عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات/المقدمات الأربع
وصلى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. العظمة لك والكبرياء لجلالك، اللهم يا قائم الذات، ويا مفيض الخيرات، واجب الوجود وواهب العقول، وفاطر الأرض والسمـٰوات، مبدي الحركة والزمان ومبدع الحيّز والمكان، فاعل الأرواح والأشباح، وجاعل النور والظلمات، محرك الأفلاك ومزينها بالثوابت والسيارات، ومقرر الأرض وممهدها لأنواع الحيوان وأصناف المعادن والنبات، دام حمدك وجل ثناؤك وتعالى ذكرك، وتقّدست أسماؤك، لا إله إلا أنت، وسعت رحمتك وكثرت آلاؤك ونعماؤك، أفض علينا أنوار معرفتك وطهّر قلوبنا عن كدورات معصيتك، وأمطر علينا سحائب فضلك ورحمتك، واضرب علينا سرادقات عفوك ومغفرتك، وأدخلنا فى حفظ عنايتك ومكرمتك، وصل على ذوي الأنفس الطاهرات والمعجزات الباهرات، خصوصاً على سيد المرسلين وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، الذي اخترته للنبوة، وآدم بين الماء والطين، وأرسلته رحمة للعالمين، وأيدته بنصرك وبالمؤمنين، وختمت به الأنبياء والمرسلين، وعلى إخوانه من النبيين، والصالحين وآله وصحبه أجمعين.
يقول العبد الأصغر زكريا بن محمد بن محمود القزويني تولاه الله بفضله، وهو من أولاد بعض الفقهاء الذين كانوا موطنين بمدينة قزوين، وينتهي نسبه إلى أنس بن مالك خادم رسول الله ﷺ: لما حكم الله تعالى ببعد الدار والوطن، ومفارقة الأهل والسكن، أقبلت على مطالعة الكتب على رأي من قال:
وكنت مستغرقاً بالنظر في عجائب صنع الله تعالى في مصنوعاته، وغرائب إبداعه في مبدعاته كما أرشد الله سبحانه إليه حيث قال تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ﴾ وليس المراد من النظر تقليب الحدقة ونحوها فإِنْ البهائم تشارك الإنسان فيه، ومن لم ير من السماء إلا زرقتها ومن الأرض إلا غبرتها فهو مشارك للبهائم في ذلك، وأدنى حالاً منه، وأشد غفلة، كما قال تعالى: ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ ﴾ إلى أن قال: ﴿ أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ والمراد من هذا النظر التفكر في المعقولات والنظر في المحسوسات والبحث عن حكمتها وتصاريفها ليظهر له حقائقها، فإِنّها سبب اللذات الدنيوية والسعادات الأخروية، ولهذا قال ﷺ: «أرني الأشياء كما هي» وكلما أمعن النظر فيها ازداد من الله تعالى هداية ويقيناً ونوراً وتحقيقاً، ولهذا قال ﷺ: «تفكروا في خلق الله» والفكر في المعقولات لا يتأنى إلا لمن له خبرة بالعلوم والرياضات، بعد تحسين الأخلاق وتهذيب النفس، فعند ذلك ينفتح له عين البصيرة ويرى في كل شيء من العجب ما يعجز عن إدراك بعضها، فلو ذكر طرفاً منها لغيره لأنكره، ولله در القائل:
ومن هذا القبيل ما أخبر اللّه تعالى في كتابه عما جرى بين الخضر وموسى عليهما الصلاة والسلام، وما ذكر أيضا أن موسى اجتاز بعين ماء في سفح جبل فتوضأ ثم ارتقى الجبل ليصلي إذ أقبل فارس وشرب من ماء العين، وترك عندها كيساً فيه دراهم، فجاء بعده راعي غنم فرأى الكيس فأخذه ومضى، ثم جاء بعده شيخ عليه أثر البؤس والمسكنة، على ظهره حزمة حطب فحط حزمته هناك، واستلقى ليستريح فما كان إلا قليل حتى عاد الفارس يطلب كيسه، فلما لم يجده أقبل على الشيخ يطالبه به، فلم يزل يضربه حتى قتله، فقال موسى: يا رب كيف العدل في هذه الأمور؟ فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه: إن الشيخ كان قد قتل أبا الفارس، وكان على أبي الفارس دين لأبي الراعي مقدار ما في الكيس، فجرى بينهما القصاص، وقضى الدين، وأنا حكيم عادل.
