شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل

​شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل​ المؤلف الجويني


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي صدف شيطان الجهالة عن قلوب أوليائه، وصرف بصائرهم إلى معرفة حكمه الصادرة على لسان أنبيائه الهادين، والكفر قد استفحل ومرد شيطان إغوايه.

وصلواته على خير خلقه محمد الذي قهر بحججه فحول البيان وفرسان بلغائه.

وبعد فقد نطق بالخير اليقين صريح القرآن مبينا أن نصوص التوراة والإنجيل اشتملت على ذكر سيد المرسلين صلوات الله عليه.

وهذا السبب هو الحامل علماء الإسلام على القول بالتبديل. وقد أبى ذلك الفريقان النصارى واليهود وانتصرا بحجج كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.

ونحن ذاكروها الآن وذاكرون قصورهم عن البحث عن أسباب التعرف وركونهم إلى تمادي أكابرهم الجهلاء على الجهالة. ونبين إمكان التبديل وإجماع الفريقين على القول بوقوعه.

والعجب أنهم جازمون بوقوعه ومسفهون رأي من يتفوه بإمكانه. وقد احتج الفريقان على عدم إمكانه بعد اتفاقهم على القول بوقوعه. فانظر إلى هذه الجهالة. فقالوا:

«القول بوقوع التبديل مشروط بإمكانه، وإمكانه مشروط بتعلق العلم بحصر نسخ التوراة والإنجيل المبثوثة في أقطار الأرض مع اتساع خطتها، ومشروط أيضا بانقياد كل فرد من أفراد الفريقين: عالمهم وزاهدهم وعابدهم وبرهم وفاجرهم، وإجماعهم على رأي واحد ومقالة واحده مع تباين الآراء واختلافها.
ومثل هذه الطوائف، مع اشتمالها على العلماء والعقلاء والزهاد والعباد، لا يتفق آراءهم على تغيير شرائعهم وإفساد عباداتهم وإتعاب أبدانهم وحملهم النفوس بعد علمهم بضلالتهم على مشاق العبادات والمصايرة إلى أهوالها التي هي أصعب من حز الرقاب، مع علمهم بأن ذلك لا يجدي عليهم نفعا في الآخرة ولا ثوابا يرجون به الفوز يوم العرض على عالم الخفيات.
وكيف يتصور صدور هذه القبايح من قوم نطق كتابكم بأنهم أيمة وهادون بأمره وصابرون وموقنون؟ فقال جل من قايل: { ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون }. ثم إن التوراة منها نسخ بأيدي اليهود ونسخ بأيدي النصارى، وعداوة هاتين الطائفتين وتباين آرائهم وأغراضهم وعدم انقياد كل عدو منهم إلى رأي عدوه معلوم بالضرورة، ومورد الحجة على الخبير بها سقط.»

رد الجويني

فأقول – والله الموفق – إن أكثر العمايات في العلوم إنما جاءت من أخذ الحجج مسلمة من غير امتحان الفكر وتدقيق النظر في تصحيح مقدماتها.

ونحن نذكر ما في هذه الحجة المذكورة من الخلل، ونبين مكان الغفلة.

توراة عزرا الوراق

فنقول: إن التوراة التي بيد اليهود الآن هي التوراة التي كتبها عزرا الوراق، بعد فتنتهم مع بخت نصر، وقتله جموعهم وطوائفهم إلا ما شذ من إبقائه قوما لا يعبأ بهم ولا بعددهم، وجعله أموالهم غنيمة لسراياه وعساكره، وإتلافه ما بأيديهم من الكتب، لعدم انقياده لأحكام شريعتهم، وجزمه بفساد أعمالها ونصبه في بيت عبادتهم صنما، وإعلانه بالنداء محذرا من التفوه بذكرها إلى أن انقرض والحال كذلك جيل، حتى كان من نفي وظفر بشيء من أوراقها يقصد المغاير ويتحيل في قراءتها خلسة.

وهذه النسخة كتبها عزرا قبل بعثة المسيح عليه السلام بخمس ماية وخمس وأربعين سنة، ولم يكن على وجه الأرض نصراني. فحينئذ التبديل ممكن لعدم تعلق العلم بحصر نسخ التوراة المبثوثة في أقطار الأرض، كما ذكر، ولعدم توقفه أيضا على انقياد كل فرد من أفراد الفريقين، ولعدم كون نسخها في أيدي اليهود والنصارى، لأنها لم تصر إلى أيدي النصارى إلا بعد تبديلها.

