صفحة:يسألونك (1946) - العقاد.pdf/17

صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.

مع أبي العلاء في سجنه

قال صديقنا الدكتور طه حسين في تبيين مقصده من كتابه هذا: «وستقول: فإنك إن مضيت على هذا النحو لم تقدم إلينا كتابًا في البحث العلمي ولا في النقد الأدبي، وإنما تتحدث إلينا عن صديق! وهذا حق، فإني لا أقدم إليك كتابًا في البحث العلمي عن أبي العلاء، ولا في النقد الأدبي لأبي العلاء، ولعلي قدمت إليك من ذلك ما فيه مقنع، وإنما أتحدث إليك عن صديق لا يرجى نفعه ولا يتقى شره، ولا يصدر المتحدث عنه إلا عن الحب المبرأ من الرغب والرهب ومن الطمع والإشفاق، أفتراك تكره مثل هذا الحديث؟ ألم تسأم مثل هذه الأحاديث الكثيرة التي تمتلئ بالبحث العلمي والنقد الأدبي، والتي تكتب ابتغاءً لرضا الأصدقاء واتِّقاءً لسخطهم …؟»

***

وقد أحسن الدكتور القصد، وأحسن التعريف، فكتابه حديث المرء عمن يحب لمن يحب، وأراه مذكري أحاديث الآباء عن أبنائهم الأعزاء: كيف يضحكون وكيف يبكون، وكيف يخطون وكيف يتعثرون، والسامع يرتاح إلى الإصغاء إن كان ممن يعنيهم أمر أولئك الأبناء، فأما إن لم يكن منهم فإلى غيره يساق الحديث، وليس من حقه أن يلوم المتحدث كما ليس من حق القارئ الذي يطلب الهندسة أن يلوم المؤلفين الذين لا يكتبون كتابة المهندسين.

وأنا ممن يحبون أبا العلاء وممن أطالوا قراءته في أول عهد الشباب، وما أحسب أحدًا من الشبان المشغولين بالأدب لم تمض به فترة معرية في باكورة كفاحه حين تصطدم أحلام الصبا بمتاعب الدنيا، وتجارب الأيام، فهناك يروقنا التشاؤم، ويعجبنا من يعيبون لنا الحياة. ثم نخرج من هذه الربقة فنعاودها معاودة الحنين إلى تلك الباكورة المشتهاة، ونقرنها بذكرى الشباب وذكرى الأحلام، ونعطف عليها كما يعطف الرجل الجلد على بكاء طفولته، وهي لا تستوجب بعض ذلك البكاء.

فما زلت أعتقد وأزداد مع الأيام اعتقادًا أن بغض الحياة أسهل من حب الحياة، وأن الأدوات النفسية التي نلمس بها آلام الحياة أعم وأشيع، وأقرب غورًا من أدوات