صفحة:الآراء والمعتقدات (1926) - غوستاف لوبون.pdf/8

تم التّحقّق من هذه الصفحة.
–٨–

جزافاً ، وسوف نرى أن العقل غريب عن تكوين المعتقد، ولا يأخذ العقل في تبرير المعتقد الا بعد أن يتم تكوينه .

يجب أن نصف بالمعتقد كلَّ ما هو من عمل الايمان ، ومن استعان المرء في تحقيق صحة المعتقد بالتأمل والتجربة لا يظل المعتقد معتقداً بل يصبح معرفة ، فالمعتقد والمعرفة أمران نفسيَّان يختلفان من حيث المصدر اختلافاً تاماً ، إذ المعتقد كناية عن إلهام لاشعوری ناشىء عن علل بعيدة من إرادتنا ، والمعرفة عبارة عن اقتباس شعوری عقلى قائم على الاختبار والتأمل .

وما اكتشف الانسان الغائص في بحر المعتقد أمرَ المعرفة الا في زمن ضرب فيه بسهم وافر من الرقي ، وكلما تقدم في عالم المعرفة ظهر له أن الحوادث التي عزا الناس ظهورها إلى موجودات علوية لم تحدث الا بتأثير نوامیس قاهرة .

وقد تغيرت صورة فهم الكون في الانسان منذ اقترب من دائرة المعرفة ، ولكنه يصعب الخوض في هذه الدائرة الجديدة كثيراً ، لأن العلم يرى على الدوام شيئاً من المجهول متخلّلاً في مكنشفاته ، فأكثر الحقائق وضوحاً تُبْطِن شيئاً من الأسرار

لا يزال العلم مشبعاً من مثل تلك الدياجير المدلهمة ، وكلما بلغ أفقاً بدت له آفاق جديدة تائهة في فضاء لاحد له ، فهذا العالم الواسع الذي لم يستطع أي فيلسوف أن يضيئه هو ملكوت الاحلام التي تبذر في النفوس آمالا لا يؤيدها الدليل والبرهان ، وفي هذا الملكوت تجد المعتقدات الدينية والمعتقدات السياسية وكل معتقد آخر قوة غير محدودة .

ومع أن الوصول الى حقيقة علمية صغيرة يتطلب كداً طويلاً فان حيازة يقين الاركن له سوى الايمان لا يطلب شيئاً من السعي ، فكل من الناس له معتقد ولكن ما أقل الذين يصعدون منهم إلى سماء المعرفة .

يشتمل عالم المعتقد على منطقه وسننه ، ومنذ القديم حاول العلماء عبثاَ أن يلجوا فيه مستعينين بمناهجهم وأساليبهم ، وسنرى في هذا الكتاب لماذا يضيع العلماء ما فيهم من ملكة الانتقاد عندما يدخلون في دائرة المعرفة ذات الأوهام الخادعة .