بوستافويتوف البولونية، أو هي المرأة المصرية تجوب الأحياء مرصِّعةً هواء بلادها بالأعلام الخافقات، وتهتف بما يستفزُّ الدموع ويستنهض الهمم ويُفهم الرجالَ شبانًا وشيوخًا قيمة الأوطان وعز الأوطان وحرمة الأوطان.
ليست الصعوبة في المجاهدة لنيل غاية عزيزة، وإنما الصعوبة الموجعة على الرجل والمرأة معًا في عدم وجود الغاية، أوجع شيء للمرأة أن تكون مبهمةَ المطالب، والمستقبل أمامها صفحة خاوية خالية ليس فيها بارقة أملٍ ولا كلمة عزاء. كثيرات هنَّ التعبات اللاتي وقعن فريسة ذلك الشلل المعنويِّ، مولِّد المجازفة والانحطاط الذي يدعى: السآمةَ، فيجرين هنا وهناك هربًا منه مخاطِرات بما وجب صونه، ناسيات ما عليهنَّ أن يذكرنه، ومنهن من لا تطيق البقاء يومًا واحدًا بلا زيارات واستقبالات وأحاديث جارات وخالات وعمات، كأنها تخاف الاختلاء ومقابلة نفسها وجهًا لوجه فتفقد بذلك أعظم تعزيةٍ وأعظم أمثولة في الحياة، وإن أحسنت القراءة دفنت سآمتها في الروايات دون أن تفقه ما فيها من مغزًى اجتماعيٍّ أو أخلاقيٍّ، مكتفيةً بتتبع الصلة الغرامية والاستسلام إلى ما يُبديه أبطالُ الرواية من انفعالٍ اصطناعيٍّ مضخَّمٍ، جاهلةً أنها بتطلب ذلك التحريض القهريِّ تُطفئ نور ذهنها وتُضعف من نفسها جميعَ القوى حتى قوة الحب الذي ينتقم من مُهينيه ومُزيفيه انتقامًا صارمًا.
ما أعظم الحبَّ وأشرفَه — أيتها السيدات — في القلب المتبصر الحكيم! هو أقدر عامل ينهض بالإنسانية مُسهِّلًا طريقَها، مخففًا أثقالَها، خالقًا من أبنائها الأبطال والجبابرة، وأجمل الأرواح وأكبر القلوب وأنبل النفوس إنما هي تلك التي يظلُّ فيها نهر الحب دائم الفيضان، وتظلُّ تبعث شعاع شمسها الداخلية إلى ما وراء الفرد والبيت والوطن، فتمتدُّ على كل شيء وتضيء كلَّ شيء. الذي يحب كثيرًا يفهم كثيرًا؛ لأن الحبَّ أستاذ ساحر، نتعلم منه بسرعة، ويفتح لنا رحب الآفاق، يهمِّم فيها صوته المحيي الذي لا تسكته أصوات الأفراح والأحزان.
ولكن كم نصغره ونحقره عندما نحصره في الموضوع الواحد الذي تدور حوله الروايات والأشعار الغزلية، وننسى أنه الرابطة الكبرى — كدت أقول: الرابطة الوحيدة — بين أجزاء الكون وبين الإنسان والموجودات، وأنه هو وحده دواء السآمة الناجع وبلسم التعزية الفعَّال.