ولقد حصل لي بطريق السمع والبصر والفكر والنظر حكم عجيبة، وخواص غريبة، فأحببت أن أقيدها لتثبت، وكرهت الذهول عنها مخافة أن تفلت، وقد كثرت على عواطف المولى الصاحب الصدر الكبير العادل المؤيد المظفر شمس الدولة ظهير الملة علاء الدين عماد الإسلام نظام الملك غياث الأمة عطاء الملك بن محمد بن محمد، ضاعف اللّه جلاله وأدام في العز العلاء إقباله، فإنه مع شريف منزلته وعلو مرتبته مشهور بالكرم والإحسان مذكور لوفور الفضل عن أهل الزمان وقد خصه اللّه تعالى بمكارم الأخلاق وفضائل الحسب والمجد الموروث والمجد المكتسب، فخدمت بهذا الكتاب مجلسه الرفيع أدام اللّه رفعه وكبت أعداءه حسدته، فإنه منبع الخيرات ومعدن المسرات، شكرا لأياديه السابقة وقضاء لحقوقه اللاحقة ورجاء أن يتخلد اسمي بتخليد ذكره الشريف، ويتأبيد وسمي بتأبيد عزه المنيف، والله ولي التوفيق، وعلى ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير.
وعلى الناظر في كتابي هذا أن يعني في جمع ما كان مبدداً، وتلفيق ما كان مشتتاً وقد ذكر فيه أسباباً تأباها طباع الغبي الغافل، ولا ينكرها نفس الذكي العاقل، فإنّها وإن كانت بعيدة عن العادات المعهودة والمشاهدات المألوفة لكن لا يستعظم شيء مع قدرة الخالق وجبلة المخلوق وجميع ما فيه إِما عجائب صنع الباري تعالى وذلك إما محسوس أو معقول، لا ميل فيهما ولا خلل، وإما حكاية ظريفة منسوبة إلى رواتها لا ناقة لي فيها ولا جمل، وإما خواص غريبة، وذلك مما لا يفي العمر بتجربتها، ولا معنى لترك كلها لاجل الميل في بعضها، فإن أحببت أن تكون منها على ثقة، فَشمّر لتجربتها، وإيّاك أن تغتر أو تلم أو تمل إذا لم تصب في مرّة أو مرتين فِإِنٌّ ذلك قد يكون لفقد شرط أو حدوث مانع، وحسبك ما ترى من حال المغناطيس وجذبه الحديد، فإنّه إذا أصابه رائحة الثوم بطلت تلك الخاصية، فإذا غسلته بالخل عاد إليه، فإذا رأيت مغناطيساً لا يجذب الحديد فلا تنكر خاصيته، فاصرف عنايتك إلى البحث عن أحواله حتى يتضح لك أمره، على أني أشهد الله تعالى أن شيئاً منها ما افتريته بل كتبت الكل كما اقتريته، فإن نظرت إليها بعين الرضا فإنها عن كل عيب كليلة، وإن نظرت بعين السخط فالمساوى كثيرة، وعين الكريم عن المعائب عمياء وأذنه عن المساوئ صماء، ولله در القائل:
وسميته «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات» ولا بد من ذكر مقدمات أربع في شرح هذه الألفاظ، ليتبين منها مقصود الكتاب، والله الموفق للصواب.
