علم الملاحة في علم الفلاحة/الباب الثاني

​علم الملاحة في علم الفلاحة​ المؤلف عبد الغني النابلسي
الباب الثاني - سقي الأرض



الباب الثاني

سقي الأرض


اعلم أن السواقي التي تجري فيها الماء يكون حفرها في أرفع مكان ليكون مسلطا على جميع الأرض عند السقي. وطريقة حفر البئر تكون كما يلي: تحفر البئر حتى يصل الحفار إلى الماء فإذا رآه متغيرا أمسك عن العمل قليلا ثم يذوقه مرة أخرى، فإن تغير إلى الملوحة استمر في العمل، وإن تغير إلى المرارة غطيت البئر إلى الغد ثم يعاود الحفر حتى يتم العمل. فإذا كان عمق البئر خمس قامات، فليكن وسع فمها ستة عشر شبرا يدخل منها في الطي نحو ذراعين وتبقى تسعة أشبار. وإن كان عمقها أكثر من خمس قامات يوسع فمها أكثر، وإن أريد تكثير مائها زيد في تعميقها. وإن أردت أن يكثر ماؤها جدا بحيث يكون معينا، فاحفر بئر أخرى إلى جانبها غير متصلة بها، حتى تصل إلى الماء، ويكون عمقها أقل من الأولى بنحو ذراع ونصف، ثم احفر ثالثة كذلك، ورابعة ثم نفذ الآبار الأربعة إلى الأولى من قعر كل واحدة لتكون الأولى أما لها لتجمع مياه الجميع فيكثر ماؤها ويتضاعف. ومما يزيد في المنابع الظاهرة، وفي الآبار أيضا، أن يؤخذ مكوك ملح عذب فيخلط بمثله من الرمل المأخوذ من نهر جار وينجَّم تحت القمر ليلة، ثم يؤخذ من الغد، فيذر في أصل الينبوع أو يلقى منه في البئر كل يوم سبع حشيشات بقدر ما تحتمله الكف اليمنى فقط، فإنه عند استكمال ذلك يزيد الماء كثيرا، وإن خفت أن يكون للبئر بخار مؤذ مانع من الدخول فيه للعمل فإن البخار يخرج منه بالتلويح فيه بالأكسية وشبهها. وصفته أن يدلى فيه كساء كبير مروبط في حبل ويحرك بسرعة ثم يسحب إلى فم البئر بسرعة، وينزل بسرعة، فيخرج البخار الردي، أو يقوم على فم البئر عشرة رجال أو أكثرهم وبأيديهم أوان مملوءة بماء بارد، كل إناء يسع عشرة أرطال تصب كلها معا في وقت واحد ثم يطبقون العملية المذكورة سابقا فيخرج البخار. أو يقذف فيها ماء شديد السخونة ويغطى فمها بقماش كثفي ثم يزال عنها فيخرج البخار، أو يؤتى بآنية فيها تبن ونحوه ويوقد فيها نار، فإذا دخن أنزل في البئر وأخرج ويكرر مرات، فإنه يُخرج البخار لا محالة. ويعرف البخار بإضاءة شمعة وتدلى في البئر فإن لم تنطفئ فالبئر سليمة من البخار المؤذي، وإن انطفأت فالبخار ما زال هناك. ثم يمتحن بالشمعة مرة أخرى فإن لم تنطفئ فقد زال البخار. ويعمل لإزالة البخار أيضا حزم قصب وشبهه من البردي أو غيره، وتدلى بحبال وتحرك ثم ترفع وتنزل فيزول البخار.

