صفحة:هذه الشجرة - عباس محمود العقاد.djvu/24

تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.

فهي هنا كالشاعر الذي يخطر له المعنى فيلتمس له جسما من الألفاظ مطيعا لمعناه، أو كالمثال الذي يشيع في نفسه الجمال فيلتمس له قالبا من الدمى الحسان يفرغه عليه، وكالخاطر الذي ينطلق من عالم الأثقال والضرورات إلى عالم لا ثقل فيه ولا ضرورة.

أو هي تطوع الجسد للحركة الحرة، وهي حرة لأنها موزونة تدل على المشيئة، ولو لم تكن موزونة لما كانت لها غاية ولا مشيئة ولا كانت لها حرية ولا جمال.

وإنما تكون هي «الفوضى» بغیر وزن ولا اختيار ولا جمال.

هذه الحركة الجميلة من ذلك الجسم الجميـل تـطلـق الـنـاظـر إلـيـهـا مـن عـالم الأجساد إلى عالم المعاني والأفكار.

وعلى نقيض ذلك حركة الجسم الذي يستهوى اللذة فينفي المعاني والأفكار ويقيدها بالحس والمادة والأبدان.

ويختلط الأمر في هذه الفوارق بين الأجسام الجميلة والأجسام اللذيذة كلما هبطت الأمم من أوج الحرية إلى حضيض المهانة والخضوع.

فـالمصريون في عظمتهم الأولى قـبـل آلاف السنين كانوا يسـتـجـمـلـون مـن الأجسام كل حر رشيق ويجعلون الأمثلة العليا للجمال تلك الصور التي يوشك أن تطير من الخفة، كما نراهـا على بقايا الآثار.

ثم هبطوا من أوج الحرية إلى حضيض المهانة والخضوع فركدوا ركود البطء والكسل، وأصبحت الكثافة الواهنة عندهم مقياس الملاحة والقسامة، وأصبح جـمـل المحمـل أو «الـتـختروان» مـثـال الحسن المطلوب في النساء : تـعـلـو المرأة السـمـيـنـة وتـهـبـط في مشيتها وما تنتقل شبرا واحدا في أقل من خطوتين، والمقرظون من حولها يهللون ويكبرون ويباركون الخلاق العظيم، ويعوذون هذا الجرم الذي لا تمضى فيه السيوف... من لحظات العيون ومن حسد الحاسدين!

ثم ثاب العالم كله إلى مذهب المصريين الأقدمين في جمال النحافة والرشاقة والنسج الدقيق، وشاع هذا المذهب بعد الحرب العالمية الماضية أشد من شيوعه في زمن من الأزمان، حتى غلا بعضهم فأوشك أن يلتمس الجمال في الهياكل العظيمة، وهي على أية حال أقرب إلى الجمال من هياكل الشحوم واللحوم!

وما نحسبها نفحة من نفحات الفن العلوي هبت فجأة على أذواق الناس في العالم كله فأصبحوا جميعا من صاغة التماثيل الملهمين، فإن هذه النفحات أغلى

____________________

٢٤