المقدمة الأولى
في شرح العجب: قالوا العجب حيرة تعرض للإنسان لقصوره عن معرفة سبب الشيء أو عن معرفة كيفية تأثيرة فيه مثاله أنْ الإنسان إذا رأى خليّة النحل ولم يكن شاهده قبل لكثرته حيره لعدم معرفة فاعله، فلو علم أنه من عمل النحل لتحيّر أيضاً من حيث أنَّ ذالك الحيوان الضعيف كيف أحدرث هذه السدسات المتساوية الأضلاع الذي عجر عن مثلها المهندس الحاذق مع الفرجات والمسطرة، ومن أين لها هذا الشمع الذي اتخذت منه بيوتها المتساوية التى لا تخالف بعضها بعضاً كأنها أفرغت في قالب واحد، ومن أين لها هذا العسل، الذي أودعته فيها ذخيرة للشتاء، وكيف عرفت أن الشتاء يأتيها وأنّها تفقد فيه الغذاء، وكيف اهتدت إلى تغطية خزانة العسل بغشاء رقيق ليكون الشمع محيطأً بالعسل من جميع جوانبه، فلا ينشفه الهواء ولا يصيبه الفأر، ويبقى كالبرنية المنضمة الرأس، فهذا معنى العجب، وكل ما فى العالم بهذه المثابة.
إلا أن الإنسان يدركه في زمن صباه عند فقد التجربة ثم تبدو فيه غريزة العقل قليلاً قليلاً وهو مستغرق الهم في قضاء حوائجه وتحصيل شهواته، وقد أنس بمدركاته ومحسوساته، فسقط عن نظره بطول الأنس بها، فإذا رأى بغتة حيواناً غريباً أو فعلاً خارقاً للعادات انطلق لسانه بالتسبيح ققال: سبحان الله، وهو يرى طول عمره أشياء تتحيّر فيها عقول العقلاء، وتدهش فيها نفوس الأذكياء، فمن أراد صِحّة أو صدق هذا القول، فلينظر بعين البصيرة إلى هذه الأجسام الرفيعة وسعتها وصلابتها وحفظها من التغيّر والفساد، إلى أن يبلغ الكتاب أجله، فإن الأرض والهواء والبحار بالإضافة إليها كحلقة ملقاة مي فلاة، قال الله تعالى: ﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾.
ثم إلى دورانها مختلفاً، فإن بعضها يدور بالنسبة إلينا رحوية، وبعضها حمائلية، وبعضها دولابية، وبعضها يدور سريعاً، وبعضها يدرر بطيئاً، ثم إلى دوام حركاتها من غير فتور وإلى إمساكها من غير عمد تعمد بها أو علاقة تدلى بها.
ثم لينظر إلى راكبها وكثرتها واختلاف ألوانها، فَإنّ بعضها يميل إلى الحمرة، وبعضها إلى البياض، وبعضها إلى لون الرصاص.
ثم إلى مسير الشمس وفلكها مدة سنة، وطلوعها وغروبها كل يوم لاختلاف الليل والنهار ومعرفة الأوقات، وتمييز وقت المعاش عن وقت الاستراحة.
ثم إلى إمالتها عن وسط السماء حتى وقع الصيف والشتاء والربيع والخريف. وقد اتفق الباحثون على أنّها مثل كرة الأرض مائة مرّة ونيّفاً وستّين مرّة، وفي لحظة تسير أكثر من قطر كرة الأرض، وقد عرض ذلك جبريل عليه السلام حيث قال للنبي ﷺ من وقت لا إلى أن قلت نعم سارت الشمس خمسمائة عام.
ثم لينظر إلى جرم القمر وكيفية اكتسابه النور من الشمس لينوب عنها بالليل.
ثم إلى امتلائه وانمحاقه، ثم إلى كسوف الشمس وخسوف القمر، ومن العجائب السواد الذي في جرم القمر، فإنّه لم يسمع فيه قول شاف إلى زماننا هذا. وكذلك أي المجرّة وهي البياض الذي يقال له شرج السماء وهو على ذلك يدور بالنسبة إلينا رحوية.
وعجائب السمـٰوات لا نستطيع إحصاء عشر عشيرها، لكن القدر الذي جرى في جرم القمر ذكرناه تبصرة لكل عبد منيب.
