شرح تشريح القانون لابن سينا/القسم الأول/الجملة الأولى/الفصل الثامن

​شرح تشريح القانون لابن سينا​ المؤلف ابن النفيس
القسم الأول
الجملة الأولى - الفصل الثامن



الفصل الثامن

منفعة العنق وتشريح عظامه


الكلام في هذا الفصل يشتمل على مباحث: البحث الأول قول كُليّ في فقار العنق قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه العنق مخلوقة لأجل قصبة الرئة... إلى قوله: لكن للخرزة الأولى والثانية خواص.

الشرح

تختلف الحيوانات في العنق فبعض الحيوانات لا عنق له كالسمك والفيل، ونحو ذلك من الحيوانات التي لا تصويت لها بفمها، فإن هذه الحيوانات لا حاجة فيها إلى آلة يتم بها هذا الصوت، فلا حاجة بها إلى الحنجرة ولا إلى قصبة الرئة. وبعض الحيوان له عنق، وكل حيوان يحتاج أن يصوت بفمه لأن هذا الحيوان يحتاج إلى خزانة يتجمع فيها هواء كثير ثم يخرج منها جملة بقوة في منفذ طويل صلب ضيق في آخره ثم يفضي إلى فضاء يحيط به جرم صلب وذلك الفضاء ضيق الآخر، ثم ينفصل منه الهواء إلى فضاء الفم، فيحدث من ذلك الصوت فالخزانة هي الرئة وهي إذا انقبضت بتحريك الصدر لها، انفصل منها الهواء بقوة، ونفذ في قصبة الرئة، وهي جرم صلب حتى إذا قرعها الهواء الخارج بقوة حدث من ذلك صوت، ثم يحتبس ذلك الهواء في هذه القصبة لأجل ضيق فمها، ويخرج منها بقوة لأجل ضيق ذلك الفم، فينتشر في فضاء الحنجرة وهي أيضاً من جرم صلب فيتم بذلك تكون الصوت، ثم ينفصل عن الحنجرة بقوة لأجل ضيق فمها أيضاً، فيحصل في فضاء الفم، وبذلك يكمل ويحسن وهناك ينفصل إلى مقاطع محدودة، ومقصورة تتألف منها الحركات والحروف ومن ذلك تتألف الكلمات للإنسان فلذلك تكون القصبة مع الحنجرة بمنزلة البوق في التصويت، وهذه القصبة مع الحنجرة لا يمكن أن يقوم بها فقط العنق وإلا لم يمكن إقلالها للرأس، فلا بد مع القصبة من عظام أخر يكون المجموع ذلك العنق. فلا بد وأن تكون هذه العظام هي التي ينفذ فيها النخاع فإنه لو كان في العنق عظام أخر لغلظ جداً وثقل، والعظام التي ينفذ فيها النخاع هي عظام الفقار. فإذاً العنق إنما يتقوم بهذه العظام وهذه العظام سبعة لأن الإنسان يحتاج كثيراً أن يطأطىء رأسه وبعض عنقه إلى قدام في حال إرادته النظر إلى أمام رجليه ونحو ذلك، وإنما يمكن ذلك بأن يكون بميل وسط العنق إلى خلف، وإنما يمكن ذلك إذا كان هذا الميل بتدريج فلو مالت حينئذٍ إلى خلف فقرة واحدة دون ما يجاورها لزم ذلك انقطاع النخاع هناك وخروج تلك الفقرة عن وضعها الطبيعي، وكان ذلك لها كالخلع فلا بد وأن يكون هذا الميل بتدريج وإنما يمكن ذلك بأن تكون مع الفقرة المائلة كثيراً فقرتان مائلتان معها قليلاً وإحداهما فوقها والأخرى تحتها فلا بد وأن يكون المائل إذاً إلى قدام غير هذه الثلاثة ولا بد وأن يكون من كل جهة أعني فوق وأسفل أكثر من واحدة فإن ميل الواحدة لا يمكن أن يكون أزيد من ميل الثلاثة إلى خلف فلا بد وأن تكون اثنتان من فوق واثنتان من أسفل، فلذلك لا بد وأن تكون فقرات العنق سبعاً، وتحتاج أن يكون للعنق حركات متفننة إلى جهات كثيرة ليسهل للإنسان تحريك رأسه إلى الإشراف على أكثر بدنه وإنما يمكن ذلك بأن يكون في العنق عضلات كثيرة وأوتار وأعصاب، وتحتاج هذه إلى عروق وشرايين كثيرة فلذلك لا بد في العنق من ذلك كله، ولا بد وأن تكون زوائد فقار العنق غير معاوقة عن كثرة هذه الأعضاء وإنما يمكن ذلك بأن تكون سناسنها صغاراً وأجنحتها منقسمة إلى قسمين ليمكن دخول هذه الأعضاء بينها. وكذلك ينبغي أن تكون في أجنحتها ثقوب وتنفذ فيها هذه الأعصاب حتى لا تضيق.

