عبقرية الامام علي (دار الكتاب العربي 1967)/تقديم


بسم الله الرحمن الرحيم

تقدمة

في كل ناحية من نواحي النفوس الانسانية ملتقى بسيرة على بن أبي طالب رضوان الله عليه ..

لأن هذه السيرة تخاطب الإنسان حيثما اتجه اليه الخطاب البليغ من سير الأبطال والعظماء ، وتشير فيه أقوى ما يثيره التاريخ البشرية من ضروب العطف و مواقع العبرة والتامل .

في سيرة ابن أبي طالب ملتقى بالعاطفة المشبوبة والاحساس المتطلع إلى الرحمة والإكبار . لأنه الشهيد أبو الشهداء ، يجري تاريخه وتاريخ أبنائه في سلسلة طويلة من مصارع الجهاد والهزيمة، ويتراءون للمتتبع من بعيد واحدا بعد واحد شيوخا جللهم وقار الشيب ثم جللهم الشيف الذي لا يرحم ، أو فتيانا عوجلوا وهم في نضرة العمر يحال بينهم وبين متاع الحياة ، بل يحال بينهم أحيانا وبين الزاد والماء ، وهم على حياض المنية جياع ظماء .. وأوشك الألم الصرعهم أن يصبغ ظواهر الكون بصبغتهم وصبغة دمائهم ، حتى قال شاعره فيلسوف كابي العلاء لا يظن به التشيع بل ظنت باسلامه الظنون :

وعلى الأفق من دماء الشهيد
بن علي ونجله شاهدان
فهما في أواخر الليل فجرا
ن، وفي أولياته شنقان

وهذه غاية من امتزاج العاطفة بتلك السيرة قلما تبلغها في سير الشهداء غاية ، وكثيرا ما تتعطش اليها سرائر الأمم في قصص الفداء التي مرت بها تواريخ الأديان ..

وفي سيرة ابن أبي طالب ملتقى الخيال حيث تحلق الشاعرية الانسانية في الأجواء أو تغوص في الأغوار . فهو الشجاع الذي نزعت به الشاعرية الانسانية منزع الحقيقة و منزع التخيل، واشترك في تعظيمه شهود العيان وعشاق الأعاجيب ... ألم يحارب المردة في فلواتها ؟.. ألم يخلق له الرواة أندادا من المناجزين المبارزين لم يخلقهم الله ؟.. ألم يستصغر عليه المحبون الغالبون في الحب أن يصرع من عرفنا من خصومه فأنشئوا له من الخصوم المغلوبين من لم يعرفهم ولم يعرفوه؟ .. ألم يوشك من وصفوه ووصفوا وقعاته وفتكاته أن يلحقوه باب ال الأساطير وهو أصدق الأبطال في أصدق مجال .

وتلتقي سيرته - عليه رضوان الله - بالفكر كما تلتقى بالخيال والعاطفة ، لأنه صاحب آراء في التصوف والشريعة والأخلاق سبقت جميع الآراء في الثقافة الاسلامية ، ولأنه أحجي الخلفاء الراشدين أن يعد من أصحاب المذاهب الحكيمة بين حكماء العصور ، ولأنه أوتي من الذكاء ما هو أشبه بذكاء الباحثين المنقبين منه بذكاء الساسة المتغلبين فهو الذكاء الذي تحسه في الفكرة والخاطرة قبل أن تحسه في نتيجة العمل ومجرى الأمور

وللذوق الأدبي – أو الذوق الفني - ملتقى بسيرته كملتقى الفيكر والخيال والعاطفة ، لأنه رضوان الله عليه كان أديبة بليغا له نهج من الأدب والبلاغة يقتدي به المقتدون ، وقسط من الذوق مطبوع يحمده المتذوقون ، وأن تطاولت بينه وبينهم الستون ، فهو الحكيم الأديب ، والخطيب المبين ، والمنشيء الذي يتصل انشاؤه بالعربية ما اتصلت آيات الناشرين والناظمين ..

وللنفس الإنسانية نواحيها الكثيرة غير نواحي العطف والتخيل والتفكير ، وتذوق الحرس الجميل من التعبير .

فين نواحيها الكثيرة ناحية لم تنقطع قط في زمن من الأزمان، وهي ناحية الخلاف بين الطبائع والأذهان ، أو ناحية الخصومة الناشبة أبدا على رأي من الأراء ، أو حق من الحقوق أو وطن من الأوطان.

فقد يفتر العقل والذوق بعض حين ، وقد يفتر الخيال والعاطفة بعض حين ، ولكن الذي لم يفتر قط ولا نخاله يفتر في حين من الأحايين خصام العقول وجدل الألسنة واختلاف المختلفين و تشیع المتشيعين.