ثم لينظر إلى ما بين السماء والأرض من انقضاض الشهب والغيوم والرعود والبروق والصواعق والامطار والثلوج والرياح المختلفة المهاب وليتأمل السحاب الكثيف المظلم كيف اجتمع في جو صاف لا كدورة فيه، وكيف حمل الماء وتسخر الرياح، فإنّها تتلاعب به وتسوقه إلى المواضع التي أرادها الله تعالى فترش وجه الأرض وترسله قطرات متفاضلة لا تدرك قطرةٌ منها قطرة لصيب وجه الأرض برفق، فلو صبّه صبَاً لأفسد الزرع بخدشه وجه الأرض ويرسلها مقداراً كافياً لا كثيراً زائداً على الحاجة، فيعفن النيات ولا قليلا ناقصاً عن الحاجة، فلا يتم به النمو كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ ﴾.
ثم إلى اختلاف الرياح، فِإنَّ منها ما يسوق السحب ومنها ما ينشرها ومنها ما يجمعها ومنها ما يعصرها ومنها ما يلقح الأشجار ومنها ما يربي الزرع والثمار ومنها ما يجففها.
ثم لينظر إلى الأرض وجعلها قراراً لتكون فراشاً ومهاداً، ثم إلى سعة أكنافها، وبعد أقطارها حتى عجز الأدميون عن بلوغ جميع جوانبها، ﴿ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ﴾، ثم إلى جعل ظهرها محلا للأحياء وبطنها مقرا للأموات، فتراها وهي ميتة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأظهرت أجناس المعادن وأنبتت أنواع النبات وأخرجت أصناف الحيوان، ثم إلى إحكام أطراقها بالجبال الشامخات كأوتاد لها يمنعونها من أن تميد، ثم إلى إيداع أوشال المياه في خزانات ليخرج منها قليلاً قليلاً، فتنفجر منها العيون، وتجري منها الأنهار دائماً. ثم لينظر إلى البحار العميقة التي هي خلجان من البحر الأعظم المحيط بجميع الأرض حتى أن جميع المكشوف من البوادي والجبال، بالإضافة إلى الماء كجزيرة صغيرة في بحر عظيم، وبقية الأرض مستورة بالماء.
ثم إلى ما فيها من الحيوان والجواهر وما من صنف من أصئاف حيوان البر إلا وفي البحر أمثاله وأضعافه، وفيها لا يعهد لها نظير في البر.
ثم لينظر إلى خلق اللولؤ في صدفه تحت الماء، ثم إلى إنبات المرجان في صميم الصخر تحت الماء، وهو نبات على هيئة شجرة ينبت من الحجر. ثم إلى ما عداه من العنبر وإلى أصناف النفائس التي يقذفها البحر وتُستخرج منه.
ثم إلى السفن كيف سيرت في البحار وسرعة جريها، وإلى إيجاد الأنهار، ومعرفة النواتي موارد الرياح ومهابها وسواقيها.
وعجائب البحار كثيرة لا مطمع في إحصائها، وقد قيل: حدّث عن البحر ولا حرج وفيما ذكرناه كفاية.
ثم لينظر إلى أنواع المعادن المودعة تحت الجبال فمنها ما ينطبع كالذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص ومنها ما لا ينطبع كالفيروزج والياقوت والزبرجد ثم إلى كيفية استخراجها وتنقيتها واتخاذ الحلي والآلات والأواني منها ثم الى معادن الأرض كالنفط والقير والكبريت وغيرها وأقلها الملح فلو خلت منه بلدة لتسارع الفساد الى أهلها.
ثم لينظر إلى أنواع النبات وأصناف فواكهها مختلفة الأشكال والألوان والطعوم والأرابيج تسقى بماء واحد، وتفضل بعضها على بعض في الأكل مع اتحاد الأرض والهواء والماء، فيخرج من نوأة نخلة مطوقة بعناقيد الرطب وبرة حبة سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. ثم لينظر إلى أرض البوادي وتشابه أجزائها، فإنّها إذا نزل القطر عليها ﴿ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾.
