صفحة:العقد الفريد ج.1-2 (1953).pdf/24

تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.
2
مقدمة

آخر كلّ طبقة، وواضعي كلّ حكمة ومؤلّفي كل أدب، أعذب ألفاظا وأسهل بنية وأحكم مذهبا وأوضح طريقة من الأوّل، لأنه ناكص متعقّب، والأوّل باديء متقدّم. فلينظر الناظر إلى الأوضاع المحكمة والكتب المترجمة بعين إنصاف، ثم يجعل عقله حكما عادلا قاطعا؛ فعند ذلك يعلم أنها شجرة باسقة الفرع، طيّبة المنبت، زكيّة التّربة، يانعة الثّمرة. فمن أخذ بنصيبه منها كان على إرث من النّبوّة، ومنهاج من الحكمة؛ لا يستوحش صاحبه، ولا يضلّ من تمسّك به.

وقد ألّفت هذا الكتاب وتخيّرت جواهره من متخيّر جواهر الآداب ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجوهر ولباب الّلباب؛ وإنّما لي فيه تأليف الاختيار، وحسن الاختصار، وفرش في صدر كلّ كتاب؛ وما سواه فمأخوذ من أفواه العلماء، ومأثور عن الحكماء والأدباء. واختيار الكلام أصعب من تأليفه. وقد قالوا: اختيار الرجل وافد عقله.

وقال الشاعر:

قد عرفناك باختيارك إذ كا
ن دليلا على الّلبيب اختياره

وقال أفلاطون: عقول الناس مدوّنة في أطراف أقلامهم، وظاهرة في حسن اختيارهم. فتطلّبت نظائر الكلام وأشكال المعاني وجواهر الحكم وضروب الأدب ونوادر الأمثال، ثم قرنت كلّ جنس منها إلى جنسه، فجعلته بابا على حدته؛ ليستدلّ الطالب للخبر على موضعه من الكتاب، ونظيره في كلّ باب. وقصدت من جملة الأخبار وفنون الآثار أشرفها جوهرا، وأظهرها رونقا، وألطفها معنى، وأجزلها لفظا، وأحسنها ديباجة، وأكثرها طلاوة وحلاوة؛ آخذا بقول الله تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ

وقال يحيى بن خالد: الناس يكتبون أحسن ما يسمعون، ويحفظون أحسن ما يكتبون: ويتحدّثون بأحسن ما يحفظون.