فإذا الفاعل لذلك واحد: إما عزرا، وإن رفعوا قدره عن ذلك فناسخها من نسخته. فوقوع التبديل منه ممكن، لحرصه على استمرار رئاسته، وعدم القول بعصمته المانعة له من الإقدام على فعل الصغاير والكباير.

ونحن الآن نشاهد وننقل ما ورّخ عن الماضين: إن كثيرا ممن يعلق له عرض بأمر محبوب شاهدناه يبالغ جهده ويحمل النفس على تسليطه الفكر على دقائق الحيل وأنواعها، ولا ييأس من مراده ولا ينثني عنه إلا بعد أن يحس من نفسه العجز. ولو فرض أن محبوبه الذي تعلق به غرضه ليس بالنفيس، بله الرئاسة التي هي سبب لإقامة الفتن في العالم وقتل الولد والقريب ومصارمة العشاير وإيقاع الحروب بينهم وتبديل الرحمة بالقسوة والقرابة بالعداوة. وعلى الجملة فقلب الحقائق من أخص صفاتها. وقد قيل «آخر ما ينزع من رؤوس الصديقين حب الرئاسة». ورياسة بني إسرائيل كان شأنها عظيما. ومن أحاط بتواريخ العالم خبرا وتتبع غرائب قصصها ظفر بأجل من عزرا حمله حب الرئاسة على أن فعل أفعال السفهاء الخالعين ربقة العقل والدين.

اختلاف توراة اليهود عن توراة النصارى والسامرة

وأما إجماع الفريقين على القول بوقوع التبديل فسببه ما وقع من التصريح بالكذب في نسخ التوراة التي بيد اليهود والنصارى. فلذلك ألجئوا إلى القول بوقوعه. فهم في ذلك كما قيل: «من لم يمت غبطة يمت هرما.»

وسبب هذا الاختلاف أن النصارى تزعم أن نصوص التوراة شاهدة بإرسال المسيح عليه السلٰم في الزمن الذي أرسل فيه، وما بأيديهم من نسخ التوراة شاهد لهم بصحة ما زعموه. ويزعمون أن اليهود بدلوا ما بأيديهم من نسخ التوراة عنادا وحذرا من الاعتراف بإرسال المسيح عليه السلٰم. واليهود يزعمون أن النصارى بدلوا ما بأيديهم من النسخ وأن المسيح عليه السلٰم إنما يأتي في آخر الدور السابع، وما بأيديهم من نسخها موافق لما ادعوه. فقد أجمع الفريقان على القول بوقوع التبديل، وكل طائفة تجعله صفدا في عنق الأخرى.

ونحن نذكر الآن، ونكاذب النسختين. فنقول:

في التوراة التي بيد اليهود أن آدم عليه السلٰم حين أتى عليه ماية وثلٰثون سنة ولد له شيت، وفي التي بيد النصارى أنه ما أتى عليه مايتان وثلٰثون سنة ولد له شيث.1

وفي التوراة التي بيد اليهود أن شيثا حين مضى عليه ست ماية سنة ولد له انوش، وفي التي بيد النصارى أن شيثا لما مضى عليه سبع ماية سنة ولد له انوش.2

وفي التوراة التي بيد اليهود أن انوش حين مضى عليه تسعون سنة ولد له قينان، وفي التي بيد النصارى أن قينان ولد حين مضى على انوش ماية وتسعون سنة.3

وفي التوراة التي بيد اليهود أن قينان حين أتى عليه سبعون سنة ولد له ماهللال، وفي التي بيد النصارى أن قينان حين مضى عليه ماية وسبعون سنة ولد له ماهلللال.4

وفي التوراة التي بيد اليهود أن ماهللال حين عاش خمسا وستين سنة ولد له ياروذ، وفي التي بيد النصارى أن ياروذ ولد حين أتى على ماهللال ماية وستون.5

واتفق النسخ التي بأيدي الطائفتين على عمر ياروذ حين ولد له حنوخ.