ثم إلى كثرتها وأختلاف أصنافها متشابهة وغير متشابهة، ثم إلى كثرة أشكالها وألوانها وطعومها وروائحها واختلاف طبائعها، وكثرة منافعها، فلم ينبت من الأرض ورقة إلا وفيها منفعة أو منافع يقف فهم البشر دون إدراكها.
ثم لينظر إلى أصناف الحيوان وانقسامها إلى ما يطير ويقوم ويمشي، وانقسام الماشي إلى ما يمشي على بطنه، وإلى ما يمشي على رجلين، وإلى ما يمشي على أربع، وإلى أشكالها وألوانها وصورها وأخلاقها وأفعالها ليرى عجائب تدهش منها العقول بل في البقة أو النمل أو العدكبوت أو النحل، فإنُها من ضعاف الحيوانات ليري ما يتحير منه من بنائها البيت وحجمعها الغذاء، وادخارها القوت لوقت الشتاء وحلقها في هندستها ونصبها الشبكة للصيد، ولا من حيوان صغير ولا كبير إلا وفيه من العجائب ما لا يحصى، وإنما سقط التعجب هنا للأنس وكثرة المشاهدة.
وعجائب السمـٰوات والأرض كما قال تعالى: ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ بحار لا يدرى سواحلها ولا يعرف أوائلها ولا أواخرها، والله الموفق للصواب.
المقدمة الثانية
في تقسيم المخلوقات: المخلوق كل ما هو غير الله سبحانه وتعالى وهو إما أن يكون قائماً بالذات أو قائماً بالغير، والقائم بالذات إما أن يكون متحيزاً أو لم يكن، فإن كان متحيّزاً فهو الجسم، وإن لم يكن فهو الجوهر الروحاني، وهو إنا أن يكون متعلقاً بالأجسام تعلق التدبير، وهو النفس، أو لا يكون، وهو إمًا أن يكون سليماً عن الشهوة والغضب وهو الملك أو لا يكون وهو الجن. والقائم بالغير، إن كان قائماً بالمتحيّزات فهو الأعراض الجسمانية، وإن كان قائماً بالمفارقات فهو الأعراض الروحانية كالعلم والقدرة، والأعراض الجسمانية إما أن يلزم من صدقها حصول صدق النسبة، أو صدق قبول النسبة أولا هذا ولا ذاك، فإن كان الأول، فالنسبة إِما حصول في المكان وهو الأبن أو في الزمان وهو الشيء أو نسبة متكرّرة وهو الإضافة أو تأثير الشيء في الشيء وهو الفعل، أو تأثر الشيء عن الشيء وهو الانفعال وكون الشىء محيطاً بالشىء يجب أن يتتقل المحيط بانتقال المحاط به وهو الملك أو هيئة حاصلة بمجموع الجسم يسبب حصول النسب بين أجزاء بعضها إلى بعض، وبين أجزائه والأمور الخارجية وهو الوضع. وإن كان يلزم من حصولها صدق قبول النسبة، فهو إما أن يكون بحيث لا يحصل بين أجزائه حدود مشتركة وهو العدد، أو يحصل وهو المقدار، وإن كان لا يلزم من حصولها صدق قبول النسبة، فِإمًا أن يكون مشروطاً بالحياة أو لم يكن فإن كان فإِمًا أن يتوقف على الشهوة والنقرة وهو التحريك أو لا يتوقف، وهو الإدراك، ثم الإدراك إِما إدراك الكليّات وهو العلوم والظنون والجهالات أو إدراك الجزئيات، وهو الحواس الخمس، وإن لم يكن مشروطاَ بالحياة فهو الأعراض المحسوسة بالحواس الخمس، أمّا المحسوسات بالقوة الباصرة فكالأضواء والألوان وأمًا المحسوسات بالقوة الشامة فكالطيب والنتن، وأما المحوسات بالقوة السامعة. فالأصوات والحروف وأمًا المحسوسات بالقَوّة اللامسة فكالحرارة والبرودة والرطوية واليبوسة والثقل والخفة والصلابة واللين والخشونة والملاسة. فهذه جملة أقسام الممكنات، وسيأتي الكلام في كل قسم منها إن شاء الله تعالى.
