شرح تشريح القانون لابن سينا/القسم الثاني/الفصل الأول/البحث الثالث

​شرح تشريح القانون لابن سينا​ المؤلف ابن النفيس
القسم الثاني
معرفة الرأس وأجزائه - البحث الثالث



البحث الثالث

الأجزاء التي ينقسم إليها الدماغ


قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه وفرق ما بين الجزأين باندراج الحجاب الصلب... إلى قوله: فجعل الطي دعامة لها.

الشرح الدماغ يعرض له الانقسام بأمرين وكلاهما بأن يكون ما ينقسم إليه الأجزاء لكن الأشياء التي ينقسم إليها بأحد الأمرين، يخص باسم الأجزاء، والأشياء التي ينقسم غليها بالأمر الآخر يخص باسم البطون، والأشياء التي يخص باسم الأجزاء ليس بعضها بأن يكون أعظم من الآخر أولى من العكس. فلذلك يجب في هذه الأجزاء أن تكون متساوية أعني إنها تكون متساوية في القطر الذي انقسمت فيه فلذلك انقسم الدماغ إلى جزأين: أحدهما يميناً، والآخر شمالاً هما لا محالة متساويان في جميع الأقطار وذلك لأن هذه القسمة إنما كانت ليقوم أحد الجزأين بالأفعال الواجبة في الحياة عند فساد الجزء الآخر وإنما يكون ذلك إذا كان أحد الجزأين مساوياً للآخر في جميع الأقطار حتى يكون أحدهما مثل الآخر حتى تكون جميع أفعاله مثل جميع أفعال الآخر.

وأما انقسام الدماغ إلى جزأين: أحدهما مقدم، والآخر مؤخر، فيجب أن يكون هذان الجزآن متساويين في الطول إذ ليس أحدهما بأن يكون أطول من الآخر أولى من العكس، وأما في العرض والسمك فيجب أن يكونا مختلفين جداً، لأن مقدم الدماغ أكثر عرضاً وسمكاً من مؤخره، فلذلك يكون الجزء المؤخر من هذين أدق من الجزء المقدم.

وأما الأشياء التي يخص البطون مما ينقسم الدماغ إليه فإنها يجب فيها أن تكون مقاديرها مختلفة بحسب الأغراض المقصودة منها. فالبطن المقدم لما كان محلاً للصور المحسوسة بالحواس الظاهرة والمحسوسة بالبصر منها هي لا محالة مثل المحسوسات الخارجية، وتلك المثل إنما يتصور فيما له مساحة فلذلك يجب أن يكون هذا البطن عظيماً جداً حتى يمكن أن يتسع لمثل كثرة الأمور الخارجة. وأما البطن المؤخر فإنه لما كان محلاً لمعاني الصور المحسوسة وتلك المعاني هي لا محالة مما لا مساحة لها، فلذلك لا يضر فيها صغر المكان، ولا يحتاج الكثير منها إلى محل كبير، فلذلك جعل البطن المؤخر من بطون الدماغ صغيراً جداً بالقياس إلى البطن المقدم بل هو أصغر كثيراً من كل واحد من جزأيه اللذين أحدهما في اليمين والآخر في الشمال، فأما البطن الوسط فإنه لما كان كالدهليز الذي يحتاج إليه القوة التي في مؤخر الدماغ لأن يشرف منه على جميع ما في البطن المقدم من الصور على ما تعرفه بعد، وجب أن يكون في مقداره على المقدار الذي لا بد منه في ذلك.