قوله: ولما صغرت سناسنها جعلت أجنحتها كباراً ذوات رأسين مضاعفة العرض بانقسام الأجنحة إلى قسمين ليس تضعيف الجناح، فإن ذلك يزيد في الثقل، وهو غير مطلوب ها هنا بل الغرض حدوث الفرج فيها، حتى لا يعاوق نفوذ ما تحتاج أن ينفذ هناك من العروق والأعصاب ونحوهما، وأيضاً فإن عظم السنسنة إذا كان مؤدياً إلى انكسار الفقرات الرقاق فعظم الأجنحة كذلك أيضاً، وأيضاً صغر السنسنة لا يلزمه كبر الجناح. والله ولي التوفيق.

البحث الثاني أحكام الفقرة الأولى من فقار العنق قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه لكن للخرزة الأولى والثانية خواص ليست... إلى قوله: وأما الخرزة الثانية فلما لم يمكن.

الشرح خرزات العنق تحتاج جميعها أن تكون مفاصلها إلى سلاسة ما لتكون حركة الرأس إلى الجهات جميعاً سهلة وأولاها بذلك الخرزة الثانية والثالثة، فإن حركة أعلى العنق إلى الجهات أكثر، والحاجة إلى ذلك أشد من حركة أسافل العنق، لأن الغرض من حركة العنق إنما هو تحريك الرأس، وذلك يتم بحركة ما هو إليه اقرب.

وأما الخرزة الأولى فإن حركتها متعذرة لما نقوله بعد وحركة الرأس وحده يمنة ويسرة يتم بمفصل بينه وبين الفقرة الأولى، وذلك لأن هذا المفصل لو كان مع فقرة أخرى لكانت تكون حركة الرأس هذه غير خاصة به بل مع العظام التي تكون فوق تلك الفقرة فلذلك وجب أن تكون حركة الرأس من قدام إلى خلف تتم بمفصل بينه وبين الفقرة الثانية وتكون حركة الرأس وحده بمفصل بينه وبين هذه الفقرة أعني الأولى لأن مفصل حركته يميناً وشمالاً هو بأسفل الجدار الرابع، وذلك مائل إلى مؤخر الرأس وذلك يلزمه أن يكون أكثر جرم الرأس إلى قدام هذا المفصل والفكان موضوعان أمام الرأس وإلى أسفل فلذلك يكون ثقل الرأس إلى قدام كثيراً جداً، وذلك يحوج أن يكون العظم الذي عليه هذا المفصل مائلاً جداً عن الفقرة الأولى إلى قدام وإذا كان كذلك لم يمكن أن يكون ذلك العظم تبرز منها إلى قدام، لأن ذلك العظم كان يكون حينئذٍ معرض للانكسار فلا يقوى على حمل الرأس، إلا أن يكون غليظاً قوياً، وذلك مما لا يقوى على إقلاله الفقرة الأولى، فلذلك احتيج أن يكون هذا المفصل بين الرأس وبين فقرة أخرى ولا يمكن أن يكون ذلك بالفقرة الثالثة وما هو أسفل منها لأن ذلك يحوج أن يكون العظم الذي يرتفع من تلك الفقرة إلى الرأس طويلاً جداً. وذلك يلزمه ضعفه عن إقلاله الرأس، فلذلك جعل هذا المفصل بين الرأس والفقرة الثانية، وذلك بأن أبرز من الفقرة الثانية عظم طويل جداً يسمى السن، والنواة لأنه يشبه كلاً من هاتين وجعل ارتفاعه ولا يزال كذلك يرتفع حتى ينتهي إلى عظام الرأس حيث يكون على اعتداله في الميل إلى خلف وقدام وحينئذٍ يدخل رأسه بعد تمليته في فقرة من عظام الرأس مملسة فتكون حركة الرأس وحده إلى قدام وخلف وهو على ذلك العظم وبذلك العظم يتعادل ميل الرأس بنقله إلى خلف، وإلى قدام، فلذلك حركة الرأس وحده إلى قدام وخلف، وهو بمفصل بينه، وبين الفقرة الثانية على الوجه الذي قلناه.