وفي التوراة التي بيد اليهود أن حنوخ حين أتى عليه خمس وستون سنة ولد له متوشالح، وفي التي بيد النصارى أن متوشالح ولد حين أتى على حنوخ ماية وخمس وستون سنة.6

واتفق النسخ على عمر متوشالح حين ولد له لامخ، وعلى عمر لامخ حين ولد له نوح عليه السلٰم، وعلى عمر نوح حين ولد له سام. فمتوشالح ولد له لامخ حين مضى من عمره ماية وسبع وثمانون سنة، ولامخ ولد له نوح عليه السلٰم حين مضى من عمره ماية واثنتان وثمانون سنة، واجتمعا في الحياة خمس ماية وخمسا وتسعين سنة. ونوح ولد له سام حين مضى من عمره خمس ماية سنة. وكذلك أيضا وقع الاتفاق على أن ساما حين ولد له ارفحشاد كان عمره ماية سنة. وفي كتب النصارى القديمة المنقولة عن الحواريين مخالفة لجميع ذلك. ثم عاش ارفحشاد خمسا وثلٰثين سنة وولد له شالح، وعاش بعد ذلك أربع ماية سنة وثلٰث سنين.

وفي التوراة التي بيد اليهود أن شالح حين عاش ثلٰثين سنة ولد له عابر وأن مدة حياة شالح أربع ماية وثلٰث وثلٰثون سنة، وفي التي بيد النصارى أن عابر ولد حين أتى على شالح ماية وثلٰثون سنة وأن مدة حياته أربع ماية وستون سنة.7

وفي التوراة التي بيد اليهود أن عابر لما بلغ أربعا وثلٰثين سنة ولد له فالغ، وفي التي بيد النصارى أن فالغ ولد له حين مضى من عمره ماية وأربع وثلٰثون سنة.8

وفي التوراة التي بيد اليهود أن فالغ لما بلغ ثلٰثين سنة ولد له رعو، وفي التي بيد النصارى أن فالغ لما بلغ مئة وثلٰثين سنة ولد له رعو.9

وفي التوراة التي بيد اليهود أن رعو حين بلغ اثنتين وثلٰثين سنة ولد له سروغ، وفي التي بيد النصارى أن رعو حين عاش ماية واثنتين وثلٰثين سنة ولد له سروغ.10

وفي التوراة التي بيد اليهود أن سروغ حين بلغ ماية وثلٰثين سنة ولد له ناحور، وفي التوراة التي بيد النصارى أن سروغ حين بلغ ماية وثلٰثين سنة ولد له ناحور.11

وفي التوراة التي بيد اليهود أن ناحور حين عاش تسعا وعشرين سنة ولد له تارح، وفي التوراة التي بيد النصارى أن ناحور حين بلغ تسعا وسبعين سنة ولد له تارح 12 - وهو أبو إبراهيم عليه السلام – ولد له إبراهيم حين مضى من عمره سبعون سنة.13

هذا لفظ التوراة فانظر إلى قبح هذا الاختلاف وغرابته بين هاتين الطائفتين في أمر ليس من قبيل المظنونات التي تختلف باختلاف مآخذ العلماء الناشئة عن اختلاف مراتب الظنون، بل كل طائفة تزعم أن ما بيدها هو المنزل على موسى عليه السلٰم، وهذا عين التبديل والتغيير.

وأما مخالفة التوراة التي بأيدي السامرة ومباينتها لسائر النسخ التي بأيدي من عداهم من الطوائف، فلو اقتصر عليه كان فيه ثبت لمن يقول بوقوع التبديل.

أصحاب الأناجيل

وأما أصحاب الأناجيل فالكلام معهم بين أيدينا، وسيعين الله عليهم.

أما غلطهم الفاحش وعدم تحفظهم فيما نقلوه، فلا مطمع للعقلاء في تصحيحه. والسبب الذي أوقعهم في الغلط فيما نقلوه غفلتهم عما يجب المبادرة إليه أزمانا يحصل في مثلها التبديل والنسيان لما طريقه السمع.

أما متى فقد صرح في إنجيله أنه ألفه بعد أن رفع المسيح عليه السلٰم بتسع سنين. وأما يوحنا فقد نص أيضا في إنجيله أنه جمعه بعد رفع المسيح عليه السلٰم بنيف وثلاثين سنة. وكذلك ايضا مرقص صرح في إنجيله أنه جمعه بعد رفع المسيح عليه السلٰم باثنتي عشرة سنة. وكذلك لوقا صرح في إنجيله أنه ألفه بعد أن رفع المسيح عليه السلٰم باثنتين وعشرين عاما، وقيل بعشرين عاما.

