عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات/المقالة الأولى/النظر الثاني



النظر الثاني
في فلك القمر


وهو يحدّه سطحان كرويان متوازيان مركزهما مركز العالم، السطح الأعلى منهما لمقعر فلك عطارد، والأدنى لمحدب كرة النار، ويتم دورته في كل ثمانية وعشرين يوماً بحركته التي تختص به من المغرب إلى المشرق، وفلك تدويره يدور في الفلك الحاوي في كل أربعة عشر يوماً مرة، ففي الدورة الأولى يكون القمر بوجهه المملىء إلى مركز الأرض، ثم إن فلكه الكلى ينقسم إلى أربعة أفلاك:

ثلاثة منها شاملة للأرض، وواحد صغير غير شامل، أما الشاملة فالأول منها يسمّى فلك الجوزهر، وهو الذي يماس السطح الأعلى منه السطح الأدنى من فلك عطارد، والثاني منها يماس السطح الأعلى منه مقعر فلك الجوزهر، والثالث منها فلك خارج المركز في الفلك المائل من مركزه خارج عن مركز العالم، مائل إلى جنب من الفلك الكلي بحيث يماس مقعر سطحيه السطح الأعلى من الفلك الكلي على نقطة مشتركة بينهما، ويسمّى الأوج، ويماس مقعر سطحيه السطح الأدنى من الفلك الكلي على نقطة مشتركة بينهما، ويسمى الحضيض، فيحصل سطحان مختلفا الثخن، أحدهما حاو للفلك الخارج المركز، والآخر محوي فيه ورقة الحاوي مما يلي الأوج، وغلظه مما يلي الحضيض، ورقة المحوي وغلظه بالعكس، يقال لكل واحد منهما المتمم،

وأما الفلك الصغير فهو في ثخن الفلك الخارج المركز يقال له فلك التدوير، والقمر مركوز فيه يتحرك بحركته، وحركة هذا الفلك حركة مختصة مغايرة لحركة الفلك الكلي، وزعموا أن ثخن فلك القمر وهو بعد ما بين سطحه الأعلى وسطحه الأدنى مائة ألف وثمانية عشر ألفاً وستة وستون ميلاً ، وبطليموس قد ذكر ثخن الأفلاك ومقادير أجرام الكواكب، ودوائرها وأقطارها، ولا تستصعبن ذلك، فإنّه لا يصعب إلا على من لا دراية له بعلم الهندسة، وأما من حل الثانية من أقليدس فيسهل عليه ذلك إن كان فطناً.


فصل


وأما القمر فهو كوكب مكانه الطبيعي الفلك الأسفل من شأنه أن يقبل النور من الشمس على أشكال مختلفة، ولونه الداني إلى السواد يبقى في كل برج ليلتين وثُلث ليلة، ويقطع جميع الفلك في شهر، وهو أصغر الكواكب فلكاً، وأسرعها سيراً، وزعموا أن جرم القمر جزء من تسعة وثلاثين جزءاً، وربع جزء من جرم الأرض، ودورة القمر أربعمائة واثنان وخمسون ميلاً بالتقريب.

هذا ما وصل إليه آراء الحكماء بحكم المقدمات الحسابية.


فصل
في زيادة ضوئه ونقصائه


القمر جرم كثيف مظلم قابل للضياء إلا القليل منه على ما يرى في ظاهره، فالوجه الذي يواجه الشمس مضيء أبداً، فإذا كان قريباً من الشمس كان الوجه المظلم مواجهاً للأرض، وإذا بعد عن الشمس إلى المشرق ومال النصف المظلم من الجانب الذي يلي المغرب إلى الأرض تظهر من النصف المضيء قطعة هي الهلال، ثم يتزايد الانحراف وتزداد بتزايده القطعة من النصف المضيء حتى إذا كان في مقابلة الشمس ينقص الضياء من الجانب الذي بدأ بالضياء على الترتيب الأول حتى إذا صار في مقابلة الشمس كان النصف المواجه للشمس هو النصف المواجه لنا، فتراه بدراً، ثم يقرب من الشمس، فينقص الضياء من الجانب الذي بدأ بالضياء على الترتيب الأول حتي إِذا صار في مقابلة الشمس ينمحق نوره، ويعود إلى الموضع الأول وينزل كل ليلة منزلاً من المنازل الثمانية والعشرين، ثم يستتر ليلة، فإن كان الشهر تسعة وعشرين استتر ليلة ثمانية وعشرين، وإن كان ثلاثين استتر ليلة تسعة وعشرين، ويقطع في استتاره منزلاً، ثم يتجاوز الشمس فيرى هلالا، وذلك قوله تعالى: ﴿ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ﴾ يريد أنه ينزل كل ليلة منزلا منها حتى يصير كأصل العذق إذا قدم ورق واستقوس.