وان ها هنا للمجال الرغيب والملتقى القريب في سيرة هذا الأمام الأوحد التي لاتشبهها يسيرة في هذه الخاصة بين شتى الخواص ، وهو رضوان الله عليه قد قال في ذلك أوجز مقال حين قال :

«ليحبني أقوام حتى يدخلوا النار في حبي ، ويبغضني أقوام حتى يدخلوا النار في بغضي».... أو حين قال : «يهلك في رجلان : محب مفرط بما ليس في ومبغض يحمله شناني علي أن بيهتني».

وصدق الامام الكريم في غلو الطرفين من محبيه ومن مبغضيه. فقد بلغ من حب بعضهم اياه أن رفعوه الى مرتبة الآلهة المعبودين ، وبلغ من كراهة بعضهم اياه أن حكموا عليه بالمروق من الدين : هنا الروافض الغلاة يعبدونه وينهاهم عن عبادته فلا يطيعونه ویستتيبهم فيصرون على الكفر أي اصرار ، ويأمر بإحراقهم فيقولون وهم يساقون إلى الحفيرة الموقدة : أنه الله وانه هو الذي يعذب بالنار! ...

وهناك الخوارج المملاة يعلنون فره ويطلبون منه التوبة الى الله عن عصيانه .. ويسبونه على المنابر كما سبه خصومه الأمويون الذين خالفوهم في العقيدة ووافقوهم على السيباب ..

میدان من ميادين الملاحاة لم يتسع قط میدان متسعه في تواريخ الأبطال المعرضين للحب والبغضاء : يقول اناس" : إله . ويقول اناس: کافر مطرود من رحمة الله !...

وناحية أخرى من نواحي النفس الكثيرة تلاقيها سيرة الامام في أكثر من طريق : وتلك هي ناحية الشكوى والتمرد أو ناحية الشوق الى التجديد والاصلاح .

فقد أصبح اسم علي علما يلتف به كل مغصوب ، وصيحة ينادي بها كل طالب انصاف ، وقامت ، باسمه الدول بعد موته لأنه لم تقم له دولة في حياته . وجعل الغاضبون على كل مجتمع باغ ، وكل حكومة جائرة . يلوذون بالدعوة العلوية كانها الدعوة المرادفة لكلمة الاصلاح ، أو كانها النفس الذي يستروح اليه مكظوم .. فمن نازع في رأي ، ففي اسم على شفاء لنوازع نفسه ، ومن ثار على ضيم ففي اسم علي حافز الثورته ومرضاة لغضبه ، ومن واجه التاريخ العربي بالعقل أو بالذوق أو بالخيال أو بالعاطفة فهناك ملتقى بينه وبين علي في وجه من وجوهه ، وعلى حالة من حالاته . وتلك هي المزية التي انفرد بها تاريخ الامام بين تواريخ الأمة الخلفاء ، . فاصبحت بينه وبين قلوب الناس وشائج تخلقها الطبيعة الآدمية إن قصر في خلقها التاريخ والمؤرخون .

وكل ملتقى من هذه الملتقيات يدع الكاتب في حذر ما بعده من حذر ، لأن اشتباك العوامل النفسية يزيد صعوبة الباحث عن نفس من النفوس ، ولا ينقصها أو يؤول بها إلى البساطة والوضوح ، وكلما قلت هذه العوامل وانحصرت في ناحية من النواحي سهل الخارص الى مقطع الحق فيها. فالبطل الذي يلتقي بالفكر وحده أسهل من البطل الذي يلتقي بالفكر والعاطفة ، وأن هذا الأسهل من الذي يلتقي بالفكر والعاطفة والخيال ، وكل" أولئك أسهل ممن يلتقي في ألف سنة متوالية بدخائل النفوس جميعا من طموح إلى المثل الأعلى، أو حرص على الملاحاة ، أو شغف بالبلاغة أو رياضة على التقوى ، مزيدا على التخيل والشعور والتفكير

لهذا نعلم غير مترددين في علمنا أن واجبنا في « عبقرية الإيماي مرسوم الغاية والطريق ، وهو واجب التبسيطر والقصد إلى الخطة الوسطى ، وفي علمنا بهذا بعض التيسير ، وان لم يكن فيه كل التيسير ،۔ نرجع بعبقرية الامام ، إلى الحقيقة الوسطى .

ترجع من عشرين طريقا إلى بداية واحدة ، لأن الطريق الواحدة لا تؤدي اليها أقرب أداء . وحسبنا أننا عرفنا ضرورة الرجوع من كل هذه الطرق الى تلك البداية المقصودة فعلى بركة الله ..

عباس محمود العقاد