… لم أر عبقريٍّا يفري فريه.

كلمة قالها النبي — عليه السلام — في عمرَ — رضيلله عنه — وهي كلمة لا يقولها إلا عظيم عظماء، خُلِق لسياسة الأمم وقيادة الرجال. فمن علامات العظمة التي تحيي موات الأمم أن تختصبقدرتين لا تعهدان في غيرها، أولاهما: أن تبتعث كوامن الحياة، ودوافع العمل في الأمة بأسرها، وفي رجالها الصالحين لخدمتها، والأخرى: أن تنفذَ ببصيرتها إلى أعماق النفوس، فتعرف بالبديهة الصائبة والوحي الصادق فيم تكون عظمة العظيم، ولأي المواقف يصلح، وبأي الأعمال يضطلع، ومتى يحين أوانه، وتجب ندبته، ومتى ينبغي التريث في أمره إلى حين. كلتا القدرتين كان لهما الحظ الوافر في سيرة عمرَ بن الخطاب.

فأين — لولا الدعوة المحمدية التي بعثت كوامن العظمة في أمة العرب — كنا نسمع بابنِ الخطاب؟ وأيُّ موضع له كان من مواضع هذا التاريخ العالمي الذي يزخر بكبار الأسماء؟

إنه الآن اسم يقترن بدولة الإسلام ودولة الفرس ودولة الروم، وكل دولة لها نصيب في التاريخ، فأين كنا نسمع باسم عمرَ لولا البعثة المحمدية؟!

لقد كان — ولا ريب — خليقًا أن يستوي على مكان الزعامة بين بني عدي — آله الأقربين — أو بين قريش — قبيلته الكبرى — ثم ينتهي شأنه هناك، كما انتهى شأن زعماء آخرين، لم نسمع لهم بخبر؛ لأنهم عظموا أو لم يعظموا، يعطون البيئة كفاء ما تطلب من جهد ودراية، وهي تطلب منهم ما يذكرون به في بيئتهم، ولكنها لا تطلب منهم ما يذكرون به في أقطار العالم البعيد.

وقد كان عمرُ قويَّ النفس، بالغًا في القوة النفسية، ولكنه على قوَّته البالغة لم يكن من أصحاب الطمع والاقتحام، ولم يكن ممن يندفعون إلى الغلبة والتوسع في الجاه والسلطان بغير دافع يحفزه إليه وهو كاره؛ لأنه كان مفطورًا على العدل، وإعطاء الحقوق، والتزام الحرمات ما التزمها الناس من حوله، وكان من الجائز أن يهيجه خطر على قبيلته، أو على الحجاز ومحارمه المقدسة في الجاهلية؛ فينبري لدفعه، ويبلي في ذلك بلاء يتسامع به العرب في جيله وبعد جيله، ولكنه لا يعدو ذلك النطاق، ولا هو يبالي أن يمعن في بلائه حتى يعدوه. بل كان من الجائز غير هذا وعلى نقيضه.

كان من الجائز أن تفسدَ تلك القوة بمعاقرة الخمر والانصراف إليها؛ فإنه كان— كما قال — « صاحبَ خمرٍ يشربها ويحبها » وهي موبقة لا تؤمَن حتى على الأقوياء إذا أدمنوها، ولم يجدوا من زواجر الدين أو الحوادث ما يصرفهم عنها، ويكفهم عن الإفراط في معاطاتها.

فعمرُ بن الخطاب الذي عرفه تاريخ العالم وليد الدعوة المحمدية دون سواها، بها عُرِف، وبغيرها لم يكن ليعرف في غير الحجاز أو الجزيرة العربية.

أما القدرة الأخرى التي يمتاز بها العظيم الذي خُلق لتوجيه العظماء، فقد أبان عنها النبي — عليه السلام — في كل علاقة بينه وبين عُمرَ من اللحظة الأولى؛ أي من اللحظة التي سأل لله فيها أن يعز به الإسلام، إلى اللحظة التي ندب فيها أبا بكر للصلاة بالناس وهو — عليه السلام — في مرض الوفاة.

سبر غوره، واستكنه عظمته، وعرفه في أصلح مواقفه؛ فعرف الموقف الذي يتقدم فيه على غيره، والموقف الذي هو أولى بتقديم غيره عليه.