وأما معرفة الأراضي التي تحتها الماء، والتي لا ماء تحتها فاعلم أن الجبال والأراضي التي تحتها مياه كثير محتبسة قريبة من وجه الأرض، يظهر على سطوحها نداوة ظاهرة تحس باللمس وترى باعلين، لا سيما في أول ساعة من النهار وفي آخر ساعة منه، ويظهر ذلك على وجه الأرض ويظهر فيها شبيه عرَق نداوة. ومتى أردت التيقن من ذلك فخذ شيئا من التراب السحقي فغبر به وجه حجارة تلك الجبال وسطح الأرض وانتظر إلى المساء فإن رأيت ذلك التراب قد تندى ففيه ماء قريب من وجه الأرض. وبقدر كثرة النداوة وقلتها، تكون كثرة الماء وقلته وقربه أيضا وبعده. ويستدل أيضا بما على وجه الأرض من التراب من حيث نعومته وخشونته وغير ذلك من الأحوال. وكذا إذا عجن شيئا من ترابها ووجدت فيها صمغية فهي ريَّانة فيها ماء كثير، وإذا رأيت المدار الذي على وجهها يابسا جدا فلا ماء فيها. وكذا يستدل بالسمع وذلك بوضع الأذن قريبا من الأرض فإن سمع في باطنها دوي في غور من الجبل فثمَّ الماء.

وأما الاستدلال بما جربه الحكماء، فمنه أن يحفر في الأرض التي ينبت فيها النبات حفرة عمقها ثلاثة أذرع، ويؤخذ إناء أو قدر نحاس أو نحوه كالرصاص، شبه الطست أو السطل الكبير سعته عشرة أرطال وقيل من فخار وتؤخذ قطعة صوف أبيض وتغسل حتى لا يبقى فيها طعم، وتنفش وتنفش وتربط بخيط وتلصق بقير في وسط الإناء وعلى جوانبه من الداخل بحيث لا تمس الأرض إذا انكفأ الإناء على وجهه، ويدهن جوف الإناء بقير مذاب أو شحم أو دهن.، ولا سيما إن كان القدر من فخار. فإذا غربت الشمس كفأت ذلك الإناء على وجهه في أسفل تلك الحفرة وغطيته بحشيش أو تراب قدر ذراع وقيل حتى تمتلئ الحفرة، فإذا كان من الغد قبل طلوع الشمس يزال ما غطي به ذلك الإناء برفق، ثم يقلب وينظر في ذلك الصوف، فإن كان قد استنقع الصوف في النداوة، ففي ذلك الموضع ماء كثير قريب وإن كان قد ترطب وتندى الصوف فالماء فيه وسط وإن لم يكن كذلك فالماء في غاية البعد، وإن كان جافا فليس فيه ماء أصلا أو حالت دونه طبقة من حجر صلد وإن كان في الصوف الذي قد استنقع حبات من الماء قد تعلقت، فالماء كثير وقريب، وتذاق تلك النداوة المتعلقة بالصوف فعلى قدر طعمها طعم الماء الدال عليه أو نحوه، وهذا مما جرّب مرارا كثيرة.

ومما يعمل به أيضا، أن تحفر حفرة عمق ذراع، ويؤخذ من تراب أسفلها فينقع فيه ماء عذب في إناء نظفي وتذاق التربة، فإن كان في طعمها المرارة فتلك الأرض عديمة الماء البتة، وإن كان يضرب إلى الملوحة الحادة فعديمة الماء أيضا، وإن كان طعمها إلى الملوحة الخفيفة فهي أقرب إلى الماء قليلا، وإن كان لا طعم له فالماء أقرب إلى وجه الأرض، وإن كان إلى التفاهة فالماء قريب من سطحها. ويشم ذلك التراب، فإن كانت رائحته كرائحة التراب المستخرج من السواق والأنهار الدائمة الماء، فبين الماء وبين وجه الأرض أذرع يسيرة، وكذا الرائحة الشبيهة بالعفونة تدل على قرب الماء، وكذا الشبيهة برائحة الطحلب ومما يدل على قرب الماء أيضا في الأرض السهلة أن ينبت فيها البطم والصعتر والسرو والسماق. ولسان الجمل والطرفا والخروع فإنها تنبت في المواضع الرطبة بالماء. وأما لسان الثور والبابونج والخطمي وكزبرة البير وإكليل الملك والخروع والخبازي والحندقوق فتنبت في مواضع تدل على كثرة الماء وقوتها وكثرتها وأغصانها وورقها وعروقها إذا خصبت تدل على كثرة الماء في باطن تلك الأرض وعلى قربه. ومما يدل على قرب الماء وعذوبته أيضا نبات القصب، لا سيما في الصفي والخرفي، فهو دال على كثرة الماء في باطن الأرض.

