قال هذا وخرج من ذلك المكان فتبعه الجمع كأن في شخصه قوة تتحول نحوها الأبصار كيفما تحولت، وبقي الشيخ منفردًا كالبرج المهدوم متوجعًا كالقائد المغلوب، ولما بلغ الجمع ساحة الكنيسة وكان القمر قد طلع من وراء الشفق وسكب أشعته الفضية في السماء التفت خليل ورأى أوجه الرجال والنساء متجهة نحوه كالخراف الناظرة إلى راعيها فتحركت روحه في داخله كأنه وجد في أولئك القرويين المساكين رمز الشعوب المظلومة وشاهد في تلك الأكواخ الحقيرة المكتنفة بالثلوج المتجلدة رمز البلاد المغمورة بالذل والهوان، فوقف وقفة نبي يسمع صراخ الأجيال، وتغيرت ملامحه واتسعت عيناه كأن نفسه قد أبصرت جميع أمم المشرق سائرة تجر قيود العبودية في تلك الأودية، فرفع كفيه نحو العلاء وبصوت يشابه ضجيج الأمواج صرخ قائلًا
«من أعماق هذه الأعماق نناديك أيتها الحرية فاسمعينا، من جوانب هذه الظلمة ترفع أَكُفَّنَا نحوكِ فانظرينا، وعلى هذه الثلوج نسجد أمامك فارحمينا، أمام عرشكِ الرهيب نقف الآن ناشرين على أجسادنا أثواب آبائنا الملطخة بدمائهم، عافرين شعورنا بتراب القبور الممزوج ببقاياهم.