فتح المجيد/القسم الثامن



باب " أيشركون ما لا يخلق شيئًا وهم يخلقون " قوله : باب قول الله تعالى ' 7 : 119 ، 120 ' " أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون * ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون " . قوله " أيشركون " أي في العبادة . قال المفسرون : في هذه الآية توبيخ وتعنيف للمشركين في عبادتهم مع الله تعالى ما لا يخلق شيئًا وهو مخلوق ، والمخلوق لا يكون شريكًا للخالق في العبادة التي خلقهم لها ، وبين أنهم لا يستطيعون لهم نصرًا ولا أنفسهم ينصرون ، فكيف يشركون به من لا يستطيع نصر عابديه ولا نصر نفسه ؟ وهذا برهان ظاهر على بطلان ما كانوا يعبدونه من دون الله ، وهذا وصف كل مخلوق ، حتى الملائكة والأنبياء والصالحين . وأشرف الخلق محمد قد كان يستنصر ربه على المشركين ويقول " اللهم أنت عضدي ونصيري ، بك أحول وبك أصول ، وبك أقاتل " وهذا كقوله ' 25 : 3 ' " واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا " وقوله ' 7 : 188 ' " قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون " وقوله ' 72 : 21 ـ 23 ' " قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا * قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا * إلا بلاغا من الله ورسالاته " . فكفى بهذه الآيات برهانًا على بطلان دعوة غير الله كائنًا من كان . فإن كان نبيًا أو صالحًا فقد شرفه الله تعالى بإخلاص العبادة له ، والرضاء به ربًا ومعبودًا ، فكيف يجوز أن يجعل العابد معبودًا مع توجيه الخطاب إليه بالنهي عن هذا الشرك كما قال تعالى : ' 28 : 88 ' " ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون " وقال ' 12 : 40 ' " إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه " فقد أمر عباده من الأنبياء والصالحين وغيرهم بإخلاص العبادة له وحده ، ونهاهم أن يعبدوا معه غيره ، وهذا هو دينه الذي بعث به رسله ، وأنزل به كتبه ، ورضيه لعباده ، وهو دين الإسلام ، كما روى البخاري عن أبي هريرة في سؤال جبريل عليه السلام قال " يا رسول الله ، ما الإسلام ؟ قال الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان " الحديث .

" والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير " وقوله تعالى : ' 35 : 13 ، 14 ' " والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير " يخبر تعالى عن حال المدعوين من دونه من الملائكة والأنبياء والأصنام وغيرها بما يدل على عجزهم وضعفهم وأنهم قد انتفت عنهم الأسباب التي تكون في المدعو ، وهي الملك ، وسماع الدعاء ، والقدرة على استجابته ، فمتى لم توجد هذه الشروط تامة بطلت دعوته فكيف إذا عدمت بالكلية ؟ فنفى عنهم الملك بقوله " ما يملكون من قطمير " قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة ، وعطاء والحسن وقتادة : القطمير : اللفافة التي تكون على نواة التمر كما قال تعالى : ' 16 : 73 ' " ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقًا من السموات والأرض شيئًا ولا يستطيعون " وقال ' 34 : 22 ، 23 ' " قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له " ونفى عنهم سماع الدعاء بقوله " إن تدعوهم لا يسمعوا " لأنه ما بين ميت وغائب عنهم ، مشتغل بما خلق له ، مسخر بما أمر به كالملائكة ، ثم قال " ولو سمعوا ما استجابوا لكم " لأن ذلك ليس لهم ، فإن الله تعالى لم يأذن لأحد من عباده في دعاء أحد منهم ، لا استقلالًا ولا واسطة ، كما تقدم بعض أدلة ذلك . وقوله " ويوم القيامة يكفرون بشرككم " فتبين بهذا أن دعوة غير الله شرك . وقال تعالى : ' 19 : 81 ،82 ' " واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا " وقوله تعالى : " ويوم القيامة يكفرون بشرككم " قال ابن كثير : يتبرأون منكم ، كما قال تعالى : ' 46 : 5 ، 6 ' " ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " . قال : وقوله " ولا ينبئك مثل خبير " أي ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه مثل خبير بها . قال قتادة : يعني نفسه تبارك وتعالى . فإنه أخبر بالواقع لا محالة . قلت : والمشركون لم يسلموا للعليم الخبير ما أخبر به عن معبوداتهم فقالوا : تملك وتسمع وتستجيب وتشفع لمن دعاها ، ولم يلتفتوا إلى ما أخبر به الخبير من أن كل معبود يعادى عابده يوم القيامة ويتبرأ منه ، كما قال تعالى : ' 10 : 28 ـ 30 ' " ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون * فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين * هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون " أخرج ابن جرير عن ابن جريح قال : قال مجاهد " إن كنا عن عبادتكم لغافلين " قال يقول ذلك كل شئ كان يعبد من دون الله . فالكيس يستقبل هذه الآيات التي هي الحجة والنور والبرهان بالإيمان والقبول والعمل ، فيجرد أعماله لله وحده دون كل ماسواه ممن لا يملك لنفسه نفعًا ولا دفعًا ، فضلًا عن غيره . قوله : في الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال " شج النبي يوم أحد وكسرت رباعيته . فقال : كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ؟ فنزلت الآية ' 3 : 128 ' " ليس لك من الأمر شيء "" . قوله : في الصحيح أي الصحيحين . علقه البخاري . قال وقال حميد وثابت عن أنس . ووصله أحمد والترمذي والنسائي عن حميد عن أنس . ووصله مسلم عن ثابت عن أنس . وقال ابن إسحاق في المغازي . حدثنا حميد الطويل عن أنس قال كسرت رباعية النبي يوم أحد وشج وجهه ، فجعل الدم يسيل على وجهه ، وجعل يمسح الدم وهو يقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم ؟ فأنزل الله الآية . قوله : شج النبي قال أبو السعادات : الشج في الرأس خاصة في الأصل ، وهو أن يضربه بشئ فيجرحه فيه ويشقه ، ثم استعمل في غيره من الأعضاء ، وذكر ابن هشام من حديث أبي سعيد الخدري أن عتبة بن أبي وقاص هو الذي كسر رباعية النبي السفلى وجرح شفته العليا وأن عبد الله بن شهاب الزهري هو الذي شجه في وجهه ، وأن عبد الله بن قمئة جرحه في وجنته ، فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته وأن مالك ابن سنان مص الدم من وجه رسول الله وازدرده . فقال له : لن تمسك النار . قال القرطبي : والرباعية بفتح الراء وتخفيف الياء ـ وهي كل سن بعد ثنية . قال النووي رحمه الله : وللإنسان أربع رباعيات . قال الحافظ  : والمراد أنها كسرت ، فذهب منها فلقة ولم تقلع من أصلها . قال النووي  : وفي هذا وقوع الأسقام والإبتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لينالوا بذلك جزيل الأجر والثواب . ولتعرف الأمم ما أصابهم ويأتسوا بهم . قال القاضي  : وليعلم أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا ، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر ليتيقن أنهم مخلوقون مربوبون . ولا يفتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات ويلبس الشيطان من أمرهم ما لبسه على النصارى وغيرهم انتهى . قلت : يعني من الغلو والعبادة . قوله : يوم أحد هو شرقي المدينة . قال " أحد جبل يحبنا ونحبه " وهو جبل معروف كانت عنده الواقعة المشهورة . فأضيفت إليه . قوله : كيف يفلح قوم شجوا نبيهم زاد مسلم مسلم كسروا رباعيته وأدموا وجهه .

