شرح تشريح القانون لابن سينا/القسم الثاني/الفصل الأول/البحث السادس

​شرح تشريح القانون لابن سينا​ المؤلف ابن النفيس
القسم الثاني
معرفة الرأس وأجزائه - البحث السادس



البحث السادس

تعديل بطون الدماغ


قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه

وللدماغ في طوله ثلاثة بطون... إلى قوله: للمؤخر عن المقدم موجود في الزرد.

الشرح لما كان الدماغ مبدأ للروح النفساني، وإنما يكون ذلك بإحالة المادة التي تتحقق منها إلى المزاج الذي به يتحقق ذلك، وذلك إنما يتم في زمان يعتد به، وجب أن تكون للروح الذي فيه يتكون من الروح النفساني مكاناً يبقى فيه زماناً في مثله يصير ذلك الروح نفسانياً وذلك المكان هو البطون ويجب أن تكون هذه البطون كثيرة لأن الروح الذي يتكون منه هذا الروح النفساني كما بيناه في موضعه هو الروح الذي يأتي من القلب فلا بد من مكان يتعدل فيه هذا الروح حتى يستعد لأن يصير نفسانياً، وإذا استعد لذلك وجب أن ينفذ إلى مكان آخر فيكمل فيه استحالته إلى الروح النفساني وإنما لا يبقى في مكانه إلى تمام هذه الاستحالة لأن ذلك المكان يحتاج أو لاً أن يخلو حتى يصير فيه روحاً آخر يستعد ذلك الاستعداد ثم يتحرك إلى حيث تكمل استحالته ليبقى عمل الدماغ في الروح الآتي من القلب مستمراً ومع ذلك لا يخلو عن روح نفساني ولو كملت استحالة هذا الروح في المكان الأول لكان إنما يمكن أن يصل إلى ذلك المكان روح آخر بعد خلوه، وإنما كان يخلو إذا توزع ذلك الروح النفساني على الأعضاء وحينئذٍ كان الدماغ يخلو عن روح نفساني إلى أن يكمل استحالته ذلك الوارد فلذلك احتيج أن تكون للروح النفساني مكان يسستعد فيه لذلك، ومكان يتم فيه استحالته إلى ذلك ولا بد من مكان آخر منه يتوزع ذلك الروح على الأعضاء فلذلك احتيج أن يكون للدماغ ثلاثة بطون: بطن يستعد فيه الروح الآتي من القلب لأن يصير نفسانياً، وبطن تتم فيه استحالته إلى ذلك، وبطن يتوزع منه الأعضاء.

فإن قيل: وهلا كان البطن الذي يكمل استحالته هو الذي يتوزع منه على الأعضاء قلنا هذا لا يصح وإلا كان الروح الذي استعد في البطن الأول لأن يصير نفسانياً إنما يصل إلى البطن الذي يكمل فيه استحالته بعد توزع ما في ذلك البطن من الروح على الأعضاء. وحينئذٍ كان يلزم ذلك خلو الدماغ عن روح نفساني هذه استحالة الروح المستعد لتمام الاستحالة، وذلك لا محالة يلزمه ضرر عظيم، فلذلك لا بد من أن يكون الدماغ ثلاثة بطون، وكل واحد من هذه البطون فإنه يجب أن يقسم إلى جزأين ليقوم كل واحد منهما بفعل ذلك البطن المقدم أظهر لأن هذا البطن لكبره يتسع لفاضل غليظ يفصل بين جزأيه، ولا كذلك غيره. والمشهور هو المذكور في الكتاب.

إن الروح الحيواني ينفذ أو لاً إلى البطن المقدم فينبطخ فيه أي أنه يستحيل فيه إلى مشابهة مزاج الروح النفساني استحالة ما ثم ينفذ بعد ذلك إلى البطن الأوسط ويزداد فيه هذه الاستحالة ثم إن هذه الاستحالة تكمل في البطن المؤخر وهذا مما لا يصح، وذلك لأن الروح الحساس يحتاج أن تكون بغاية الاعتدال ليحس بكل انحراف ويخرج عن الاعتدال، ولا كذلك الروح الذي به الذكر والفكر فإن هذا الروح يحتاج إلى أن يكون إلى الحرارة، ولذلك فإن البرودة شديدة الإضعاف للذكر. ولذلك فإن المشايخ يضعف هذه القوة الحافظة والذاكرة فيهم، وكذلك الفكر يضعف بالبرد، ولذلك فإن المشايخ الهرمين يعرض لهم الخرف كثيراً. فلذلك الحق: إن الروح الحيواني يصل أو لاً إلى البطن المؤخر فيعتدل فيه قليلاً ثم يزداد اعتدالاً في البطن الأوسط، وهو أشد اعتدالاً ثم يكمل هذا الاعتدال في البطن المقدم، فلذلك يكون الروح الذي في المقدم أشد اعتدالاً من الذي في البطن الأوسط وهو أشد اعتدالاً من الذي في البطن المؤخر، وما ذلك إلا أن الروح الحيواني ينفذ أو لاً إلى البطن المؤخر ثم ينفذ بعد ذلك إلى البطنين الآخرين. وهيئة التشريح تصدق ذلك، وتكذب قولهم، فإن نفوذ الشرايين إلى داخل القحف إنه لا يكون من البطن المقدم.

قوله: والغشاء الرقيق يستبطن بعضه فيغشي بطون الدماغ إلى الفجوة التي عند الطاق.

قد قالوا إن عند منتهى البطن المقدم موضعاً عميقاً، ومن هناك يبتدئ البطن الأوسط، وذلك الموضع يسمى مجمع البطنين أي أنه هناك يجتمع البطنان اللذان للبطن المقدم، وهما اللذان أحدهما يمنة والآخر يسرة، وهذا الموضع يسمى فجوة. وأما الطاق فقد يراد به الغشاء الرقيق الغائص في جرم الدماغ وهو الذي يقسمه إلى جزأين: أحدهما مقدم والآخر مؤخر.

وهذا الغشاء عند غوصه في الدماغ يغوص وهما طاقان: طاق من قدام ذلك الموضع، وطاق من مؤخره. وقد يراد بالطاق سقف البطن الأوسط لأنه كالقعد المستدير، ويغشيه الغشاء الرقيق لباطن الدماغ إنما هو قرب هذا الموضع، وذلك لأنه ما بعده إلى خلف تغشية صلابة هذه التغشية كما ذكرناه أو لاً. والله ولي التوفيق.