هذا اكتفى بأن أثار الاضطراب في الموصل والجزيرة - كما رأينا. وأرسل المأمون قائداً آخراً (هو محمد بن حميد) فتك بزريق وتوجه إلى أذربيجـان لملاقاة بابك. وتوغل ابن حميد في البلاد الجبلية نحو معاقل الثوار متخـذاً الحيطة في سلوك الدروب والمفاوز وحراستها، ولكن فاجأته قوات بابك فـي مضايق الجبال من كل وجه فانهزم الجيش وقتل ابن حميد. وظل الثائـر معتصماً بجبال أذربيجان حتى وفاة المأمون سنة ٢١٨هـ.
الى جانب الثورة المذهبية المسلحة هذه، عرف مركز الدولة حركة دينية أشبه ما تكون بحركة الزنادقة على عهد المهدي، وهي التي نسميها بمحنــة خلق القرآن. إذ اهتم المأمون بالمسائل الدينية، وتدخل في الجدل بين المعتزلة وأهل السنة. ومع أن العامة لم تهتم كثيراً بمسألة القضاء والقدر إلا إنها اهتمت اهتماماً بالغاً بمشكلة خلق القرآن. اذ اعتنق المأمون رأي المعتزلة في أن القرآن مخلوق وأظهر ذلك سنة ٢١٢هـ وبدأ يجبر القضاة والفقهـاء والأئمة على إعلان "خلق القرآن". واتخذ إجراءات شاذة ضد من لم يعتنق هذه الفكرة فترك الاستعانة به وربما ذهب إلى أبعد من ذلك فعاقبه.
وكان الهدف من هذه الحركة مزدوجاً كما هي العادة. فالخليفة إلـى جانب اهتمامه بالحياة الروحية لشعبه ورغبته في شغل رعيته بهذه المسألة واكتساب محبة الرعية أيضاً، كان يعمل على أن تكون هذه المشكلة الدينية وسيلة لأن يتخلص (من أعدائه السياسيين ممن لا يدينون بهذه الفكرة) وعرف المأمون كيف يربط بين الجهاد في سبيل الله ضد بيزنطة وبين هذه الحركة الدينية. فهو يهتم بها اهتماماً جدياً في أواخر أيامه أثناء وجوده سنة ٢١٨هـ في ثغور الروم، تماماً كما حدث أيام المهدي من اهتمامه بأمر الزنادقة أثنـاء توجهه لحرب الروم. فهو يكتب إلى بغداد في إمتحان الفقهاء والقضاة، وطلب إنفاذ بعضهم إليه ليمتحنهم شخصيا.
ومن المهم متابعة استجوابات هؤلاء الأشخاص المهرة الذين يبحثـون