صفحة:غاية الحياة مي زيادة 1921.pdf/7

صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.

خطوة إلى الأمام تقهقرت إلى الوراء خطوتين؟ أم أنا كنت أعلل النفس بشيءٍ فلما صار لي وجدته شيئًا آخر؟ أم أنَّ ما كان يبدو لي حقيقةً محسوسةً إنما هو خداع فتَّان كلَّما جريت نحوه ملتمسًا، ودنوت منه مستعطفًا، ارتدَّ وتباعد كما يرتدُّ ويتباعد السراب في الصحراء، وعدت أنا إلى عذاب محتوم واصطبار جميل؟ غايتي من الحياة السعادة، فهل أنا سعيد؟»

وهنا يقف كلٌّ فترةً أخرى ويزفر زفرةً جديدةً سعيدًا كان أم شقيًّا؛ لأنه لا بدَّ لكلِّ قلبٍ من فراغٍ لا يُملأ ومن حاجة لا تسد؛ ولأن النفس البشرية تشبه بركة الماء مهما راقت صفحتها وتلألأ سطحها حرِّكها قليلًا تتعكر وتكفهر بما ركد في أعماقها من الأوحال، وفي أعماق كلِّ نفس آلامٌ ثاوية، وتَذكارات جاثمة، وجراح صديدة اندمل بعضها على فسادٍ، يكفي أن تلمسها يد أو إشارة لتمضَّها الأوجاع فتعمد إلى الاستغاثة والأنين.

 

إن السعادة غاية الجميع، أما السبيل إليها فمختلف باختلاف الطبائع. حُرمَها الناسُ طويلًا فازداد شوقهم، واحتشدت في قلوبهم الكظوم والضغائن حتى لكأنَّ الإنسانيةَ تتحرَّك اليوم فوق بركان ثائر. ففي كلِّ مكان حروبٌ وتقاتلٌ على المنافع، ومن الغريب أن النقيضين؛ أي: يقظة الوطنية وانتشار الاشتراكية، يسيران جنبًا إلى جنب، والأمم جميعًا على وجل واضطراب تنتظر من وقت إلى آخر تغيُّرَ الأحوال ووقوع ما كان يرجى أو ما لم يكن ليرجى.

بيد أن الحياة العامة لا تأخذ من حياة الفرد سوى ساعاتٍ معدودةً، وفي أشد حالاته تحمُّسًا تظل حياته الداخلية على ما هي تقريبًا. يظل له عِوزُه الذي لا يملؤه الغنى العام، تظل له آلامه الجسمية والروحية يتجرَّع مرارتها ويحتمل من وخزها ما لا يخدره التهليل العام، تُرى ما هو تأثير تلك الأفراح الوطنية الجميلة في العليل اليائس؟! وفي المعدم الذي ليس لديه ما يسدُّ رمق صِغاره؟ وفي القلب الذي حوى جمرةً تأكل سويداءه؟ وفي الصدر الذي اكتظَّت فيه الغموم؟ تلك لمحات ابتهاجٍ تسطع ثم تترك القلب أكثر وحدةً وسوادًا، والعليل أكثر أسفًا على أيامه المتتابعة كالأظلال.

السعادة هي الغاية، وما السعادة — في حقيقتها وعلى تنوع صورها في الأذهان — سوى تطوُّر متتابع نحو حالة تستوفي عندها جميعُ القوى وسائلَ النمو والانبساط والظهور كاملةً وافيةً بأقلِّ ما يمكن من المقاومة والألم، هذا إذا تعذر الخلاص منهما على الإطلاق. وهل من تطوُّرٍ ونموٍّ بلا عمل؟ لا جمود في الخليقة حيث كل مخلوق — حتى