عامر ذو رياش
عامر ذو رياش فزحف إلى غمدان وأخذه وأخذ صنعاء وما والاها فغيب نفسه النعمان بن يعفر بن سكسك في مغارة في جبل عنفر ومعه أمه نائلة بنت مالك بن الحاف ابن قضاعة بن مالك بن حمير. عامر ذو رياش أول الاذواء ولم يكن تبعا، قال وهب: فطلب عامر ذو رياش النعمان بن يعفر فلم يقدر عليه ولم يجد له مكاناً فجمع كل منجم كان بأرض اليمن وكل عائف وزاجر فقال لهم: ما الذي طلبت وقد فرقهم فجعل أهل النجم ناحية وأهل العيافة ناحية وأهل الزجر ناحية فنظروا فلم يجدوا شيئاً غاب عنهم أمره إلى أن قام إليه عائف فقال له: أيها الملك إن الذي تسال عنه امرأة وصبي. قال له الملك: لله درك من أين قلت ذلك. قال له العائف: أما ترى الجنازة التي مروا علي بها سألتهم عنها فقيل: إنها رجل فنظرت فإذا يده على صدره كأنه يقول: أنا الرجل والذي تسأل عنه صبي وامرأة ثم رجع إلى مكانه فنظر إلى صبي يقفوا أثر الميت والجنازة باكياً فرجع إلى الملك فقال: إنه صبي باك حقق ذلك العلم، ثم رجع فنظر إلى الصبي يتبع الجنازة حتى أدخلت مغارة ودخل الصبي في أثرها. فرجع إلى الملك فقال له: إن الذي تسأل عنه صبي حي غيب في مغارة في هذا الجبل فأمر العساكر فطافت بالجبل يتجسسون المغارات في الجبل ويقفون الآثار حتى دخلوا المغارة التي فيها النعمان وأمه فأخذوهما وأتوا بهما إلى عامر ذي رياش فأخذهما ورجع فنزل قصر غمدان ولم يكن ينزل قصر غمدان إلا الملك الأعظم ولا ينزله إلا من استحق عندهم اسم تبع من ملوك حمير وحبس النعمان وأمه عنده في قصر غمدان، فلم يزل النعمان محبوساً فماتت أمه وشب الصبي واحتلم. فبينما النعمان ليلة من ذلك الزمان مع الحرس الذين كانوا يحرسونه وكانوا عشرة وفيهم رجل يقال له همدان بن الوليد بن عاد الأصغر بن قحطان، وكان يخدم السكسك جد النعمان، وكان يرق له سراً وكان أغلط الحرس في العلان فبينما النعمان في الحرس جالس إذ طلع القمر وقد خسف فبكى النعمان لما رأى القمر خاسفاً وقالوا له: مال الذي يبكيك؟ قال: أبكاني تقلب الدهر بأهله لن ينجو من غدر هذه الدنيا وعثراتها شيء في الأرض ولا في السماء. فلما كان في الليلة الثانية طلع القمر مشرقاً زاهراً فضحك النعمان فقالوا له: ما الذي أضحكك؟ قال لهم: لعل الذي أبكى يضحك، ثم قال لهم: أرى هذا الدهر يقيل واحداً عثرته فيدرك أمله وآخر يمضي عليه فيستريح وأنا كما ترون لا يمضي علي فأستريح ولا يقيلني عثرتي فأبلغ أملي، وكان همدان بن الوليد رجلاً عاقلاً قد استمال إليه الحرس بعقله ولطفه يصرفهم كيف ساء، فقال لهم: إن في الكلام راحة تريدون أن أجيب عنكم النعمان؟ قالوا: نعم. فقال همدان: يا نعمان لعل أملك أقرب من أجلك، ثم نظر همدان إلى من حوله وتصحف وجوههم ليرى من يرضى قوله ومن يسخطه، فقالوا له: رضينا قولك يا همدان - فنظر النعمان إلى القمر في الليلة الثالثة وهو مشرق زاهر فأنشأ يقول:
- اربد وجهك بعد حشن ضيائه ... وخسفت بعد النور والإشراق
- هل كان هذا الشأن منك سجية ... أم خان عهدك غادر الميثاق