" ليس لك من الأمر شيء " قوله : فأنزل الله : " ليس لك من الأمر شيء " قال ابن عطية : كأن النبي لحقه في تلك الحال يأس من فلاح كفار قريش ، فقيل له بسبب ذلك " ليس لك من الأمر شيء " أي عواقب الأمور بيد الله ، فامض أنت لشأنك ، ودم على الدعاء لربك . وقال ابن إسحاق : " ليس لك من الأمر شيء " في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم . قوله : وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله يقول ـ إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر : ـ اللهم العن فلانًا وفلانًا بعد ما يقول : سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد . فأنزل الله " ليس لك من الأمر شيء " وفي رواية يدعو على صفوان بن أمية ، وسهيل بن عمرو ، والحارث بن هشام فنزلت " ليس لك من الأمر شيء " . قوله : وفيه أي في صحيح البخاري . رواه النسائي . قوله : عن ابن عمر هو عبد الله بن عمر بن الخطاب ، صحابي جليل ، شهد له رسول الله بالصلاح ، مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها أو في أول التي تليها . قوله : أنه سمع رسول الله هذا القنوت على هؤلاء بعد ما شج وكسرت رباعيته يوم أحد . قوله : اللهم العن فلانًا وفلانًا قال أبو السعادات : أصل اللعن والطرد والإبعاد من الله . ومن الخلق السب والدعاء وتقدم كلام شيخ الإسلام رحمه الله . قوله : فلانًا وفلانًا يعني صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام ، كما بينه في الرواية الآتية . وفيه : جواز الدعاء على المشركين بأعيانهم في الصلاة ، وأن ذلك لا يضر في الصلاة . قوله : بعد ما يقول : سمع الله لمن حمده قال أبو السعادات : أي أجاب حمده وتقبيله. وقال السهيلي: مفعول سمع محذوف، لأن السمع متعلق بالأقوال والأصوات دون غيرها فاللام تؤذن بمعنى زائد وهو الاستجابة للسمع ، فاجتمع في الكلمة الإيجاز والدلالة على الزائد ، وهو الاستجابة لمن حمده . وقال ابن القيم رحمه الله ما معناه : سمع الله لمن حمده باللام المتضمنة معنى استجاب له . ولا حذف وإنما هو مضمن . قوله : ربنا لك الحمد في بعض روايات البخاري بإسقاط الواو . قال ابن دقيق العيد : كأن إثباتها دال على معنى زائد ، لأنه يكون التقدير : ربنا استجب ولك الحمد . فيشتمل على معنى الدعاء ومعنى الخبر . قال شيخ الإسلام : والحمد ضد الذم ، والحمد يكون على محاسن المحمود مع المحبة له . كما أن الذم يكون على مساويه مع البغض له . وكذا قال ابن القيم : وفرق بينه وبين المدح بأن الأخبار عن محاسن الغير إما أن يكون إخبار مجردًا عن حب وإرادة ، أو يكون مقرونًا بحبه وإرادته . فإن كان الأول فهو المدح ، وإن كان الثاني فهو الحمد . فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه . ولهذا كان خبرًا يتضمن الإنشاء بخلاف المدح ، فإنه خبر مجرد . فالقائل إذا قال : الحمد لله أو قال ربنا ولك الحمد تضمن كلامه الخبر عن كل ما يحمد عليه تعالى بإسم جامع محيط متضمن لكل فرد من أفراد الجملة المحققة والمقدرة ، وذلك يستلزم إثبات كل كمال يحمد عليه الرب تعالى ، ولهذا لا تصلح هذه اللفظة على هذا الوجه ولا تنبغي إلا لمن هذا شأنه ، وهو الحميد المجيد . وفيه : التصريح بأن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد ، وهو قول الشافعي وأحمد وخالف في ذلك مالك وأبو حنيفة ، وقالا : يقتصر على سمع الله لمن حمده . قوله : وفي رواية يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام . وذلك لأنهم رؤوس المشركين يوم أحد ، هم وأبو سفيان بن حرب ، فما استجيب له فيهم بل أنزل الله " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم " فتاب عليهم فأسلموا وحسن إسلامهم . وفي كله معنى شهادة أن لا إله إلا الله الذي له الأمر كله ، يهدي من يشاء بفضله ورحمته ، ويضل من يشاء بعدله وحكمته . وفي هذا من الحجج والبراهين ما يبين بطلان ما يعتقده عباد القبور في الأولياء والصالحين . بل في الواغيت من أنهم ينتفعون من دعاهم ، ويمنعون من لاذ بحماهم . فسبحان من حال بينهم وبين فهم الكتاب . وذلك عدله سبحانه ، وهو الذي يحول بين المرء وقلبه ، وبه الحول والقوة . قوله وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله حين أنزل الله عليه ' 26 : 214 ' " وأنذر عشيرتك الأقربين " قال " يا معشر قريش ـ أو كلمة نحوها ـ اشتروا أنفسكم لا أغنى عنكم من الله شيئًا . يا عباس بن عبد المطلب لا أغنى عنك من الله شيئًا . يا صفية عمة رسول الله ، لا أغنى عنك من الله شيئًا . يا فاطمة بنت محمد ، سليني من مالي ما شئت ، لا أغنى عنك من الله شيئًا " . قوله : وفيه أي وفي صحيح البخاري . قوله : عن أبي هريرة اختلف في اسمه . وصحيح النووي أن اسمه عبد الرحمن ابن صخر ، كما رواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة قال : كان اسمي في الجاهلية عبد الرحمن وروى الدولابى بإسناده عن أبي هريرة أن النبي سماه عبد الله وهو دوسي من فضلاء الصحابة وحفاظهم ، حفظ عن النبي أكثر مما حفظه غيره مات سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين ، وهو ابن ثمان وسبعين سنة . قوله : قام رسول الله في الصحيح من رواية ابن عباس صعد رسول الله على الصفا .

