عبقرية محمد (1941)/علامات مولد


كان عالَمًا متداعيا1 قد شارف2 النهاية .. خلاصة ما يقال فيه : انه عالم فقد العقيدة كما فقد النظام ..

أي أنه فقد أسباب الطمأنينة في الباطن والظاهر .. طمأنينة الباطن التي تنشأ من الركون3 الى قوة في الغيب ، تبسط العدل ، وتحمي الضعف، وتجزي الظلم ، وتختار الأصلح الأكمل من جميع الأمور .

وطمأنينة الظاهر التي تنشأ من الركون إلى دولة تقضي بالشريعة ، وتفصل بين البغاة4 والأبرياء، وتحرس الطريق، وتخفيف العائثين5 بالفساد .

بيزنطة قد خرجت من الدين إلى الجدل6 العقيم7 الذي أصبح بعد ذلك علما عليها، وتضاءلت سطوتها8 في البر والبحر حتى طمع فيها من كان يحتمي بجوارها .

وفارس قد سخر فيها المجوس من دين المجوس .. وكمنت حول عرشها كوامن الغيلة9، وبواعث الفتن، ونوازع الشهوات .

والحبشة ضائعة بين الأوثان المستعارة من الحضارة تارة ومن الهمجية تارة، وبين التوحيد الذي هو ضرب من عبادة الأوثان . ثم هي بعد هذا التشويه في الدين ، ليست بذات رسالة في الدنيا ولا بذات طور من أطوار التاريخ .. فليس لها عمل باق في سجل الأعمال الباقيات.

عالم يتطلع إلى حال غير حاله .. عالم يتهيأ للتبديل أو للهدم ثم للبناء.

أمة

وبين هذه الدول المتداعيات، أمة ليست بذات دولة ولكنها تتأهب لاقامة دولة .. هي أمة العرب وقد تيقظت لوجودها وشعرت بمكانتها، كما شعرت بالخطر عليها وبمواضع النقص منها.

في أيديها تجارة العالمين كلها ..

فإذا سارت القوافل من خليج فارس إلى بحر الروم، فهي تسير في البادية بين حراس من العرب لا سلطان عليهم للدول المتداعية .. أو هم قد شعروا بذلك السلطان حينا في ابان10 الصولة الرومانية والصولة11 الفارسية، ثم علموا أنهم مالكون لزمامهم12 يرضون فتتصل الأرزاق بين المشرق والمغرب وبين المغرب والمشرق، ويغضبون فتبور التجارة وينضب13 المورد وتكسد الأسواق.

وإذا سارت القوافل من اليمن إلى الشام أو من بحر القلزم إلى بحر الروم، فهي في جيرة14 الأعراب من كلتا الطريقين.

أمَّة تيقظت لوجودها، وعرفت شأنها بين من يحدقون15 بصحرائها .. ثم رأت هؤلاء المحيطين بها يجورون عليها، ويريدون إخضاعها وابتلاعها ..

فهرقل الرومي يرسل إلى مكة من يحكمها، وأبرهة الحبشي يزحف إلى مكة بمن يهدم كعبتها ويستبدل بها كعبة غيرها، وفارس تطغى على شرق البلاد وعلى جنوبها ..

خطر من خارجها، يزيد الأمة يقظة وانتباها لوجودها ..

وخطر من داخلها، يدفع بها دفعا الى الزوال أو الى استكمال النقص المستشري16 في حياتها ..

مدينة واحدة تجتمع فيها ثروة الجزيرة، وعصبة17 واحدة من سادة القوم تجتمع في أيديها ثروة المدينة ..

حالة لا استقرار فيها ..

فمن هنا الترف18 ، والطمع، والخمر، والقمار، والمتعة، وتسخير الأقوياء للضعفاء ..

ومن هنا الفاقة19، والحسرة، والشك في صلاح الأمور ..

ولكنه شك يبحث ويضطرب، وليس بالشك الذي يستجم20 ويستكين21 فحيثما اجتمع أناس من أولي الرأي يذكرون العقيدة وطمأنينة الضمير، فهناك هاتف بينهم بسوء ما هم عليه اجتمع أناس بنخلة22 لإحياء عيد العزى، فقال رجل منهم لإخوانه: «الله ما قومكم على شيء وإنهم لفي ضلال .. فما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، ومن فوقه يجري دم النحور. يا قوم التمسوا لكم دينا غير هذا الدين الذي أنتم عليه» .. ثم تفرقوا، فمنهم من تنصر، ومنهم من اعتزل الأوثان، ومنهم من انتظر حتى سمع دعوة الإسلام فلبَّاها23.

