صفحة:المدينة المسحورة (1946) - سيد قطب.pdf/53

تم التّحقّق من هذه الصفحة.
٥١

فأما الشيخ وضيفه فقد سمعوا، سمعوا كل شيء ؛ فما كان الخباء الرقيق ليحجب حرفاً ولا نبرة مما دار بين الأم والفتاة، فنظر بعضهم إلى بعض، ثم هم الضيوف بالانصراف معذرين للشيخ الفاني، وإن لم تسترح ضمائرهم لهذا الجموح من فتاة !

وأما الملك الشاب فقد انطلق في الأيام الأولى مؤملا راجياً في قلق واضطراب. فلما انقضت الأيام وطال عليه الأمد وكثر تطوافه بالصحراء وارتداده الريف، يراوح بينهما لتبيع القافلة بعض ما تحمل من بضاعة، وتستعيض عما ينقص من الزاد والماء في الرحلة الطويلة… عندئذ أخذ اليأس يدب إِلى نفسه وهو يطرده فيلح عليه، وكلما امتدت الرحلة نضب معين الرجاء، وحل مكانه في قلبه ذلك الجدب المقفر الموات.

وطال الحال. وانقضت ستة أشهر طويلة مملة. فخبا في نفسه كل بريق، وانطمس في قلبه كل رجاء. ولكنه كان منساقاً إلى البحث والتجوال، لا يدرك ما أصاب رجاله من الإعياء، وما أصابه هو نفسه من البلى. لقد كان يجف كما يجف العود، يجف بدنه و يجف قلبه، وتدب الشيخوخة الباكرة إلى كيانه وهو لا يدرى. لقد أصبح قطعة ميتة من هذه الصحراء الجاثية الجرداء… !