وليست هي مفاضلة بين رجلين ولا موازنة بين قدرتين، ولكنها مسألة التوفيق بين الرجل والموضع الذي ينبغي أن يوضع فيه، والمهمة التي ينبغي أن يُندَب لها، والوقت الذي يحين فيه أوانه. وربما رأينا في زماننا هذا رئيسًا يوصي لنصيرٍ من أنصاره بالوزارة، ويوصي لغيره بقيادة الجيش، فلا نقول إنه يفاضل بين النصيرين، أو إنه يرجِّح أحدهما على الآخر في ميزان الكفاءة، وإنما يختار كلٍّا منهما لموضعه في الوقت الذي يحتاج إليه، ولا غضاضة على أحدٍ منهما في هذا الاختيار. فالنبي — عليه السلام — كان يعلم من هو أبو بكر ومن هو عمر، وقد عادل بينهم أَجَلَّ معادلة حين قال : « إنَّ لله عز وجل ليليِّن قلوب رجال فيه حتى تكون أَلْين من اللبن، » وإنَّ لله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشدَّ من الحجارة، وإنَّ مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى قال: ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، ومثلك يا عمر مثل نوح قال: ﴿رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأرَْضِمِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾، ومثلك كمثل موسى قال: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾

كان النبي — عليه السلام — يعلم — كما قال — أنَّ عمر أَشدُّ المسلمين فيلله، ويعلم أنَّ في أبي بكر لينًا وهوادةً؛ فجمع للإسلام المزيتين حين اختار أبا بكر للصلاة، وضمن هذا الاختيار معنى من معاني الاستخلاف، أو كما جاء في بعض الروايات أنه نص على استخلاف أبي بكر بالقول الصريح.

فتعزيز الإسلام بعد نبيِّه كان في حاجة إلى كثير من الهوادة والمجاوزة، وكان كذلك في حاجة إلى كثير من الشِّدَّةِ والصَّرامة، ولن تذهب شِدَّةُ عمرَ إذا احتاج إليها أبو بكر في محنةٍ يشتد فيها اللين الوديع، إنما الخوف أن يذهب لينُ أبي بكر إذا اشتدَّ عمر، ولا خوف من أن يلين عمرُ وأبو بكر شديد؛ فإن الموقف إذا استنفد حجج الرحمة حتى يلجأ فيه أبو بكر إلى البأس ويصرعليه، فأقربشيء أن يعدل عمرُ عن لينه، وأن يثوب إلى المعهود من صرامته ولدده.

خَلِيقٌ أن يبدل وكان النبي — عليه السلام — يعلم أنَّ احتمالَ التبعةِ أو « المسئولية » خَلِيقٌ أن يبدل أطوار النفوس في بعض المواقف والأزمات، فيجنح اللَّيِّنُ إلى الشِّدَّةِ، ويجنح الشَّديدُ إلى اللِّينِ؛ لأننا إذا قلنا إنَّ رئيسًا أصبح يشعر بالمسئولية، فمعنى ذلك أنه أصبح يراجع رأيه فلا يستسلم لأول عارض يمليه عليه طبعه، ولا يقنع باللين أول وهلة إذا كان من دأبه اللين، ولا بالشدة أول وهلة إذا كان من دأبه الشدة. ومن هنا ينشأ الاختلاف بين موقف الرجل وهو مسئول، وموقفه وهو غير مسئول.

وهذا الذي ظهر أعجب ظهورٍ في موقفي الصاحبين من حرب الرِّدَّةِ؛ فإن عمرَ الشديدَ قد آثرَ الهوادة، وأبا بكر الرقيقَ قد آثرَ القتال وأصرَّ عليه. وكان عمرُ يقول « إنَّ رسولَ اللهِ كان يقاتل العرب بالوحي والملائكة، يمده لله بهم، وقد انقطع ذلك اليوم » ثم يقولللخليفة « الزم بيتَكَ ومسجدَكَ، فإنه لا طاقةَ لك بقتالِ العرب »


وكان أبو بكر يقول متسائلًا أإن كثر أعداؤكم وقَلَّ عددُكم ركب الشيطان منكم » هذا المركب؟! ولله ليظهرنَ لله هذا الدِّين على الأديان كلها ولو كره المشركون، قوله الحق، ووعده الصدق: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾، ولله — أيها «! الناس — لو منعوني عقالًا لجاهدتهم عليه، واستعنت عليهم بالله، وهو خير معين هنالك بلغت التبصرة بوجوه الرأي المختلفات غاية مداها، وجاء عمر بقصارى ما عنده من حجج الرأي الآخر حتى وضحت المناهج، واستقر العزم، والتقى الصاحبان عليه، فكانت شدتهما في الحقِّ شدتين.