وكان الذي تنصر وسمع دعوة الإسلام ورقة بن نوفل الذي كتب له أن يتلقى بشارة النبي العربي عند ظهوره ويلقي إليه بالبشارة، هؤلاء شكوا وبحثوا عن العقيدة وطمأنينة الضمير .

وغيرهم شكوا وبحثوا عن وازع24 من الضمير، ووازع من السلطان. فاجتمعت بنو هاشم وزهرة وتيم يتعاهدون باسم الله المنتقم ليكونن مع المظلوم حتى يُؤدَّى إليه حقه . وذلك حلف الفضول الذي شهده النبي العربي في شبابه وقال فيه: «ما أحب أن يكون لي بحلف حضرته في دار ابن جدعان حمر النعم».

حالة لا تستقر، ولا تزال في طلب الاستقرار ..

وأمَّة يقظى! ..

وخطر محدق25 بها مما حولها، ومما هو في دخائلها وأحشائها ..

حالة تنذر بالزوال، وقلَّما تزول أمة يقظى في أوان انتباهها .. فتلك اذن حالة للتبديل والتجديد.

قبيلة

وقبيلة في تلك الأمة، في تلك المدينة .. لها شعبتان: احداهما من أصحاب الترف والطمع واستبقاء ما هو قائم، كما كان قائمًا على هواها .

والأخرى من أصحاب التقوى والسماحة والتوسط بين مقام القوي الذي يجور ويطغى ويستبقي أداة الجور والطغيان، ومقام الضعيف الذي يحتمل الأذى، ويصبر على الكريهة، ولا يملك مع السيد الآمر إلا أن يذعن26 له، ويأكل من فضلات يديه.

بيت

وبيت من تلك الشعبة الوسطى له كرم النسب العريق وليس له لؤم الثروة الجامحة27 والكبرياء الجائحة 28، والقسوة على من دونه من المحرومين .. ذلك هو بيت عبد المطلب من صميم قريش ومن ذؤابتها29 العليا، وإن لم يكن معدودا من أثرياء القبيلة القرشية في ذلك الأوان ...

ورأس هذا البيت — عبد المطلب — رجل قوي الخلق قوي الايمان فيما آمن به، حكيم مع قوة طبعه وشدة إيمانه، خليق30 أن يُنجب العقب31 الذي يبشر بدعوة وينضح 32عن دين.

نذر لئن عاش له عشرة بنين لينحرن أحدهم عند الكعبة .. ثم أحله قومه وأحلته العرافة من نذره، فأبى أن يتحلل حتى يستوثق من رضى الرب ورضى ضميره . سألتهم العرَّافة: «كم الدية فيكم؟».

قالوا: «عشر من الإبل».

قالت: «فتقربوا اذن بعشر من الابل واضربوا على الفتى وعليها بالقداح .. فان خرجت على صاحبكم فزيدوا من الابل حتى يرضى ربكم» فما زالوا يزيدون حتى بلغت الابل مائة وخرجت القداح33 عليها فهتفت قريش بعبد المطلب: «لقد رضي ربك .. فأطلق فتاك». وكان خليقا بمن يريد أن يتحلل ويتعلل أن يقبل ولا حرج عليه، ولكن عبد المطلب لم يكن من المتحللين المتعللين، فأبى الا أن يضرب عليها القداح ثلاث مرات، ثم نحرت الابل للجياع من الأناسي34 والسباع.

وجاء القائد الحبشي يهدم الكعبة ويسطو على الابل والشاة .. فلما سأله عبد المطلب أن يرد إليه ابله، قال له مقال السياسي المحرج المداور35 بالكلام: «أراك تسأل عن ابلك ولا تسأل عن الكعبة».

فأجابه عبد المطلب جواب الحكيم المؤمن: «أما الابل فأنا ربها، وأما البيت فله رب يحميه!».

فكان ايمانه ايمانا كفؤا لدهاء السياسة، ولم يكن ايمان العجز والتواكل والاستسلام ..

ومن كان له هذا الخلق، وهذا الضمير، وهذا الايمان، وهذه الرئاسة، فليس من عجب أن ينجب نبيا في زمان يستدعي الأنبياء، ومكان مهيئ لهم دون كل مكان .. بل العجب أن يكون الأمر غير ما كان.

أب

وإذا كان عبد المطلب جدا صالحا لنبي كريم، فابنه عبد الله نعم الأب لذلك النبي الكريم ..

