صفحة:مصطلح التاريخ (الطبعة الثالثة).pdf/88

صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.

غروره ذلك طرفة عين، ومن قبل أن الجن لا يعرف لها صور ولا تماثيل تختص بها إنما هي قادرة على التشكل. وما يذكر من كثرة الرؤوس لها فإنما المراد به البشاعة والتهويل لا أنه حقيقة وهذه كلها قادحة في تلك الحكاية. والقادح المحيل لها من طريق الوجود أبين من هذا كله وهو أن المنغمس في الماء ولو كان في الصندوق يضيق عليه الهواء للتنفس الطبيعي وتسخن روحه بسرعة لقتله فيفقد صاحبه الهواء البارد المعدل لمزاج الرئة والروح القلبي ويهلك مكانه وهذا هو السبب في هلاك أهل الحمامات إذا أطبقت عليهم من الهواء البارد والمتدلين في الآبار والمطافير العميقة المهوى إذا سخن هواؤها بالعفونة ولم تداخلها الرياح فتخلخلها. فإن المتدلي فيها يهلك لحينه، وبهذا السبب يكون موت الحوت إذا فارق البحر. فإن الهواء الذي خرج إليه حار فيستولي الحار على روحه الحيواني ويهلك دفعة ومنه هلاك المصعوقين وأمثال ذلك.

ومن الأخبار المستحيلة ما نقله المسعودي أيضاً في تمثال الزرزور الذي برومة تجتمع إليه الزرازير في يوم معلوم من السنة حاملةً للزيتون ومنه يتخذون زيتهم وانظر ما أبعد ذلك عن المجرى الطبيعي في اتخاذ الزيت.

ومنها ما نقله البكري في بناء المدينة المسماة ذات الأبواب تحيط بأكثر من ثلاثين مرحلة وتشتمل على عشرة آلاف باب والمدن إنما اتخذت للتحصن والاعتصام كما يأتي وهذه خرجت عن أن يحاط بها فلا يكون بها حصن ولا معتصم.

وكما نقله المسعودي أيضاً في حديث مدينة النحاس، وأنها مدينة كل بنائها نحاس بصحراء سلجماسة، ظفر بها موسى بن نصير في غزوته إلى المغرب، وأنها مغلقة الأبواب وأن الصاعد إليها من أسوارها إذا أشرف على الحائط صفق ورمى بنفسه فلا يرجع آخر الدهر في حديث مستحيل عادة من خرافات القصاص وصحراء سلجماسة قد نفضها الركاب والأدلاء ولم يقفوا لهذه المدينة على خبر. ثم إن هذه الأحوال التي ذكروا عنها كلها مستحيل عادة منافٍ للأمور الطبيعية في بناء المدن واختطاطها وأن المعادن غاية الموجود منها أن يصرف في الآتية والخرثى وأما تشييد مدينة منها فكما تراه من الاستحالة والبعد.

وأمثال ذلك كثيرة وتمحيصه إنما هو بمعرفة طبائع العمران وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع وأما إذا كان مستحيلاً فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح. ولقد عد أهل النظر من المطاعن في الخبر استحالة مدلول اللفظ وتأويله بما لا يقبله العقل وإنما كان التعديل والتجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية لأن معظمها تكاليف إنشائية أوجب الشارع العمل بها حتى حصل الظن بصدقها وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة والضبط، وأما الأخبار عن الواقعات فلا بد في صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة. فلذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعه وصار فيها ذلك أهم من التعديل ومقدمًا عليه إذ فائدة الإنشاء مقتبسة منه فقط وفائدة الخبر منه ومن الخارج بالمطابقة.

وإذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر بالاجتماع البشري الذي هو العمران ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه وما يكون عارضاً لا يعتد به وما لا يمكن أن يعرض له وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانوناً في تمييز الحق

- ٧٨ -