ذكر أهل السير أنه وجد في السفر الأوّل من التوراة أن الله تعالى خلق جوهراً، ثم نظر إليها نظر الهيبة فذاب الجوهر وصعد منه دخان ورسب منه رسوب، فخلق سبحانه من الدخان السمـٰوات، ومن الرسوب الأرض.
ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾. وأحكم جلت قدرته خلق المجموع في سّتة أيام. قال بعض العلماء إن اليوم في اللغة الكون الحادث والأيام ههنا مراتب مصنوعاته لأنَّ قبل الزمان لا يمكن تجدد الزمان من الأيام الستة يوم لمادة الأرض ويوم لصورتها ويوم لمادة السماء ويوم لصورتها ويوم لمكملاتها من الجبال والكواكب والنفوس وغيرها. وقال أيضاً كل ما فوق الأرض فهو سماء في طريق اللغة يقولون: ما علاك فهو سماؤك، وما دون فلك القمر فهو بالنسبة إلى الأفلاك أرض، قال تعالى: ﴿ خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ﴾ يعني سبعاً، فالأوّل كرة النار والثانية كرة الهواء والثالثة كرة الماء والرابعة كرة الأرض وثلاث طبقات ممتزجات بين الأربعة الأولى من النار والهواء والثانية من الهواء والماء والثالثة من الماء والأرض، ثم دبر بعنايته بعد الجماد أمر المعادن الداخلة في الجماد ثم النبات ثم الحيوان، فهذا هو القول الكلي في المخلوقات، وسياتي القول في جرئياتها في مقالتين إن شاء الله تعالى. والله الموفق للصواب.
المقدمة الثالثة
في معنى الغريب: الغريب كل أمر عجيب قليل الوقوع مخالف للعادات المعهودة والمشاهدات المألوفة، وذلك إِمّا من تأثير نفوس قوية، وتأثير أمور فلكية أو أجرام عنصرية، كل ذلك بقدرة الله تعالى وإرادته.
فمن ذلك معجزات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كانشقاق القمر، وانفلاق البحر، وانقلاب العصا ثعباناً، وكون النار برداً وسلاماً، وخروج الناقة من الصخرة الصمّاء، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى. ومنها كرامات الأولياء الأبرار، فإِن تأثير نفوسهم تتعدّى إلى غير أبدانهم حتى يحدث عنها انفعالات غريبة في العالم فيشفى المريض باستشفائهم وتسقى الأرض باستسقائهم. وربما يحدث الخسف والزلزلة والطوفان والصواعق بدعواتهم، ويصرف الوباء والموتان باستدعائهم، وتبدل لهم نفرة الطيور بالهدو والوقوع وصولة السباع، وشذتها باللين والخضوع.
ومنها أخبار الكهنة والكهانة اندرست بمبعث النبي ﷺ وكانوا يأتون الجاهلية بأمور غريبة زعموا أنْها كانت بواسطة اختلاط نفوسهم بنفوس الجن. ومنها الإصابة بالعين، فإن العائن إذا تعجب من شيء كان تعجبه مهلكاً للمتعجب منه بخاصية لنفسه لا يوقف عليها. ومنها اختصاص بعض النفوس من الفطرة بأمر غريب لا يوجد مثله لغيرها، كما ذكر أنَّ في الهند قوماً إذا اهتموا بشيء اعتزلوا عن الناس وصرفوا همتهم إلى ذلك الشيء، فيقع على وفق اهتمامهم. ومن هذا القبيل ما حكي أن السلطان محموداً غزا بلاد الهند، وكان فيها مدينة كل من قصدها مرض، فسأل عن ذلك، فقالوا: إن عندهم جمعاً من الهند يصرفون هممهم على ذلك، فيقع المرضى على وفق اهتمامهم، فأشار إليه بعض أصحابه بدق الطبول ونفخ البوقات الكثيرة ليشوش همههم ففعلوا ذلك، فزال المرض، واستخلصوا المدينة.