فصل
في خسوفه


وسببه توسّط الأرض بينه وبين الشمس، فإذا كان القمر في إحدى نقطتي الرأس والذنب أو قريباً منه عند الاستقبال تتوسط الأرض بينه وبين الشمس، فيقع في ظل الأرض، ويبقى على سواده الأصلي، فيرى منخسفاً والشمس أعظم من الأرض، فيكون ظل الشمس مخروطاً قاعدته دائرة صفحة الأرض، لأنّ الخطوط الشعاعية التي تخرج من الشمس إلى جرم الأرض لا تكون متوازية، فإذا اتصلت بمحيط الأرض ونفذت في الجهة الأخرى تلاقياً عند نقطة فيتحصل ظل الأرض علي شكل المخروط، فْإِذًا لم يكن للقمر عرض عن فلك البروج عند الاستقبال، وقع كله في جرم المخروط، فيخسف كله حينئذ، وإن كان له عرض يخسف بعضه، وربما يماس جرم القمر مخروط الظل، ولا يقع فيه شيء، وذلك إذا كان عرض القمر مساوياً لنصف مجموع القطرين، أعني قطر القمر وقطر الظل، وإذا كان أقل من نصف القطرين يخسف بعضه.


فصل
في خواص القمر وتأثيراته العجبية


زعموا أن تأثيراته بواسطة الرطوبة كما أنّ تأثيرات الشمس بواسطة الحرارة، ويدل عليها اعتبار أهل التجارب، ومنها أمر البحار، فإنّ القمر إذا صار في أفق من آفاق البحر أخذ ماؤه في المد مقبلاً مع القمر، ولا يزال كذلك إلى أن يصير القمر في وسط سماء ذلك الموضع، فإذا صار هناك انتهى المد منتهاء، فإذا انحط القمر من وسط سمائه جزر الماء ولا يزال كذلك راجعاً إلى أن يبلغ القمر مغربه، فعند ذلك بنتهي الجزر منتهاه، فإذا زال القمر من مغرب ذلك الموضع ابتدأ المد مرّة ثانية إلا أنه أضعف من الأولى، ثم لا يزال كذلك إلى أن يصير القمر في وتد الأرض، فحينئذ ينتهي المد منتهاه في المرّة الثانية في ذلك الموضع، ثم يبتدىء بالجزر والرجوع، ولا يزال كذلك حتى يبلغ القمر أفق مشرق ذلك الموضع، فيعود المد إلى ما كان عليه أولاً فيكون في كل يوم وليلة بمقدار مسير القمر فيهما في ذلك البحر مدان وجزران.

ومنها أمر أبدان الحيوانات، فَإنّها في وقت زيادة القمر وضوئه تكون أقوى والسخونة والرطوبة، والنمو عليها أغلب، وتكون الأخلاط في بدن الإنسان في ظاهرة، والعروق تكون ممتلئة، وبعد الامتلاء يكون الأبدان أضعف والبرد عليها أغلب، والنمو أقل والأخلاط في غور البدن والعروق أقل امتلاء، وذلك أمر ظاهر عند علماء الطب.

ومنها أنّ الأطباء ذهبوا إلى أنّْ أحوال البحرانات وتقارب أيامها مبنية على زيادة ضوء القمر ونقصانه، وكتب الطب ناطقة بذلك، وزعموا أنَّ الذين يمرضون في أوَل الشهر أبدانهم وقواهم على دفع المرض أقوى، والذين يمرضون في آخر الشهر بالضد، ومنها أنّ شعور الحيوانات يسرع نباتها ما دام القمر زائد النور ويغلظ ويكبر، وإذا كان ناقص النور أبطأ نباته ولم يغلظ.