فلذلك هو صغير جداً بالنسبة إلى البطن المقدم بل هو أيضاً صغير بالنسبة إلى البطن المؤخر لأنه مؤد إليه، فالمؤدي لا محالة أصغر من الذي يؤدي هو إليه فلذلك يكون البطن المقدم أعظم كثيراً من مجموع البطنين الآخرين، فلذلك الغشاء القاسم للدماغ بنصفين، وهو الآخذ عن يمين الدماغ إلى يساره يجب لا محالة أن يقع في بعض البطن المقدم، فلذلك هذا الغشاء لا يجوز أن يمر في أعلى الدماغ إلى أسفله على الاستواء، وإلا كان يفصل مؤخر البطن المقدم عن مقدمه وكانت الروح التي في مقدم البطن المقدم لا يتمكن من النفوذ إلى مؤخره، فلذلك هذا الغشاء إذا قطع سقف البطن المقدم انحرف من التسفل إلى تغشية باطن هذا البطن، فتكون فائدة غوص هذا الغشاء في جرم الدماغ، هو التمكن من تغشية باطنه، وإنما اختص غوصه بمنتصف أعلى الدماغ لأنه لا موضع أولى بذلك من آخر فيجب أن يكون هذا الغوص في الوسط ليكون قسمته على باطن الدماغ على السواء فتكون هذه القسمة عادلة.

قوله: وإنما أدرج الحجاب فيه ليكون فصلاً أي ليفصل الجزء المقدم من الدماغ من الجزء المؤخر.

وهذا الكلام إنما يصح إذا كان انفصال الجزء المقدم من الجزء المؤخر له فائدة. وذلك مما لا يظهر ولو كان له فائدة لكانت تلك الفائدة هي فائدة إدراج الحجاب هناك من غير حاجة إلى توسط كونه فصلاً.

قوله: وقيل ليكون اللين مبرأ عن مماسة الصلب.

هذا الكلام في غاية الفساد.

وذلك لأن اللين غنما يجب أن يكون بينه وبين الصلب متوسطاً إذا كان هناك أمران: أحدهما أن يكون ما يلاقي اللين من الصلب بضربه. وأما إذا كان هذا الانتقال بالتدريج. فإن ذلك لا يجب لأن ما يلاقي أحد الجزأين حينئذٍ لا يكون بينه وبين ما يلاقيه تفاوت كثير في اللين والصلابة، فلا يمكن لملاقاته له مؤذية، ولو وجب هذا التوسط مع الانتقال لو جب أن يكون هذا المتوسط بين كل جزء من اللين وبين الجزء الذي يليه فكان يجب أن يكون غوص هذا الغشاء في مواضع كثيرة جداً، وليس كذلك.

وثانيهما: إن توسط شيء بين لين وصلب إنما يجب إذا كان ذلك المتوسط متوسطاً بينهما في الصلابة واللين إذ لو كان مساوياً للصلب في الصلابة لكانت ملاقاة اللين له كملاقاته للصلب المجاور له فكيف إذا كان هذا المتوسط أزيد صلابة من الصلب الملاقي?.

فإن تضرر اللين حينئذٍ يكون بملاقاة ذلك المتوسط أكثر.

قوله: ونحن نعلم بالضرورة أن جرم الغشاء، ولو بلغ في اللين إلى أي غاية بلغ إليها، فإنه لا يبلغ إلى أن يكون في قوام النخاع فضلاً عن مؤخر الدماغ فضلاً عن توسطه.

قوله: ولهذا الطي منافع أخر أيضاً لحفظ الأوردة النازلة هذا الكلام أيضاً لا يستقيم، وذلك لأن الأوردة النازلة إلى داخل القحف هي شعب من الوداج الغائر، وهذه الشعب تأتي الغشاء المجلل للقحف، وهو السمحاق ويغوص إلى داخل القحف في الدرز السهمي متفرقة في طوله، وهذا الدرز إنما يوازيه من أغشية الدماغ الغشاء المنصف للدماغ بنصفين يمنة ويسرة. وهذا الغشاء يصلح لحفظ أو ضاع تلك الشعب فتكون هذه المنفعة من منافع هذا الغشاء لا من منافع الغشاء الذي يغوص في جرم الدماغ في منتصف ما بين مقدمه ومؤخره، فإن هذا الغشاء مقاطع للدرز السهمي لا على محاذاته وإذا كان كذلك لم يمكن أن يكون حافظاً لأوضاع ما ينزل فيه من تلك الشعب. والله ولي التوفيق.