ومن هذا القبيل ما ذكر أن رجلا فيلسوفاً في زمن خوارزم محمد بن شاه جاء من بلاد الهند إلى خراسان فأسلم، وكأن يقال له داناي هند يستخرج طالع كل إنسان أراد حتى جربوه بالطوالع الرصدية. فلم يخط شيئا، وزعم أن ذلك له بواسطة حساب يعرفه، فرفع أمره إلى السلطان، فقال له: هل تقدر على استخراج غير الطوالع؟ قال: نعم، قال: أخبرني عمًا رأيت البارحة في نومي، فرجع إلي نفسه وحسب ثم قال: رأى السلطان أنه في سفينة، وبيده سيف، فقال السلطان: لقد أصاب، لكنًا لا نقنع بهذا القدر لأني على طرف جيحون كثيرآ ما أركب السفينة، والسيف لا يفارقني، فربما قال اتفاقاً، فامتحنه مرّة أخرى فأصاب، فقرّبه من نفسه، وكان يستعين به في أموره.
ومن ذلك أمور سماوية كظهور الكواكب ذوات الأذناب، والتماثيل والشانين، وانقضاض شهب يستضيء الجو منها. ومنها سقوط جسم من الجو ثقيل كما ذكر الشيخ الرئيس أنه سقط في زمائه بأرض جوزجانان جسم كقطعة حديد قدر خمسين مناً مثل حبات الجاورش المنضمة، فأرادوا كسرها، فما كان يعمل فيها الحديد ألبتة.
ومنها سقوط ثلج أو برّد في غير أوانه كما حكي عن بعض شيوخ قزوين أنه أتاهم في زمن الشمس برد عظيم كل واحدة على قدر الجوزة، فأهلك كثيراً من الحيوان والنبات، والمشمش لا يدرك بقزوين إلا في الصيف. ومتها سقوط أحجار من الحديد والنحاس في وسط الصواعق، وذلك يوجد بلاد الترك، وريّما يوجد بأرض جيلان أيضاً. وحكى أبو الحسن علي بن الأثير الجزري فى تاريخه أنه نشأت بإفريقية في سنة إحدى عشرة وأربعماثة سحابة شديدة الرعد والبرق، فأمطرت حجارة كثيرة وأهلكت كل من أصابته. وأغرب من هذا ما حكاه الجاحظ أنه نشأت سحابة بأيدج وهي مدينة بين أصبهان وجوزستان سحابة طحيا تكاد تمس رؤوس الناس، وسمعوا منها كهدير الفحل، ثم إنها دفعت بأشد مطر ثم استسلموا للغرق، ثم دفعت بالضفادع والشبابيط العظام السمان، والشبوط نوع من السمك، فأكلوا وملحوا وادّخروا كثيرا.
ومن ذلك أمور أرضية مثل صيرورة اليبس بحراً كأرض يونان، فإنها كانت بلاداً معمورة والآن استولى الماء عليها، وصيرورة البحر يبساً كأرض ساوة، فإنها كانت بحرأ والان لا يرى فيها أثر البحر.
ومنها ما زعموا أنّه يصعد من الأرض بخار لا يصيب شيئاً من الحيوان والنبات إلا جعله حجراً صلداً، وآثار ذلك ظاهرة بانضا من أرض مصر، ومثله شم بأرض قزوين، ومنها وقوع خسف بناحية من الأرض، وخروج ماء أسود منها، وقد شوهد ذلك في كثير من النواحي، منها مدينة عنجرة بأرض الروم، وقرية دركزين من أعمال همدان، ومنها زلزلة تبقى شهراً أو أكثر ببعضي النواحي، وقد شوهد ذلك بأرض نيسابور واألري، وحدثني أبو القاسم الرافعي قدّس الله روحه أنه شاهد في هذه الزلزلة سقفاً قد أنشق حتى رأى الكواكب من جانبه، ثم عاد إلى حاله ولم يظهر عليه أثر الشق.