- واراك بعد محلة مذمومة ... أمسيت مشرقاً على الآفاق
- علَّ الذي أنشأ سناك بقدرة ... من بعد مهلكة يريح وثاقي
- إن الزمان بصرفه متقلب ... بين الورى كتقلب الأخلاق
قال وهب: وإن همدان قال للذين معه ويلكم أن ذا رياش نكد جبار لن يرحم قريباً ولا بعيداً ولن تروا معه راحة ولكن قدموا في النعمان يداً فإن أدرك أمله ووفى لكم أفدتم وإن لم يكن هذا كنتم قد وفيتم لسلفه فأجابوه فقال لهم: يأتي كل رجل منكم غدا بجديدة ففعلوا ووضع النقب في وسط المجلس حتى خرجوا من خارج القصر وكان ذلك وقت رجوع ذي رياش إلى عمان خالفه إليها مالك بن الحاف بن قضاعة فأخرجوا النعمان من ذلك السرداب ليلاً وإن النعمان كان يرسل في وجوه بني وائل بن حمير وبني مالك ابن حمير وسائر بني قحطان، فأجابوه إلى القيام على ذي رياش. فجمع حمير ثم سار يريد ذا رياش وإن إذ رياش لقي مالك بن الحاف فهزمه ذو رياش - ومر مالك على وجهه يريد أرض برهوت قال طلبة لحق بأرض الحبشة ولما بلغ ذا رياش ومن معه من أهل صنعاء وأهل العالية والهنبيق خروج النعمان بن يعفر في ديارهم وطوع الناس له فارقوا عسكر ذي رياش هاربين إلى ديارهم وذراريهم، ثم خرج عنه من كان معه من بني وائل بن حمير وهم: أعد حمير وتبعهم مالك بن حمير، فلما رأى ذو رياش أن جمعه قد افترق أكثره عنه وصار إلى النعمان جميع من معه، سار يريد حرم مكة عائذاً به. وسار النعمان في أثره فلقيه بالمشلل فقاتله فهزمه النعمان وأخذه أسيراً. وسار النعمان إلى مكة فأوفى نذره ورجع إلى غمدان بذي رياش أسيراً ثم أن النعمان دعا همدان فقال له: هذا الملك لك ولأصحابك فما رأيك في ذي رياش؟ قال له همدان: حبس بحبس لا عدوان فقبل منه وأحسن إليه وإلى أصحابه وأنشأ يقول:
- إذا أنت عافرت الأمور بقدرة ... بلغت معالي الأقدمين الأقاول
- فأما حمام النفس تلقاه عاجلاً ... وأما تراث الملك عن ملك وائل
- فهل يدفع النعمان أمراً يريده ... وهل يتقي شر الذي غير نازل
- إذا لم يكن بد من الموت حتمة ... فما تغن عني خافقات الجحافل
- إذا لم يكن للمرء بد من التي ... تبذ الأماني عاجلاً أو بآجل
- ويصبح في الأهلين يوماً جنازة ... ويلحق حتماً بالقرون الأوائل
- علام يداري الدهر والدهر جائر ... ويرضى بظلم من يد المتطاول
- ولكن نباني الملك في درج العلا ... كنجم اعوجاج من فنا الملك وائل
- يفوز سعيداً أو يلاقي منية ... ويمسي على الدنيا بعيد المناهل
- فما المرء للأيام تخلق نفسه ... وهل كانت إلا حيضة للقوابل
- ألا أيها الراضي بأيسر خطة ... صبرت على خسف من الذل نازل
- قيامك في الدنيا حياة لأهلها ... وصبرك عنها * غير طائل
- إذا لم يكن للمرء عزم يزينه ... ولب يرى عيب القوي المخاتل
- له سطوة تكسو العزيز مذلة ... وتهدي حتوفاً للنساء الحوامل
- له علل تعلو النجوم وسطوة ... تصم فيخشى طرقها كل جاهل
- وللموت خير من لباسك ذلة ... تجاذب مأسوراً صليل السلاسل
- محلاً يراه الزائرون شماتة ... هواناً لمقدام العشيرة باسل