" وأنذر عشيرتك الأقربين " قوله : حين أنزل عليه " وأنذر عشيرتك الأقربين " عشيرة الرجل : هم بنو أبيه الأدنون أو قبيلته . لأنهم أحق الناس ببرك وإحسانك الديني والدنيوي ، كما قال تعالى : ' 66 : 5 ' " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة " وقد أمره الله تعالى أيضًا بالنذارة العامة ، كما قال ' 36 : 6 ' " لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم فهم غافلون " '14 : 44 ) " وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب " . قوله : يا معشر قريش المعشر الجماعة . قوله : أو كلمة نحوها هو بنصب كلمة عطف على ما قبله . قوله : اشتروا أنفسكم أي بتوحيد الله وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له وطاعته فيما أمر به والإنتهاء عما نهى عنه . فإن ذلك هو الذي ينجي من عذاب الله لا الاعتماد على الأنساب والأحساب ، فإن ذلك غير نافع عند رب الأرباب . قوله : " ما أغني عنكم من الله من شيء " فيه حجة على من تعلق على الأنبياء والصالحين ، ورغب إليهم ليشفعوا له وينفعوه ، أو يدفعوا عنه ، فإن ذلك هو الشرك الذي حرمه الله تعالى ، وأقام نبيه بالإنذار عنه ، كما أخبر تعالى عن المشركين في قوله ' 39 : 3 ' " والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " ' 10 : 18 ' " هؤلاء شفعاؤنا عند الله " فأبطل الله ذلك ونزه نفسه عن هذا الشرك ، وسيأتي تقرير هذا المقام إن شاء الله تعالى . وفي صحيح البخاري يا بني عبد مناف لا أغنى عنكم من الله شيئًا . قوله : يا عباس بن عبد المطلب بنصب بن ويجوز في عباس الرفع النصب . وكذا في قوله يا صفية عمة رسول الله ، ويا فاطمة بنت محمد . قوله : سليني من مالي ما شئت بين رسول الله أنه لا ينجي من عذاب الله إلا الإيمان والعمل الصالح . وفيه : أنه لا يجوز أن يسأل العبد إلا ما يقدر عليه من أمور الدنيا . وأما الرحمة والمغفرة والجنة والنجاة من النار ونحو ذلك من كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، فلا يجوز أن يطلب إلا منه تعالى ، فإن ما عند الله لا ينال إلا بتجريد التوحيد ، والإخلاص له بما شرعه ورضيه لعباده أن يتقربوا إليه به ، فإذا كان لا ينفع بنته ولا عمه ولا عمته ولا قرابته إلا ذلك ، فغيرهم أولى وأحرى . وفي قصة عمه أبي طالب معتبر . فانظر إلى الواقع الآن من كثير من الناس الالتجاء إلى الأموات والتوجه إليهم بالرغبات والرهبات ، وهم عاجزون لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا ، فضلًا عن غيرهم _ يتبين لك أنهم ليسو على شئ ' 7 : 30 ' " إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون " أظهر لهم الشيطان الشرك في قالب محبة الصالحين ، وكل صالح يبرأ إلى الله من هذا الشرك في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد . ولا ريب أن محبة الصالحين إنما تحصل بموافقتهم في الدين ، ومتابعتهم في طاعة رب العالمين ، لا باتخاذهم أندادًا من دون الله يحبونهم كحب الله إشراكًا بالله ، وعبادة لغير الله ، وعداوة لله ورسوله والصالحين من عباده ، كما قال تعالى : ' 5 : 116 ، 117 ' " وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد " . قال العلامة ابن القيم رحمه الله في هذه الآية بعد كلام سبق : ثم نفى أن يكون قال لهم غير ما أمر به وهو محض التوحيد فقال " ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم " ثم أخبر أن شهادته عليهم مدة مقامه فيهم ، وأنه بعد الوفاة لا إطلاع له عليهم ، وأن الله عز وجل المنفرد بعد الوفاة بالاطلاع عليهم فقال " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد " وصف الله سبحانه بأن شهادته فوق كل شهادة وأعم ا هـ . قلت : ففي هذا بيان أن المشركين خالفوا ما أمر الله به رسله من توحيده الذي هو دينهم الذي اتفقوا عليه ، ودعوا الناس إليه ، وفارقوا فيه إلا من آمن ، فكيف يقال لمن دان بدينهم ، وأطاعهم فيما أمروا به من إخلاص العبادة لله وحده : إنه قد تنقصهم بهذا التوحيد الذي أطاع به ربه ، واتبع فيه رسله عليهم السلام ، ونزه به ربه عن الشرك الذي هو هضم للربوبية . وتنقص للإلهية وسوء ظن برب العالمين ؟ . والمشركون هم أعداء الرسل وخصماؤهم في الدنيا والآخرة ، وقد شرعوا لأتباعهم أن يتبرأوا من كل مشرك ويكفروا به ، ويبغضوه ويعادوه في ربهم ومعبودهم ' 6 : 109 ' " قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين " .

باب قول الله " حتى إذا فزع عن قلوبهم " قوله : باب قول الله تعالى ' 34 : 23 ' " حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير " . قوله : " حتى إذا فزع عن قلوبهم " أي زال الفزع عنها . قاله ابن عباس وابن عمر وأبو عبد الرحمن السلمى والشعبي والحسن وغيرهم . وقال ابن جرير : قال بعضهم : الذين فزع عن قلوبهم : الملائكة قالوا : وإنما فزع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماعهم كلام الله بالوحي وقال ابن عطية : في الكلام حذف ما يدل عليه الظاهر . كأنه قال : ولا هم شفعاء كما تزعمون أنتم ، بل هم عبدة مسلمون لله أبدًا ، يعني منقادون ، حتى إذا فزع عن قلوبهم . والمراد الملائكة على ما اختاره ابن جرير وغيره . قال ابن كثير : وهو الحق الذي لا مرية فيه ، لصحة الأحاديث فيه والآثار . وقال أبو حيان : تظاهرت الأحاديث عن رسول الله أن قوله : " حتى إذا فزع عن قلوبهم " إنما هي الملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل يأمره الله به سمعت كجر سلسلة الحديد على الصفوان ، فتفزع عند ذلك تعظيمًا وهيبة . قال : وبهذا المعنى ـ من ذكر الملائكة في صدر الآية ـ تتسق هذه الآية على الأولى ، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله : " الذين زعمتم " لم تتصل له هذه الآية بما قبلها . قوله : " قالوا ماذا قال ربكم ؟ " ولم يقولوا ماذا خلق ربنا ؟ ولو كان كلام الله مخلوقًا لقالوا : ماذا خلق ؟ ؟ انتهى من شرح سنن ابن ماجة . ومثله الحديث ماذا قال ربنا يا جبريل وأمثال هذا في الكتاب والسنة كثير . قوله : " قالوا الحق " أي قال الله الحق . وذلك لأنهم إذا سمعوا كلام الله صعقوا ثم إذا أفاقوا أخذوا يسألون ، فيقولون : ماذا قال ربكم ؟ فيقولون : قال الحق . قوله : " وهو العلي الكبير " علو القدر وعلو القهر وعلو الذات ، فله العلو الكامل من جميع الوجوه ، كما قال عبدالله بن المبارك ـ لما قيل له : بما نعرف ربنا ؟ قال بأنه على عرشه بائن من خلقه تمسكًا منه بالقرآن لقوله تعالى : '20 : 5 ' " الرحمن على العرش استوى " ' 25 : 59 ' " ثم استوى على العرش الرحمن " في سبعة مواضع من القرآن ' 7 : 53 و 14 : 2 و 32 : 4 و 57 : 4 ' . قوله : الكبير أي الذي لا أكبر منه ولا أعظم منه تبارك وتعالى . قوله : في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ، ينفذهم ذلك ، حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير ، فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض . وصفة سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه ـ فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى أن تحته ، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل من يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كذبة ، فيقال : أليس قد قال لنا اليوم كذا وكذا : وكذا و كذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء " . قوله : في الصحيح أي صحيح البخاري .