لكأنما كان بضعة36 من عالم الغيب، أرسلت إلى هذه الدنيا لتعقب37 فيها نبيا وهي لا تراه .. ثم تعود.

كان انسانا من طينة الشهداء، يتجه إلى القلب الإنساني بكل ما فيه من حب وحنو ورحمة. فهو الفتى الذي اسمه عبد الله والذي اختير للفداء، فجاشت38 له شفقة قومه حتى تركه لهم القدر إلى حين. وهو الفتى الذي تحدثت الفتيات في الخدور39 بوسامته وحيائه، وودت مئات منهن لو نعمن منه بنعمة الزواج، وهو الفتى الذي أقام مع عروسه ثلاثة أيام، ثم سافر ليتجر فاذا هي السفرة التي لا يؤوب40 منها الذاهبون. وهو الفتى الذي مات وهو غريب، وولد له نسله الكريم وهو دفين. وهكذا تتمثل البصائر الخاشعة آباء الأنبياء والسلالة التي تصل بين الآخرة والدنيا وبين عالم البقاء وعالم الفناء .

رجل

عالم يتطلع إلى نبي .. وأمة تتطلع إلى نبي، ومدينة تتطلع إلى نبي، وقبيلة وبيت وأبوان أصلح ما يكونون لإنجاب ذلك النبي .. ثم ها هو ذا رجل لا يشركه رجل آخر في صفاته ومقدماته، ولا يدانيه41 رجل آخر في مناقبه الفضلى التي هيأته لتلك الرسالة الروحية المأمولة في المدينة .. وفي الجزيرة، وفي العالم بأسره.

نبيل عريق42 النسب .. وليس بالوضيع الخامل، فيصغر قدره في أمة الأنساب والأحساب ..

فقير .. وليس بالغني المترف فيطغيه بأس النبلاء والاغنياء، ويغلق قلبه ما يغلق القلوب من جشع القوة واليسار.

يتيم بين رحماء .. فليس هو بالمدلل الذي يقتل فيه التدليل ملكة الجد والإرادة والاستقلال، وليس هو بالمهجور المنبوذ43 الذي تقتل فيه القسوة روح الأمل وعزة النفس وسليقة44 الطموح، وفضيلة العطف على الآخرين.

خبير بكل ما يختبره العرب من ضروب العيش في البادية والحاضرة، تربى في الصحراء وألِف المدينة، ورعى القطعان، واشتغل بالتجارة، وشهد الحروب والأحلاف، واقترب من السراة45 ولم يبتعد من الفقراء ..

فهو خلاصة الكفاية العربية في خير ما تكون عليه الكفاية العربية .. وهو على صلة بالدنيا التي أحاطت بقومه .. فلا هو يجهلها فيغفل عنها، ولا يغامسها كل المغامسة فيغرق في لُجَّتها46.. أصلح رجل من أصلح بيت في أصلح زمان لرسالة النجاة المرقوبة، على غير علم من الدنيا التي ترقبها .

ذلك محمد بن عبد الله عليه السلام ..

قد ظهر والمدينة مهيأة لظهوره لأنها محتاجة إليه، والجزيرة مهيأة لظهوره لأنها محتاجة اليه، والدنيا مهيأة لظهوره لأنها محتاجة اليه، وماذا من علامات الرسالة أصدق من هذه العلامة؟ وماذا من تدبير المقادير أصدق من هذا التدبير؟ وماذا من أساطير المخترعين للأساطير أعجب من هذا الواقع ومن هذا التوفيق؟. علامات الرسالة الصادقة هي عقيدة تحتاج اليها الأمة، وهي أسباب تتمهد لظهورها، وهي رجل يضطلع بأمانتها في أوانها.

فإذا تجمعت هذه العلامات، فماذا يلجئنا إلى علامة غيرها؟ .. وإذا تعذر عليها أن تجتمع فأي علامة غيرها تنوب عنها أو تعوِّض ما نقص منها؟

خُلق محمد بن عبد الله ليكون رسولا مبشرا بدين، وإلا فلأي شيء خلق؟ ولأي عمل من أعمال هذه الحياة ترشحه كل هاتيك المقدمات والتوفيقات، وكل هاتيك المناقب والصفات؟

لو اشتغل بالتجارة طول حياته كما اشتغل بها فترة من الزمن، لكان تاجرا أمينا ناجحا موثوقا به في سوق التجار والشراة .. ولكن التجارة كانت تشغل بعض صفاته، ثم تظل صفاته العليا معطلة لا حاجة اليها في هذا العمل مهما يتسع له المجال.

