صفحة:يسألونك (1946) - العقاد.pdf/120

تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.

- ۱۱۲ - وروى عن الوزير ابن الزيات أنه كان يقول : « إن الرحمة خور في الطبيعة » . فلما نكب وعذب بالتنور الذي كان يعذب به الناس إذ به يرثى لنفسه ويستدعى الرثاء لها ويجرى في ضعفه أمثولة لمن يسترحمون الأقوياء والضعفاء ، و « لم يزل – كما جاء في الطبري - أياماً في حبسه مطلقاً ، ثم أمر بتقييده فقيد وامتنع عن الطعام ، وكان لا يذوق شيئاً . وكان شديد الجزع في حبسه كثير البكاء قليل الكلام كثير التفكير ... ـ وكان قبـل موته بيومين أو ثلاثة يقول : يا محمد يا ابن عبد الملك ! لم تقنعك النعمة الفره ، والدار النظيفة ، والكسوة الفاخرة ، وأنت في عافية ، حتى طلبت الوزارة ! ذق ما عملت بنفسك ... »

( ومن شوهد عليهم من القساة أنهم كانوا أصلب من ذلك عوداً وأخشن مساً وأقرب إلى التمرد والعتو والأنفة من الشكوى ، فكثيراً ما يكون تمردهم ضرباً من التخبط ، أو عرضاً من أعراض التشنج ، أو ثورة عصبية هي مرض لا شك فيه كمرض الخنوع والولع بالشكاية ، وإن اختلف مظهرها كاختلاف النقيضين . . فالذي نراه من المشاهدات الطبيعة أن القسوة هي العجز والمرض والنقصان Pr. 4 وأن الرحمة هي القدرة والفضل والزيادة . فالرحيم عنده مايكفيه و يزيد على كفايته حتى يكفى غيره و يتناوله بالعناية والحماية ! والقاسي عنده من القوة ما يغلب به الضعيف ، فهو في الدرجة التالية من الضعف ليش دونه في مراتب القوة إلا فاقد القوة والعاجز عن كبحها . وهذا بلا ريب غير قسوة الرحمة التي يقول فيها حكيم الشعر العربي : وقسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقس أحياناً على من يرحم فالرحيم الذي يقسو هنا لينفع بقسوته من لا تنفعهم رحمته ، . ، ، إنما هو أرحم وأقدر على الرحمة ، لأن رحمته لا تغلبه ولا تقوده غير واع ولا متـدبر حتى يصنع باسم الرحمة ما هو نقيضها أو ما هو قسوة معيبة فيا تنتهى إليه من الإيذاء . وكفى بالرحمة أنها فتح إنساني في عالم الحياة ، ترقى إليها الإنسان وحده بين المخلوقات الحية ، وشابهته فيها بمقدار ما صعدت . الطبيعة في مرتقاه .