طرقت نوار ودون مطرقها

​طرقت نوار ودون مطرقها​ المؤلف الفرزدق


طَرَقَتْ نَوَارُ وَدُونَ مَطْرَقِهَا
جَذْبُ البُرَى لِنَوَاحلٍ صُعْرِ
وَرَوَاحُ مُعْصِفَةٍ وَغَدْوَتُهَا،
شَهْراً، تُوَاصِلُهُ إلى شَهْرِ
أدْنَى مَنَازِلِهَا لِطَالِبِهَا
خِمْسُ المُؤوِّبِ للقَطا الكُدْرِ
وَإذا أنَامُ، ألَمّ طَائِفُهَا
حَتى يُنَبِّهَ أعْيُنَ السفْرِ
إني يُهيّجُني، إذا ذُكِرَتْ
رِيحُ الجنُوبِ لهَا عَلى الذِّكْرِ
وَكَأنّمَا التَبَسَتْ بِأرْحُلِنَا،
بَعْدَ المَنَامِ، ذَكِيةُ التَّجْرِ
وَكَأنّ ذُرّعَهَا بِأرْحُلِنَا
يُرْقِلْنَ مِثْلَ نَعَائِمٍ زُعْرِ
أوْ عَانَةٍ يَبِسَتْ مَرَاتِعُهَا،
خَبَطتْ سَفا القُرْيانِ وَالظّهرِ
وَكَأنّ حَيّاتٍ مُعَلَّقَةً
تَثْني أزِمّتَهَا إلى الصُّفْرِ
لِلْعَوْهَجِيّةِ مِنْ نَجَائِبِهَا،
وَالدّاعِرِيِّ لأفْحُلٍ صُحْرِ
وَإلى سُلَيْمَانَ الّذيِ سَكَنَتْ
أرْوى الهِضَابِ بِهِ مِنَ الذُّعْرِ
وَتَرَاجَعَ الطُّرَداءُ إذْ وَثِقُوا
بِالأمْنِ مِنْ رَتْبِيلَ وَالشِّحْرِ
أوْ كُلِّ دايِرَةٍ كَأنّ بِهَا
قَاراً، وَلَيسَ سَفينُها يَجرِي
أوْ كُلِّ صَادِقَةٍ إذا طُلِبَتْ،
مِنْ دُونِهَا الرّيحُ الّتي تُذْرِي
تُمسِي الرّيَاحُ بهَا وَقَدْ لَغِبَتْ
أوْ كُلِّ صَادِقَةٍ عى الفَتْرِ
كُنّا نُنَادي الله نَسْألُهُ
في الصّبْحِ وَالأسْحَارِ وَالعَصْرِ
أن لا يُمِيتَكَ أوْ تَكُونَ لَنَا
أنْتَ الإمَامَ وَوَاليَ الأمْرِ
فَأجَابَ دَعْوَتَنَا، وَأنْقَذَنَا
بِخِلافَةِ المَهْدِيِّ مِنْ ضُرّ
يا ابنَ الخَلائِفِ لمْ نَجِدْ أحَداً
يَبْقَى لِحَزّ نَوَائِبِ الدّهْرِ
إلاّ الرّوَاسِي، وَهْيَ كَائِنَةٌ
كَالعِهْنِ، وَهْيَ سَرِيعَةُ المَرّ
فَفَدِ ابتُلِيتَ بِمَا زَعَمْتَ لَنَا
إنْ أنْتَ كُنْتَ لَنَا على أمْرِ
كَمْ فِيكَ إنْ مَلَكَتْ يداكَ لنا،
يَوْماً، نَوَاصِينَا مِنَ النَّذْرِ
مِنْ حَجّ حَافِيَةٍ وَصَائِمَةٍ
سَنَتَينِ، أُمّ أفَيْرِخٍ زُعْرِ
لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ غَيرُ ألْسِنَةٍ،
وَأُعَيْظِمٍ وَحَوَاصِلٍ حُمْرِ
ويُجَمِّرُونَ بِغَيْرِ أعْطِيةٍ،
في البَرّ مَنْ بَعَثُوا وَفي البَحْرِ
وَيُكَلِّفُونَ أبَاعِراً ذَهَبَتْ
جِيَفاً بَلِينَ، تَقادُمَ العَصْرِ
حَتى غَبطْنَا كلَّ مُحْتَمَلٍ
يُمْشى بِأعْظُمِهِ إلى القَبْرِ
وَتَمَنّتِ الأحْيَاءُ أنّهُمُ
تَحْتَ التّرَابِ وَجيءَ بالحَشْرِ
وَالرّاقِصَاتِ بِكُلّ مُبْتَهِلٍ،
مِنْ فَجِّ كُلّ عَمَايِقٍ غُبْرِ
مَا قُلْتُ إلاّ الحَقَّ تَعْرِفُهُ
في القَوْلِ مُرْتَجِلاً وَفي الشِّعْرِ
مَا أصْبَحَتْ أرْضُ العِراقِ بهَا
وَرَقٌ لمُخْتَبِطٍ وَلا قِشْرِ
إنْ نَحْنُ لمْ نَمْنَعْ بِطاعَتِنَا
وَالحُبِّ للمَهْدِيّ وَالشُّكْرِ
فَغَدَتْ عَلَيْنَا في مَنَازِلِنَا
رُسُلُ العَذابِ بِرَغْوَةِ البَكْرِ
أشْقَى ثَمُودَ حِينَ وَلّهَهُ
عَنْ أُمّهِ المَشْؤومُ بِالعَقْرِ
لَمّا رَغَا هَمَدُوا، كَأنّهُمُ
هَابي رَمَادِ مُؤثَّفِ القِدْرِ
أنْتَ الّذِي نَعَتَ الكِتَابُ لَنَا
في نَاطِقِ التّوْرَاةِ وَالزُّبْرِ
كَمْ كانَ مِنْ قَسٍّ يُخَبّرُنَا
بِخِلافَةِ المَهْدِيّ، أوْ حَبْرِ
جَعَلَ الإلَهُ لَنَا خِلافَتَهُ
بُرْءَ القُرُوحِ وَعِصْمَةَ الجَبْرِ
كَمْ حَلّ عَنّا عَدْلُ سُنّتِهِ
مِنْ مَغْرَمٍ ثِقْلٍ، وَمِنْ إصْرِ
كُنّا كَزرْعٍ مَاتَ، كَانَ لَهُ
سَاقٍ، لَهُ حَدَبٌ مِنَ النَّهْرِ
عَدَلُوهُ عَنْهُ في مُغَوِّلَةٍ
للمَاءِ، بَعْدَ جِنَانِهِ الخُضْرِ
أحْيَيْتَهُ بِعُبَابِ مُنْثَلِمٍ،
وَعَلاهُ مِنْكَ مُغَرِّقُ الدَّبْرِ
أحْيَيْتَ أنْفُسَنَا، وَقَدْ بلَغَتْ
مِنّا الفَنَاءَ، وَنَحْنُ في دُبْرِ
فَلَقَدْ عَزَزْنَا بَعْدَ ذِلّتِنَا
بِك، بَعَدَما نَأبَى عَنِ القَسْرِ
أصْبَحْتَ قَدْ بخَعَتْ نَصِيحَتُنا
لكَ، والمَقامِ وَأيْمَنِ السِّتْرِ
أحْيَيْتَ أنْفُسَنا وَقَد هَلَكَتْ
وَجَبَرْتَ مِنّا وَاهِيَ الكَسْرِ
بَلْ مَا رَأيْتُ وَلا سَمِعْتُ بِهِ
يَوْماً كَيَوْمِ صَوَاحِبِ القَصْرِ
يَوْماً سَيُؤمِنُ كُلَّ مُنْدَفِنٍ،
أوْ لاحِقٍ بِأئِمّةِ الكُفْرِ
فاذْكُرْ أرَامِلَ لا عَطَاءَ لَهَا
وَمُسَجَّنِينَ لمَوْضِعِ الأجْرِ
لَوْ يُبْتَلُونَ بِغَيْرِ سَجْنِهِمِ
صَبَرُوا وَلَوْ حُبِسُوا عَلى الجَمرِ
وَلَقَدْ هَدَى بكَ كُلَّ مُلتَبَسٍ
وَشَفَى بعَدْلِكَ كُلَّ ذي غِمْرِ
حَتى اسْتَقَامَ لِوَجْهِ سُنّتِهِ،
وَدَرَى وَلمْ يَكُ قَبْلَهَا يَدْرِي
وأَخَذْتَ عَدْلاً مِنْ أبِيكَ لَنَا
وَقَلَعْتَ عَنّا كلَّ ذي كِبْرِ
عَاتٍ إذا المَظْلُومُ ذَكّرَهُ،
أغْضَى عَلى عِظَمٍ مِنَ الذِّكْرِ
إنّا لَنَرْجُو أنْ تُعِيدَ لَنَا
سُنَنَ الخَلائِفِ مِنْ بَني فِهْرِ
عُثْمَانَ، إذْ ظَلَمُوهُ وَانتَهكوا
دَمَهُ صَبِيحَةَ لَيْلَةِ النَّحْرِ
وَدِعَامَةِ الدّينِ الّتي اعْتَدَلَتْ
عُمَراً، وَصَاحِبَهُ أبَا بَكْرِ
وَابْنَيْ أبي سُفْيَانَ، إذْ طَلَبَا
عُثْمَانَ مَا بَاتَا على وتْرِ
وَأبَا أبِيكَ لِكُلّ جَائِحَةٍ
مَرْوَانَ سَيْفَ الدّينِ ذا الأُثْرِ
وَأبَاكَ، إذْ كَشَفَ الإلَهُ بِهِ
عَنّا العَمَى، وَأضَاءَ كَالفَجْرِ
وَأخَاكَ، إذْ فَتَحَ الإلَهُ بِهِ،
وَأعَزّهُ بِاليُمْنِ وَالنّصْرِ
خُلَفَاءَ قَدْ تَرَكُوا فَرَائِضَهُمْ
فينَا، وَسُنّةَ طَيّبي الذّكْرِ
تَبِعُوا رَسُولَهُمُ بِسُنّتِهِ،
حَتى لَقُوهُ، وَهُمْ على قَدْرِ
رُفَقَاءَ مُتّكِئِينَ في غُرَفٍ،
فَرِحِينَ فَوْقَ أسِرّةٍ خُضْرِ
في ظِلّ مَنْ عَنَتِ الوُجُوهُ لَهُ
حَكَمِ الحُكُومِ وَمالِكِ القَهرِ
وَلَقَدْ خَصَمْتُ بِهَا مُخاصِمَكُم
وَشَفَيْتُ أنْفُسَكُمْ مِنَ الخُبْرِ
مَا قُلْتُ إلاّ الحَقَّ، أُخْبِرُهُ
عَنْ أهْلِ بَادِيَةٍ، وَلا مِصْرِ
فَاليَوْمَ يَنْفَعُ كُلَّ مُعْتَذِرٍ،
عِنْدَ الإمَامِ، صَوادِقُ العُذْرِ
أنْتَ الّذي كانَتْ تُوَطّنُنَا،
تَرْجُوهُ أنْفُسُنَا على الصّبْرِ
مَاتَ المَظَالِمُ حِينَ كُنْتَ لهَا
حَكَماً وَجِئْتَ لَنَا على فَقْرِ
مِنّا إلَيْكَ كَفَقْرِ مُمْحِلَةٍ،
تَرْجُو الرَبيعَ لِرُزَّمٍ عَشْرِ
ذَهَبَ الزّمَانُ بِخَيْرِ وَالِدِهَا
عَنْها وَمَا لِبَنِيهِ مِنْ دَثْرِ
قَدْ خَنّقَتْ تِسْعِينَ أوْ كَرَبَتْ
تَدْنُو لآخِرِ أرْذَلِ العُمْرِ
تُرِكَتْ تُبكّي في مَنَازلِهِمْ،
لَيْسَتْ إلى وَلَدٍ وَلاَ وَفْرِ
بَعَثَ الإلَهُ لهَا، وَقَدْ هَلَكَتْ،
نُورَ البِلادِ وَمَاطِرَ القَطْرِ
يَرْجُونَ سَيْبَكَ أنْ يكونَ لهُمْ
كالنّيلِ فَاضَ على قُرَى مِصْرِ
فَلَئِنْ نَعشْتَهُم لَقَدْ هَلَكُوا،
واليُسْرُ يَفْرُجُ لَزْبَةَ العُسْرِ
لا جَارَ، إلاّ الله، مِنْ أحَدٍ
أوْفَى وَأبْعَدُ مِنْكَ مِنْ غَدْرِ
تُعْطي حِبَالاً مَنْ عَقَدْتَ لَهُ
لَيْسَتْ بِأرْمَامٍ وَلا بُتْرِ
أصْبَحَتَ أعْلى النّاسِ مَنْزِلَةً،
وأحَقَّهُمْ بِمَكَارِمِ الفَخْرِ
وَوَليَّ أمْرِهِمِ وَأعْدَلَهُمْ،
وَنَهَارَهُمْ، وَضِياءَ مَنْ يَسرِي
يَا لَيْتَ أنْفُسَنَا تُقَاسِمُهَا
أعْمَارُنَا لَكَ وَافيَ الشَّطْرِ
لَمْ تَعْدُ مُذْ أدْرَكْتَ أرْبَعَةً
إلاّ بِسَابِقِ غَايَةٍ تَجْرِي
وَنَمَتْكَ مِنْ غَطَفَانَ مُنْجِبَةٌ
شَمْسُ النّهَارِ لكامِلِ البَدْرِ
لأبي الوَلِيدَ، فَبَشَّرُوهُ بِهِ،
بِالسَّعْدِ وَافَقَ لَيْلَةَ القَدْرِ
أنْتَ ابنُ مُعتَرِكِ البِطاحِ وَمِنْ
أعْيَاصِهَا في طَيِّبٍ نَضْرِ
قَدْ يَعْلَمُ النَّفَرُ الّذِينَ مَشَوْا
مُتَعلّقِينَ، وَهُمْ عَلى الجَسْرِ
بَذَلُوا نُفُوسَهُمُ مُخَاطَرَةً،
وَهُمُ وَرَاءَ خَنَادِقِ الحَفْرِ
أنّ الأمَانَ لَهُمْ، إذا خَرَجُوا
بَحْرَاكَ، مِنْ فَرَقٍ مِنَ الدّهْرِ
لَمّا أتَوْكَ كَأنّمَا عَقَلُوا
بِذُرَى مُشَمِّرَةٍ مِنَ الغُبْرِ
دُونَ السّمَاءِ ذُرَى مَعَاقِلِهَا،
عَنْهَا تَزِلّ قَوَائِمُ العُفْرِ
خَرَجُوا وَدُونَهُمُ مُدَجَّجَةٌ،
وَمُخَنْدَقٌ مُتَصَوِّبُ القَعْرِ
بَلْ ما رَأيْتُ ثَلاثَةً خَرَجُوا
من مثلِ مَخرَجِهِمْ على الخَطْرِ
أبَني المُهَلَّبِ، قَدْ وَفَى لَكُمُ
جَارٌ، أمرَّ لَكُمْ على شَزْرِ
حَبْلاً بِهِ رَجَعَتْ نُفوسُكُمُ،
وَلَقَدْ بَلَغْنَ تَرَاقيَ النّحْرِ
إني أرَى الحَجّاجَ أدْرَكَهُ
ما أدْرَكَ الأرْوى على الوَعْرِ
وَأخَاهُ وابْنَيْهِ اللّذَينِ هُمَا
كَانَا يَدَيْهِ وَخَالِصَ الصّدْر
ذَهَبوا، وَمالُهُمُ الّذي جَمَعُوا
تَرَكُوهُ مِثْلَ مُنَضَّدِ الصّخرِ
دَخَلوا قُبورَهُمُ إذا اضْطَجَعوا
فِيهَا، بِأوْعِيَةٍ لَهُمْ صِفْرِ