ولو اشتغل زعيما بين قومه لصلح للزعامة، ولكن الزعامة لا تستوفي كل ما فيه من قدرة واستعداد ..

فالذي أعده له زمانه وأعدته له فطرته هو الرسالة العالمية لا سواها، وما من أحد قد أعد في هذه الدنيا لرسالة دينية ان لم يكن محمد قد أعد لها أكمل إعداد .

بشائر الرسالة

والمؤرخون يُجهدون أقلامهم غاية الجهد في استقصاء بشائر الرسالة المحمدية .. يسردون47 ما أكده الرواة منها وما لم يؤكدوه وما قبله الثقات منها وما لم يقبلوه، وما أيدته الحوادث أو ناقضته، وما وافقته العلوم الحديثة أو عارضته، ويتفرقون في الرأي والهوى بين تفسير الإيمان وتفسير العيان48، وتفسير المعرفة وتفسير الجهالة، فهل يستطيعون أن يختلفوا لحظة واحدة في آثار تلك البشائر التي سبقت الميلاد أو صاحبت الميلاد حين ظهرت الدعوة واستفاض49 أمر الإسلام؟

لا موضع هنا لاختلاف ..

فما من بشارة قط من تلك البشائر كان لها أثر في إقناع أحد بالرسالة يوم صدع50 النبي بالرسالة، أو كان ثبوت الإسلام متوقفا عليها، لأن الذين شهدوا العلامات المزعومة يوم الميلاد، لم يعرفوا يومئذ مغزاها51 ومؤداها، ولا عرفوا أنها علامة على شيء أو على رسالة ستأتي بعد أربعين سنة .

ولأن الذين سمعوا بالدعوة وأصاخوا52 الى الرسالة بعد البشائر بأربعين سنة، لم يشهدوا بشارة واحدة منها ولم يحتاجوا إلى شهودها ليؤمنوا بصدق ما سمعوه واحتاجوا إليه.

وقد ولد مع النبي عليه السلام أطفال كثيرون في مشارق الأرض ومغاربها، فاذا جاز للمصدق أن ينسبها إلى مولده جاز للمكابر أن ينسبها إلى مولد غيره، ولم تفصل الحوادث بالحق بين المصدقين والمكابرين إلا بعد عشرات السنين .. يوم تأتي الدعوة بالآيات والبراهين غنية عن شهادة الشاهدين وانكار المنكرين.

أما العلامة التي لا التباس فيها ولا سبيل إلى إنكارها، فهي علامة الكون وعلامة التاريخ ..

قالت حوادث الكون: لقد كانت الدنيا في حاجة إلى رسالة ..

وقالت حقائق التاريخ: لقد كان محمد هو صاحب تلك الرسالة ..

ولا كلمة لقائل بعد علامة الكون وعلامة التاريخ ..


  1. اي ضعيفا غير متماسك
  2. المراد : قارب
  3. من ركن : اي مال وسكن
  4. الجناة الظالمين
  5. العيث : الافساد
  6. النقاش والحوار
  7. غير المفيد
  8. ضعفت قوتها
  9. المراد : بواطن الشر والهلاك
  10. وقت المتجبرة
  11. القوة
  12. المراد : ما يقودهم
  13. نضب الماء غار في الارض
  14. الجوار
  15. يحيطون
  16. المراد :المستفحل والمتزايد
  17. ما بين العشرة الى الاربعين من الرجال
  18. نعومة العيش
  19. الفقر والحاجة
  20. يستريح
  21. يهدأ ويستسلم
  22. مكان
  23. استجاب لها
  24. سلطان
  25. محيط
  26. اي يخضع
  27. اي الغالبة القاهرة
  28. الشديدة
  29. الذؤابة : الناصية أو منبتها من الرأس ، والمراد الرحمة والشرف
  30. جدير
  31. ولده وولد ولده
  32. المراد :يدافع
  33. السهام
  34. البشر
  35. داوره مداورة ودوارا : اي دار معه
  36. بفتح الباء : القطعة من اللحم
  37. اي لتخلف
  38. تحرکت عاطفتهم
  39. جمع خدر وهو الستر
  40. يرجع
  41. يقاربه
  42. اي اصيل
  43. البغيض الممقوت
  44. طبيعة وفطرة
  45. علية القوم وسادتهم
  46. لجة الماء : معظمه
  47. يسرد الحديث، إذا كان جيد السياق له.
  48. عيان الشيء بكسر العين، رآه بالعين
  49. استزاد
  50. صدع بالحق، تكلم به جهارا
  51. مقصدها ومرادها
  52. استمعوا