الحساسية إذا توافرت، وما دامت حاصلة كلها في البدن دام الشعور، فإذا ما فقد بعضها كان النوم واللاشعور، وإذا فقد معظمها كان الموت الظاهر، وإذا فقدت جميعًا كان الموت الحقيقي أي فناء الشخص، وتحقيق الإدراك الحسي أن بخارات لطيفة تتحلل من الأجسام في كل وقت محتفظة بخصائص الجسم المتحللة منه، فهي صور وأشباه تفعل في الهواء المتوسط بين الشيء والحاسة فعل الخاتم أو الطابع في الشمع، وتتغلغل في مسامِّ الحواسِّ فتدرك، وإنما يختلف انفعالنا بها لاختلاف الجواهر المؤلَّفة للأجسام، فالخشنة منها تؤلف الأجسام الحامضة والمرة، بينما الملساء تؤلف الأجسام الحلوة وهكذا، وأما الفكر فهو الحركة الباطنة التي تحدثها الإحساسات في المخ ليس غير، أو هو الصور المحسوسة ملطفة؛ فإن الإحساس هو المصدر الوحيد للمعرفة، ولم نخرج عن المادة وإذن فليس للإنسان أن يرجو خلودًا، وإنما سعادته في طمأنينة النفس وخلوها من الخرافات والمخاوف، وتتحقق هذه الطمأنينة بالعلم والتسليم لقانون الوجود والتمييز بين اللذات والتزام الحد الملائم فيها (فإن تجاوز الحد يجر الألم) واجتناب الانفعالات العنيفة.
هـ – فديموقريطس قد مضى بالمذهب الآلي إلى حده الأقصى ووضعه في صيغته النهائية فقال: إن كل شيء امتداد وحركة فحسب ولم يستثنِ النفس الإنسانية كما رأينا ولم يستثنِ الآلهة، فذهب إلى أنهم مركبون من جواهرَ كالبشر إلا أن تركيبهم أدق، فهم لذلك أحكم وأقدر وأطول عمرًا بكثير، ولكنهم لا يخلدون؛ فإنهم خاضعون للقانون العام؛ أي للفساد بعد الكون واستئناف الدور على حسب ضرورة مطلقة ناشئة من «المقاومة والحركة والتصادم» دون أية غائية أو علة خارجة عن الجواهر مثل المحبة والكراهية ودون أية علة باطنة مثل التكاتف والتخلخل ودون أية كيفية، فالمذهب غاية في البساطة ولكنه حافل بالصعوبات، فما هي الضرورة التي يزعمها ديموقريطس لاجتماع الجواهر وتفرقها