلك بعض العقلاء أبوا مدركات النبوة فاستبعدوها وذلك عين الجهل إذ لا مستند له إلا أنه طور لم يبلغه ولم يوجد في حقه فظن أنه غير موجود في نفسه والأكمه لو لم يعلم بالتواتر والتسامع الألوان والأشكال وحكى له ابتداء لم يفهمها ولم يقر بها وقد قرب الله منها ذلك إلى خلقه بأن أعطاهم أنموذجا من خاصة النبوة وهو النائم إذ النائم لم يدرك ما سيكون في الغيب إما صريحا وإما في كوة مثال يكشف عنه التعبير

وهذا لو لم يجر به الإنسان من نفسه وقيل له إن من الناس من يسقط مغشيا عليه كالميت ويزول إحساسه وسمعه وبصره فيدرك الغيب لأنكره ولأقام البرهان على استحالته وقال القوي الحساسة أسباب الإدراك فمن لا يدرك الشيء مع وجودها وحضروها فبأن لا يدرك مع ركودها أولى

وهذا نوع قياس يكذبه الوجود والمشاهدة فكما أن العقل طور من أطوار الآدمي يحصل فيه عين أخرى يبصر بها أنواعا من المعقولات الحواس معزولة عنها فالنبوة أيضا عبارة عن طور يحصل فيه عين أخرى لها نور يظهر في نورها الغيب وأمور لا يدركها العقل والشك في النبوة إما أن يقع في إمكانها أو في وجودها أو وقوعها أو في حصولها لشخص معين ودليل إمكانها وجودها ودليل وجودها وجود معارف في العالم لا يتصور أن تنال بالعقل كعلم الطب والنجوم فإن من بحث عنها علم بالضرورة أنها لا تدرك إلا بإلهام إلهي وتوفيق من جهة الله تعالى ولا سبيل إليه بالتجربة فمن الأحكام النجومية ما لا يقع إلا في كل ألف سنة مرة فكيف ينال ذلك بالتجربة وكذلك خواص الأدوية فتبين بهذا البرهان أن في الإمكان وجود طريق لإدراك هذه الأمور التي لا يدركها العقل وهو المراد بالنبوة لا أن النبوة عينها فقط بل إدراك هذا الجنس الخارج عن مدركات العقل إحدى خواص النبوة وله خواص كثيرة سواها وما ذكرناه فقطرة من بحرها إنما ذكرناها لأن معك أنموذجا منها وهي مدركاتك في النوم ومعك علوم من جنسها في الطلب والنجوم

فأما معجزات الأنبياء فلا سبيل إليها للعقلاء ببضاعة العقل أصلا وأما ما عداها من خواص النبوة فإنما يدركه بالذوق من سلك طريق التصوف لأن هذا إنما فهمته بأنموذج رزقته وهو النوم ولولاه ما صدقت به فإن كان للنبي خاصة ليس لك منها أنموذج فلا تفهمها أصلا فكيف تصدق بها وإنما التصديق بعد التفهيم وذلك الأنموذج يحصل في أول طريق التصوف فيحصل به نوع من الذوق بالقدر الحاصل ونوع من التصدق بما لم يحصل بالقياس إليه فهذه الخاصة الواحدة تكفيك للإيمان بأصل النبوة فإن وقع لك الشك في شخص معين أنه نبي أم لا فلا يحصل اليقين إلا بمعرفة أحواله إما بالمشاهدة أو بالتواتر والتسامع فإنك إذا عرفت الطب والفقه يمكنك أن تعرف الفقهاء والأطباء بمشاهدة أحوالهم وسماع أقوالهم إن لم تشاهدهم

فمعرفة كون الشافعي فقيها وكون جالينوس طبيبا معروف بالحقيقة لا بالتقليد بأن تتعلم شيئا من الطب والفقه وتطالع كتبهما وتصانيفهما فيحصل لك علم ضروري بحالهما وكذلك إذا فهمت معنى النبوة فأكثر النظر في القرآن والأخبار يحصل لك العلم الضروري لكونه في أعلى درجات النبوة وأعضد ذلك بتجربة ما قاله في العبادات وتأثيرها في تصفية القلوب وكيف صدق في كذا وكذا فإذا جربت ذاك في ألف وألفين وآلاف حصل لك علم ضروري لا تتمارى فيه فمن هذا القبيل طلب اليقين بالنبوة لا من قلب العصا ثعبانا وشق القمر فإن ذلك إذا نظرت إليه وحده ولم تنضم إليه القرائن الكثيرة الخارجة عن حد الحصر ربما ظننت أنه سحر وأنه تخييل وأنه من الله تعالى إضلال فإنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء

ويرد عليك أسئلة المعجزات فإذا كان مستند إيمانك كلاما منظوما في وجه دلالة المعجزة ينحزم إيمانك بكلام مرتب من وجه الإشكال والشبه عليها فليكن مثل هذه الخوارق إحدى القرائن والدلائل في جملة نظرك حتى يحصل لك علم ضروري لا يمكنك ذكر مستنده على التعيين كالذي يخبره جماعة بخبر متواتر لا يمكنه أن يقول اليقين مستفاد من قول واحد معين بل من حيث لا يدري ولا يخرج عن جملة ذلك ولا تتعين الآحاد فهذا هو الإيمان القوي العلمي وأما الذوق فهو كالمشاهدة والأخذ باليد ولا يوجد إلا في طريق الصوفية

قال ثم إني واظبت على العزلة والخلوة قريبا من عشر سنين وبان لي في أثناء ذلك على الضرورة من أسباب لا أحصيها وبان لي من حقيقة الذوق أن للإنسان بدنا وقلبا وأعني بالقلب حقيقة روحه التي هي محل معرفة الله تعالى دون اللحم الذي يشاركه فيه الميت والبهيمة وإن البدن له صحة بها سعادته ومرض فيه هلاكه وإن القلب كذلك له صحة وسلامة ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم وله مرض فيه هلاكه إن لم يتدارك كما قال تعالى في قلوبهم مرض

وإن الجهل بالله سم مهلك وإن معصية الله تعالى بمتابعة الهوى داؤه المرض وإن معرفة الله تعالى ترياقه المحيي وطاعته بمخالفة الهوى دواؤه الشافي وأنه لا سبيل إلى معالجته بإزالة مرضه وكسب صحته إلا بأدوية كما لا سبيل إلى معالجة البدن إلا بذلك وكما أن أدوية البدن تؤثر في كسب الصحة بخاصية فيها لا تدركها العقلاء ببضاعة العقل بل تجب فيها تقليد الأطباء الذين أخذوها عن الأنبياء الذين اطلعوا بخاصية النبوة على خواص الأشياء فكذلك بان لي على الضرورة أن أدوية العبادات بحدودها ومقاديرها المحدودة المقدرة من جهة الأنبياء لا يدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقلاء بل يجب فيها تقليد الأنبياء الذين أدركوا تلك الخواص لا ببضاعة العقل وكما أن الأدوية تركب من أخلاط مختلفة النوع والمقدار وبعضها ضعف لبعض في الوزن فلا يخلو اختلاف مقاديرها عن سر من قبل الخواص فكذلك العبادات التي هي أدوية القلوب مركبة من أفعال مختلفة النوع والمقدار حتى أن السجود ضعف الركوع وصلاة الصبح نصف صلاة الظهر ولا يخلو عن سر من الأسرار هو من قبيل الخواص التي لا يطلع عليها إلا بنور النبوة

ولقد تحامق وتجاهل جدا من أراد أن يستنبط بطريق العقل لها حكمة وظن أنها ذكرت على الاتفاق لا عن سر إلهي فيها يقتضيها بطريق الخاصية وكما أن في الأدوية أوصولا هي أركانها وزوائد هي متمماتها لكل واحد منها خصوص تأثير في أعمال أصولها كذلك السنن والنوافل لتكميل آثار أركان العبادات وعلى الجملة فالأنبياء أطباء أمراض القلوب

وأما فائدة العقل وتصرفه أن عرفنا ذلك وشهد بصدق النبوة وبعجز نفسه عن درك ما يدرك بعين النبوة وأخذنا بأيدينا وسلمنا إليها تسليم العميان إلى القائدين وتسليم المرضى المتحيرين إلى الأطباء المشقفين

فإلى ههنا مجرى العقل ومخطاه وهو معزول عما بعد ذلك إلا عن تفهيم ما يلقيه الطبيب إليه فهذه أمور عرفناها بالضرورة الجارية مجرى المشاهدة في مدة الخلوة والعزلة

ثم رأينا فتور الاعتقاد في أصل النبوة ثم في حقيقة النبوة ثم في العمل بما شرحته النبوة وتحققنا شيوع ذلك بين الخلق ونظرت إلى أسباب فتور الخلق وضعف إيمانهم بها فإذا هو أربعة سبب من الخائضين في علم الفلسفة وسبب من الخائضين في طريق التصوف وسبب من المنتسبين إلى دعوى التعليم وسبب من معاملة المتوسمين من العلماء فيما بين الناس فإني تتبعت مدة آحاد الخلق أسأل من يقصر منهم في متابعة الشرع وأسأله شبهته وأبحث عن عقيدته وسره وأقول له مالك تقصر فيها فإن كنت تؤمن بالآخرة ولست تستعد لها وتبيعها بالدنيا فهذه حماقة فإنك لا تبيع الاثنين بواحد فكيف تبيع مالا نهاية له بأيام معدودة

وإن كنت لا تؤمن فأنت كافر فدبر لنفسك في طلب الإيمان وانظر ما سبب كفرك الخفي الذي هو مذهبك باطنا وهو سبب جراءتك ظاهرا وإن كنت لا تصرح به تجملا بالإيمان وتشرفا بذكر الشرع فقائل يقول هذا أمر لو وجبت المحافظة عليه لكان العلماء أجدر بذلك وفلان من المشهورين من الفضلاء لا يصلي وفلان يشرب الخمر وفلان يأكل الأموال من الأوقاف وأموال اليتامى وفلان يأكل أدرار السلطان ولا يحترز من الحرام وفلان يأخذ الرشوة على القضاء والشهادة وهلم جرا إلى أمثاله وقائل ثان يدعي علم التصوف فيقول إني بلغت مبلغا ترقيت عن الحاجة إلى العبادة وقائل ثالث تعلل بشبهة أخرى من شبهات أهل الإباحة هم الذين ضلوا عن طريق التصوف وقائل رابع لقي أهل التعليم ويقول الحق مشكل والطريق إليه عسير منسد والاختلاف فيه كثير

وليس بعض المذاهب أولى من بعض وأدلة العقول متعارضة فلائقة برأي أهل الرأي والداعي إلى التعليم متحكم لا حجة له

فكيف ندع اليقين بالشك وقائل خامس يقول لست أفعل هذا تقليدا ولكني قرأت علم الفلسفة وأدركت حقيقة النبوة وأن حاصلها يرجع إلى المصلحة والحكمة وإن المقصود من تعبداتها ضبط عوام الخلق وتقييدهم عن التقاتل والتنازع والاسترسال في الشهوات فما أنا من العوام الجهال حتى أدخل في حجر التكليف وإنما أنا من الحكماء اتبع الحكمة وأنا بصير بها مستغني فيها عن التقليد

هذا منتهى إيمان من قرأ فلسفة الإلهيين منهم ويعلم ذلك من كتب ابن سينا وأبي نصر الفارابي وهؤلاء المتجملون منهم بالإسلام وربما يرى الواحد منهم يقرأ القرآن ويحضر الجماعات والصلوات ويعظم الشريعة بلسانه ولكنه مع ذلك لا يترك شرب الخمر وأنواعا من الفسق والفجور وإذا قيل له إن كانت النبوة غير صحيحة فلم تصلي فربما يقول رياضة الجسد وعادة البلد وحفظ الذل والولد وربما قال الشريعة صحيحة والنبوة حق فيقال له فلم تشرب الخمر فيقول إنما نهي عن الخمر لأنها تورث العداوة والبغضاء وأنا بحكمتي محترز عن ذلك وإني أقصد به تشحيذ خاطري حتى أن ابن سينا ذكر في وصية له كتب فيها أنه عاهد الله تعالى على كذا وكذا وإن يعظم الأوضاع الشرعية ولا يقصر في العبادات الدينية ولا يشرب الخمر تلهيا بل تداويا وتشفيا وكان منتهى حالته في صفاء الإيمان والتزام العبادات أن يستثني شرب الخمر لغرض التشفي فهذا إيمان من يدعي الإيمان منهم وقد انخدع إلى ذكر ما رد به على أهل التعليم وأهل الإباحة

قال وأما من فسد إيمانه بطريق الفلسفة حتى أنكر أصل النبوة فقد ذكرنا حقيقة النبوة ووجودها بالضرورة بدليل وجود خواص الأدوية والنجوم وغيرها وإنما قدمنا هذه المقدمة لأجل ذلك وأوردنا الدليل من خواص النجوم والطب لأنه من نفس علمهم ونحن نبين لكل عالم بفن من العلوم كالنجوم والطب والطبيعة والسحر والطلسمات مثلا من نفس علمه برهان النبوة وأما من أثبت النبوة بلسانه وسوى أوضاع الشرع على الحكمة فهو على التحقيق كافر بالنبوة وإنما هو مؤمن بحكيم له طالع مخصوص يقتضي طالعه أن يكون متبوعا وليس هذا من النبوة في شيء بل الإيمان بالنبوة أن يقر بإثبات طور وراء طور العقل تنفتح فيه عين يدرك بها مدركات خاصة والعقل معزول عنها كعزل اللمس عن إدراك الأصوات وجميع الحواس عن إدراك المعقولات فإن لم يجوز هذا فقد أقمنا البرهان على إمكانه بل على وجوده

وأخذ يستدل بالخواص الموجودة في الطبيعيات على إمكان خواص ثابتة في الشرعيات وأن تلك إذا لم تعرف بقياس العقل فكذلك الأخرى قال وإنما تدرك هذه الخواص بنور النبوة قال والعجب إنا لو غيرنا العبارة إلى عبارة المنجمين لصدقوا باختلاف هذه الأوقات فنقول ليس يختلف الحكم والطالع بأن تكون الشمس في وسط السماء أو في الطالع أو في الغارب حتى بنوا على هذا في تسييراتهم اختلاف الصلاح وتفاوت الأعمار والآجال

فلا فرق بين الزوال وبين كون الشمس في وسط السماء ولا بين المغرب وبين كون الشمس في الغارب فلم يكن لتصديقه سبب إلا أن ذلك سمعه بعبارة منجم بحرب كذبه مائة مرة ولا يزال يعاود تصديقه حتى لو قال له المنجم إذا كانت الشمس وسط السماء ونظر إليه الكوكب الفلاني فلبست ثوبا جديدا في ذلك الوقت قتلت في ذلك الوقت فإنه لا يلبس الثوب في ذلك الوقت وربما يقاسي فيه البرد الشديد وربما سمعه من منجم قد جرب كذبه مرات فليت شعري من يتسع عقله لقبول هذه البدائع ويضطر إلى الاعتراف بأنها خواص معرفتها معجزة لبعض الأنبياء كيف ينكر مثل ذلك فيما يسمعه من قول نبي صادق مؤيد بالمعجزات لم يعرف قط بالكذب ولم لا يتسع لإمكان هذه الخواص في إعداد الركعات ورمي الجمار وعدد أركان الحج وسائر تعبدات الشرع ولم نجد بينها وبين خواص الأدوية والنجوم فرقا أصلا فإن قال قد جربت شيئا من النجوم وشيئا من الطب فوجدت بعضه صادقا فانقدح في نفسي تصديقه وسقط عن قلبي استبعاده ونفرته

وهذا لم أجربه فيم أعلم وجوده وتحققه وإن أقررت بإمكانه فأقول إنك لا تقتصر على تصديق ما جربته بل سمعت أخبار المجربين وقلدتهم فاسمع أقوال الأنبياء فقد جربوه وشاهدوا الحق في جميع ما ورد به الشرع أو أسلك سبيلهم تدرك بالمشاهدة بعض ذلك على أني أقول وإن لم تجرب فيقتضي عقلك بوجوب التصديق والاتباع قطعا

فإنا لو فرضنا رجلا بلغ وعقل ولم يجرب ومرض وله والد مشفق حاذق بالطب يسمع دعواه في معرفة الطب منذ عقل فعجن له والده دواء وقال هذا يصلح لمرضك ويشفيك من سقمك فماذا يقتضيه عقله وإن كان الدواء كريها مر بالمذاق أن يتناول أو يكذب ويقول أنا لا أعرف مناسبة هذا الدواء لتحصيل الشفاء ولم أجربه فلا شك أنك تستحمقه إن فعل ذلك فكذلك يستحمقك أهل البصائر في توقفك فإن قلت فلم أعرف شفقة النبي ومعرفته بهذا الطب فأقول وبم عرفت شفقة أبيك فإن ذلك أمر ليس محسوسا بل عرفتها بقرائن أحواله وشواهد أعماله في موارده ومصادره علما ضروريا لا يتمارى فيه ومن نظر في أقوال رسول الله وما ورد من الأخبار في اهتمامه بإرشاد الخلق وتلطفه في حق الناس بأنواع اللين واللطف إلى تحسين الأخلاق وإصلاح ذات البين وبالجملة إلى ما يصلح به دينهم ودنياهم حصل له علم ضروري بأن شفقته على أمته أعظم من شفقة الوالد على ولده وإذا نظر إلى عجائب ما ظهر عليه من الأفعال وإلى عجائب الغيب التي أخبر عنها في القرآن على لسانه في الأخبار وإلى ما ذكره في آخر الزمان وظهر ذلك كما ذكره علما ضروريا أنه بلغ الطور الذي وراء العقل وانفتحت له العين التي ينكشف منها الغيب والخواص والأمور التي لا يدركها العقل وهذا هو منهاج يحصل العلم الضروري بصدق النبي وتأمل في القرآن وطالع الأخبار إلى أن تعرف ذلك بالعيان وهذا القدر يكفي في تنبيه المتفلسفة ذكرناه لشدة الحاجة إليه في هذا الزمان

