٢
الحمد لله منطق اللسان بتحميد صفاته، وملهم الجنان إلى توحيد ذاته، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف مخلوقاته، وعلى آله وصحبه الذين اقتدوا بقداته، واهتدوا بسماته (وبعد) فقد اتفقت آراء الأمم العرب منهم والعجم، الذين مارسوا اللغات ودروا ما فيها من الفنون والحكم وأساليب التعبير عن كل معنى يجري على اللسان والقلم، على أنّ لغة العرب أوسعها وأسنعها وأخلصها وأنصعها وأشرفها وأفضلها وآصلها وأكملها، وذلك لغزارة موادّها واطراد اشتقاقها وسرارة جوادّها واتحاد نتساقها ومن جملته تعدّد المترادف الذي هو للبليغ خير رافد ورادف وما يأتي على روىّ واحد في القصائد مما يكسب النظم من التحسين وجدها لا تجد لها في غيرها من لغات العجم شبيها وهذا التفضيل يزداد بيانا وظهورا ويزيد المتأمل تعجبا وتحييرا إذا اعتبرت أنها كانت لغة قوم أمّيين لم يكن لهم فلسفة اليونانيين ولا صنائع أهل الصين ومع ذلك فقد جعلت بحيث يعبر فيها عن خواطر هذين الجيلين بل سائر الأجيال إذا كانت جديرة بأن يشغل بها البال وتحسن في الاستعمال الذي من لوازمه أن يكون المعنى المفرد وغير المفرد موضوعاً بإزائه لفظ مفرد في الوضع يخف النطق به على اللسان ويرتاح له الطبع وهو شأن العربية وكفاها فضلا على ما سواها هذه المزيه وإنما قلت مفرد في الوضع لانا نرى معظم ألفاظ اليونانية وغيرها من اللغات الإفرنجية من قبيل النحت وشتان ما بينه وبين المفرد البحت فإنّ هذا يدل على أنّ الواضع فطن من أوّل الأمر إلى المعاني المقصودة التي يحتاج إليها لإفادة السامع بحسب اختلاف الأحوال والمواقع وذلك يدل على أن تلك المعاني لم تخطر بباله إلا عندما مست الحاجة إليها فلفق لها ألفاظاً كيفما اتفق واعتمد في الإفادة عليها فمثل من وضع اللفظ المفرد مثل من بنى صرحا لينعم فيه ويقصد فقدّر من قبل البناء كل ما لزم له من المداخل والمخارج والمرافق والمدارج ومنافذ النور والهواء والمناظر المطلة على المنازه الفيحاء وهكذا أتم بناءه كما قدّره وشاءه ومثل من عمد إلى النحت والتلفيق بأنه لا يصيب فيه سكنه فتدارك ما فرط منه تدراك من لهوج فعجز فجاء بناؤه سدادا من عوز هذا من حيث كون الألفاظ مفردة كما أسلفت مفصلا فأما من حيث كونها تركب جملا وتكسى من منوال البلاغة حللا فنسبة تلك اللغات إلى العربية كنسبة العريان إلى الكاسي والظمآن إلى الحاسي ولا ينكر ذلك إلا مكابر على جحد الحق مثابر وحسبك أنه ليس في تلك اللغات من أنواع البديع إلا التشبيه والمجاز وما سوى ذلك يحسب فيها من قبيل الإعجاز هذا وكما أني قرّرت أنّ اللغة العربية أشرف اللغات كذلك أقر أن أعظم كتاب ألف في مفرداتها