واعلم بأن أحمد المياه للسقي على الإطلاق الماء العذب، وهو أخفها وزنا وأوفقها للناس والحيوان والنبات. وماء لا مطر يصلح لما لطف من النبات، كالزرع والقطاني والخضر، وماء النهر العذب الصافي يصلح لسقي النبات على الإطلاق ولا سيما الخضر. والخضر كلها تحتاج إلى ماء كثير وماء الآبار والعيون يصلح لما له أصل كبير غائر في الأرض كالجزر واللفت الطويل. والحاجة إلى الماء في ثلاث أوقات من السنة: في الشتاء، وفي الخرفي، وفي الربيع. ففي الشتاء، لتحريك النبات بالدفء والرقة، وفي الخرفي لتعريضه للزبل الكثير، وفي الربيع للنمو والنشوء ونحو ذلك. وأردأ المياه المرّ، ثم المالح الأجاج وهما يصلحان للرجلة وهي البقلة والاسفاناخ والخس والهندبا والسوسن الأبيض، وهو الزنبق والملوخية. ومن أردأ المياه أيض القابض العفص، ثم ما غلب عليه طعم المعدن، والماء المالح الذي ينعقد منه الملح، وماء البحر، فيسدان ولا يصلحان لسقي شيء البتة.

واعلم بأن أحسن السقي في الصفي بالعشاء، وإذا كان السقي والقمر فوق الأرض فيكون أردأ منه إذا كان القمر تحت الأرض، ولا يبالغ في سقي الأرض الرملية. ويحمد سقي الأشجار في شهر آب، حيث يكون الحر على أشده. وكذلك في تشرين الأول في شدة البرد ولا يغفل عن ذلك، فإن السقي في شدة البرد يقتل الهوام والدول المتولد في أصول الشجر. ويحمد السقي أيضا وقت تفتح الأشجار بالورق والزهر، وإذا أفرط في سقيها والنهار كامل في شدة الحر لم يأمن من جفافها. وتسقى الأشجار حتى يصل الماء إلى أصولها. والبعل لا يسقى، وإن سقي الماء ضره، ويكفيه ماء المطر. والأشجار الجبلية لا تتحمل كثرة السقي، كالفستق والبندق والآس والكمثري والقراصيا وأشباهها. والزيتون يسقى فير تشرين الأول رمات عديدة وسقيه في الربيع حسن، ولا يسقى حتى يبتدئ بالنور، بل حتى يصير عقده قدر الحمص، فحينئذ يتابع سقيه إذا أريد حمله كل عام ولا سيما إذا جنيت ثمرته باليد برفق، ولم يُنفض بالعيدان والعصي، وإذا ضرب به أو نفض تكسر الأغصان ذات الحمل. والرمان يوافقه السقي الكثير، وإن لم يسقَ لم يضره. والورد يسقى في تشرين الأول، ولا يهمل سقيه فيه، ولا يغفل عن ذلك، ولا يدمن سقيه في آب، ولا يغفل عنه. والآس البستاني يتحمل الماء الكثير ولا سيما في الحر ويختلف عن الجبلي والقراصيا في كونه يبح الماء الكثير. وكذا العناب، وإن ترك لم يضره، والموز يحب الماء الكثير ويصلحه، وإن قلل عنه يضره وربما فسد. وكذا التفاح، يحب الماء الكثير، والسفرجل، ولسان العصفور، والبندق والأترج، والنارنج، والخوخ، والاجاص، والكمثري. أما الياسمين فيحب الماء المعتدل، والكرم يسقى بالعشي في نيسان وعند قطافه. والتين يسقى في تشرين الأول سقيا مبالغا فيه إلى أن يثمر وينضج، وقيل كثرة الماء والندى يضران الجبلي منه، لأنه بعل لا يشرب إلا من المطر. واللوز لا يحتمل كثرة الماء، وكذا الجوز. ويسقى الصنوبر بماء قليل، وكذا السرو، والشجر البستاني إذا زرع في البر يكثر حرثه ولا يحتاج إلى السقي. وغالب الأشجار من الفواكه وغيرها تنبت في البر والجبال ولا يسقيها إلا المطر. وكذلك غالب الحبوب كالحنطة والشعير والعدس والسمسم والحمص، بل يكاد أن يكون كل نبات من الأشجار وغيرها ينبت في بعض البلاد بغير سقي، إلا القليل من أشجار الشطوط والخضر والبقول، والكبار والصغار، فلاعتماد في ذلك كله على نزول الغيث في وقته.