قوله: زائدة طويلة صلبة يجوز وتنفذ في الثقبة الأولى إلى قدام النخاع هذه الزائدة لا يمكن أن تنفذ في ثقبة الفقرة الأولى وإلا احتيج أن يكون هذا الثقب عند أعلاه شديد السعة إلى قدام، لأن هذه الزائدة أعلاها إما مائل جداً إلى قدام لأنه ينتهي إلى حيث يكون ثقل الرأس مع الفكين من قدامها مساوياً لثقله من خلفها، وإنما يكون كذلك لبقي بين النخاع وبين هذه الزائدة من فوق فضاء كثير، وكان ذلك التركيب واهياً، والذي قاله جالينوس: وفي الفقرة الأولى لهذه الزائدة موضع قد هيئ ليتمكن فيه ويعتمد عليه اعتماداً حريزاً وهذا الكلام لا يلزمه أن تكون هذه الزائدة تدخل في ثقب الفقرة الأولى، وفي الجوامع.

وأما الفقرة الثانية فيصل بينها وبين الرأس، ويربطها به زائدة شبيهة بالسن تشخص من الفقرة الثانية مصعدة وهي جزء من الفقرة الأولى.

أقول: إن هذه الزائدة تشبه أن تكون دعامة للزائدة التي هي السن من ورائها ليكون وضعها محفوظاً موثوقاً.

قوله: ولهذه المعاني غربت عن الأجنحة.

الذي قاله جالينوس: إن هذه الفقرة الأولى لا سنسنة لها، ولا جناحان لكن هذان الجناحان، وجناحا الفقرة الثانية غير مشقوقة.

قوله: وكذلك لو كانت حيث يلتق الثانية لزائدتيها اللتين تدخلان منها في نقرتي الثانية.

الذي قاله جالينوس: وفي الفقرة الأولى حفرتان أخريان قليلتا العمق في أسفلهما شبيهتان بالنقرتين اللتين في أعلاها إلا أن تكون النقرتان اللتان في أعلاها أكبر، ولذلك كان ينبغي لمكان اتصال الرأس بهما، والنقرتان اللتان في أسفلهما أصغر.

قوله: بمفصل سلس متحرك إلى قدام وخلف.

والذي يظهر لي، والله أعلم، أن الفقرة الأولى ليست تتحرك لمفصل بينها وبين الفقرة الثانية لا إلى خلف وقدام، ولا إلى اليمين واليسار.

أما على ما قاله الشيخ في السن الصاعدة في ثقب الفقرة الأولى فظاهر لأن هذا السن لأجل أنه جزء من الفقرة الثانية فليس بينهما مفصل يمنع لا محالة من حركة الفقرة الأولى بدون الثانية لأنه داخل فيها، وأما على ما هو الحق وهو أن هذا السن يصعد أمام الفقرة الأولى في أسفلها جزء تدخل فيه هذا السن أيضاً فظاهر أيضاً لأن حصول هذا السن في ذلك الجزء يمنع من حركة الفقرة الأولى يمنة ويسرة. وكونه أمامها، وملاقياً لأسفلها يمنع من حركة هذه الفقرة إلى قدام فذلك الحق.

واعلم أن هذه الفقرة لا حركة لها بدون الفقرة الثانية. والله أعلم.

البحث الثالث أحكام الفقرة الثانية من فقار العنق قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وأما الخرزة الثانية فلما لم يكن... إلى آخر الفصل.

الشرح قوله: فلما لم يكن أن يكون مخرج العصب فيها من فوق حيث أمكن لهذه إذا كان يخاف عليها لو كان مخرج عصبها كما للأولى أن ينشدخ ويترضض بحركة الفقرة الأولى.

الذي يظهر من هذا الكلام أن مخرج العصب في الفقرة الأولى من فوق وهذا قد أبطله في كلامه في الفقرة الأولى وهو ظاهر البطلان بما قاله في كلامه في الفقرة الأولى.

قوله: ولا أمكن من الجانبين وإلا كان ذلك بشركة مع الأولى ولكان الثابت دقيقاً.

هذا الكلام أيضاَ لا يصح لأنه بين أو لاً أن ثقبي الفقرة الأولى ليستا عن جانبيها ولو فرضنا أنهما على جانبيها لم يمكن أن يكون ثقبا الثانية بشركة الأولى.

قوله: وإذا تحرك الرأس مع مفصل إحدى الفقرتين صارت الفقرة الثانية ملازمة لمفصلها الآخر كالمتوحد حتى إن تحرك الرأس إلى قدام وخلف صار مع الفقرة الأولى كعظم واحد هذا بناءً على ما قاله أو لاً.

وهو أن حركة الرأس إلى قدام، وخلف هو بالمفصل الذي بين الفقرة الأولى والثانية. وقد أبطلنا ذلك. والله ولي التوفيق.