قلت فهذه الطريق التي ذكرها أبو حامد وغيره تفضي أيضا إلى العلم من النبوة والتصديق منها بأكثر من القدر الذي تقر به المتفلسفة وما ذكره من المشاهدات والكشوفات التي تحصل للصوفية وأنهم يشهدون تحقيق ما أخبر به الرسول ونفع ما أمر به فهذا أيضا حق في كثير مما أخبر به وأمر به ثم إذا علم ذلك صار حجة على صدقه فيما لم يعلمه كمن سلك طريقا من العلم بفن من الفنون إذا رأى كلام متكلم في ذلك العلم ورآه يحقق ما عنده ويأتي بزيادات لا يستطيعها فإنه يعلم بما رآه من مزيد تحقيقه لما شاركه في أصل معرفته أنه أعلم منه بما وراء ذلك كمن نظر في الطب إذا رأى كلام بقراط ومن نظر في النحو إذا رأى كلام الخليل وسيبويه ومن نظر في العلوم الدينية إذا رأى كلامه أئمة السلف وكذلك من سلك مسلك الزهد والعبادة إذا بلغه سير زهاد السلف وعبادتهم ومن والى الناس وساسهم إذا رأى سيرة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز ونحوهما

فهذا كله مما يبين له عظمة قدر هؤلاء وأنهم كانوا أئمة في هذه الأمور وفيما يصلح ويجب من ذلك وبعلم كل أحد الفرق بين سيرة العمرين وسيرة الحجاج والمختار بن أبي عبيد ونحوهما بل يعلم الفرق بين سيرة بني أمية وبني العباس وبين سيرة بني بويه وبني عبيد وأمثال ذلك كذلك يعلم الفرق بين نبينا محمد وموسى وعيسى عليهم السلام وبين مسيلمة والأسود العنسي وأمثالهما بأدنى تأمل وهذه الطريق ينقسم الناس فيها إلى عام وخاص بسبب علمهم بالخير والشر والصدق والكذب ونحو ذلك وهذه تفيد العلم القطعي بأن الأنبياء أكمل الخلق وأفضلهم وأنه لا يصلح لأحد أن يعارضهم برأيه ولا يخالفهم بهواه لكن لا يفيد العلم بحقيقة النبوة إلا أن يعترف أن النبي أعلم منه فلا يمكنه أن يقول هو أعلم منه فكل من حصل له من المخاطبات والمشاهدات ما يحصل للأولياء فإنه يعلم أن الذي للأنبياء فوق الذي له من ذلك كعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فإنه قد ثبت في الصحيح أنه قال أنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر وقال إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه وفي الترمذي عنه أنه قال لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر وكان عمر بهذا يعلم أن ما يأتي النبي من الوحي والملائكة وما يخبر به من الغيب وما يأمر به وينهى عنه أمر زائد على قدره ومجاوز لطاقته بل يجد بينه وبين ذلك من التفاوت ما يعجز القلب واللسان عن معرفته وتبيانه بل كان عمر بما حصل له من المكاشفة والمخاطبة يعلم أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما أكمل منه معرفة ويقينا وأتم صدقا وأخلاقا وأعلم منه بقدر الرسول فكان خضوع عمر هذا الذي هو أفضل الأولياء المحدثين الملهمين المخاطبين لأبي بكر الصديق كخضوع من رأى غيره من مشاركيه في فنه أكمل منه كخضوع الأخفش لسيبويه وزفر لأبي حنيفة وابن وهب لمالك ونحو ذلك أو خضوع فقهاء المدينة لسعيد بن المسيب وعلماء البصرة للحسن البصري وفقهاء مكة لعطاء بن أبي رباح

وإذا كان هذا مثل عمر مع أبي بكر لأن أبا بكر الصديق يأخذ ما يأخذه عن الرسول المعصوم عليه الصلاة والسلام الذي قد عصم أن يستقر فيما جاء به خطأ فهو لخبرته بحال صديق النبي بهذه المثابة وكل من كان عالما بالصحابة يعلم أن عمر رضي الله تعالى عنه كان متأدبا معظما بقلبه لأبي بكر رضي الله عنه مشاهدا أنه أعلى منه إيمانا ويقينا فكيف يكون حال عمر وغيره مع النبي

وإذا كان هذا حال أفضل المحدثين المخاطبين فكيف حال سائرهم ولا ريب أن الرجل كلما عظمت ولايته وعظم نصيبه من انكشاف الحقائق له كان تعظيمه للنبوة أعظم والناس في هذه الطريق متفاوتون بحسب درجاتهم لكن طريق الصوفية لا ينهض بانكشاف جميع ما جاء به الرسول بل ولا بأكثره بل عامة ما يخبر به الرسول لا يمكن أبو بكر وعمر فضلا عن غيرهما أن يعلمه بدون خبره وإن كان عند المخبرين علم بجمل ذلك أو أصله لكن ما يخبر به من التفصيل لا يعلم بدون خبره أصلا وما يوجد في كلام أبي حامد وغيره من أن الكشف يحصل ذلك وقول القائل أن الأولياء شاهدوا الحق في جميع ما ورد به الشرع ليس بسديد بل لا يزال الأولياء مع الأنبياء في إيمان بالغيب ولا يتصور أن الولي يعطى ما أعطيه النبي من المشاهدة والمخاطبة وأفضل الأولياء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ونحوهم

وليس في هؤلاء من شاهد ما شاهده النبي ليلة المعراج ولا شاهد الملائكة الذين كانوا ينزلون بالوحي على النبي ولا سمع أحد منهم كلام الله الذي كلم به نبيه ليلة المعراج ولا سمع عامة الأنبياء فضلا عن الأولياء كلام الله كما سمعه موسى بن عمران ولا كلم الله تكليما لداود وسليمان بل ولا إبراهيم ولا عيسى فضلا عن أن يكون ذلك يحصل لأحد من الأولياء والإيمان بكل ما جاء به الأنبياء واجب فإنهم معصومون ولا يجب الإيمان بكل ما يقوله الولي بل ولا يجوز فإنه ما من أحد من الناس إلا يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله ومن سب نبيا من الأنبياء قتل وكان كافرا مرتدا بخلاف الولي

قال تعالى قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون وقوله تعالى آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم

فإن قيل ففي قراءة ابن عباس ولا محدث قيل هذه القراءة ليست متواترة ولا معلومة الصحة ولا يجوز الاحتجاج بها في أصول الدين وإن كانت صحيحة فالمعنى أن المحدث كان فيمن كان قبلنا وكانوا يحتاجون إليه وكان ينسخ ما يلقيه الشيطان وإليه كذلك وأمة محمد لا تحتاج إلى غير محمد ولهذا كانت الأمم قبلنا لا يكفيهم نبي واحد بل يحيلهم هذا النبي في بعض الأمور على النبي الآخر وكانوا يحتاجون إلى عدد من الأنبياء ويحتاجون إلى المحدث وأمة محمد أغناهم الله بمحمد وعن غيره من الأنبياء والرسل فكيف لا يغنيهم عن المحدث ولهذا قال أنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر فعلق ذلك بأن ولا يجزم به لأنه علم استغناء أمته عن محدث كما استغنت عن غيره من الأنبياء سواء كان فيها محدث أولا أو كان ذلك لكمالها برسولها الذي هو أكمل الرسل وأجملهم وهؤلاء كبعض في أمته عن الأمم قبلهم

وقد وقع في كلام أبي حامد وغيره نحو من هذا في مواضع أخر حتى ذكر فيما يتأول وما لا يتأول أن ذلك لا يعلم إلا بتوفيق إلهي يشاهد به الحقائق على ما هي عليه ثم ينظر في السمع والألفاظ الواردة فيه فما وافق مشهوده أقره وما خالفه تأوله وذكر في موضع آخر أن الواحد من الأولياء قد يسمع كلام الله سبحانه كما سمعه موسى بن عمران وأمثال هذه الأمور ولهذا تبين له في آخر عمره إن طريق الصوفية لا تحصل مقصوده فطلب الهدى من طريق الآثار النبوية وأخذ يشتغل بالبخاري ومسلم ومات في أثناء ذلك على أحسن أحواله وكان كارها ما وقع في كتبه من نحو هذه الأمور مما أنكره الناس عليه حتى قال المازري وغيره ما معناه إن كلامه يؤثر في الإيمان بالنبوة فينقص قدرها أو نحو هذا وكذلك ما ذكره من أن النبوة انفتاح قوة أخرى فوق العقل ولا ريب أن هذا مما يكون للنبي وليست للنبوة قوة تدرك بها الأمور وإنما يشبه هذا أصول الفلاسفة الذين يزعمون أن الفيض دائم من العقل الفعال وإنما يحصل في القلوب بسبب استعداد الأشخاص فأي عبد كان استعداده أتم كان الفيض عليه أتم من غير أن يكون من الملأ الأعلى سبب يخص شخصا دون شخص بالخطاب والتكليم

وليس هذا مذهب المسلمين بل ولا اليهود ولا النصارى بل هؤلاء كلهم إلا من الحد منهم متفقون على أن الله سبحانه خصص موسى بالتكليم دون هارون وغيره وإنه يخص بالنبوة من يشاء من عباده لا أنه بمجرد استعداده يفيض عليه العلوم من غير تخصيص إلهي وهنا صار الناس ثلاثة أصناف صنف يقولون ليست النبوة إلا مجرد أنباء الله تعالى للعبد وهو تعلق كلامه كما يقولون أن الأحكام الشرعية ليست إلا مجرد خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين من غير أن يكون للفعل في نفسه صفة اقتضت تخصيصه بالحكم

وكذلك يقول هؤلاء ليس للنبي في نفسه صفة اقتضت تخصيصه بالنبوة وهذا يقوله طوائف من متكلمة أهل الإثبات القدريين أصحاب جهم وأبي الحسن وغيرهما الذين يخالفون المعتزلة والفلاسفة فيما يقولونه في فعل الرب وحكمه إذ المتفلسفة يقولون بالطبع والعلة الموجبة والمعتزلة يقولون بالاختيار المتضمن لشريعة عقلية ألزموه بها في التعديل والتجويز ونحو ذلك والمنتسبون إلى السنة والجماعة من الكلابية والأشعرية والكرامية وسائر المنتسبين إلى السنة والجماعة يردون عليهم الأصول التي فارقوا بها أهل السنة والجماعة بالتكذيب من القدر والصفات وتخليد أهل الكبائر كما يردون على المتفلسفة ما فارقوا به المسلمين لكن لهؤلاء في مسائل الحكمة والمصالح وتعليل الأفعال والأحكام وهل للأفعال صفات يدرك بها حسنها وقبحها نزاع ليس هذا موضع تفصيله وإنما نذكره مجملا

ومعلوم أن الإنباء والإرسال من باب كلام الله تعالى وكذلك الأمر والنهي هو من باب كلام الله تعالى والأمر متعلق بالفعل والإرسال والإنباء متعلق بالرسول والنبي وللناس في هذا وهذا ثلاثة أقوال

أحدها أنه ليس ذلك إلا مجرد كلام الله المتعلق بذلك أو تعلق الخطاب بذلك وهو من الصفات النسبية الإضافية عندهم قالوا لأنه ليس لمتعلق القول من القول صفة ثبوتية وهذا قول هؤلاء

والقول الثاني إن ذلك يعود إلى صفة قائمة بالنبي وبالفعل

والقول الثالث إن ذلك يتضمن الأمرين فالحكم الشرعي يتضمن خطاب الشارع وصفة قائمة بالفعل والنبوة تتضمن خطاب الرب لتضمن صفة قائمة بالنبي أيضا وهذا معنى قول السلف والأئمة وجمهور المسلمين والفلاسفة والمعتزلة أيضا يثبتون أيضا فيه حسن الفعل وقبحه إلى صفة فيه توجب الحمد والذم وخطاب الشارع كاشف لها لا مثبت لها والمتفلسفة عندهم يعود ذلك إلى صفة في الفعل توجب كمال النفس أو نقصها ولذلك يقولون إن النبوة هي كمال للنفس الناطقة تستعد به لأن تفيض عليها المعارف من العقل الفعال من غير أن يكون هناك خطاب حقيقي لله تعالى ولكن كلام الله سبحانه عندهم هو ما يحدث في نفس النبي من أصوات يسمعها في نفسه لا خارجا عن نفسه والملائكة عبارة عن أشعال نورانية يراها تكون في نفسه لا خارجا عن نفسه كما يرى النائم في منامه صورا يخاطبها وكلاما يسمعه وذلك في نفسه ولهذا جعل أبو حامد هذا طريقا لهم إلى إثبات النبوة كما سلك ابن سينا وغيره ولا ريب أن كل ما يقربه من مقر من الحق فإن أهل الإيمان يقرون به لكن يعلمون أشياء فوق ذلك لا يعلمها أهل الباطل فما علمته المتفلسفة من هذه الأمور لا ينكرها أهل الإيمان لكن ينكرون عليهم اقتصارهم في التصديق عليها

وقد بسطت الكلام على هذه المسألة في جواب المسألة الخراسانية التي سئلت فيها عن ما يتعلق بالقرآن العظيم وكلام الله سبحانه وتعالى وذكرت مراتب تكليم الله تعالى لخلقه وأنها درجات وأن المتفلسفة أقروا ببعض الدرجات دون بعض بل لعلهم لم يتجاوزوا أدنى الدرجات وهي درجات الإلهام وما يناسبه وما أعطوا هذه الدرجة حقها وأما المعتزلة فهم خير منهم فإنهم يقرون بما أخبر به القرآن من أصناف الملائكة وأوصافهم لكنهم مع هذا لا يقرون بأن لله كلاما قائما به فحقيقة مذهبهم أن الله سبحانه لا يتكلم إنما يخلق كلامه في غيره ولما ابتدعت الجهمية هذه المقالة كانوا يقولون إن الله تعالى لا يتكلم أو يتكلم مجازا

لكن المعتزلة امتنعت من هذا الإطلاق وقالوا إنه متكلم أو يتكلم حقيقة لكنهم فسروا ذلك بأن خلق كلاما في غيره فلم ينازعوا قدماء الجهمية في حقيقة المذهب وإنما نازعوهم في اللفظ

والسلف والأئمة لما عرفوا حقيقة مذهبهم عرفوا أن هذا كفر وأن هذا في الحقيقة تعطيل للرسالة وأنه يمتنع أن يكون متكلم بكلام لا يقوم به بل بغيره كما يمتنع أن يكون عالما بعلم لا يقوم به بل بغيره وأن يكون قادرا بقدرة لا تقوم به بل بغيره وإنه لو كان كذلك لكان ما يخلقه من الكلام في مخلوقاته كلاما له

وقد قال تعالى وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وقال عز وجل اليوم نختم أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون بل لما ثبت أن الله خالق كل شيء فيجب أن يكون على قولهم كل كلام في الوجود كلامه وقد أفصح بذلك الاتحادية الذين يقولون الوجود واحد كابن عربي صاحب الفصوص ونحوه وقالوا

وكل كلام في الوجود كلامه... سواء علينا نثره ونظامه

ومذهبهم منتهى مذهب الجهمية وهو في الحقيقة تعطيل الخالق والقول بأن هذا الوجود هو الوجود الواجب كما ذكر ذلك أبو حامد عن دهرية الفلاسفة فإن قول هؤلاء هو قول أولئك وهو قول فرعون الذي أظهره لكن فرعون وغيره من الدهرية لا يقولون هذا الوجود هو الله وهؤلاء بجهلهم يقولون إن الوجود هو الله وقد أضلوا طوائف من الشيوخ الذين لهم عبادة وزهادة حتى أنه كان ببيت المقدس رجل من أعبد الناس وأزهدهم وكان طوال ليله يقول الوجود واحد وهو الله ولا أرى الواحد ولا أرى الله وهؤلاء سلكوا في كثير من أصولهم ما ذكره أبو حامد وبنوا على ما في كتابه المضنون به وغيره من أصول الفلاسفة المكسوة عبادة الصوفية فالأمور التي أنكرها عليه علماء المسلمين ما عليها هؤلاء حتى جعل ابن سبعين الناس خمس طبقات أدناها الفقيه ثم المتكلم الأشعري ثم الفيلسوف ثم الصوفي ثم الخامس هو المحقق وهؤلاء يجعلون ما أشار إليه أبو حامد من الكشف هو ما حصل لهم وإنه لتعبده بالشريعة لم يصل إلى القول بوحدة الوجود وهم ينتقصونه بما يحمده عليه المسلمون من الأقوال التي اعتصم فيها بالكتاب والسنة وبالأقوال التي يعلم صحتها بصريح العقل ويرون أن ذلك هو الذي حجبه عن أن يشهد حقيتهم التي هي وحدة الوجود وإنما طمعوا فيه هذا الطمع لما وجدوه في الكلام المضاف إليه مما يوافق أصول الجهمية المتفلسفة ونحوهم

والمقصود هنا أن المعتزلة خير من المتفلسفة حيث يثبتون لله كلاما منفصلا ويقولون أن الرسالة والنبوة تتضمن نزول كلام الله تعالى منفصل عن النبي ينزل عليه كما يقول ذلك سائر المسلمين ثم قد يقول من يقول من المعتزلة أن النبوة جزاء على عمل متقدم وإن النبي لما قام بواجبات عقلية أكرمه الله تعالى عليها بالنبوة مع كون النبي متميزا بصفات خصه الله تعالى بها وهذا القول موافق في الجملة قول أكثر الناس وهو أن النبوة والرسالة تتضمن كلام الله سبحانه الذي ينزل على رسوله ونبيه وإنه مع ذلك مختص بصفات اختصه الله تعالى بها دون غيره من الأنبياء وأنه لا يكون النبي والرسول كسائر الناس في العقل والخلق وغير ذلك بل هو متميز عن الناس بذلك والنبوة فضل الله يؤتيه من يشاء لكن مع ذلك الله أعلم حيث يجعل رسالته