ومنها ظهور معدن بعضض الأصقاع لم يعرف قبل ذلك من الزمان كصهور معدن الذهب عند الإسماعيلية.
ومنها ظهور نبت بأرض لا عهد للناس بوجوده عناك كظهور الترنجبين بأرض ساوة. ومنها تولد حيوان غريب الشكل لم ير مثله، كما روي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه رأى باليمن إنساناً من وسطه إلى أسفله بدن امرأة، ومن وسطه إلى فوق بدنان مفترقان بأربع أياد ورأسين ووجهين، وهما يأكلان ويشربان ويختصمان ويصطلحان، وذكر أن امرأة بكلوسامان من قرى بلخ ولدت شخصاً له نصف بدن ونصف رأس، ويد واحدة ورجل واحدة على صورة النسناس الذي يوجد في غياض الشجر باليمن، ثم حملت مّرة أخرى فولدت بدن له رأسان، وزعم الحكماء أنهم وجدوا ثلاثة معان من الأمور غريبة، وقد وضعوا لكل معنى اسماً، وأحد هذه المعاني: الآثار النفسانية والانفعالات التابعة للتصورات من غير واسطة أمر طبيعي، فاستعمال تلك التصورات في الخير معجرة من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وكرامة من الأولياء عليهم الرحمة والرضوان واستعمالها في الشر سحر من النفوس الشرية، وثانيها: أمور غريبة تحدث من قوى سماوية وأجسام عنصرية مخصوصة بهيئات وأشكال وأوضاع تسمّى الطلسمات، وثالثها: أمور غريبة تحدث من أجساد أرضية كجذب المغناطيس الحديد، وتسمّى النيرنجات، وهذا هو القول الكلي في الأمور الغريبة: وسيأتي الككلام في جزئياتها إن شاء الله تعالى.
المقدمة الرابعة
في تقسيم الموجودات: كل موجود سوى الواحد سبحانه مخلوق وكل ذرّة من جوهر وعرض وصفة وموصوف فيها غرائب وعجائب يظهر فيها حكم الله تعالى وقدرته، وإحصاء ذلك غير ممكن، لكنا نشير إلى ذلك وتقول إجمالا فنقول: الموجودات منقسمة إلى ما لا نعرف أصلها، ولا يمكننا النظر فيها، فكم من موجود لا نعلمه كما قال الله تعالى: ﴿ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ وإلى ما نعرف جملها ولا تعرف تفصيلها، وهي منقسمة إلى ما لا يدرك بالبصر كالعرش والكرسي والملائكة والجن والشياطين وغيرها، فمحال النظر فيها، ولا يمكن أن يقال فيها إلا ما صح بالنصوص والأخبار والآثار. وأمًا المدركات بالبصر كالسمـٰوات والأرض وما بينهما، والسمـٰوات مشاهدة بكواكبها وشمسها وقمرها ودورانها، والأرض مشاهدة بما فيها من جبالها وبحارها وأنهارها ومعادنها ونباتها وحيوانها وما بين السماء والأرض، وهو الجو مدرك بغيومها وأمطارها وثلوجها ورعودها وبروقها وصواعقها وشهبها وعواصف أرياحها، فهذه هي أجناس المشاهدات من السمـٰوات والأرض وما بينهما، وكل جنس منها ينقسم إلى أنواع، وكل نوع ينقسم إلى أصناف، وكل صنف ينقسم إلى أقسام، ولا نهاية لاستيعاب ذلك، وانقسامها في اختلاف صفاتها وهيئاتها ومعانيها الظاهرة والباطنة، وفي جميع ذلك مجال البصر، فلا تتحرك ذرة في السمـٰوات والأرض إلا وفي تحريكها حكمة، أو حكمتان أو عشرة أو ألف، وكل ذلك دليل على وحدانيته وعظمته، كما قال بعضهم: