وهاك مثالًا آخر للانتباه والصبر والإقدام والمواظبة في حياة أمبروز باري الجراح الفرنساوي الشهير. وُلِدَ هذا الرجل في لاڤال سنة ١٥٠٩ من أبوين فقيرين جدًّا فلم يقدرا أن يرسلاهُ إلى مدرسة بل وضعاهُ عند كاهن قريتهما خادماً أملًا بأن يقتبس منهُ شيئاً من العلوم. ولكن الكاهن المذكور استخدمهُ في سياسة بغلتهِ وغيرها من الأعمال الدنيئة حتى لم يجد وقتاً للدرس. وبينما هو في خدمتهِ دُعي الشهير كوتو لعملية حصاة المثانة في لاڤال وكان باري حاضراً مع من حضر فرأى من تلك العملية ما جعلهُ يعزم من ساعتهِ على درس فن الجراحة. فترك خدمة الكاهن وخدم عند حلَّاق جراح وتعلم منهُ الفصد وقلع الأسنان وعَمَل بعضِ العمليات الصغيرة. وبعد مضي أربع سنوات انتقل إلى باريس وطلب في مدرسة التشريح والجراحة وكان يحصّل من الحلاقة ما يقوم بمعيشته ثم صار معاوناً في مستشفي هوتل ديه وكان يُضرَب المثل بحسن سلوكهِ واجتهادهِ حتى إن غكوبِل رأس الجراحين سلَّمَهُ المرضى الذين لم يقدر أنْ يقف عليهم هو. ولما انتهت المدة المعينة للطلب عُيِّن معلماً في المدرسة ثم عُيِّن جراحاً لجند منمورنسي فلم يكتفِ بما اقتبسهُ من العلم ولا بالسبيل الذي سار فيهِ مَن تقدمهُ من الأطباءِ بل كان كثير الافتكار والتأمُّل في أسرار صناعتهِ وأصولها ومصدر الأمراض ومسيرها والبلوغ إلى العلاج الشافي.
وكان الجراحون في أيامهِ وما قبلها يعذبون جرحى الحروب أكثر مما يعذبهم الأعداءُ لأنهم كانوا يوقفون الدم من جروح الرصاص بالزيت الغالي ويوقفون النزف الدموي بالكي بالحديد المحمي. وإذا ألجأهم الأمر إلى بتر عضو كانوا يبترونهُ بسكين محماة إلى درجة الحمرة. وكان باري يداوي الجروح على هذا الأسلوب ولكنهُ حدث يوماً أنهُ لم يكن تحت يدهِ زيت غالٍ فآسى الجرح بمضادات الالتهاب ونام ليلته في قلق شديد مخافة أنْ يكون أخطأ في العلاج. ولكنهُ رأى