وهَبِ الأمر مع هذا قد اختل ففي موقف الصاحبين، فمَالَ أبو بكر إلى السِّلْمِ والمسامحة، فأين كانت شدة عمر ذاهبة عنه في هذه الحال؟! أغلب الظن أنه هو الذي كان يتولى يومئذ أن يبسط وجه الشدة في معاملة المرتدين؛ لأنه يعلم أنه المسئول عن بسط هذا الوجه دون غيره، فلا تفوت الإسلام مزية من مزايا الصاحبين. < br/>

إنَّ محمدًا قد عرف من هُم رجاله، وما هو الموقف الذي هم مقبلون عليه بعد وفاته، فعرف الموضع الذي يضع فيه كلٍّا منهم، والعمل الذي يتولاه خير ولاية في ذلك الموضع، ولم يفته أن يحسب حساب التبعة، وما في احتمالها من ضمان للأخلاق الصالحة والعقول الراجحة، وأبو بكر وعمر من خيرة أصحاب هذه الأخلاق وهذه العقول. ولا يحسبن حاسب أننا نفسر الأمور بما كشفته لنا الحوادث بعد وقوعها، ولم يكن مقصودًا في النِّيَّاتِ قبل ذلك، فإن الذي يحسب هذا الحسبان يخطئ تلك الخطأة الشائعة،

التي لا تثبت على أقل نصيب من الروية والمراجعة، يخطئ في وهمه خطأة الذين يتخيلون أنَّ هذه السياسات العالية من بدع الزمن الأخير، وليست هي من البدع في زمن كان؛ لأن العظمة لم تكن قط وقفًا على العصر الحديث، ولا سيما العظمة التي ترجع إلى الفطرة القويمة، والبديهة النافذة، والنظر السديد.

فكل هذا التقدير الذي أجملنا شرحه، كان تقدير قصد وتدبير، وكان مفهومًا على البداهة بين ولاة الأمر في تلك الآونة، ملحوظًا بينهم في مناجاة النيات، قبل أن نلحظه نحن في عصرنا هذا من تفسير حوادث التاريخ.

وإلى ذلك أشار عمر في قول صريح، حين قال لمن هابوه وتحدثوا بخوف الناس منه: بلغني أنَّ الناس هابوا شدتي، وخافوا غلظتي، وقالوا: قد كان عمر يشتد علينا ورسول لله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، ثم اشتد علينا وأبو بكر والينا دونه، فكيف وقد صارت الأمور إليه؟

ومن قال ذلك فقد صدق، فقد كنت مع رسول لله فكنت عبده وخادمه ، وكان من لا يبلغ أحد صفته من اللين والرحمة، وكان كما قال لله: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾، فكنت بين يديه سيفًا مسلولًا حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، فلم أزل مع رسول لله صلى الله عليه وسلم على ذلك، حتى توفاه لله وهو عني راضٍ، والحمد لله على ذلك كثيرًا وأنا به أسعد،

ثم ولي أمر المسلمين أبو بكر، فكان من لا ينكر دعته وكرمه ولينه، فكنت خادمه وعونه أخلط شدتي بلينه، فأكون سيفًا مسلولًا حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، فلم أزل معه كذلك حتى قبضه لله — عز وجل — وهو عني راضٍ، والحمد لله على ذلك كثيرًا وأنا به أسعد، ثم إني قد وليت أموركم أيها الناس، فاعلموا أنَّ تلك الشدة قد أضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد، فأنا ألين لهم من بعضٍ لبعض

بل ظهرت آثار الشعور بالتبعة بعد موت النبي، والحال على أشده في يوم السقيفة، والمسلمون مختلفون على من يلي الأمر بعد محمد، حتى قيل فيما قيل: من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير!

ففي تلك المحنة التي تشخص فيها الأبصار، وتعظم التبعات، وتودي زلة الساعة فيها بالكثير الذي لا تستدركه الأعوام، كان عمرُ الحادُّ الشديدُ يخشىبوادر الحِدَّةِ من أبي بكر، ويهيئ الكلام الليِّن ليعالج الأمر بالرفق والتؤدة، ويقول فيما رواه عن محنته ذلك اليوم: (وكنت أداري منه بعض الحد — أي الحدة — فلما أردت أن أتكلم، قال أبو بكر: ك! فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم مني وأوقر.) ِ