ومنها أن الحيوانات تكثر ألبانها من ابتداء زيادة نور القمر إلى الامتلاء، وتزداد أدمغتها، وبياض البيض المنعقد في أوّل الشهر أكثر، وإذا نقص نور القمر نقصت غزارة الألبان، ومادة الأدمغة، وكثرة بياض البيض،

ومنها أنْ الإنسان إذا أكثر القعود أو النوم في ضوء القمر تولّد في بدنه الكسل والاسترخاء ويهيج عليه الزكام والصداع، وإذا كانت لحوم الحيوانات بادية لضوء القمر تغيرت رائحتها وطعمها،

ومنها أن السمك يوجد في البحار والأنهار من أوّل الشهر إلى امتلاء أكثر مما يوجد من الامتلاء إلى آخر الشهر، ويكون أيضاً في النصف الأول من الشهر أسمن منه في النصف الأخير،

ومنها أن حشرات الأرض خروجها من أجحرتها في النصف الأول من الشهر أكثر من خروجها منه في النصف الأخير، وكل حيوان يلسع أو يعض فإنّه في النصف الأوّل من الشهر أقوى فعلاً منه في النصف الأخير وسمه أشد تأثيراً،

ومنها أن السباع في النصف الأول أشد طلباً للصيد منها في النصف الأخير،

ومنها أنْ الأشجار إذا غرست والقمر زائد النور علقت وأسرعت النشو والحمل، وإن وقع اللقاح والحمل والقمر زائد النور كانا جيدين، وإن وقع والقمر ناقص النور أو زائلاً من وسط السماء لم يسرع النبات وأبطأت في الحمل، وربما يبست،

ومنها أنَ الفواكه والرياحين والزرع والبقول والأعشاب زيادتها من وقت زيادة القمر إلى الامتلاء أكثر من زيادتها ونموها من الامتلاء إلى المحاق، وهذا أمر ظاهر عند أرباب الفلاحة حتى عند عامتهم فضلاً عن علمائهم، فَإنّهم يجدرن تأثير ذلك ظاهراً سيما في البقول والخوخ والبطيخ والسمسم والقثاء والخيار والقرع من أوّل الشهر إلى نصفه يزيد أكثر مما يزيد من نصف الشهر إلى آخره،

ومنها أن الفواكه إذا وقع عليها ضوء القمر أعطاها لوناً عجيباً من حمرة أو صفرة، فالتي يقع عليها الضوء في النصف الأوّل من الشهر أحسن لوناً مما يقع عليها في النصف الأخير،

ومنها أنَّ نبات القصب والكتان إذا وقع عليها ضوء القمر في النصف الأول أشد تقطعاً مما وقع عليها آخر الشهر،

ومنها أن المعادن التي تتكون يكون جوهرها وصفاؤها أشد إذا كان تولدها من أول الشهر ولو كان في آخره لا يكون كذلك.


خاتمة
في المجرة


وهو البياض الذي يرى في السماء يقال لها شرج السماء إلى زماننا هذا لم يسمع في حقيقتها قول شافِ، زعموا أنها كواكب صغار متقاربة بعضها من بعض، والعرب تسمّيها أمْ النجوم لاجتماع النجوم فيها، وزعموا أن النجوم تقاربت من المجرة فطمس بعضها بعضاً، فصارت كأنها سحاب وهي ترى في الشتاء أَوْل الليل في ناحية من السماء، وفي الصيف أوّل الليل في وسط السماء ممتداً من الشمال إلى الجنوب، وبالنسبة إلينا تدور دوراً رحوياً فنراها نصف الليل ممتدة من المشرق إلى المغرب، وفي آخر الليل من الجنوب إلى الشمال، فما كان منها شمالياً يكون جنوبياً، وما كان جنوبياً يكون شمالياً، ولله أعلم بحقيقتها، وتكون على فلك يختص بها يدور بالنسبة إلينا رحوياً أو على شيء من الأفلاك المذكورة.