هذا أمر مصرح به في أناجيلهم، ومن ثم وقع الغلط الذي لا حيلة في مدافعته، بل كل من رام أن يتمحل له خيالا أحس من نفسه العجز وقصور الباع عن الوصول إلى ما يحاوله. وسيكن منا شفاء للغليل بذكر ما ارتكبوا فيه الغلط، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز.

نسب المسيح

فأقول: إن متى ذكر في إنجيله نسب يوسف النجار على نهج ما أنا ذاكره. فقال:

يوسف ابن يعقوب بن متان بن إليعازر بن اليود بن اخين بن صادوق بن عازور بن الياقين بن ابيود بن زوربابل من شلتاييل بن يوخانيا بن يوشيا بن عاموص بن منسا بن حزقيا بن اخاز بن يوثام، ابن عوزيا بن يورام بن يوشافاط بن آصا بن ابيّا بن راحاب عام بن سليمن بن داود بن ايسّا بن عوبيد بن باعز بن سلمون بن نصون بن عمينا داب بن ارام بن حصرون بن فاراس بن يهودا بن يعقوب بن إسحق بن إبرهيم.14

ثم قال:

«فكل الأجيال من إبرهيم إلى داود أربعة عشر جيلا، من داود إلى سبي بابل أربعة عشر جيلا، ومن سبي بابل إلى المسيح أربعة عشر جيلا.»

يريد بسبي بابل يوخانيا فإنه ولد وإخوته في سبي بابل.

فانظر إلى غلطه في الحساب، قبل مناقشته على الغلط في النسب. لأنه قال ومن سبي بابل إلى المسيح أربعة عشر جيلا، وهذا مكان الغلط في الحساب لأن من سبي بابل إلى المسيح لا يزيد على ثلٰثة عشر جيلا. هذا أمر معلوم بالضرورة لأن الغالط في الحساب لا يقدر على المدافعة، ومدرك غلطه العلم اليقين. وقد سلف صريح لفظه شاهدا.

وقد اعتذر عنه شراح إنجيله أن قالوا إنه أسقط من نسب يوسف آباء خطاة لم ير ذكرهم بل عدل عنه لمكان خطئتهم. وهذا غير صحيح. وبيان عدم صحته أنه إنما يتم له ذلك أن لو قال ومن سبي بابل إلى يعقوب أربعة عشر جيلا، لأن من سبي بابل إلى يعقوب تسعة وثلٰثين أبا، وأقل الجمع ثلٰثة، لأنه قال أسقط من نسبه آباء فيكون العدد أربعة عشر أبا بالنظر إلى الملفوظ والمسكوت عنه. وإلا فصريح لفظه يأبى اعتذار شراح إنجيله لأنه قال ومن سبي بابل إلى المسيح أربعة عشر جيلا، وجملة ذلك ثلٰثة عشر. وحينئذ يلوح غلطه في الحساب والنسب جميعا. أما الحساب فلأنه إن اقتصر على ذكر ما صرح به فغلط، لأن المصرح بذكره لا يزيد عن ثلٰثة عشر جيلا. وإن نظر إلى السكوت عنه على حد ما ذكر كان من سبي بابل إلى المسيح ستة عشر أبا.

وأما غلطه في ذكره أبا يوسف، فليت شعري كيف أخطر بباله أن يجعل المسيح ويوسف من جملة آباء يوسف؟ لأنه قال ومن سبي بابل إلى المسيح أربعة عشر جيلا، وهو يريد بالجيل ها هنا الأب. فيلزم أن يكون المسيح عليه السلام ويوسف من جملة آباء يوسف، ليس أبا لنفسه. فانظر إلى هذا الكلام الذي ليس من السداد في شيء وهذا المباحثة.

وأما ما ألزمناه من الغلط يسير بالنسبة إلى ما سنذكره من أمره وأمر صاحبه لوقا. وذلك أنهما تباينا مباينة ناطقة بخطإ أحدهما أو خطإهما. والعجب أن كلا منهما يزعم أنه سمع ما وضعه في إنجيله وتفوه به بعد أن نزلت عليه روح القدس واقتضت له العصمة من الخطإ في قوله وفعله،

وها أنا ذاكر لك الآن ما تقف عليه من الهذيان الذي لا مخرج لمن حاول تصحيحه، وبالله المستعان.

النسب في إنجيل لوقا

نسب يوسف الذي نص عليه لوقا في إنجيله:

يوسف بن مطّاث بن عاموص بن ناحور بن حسلي بن ناغي بن مواث بن ماطّاث بن سميان بن يوسف بن يهوذا بن يوخا بن يسّا بن زوربابل بن شلتاييل بن نيري بن ملكي بن ادّي بن الماصان بن ايّل بن يوشا بن اليعازر بن يوثام بن مطّاث بن لاوي بن سمعون بن يهودا بن يوسف بن يونان بن الياقين بن مليّا بن متنان بن مطتّا بن ناتان بن داود بن عوبيد بن باعاز بن سلمون بن نصون بن عميناداب بن ارام بن بورام بن حصرون بن فارس بن يهوذا بن تارح بن ناحور بن ساروخ بن ارغو بن فالق بن عابر بن صالا، ابن قينان بن ارفحشد بن سام بن نوح بن لمك بن ماتوشلح بن حنوخ، ابن يارد بن مهللائيل بن قينان بن انوش بن شيث بن آدم - عليه السلٰم.15

هذا نسب يوسف ساقه لوقا هذا المساق، وذكر أباه شخصا شخصا منه إلى آدم. وقد سمعت حديث صاحبه متى وما سلف منه من المباينة. فإن كان صادقين لزم أن يكون ليوسف أبوان محبلان لأمه، وكذلك الكلام في كل جد من أجداده. وإن كانا كاذبين جاز وقوع التبديل منهما إما عمدا أو غفلة، وحينئذ تسقط الثقة بما نقلاه معتقدين أنه الحق.

ثم نقول: كيف يصدر الكذب ممن يعتقد فيهما أنهما معصومان بروح القدس حين حلت عليهما؟ وإن كان أحدهما صادقا والآخر كاذبا عادت الحالة حين فرضا كاذبين.

وقد انتصر لهما بعض شراح الإنجيل قائلا: إن كل شخص من آباء يوسف كان له اسمان مرادفان، فذكر كل منهما اسما غير الذي ذكره صاحبه. وهذا هذيان لا يساوي سماعه، فالحزم الإعراض عن الجواب عنه معولين على فهم من له عقل يعلم به بُعد هذا الانتصار عن الصواب. بل ينبغي أن يقضي العجب ممن يركن إلى خطور مثل هذا الهذيان بباله. هل لهذه الواقعة نظير في العالم، أو ساعده على ذلك اشتمال تاريخ على مثل هذه الواقعة أو شهادة كتاب من كتب اليهود المشتملة على تواريخ الأقدمين؟

اختلاف الأناجيل

وكم اشتملت الأناجيل على نصوص غير نسب يوسف متباينة لا مطمع في تصحيحها. وها أنا ذاكرها نصا نصا، وموضح تباينها وتعذر الجمع بين معانيها. فأقول والله الموفق:

النص الأول ذكره مرقص في إنجيله مصرحا فيه بأن المسيح عليه السلٰم قال لبطرس ليلة أخذ للصلب على ظنهم: قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاثا.16 ثم أخذ يبين ذلك فقال: «وبينما بطرس في أسفل الدار جاءت فتاة من جواري رئيس الكهنة فرأته يصطلي، فلما رأته قالت له: وأنت أيضا كنت مع يسوع الناصري. فأنكر وقال لست أريد ولا أعرف ما تقولين. وخرج إلى خارج الدار، فصاح الديك، فرأته فتاة أخرى فقالت للقيام: إن هذا منهم. فأنكر أيضا، فقال القيام لبطرس: حقا إنك منهم وأنت جليلي وكلامك يشبه كلامهم. فبدأ يلعن ويحلف أنه ما يعرف هذا الإنسان الذي تقولين، ثم مكانه صاح الديك ثانية. فذكر بطرس قول يسوع: إنك قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلٰث مرات».17 هذا آخر كلامه.

صرح بأن الإنكار من بطرس وقع موافقا لقول المسيح عليه السلٰم حين قالت له الفتاة: وأنت منهم، أنكر مرة أخرى، ثم صاح الديك، وحين رأته الفتاة الثانية وقالت للقيام إن هذا منهم أنكر أيضا مرة ثانية. ثم إن القيام حين قالوا له حقا أنت منهم أنكر ثالثة، ثم صاح الديك. فقد ثبت ببيانه أنه لم يتكامل له جحد الثلاث، والديك لم يصح، بل ما جحده الثانية والثالثة إلا بعد أن صاح الديك مرة.

وفي إنجيل لوقا أنه قال لبطرس ليلة أخذ: تجحدني ثلٰثا قبل أن يصيح الديك.18 ثم أخذ يبين ذلك فقال: «وكان بطرس يتبعه من بعيد. فلما أضرموا النار وكان بطرس جالسا في وسطهم، فلما رأته جارية جالسا في الضوء ميزته وقالت: هذا كان منهم. فأنكر وقال: يا امرأة ما أعرفه. وبعد قليل أبصره آخر فقال: أنت منهم. فقال له بطرس: يا إنسان ما أنا هو. وبعد ساعة كرر عليه القول آخر وقال: حقا كان هذا معهم لأنه جليلي، فقال له بطرس: ما أعرف ما تقول. وبينما هو يتكلم صاح الديك.»19 هذا آخر كلامه.

فأقول والله الهادي إلى الرشاد: إن أحد هذين النصين كذب وتقول وافتراء، لأن صاحبه مرقص صرح بأن المسيح عليه السلٰم قال لبرطس: قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلٰث مرات، ثم بين أنه لم يتكامل له جحده الثٰلث والديك لم يصح، بل صاح مرتين قبل الثالثة. وصاحب هذا الكلام لوقا صرح بأن المسيح عليه السلٰم قال لبطرس: تجحدني ثلٰثا قبل أن يصيح الديك، ثم إنه يبين أنه تكامل له جحد الثلاث والديك لم يصح. والواقعة واحدة، وكذلك زمانها ومكانها ونسبتها. وعلى الجملة فمتى اتحدت نسبة كل خبرين وتباينا قطع بكذب أحدهما. فانظر إلى هذه العدالة في نقل هذه الأناجيل، ساخرا ممن يزعم أن أصحابها معصومون من الخطإ أو ناقلوها عن المسيح عليه السلٰم نقل من سمع ذلك من لفظه حافظا لما سمعه ضابطا لفصوله وألفاظه. وظني أن الزمن طال عليه حين ألفوها فاستولى عليهم النسيان والغفلة، كما سلف مبينا.

النص الثاني صرح به متى في إنجيله:

«إن المسيح – عليه السلٰم – لما قرب هو وتلاميذه من يروشليم، وجاء إلى بيت فاجي قريبا من جبل الزيتون، أرسل اثنين من تلاميذه وقال لهما: اذهبا إلى هذه القرية التي تقابلكما تجدا فيها أتانا مربوطة وجحشا معها، فحلاهما وإتياني بها. فإن قال لكما أحد شيئا فقولا: إن السيد يريدهما، فإنه يدعكما من وقته. ففعلا كما أمرهما وأقبلا بالأتان المربوطة والعفو، وألقوا ثيابهم عليها وأجلسوه من فوقها.»20 هذا آخر كلامه.

وصرح مرقص في إنجيله وكذلك لوقا: «إن المسيح لما قرب هو وتلامذته من يروشليم وبيت فاجي أرسل اثنين من تلامذته وقال: اذهبا إلى هذه القرية التي تقابلكما فإذا دخلتما فستجدان جحشا مربوطا لم يركبه أحد من الناس قط، فحلاه وأقبلا به. فإن قال لكما أحد ما هذا الذي تفعلان، فقولا إن السيد محتاج إليه. فانطلقا وأتياه بالجحش فركبه.»21 هذا آخر كلام مرقص.

فأقول: إن أحد هذين النصين أيضا قد لاح كذبه، لأن متى صرح في إنجيله بأن تلميذيه حين أمرهما كان أمره لهما مقيدا بالإتيان بحمارة. ثم وصفها كما سمعت إلى قوله: فألقوا ثيابهم عليها وأجلسوه من فوقها. وصرح مرقص في إنجيله أن ذينك التلميذين حين أمرهما كان أمره لهما مقديا بالإتيان بجحش، لأن الواقعة واحدة. ثم وصفه إلى قوله: وأتياه بالجحش فركبه. وفي إنجيل يوحنا أيضا: فجاء راكبا حمارا.

