عقلاء المجانين (1924)/أصل الجنون في اللغة


أصل الجنون

في اللغة

الجنون في اللغة الاستتار. تقول العرب: جن الشيء يجن جنونا إذا استتر وأجنه غيره إجنانا إذا ستره قال لبيد:

حتى إذا ألقت يدا في كافر
وأجن عورات الثغور ظلامها

يعني الشمس ألقت يدا في ليل مظلم. وستر الظلام الفجاج والطرق.

وأنشدني أبو عبد الله محمد بن الحسين الوضاحي:

يا غافلا عما تجن ضلوعي
أنسيت ويحك عبرتي ودموعي

وجن الليل بجن جنونا وجنانا إذا دخل. ومنه قوله سبحانه: " فلما جن عليه الليل رأى كوكبا " وأجن الليل الشيء أجنانا إذا غطاه بظلامه. قال العتبي: وأجنه الليل أي جعله في ظلامه في جنة، قال الشاعر يصف مفازة:

وصرماء مذكار كأن دويها
يعيد جنان الليل مما يخيل
حديث أناسي فلما سمعته
إذا ليس فيه ما أبين فأعقل

وقال الشاعر:

ولولا جنون الليل أدرك ركضنا
بذي الرمث والأرض عياض بن ناشب

الصرماء المفازة التي تصرم الناس عن الماء أي تقطعهم. والمذكار التي لا يدخلها إلا ذكور الرجال لصعوبتها كالمرأة المذكار التي لا تلد إلا الذكران. والجنان القلب سمي بذلك لاستتاره.

أنشدني أبو الحسن محمد بن علي القزاز لديك الجن:

خذ يا غلام عنان طرفك فاحمه
عني فقد ملك الشمول عناني
سكران سكر هوى وسكر مدامة
فمتى يفيق فتى به سكران
ما الشأن ويحك في فراق فريقهم
الشأن ويحك في جنون جناني

قال العتبي: وسميت الجن لاجتنانهم عن أعين الناس. وقيل في قوله تعالى: " إلا إبليس كان من الجن " أي من الملائكة، سموا جنا لاجتنانهم عن الأبصار. قال الأعشى:

وسخر من جن الملائكة تسعة
قياما لديه يعملون بلا أجر

والجنة البستان لالتفاف الشجر. والجنة الدرع والترس لأنهما يستران. والجنة بالكسر الجنون. والجن أيضا، قال الله جل ذكره: " وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا " يعني حين قالوا: " أن الملائكة بنات الله، وقال في معنى الجنون: " أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة " وأما قوله تعالى: " من الجنة والناس " قال قتادة: إن الشيطان يوسوس الجن كما يوسوس الناس، والمعنى الذي يوسوس في صدور الجن والناس. والجنن القبر، لأنه ساتر، قال الشاعر:

لقد أدرجت ليلى هنالك في جنن
فصبرا جميلا حين ما ينفع الحزن

والجنين: الولد في بطن الأم، لأنه مستور، وتقول العرب للنبت إذا طال وكثر تكاوس والتف واستجلس واعلنكس: تجان. وتجان الرجل إذا تكلف الجنون وليس بمجنون. وكذلك تحامق وتناوم وتكاسل، قال العجاج:

إذا تجازرت وما بي جزر
ثم كسرت العين من غير عور
وكل هذا يؤول إلى معنى الاستتار، فالمجنون المستور العقل، والفعل منه جن يجن جنونا وهو مجنون، وأجنه الله فهو مجنون، وهذا الباب نادر في اللغة ونظيره أزكمه الله فهو مزكوم، وأحمه فهو محموم، وأضأده فهو مضؤود أي أزكمه، وأحببت فلانا فهو محبوب، وهذا هو السائر وقد قالوا محب. قال عنترة العبسي:
ولقد نزلت فلا تظني غيره
مني بمنزلة المحب المكرم