وما ذكره أبو حامد فيه من تقرير النبوة في الجملة على الأصول التي يسلمها المتفلسفة ويعرفونها ما ينتفع به من كان متفلسفا محضا فإن ذلك يوجب أن يدخل في الإسلام نوع دخول وكلام أبي حامد في هذا ونحوه يصلح أن يكون برزخا بين المتفلسفة وبين أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى فالمتفلسفة تنتفع به حيث يصير عندهم من الإيمان والعلم مالا يحصل لهم بمجرد الفلسفة

وأما من كان مسلما يريد أن يستكمل العلم والإيمان فإن ذلك يضره من وجه ويرده عن كثير من كمال الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر وإن كان ينفعه من حيث يحول بينه وبين الفلسفة المحضة إلا أن يكون حسن الظن بالفلسفة دون أصول الإسلام فإنه يخرجه إلى الإلحاد المحض كما أصاب ابن عربي الطائي وابن سبعين وأمثالهما وقد أخبر هو بما حصل له من السفسطة وإنه انحصرت فرق الطالبين عنده في أربع فرق المتكلمين والباطنية والفلاسفة والصوفية

ومعلوم أن هذه الفرق كلها حادثة بعد عصر الصحابة بل وبعد عصر التابعين بل إنما ظهرت وانتشرت بعد القرون الثلاثة الصحابة والتابعين وتابعيهم ثم الفلاسفة والباطنية هم كفار كفرهم ظاهر عند المسلمين كما ذكر هو وغيره وكفرهم ظاهر عند أقل من له علم وإيمان من المسلمين إذا عرفوا حقيقة قولهم لكن لا يعرف كفرهم من لم يعرف حقيقة قولهم وقد يكون قد تشبث ببعض أقوالهم من لم يعلم أنه كفر فيكون معذورا لجهلة ولكن في المتكلمين والصوفية ممن له علم وإيمان طوائف كثيرون بل في من بعد من الصوفية مثل الفضيل بن عياض وابي سليمان الداراني وإبراهيم بن أدهم ومعروف الكرخي وأمثالهم ممن هو خيار المسلمين وساداتهم عند المسلمين وفي عصرهم حدث اسم الصوفية وظهر الكلام أيضا

وكلام السلف والأئمة في ذم البدع الكلامية في العلم والبدع المحدثة في طريقة الزهد والعبادة مشهور كثير مستفيض ولم يتنازع أهل العلم والإيمان فيما استعاض عن النبي من قوله خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم وكل من له لسان صدق من مشهور بعلم أو دين معترف بأن خير هذه الأمة هم الصحابة وأن المتبع لهم أفضل من غير المتبع لهم ولم يكن في زمنهم أحد من هذه الصنوف الأربعة ولا تجد إماما في العلم والدين كمالك والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوايه ومثل الفضيل وأبي سليمان ومعروف الكرخي وأمثالهم إلا وهم مصرحون بأن أفضل علمهم ما كانوا فيه مقتدين بعلم الصحابة وأفضل عملهم ما كانوا فيه مقتدين بعمل الصحابة وهم يرون أن الصحابة فوقهم في جميع أبواب الفضائل والمناقب والذين اتبعوهم من أهل الآثار النبوية وهم أهل الحديث والسنة العالمون بطريقهم المتبعون لها وهم أهل العلم بالكتاب والسنة في كل عصر ومصر

فهؤلاء الذين هم أفضل الخلق من الأولين والآخرين لم يذكرهم أبو حامد وذلك لأن هؤلاء لا يعرف طريقهم إلا من كان خبيرا بمعاني القرآن خبيرا بسنة رسول الله خبيرا بآثار الصحابة فقيها في ذلك عاملا بذلك وهؤلاء هم أفضل الخلق من المنتسبين إلى العلم والعبادة وأبو حامد لم ينشأ بين من كان يعرف طريقة هؤلاء ولا تلقى عن هذه الطبقة ولا كان خبيرا بطريقة الصحابة والتابعين بل كان يقول عن نفسه أنا مزجى البضاعة في الحديث ولهذا يوجد في كتبه من الأحاديث الموضوعة والحكايات الموضوعة ما لا يعتمد عليه من له علم بالآثار ولكن نفعه الله تعالى بما وجده في كتب الصوفية والفقهاء من ذلك وبما وجد في كتب أبي طالب ورسالة القشيري وغير ذلك وبما وجده في كتب أصحاب الشافعي ونحو ذلك فخيار ما يأتي به ما يأخذ من هؤلاء وهؤلاء

ومعلوم أن طريقة أئمة الصوفية وأئمة الفقهاء أكمل من طريقة أبي القاسم القشيري ومن طريقة أبي طالب والحارث ومن طريقة أبي المعالي وأمثاله وأولئك الأئمة كانوا أعلم بطريقة الصحابة وأتبع لها من أتباعهم فالقاضي أبو بكر الباقلاني وأمثاله أعلم بالأصول والسنة وأتبع لها من أبي المعالي وأمثاله

والأشعري والقلانسي ونحوهما أعلى طبقة في ذلك من القاضي أبي بكر وعبد الله بن سعيد بن كلاب والحارث المحاسبي أعلى طبقة في ذلك من هؤلاء ومالك والأوزاعي وحماد بن زيد والليث بن سعد وأمثالهم أعلى طبقة من هؤلاء والتابوعو أعلى من هؤلاء والصحابة أعلى من التابعين

وكذلك أبو طالب المكي يأخذ عن شيخه ابن سالم وابن سالم يأخذ عن سهل بن عبد الله التستري وسهل أعلى درجة عند الناس من أبي طالب ثم الفضل وأبو سليمان وأمثالهما أعلى درجة من سهل وأمثاله وأيوب السختياني وعبد الله بن عون ويونس بن عبيد وغيرهم من أصحاب الحسن أعلى طبقة من هؤلاء وأويس القرني وعامر بن عبد قيس وأبو مسلم الخولاني وأمثالهم أعلى طبقة من هؤلاء وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي وأبو الدرداء وامثالهم أعلى طبقة من هؤلاء

ومعلوم إن كل من سلك إلى الله جل وعز علما وعملا بطريق ليست مشروعة موافقة للكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها فلابد أن يقع في بدعة قولية أو عملية فإن السائر إذا سار على غير الطريق المهيع فلابد أن يسلك بينات الطريق وإن كان ما ما يفعله الرجل من ذلك قد يكون مجتهدا فيه مخطئا مغفورا له خطؤه وقد يكون ذنبا وقد فسقا وقد يكون كفرا بخلاف الطريقة المشروعة في العلم والعمل فإنها أقوم الطرق ليس فيها عوج كما قال تعالى إن هذا القرآن يهدي للتي هى أقوم وقال عبد الله بن مسعود خط رسول الله خطا وخط خطوطا عن يمينه ومشماله ثم قال هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله وقال الزهري كان من مضى من علمائنا يقولون الاعتصام بالسنة نجاة ولهذا قيل مثل السنة مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهو يروي عن مالك ومن سلك الطريق الشرعية النبوية لم يحتج في إثباتها إلى أن يشك في إيمانه الذي كان عليه قبل البلوغ ثم يحدث نظرا يعلم به وجود الصانع ولم يحتج إلى أن يبقى شاكا مرتابا في كل شيء وإنما كان مثل هذا يعرض لمثل الجهم بن صفوان وأمثاله فإنهم ذكروا أنه بقي أربعين يوما لا يصلي حتى يثبت إنه له ربا يعبده فهذه الحالة كثيرا ما تعرض للجهيمة وأهل الكلام الذين ذمهم السلف والائمة وأما المؤمن المحض فيعرض له الوسواس فتعرض له الشكوك والشبهات وهو يدفعها عن قلبه فإن هذا لا بد منه كما ثبت في الصحيح إن الصحابة قالوا يا رسول الله أن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة أو يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به فقال أفقد وجدتموه قالوا نعم قال ذلك صريح الإيمان وفي السنن من وجه آخر أنهم قالوا إن أحدنا ليجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به فقال الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة قال غير واحد من العلماء معناه أن ما تجدونه في قلوبكم من كراهة الوساوس والنفرة عنه وبغضه ودفعه هو صريح الإيمان

وهذا من الزبد الذي قال الله تعالى فيه فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال وهذا مذكور في غير هذا الوضع وكلام السلف والأئمة فيما أحدث من الكلام وما أحدث من الزهد مبسوط في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أن يعرف مراتب الناس في العلم بالنبوة ومعرفة قدرها وتعدد الطرق في ذلك وإن عامة الطرق التي سلكها الناس في ذلك هي طرق مفيدة نافعة لكن تختلف مقادير فوائدها ومنافعها وفيها ما يضر من وجه كما ينفع من وجه وفيها ما ينتفع به من كان عديم الإيمان أو ضعيف الإيمان فيحصل به له بعض الإيمان أو يقوي إيمانه وإن كان ذلك يضر من كان قوي الإيمان ويكون رجوعه إليه ردة في حقه بمنزلة من كان معتصما بحبل قوي وعروة وثقى لا انقصام لها فاعتاض عن ذلك بحبل ضعيف يكاد ينقطع به وهذا باب يطول وصف حال الناس فيه

وأما ما ذكره أبو حامد من أن هذه الطريقة التي سلكها تفيد العلم الضروري بالنبوة دون طريقة المعجزات فالإنسان خبير بما حصل له من العلم الضروري وغيره وليس هو خبير بما حصل لغيره من ذلك وكثير من أهل النظر والكلام يقولون نقيض هذا يقولون لا يحصل العلم بالنبوة إلا بطريقة المعجزات دون غيرها كما قال ذلك أكثر أهل الكلام ومن اتبعهم كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي والمازري وأمثال هؤلاء والتحقيق ما عليه أكثر الناس أن العلم بالنبوة يحصل بطرق متعددة المعجزات وغير المعجزات ويحصل له العلم الضروري بها كما ذكره أبو حامد بل يحصل له العلم الضروري بالنبوة على الجمل كما ذكره وعامة من حصر العلم بهذا أو غيره في طريق معينة وزعم أنه لا يحصل بغيرها فإنه يكون مخطئا وهذا كثير ما سلكه كثير من أهل الكلام في إثبات العلم بالصانع أو إثبات حدوث العالم أو إثبات التوحيد أو العلم بالنبوة أو غير ذلك يسلك أحدهم طريقا يزعم أنه لا يحصل العلم إلا به وقد يكون طريقا فاسدا وربما قدح خصوصه في طريقه الصحيحة وادعوا أنها فاسدة

وكثيرا ما يكون سبب العلم الحاصل في القلب غير الحجة الجدلية التي يناظر بها غيره فإن الإنسان يحصل له العلم بكثير من المعلومات بطريق وأسباب قد لا يستحضرها ولا يحصيها ولو استحضرها لا توافقه عبارته على بيانها ومع هذا فإذا طلب منه بيان الدليل الدال على ذلك قد لا يعلم دليلا يدل به غيره إذا لم يكن ذلك الغير شاركه في سبب العلم وقد لا يمكنه التعبير عن الدليل إن تصوره فالدليل الذي يعلم به المناظر شيء والحجة التي يحتج بها المناظر شيء آخر وكثيرا ما يتفقان كما يفترقان

وليس هذا موضع بسط ذلك وإنما المقصود التنبيه على تعدد طرق العلم بالنبوة وغيرها وكلام الناس في هذا الباب ونحوه على درجات متفاوتة فيحمد كلام الرجل بالنسبة إلى من دونه وإن كان مذموما بالنسبة إلى من فوقه

إذ الإيمان يتفاضل وكل له من الإيمان بقدر ما حصل له منه

ولهذا كان أبو حامد مع ما يوجد في كلامه من الرد على الفلاسفة وتكفيره لهم وتعظيم النبوة وغير ذلك ومع ما يوجد فيه أشياء صحيحة حسنة بل عظيمة القدر نافعة يوجد في بعض كلامه مادة فلسفية وأمور أضيفت إليه توافق أصول الفلاسفة الفاسدة المخالفة للنبوة بل المخالفة لصريح العقل حتى تكلم فيه جماعات من علماء خراسان والعراق والمغرب كرفيقه أبي إسحاق المرغيناني وأبي الوفاء بن عقيل والقشيري والطرطوشي وابن رشد والمازري وجماعات من الأولين حتى ذكر ذلك الشيخ أبو عمرو بن الصلاح فيما جمعه من طبقات أصحاب الشافعي وقرره الشيخ أبو زكريا النووي قال في هذا الكتاب فصل في بيان أشياء مهمة أنكرت على الإمام الغزالي في مصنفاته ولم يرتضيها أهل مذهبه وغيرهم من الشذوذ في تصرفاته

منها قوله في مقدمة المنطق في أول المستصفي

هذه مقدمة العلوم كلها ومن لا يحيط فلا ثقة له بعلومه أصلا قال الشيخ أبو عمرو وسمعت الشيخ العماد بن يونس يحكي عن يوسف الدمشقي مدرس النظامية ببغداد وكان من النظار المعروفين إنه كان ينكر هذا الكلام ويقول فأبو بكر وعمر وفلان وفلان يعني أن أولئك السادة عظمت حظوظهم من الثلج واليقين ولم يحيطوا بهذه المقدمة وأسبابها قال الشيخ أبو عمرو قد ذكرت بهذا ما حكى صاحب كتاب الإمتاع والمؤانسة يعني أبا حيان التوحيدي أن الوزير ابن الفرات احتفل مجلسه ببغداد بأصناف من الفضلاء من المتكلمين وغيرهم وفي المجلس متى الفيسلوف النصراني فقال الوزير أريد أن ينتدب منكم إنسان لمناظرة متي في قوله إنه لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل والحجة من الشبهة والشك من اليقين إلا بما حويناه من المنطق واستفدناه من واضعه على مراتبه فانتدب له أبو سعيد السيرافي وكان فاضلا في علوم غير النجوم وكلمه في ذلك حتى أفحمه وفضحه قال أبو محمد وليس هذا موضع التطويل بذكره

قال الشيخ أبو عمرو وغير خائف استغناء العقلاء والعلماء قبل واضع المنطق أرسطاطاليس وبعده مع معارفهم الجمة عن تعلم المنطق وإنما المنطق عندهم بزعمهم آلة قانونية صناعية تعصم الذهن من الخطأ وكل ذي ذهن صحيح منطقي بالطبع قال فكيف غفل الغزالي عن حال شيخه إمام الحرمين ومن قبله من كل إمام هو له مقدم ولمحله في تحقيق الحقائق رافع ومعظم ثم لم يرفع أحد منهم بالمنطق رأسا ولا بنى عليه في شيء من تصرفاته أسا.

ولقد أتى بخلطة المنطق بأصول الفقه بدعة عظم شؤمها على المتفقهة حتى كثر فيهم بعد ذلك المتفلسفة والله المستعان قال ولأبي عبد الله المازري الفقيه المتكلم الأصولي وكان إماما محققا بارعا في مذهبي مالك والأشعري وله تصانيف في فنون منها شرح الأرشاد والبرهان لإمام الحرمين رسالة يذكر فيها حال الغزالي وحال كتابه الإحياء أصدرها في حال حيدة الغزالي جوابا لما كوتب به من الغرب والشرق في سؤاله عن ذلك عند اختلافهم في ذلك فذكر فيها ما اختصاره أن الغزالي كان قد خاض في علوم وصنف فيها واشتهر بالإمامة في إقليمه حتى تضاءل له المنازعون واستبحر في الفقه وفي وأصول الفقه وهو بالفقه أعرف

وأما أصول الدين فليس بالمستبحر فيها شغله عن ذلك قراءته علوم الفلسفة وأكسبته قراءة الفلسفة جراءة على المعاني وتسهيلا للهجوم على الحقائق لأن الفلاسفة تمر مع خواطرها وليس لها شرع يزعها ولا تخاف من مخالفة أئمة تتبعها فلذلك خامره ضرب من الأدلال على المعاني فاسترسل فيها استرسال من لا يبالي بغيره قال وقد عرفني بعض أصحابه أنه كان له عكوف على قراءة رسائل إخوان الصفا وهذه الرسائل هي إحدى وخمسون كل رسالة مستقلة بنفسها وقد ظن في مؤلفها ظنون وفي الجملة هو يعني واضع الرسائل رجل فيسلوف قد خاض في علوم الشرع فمزج ما بين العلمين وحسن الفلسفة في قلوب أهل الشرع بآيات وأحاديث يذكرها عندها

ثم أنه كان في هذا الزمان المتأخر فيلسوف يعرف بأبن سينا ملأ الدنيا تأليف في علوم الفلسفة وكان ينتمي إلى الشرع ويتحلى بحلية المسلمين وأدته قوته في علم الفلسفة إلى أن تلطف جهده في رد أصول العقائد إلى علم الفلسفة وتم له من ذلك ما لم يتم لغيره من الفلاسفة قال ووجدت هذا الغزالي يعول عليه في أكثر ما يشير إليه في علوم الفلسفة حتى إنه في بعض الأحايين ينقل نص كلامه من غير تغيير وأحيانا يغيره وينقله إلى الشرعيات أكثر مما نقل ابن سينا لكونه أعلم بأسرار الشرع منه فعلى ابن سينا ومؤلف رسائل إخوان الصفا عول الغزالي في علم الفلسفة قال وأما مذهب المتصوفة فلست أدري على من عول فيها ولا من ينتسب إليه في علمها قال وعندي إنه على أبي حيان التوحيدي الصوفي عول على مذاهب الصوفية

وقد علمت أن أبا حيان هذا ألف ديوانا عظيما في هذا الفن ولم يصل إلينا منه شيء ثم ذكر أن في الإحياء فتاوى مبناها على ما لا حقيقة له مثل ما استحسن في قص الأظافر أن يبدأ بالسبابة لأن لها الفضل على بقية الأصابع لكونها المسبحة ثم بالوسطى لأنها ناحية اليمين ثم باليسرى على هيئة دائرة وكأن الأصابع عنده دائرة فإذا أدار أصابعه مر عليها مرور الدائرة ثم يختم بإبهام اليمنى هكذا حدثني به من أثق به عن الكتاب قال فانظر إلى هذا كيف أفاد قراء الهندسة وعلم الدوائر وأحكامها أن نقله إلى الشرع فأفتى به المسلمين قال وحمل إلى بعض الأصحاب من هذا الإملاء الجزء الأول فوجدته يذكر فيه إن من مات بعد بلوغه ولم يعلم أن الباري قديم مات مسلما إجماعا ومن تساهل في حكاية الإجماع في مثله هذا الذي الأقرب أن يكون فيه الإجماع بعكس ما قال فحقيق أن لا يوثق بكل ما ينقل وإن يظن به التساهل في رواية ما لم يثبت عنده صحته قال ثم تكلم المازري في محاسن الإحياء ومذامه ومنافعه ومضاره بكلام طويل ختمه بأن من لم يكن عنده من البسطة في العلم ما يعتصم به من وغوائل هذا الكتاب فإن قراءته لا تجوز له وإن كان فيه ما ينتفع به

ومن كان عنده من العلم ما يأمن به على نفسه من غوائل هذا الكتاب ويعلم ما فيه من الرموز فيجتنب مقتضى ظواهرها ويكل أمر مؤلفها إلى الله تعالى وإن كان كلها تقبل التأويل فقراءته له سائغة به اللهم إلا أن يكون قارؤه ممن يقتدي به ويغتر به فإنه ينهى عن قراءته وعن مدحه والثناء عليه قال ولولا أن علمنا أن إملاءنا هذا إنما يقرؤه الخاصة ومن عنده علم يأمن به على نفسه لم نتبع محاسن هذا الكتاب بالثناء ولم نتعرض لذكرها ولكنا نحن أمنا من التغرير ولئلا يظن أيضا من يتعصب للرجل إنا جانبنا الإنصاف في الكلام على كتابه ويكون اعتقاده هذا فينا سببا لئلا يقبل نصيحتنا قال الشيخ أبو عمرو وهذا آخر ما نقلناه عن المازري قلت ما ذكره المازري في مادة أبي حامد من الصوفية فهو كما قال المازري عن نفسه لم يدر على من عول فيها ولم يكن للمازري من الاعتناء بكتب الصوفية وأخبارهم ومذاهبهم ماله من الاعتناء بطريقة الكلام وما يتبعه من الفلسفة ونحوها

فلذلك لم يعرف ذلك ولم تكن مادة أبي حامد من كلام أبي حيان التوحيدي وحده بل ولا غالب كلامه منه فإن أبا حيان تغلب عليه الخطابة والفصاحة وهو مركب من فنون أدبية وفلسفية وكلامية وغير ذلك وإن كان قد شهد عليه بالزندقة غير واحد وقرنوه بابن الراوندي كما ذكر ذلك ابن عقيل وغيره وإنما كان غالب استمداد أبي حامد من كتاب أبي طالب المكي الذي سماه قوت القلوب ومن كتب الحارث المحاسبي وغيرها ومن رسالة القشيري ومن منثورات وصلت إليه من كلام المشايخ وما نقله في الإحياء عن الأئمة في ذم الكلام فإنه من كتاب أبي عمر ابن عبد البر في فضل العلم وأهله وما نقله من الأدعية والأذكار ونقله من كتاب الذكر لابن خزيمة ولهذا كانت أحاديث هذا الباب جيدة وقد جالس من اتفق له من مشايخ الطرق لكنه يأخذ من كلام الصوفية في الغالب ما يتعلق بالأعمال والأخلاق والزهد والرياضة والعبادة وهي التي يسميها علوم المعاملة

وأما التي يسميها علوم المكاشفة ويرمز إليها في الإحياء وغيره ففيها يستمد من كلام المتفلسفة وغيرهم كما في مشكاة الانوار والمضنون به على غير أهله وغير ذلك وبسبب خلطه التصوف بالفلسفة كما خلط الأصول بالفلسفة صار ينسب إلى التصوف من ليس هو موافقا للمشائخ المقبولين الذين لهم في الأمة لسان صدق رضي الله تعالى عنهم بل يكون مباينا لهم في أصول الإيمان كالإيمان بالتوحيد والرسالة واليوم الآخر ويجعلون هذه مذاهب الصوفية كما يذكر ذلك ابن الطفيل صاحب رسالة حي بن يقظان وأبو الوليد ابن رشد الحفيد وصاحب خلع العلم وابن العربي صاحب الفتوحات وفصوص الحكم وابن سبعين وأمثال هؤلاء ممن يتظاهر بمذاهب مشايخ الصوفية وأهل الطريق وهو في التحقيق منافق زنديق ينتهي إلى القول بالحلول والاتحاد واتباع القرامطة أهل الإلحاد ومذهب الإباحية الدافعين للأمر والنهي والوعد والوعيد ملاحظين لحقيقة القدر التي لا يفرق فيها بين الأنبياء والمرسلين وبين كل جبار عنيد وقائلين مع ذلك بنوع من الحقائق البدعية غير عارفين بالحقائق الدينية الشرعية ولا سالكين مسلك أولياء الله الذين هم بعد الأنبياء خير البرية فهم في نهاية تحققيهم يسقطون الأمر والنهي والطاعة والعبادة مشاقين للرسول متبعين غير سبيل المؤمنين ويفارقون سبيل أولياء الله المتقين إلى سبيل أولياء الشياطين ثم يقولون بالحلول والاتحاد وهو غاية الكفر ونهاية الإلحاد ولهذا في كلام العارفين كأبي القاسم الجنيد وأمثاله من بيان أن التوحيد هو إفراد الحدوث عن القدم ونحو ذلك ومن بيان وجوب اتباع الأمر والنهي ولزوم العبادة إلى الموت ما يبين به أن أولئك السادة المهتدين حذروا من طريق هؤلاء الملحدين ولهذا نجد هؤلاء كابن عربي وابن سبعين وأمثالهما يردون على مثل الجنيد وأمثاله من أئمة المشايخ ويدعون أنهم ظفروا في التحقيق بنهاية الرسوخ وإنما ظفروا بتحقيق الإلحاد والدخول في الحلول والاتحاد وما زال شيوخ الصوفية المؤمنون يحذرون من مثل هؤلاء الملبسين كما حذر أئمة الفقهاء من سبيل أهل البدعة والنفاق من أهل الفلسفة والكلام ونحوهم حتى ذكر ذلك أبو نعيم الحافظ في أول حلية الأولياء وأبو القاسم القشيري في رسالته دع من هو أجل منهما وأعلم منهما بطريق الصوفية وأقل غلطا وأبعد عن الاعتماد على المنقولات الضعيفة والمنقولات المبتدعة قال أبو نعيم في أول الحلية:

أما بعد أحسن الله تعالى توفيقك فقد استعنت بالله عز وجل وأجبتك إلى ما أبغيت من جمع كتاب يتضمن أسامي جماعة وبعض أحاديثهم وكلامهم من أعلام المحققين من المتصوفة وأئمتهم وترتيب طبقاتهم من النساك ومحجتهم من قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم من بعدهم ممن عرف الأدلة والحقائق وباشر الأحوال والطرائق وساكن الرياض والحدائق وفارق العوارض والعلائق وتبرأ من المنقطعين والمتعمقين ومن أهل الدعاوى من المسوفين ومن الكسالى والمثبطين المتشبهين بهم في اللباس والمقال والمخالفين لهم في العقيدة وانفعال وذلك لما بلغك من بسط ألسنتنا وألسنة أهل الفقه والأثر في كل الأقطار والأمصار في المنتسبين إليهم من الفسقة الفجار والمباحية والحلولية الكفار وليس ما حل بالكذبة من الوقيعة والإنكار بقادح في منقبة البررة الأخيار وواضع من درجة الصفوة الأطهار بل في إظهار البراءة من الكذابين والنكير على الحشوية البطالين نزاهة الصادقين ورفعة المحققين

ولم لم ينكشف عن مخازي المبطلين ومساويهم ديانة للزمنا إبانتها وإشاعتها حمية وصيانة إذ لأسلافنا في التصوف العلم المنشور والصيت والذكر المشهور فقد كان جدي محمد بن يوسف رحمه الله تعالى أحد من يسر الله تعالى به ذكر بعض المنقطعين إليه وكيف يستجيز نقيصة أولياء الله تعالى ومؤذيهم مؤذن بمحاربة ربه ثم أسند حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري في صحيحه عن النبي أنه قال إن الله تعالى قال من آذى لي وليا وفي الرواية الأخرى من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه

قلت قد ذم أهل العلم والإيمان من أئمة العلم والدين من جميع الطوائف من خرج عما جاء به الرسول في الأقوال والأعمال باطنا أو ظاهرا ومدحهم هو لمن وافق ما جاء به الرسول ومن كان موافقا من وجه ومخالفا من وجه كالعاصي الذي يعلم أنه عاص فهو ممدوح من جهة موافقته مذموم من جهة مخالفته

وهذا مذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة ومن سلك سبيلهم في مسائل الأسماء والأحكام والخلاف فيها أول خلاف حدث في مسائل الأصول حيث كفرت الخوارج بالذنب وجعلوا صاحب الكبيرة كافرا مخلدا في النار ووافقتهم المعتزلة على زوال جميع أيمانه وإسلامه وعلى خلوده في النار لكن نازعوهم في الاسم فلم يسموه كافرا بل قالوا هو فاسق لا مؤمن ولا مسلم ولا كافر ننزله منزلة بين المنزلتين فهم وإن كانوا في الاسم إلى السنة أقرب فيهم في الحكم في الآخرة مع الخوارج

وأصل هؤلاء أنهم ظنوا أن الشخص الواحد لا يكون مستحقا للثواب والعقاب والوعد والوعيد والحمد والذم بل إما لهذا وإما لهذا فأحبطوا جميع حسناته بالكبيرة التي فعلها وقالوا الإيمان هو الطاعة فيزول بزوال بعض الطاعة ثم تنازعوا هل يخلفه الكفر على القولين ووافقتهم المرجئة والجهمية على أن الإيمان يزول كله ويزول شيء منه وأنه لا يتبعض ولا يتفاضل فلا يزيد ولا ينقص وقالوا إن إيمان الفساق كإيمان الأنبياء والمؤمنين لكن فقهاء المرجئة قالوا إنه الاعتقاد والقول وقالوا إنه لا بد من أن يدخل النار ومن فساق الملة من شاء الله تعالى كما قالت الجماعة فكان خلاف كثير من كلامهم للجماعة إنما هو في الاسم لا في الحكم وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وبينا الفرق بين دلالة الاسم مفردا ودلالته مقرونا بغيره كاسم الفقير والمسكين فإنه إذا أفرد أحدهما يتناول معنى الآخر كقوله تعالى للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله فإنه يدخل فيهم المساكين وقوله تعالى إطعام عشرة مساكين فإن يدخل فيهم الفقراء وأما إذا قرن بينهما كقوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين فهما صنفان وكذلك قوله تعالى يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر يدخل في المعروف كل واجب وفي المنكر كل قبيح والقبائح هي السيئات وهي المحظورات كالشرك والكذب والظلم والفواحش

فإذا قال إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وقال وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي فخص بعض أنواع المنكر بالذكر وعطف أحدهما على الآخر صارت دلالة اللفظ عليه نصا مقصودا بطريق المطابقة بعد أن كانت بطريق العموم والتضمن سواء قيل إنه داخل في اللفظ العام أيضا فيكون مذكورا مرتين أو قيل إنه باقترانه بالاسم العام تبين أنه لم يدخل في الاسم العام لتغيير الدلالة بالأفراد والتجرد والافتراق والاجتماع كما قدمنا وهكذا اسم الإيمان فإنه تارة يذكر مفردا مجردا لا يقرن بالعمل الواجب فيدخل فيه العمل الواجب تضمنا ولزوما وتارة يقرن بالعمل فيكون العمل حينئذ مذكورا بالمطابقة والنص ولفظ الإيمان يكون مسلوب الدلالة عليه حال الاقتران أو دالا عليه كما في قوله تعالى والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة وقوله سبحانه لموسى عليه السلام إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري وقوله تعالى اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة ونظائر ذلك كثيرة فالأعمال داخلة في الإيمان تضمنا ولزوما في مثل قول تعالى إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا

وفي مثل قوله سبحانه إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون وقوله عز وجل إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه

وأمثال ذلك من الكتاب والسنة ومن استقرأ ذلك علم أن الاسم الشرعي كالإيمان والصلاة والوضوء والصيام لا ينفيه الشارع عن شيء إلا لانتفاء ما هو واجب فيه لا لانتفاء ما هو مستحب فيه وأما قوله تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ونحو ذلك فالعمل مخصوص بالذكر إما توكيد وإما لأن الاقتران لا يغير دلالة الاسم فهذا موقف يزول فيه كثير من النزاع اللفظي في ذلك وأيضا فإن الإيمان يتنوع بتنوع ما أمر الله تعالى به العبد فحين بعث الرسول لم يكن الإيمان الواجب ولا الإقرار ولا العمل مثل الإيمان الواجب في آخر الدعوة فإنه لم يكن يجب إذ ذاك الإقرار بما أنزله الله تعالى بعد ذلك من الإيجاب والتحريم والخبر ولا العمل بموجب ذلك بل كان الإيمان الذي أوجبه الله تعالى يزيد شيئا فشيئا كما كان القرآن ينزل شيئا فشيئا والدين يظهر شيئا فشيئا حتى أنزل الله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا

وكذلك العبد أول ما يبلغه خطاب الرسول عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام إنما يجب عليه الشهادتان فإذا مات قبل أن يدخل عليه وقت صلاة لم يجب عليه غير الإقرار ومات مؤمنا كامل الإيمان الذي وجب عليه وإن كان إيمان غيره الذي دخلت عليه الأوقات أكمل منه فهذا إيمانه ناقص كنقص دين النساء حيث قال النبي إنكن ناقصات عقل ودين أما نقصان عقلكن فشهادة امرأتين بشهادة رجل واحد وأما نقصان دينكن فإن إحداكن إذا حاضت لم تصل ومعلوم أن الصلاة حينئذ ليست واجبة عليها وهذا نقص لا تلام عليه المرأة لكن من جعل كاملا كان أفضل منها بخلاف من نقص شيئا مما وجب عليه فصار النقص في الدين والإيمان نوعين نوعا لا يذم العبد عليه لكونه لم يجب عليه لعجزه عنه حسا أو شرعا وإما لكونه مستحبا ليس بواجب ونوعا يذم عليه وهو ترك الواجبات

فقول النبي لجارية معاوية بن الحكم السلمي لما قال لها أين الله قالت في السماء قال من أنا قالت أنت رسول الله قال أعتقها فإنها مؤمنة ليس فيه حجة على أن من وجبت عليه العبادات فتركها وارتكب المحظورات يستحق الاسم المطلق كما استحقته هذه التي لم يظهر منها بعد ترك مأمور ولا فعل محظور ومن عرف هذا تبين أن قول النبي لهذه إنها مؤمنة لا ينافي قوله لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن فإن ذلك نفى عنه الاسم لانتفاء بعض ما يجب عليه من ترك هذه الكبائر وتلك لم تترك واجبا تستحق بتركه أن تكون هكذا ويتبع هذا أن من آمن بما جاء به الرسل مجملا ثم بلغه مفصلا فأقر به مفصلا وعمل به كان قد زاد ما عنده من الدين والإيمان بحسب ذلك

ومن أذنب ثم تاب أو غفل ثم ذكر أو فرط ثم أقبل فإنه يزيد دينه وإيمانه بحسب ذلك كما قال من قال من الصحابة كعمير بن حبيب الخطمي وغيره الإيمان يزيد وينقص قيل له فما زيادته ونقصانه قال إذا حمدنا الله وذكرناه وسبحناه فذلك زيادة وإذا غفلنا ونسينا وأضعنا فذلك نقصانه فذكر زيادته بالطاعات وإن كانت مستحبة ونقصانه بما أضاعه من واجب وغيره وأيضا فإن تصديق القلب يتبعه عمل القلب فالقلب إذا صدق بما يستحقه الله تعالى من الألوهية وما يستحق الرسول من الرسالة تبع ذلك لا محالة محبة الله سبحانه ورسوله عليه الصلاة والسلام وتعظيم الله عز وجل ورسوله والطاعة لله ورسوله أمر لازم لهذا التصديق لا يفارقه إلا لعارض من كبر أو حسد أو نحو ذلك من الأمور التي توجب الاستكبار عن عبادة الله تعالى والبغض لرسوله عليه الصلاة والسلام ونحو ذلك من الأمور التي توجب الكفر ككفر إبليس وفرعون وقومه واليهود وكفار مكة وغير هؤلاء من المعاندين الجاحدين

ثم هؤلاء إذا لم يتبعوا التصديق بموجبه من عمل القلب واللسان وغير ذلك فإنه قد يطبع على قلوبهم حتى يزول عنها التصديق كما قال تعالى وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فما زاغوا أزاغ الله قلوبهم فهؤلاء كانوا عالمين فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وقال موسى لفرعون لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وقال تعالى وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب إلى قوله سبحانه كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار وقال تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية لؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم انها جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون

فبين سبحانه أن مجيء الآيات لا يوجب الإيمان بقوله تعالى وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم أي فتكون هذه الأمور الثلاثة أن لا يؤمنوا وأن نقلب أفئدتهم وأبصارهم وأن نذرهم في طغيانهم يعمهون أي وما يدريكم أن الآيات إذا جاءت تحصل هذه الأمور الثلاثة وبهذا المعنى تبين أن قراءة الفتح أحسن

وإن من قال أن المفتوحة بمعنى لعل فظن أن قوله ونقلب أفئدتهم كلام مبتدأ لم يفهم معنى الآية وإذا جعل ونقلب أفئدتهم داخلا في خبر أن تبين معنى الآية فإن كثيرا من الناس يؤمنون ولا تقلب قلوبهم لكن قد يحصل تقليب أفئدتهم وأبصارهم وقد لا يحصل أي فما يدريكم إنهم لا يؤمنون والمراد وما يشعركم إنها إذا جاءت لا يؤمنون بل نقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة والمعنى وما يدريكم أن الأمر بخلاف ما تظنونه من إيمانهم عند مجي الآيات ونذرهم في طغيانهم يعمهون فيعاقبون على ترك الإيمان أول مرة بعد وجوبه عليهم إما لكونهم عرفوا الحق وما أقروا به أو تمكنوا من معرفته فلم يبطلوا معرفته ومثل هذا كثير

والمقصود هنا أن ترك ما يجب من العمل بالعلم الذي هو مقتضى التصديق والعلم قد يفضي إلى سلب التصديق والعلم كما قيل العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل وكما قيل كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به فما في القلب من التصديق بما جاء به الرسول إذا لم يتبعه موجبه ومقتضاه من العمل قد يزول إذ وجود العلة يقتضي وجود المعلول وعدم المعلول يقتضي عدم العلة فكما أن العلم والتصديق سبب للإرادة والعمل فعدم الإرادة والعمل سبب لعدم العلم والتصديق ثم إن كانت العلة تامة فعدم المعلول دليل يقتضي عدمها وإن كانت سببا قد يتخلف معلولها كان له بخلفه أمارة على عدم المعلول قد يتخلف مدلولها وأيضا فالتصديق الجازم في القلب يتبعه موجبه بحسب الإمكان كالإرادة الجازمة في القلب فكما أن الإرادة الجازمة في القلب إذا اقترنت بها القدرة حصل بها المراد أو المقدور من المراد لا محالة كانت القدرة حاصلة ولم يقع الفعل كان الحاصل هي لا إرادة جازمة وهذا هو الذي عفي عنه

فكذلك التصديق الجازم إذا حصل في القلب تبعه عمل من عمل القلب لا محالة لا يتصور أن ينفك عنه بل يتبعه الممكن من عمل الخوارج فمتى لم يتبعه شيء من عمل القلب علم أنه ليس بتصديق جازم فلا يكون إيمانا لكن التصديق الجازم قد لا يتبعه عمل القلب بتمامه لعارض من الأهواء كالكبر والحسد ونحو ذلك من أهواء النفس لكن الأصل أن التصديق يتبعه الحب وإذا تخلف الحب كان لضعف التصديق الموجب له ولهذا قال الصحابة كل من يعصي الله فهو جاهل وقال ابن مسعود كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار جهلا ولهذا كان التكلم بالكفر من غير إكراه كفرا في نفس الأمر عند الجماعة وأئمة الفقهاء حتى المرجئة خلافا للجهمية ومن اتبعهم ومن هذا الباب سب الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام وبغضه وسب القرآن وبغضه وكذلك سب الله سبحانه وبغضه ونحو ذلك مما ليس من باب التصديق والحب والتعظيم والموالاة بل من باب التكذيب والبغض والمعاداة والاستخفاف

ولما كان إيمان القلب له موجبات في الظاهر كان الظاهر دليلا على إيمان القلب ثبوتا وانتفاء كقوله تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله وقوله جل وعز ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء وأمثال ذلك

وبعد هذا فنزاع المنازع في أن الإيمان في اللغة هل هو اسم لمجرد التصديق دون مقتضاه أو اسم للأمرين يؤول إلى نزاع لفظي وقد يقال أن الدلالة تختلف بالأفراد والاقتران والناس منهم من يقول أن أصل الإيمان في اللغة التصديق

ثم يقول والتصديق يكون باللسان ويكون بالجوارح والقول يسمى تصديقا والعمل يسمى تصديقا كقول النبي العينان تزنيان وزناهما النظر والأذن تزني وزناها السمع واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني وزناها المشي والقلب يتمنى ويشتهي والفرج يصد ذلك أو يكذبه

وقال الحسن البصري ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن بما وقر في القلب وصدقه العمل ومنهم من يقول بل الإيمان هو الإقرار وليس هو مرادفا للتصديق فإن التصديق يقال على كل خبر عن شهادة أو غيب وأما الإيمان فهو أخص منه فإنه قد قيل لخبر إخوة يوسف وما أنت بمؤمن لنا وقيل يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين إذ الإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام تصديق به والإيمان له تصديق له في ذلك الخبر وهذا في المخبر ويقال لمن قال الواحد نصف الاثنين والسماء فوق الأرض قد صدقت ولا يقال آمنت له ويقال أصدق بهذا ولا يقال أؤمن به إذ لفظ الإيمان أفعال من إلا من فهو يقتضي طمأنينة وسكونا فيما من شأنه أن يستريب فيه القلب فيخفق ويضطرب وهذا إنما يكون في الأخبار بالمغيبات لا بالمشاهدات

والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع وإنما المقصود أن فقهاء المرجئة خلافهم مع الجماعة خلاف يسير وبعضه لفظي ولم يعرف بين الأئمة المشهورين بالفتيا خلاف إلا في هذا فإن ذلك قول طائفة من فقهاء الكوفيين كحماد بن أبي سليمان وصاحبه أبي حنيفة وأصحاب أبي حنيفة وأما قول الجهمية وهو أن الإيمان مجرد تصديق القلب دون اللسان فهذا لم يقله أحد من المشهورين بالإمامة ولا كان قديما فيضاف هذا إلى المرجئة وإنما وافق الجهمية عليه طائفة من المتأخرين من أصحاب الأشعري

وأما ابن كلاب فكلامه يوافق كلام المرجئة لا الجهمية وآخر الأقوال حدوثا في ذلك قول الكرامية إن الإيمان اسم للقول باللسان وإن لم يكن معه اعتقاد القلب وهذا القول أفسد الأقوال لكن أصحابه لا يخالفون في الحكم فإنهم يقولون إن هذا الإيمان باللسان دون القلب هو إيمان المنافقين وأنه لا ينفع في الآخرة وإنما أوقع هؤلاء كلهم ما أوقع الخوارج والمعتزلة في ظنهم أن الإيمان لا يتبعض بل إذا ذهب بعضه ذهب كله ومذهب أهل السنة والجماعة أنه يتبعض وأنه ينقص ولا يزول جميعه كما قال النبي يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان

فالأقوال في ذلك ثلاثة الخوارج والمعتزلة نازعوا في الاسم والحكم فلم يقولوا بالتبعيض لا في الاسم ولا في الحكم فرفعوا عن صاحب الكبيرة بالكلية اسم الإيمان وأوجبوا له الخلود في النيران وأما الجهمية والمرجئة فنازعوا في الاسم لا في الحكم فقالوا يجوز أن يكون مثابا معاقبا محمودا مذموما لكن لا يجوز أن يكون معه بعض الإيمان دون بعض وكثير من المرجئة والجهمية من يقف في الوعيد فلا يجزم بنفوذ الوعيد في حق أحد من أرباب الكبائر كما قال ذلك من قاله من مرجئة الشيعة والأشعرية كالقاضي أبي بكر وغيره ويذكر عن غلاتهم أنهم نفوا الوعيد بالكلية لكن لا أعلم معينا معروفا أذكر عنه هذا القول ولكن حكي هذا عن مقاتل بن سليمان والأشبه أنه كذب عليه

وأما أئمة السنة والجماعة فعلى إثبات التبعيض في الاسم والحكم فيكون مع الرجل بعض الإيمان لا كله ويثبت له من حكم أهل الإيمان وثوابهم بحسب ما معه كما يثبت له من العقاب بحسب ما عليه وولاية الله تعالى بحسب إيمان العبد وتقواه فيكون مع العبد من ولاية الله تعالى بحسب ما معه من الإيمان والتقوى فإن أولياء الله هم المؤمنون المتقون كما قال تعالى ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون

وعلى هذا فالمتأول الذي أخطأه في تأويله في المسائل الخبرية والأمرية وإن كان في قوله بدعة يخالف بها نصا أو إجماعا قديما وهو لا يعلم أنه يخالف ذلك بل قد أخطأ فيه كما يخطىء المفتي والقاضي في كثير من مسائل الفتيا والقضاء باجتهاده يكون أيضا مثابا من جهة اجتهاده الموافق لطاعة الله تعالى غير مثاب من جهة ما أخطأ فيه وإن كان معفوا عنه ثم قد يحصل فيه تفريط في الواجب أو اتباع الهوى يكون ذنبا منه وقد يقوى فيكون كبيرة وقد تقوم عليه الحجة التي بعث الله عز وجل بهما رسله ويعاندها مشاقا للرسول من بعد ما تبين له الهدى متبعا غير سبيل المؤمنين فيكون مرتدا منافقا أو مرتدا ردة ظاهرة فالكلام في الأشخاص لا بد فيه من هذا التفصيل وأما الكلام في أنواع الأقوال والأعمال باطنا وظاهرا من الاعتقاد والإرادات وغير ذلك فالواجب فيما تتوزع فيه ذلك أن يرد إلى الله والرسول فما وافق الكتاب والسنة فهو حق وما خالفهما فهو باطل وما وافقهما من وجه دون وجه فهو ما اشتمل على حق وباطل فهذا هو

والمقصود هنا أن أهل العلم والإيمان في تصديقهم لما يصدقون به وتكذيبهم لما يكذبون به وحمدهم لما يحمدونه وذمهم لما يذمونه متفقون على هذا الأصل فلهذا يوجد أئمة أهل العلم والدين من المنتسبين إلى الفقه والزهد يذمون البدع المخالفة للكتاب والسنة في الاعتقادات والأعمال من أهل الكلام والرأي والزهد والتصوف ونحوهم وإن كان في أولئك من هو مجتهد له أجر على اجتهاده وخطؤه مغفور له

وقد ثبت عن النبي من غير وجه أنه قال خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فكان القرن الأول من كمال العلم والإيمان على حال لم يصل إليها القرن الثاني وكذلك الثالث وكان ظهور البدع والنفاق بحسب البعد عن السنن والإيمان وكلما كانت البدعة أشد تأخر ظهورها وكلما كانت أخف كانت إلى الحدوث أقرب فلهذا حدث أولا بدعة الخوارج والشيعة ثم بدعة القدرية والمرجئة وكان آخر ما حدث بدعة الجهمية حتى قال ابن المبارك ويوسف بن أسباط وطائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم أن الجهمية ليسوا من الثنتين وسبعين فرقة بل هم زنادقة وهذا مع أن كثيرا من بدعهم دخل فيها قوم ليسوا زنادقة بل قبلوا كلام الزنادقة جهلا وخطأ قال الله تعالى لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعو خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم فأخبر سبحانه أن في المؤمنين من هو مستجيب للمنافقين فما يقع فيه بعض أهل الإيمان من أمور بعض المنافقين هو من هذا الباب

والمقصود هنا أن يعلم أنه لم يزل في أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وأن أمته لا تبقى على ضلالة بل إذا وقع منكر من ليس حق بباطل أو غير ذلك فلا بد أن يقيم الله تعالى من يميز ذلك فلا بد من بيان ذلك ولا بد من إعطاء الناس حقوقهم كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها أمرنا رسول الله أن ننزل الناس منازلهم رواه أبو داود وغيره وهذا الموضع لا يحتمل من السعة وكلام الناس في مثل هذه الأمور التي وقعت ممن وقعت منه بل المقصود التنبيه على جمل ذلك لأن هذا محتاج إليه في هذه الأوقات فكتب الزهد والتصوف فيها من جنس ما في كتب الفقه والرأي وفي كلاهما منقولات صحيحة وضعيفة بل وموضوعة ومقالات صحيحة وضعيفة بل وباطلة وأما كتب الكلام ففيها من الباطل أعظم من ذلك بكثير بل فيها أنواع من الزندقة والنفاق

وأما كتب الفلسفة فبالباطل غالب عليها بل الكفر الصريح وكثير فيها وكتاب الإحياء له حكم نظائره ففيه أحاديث كثيرة صحيحة وأحاديث كثيرة ضعيفة أو موضوعة فإن مادة مصنفه في الحديث والآثار وكلام السلف وتفسيرهم للقرآن مادة ضعيفة وأجود ماله من المواد المادة الصوفية ولو سلك فيها مسلك الصوفية أهل العلم بالآثار النبوية واحترز عن تصوف المتفلسفة الصابئين لحصل مطلوبه ونال مقصوده لكنه في آخر عمره سلك هذا السبيل وأحسن ما في كتابه أو أحسن ما فيه ما يأخذه من كتاب أبي طالب في مقامات العارفين ونحو ذلك فإن أبا طالب أخبر بذوق الصوفية حالا وأعلم بكلامهم وآثارهم سماعا وأكثر مباشرة لشيوخهم الأكابر

والمقصود هنا أن طرق العلم بصدق النبي عليه أفضل الصلاة والسلام بل وتفاوت الطرق في معرفة قدر النبوة والنبي متعددة تعددا كثيرا إذ النبي يخبر عن الله سبحانه أنه قال ذلك إما إخبارا من الله تعالى وإما أمرا أو نهيا ولكل من حال المخبر عنه والمخبر به بل ومن حال المخبرين مصدقهم ومكذبهم دلالة على المطلوب سوى ما ينفصل عن ذلك من الخوارق وأخبار الأولين والهواتف والكهان وغير ذلك فالمخبر مطلقا يعلم صدقه وكذبه أمور كثيرة لا يحصل العلم بآحادها كما يحصل العلم بمخبر الأخبار المتواترة بل بمخبر الخبر الواحد الذي احتف بخبره قرائن أفادت العلم

ومن هذا الباب علم الإنسان بعدالة الشاهد والمحدث والمفتي حتى يزكيهم ويفتي بخبرهم ويحكم بشهادتهم وحتى لا يحتاج الحاكم في عدالة كل شاهد إلى تزكيته فإنه لو احتاج كل مزكي إلى مزكي لزم التسلسل بل يعلم صدق الشخص تارة باختياره ومباشرته وتارة باستضافه صدقه بين الناس ولهذا قال العلماء إن التعديل لا يحتاج إلى بيان السبب فإن كون الشخص عدلا صادقا لا يكذب لا يتبين بذكر شيء معين بخلاف الجرح فإنه لا يقبل إلا مفسرا عند جمهور العلماء لوجهين

أحدهما أن سبب الجرح ينضبط

الثاني أنه قد يظن ما ليس بجرح جرحا وأما كونه صادقا متحريا للصدق لا يكذب فهذا لا يعرف بشيء واحد حتى يخبر به وإنما يعرف ذلك من خلقه وعادته بطول المباشرة له والخبرة له ثم إذا استفاض ذلك عند عامة من يعرفه كان ذلك طريقا للعلم لمن لم يباشره كما يعرف الإنسان عدل عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وظلم الحجاج

ولهذا قال الفقهاء إن العدالة والفسق يثبتان بالاستفاضة وقالوا في الجرح المفسر يجرحه بما رآه أو سمعه أو استفاض عنه وصدق الإنسان في العادة مستلزم لخصال البر كما أن كذبه مستلزم لخصال الفجور كما ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا وكما أن الخبر المتواتر يعلم لكونه خبر من يمتنع في العادة اتفاقهم وتواطؤهم على الكذب والخبر المنكر المكذب يعلم لكونه لم يخبر به من يمتنع في العادة اتفاقهم على الكتمان فخلق الشخص وعادته في الصدق والكذب يمتنع في العادة إتفاقهم على الكتمان فخلق الشخص وعادته في الصدق والكذب يمتنع في العادة أن يخفي على الناس فلا يوجد أحد يظهر تحرى الصدق وهو يكذب إذا أراد إلا ولا بد أن يتبين كذبه فإن الإنسان حيوان ناطق فالكلام له وصف لازم ذاتي لا يفارقه والكلام إما خبر وإما إنشاء والخبر أكثر من الإنشاء وأصل له كما أن العلم أعم من الإرادة وأصل لها والمعلوم أعظم من المراد فالعلم يتناول الموجود والمعدوم والواجب والممكن والممتنع وما كان وما سيكون وما يختاره العالم وما لا يختاره

وأما الإرادة فتختص ببعض الأمور دون بعض والخبر يطابق العلم فكل ما يعلم يمكن الخبر به والإنشاء يطابق الإرادة فإن الأمر إما محبوب يؤمر به أو مكروه ينهى عنه وأما ما ليس بمحبوب ولا مكروه فلا يؤمر به ولا ينهى عنه وإذا كان كذلك فالإنسان إذا كان متحريا للصدق عرف ذلك منه وإذا كان يكذب أحيانا لغرض من الأغرض لجلب ما يهواه أو دفع ما يبغضه أو غير ذلك فإن ذلك لا بد أن يعرف منه وهذا أمر جرت به العادات كما جرت بنظائره فلا تجد أحدا بين طائفة من الطوائف طالت مباشرتهم له إلا وهم يعرفونه هل يكذب أو لا يكذب

ولهذا كان من سنة القضاة إذا شهد عندهم من لا يعرفونه كان لهم أصحاب مسائل يسألون عنه جيرانه ومعامليه ونحوهم ممن له به خبرة فمن خبر شخصا خبرة باطنة فإنه يعلم من عادته علما يقينا أنه لا يكذب لا سيما في الأمور العظام ومن خبر عبد الله ابن عمر وسعيد بن المسيب وسفيان الثوري ومالك بن أنس وشعبة بن الحجاج ويحيى ابن سعيد القطان وأحمد بن حنبل وأضعاف أضعافهم حصل عنده علم ضروري من أعظم العلوم الضرورية أن الواحد من هؤلاء لا يتعمد الكذب على رسول الله ومن تواترت عنه اخبارهم من أهل زماننا وغيرهم حصل له هذا العلم الضروري ولكن قد يجوز على أحدهم الغلط الذي يليق به ثم خبر الفاسق والكافر بل ومن عرف بالكذب قد تقترن به قرائن تفيد علما ضروريا أن المخبر صادق في ذلك الخبر فكيف ممن عرف منه الصدق في الأشياء فمن كان خبيرا بحال النبي مثل زوجته خديجة وصديقه أبي بكر إذا أخبره النبي بما رآه أو سمعه حصل له علم ضروري بأنه صادق في ذلك ليس هو كاذبا في ذلك ثم إن النبي لا بد أن يحصل له علم ضروري بأن ما أتاه صادق أو كاذب فيصير إخباره عما علمه بالضرورة كأخبار أهل التواتر عما علموه بالضرورة

وأيضا فالمتنبيء الكذاب كمسيلمة والعنسي ونحوهما يظهر لمخاطبه من كذبه في أثناء الأمور أعظم مما يظهر من كذب غيره فإنه إذا كان الإخبار عن الأمور المشاهدة لا بد أن يظهر فيه كذب الكاذب فما الظن بمن يخبر عن الأمور الغائبة التي تطلب منه ومن لوازم النبي التي لا بد منها الإخبار عن الغيب الذي أنبأ الله تعالى به فإن من لم يخبر عن غيب لا يكون نبيا فإذا أخبرهم المتنبىء عن الأمور الغائبة عن حواسهم من الحاضرات والمستقبلات والماضيات فلا بد أن يكذب فيها ويظهر لهم كذبه وإن كان قد يصدق أحيانا في شيء كما يظهر كذب الكهان والمنجمين ونحوهم وكذب المدعين للدين والولاية والمشيخة بالباطل فإن الواحد من هؤلاء وإن صدق في بعض الوقائع فلا بد أن يكذب في غيرها بل يكون كذبه أغلب من صدقه بل تتناقض أخباره وأوامره وهذا أمر جرت به سنة الله التي لن تجد لها تبديلا قال تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وأم النبي الصادق المصدوق فهو يخبر به عن الغيوب توجد أخباره صادقة مطابقة وكلما زادت أخباره ظهر صدقه وكلما قويت مباشرته وامتحانه ظهر صدقه كالذهب الخالص الذي كلما سبك خلص وظهر جوهره بخلاف المغشوش فإنه عند المحنة ينكشف ويظهر أن باطنه خلاف ظاهره ولهذا جاء في النبوات المتقدمة أن الكذاب لا يدوم أمره أكثر من مدة قليلة أما ثلاثين سنة وأما أقل فلا يوجد مدعي النبوة كذابا إلا ولا بد أن ينكشف ستره ويظهر أمره والأنبياء الصادقون لا يزال يظهر صدقم بل الذين يظهرون العلم ببعض الفنون والخبرة ببعض الصناعات والصلاح والدين والزهد لا بد أن يتميز هذا من هذا وينكشف فالصادقون يدوم أمرهم والكذابون ينقطع أمرهم هذا أمر جرت به العادة وسنة الله التي لن تجد لها تبديلا

وأما المخبر عنه وبه كالنبي يخبر عن الله تعالى بأنه أخبر بكذا أو أنه أمر بكذا فلا بد أن يكون خبره صدقا وأمره عدلا وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم والأمور التي يخبر بها ويأمر بها تارة تنبه العقول على الأمثال والأدلة العقلية التي يعلم بها صحتها فيكون ما علمته العقول بدلالته وإرشاده من الحق الذي أخبر به والخبر الذي أمر به شاهد بأنه هاد ومرشد معلم للخير ليس بمضل ولا مغو ولا معلم للشر وهذه حال الصادق البر دون الكاذب الفاجر فإن الكاذب الفاجر لا يتصور أن يكون ما يأمر به عدلا وما يخبر به حقا وإذا كان أحيانا يخبر ببعض الأمور الغائبة كشيطان يقرن به يلقي إليه ذلك أو غير ذلك فلا بد أن يكون كاذبا فاجرا كما قال تعالى قل هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون

وهذا بيان لأن الذي يأتيه ملك لا شيطان فإن الشيطان لا ينزل على الصادق البار ما دام صادقا بارا إذ لا يحصل مقصوده بذلك وإنما ينزل على من يناسبه في التشيطن وهو الكاذب الأثيم والأثيم الفاجر وتارة يخبر النبي بأمور ويأمر بأمور لا يتبين للعقول صدقها ومنفعتها في أول الأمر فإذا صدق الإنسان خبره وأطاع أمره وجد في ذلك من البيان للحقائق والمنفعة والفوائد ما يعلم به أن عنده من عظيم العلم والصدق والحكمة ما لا يعلمه إلا الله تعالى أعظم مما يتبين به صدق الطبيب إذا استعمل ما يصفه من الأدوية وصدق العقل المشير إذا استعمل ما يراه من الآراء وأمثال ذلك وحينئذ فيحصل للنفوس علم ضروري بكمال عقله وصدقه فإذا أخبر بعد ذلك عن أمور ضرورية يراها أو يسمعها حصل للنفوس علم ضروري بأنه صادق لا يتعمد الكذب وإنه متيقن لما أخبر به ليس فيه خطأ ولا غلط أعظم مما يتبين به صدق من أخبر عما رآه من الرؤيا أو عما رآه من العجائب وأمثال ذلك فإن الخبر إنما تأتيه الآفة من تعمد الكذب أو الخطأ بأن يظن الأمر على خلاف ما هو عليه فإن كان من العلوم الضرورية التي كلما دامت قويت وظهرت وزادت زال احتمال الخطأ وما كان يتحرى الصدق الذي يعلم معه بالضرورة وانتفاء تعمد الكذب هو وغيره من الأمور التي يعلم معها انتفاء تعمد الكذب ويزول معه احتمال تعمده وأما العلم بالعدل فيما يؤمر به وبالعدل الفاضل فيما يأمره

فهذا يعلم تارة مما نبينه من الأدلة العقلية ونضربه من الأمثال وهذا هو الغالب على ما يذكره الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من أصول الدين علما وعملا وتارة يظهر ذلك بالتجربة والامتحان وتارة يستدل بما علم على ما يعلم

وأيضا فقد علم أن العالم ما زال فيه نبوة من آدم عليه السلام إلى سيدنا محمد فالنبي الثاني يعلم صدقه بأمور منها إخبار النبي الأول به كما بشر نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام الأنبياء قبله وكذلك بشر بالمسيح الأنبياء قبله وتارة يعلم صدقه بأن يأتي بمثل ما أتوا به من الخبر والأمر فإن الكذاب الفاجر لا يتصور أن يكون في أخباره وأوامره موافقا للأنبياء بل لا بد أن يخالفهم في الأصول الكلية التي اتفق عليها الأنبياء كالتوحيد والنبوات والمعاد كما أن القاضي الجاهل أو الظالم لا بد أن يخالف سنة القضاة العالمين العادلين وكذلك المفتي الجاهل أو الكاذب والطبيب الكاذب أو الجاهل فإن كل هؤلاء لا بد أن يتبين كذبهم أو جهلهم بمخالفتهم لما مضت به سنة أهل العلم والصدق

وإن كان قد يخالف بعضهم بعضا في أمور اجتهادية فإنه يعلم الفرق بين ذلك وبين المخالفة في الأصول الكلية التي لا يمكن انخرامها ولهذا يتميز للناس في الأمراء والحكام والمفتين والمحدثين والأطباء وسائر الأصناف بين العالم الصادق وإن خالف غيره من أهل العلم في الصدق في أشياء وبين من يكون جاهلا أو كاذبا ظالما ويفرقون بين هذا وهذا كما أنهم يعلمون من سيرة أبي بكر وعمر من العلم والعدل مالا يرتابون فيه وإن كان بينهما منازعات في أمور اجتهادية كالتفصيل في العطاء ونحو ذلك

وأيضا فإذا أخبر اثنان عن قضية طويلة ذات أجزاء وشعب لم يتواطأ عليها ويمتنع في العاد اتفاقهما فيها على تعمد الكذب والخطأ علمنا صدقهما مثل أن يشهد رجلان واقعة من وقائع الحروب أو يشهدا الجمعة أو العيد أو موت ملك أو تغير دولة ونحو ذلك أو يشهد خطبة خطيب أو كتابا لبعض الولاة أو يطالعا كتابا من الكتب أو يحفظاه ونعلم أنهما لم يتواطأ ثم يجيء أحدهما فيخبر بذلك كله مفصلا شيئا فشيئا من غير تواطيء فيعلم أنهما صادقان ويخبر الآخر بمثل ما أخبر به الأول مفصلا شيئا فشيئا من غير تواطيء فيعلم أنهما صادقان حتى لو كان رجلان يحفظان بعض قصائد العرب كقصيدة امرىء القيس أو غيرها وهناك من لا يحفظها وهناك شخصان لا يعرف أحدهما الآخر فقال الذي لا يحفظها لأحدهما أنشدنيها فأنشدها ثم طلب الآخر وقال له أنشدنيها فأنشدها كما أنشد الأول علم المستمع إنها هي هي بل وكذلك كتب الفقه والحديث واللغة والطب وغير ذلك ولو بعث بعض الملوك رسلا إلى أمارئه ونوابه في أمر من الأمور ثم أخبر أحد الرسولين بأنه أمر بأمر ذكره وفصله وأخبر الآخر بمثل ذلك للقوم الذين أرسل إليهم من غير علم منه بإرسال الآخر لعلم قطعا أن ذلك الأمر هو الذي أمر به المرسل وإنهما صادقان فإنه يعلم علما ضروريا أنه يمتنع في الكذب والخطأ أن يتفق في مثل هذا

ومعلوم أن موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين كانوا قبل نبينا محمد قد أخبروا عن الله سبحانه وتعالى من توحيده وأسمائه وصفاته وملائكته وأمره ونهيه ووعده ووعيده وإرساله بما أخبروا به

ومعلوم أيضا لمن علم حال سيدنا محمد أنه كان رجلا أميا نشأ بين قوم أميين ولم يكن يقرأ كتابا ولا يكتب بخطه شيئا كما قال تعالى وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا رتاب المبطلون وإن قومه الذين نشأ بينهم لم يكونوا يعلمون علوم الأنبياء بل كانوا من أشد الناس شركا وجهلا وتبديلا وتكذيبا بالمعاد

وكانوا من أبعد الأمم عن توحيد الله سبحانه ومن أعظم الأمم إشراكا بالله عز وجل ثم إذا تدبرت القرآن والتوراة وجدتهما يتفقان في عامة المقاصد الكلية من التوحيد والنبوات والأعمال الكلية وسائر الأسماء والصفات من كان له علم بهذا علم علما ضروريا ما قاله النجاشي إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة وما قاله ورقة بن نوفل إن هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى قال تعالى قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله وقال تعالى فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك وقال تعالى قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب

وأمثال ذلك مما يذكر فيه شهادة الكتب المتقدمة بمثل ما أخبر به نبينا محمد وهذه الأخبار منقولة عند أهل الكتاب بالتواتر كما نقل عندهم بالتواتر معجزات موسى وعيسى عليهما السلام وإن كان كثير مما يدعونه من أدق الأمور لم يتواتر عندهم لانقطاع التواتر فيهم فالفرق بين الجمل الكلية المشورة التي هي أصل الشرائع التي يعلمها أهل الملل كلهم وبين الجزئيات الدقيقة التي لا يعلمها إلا خواص الناس ظاهر ولهذا كان وجوب الصلوات الخمس وصوم شهر رمضان وحج البيت وتحريم الفواحش والكذب ونحو ذلك متواترا عند عامة المسلمين وأكثرهم لا يعلمون تفاصيل الأحكام والسنن المتواترة عند الخاصة فإذا كان في الكتب التي بأيدي أهل الكتاب وفيما ينقلونه بالتواتر ما يوافق ما أخبر به نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كان في ذلك فوائد جليلة هي من بعض حكمه إقرارهم بالجزية

أحدها أنه إذا علم اتفاق الرسل على مثل هذا علم صدقهم فيما أخبروا به عن الله تعالى حيث أخبر محمد عليه الصلاة والسلام بمثل ما أخبر به موسى من غير تواطيء ولا تشاعر

الثاني أن ذلك دليل على اتفاق الرسل كلهم في أصول الدين كما يعلم أن رسل الله قبله كانوا رجالا من البشر لم يكونوا ملائكة فلا يجعل سيدنا محمد هو الذي جاء بها كما قال تعالى قل ما كنت بدعا من الرسل وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون

الثالث أن هذه آية على نبوة نبينا محمد حيث أخبر بمثل ما أخبرت به الأنبياء من غير تعلم من بشر وهذه الأمور هي من الغيب قال تعالى تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين وقال تعالى ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذا أجمعوا أمرهم وهم يمكرون وقال تعالى وما كنت بجانبي الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلنت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون قال فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين فإن لم يستحيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدروؤن بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكن أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين

وكثير من أهل الكتاب آمنوا بمثل هذه الطرق قال تعالى قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا وقال تعالى والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعوا وإليه مآب وقال تعالى ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد

ولا ريب أن منكري النبوات لهم شبه منها إنكار أن يكون رسول الله بشرا ومنها دعوى أن الذي يأتيه شيطان لا ملك وغير ذلك وكل ذلك قد أجاب الله تعالى عنه في القرآن العظيم وقرر ذلك بأبلغ تقرير لكن جواب هذا السؤال لا يتسع لبسط ذلك في القرآن قال تعالى ألر تلك آيات الكتاب الحكيم أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وقال تعالى وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا وقال تعالى ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون بين أن الرسول لو كان ملكا لكان في صورة رجل إذ لا يستطيعون الأخذ عن الملك على صورته ولو كان في صورة رجل لعاد اللبس وقالوا أبعث الله بشر رسولا وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون

وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين فأمر سبحانه بمسألة أهل الذكر إذ ذلك مما تواتر عندهم أن الرسل كانوا رجالا وقال تعالى ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية

وبالجملة فتقرير النبوات من القرآن أعظم من أن يشرح في هذا المقام إذ ذلك هو عماد الدين وأصل الدعوة النبوية وينبوع كل خير وجماع كل هدي وأما حال المخبر عنه فإن النبي والرسول يخبر عن الله تعالى بأنه أرسله ولا أعظم فرية ممن يكذب على الله جل وعز كما قال تعالى ومن أظلم من افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ذكر هذا بعد قوله وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدقا لذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله

فنقض سبحانه دعوى الجاحد النافي للنبوة بقوله قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى وذلك الكتاب ظهر فيه من الآيات والبينات وأتبعه كل الأنبياء والمؤمنين وحصل فيه ما لم يحصل في غيره فكانت البراهين والدلائل على صدقه أكثر وأظهر من أن تذكر بخلاف الإنجيل وغيره

وأيضا فإنه أصل والإنجيل تبع له إلا فيما أحله المسيح وهذا كما يقول سبحانه أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا أي القرآن والتوراة وفي القراءة الأخرى قالوا ساحران أي محمد والقرآن وكذلك قوله إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا وكذلك قوله أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وكذلك قول الجن إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم

ولهذا كانت قصة موسى هي أعظم قصص الأنبياء المذكورين في القرآن وهي أكبر من غيرها وتبسط أكثر من غيرها قال عبد الله بن مسعود كان رسول الله عامة نهاره يحدثنا عن بني إسرائيل ولما قرر الصدق بين حال الكذابين بأنهم ثلاثة أصناف إذ لا يخلو الكذاب من أن يضيف الكذب إلى الله تعالى ويقول إنه أنزله أو يحذف فاعله ولا يضيفه إلى أحد أ أن يقول إنه هو الذي وضعه معارضا فقال تعالى ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله وأما المخبر عنه فإنه الله تعالى

ولا ريب أنه يعلم من أمور الرب سبحانه بما نصبه من الأدلة المعاينة الحسية التي يعقل بها نفسها وبالأمثال المضروبة وهي الأقيسة العقلية ما يمتنع معه خفاء كذب الكاذب بل يمتنع معه خفاء صدق الصادق فالدجال مثلا قد علم بوجوه متعددة ضرورية إنه ليس هو الله وإنه كافر مفتر وإذا كانت دعواه معلوما كذبها ضرورة لم يكن ما يأتي به من الشبهات مصدقا لها إذ العصمة الضرورية لا تقدح فيها الطرق النظرية فإن الضروريات أصل النظريات فلو قدح بها فيها لزم إبطال الأصل بالفرع فيبطلان جميعا فإنه يظهر أيضا من عجزه ما ينفي دعواه

وكذلك من أباح الفواحش والمظالم والشرك والكذب مدعيا للنبوة يعلم بالاضطرار كذبه للعلم الضروري بأن الله سبحانه لا يأمر بهذا سواء قيل أن الفعل يعلم به حسن الأفعال وقبحها أو لا يعلم به فليس كلما أمكن في العقل وقوعه وكان الله قادرا عليه يشك في وقوعه بل نحن نعلم بالضرورة أن البحار لم تقلب دما وإن الجبال لم تنقلب يواقيت وأمثال ذلك من المعادن وإن لم يسند ذلك إلى دليل معين وإن كنا عالمين بأن الله تعالى قادر على قلب ذلك لكن العلم بالوقوع وعدمه شيء والعلم بإمكان ذلك من قدرة الله سبحانه شيء وكل ذي فطرة سليمة يعلم بالاضطرار أن الله تعالى لا يأمر عباده بالكذب والظلم والشرك والفواحش وأمثال ذلك مما قد يأتي به كثير من الكذابين بل يعلم بفطرته السليمة ما يناسب حال الربوبية وهذا باب واسع ليس هذا موضع بسطه ولكن نذكر ما أشار إليه مصنف العقيدة

فصل

عدل

فهذه الطرق سلكها أكثر أهل الكلام وغيرهم ولهم في تقرير دلالة المعجزة على الصدق طرق أحدها أن إظهار المعجزة على يدي المتنبي الكذاب قبيح والله سبحانه منزه عن فعل القبيح وهذه الطرق سلكها المعتزلة وغيرهم ممن يقول بالتحسين والتقبيح وطعن فيها من ينكر ذلك ثم إن المعتزلة جعلوا هذه أصل دينهم والتزموا بها لوازم خالفوا بها نصوص الكتاب والسنة بل وصريح العقل في مواضع كثيرة وحقيقة أمرهم أنهم لم يصدقوا الرسول إلا بتكذيب بعض ما جاء به وكأنهم قالوا لا يمكن تصديقه في البعض إلا بتكذيبه في البعض لكنهم لا يقولون إنهم يكذبونه في شيء بل تارة يطعنون في النقل وتارة يتأولون المنقول ولكن يعلم بطلان ما ذكروه إما ضرورة وإما نظرا وذلك أنهم قالوا إن السمع مبني على صدق الرسول وصدقه على أن الله تعالى منزه عن فعل القبيح فإن تأييد الكذاب بالمعجزة قبيح والله منزه عنه قالوا والدليل على أنه منزله عنه أن القبيح لا يفعله إلا جاهل بقبحه أو محتاج والله سبحانه منزه عن الجهل والحاجة والدليل على ذلك أن المحتاج لا يكون إلا جسما والله تعالى ليس بجسم

والدليل على أنه ليس بجسم هو ما دل على حدوث العالم والدليل على حدوث العالم أنه أجسام وأعراض وكلاهما محدث والدليل على حدوث الأجسام إنها لا تخلو من الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث والدليل على ذلك أنها لا تنفك عن الحركة والسكون وهما حادثان لامتناع حوادث لا أول لها ثم التزموا لذلك حدوث كل موصوف بصفة لأن الصفات هي الأعراض والأعراض لا تقوم إلا بجسم وقد قام الدليل على حدوث الجسم فالتزموا لذلك أن لا يكون لله علم ولا قدرة وأن لا يكون متكلما قام به الكلام

بل يكون القرآن وغيره من كلامه تعالى مخلوقا خلقه في غيره ولا يجوز أن يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة ولا هو مباين للعالم ولا مجانبه ولا داخل فيه ولا خارج عنه ثم قالوا أيضا لا يجوز أن يشاء خلاف ما أمر به ولا أن يخلق أفعال عباده ولا يقدر أن يهدي ضلالا ولا يضل مهتديا لأنه لو كان قادر على ذلك وقد أمر به ولم يعن عليه لكان قبيحا منه فركبوا عن هذا الأصل التكذيب بالصفات والتكذيب بالقدر وسموا أنفسهم أهل التوحيد والعدل وسموا من أثبت الصفات من سلف الأمة وأئمتها مشبهة ومجسمه ومجبرة وحشوية وجعلوا مالكا وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وغيرهم من هؤلاء الحشوية إلى أمثال هذه الأمور التي بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع وأصل ضلالهم في القدر إنهم شبهوا المخلوق بالخالق سبحانه فهم مشبهة الأفعال

وأما أصل ضلالهم في الصفات فظنهم أن الموصوف الذي تقوم به الصفات لا يكون إلا محدثا وقولهم من أبطل الباطل فإنهم يسلمون إن الله حي عليم قدير ومن المعلوم إن حيا بلا حياة وعليما بلا علم وقديرا بلا قدرة مثل متحرك بلا حركة وأبيض بلا بياض وأسود بلا سواد وطويل بلا طول وقصير بلا قصر ونحو ذلك من الأسماء المشتقة التي يدعي فيها نفي المعنى المشتقة منه وهذا مكابرة للعقل والشرع واللغة

الثاني أنه أيضا من المعلوم أن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لا غيره فإذا خلق سبحانه كلاما في محل وجب أن يكون ذلك المحل هو المتكلم به فتكون الشجرة هي القائلة لموسى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ويكون كلما أنطقه الله تعالى من المخلوقات كلامه كلاما لله تعالى وبسط هذا له موضع غير هذا

والمقصود هنا ما يتعلق بتقرير النبوة وقد يقال يمكن تقرير كونه سبحانه منزها عن تأييد الكذاب بالمعجزة من غير بناء على أصل المعتزلة بما علم من حكمة الله تعالى في مخلوقاته ورحمته ببريته وسنته في عباده فإن ذلك دليل على أنه لا يؤيد كذابا بمعجزة لا معارض لها

ويمكن بسط هذه الطريقة وتقريرها بما ليس هذا موضعه في أنه كما علم بما في مصنوعاته من الأحكام والإتقان أنه عالم وبما أن فيها من التخصيص أنه مريد فيعلم بما فيها من النفع للخلائق أنه رحيم وبما فيها من الغايات المحمودة أنه حكيم والقرآن يبين آيات الله الدالة على قدرته ومشيئته وآياته الدالة على إنعامه ورحمته وحكمته ولعل هذا أكثر في القرآن كقوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون وقوله تعالى أفرأيتم ما تمنون أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون أفرأيتم ما تحرثون أءنتم تزرعونه أم نحن الزراعون لو نشاء لجعلناه حكاما فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون أفرأيتم الماء الذي تشربون أءنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون أفرأيتم النار التي تورون أءنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين فسبح باسم ربك العظيم وقوله سبحانه ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا وخلقناكم أزواجا وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا وبنينا فوقكم سبعا شدادا وجعلنا سراجا وهاجا وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا وقاله عز وجل فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم

وقوله جل وعز أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون وهو سبحانه في سورة الرحمن يقول في عقب كل آية فبأى آلاء ربكما تكذبان وهو يذكر فيها ما يدل على خلقه وعلمه وقدرته ومشيئته وما يدل على إنعامه ورحمته وحكمته

وكذلك ذكر في مخاطبة الرسل للكفار كقوله سبحانه قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى

مثل هذا في القرآن كثير وما فطر فيه من المخلوقات دل على ذلك وفي نفس الإنسان عبرة تامة فإن من نظر في خلق أعضائه وما فيها من المنافع له وما في تركيبها من الحكمة والمنفعة مثل كون ماء العين مالحا ليحفظ شحمة العين من أن تذوب وماء الأذن مرا ليمنع الذباب من الولوج وماء الفم عذاب ليطيب ما يمضغ من الطعام وأمثال ذلك علم علما ضروريا أن خالق ذلك له من الرحمة والحكمة ما يبهر العقول مع ما في ذلك من الدلالة على المشيئة ثم إذا استقرأ ما يجده في نوع الإنسان من أن كل من عظم ظلمه للخلق وضراره لهم كانت عاقبته سوء واتبع اللعنة والذم

ومن عظم نفعه للخق وإحسانه إليهم كانت عاقبته عاقبة خير وأمثال ذلك استدل بما علم ما لم يعلم حتى يعلم أن الدولة ذات الظلم والجبن والبخل سريعة الانقضاء كما قال تعالى ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا وقال عز وجل ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم كذلك سنته في الأنبياء الصادقين وأتباعهم من المؤمنين وفي الكذابين بالحق إن هؤلاء ينصرهم ويبقى لهم لسان صدق في الآخرين وأولئك ينتقم منهم ويجعل عليهم اللعنة

فبهذا وأمثاله يعلم أنه لا يؤيد كذابا بالمعجزة لا معارض لها لأن في ذلك من الفساد والضرر بالعباد ما تمنعه رحمته وفيه من سوء العاقبة ما تمنعه حكمته وفيه من نقص سنته المعروفة وعادته المطردة ما تعلم به مشيئته قال تعالى ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين وقال تعالى ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهن شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا وقال تعالى أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ثم قال بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون وقال تعالى وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا قل جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد

فصل

عدل

وهذه الطريق لم يسلكها أبو الحسن الأشعري وأصحابه ومن وافقه من علماء المذهب كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وابن الزاغوني والأستاذ أبي المعالي وصاحبه الأنصاري والشهرستاني وأمثالهم وأبي الوليد الباجي والمازري ونحوهم ونحوهم بناء على أنهم لا يرون تنزيه الرب سبحانه عن فع من الأفعال لأنهم قد علموا أن له أن يفعل ما يشاء وهم لا يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين حتى يقولوا إن الفعل الفلاني قبيح وهو منزه عن فعل القبيح بل عندهم أن الظلم غير مقدور إذ الظلم التصرف في ملك غيره فبما فعل كان تصرفا في ملكه فلم يكن ظلما بل ويقولون إنه يجوز أن يأمر بكل شيء وينهى عن كل شيء ولا يجعلون للأفعال صفات باعتبارها يكون الحسن والقبح وانتهى ما أثبتوه من الصفات بالعقل إلى أنه حي عليم قدير مريد وأثبتوا مع ذلك أنه سميع بصير متكلم فأما الرحمة والحكمة ونحو ذلك فلم يثبتوها بالعقل بل قد ينفون الحكمة التي هي الغايات والمقاصد في أفعاله ويمنعون أن يفعل شيئا لأجل شيء كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع

فإن المقصود هنا التشبيه على طرق الناس في النبوة والكلام بحسب العدل والإنصاف لأبسط الكلام في كل ما تنازعوا فيه ومسألة التحسين والتقبيح العقليين هي كما تنازع فيها عامة الطوائف فقال بكل من القولين طوائف من المالكية والشافعية والحنبلية ومن قال بالإثبات من الحنبلية أبو الحسن التميمي وأبو الخطاب ومن قال بالنفي أبو عبد الله بن حامد وصاحبه القاضي أبو يعلى وأكثر أصحابه

ومسألة حكم الأعيان قبل ورود الشرع هي في الحقيقة من فروعها وقد قال فيها بالحظر أو الإباحة أعيان من هذه الطوائف وأما الحنفية فالغالب عليهم القول بالتحسين والتقبيح العقليين وذكروا ذلك نصا عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى وأهل الحديث فيها أيضا على قولين ومن قال بالإثبات أبو النصر السجزي وصاحبه الشيخ أبو القاسم سعيد ابن علي الزنجاني فأما ما اختصت به القدرية فهذا لا يوافقهم عليهم أحد من هؤلاء ولكن هؤلاء هم وجمهور الفقهاء بل وجمهور الأمة يرون أن للأفعال صفات يتعلق الأمر والنهي بها لأجلها وملخص ذلك أن الله تعالى إذا أمر بأمر فإنه حسن بالاتفاق وإذا نهى عن شيء فإنه قبيح بالاتفاق لكن حسن الفعل وقبحه إما أن ينشأ من نفس الفعل والأمر والنهي كاشفان أو ينشأ من نفس تعلق الأمر والنهي به أو من المجموع

فالأول هو قول المعتزلة ولهذا لا يجوزون نسخ العبادة قبل دخول وقتها لأنه يستلزم أن يكون الفعل الواحد حسنا قبيحا وهذا قول أبي الحسن التميمي من أصحاب أحمد وغيره من الفقهاء

والثاني قول الأشعرية ومن وافقهم من الظاهرية وفقهاء الطوائف وهؤلاء يجعلون علل الشرع مجرد أمارات ولا يثبتون بين العلل والأفعال مناسبة لكن هؤلاء الفقهاء متناقضون في هذا الباب فتارة يقولون بذلك موافقة للأشعرية المتكلمين وهم في أكثر تصرفاتهم يقولون بخلاف ذلك كما يوجد مثل هذا في كلام فقهاء المالكية والشافعية والحنبلية

وإما أن يكون ذلك ناشئا من الأمرين وهذا مذهب الأئمة وعليه تجرى تصرفات الفقهاء في الشريعة فتارة يؤمر بالفعل لحكمة تنشأ من نفس الأمر دون المأمور به وهذا هو الذي يجوز نسخه قبل التمكين كما نسخت الصلاة ليلة المعراج من خمسين إلى خمس وكما نسخ أمر إبراهيم بذبح ابنه عليهما السلام

وبالجملة فجمهور الأئمة على أن الله تعالى منزه عن أشياء هو قادر عليها ولا يوافقون هؤلاء على أنه لا ينزه عن مقدور الظلم الذي نزه الله سبحانه عنه نفسه في القرآن وحرمه على نفسه وهو قادر عليه وهو هضم الإنسان من حسناته أو حمل سيئات غيره عليه كما قال تعالى ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما وهؤلاء الجمهور لا يوافقون المعتزلة على قولهم أن الله تعالى لم يخلق أفعال العباد ولا شاء الكائنات بل يقولون إن الله خلق كل شيء وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن لكنهم مع هذا يثبتون لفعله حكمة وينزهونه عن القبائح وهذا قول الكرامية وغيرهم من أهل الكلام وهو قول أكثر الصوفية وأكثر أهل الحديث وجمهور السلف والأئمة وجمهور المسلمين والنظار لكن ليس هذا موضع بسطه

وهؤلاء يسلكون في إثبات النبوة ما سلكه ابن عقيل وغيره في مواضع أخرى إذ أثبت حكم الله تعالى فيها حيث قال النبوات واسطة بين الله تعالى وبين خلقه في الأفعال والتروك المتضمنة لمصالح المكلفين والثقة بها طريقها ما سبق في علومنا باستدلالنا على أن الباري حكيم لا يؤيد كذابا بالمعجزة ولا يمكن من معجزاته إلا من صدق فيها يخبر به عنه فلما علمنا ذلك وتحققناه حصلت لنا الثقة بمن تكاملت فيه شرائط النبوة وعلمنا أنه سفير فيما بيننا وبين الله تعالى وأنه رسوله فيما أخبرنا به عند قبلناه من غير تكشف عليه بعقولنا ولا نضرب له الأمثال بآرائنا وعادتنا بل نعتقد أنه جاء من عند حكمته فوق حكمتنا وتدبيره فوق تدبيرنا ولا يمتنع في العقل ولا تمنع الحكمة من أن يجعل الأنبياء مذكرين للعقلاء وموقظين لهم ومرشدين إلى الأصلح الذي لا يدرك بالعقل ولا يبلغ كنهه بالرأي والفحص وما هذا إلا كما جعل بعض العقلاء حكيما واعظا مذكرا مؤديا وبعضهم يحتاج إلى مذكر ومؤدب ولا أحد منع من ذلك فثبت حسن الرسالة بالعقل ولأن الله جل وعز في الأفعال والتروك أسرارا من المصالح التي لا يعلمها العقلاء ولا يدركونها بعقولهم فاحتاجوا إلى النبوات

قلت والمقصود هنا إن من لم ينزهه عن فعل مقدور له بل جوز أن يفعل كلما يمكن ولم يثبت لفعله حكمة غير تعلق الحكم بالمفعولات وتعلق المشيئة بها فإنه احتاج في دلالة المعجزة على الصدق إلى غير تلك الطريق فسلكوا طريقين سلك كل طائفة من أهل الكلام والفقه من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد

أحدهما وهو قول أكثر شيوخهم المتقدمين أن وجه دلالة المعجزة على صدق مدعي النبوة امتناع تعجيز الإله عن نصب الدلالة على صدق الرسل فإن تصديقهم ممكن وذلك معلوم بالضرورة والاستدلال ولا دليل إلى التصديق إلا خلق المعجزات وبظهورها على يد الكذاب يبطل دليل صدقهم فلا يبقى في المقدور طريق يصدقون به فيلزم عجز الإله عن الممكن وذلك ممتنع وقد عول على هذه الطريقة أبو الحسن الأشعري وأصحابه كالأستاذين أبي إسحاق وأبي بكر بن فورك وكذلك القاضي أبو بكر في مواضع من كتبه وكذلك القاضي أبو يعلى وأبو الحسن ابن الزاغوني

الطريق الثاني هي التي اختارها أبو المعالي وأتباعه وقال إنها الطريقة المرضية عند القاضي أبي بكر وهي التي أشار إليها أبو الحسن في الأمالي وهي طريقة أبي محمد الصابوني ونحوه من الحنفية أن المعجزات تدل من حيث نزلت منزلة التصديق بالقول والعلم بذلك يقع ضروريا بقرائن أحوال كالعلم بخجل الخمل ووجل الوجل وغضب الغضبان وحرارة الحر وفحوى كلام المخاطب المتكلم ولا يتوقف العلم بما هذا سبيله على نظر واستدلال فيقبل عليه اعتراض قالوا ووجه ذلك أن الفعل الخارق للعادة إذا علم أنه من قبل الله تعالى وأنه خارق للعادة وأنه سبحانه فعله عند دعوى الرسالة والطلب وعند قول جار مجرى الطلب أما معينا وإما غير معين من المعجزات وإنه متعلق بالدعوى ومطابق لها وأن الله تعالى سامع لدعوى النبوة عليه وعالم بها في مواضعة أهل لغة الرسول ثم فعل ما يدعيه الرسول إنه ليس من فعله علم أنه قاصد بذلك إلى تصديقه وأن ما يفعله من الآيات في مثل هذه الحال قائم مقام تصديقه له بالقول صدق أنا أرسلته على وجه يفهم الأمة التي يدعي فيها النبوة إنه قول صدق به من قبله بل التصديق له بالفعل أبعد من دخول الشبهة والاحتمال فيه وهو جار مجرى قول مدعي الرسالة على زيد إن كنت رسولك وصاحبك فاكتب بذلك رقعة أو اركب أو قم أو اقعد وما جرى مجرى ذلك من الأفعال الظاهرة للحواس التي يعلم تصديقه بها إذا فعلها فإذا فعل زيد ذلك قام مقام قوله صدق هو رسولي وصاحبي الذي يعلم ضرورة قصده إلى تصديقه به وهذا واجب لا محالة قالوا وليس يمكن أن تدل المعجزات على صدق الرسل إلا على هذه الطريقة فهي كذلك جارية مجرى أدلة الأقوال

هذا حاصل كلام القاضي أبي بكر ابن الباقلاني في أحد قوليه وأبي المعالي ونحوهما وضربوا لذلك مثلا فقالوا إذا تصدى ملك للناس وتصدر لتلج عليه رعيته وأتباعه وغيره واحتفل المجلس واحتشد وقد أرهق الناس شغل شاغل فلما أخذ كل مجلسه وترتب الناس على مراتبهم انتصب واحد من خواص الناس وقال معاشر الأشهاد قد حدث بكم أمر عظيم وأظلكم خطب جسيم وأنا رسول الملك إليكم ومؤتمنه لديكم ورقيبه عليكم ودعواي هذه بمرأى من الملك ومسمع فإن كنت أيها الملك صادقا في دعواي فخالف عادتك وجانب سجيتك وانتصب في خدرك قائما ثم اقعد ففعل الملك ذلك على وفق دعواه وموافقة هواه فيتيقن الحاضرون علم الضرورة بتصديق الملك إياه وتنزيل الفعل الصادر منه منزلة القول المصرح بالتصديق

فهذا العمدة في ضرب المثال فإن تعسف متعسف في الصورة التي فرضنا الكلام فيها وزعم أنه لا يحصل العلم بتصديق الملك لمن يدعي الرسالة كان ذلك جحدا منه لما علم اضطرارا فإن نعلم ببديهة العقول عندما قدمناه من القرائن حالا ومقالا إن أحدا من الذين شهدوا وشاهدوا لا يستريب في تصديق الملك لمدعي الرسالة ولا يعرض أحد منهم بعد ظهور الإمارات على تشكيك النفس وترديد القول ولا تحوجهم قضية الحال إلى سبر ونظر وإطالة فكر بل يستوي النظار الذين لا خبرة لهم في النظر

فصل

عدل

قال المصنف والدليل على نبوة الأنبياء المعجزات والدليل على نبوة نبينا القرآن المعجز نظمه ومعناه قلت قد تبين أن النبوة تعلم بالمعجزات وبغيرها على أصح الأقوال وأما نبوة نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام فإنها تعرف بطرق كثيرة منها المعجزات ومعجزاته منها القرآن ومنها غير القرآن والقرآن معجز بلفظه ونظمه ومعناه وإعجازه يعلم بطريقين جملي وتفصيلي أما الجملي فهو أنه قد علم بالتواتر أن محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ادعى النبوة وجاء بهذا القرآن وأن في القرآن آيات التحدي والتعجيز كقوله تعالى أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين فتحداهم هنا أن يأتوا بمثله

وقال في موضع آخر فليأتوا بعشر سور مثله مفتريات وقال في موضع آخر فأتوا بسورة من مثله وأخبر مع ذلك أنهم لن يفعلوا فقال وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوى شهداؤكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار بل أخبر أن جميع الإنس والجن إذا اجتمعوا لا يأتون بمثله فقال قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا وقد علم أيضا بالتواتر أنه دعا قريشا خاصة والعرب عامة وأن جمهورهم في أول الأمر كذبوه وآذوه وآذوا الصحابة وقالوا فيه أنواع القول مثل قولهم هو ساحر وشاعر وكاهن ومعلم ومجنون وأمثال ذلك وعلم أنهم كانوا يعارضونه ولم يأتوا بسورة من مثله وذلك يدل على عجزهم عن معارضته لأن الإرادة الجازمة لا يتخلف عنها الفعل مع القدرة

ومعلوم أن إرادتهم كانت من أشد الإرادات على تكذيبه وإبطال حجته وأنهم كانوا أحرص الناس على ذلك حتى قالوا فيه ما يعلم أنه باطل بأدنى نظر وفيلسوفهم الكبير الوحيد فكر وقدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر وليس هذا موضع ذكر جزئيات القصص إذ المقصود ذكر ما علم بالتواتر من أنهم كانوا من أشد الناس حرصا ورغبة على إقامة حجة يكذبونه بها حتى كانوا يتعلقون بالنقض مع وجود الفرق فأنه لما نزل إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم عارضوه بالمسيح حتى فرق الله تعالى بينها بقوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون وقال تعالى ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أءلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون فمن عارضوا خبره بمثل هذا كيف لا يدعون معارضة القرآن وهم لا يقدرون على ذلك وقوله وما تعبدون خطاب للمشركين لم يدخل فيه أهل الكتاب ولا تناول اللفظ المسيح كما يظنه ظان من الظانين بل هم عارضوه بالمسيح من باب القياس يقولون إذا كانت الأنبياء من حصب جهنم لأنها معبودة كذلك المسيح وهذا كما قال تعالى ولما ضرب ابن مريم مثلا فإنهم جعلوه مثلا لآلهتهم ولم يوردوه لشمول اللفظ كما يظن ذلك بعض المصنفين في الأصول

ولهذا بين الله الفرق بين المسيح وبين آلهتهم بأن المسيح عبد الله يستحق الثواب ولا يظلم بذنب غيره بخلاف الحجارة وإن في جعلهم من الأنبياء حصب جهنم إهانة له بذلك من غير ظلم ثم انتشرت دعوته في أرض العرب ثم في سائر الأرض إلى هذا الوقت وآيات التحدي قائمة متلوة وما قدر أحد أن يعارضه بما يظن أنه مثل

ولما جاء مسيلمة ونحوه بما أتوا به يزعمون أنهم أتوا بمثله كان ما أتوا به من المضاحك التي لا تحتاج للمعرفة بانتفاء مماثلها إلى نظر وذلك كمن جاء إلى

الرجل الفارس الشجاع ذي اللامة التامة فأراد أن يبارزه بصورة مصورة ربطها على الفرس كقوله مسيلمة يا ضفدع بنت ضفدعين كم تنقنقين لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين رأسك في الماء وذنبك في الطين وقوله أيضا الفيل وما أدراك ما الفيل له زلوم طويل إن ذلك من خلق ربنا الجليل وأمثال ذلك

ولهذا لما قدم وفد بني حنيفة على أبي بكر وسألهم أن يقرأوا له شيئا من قرأن مسيلمة فاستعفوه فأبى أن يعفيهم حتى قرأوا شيئا من هذا فقال لهم الصديق ويوحكم أين يذهب بعقولكم إن هذا كلام لم يخرج من إل أي من رب فاستفهم استفهام المنكر عليهم لفرط التباين وعدم الالتباس وظهور الافتراء على هذا الكلام وإن الله سبحانه وتعالى لا يتكلم بمثل هذا الهذيان وأما الطرق فكثيرة جدا متنوعة من وجوه وليس كما يظنه بعض الناس وإن معجزته من جهة صرف الدواعي عن معارضته وقول بعضهم إنه من جهة فصاحته وقول بعضهم من جهة إخباره بالغيوب إلى أمثال ذلك فإن كلا من الناظرين قد يرى وجها من وجه الإحجار وقد يريد الحجر وإن لم ير غيره ذلك الوجه واستيعاب الوجوه ليس هو مما يتسع له شرح هذه العقيدة

فصل

عدل

قال المصنف ثم نقول كلما أخبر به محمد من عذاب القبر ومنكر ونكير وغير ذلك من أهوال القيامة والصراط والميزان والشفاعة والجنة والنار فهو حق لأنه ممكن وقد أخبر به الصادق فيلزم صدقه والكلام على هذا في فصول

أحدها

أن يقال أن هذه العقيدة اشتملت على الكلام في الإيمان بالله سبحانه وبرسله واليوم الآخر ولا ريب أن هذه الأصول الثلاثة هي أصول الإيمان الخبرية العلمية وهي جميعها داخلة في كل ملة وفي إرسال كل رسول فجميع الرسل اتفقت عليها كما اتفقت على أصول الإيمان العملية أيضا مثل إيجاب عبادة الله تعالى وحده لا شريك له وإيجاب الصدق والعدل وبر الوالدين وتحريم الكذب والظلم والفواحش فإن هذه الأصول الكلية علما وعملا هي الأصول التي اتفقت عليها الرسل كلهم والسور التي انزلها الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام قبل الهجرة التي يقال لها السور المكية تضمنت تقرير هذه الأصول كسورة الأنعام والأعراف وذوات ألر وحم وطس ونحو ذلك والإيمان بالرسل يتضمن الإيمان بالمكتوب وبمن نزل بها من الملائكة وهذه الخمسة هي أصول الإيمان المذكورة في قوله تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وفي قوله عز وجل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا وهي التي أجاب بها النبي لما جاءه جبريل في صورة أعرابي وسأله عن الإيمان فقال الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره والحديث قد أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأخرجه مسلم من حديث عمر بن الخطاب وهو من أصح الأحاديث فتلك الثلاثة

تتضمن هذه الخمسة والله تعالى أنزل سورة البقرة وهي سنام القرآن وجمع فيها معالم الدين واصوله وفروعه إلى أمثال ذلك فإن النظر فيها وجه من وجوه الإيجاب ولما ذكر في أولها أصناف الخلق وهم ثلاثة مؤمن وكافر ومنافق أخذ بعد ذلك يقرر أصول الدين فقرر هذه الأصول الثلاثة الإيمان بالله ثم الرسالة ثم اليوم الآخر فإنه أنزل أربع آيات في المؤمنين وآيتين في صفة الكافرين وبضعة عشرة آية في صفة المنافقين ثم قال تعالى تقريرا للنبي يا أيها الناس اعبدوا ركبم الذي خلقكم إلى قوله تعالى بسورة من مثله فإنه ذكر التحدي هكذا في غير موضع من القرآن

الفصل الثاني

عدل

إن مسائل ما بعد الموت ونحو ذلك الأشعري وأتباعه ومن وافقهم من أهل المذاهب الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية يسمونها السمعيات بخلاف باب الصفات والقدر وذلك بناء على أصلين

أحدهما أن هذه لا تعلم إلا بالسمع والثاني إن ما قبلها يعلم بالعقل وكثير منهم أو أكثرهم يضم إلى ذلك أصلا آخر وهو أن السمع لا يعلم صحته إلا بتلك الأصول التي يسمونها بالعقليات مثل إثبات حدوث العالم ونحو ذلك وأما محققوهم فيقولون إن العلم بحدوث العالم ليس من الأصول التي تتوقف صحة السمع عليها بل يمكن العلم بصحة السمع ثم يعلم بالسمع خلق السموات والأرض ونحو ذلك وأما الأصلان الأولان فنازعهم فيها طوائف مثل أمر المعاد فإنه قد ذهب طوائف إلى أنه يعلم بالعقل أيضا وهذا قاله طوائف من المعتزلة ومن غير المعتزلة أيضا من أتباع الأئمة الأربعة حتى من أصحاب أحمد كابن عقيل وغيره والفلاسفة الإلهيون يثبتون معاد النفوس بالعقل وقد وافقهم على إثبات معاد الأرواح بالعقل طوائف من أهل الكلام والتصوف وغيرهم وإن كان هؤلاء يثبتون معاد الأبدان أيضا أما بالسمع وأما بالعقل

فالمقصود أن العقل عندهم قد يعلم به أما معاد الأرواح وأما المعاد مطلقا وأما إنكار الفلاسفة لمعاد الأبدان مما اتفق أهل الملل على إبطاله

الفصل الثالث

عدل

إن من انتسب إلى الملل منهم من المسلمين واليهود والنصارى هم مضطربون في ما جاءت به الأنبياء في المعاد فالمحققون منهم يعلمون أن حججهم على قدم العالم ونفي معاد الأبدان ضعيفة فيقبلون من الرسل ما جاؤوا به ومنهم قوم واقفة متحيرون لتعارض الأدلة وتكافئها عندهم ومنهم قوم أصروا على التكذيب ثم زعموا أن ما جاءت به الرسل هو أمثال مضروبة لتفهم المعاد الروحاني وهؤلاء إذا حقق عليهم الأمر صرحوا بأن الرسل تكذب لمصلحة العالم وإذا حسنوا العبارة قالوا إنهم يخيلون الحقائق في أمثال خيالية وقالوا إن خاصة النبوة تخييل الحقائق للمخاطبين وإنه لا يمكن خطاب الجمهور إلا بهذا الطريق كما يزعم ذلك الفارابي وأمثاله مع أن الفارابي له في معاد الأرواح ثلاثة أقوال متناقضة تارة يقول لا تعاد وينكر المعاد بالكلية وتارة يقول إنها تعاد وتارة يفرق بين الأنفس العالمة والجاهله فيقر بمعاد العالمة دون الجاهلة ولهم في تفضيل النبي على الفيلسوف أو بالعكس نزاع فعقلاؤهم كابن سينا وأمثاله يفضل النبي على الفيلسوف وأما غلاتهم فيفضلون الفيلسوف ولا ريب أن أوليهم ليس لهم في النبوات كلام محصل وكلامهم في الإلهيات قليل وإنما توسع القوم في الأمور الطبيعية والرياضية ومصنفات معلمهم الأول أرسطو عامتها من ذلك والذي فيها من الإلهيات أمر في غاية القلة مع اضطرابه وتناقضه فإذا عرف ذلك فما جاء به السمع من أمر المعاد قرره عليهم النظار بطريقين أحدهما ببيان الكلام الصريح في إثبات معاد الأبدان وتفاصيل ذلك والثاني إن العلم بأن الرسل جاءت بذلك علم ضروري فإن كل من سمع القرآن والأحاديث المتواترة وتفسير الصحابة والتابعين لذلك علم بالاضطرار إن الرسول أخبر بمعاد الأبدان وإن القدح في ذلك كالقدح في أنه جاء بالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان وحج البيت العتيق ونحو ذلك والقرامطة الباطنية

وهم من الفلاسفة أنكروا هذا وهذا وزعموا أن هذه كلها رموز وإشارات إلى علوم باطنة كما يقولون إن الصلاة معرفة أسرارنا والصيام كتمان أسرارنا والحج زيارة شيوخنا المقدسين ونحو ذلك مما هو مذكور في الكتب المؤلفة في كشف أسرارهم وهتك أستارهم ولهؤلاء القرامطة صنفت رسائل أخوان الصفا وهم الذين يقال لهم الإسماعيلية لانتسابهم إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر

قال ابن سينا كان أبي وأخي من أهل دعوتهم ولهذا اشتغلت بالفلسفة وأما الفلاسفة الذين لم يدخلوا في القرامطة المحضة فهم لا ينكرون العبادات والشرائع العملية بل قد يوجبون إتباعها والعمل بها لا سيما من دخل منهم في التصوف أو الكلام لكن منهم من يوجب اتباعها على العامة دون الخاصة أو يوجبها من غير الوجه الذي أوجبها الرسول كما يجوزون أن يكون بعد محمد من يأتي بشريعة أخرى ويقولون أن أحدهم يخاطبه الله سبحانه وتعالى كما خاطب موسى بن عمران ويعرج به كما عرج بالنبي وأمثال هذه المقالات التي كثرت لما ظهرت الفلسفة التي أفسدت طوائف من أهل التصوف والكلام

الفصل الرابع

عدل

إنه إذا ثبتت الرسالة ثبت ما أخبر به الرسول مما ينكره بعض أهل البدع كعذاب القبر وسؤال منكر ونكير وكالصراط والشفاعة والحوض ونحو ذلك مما استفاضت به الأحاديث الصحيحة عن النبي وقد يستدل عليه بدلائل من القرآن أيضا لكن ليس التصريح به في القرآن والتصريح بالجنة والنار وقيام القيامة وحشر الخلق ولهذا لم ينكر القيامة ومعاد الأبدان أحد من أهل القبلة وأنكر هذه الأمور التي جاءت بها الأحاديث المستفيضة بل المتواترة عند علماء أهل الحديث طوائف من أهل البدع إما من المعتزلة وإما من الخوارج وإما من غيرها

الفصل الخامس

عدل

إن هذا المصنف وأمثاله إنما يذكرون الإيمان بالسمعيات على طريق الإجمال وأما العلم بتفصيل ذلك فإنما يعرفه من عرف الأحاديث الصحيحة في هذا الباب وما جاء في ذلك من آيات القرآن الكريم وتفسيرها الثابت عن الصحابة والتابعين ونحوهم

الفصل السادس

عدل

إنه إذا علم أن محمدا رسول الله وأن الله تعالى مصدقه في قوله إني رسول الله إليكم فالرسول هو المخبر عن المرسل بما أمره أن يخبر به علم بذلك أنه صادق فيما يخبر به عن الله تعالى إذ الكاذب فيما يخبر به ليس برسول في ذلك كما أن الذي لم يرسل بشيء قط هو كاذب في كل ما يخبر به عمن زعم أنه أرسله بالأمر كما قال إذا حدثتكم عن الله فلن أكذب على الله وكما يعلم أنه صادق في قوله إني رسول الله إليكم يعلم أنه صادق في قوله إن الله تعالى يقول لكم كذا ويأمركم بكذا فتكذيبه في هذا الخبر المعين كتكذيبه في الأخبار بأصل الرسالة والطرق التي بها يعلم صدقه في المطلق يعلم بها صدق في المعين وأولى فإن ما دل على الصدق في كل ما يخبر عن الله دل على الصدق في هذا الخبر المعين كالمعجزة وإن المعجزة دلت على صدقه في دعواه ودعواه أني صادق على الله فيما أخبر به عنه لم يدع الصدق عليه في بعض الأمور التي يخبر بها عنه دون بعض بل قال الله فيما أخبر به عنه ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين وقال تعالى أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشاء الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور وقال تعالى وإذا تتلى عليهم آيتاتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون وقال تعالى وإن كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا وقال تعالى وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين حقيق علي أن لا أقول على الله إلا الحق والرسول الذي يكذب على مرسله مثل الذي يكذب في أصل الرسالة والله تعالى عالم بحقائق الأمور فلا فرق بين إظهار المعجز على يد من يكذب في أصل الرسالة أو يكذب فيما يخبر به عن مرسله

الفصل السابع

عدل

إنه إذا ثبت صدقه في كل ما يخبر به عن الله تعالى فمما أخبر به عنه القرآن فإنه قد علم بالاضطرار أنه بلغ القرآن عن الله سبحانه وأخبر ان القرآن كلام الله لا كلامه ومما أخبر به الله في القرآن إن الله أنزل عليه الكتاب والحكمة وأنه أمر أزواج نبيه عليه الصلاة والسلام أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة وإنه امتن على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة

ومن المعلوم أن ما يذكر في بيوت أزواج النبي إما القرآن وإما ما يقوله من غير القرآن وذلك هو الحكمة وهو السنة فثبت إن ذلك مما أنزله الله وأمر بذكره وقد أمر الله تعالى بطاعته في القرآن في آيات كثيرة وقال ومن يطع الرسول فقط أطاع الله وقال عز وجل والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وقال سبحانه وتعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا فهذا وأمثاله يبين أن الله عز وشأنه أوجب اتباعه فيما يقوله وإن لم يكن من القرآن وأيضا فرسالته اقتضت صدقه فيما يخبر به عن الله تعالى من القرآن وغير القرآن الله فوجب بذلك تصديقه فيما أخبر به وإن لم يكن ذلك من القرآن والله سبحانه أعلم

والحمد لله والصلاة على خاتم رسول الله محمد وآله وصحبه أجمعين