فاعجب من هذه الواقعة المتحدة نسبتها كيف تباينت معانيها واختلفت حكايتها. وأعجب من ذلك عفلتهم عن هذه النصوص وأمثالها وركونهم إلى أن جميعها جار على السداد، حتى لو تفوه أحد منهم بما يوهم خللا في معانيها حكموا بسخافة عقله وأبوا إلا تماديا على الباطل وركونا إلى تقليد دلت البراهين القطعية على عدم مطابقته للصواب.

النص الثالث ذكره متى في إنجيله وكذلك مرقص مصرحين أن المسيح حين صلب على ظنهما: «صلب معه لصان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله وكان المجتازون يحركون رؤوسهم ويقولون: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلٰثة أيام خلص نفسك إن كنت ابن الله.» ثم قال متى: «وكذلك اللصان الذان صلبا معه كانا يقولان ويعيرانه.»22 ولفظ مرقص أيضا: «واللصان اللذان صلبا معه كانا يعيرانه.»23 وفي إنجيل لوقا أن المسيح عليه السلٰم: «لما جاء إلى المكان المسمى بالجمجمة صلبوه هناك ومعه عاملا الشر، أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله.»24 ثم قال: «وكان الرؤساء يستهزئون به ويقولون إنه خلص آخرين فليخلص نفسه إن كان هو المسيح بن الله المنتخب. وواحد من عاملي الشر الذين صلبا معه كان يجدف ويقول: إن كنت المسيح فنج نفسك ونجنا. فأجابه الآخر وانتهره وقال له: أما تخاف من الله إذ كنا جميعا تحت هذا الحكم ونحن جوزينا كما نستحق وكما صنعنا، وأما هذا فلم يصنع شيئا. ثم قال ليسوع: اذكرني إذا جئت في ملكوتك. فقال: الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس.»25 هذا آخر كلامه.

صرح صاحب هذا الكلام لوقا في إنجيله أن اللصين الذين صلبا معه كان أحدهما مؤمنا به عطوفا عليه والآخر سابا له مستهزئا به. وسبق تصريح متى ومرقص كليهما أن اللصين كانا كافرين به سابين له كل منهما ساخر منه. والواقعة واحدة والكلام عليهما كالكلام على نظائرهما السالفة سواء. ولا شك في تكاذب هذه الوقائع وأن قائليها طالت عليهم الأزمان إلى أن يقولوا أشياء ليسوا منها على يقين.

قصة غريبة تفرد بها متى

ومن الغريب أن متى ذكر في إنجيله أن المسيح حين صلب وأسلم الروح: «انشق الهيكل من فوق إلى أسفل وصار اثنين، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت والقبور انفتحت، وأجساد صور القديسين الذين انضجعوا قامت وخرجوا من القبور.»26 هذا لفظه في إنجيله. ولم يذكر ذلك أحد من أصحاب الأناجيل سواه.

وهذه القصة المبدعة في الغرابة لو وقعت على حد ما وصفها لكانت من الخوارق والغرائب التي تتوفر الدواعي على نقلها ويحيط بها علما كل قاص ودان ويلهج بحكايتها والخوض في حديثها من لو يؤهل نفسه لضبط وقائع المسيح عليه السلٰم وتقييد قصصه. فكيف ينبذ مثل هذه الغريبة المبدعة في الغرابة ظهريا من انتصب لتقييد أخباره عليه السلٰم ومحاسن غرائبه؟ ثم إهمال ثلاثة لمثل هذه الغريبة. وذكرها مشعر بأن للمسيح عند الله عز وجل الدرجة العليا وأنه من الأنبياء المعظمين المكرمين، واستحضار كونه صلب معه لصان يسبانه أو يسبه أحدهما قائلين له: خلص نفسك، وهو غير قادر، وذلك مما يغض من منصبه وقدره ويوهم أنه ليس قادرا على الإتيان بشيء من الخوارق.

وكذلك أيضا عدم نسيان كونه ألبس إكليلا من شوك وثوبا مصبوغا والناس بين يديه جثيا على ركبهم يسخرون منه ويهزئون به، ووقوف أمه وخالته يشاهدان صلبه وإفراط ولههما، وهو لا يملك لها ضرا ولا نفعا.

كل ذلك دليل على كذب متى أو تخلف أصحابه الثلاثة لأنهم أهملوا ذكر هذه الغريبة نسيانا. فهم جديرون بالتخلف لبعد ذلك عادة. وإن ادعوا عدم العلم فأبعد، لأن مثل هذه الخارقة الغريبة لو وقعت لتعلق بها أهل ذلك الإقليم قاصيهم ودانيهم. بل أقول لا بل سائر أهل الإقاليم. ثم إن واقعة الصلب واقعة واحدة، فكيف يدعى فيها تعلق العلم بهذه المنقرات. ثم إنها تدون عن إله العالم وموجد الكائنات، كما يعتقدون فيه، ويهمل ذكر هذه الخوارق المبدعة في الغرابة الدالة على مكانته وجلالته.

فإن قيل فلم لا يقال إن علمهم معلق بها ولم يطرأ عليهم نسيان البتة، وإنما أهمل الثلاثة ذكرها بذكر متى وتقييده إياها. فالجواب بأن هذا أيضا عين التخلف، لأنهم إذا أكدوا بإجماعهم حكاية ما لا فائدة في ذكره ولا يجدي ذكره نفعا وإنما يحصل بذكره عدم وثوق بالأنبياء...[سقط]....مكان لفظ ليس مرادفا له، وحينئذ يلوح الاختلاق في المعاني.

وعلى مثل هذه الحال جرى الأمر في هذه النصوص السالفة. فإن قيل: (إنما يلزم المحال من القول بإمكان التبديل الصادر عن اتفاق أهل الملة على حد ما وصف، وهو الذي قيل بعدم إمكانه، وهو مدعى الخصوم. وأما التبديل الصادر عن الغفلة والنسيان وعدم الضبط في المنقولات فلا بعد في وقوعه).

فالجواب أنه سلف منا بيان وقوعه والحال هذه من أحد الطائفتين حين ذكرنا نصوص التوراة، وذكرنا إجماع الطائفتين على القول بتبديل نصوصها ووقوعه ملزوم لإمكانه لا محالة.

أما دعوى النسيان والغلط فإن رجال الأناجيل عندهم منزعون عن ذلك، فإنهم جازمون بعصمتهم وأن روح القدس لما حلت عليهم أوجبت لهم العصمة.

خاتمة

ولعمري إن الناظر في الكتابين، أعني التوراة والإنجيل، لواجد ما يقضي منه العجب. وإنما أعرضت عن الإكثار من ذلك حين ذكرت منهما ما تقوم به الحجة على الخصوم، لأن سيد المرسلين صلوات الله عليه حين رأى عمر ينظر في التوراة غضب منه وقال: «لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي.» فلهذا السبب لم أكثر من النظر فيهما.

هذا آخر هذ المختصر المسمى بشفا الغليل في بيان وقوع التبديل. فالله يجعله خالصا لوجهه الكريم ويجعل جزاءه الفوز من عذابه الأليم والخلود في جنات نعيمها دائم مقيم.


هامش

  1. التكوين 5: 3
  2. التكوين 5: 6
  3. التكوين 5: 9
  4. التكوين 5: 12
  5. التكوين 5: 15
  6. التكوين 5: 21
  7. التكوين 11: 14
  8. التكوين 11: 16
  9. التكوين 11: 18
  10. التكوين 11: 20
  11. التكوين 11: 22
  12. التكوين 11: 24
  13. الاسم العبرانية توراة اليهود حسب الجويني اليونانية توراة النصارى حسب الجويني
    آدم 130 130 230 230
    شيث 105 600 205 700
    انوش 90 90 190 190
    قينان 70 70 170 170
    ماهلال 65 65 165 160
    ياروذ 62 - 162 -
    حنوخ 65 65 165 165
    متوشالح 187 188 187 188
    لامخ 182 182 188 182
    نوح 500 500 500 500
    سام 100 100 100 100
    ارفحشاد 35 35 135 -
    شالح 30 30 130 130
    عابر 34 34 134 134
    فالغ 30 30 130 130
    رعو 32 32 132 132
    سروغ 30 30 130 130
    ناحور 29 29 79 79
  14. متى 1: 1-16
  15. لوقا 3: 23-38
  16. مرقس 14: 13
  17. مرقس 14: 66-72
  18. لوقا 22: 34
  19. لوقا 22: 54-60
  20. متى 22: 2-7
  21. مرقس 11: 2-7
  22. متى 27: 38-39
  23. مرقس 15: 27-
  24. لوقا 23: 32-33
  25. لوقا 23: 36-43
  26. متى 27: 51-53