صفحة:ما هي النهضة-سلامة موسى-1935.djvu/15

تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.

انحطاط الثقافة في القرون الوسطى


ليس شك في أن السبب الأساسي لانحطاط الثقافة أو ارتقائها أو صبغها بلون خاص، وتوجيهها إلى ناحية معينة دون أخرى هو السبب الاقتصادي، فإن الحال الاقتصادية كما تقرر لون الحضارة الراهنة كذلك هي إلى حد بعيد، تقرر لون الثقافة الراهنة، ويكفي القارئ أن يعرف هنا أن الثقافة في أيامنا لا تفشو وتتفرع، وأن التوليد في الفنون لا يزكو، إلا إذا كثر القراء وتوافرت المدارس، وتعددت المطابع، وراجت سوق الكتب وصار العلم والأدب يدر على العالم أو الأديب ربحًا، وهذه حال تحتاج إلى الثروة والسعة والرخاء، أما إذا ضاقت البلاد بعيشها، فلم تستطع إنشاء المدارس للكافة وتغذية المطابع وإعالة العاملين في الأدب والفنون والعلوم فإن ميدان الثقافة يضيق، ويكون من ضيقه ضمور الذهن الإنساني بل ضمور الشخصية الإنسانية.

فعلى القارئ أن يذكر أن وراء كل نهضة ثقافية حركة اقتصادية بعثت عليها ونبهت إليها، ونحن نقنع الآن بأن نشير إلى أن ميدان التجارة أوفق للثقافة من ميدان الزراعة، فميدان الزراعة لركودها يقنع بما يشاكلها من ثقافة راكدة، بينما التجارة تطوف في أنحاء العالم وتفتح الطريق للجغرافيا والتاريخ والملاحة والفلك، بينما الصناعة تحتاج إلى مكتشفات متوالية عن الكيمياء والطبيعيات وغيرهما من العلوم.

كانت ثقافة مصر «الزراعية» في أكثرها عقائد جزمية ومعارف مشتقة تخدم الدين. ولم يكن المصريون يعرفون النظرية أو الرأي، بل يمكن أن نقول إن أدبهم وفلسفتهم لم يستقلا يوما من الأيام عن الدين، ثم ظهرت یونان «التجارية» فظهرت الفلسفة مستقلة من الدين كما استقل الأدب أيضا منه، ثم ظهرت النظرية الهندسية، وعرف شيء من الطبيعيات، ثم ظهرت روما «الصناعية» التي كان يتعجب اليونانيون أنفسهم مما فيها