صفحة:الأسلوب العلمي والتأريخ.pdf/2

صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
٦٤
أسد رستم

شتى بخطٍ سقيمٍ مُمجج. وقد تبقى في غرفته ساعتين أو أكثر. ثم يقول لك سأبحث عن هذا في جو رائق وأوافيك بالجواب. وقد يجد ما يطلب أو لا يجد. ولست أدري من ذا الذي قال أن مثل هذا مثل قوم قضوا حياتهم كلها في تشيد بناء يحملون حجارته على أكتافهم دون أن يفقهوا أين يضعونها، حتى إذا بلغوا المرحلة الأخيرة في حياتهم نظرت إليهم وإلى ما يفعلون، فلا تسمع سوى ضجة تصمُّ الآذان، ولا ترى سوى سحب من الغبار عقدت سرادقات فوق رؤوسهم تعمي الأبصار.

ومثل هذا التنسيق أو الترتيب، على تواضع ظاهره، يعد في عرف المؤرخين المدققين، دعامة كبرى في بناء التأريخ. وبفضله وحده يتميز نفر من المؤرخين على سواهم، فيوفرون على أنفسهم أتعاباً جمة. ويصلون من أهدافهم إلى ما لا يصل إليه غيرهم.

وإذا كان لا بد من تنظيم العمل فكيف يكون ذلك؟ وماذا يفعل المؤرخ فور انتهائه من نقد الأصول؟ على المؤرخ أن يعترف بادئ بدء أنه ليس بإمكانه أن يعتمد على ذاكرته في العمل، وأن يسلِّم بوجوب القيد. وهو أمر لا يرتاب فيه عاقل. وقد نطق بصحته فلاسفة علم النفس. وتناصرت عليه حججهم. أولم يقل الفقيه اللغوي ابن عباس الكوفي:

لا تنسَ هاتيك العهود، فإنما
سمیت إنساناً لأنك ناسٍ

ويترتب على المؤرخ أن يبتعد كل البعد عن الدفاتر والأوراق المجلدة لأنه إذا دون ما يستخلصه من الأصول في دفتر أو دفاتر معينة، تفيد بترتيب قد تقضي الظروف بتغييره أو تعديله قبل الانتهاء من مهمة التأريخ. وقد يضطر المؤرخ، بعد الابتداء بالعمل، أن يفسح مجالاً أوسع لموضوع ما، فلا يرى سبيلاً لذلك إلا بعد العناء. وقد لا يرى. أما إذا ابتعد كل ما يمت إلى المجلدين بصلة، واتخذ للتدوين أوراقاً منثورة، فقد انطلقت يده في العمل، وأصبح حراً، يزيد متى يشاء، ويقدم ويؤخر ما يشاء.

وقد اختلف المؤرخون في كمية ما يدونون على أوراقهم المنشورة. فمنهم من قال بتدوين كل ما له علاقة بالموضوع. أي إذا عني مؤرخ ما بتاريخ حرب من