واعلم أنه حال المطر من حيث كثرته وقلته ووقته يعرف من أحوال الشمس والقمر والسحاب والشهب التي ترمي بها الكواكب، والرعد والبرق وقوس قزح والضباب وما أشبه ذلك. أما الشمس فإذا طلعت شديدة الحمرة، ثم كلما ارتفعت اسود مكان الحمرة، دل على مطر شديد دائم، وربما كان أياما، وإذا طلعت وظهر معها سواد وسحاب أسود مظلم غليظ دل على مطر، وإذا طلعت أو غربت وفي جرمها ألوان تغلب عليها الحمرة أو كان شعاعها يميل إلى الصفرة أو السواد فدليل الشتاء والأمطار. وإذا طلعت من مشرقها نقية لا يحول بين الأبصار وبينها حائل من بخار أو قتام، دل ذلك على صحو. وكذا إذا كانت وقت غروبها في نقاء من غيم دل على صحو الغد وأيام أخر أيضا. وإن بدا قبل طلوع الشمس غيم ثم تقشع دل على صحو. وأما القمر فإذا أهل الهلال في الليلة الثالثة والرابعة من استهلاله وحوله نقط حمراء أو سوداء، دل على المطر الخفيف. وكذا إذا كان القمر في الاستقبال، وظهر حوله شيء أسود دل على مطر غزير، وكلما كان أشد سوادا كان المطر أكثر والبرد أشد. وكذا إذا ظهرت دائرة حمراء بلون النار، دلت على مطر مع ريح غريبة باردة شديد البرد. وإذا طلع القمر ليلة امتلائه وعلى رأسه كالبخار الحائل بين نوره والأبصار دل على مطر بعد ثلاثة أيام أو أقل، وإن ظهرت حوله هالة أو هالتان أو ثلاث دلت على مطر مع برد شديد، أما معه أو بعده. وإذا امتلأ القمر ليلة كماله وظهرت في السماء بعد ذلك بنحو ثلاث ساعات سحابة سوداء، فامتدت نحو القمر وظللته، دل على مطر شديد مع ريح وبرق. وكذا إذا رؤي الهلال في الليلة الثالثة أو الرابعة ضخما صافيا في يوم دجن، فذلك دليل المطر، والدارات التي تكون حول القمر إذا كانت ثلاثا أو اثنتين، فالمطر واقع، والدارة الواحدة الصافية إذا تمحقت بنوره، فهي دليل الصحو، والسحاب إذا كان أسود دل على المطر، وكذلك إن كان فيه رعد وبرق. والشهب التي ترمي بها الكواكب تدل على الريح والمطر، فإن كان الرمي في زاوية واحدة، فمعناه يكون الريح، وإن كان من الزوايا الأربع دلت على الأمطار من جهات متفرقة، وإن كان من أمكنة شتى دل على رياح مختلفة. وقال ابن قتيبة كانت العرب إذا رأت البرق لامعا من جهة الجنوب وما والاها استبشروا بالمطر ووعدوا أنفسهم بالسقي، وإذا لمع من جهة الشمال سموه خُلبَّا وهو الذي لا يمطر، وقوس قزح إذا كان في أثر الصحو دل على الشتاء، وإن كان في أثر الشتاء دل على الصحو، والريح الشرقية تهب من مشرق الشمس، والغربية تهب من مقابلها والت تهب من تلقاء يمين من يستقبل الشرق هي ريح الجنوب ومن تلقاء يساره ريح الشمال، والشرقية تسمى الصبا، والغربية وتسمى الدّبُور،. والموافق لجميع المنابت على العموم ريح الجنوب الحارة الرطبة، ويليها الصبا، ثم الدبور، ثم الشمال. وإذا هب ريح الجنوب وقد ابتدأ الأرتج في العقد أو بعده بيسير، يكبر وينمو ويطيب جدا. وريح الشمال تصحح الأشجار وثمارها من الأدواء وتسلم بتتابع هبوبه.