حديث أبي هريرة : إذا قضى الله الأمر في السماء إلخ قوله : إذا قضي الله الأمر في السماء أي إذا تكلم الله بالأمر الذي يوحيه إلى جبريل بما أراد ، كما صرح به في الحديث الآتي، وكما روى سعيد بن منصور وأبو داود وابن جرير عن ابن مسعود " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصة كجر السلسلة على الصفوان " . وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : لما أوحي الجبار إلى محمد دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي ، فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي . فما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله . فقالوا : الحق . وعلموا أن الله لا يقول إلا حقًا . قوله : ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله أي لقول الله تعالى . قال الحافظ : خضعانًا بفتحتين من الخضوع . وفي رواية بضم أوله وسكون ثانيه . وهو مصدر بمعنى خاضعين . قوله : كأنه سلسلة على صفوان أي كأن الصوت المسموع سلسلة على صفوان وهو الحجر الأملس . قوله : ينفذهم ذلك هو بفتح التحتية وسكون النون وضم الفاء والذال المعجمة ذلك أي القول ، والضمير في ينفذهم للملائكة، أي ينفذ ذلك القول الملائكة أي يخلص ذلك القول ويمضي فيهم حتى يفزعوا منه . وعند ابن مردويه من حديث ابن عباس فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا وعند أبي داود وغيره مرفوعًا "إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء الدنيا صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون ، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل " الحديث . قوله : حتى إذا فزع عن قلوبهم تقدم معناه . قوله : قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق أي قالوا : قال الله الحق ، علموا أن الله لا يقول إلا الحق . قوله : فيسمعها مسترق السمع أي يسمع الكلمة التي قضاها الله ، وهم الشياطين يركب بعضهم بعضًا . وفي صحيح البخاري عن عائشة مرفوعًا : " إن الملائكة تنزل في العنان ـ وهو السحاب ـ فتذكر الأمر قضى في السماء ، فتسترق الشياطين السمع ، فتوجه إلى الكهان" . قوله : ومسترق السمع هكذا وصفه سفيان بكفه أي وصف ركوب بعضهم فوق بعض . وسفيان هو ابن عيينة أبو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي ، ثقة حافظ ، فقيه ، إمام حجة ، مات سنة ثمان وتسعين ومائة وله إحدى وتسعون سنة . قوله : فحرفها بحاء مهملة وراء مشددة وفاء . قوله : وبدد أي فرق بين أصابعه . قوله : فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته أي يسمع الفوقاني الكلمة فيلقيها إلى آخر تحته ، ثم يلقيها إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن . قوله : فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها الشهاب هو النجم الذي يرمي به ، أي ربما أدرك الشهاب المسترق ، وهذا يدل على أن الرمي بالشهب قبل المبعث . لما روى أحمد وغيره ـ والسياق له في المسند من طريق معمر ـ : أنبأنا الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس قال كان رسول الله جالسًا في نفر من أصحابه ـ قال عبد الرزاق : من الأنصار ـ قال : فرمى بنجم عظيم ، فاستنار ، قال : ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية ؟ قال : كنا نقول : لعله يولد عظيم أو يموت ، قلت للزهري : أكان يرمى بها في الجاهلية ؟ قال نعم ، ولكن غلظت حين بعث النبي قال : فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ، ولكن ربنا تبارك اسمه إذا قضى أمرًا سبح حملة العرش ، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ، حتى يبلغ التسبيح هذه السماء الدنيا . ثم يستخبر أهل السماء الذين يلون حملة العرش ، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش : ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم ، ويخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء ، وتخطف الجن السمع فيرمون ، فما جاءوا به على وجهه فهو حق ، ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون . قال عبد الله : قال أبي : قال عبد الرزاق ويخطف الجن ويرمون وفي رواية له لكنهم يزيدون فيه ويقرفون وينقصون . قوله : فيكذب معها مائة كذبة أي الكاهن أو الساحر . و كذبة بفتح الكاف وسكون الذال المعجمة . قوله : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا : وكذا وكذا ؟ هكذا في نسخة بخط المصنف ، وكالذي في صحيح البخاري سواء . قال المصنف : وفيه قبول النفوس للباطل ، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة كذبة ؟ . وفيه : أن الشئ إذا كان فيه شئ من الحق فلا يدل على أنه حق كله ، فكثيرًا ما يلبس أهل الضلال الحق بالباطل ليكون أقبل لباطلهم ، قال تعالى : ' 2 : 42 ' "ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون " . وفي هذه الأحاديث وما بعدها وما في معناها : إثبات علو الله تعالى على خلقه على ما يليق بجلاله وعظمته ، وأنه تعالى لم يزل متكلمًا إذا شاء بكلام يسمعه الملائكة ، وهذا قول أهل السنة قاطبة سلفًا وخلفًا . خلافًا للأشاعرة والجهمية ، ونفاة المعتزلة . فإياك أن تلتفت إلى مازخرفه أهل التعطيل ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .

حديث إذا أراد الله أن يوحي يوحي بالأمر إلخ قوله : وعن النواس بن سمعان قال : قال رسول الله " إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة ـ أو قال رعدة ـ شديدة خوفًا من الله عز وجل . فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدًا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل ، فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، ثم يمر جبريل على الملائكة ، كلما مر بسماء سأله ملائكتها : ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول جبريل : قال الحق ، وهو العلي الكبير . فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل ، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل" . هذا الحديث رواه ابن أبي حاتم بسنده كما ذكره العماد ابن كثير في تفسيره . النواس بن سمعان ، بكسر السين ، بن خالد الكلابي ، ويقال : الأنصاري صحابي . ويقال : إن أباه صحابي أيضًا . قوله : إذا أراد الله أن يوحي بالأمر إلى آخره . فيه النص على أن الله تعالى يتكلم بالوحي . وهذا من حجة أهل السنة على النفاة : لم يزل الله متكلمًا إذا شاء . قوله : أخذت السموات منه رجفة السموات مفعول مقدم ، والفاعل رجفة أي أصاب السموات من كلامه تعالى رجفة ، أي ارتجفت . وهو صريح في أنها تسمع كلامه تعالى ، كما روى ابن أبي حاتم عن عكرمة . قال إذا قضى الله أمرًا تكلم تبارك وتعالى رجفت السموات والأرض والجبال ، وخرت الملائكة كلهم سجدًا . قوله : أو قال رعدة شديدة شك من الراوي . هل قال النبي رجفة ، أو قال رعدة . والراء مفتوحة فيهما . قوله : خوفًا من الله عز وجل وهذا ظاهر في أن السموات تخاف الله ، بما يجعل تعالى فيها من الإحساس ومعرفة من خلقها . وقد أخبر تعالى أن هذه المخلوقات العظيمة تسبحه كما قال تعالى : ' 17 : 44 ' " تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا " وقال تعالى : ' 19 : 90 ' " تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًا " وقال تعالى : ' 2 : 74 ' " وإن منها لما يهبط من خشية الله " وقد قرر العلامة ابن القيم رحمه الله أن هذه المخلوقات تسبح الله وتخشاه حقيقة ، مستدلًا بهذه الآيات وما في معناها . وفي البخاري عن ابن مسعود قال كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل وفي حديث أبي ذر " أن النبي أخذ في يده حصيات ، فسمع لهن تسبيح ..." الحديث وفي الصحيح قصة حنين الجذع الذي كان يخطب عليه النبي قبل اتخاذ المنبر . ومثل هذا كثير . قوله : صعقوا وخروا لله سجدًا الصعوق هو الغشي ، ومعه السجود . قوله : فيكون أول من يرفع رأسه جبريل بنصب أول خبر يكون مقدم على اسمها . ويجوز العكس . ومعنى جبريل : عبد الله، كما روى ابن جرير وغيره عن على ابن الحسين قال : كان اسم جبريل : عبد الله ، واسم ميكائيل عبيد الله ، وإسرافيل عبد الرحمن . وكل شئ رجع إلى ايل فهو معبد لله عز وجل . وفيه فضيلة جبريل عليه السلام . كما قال تعالى : ' 81 : 19 - 21 ' " إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين " . قال ابن كثير رحمه الله تعالى : إن هذا القرآن لتبليغ رسول كريم . وقال أبو صالح في الآية جبريل يدخل في سبعين حجابًا من نور بغير إذن . ولأحمد بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال رأى رسول الله جبريل في صورته وله ستمائة جناح ، كل جناح منها قد سد الأفق ، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم فإذا كان هذا عظم هذه ـ المخلوقات فخالفها أعظم وأجل وأكبر . فكيف يسوى به غيره في العبادة : دعاء وخوفًا ورجاء وتوكلًا وغير ذلك من العبادات التي لا يستحقها غيره ؟ فانظر إلى حال الملائكة وشدة خوفهم من الله تعالى ، وقد قال تعالى : ' 21 : 26 _ 29 ' " بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون * ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين " . قوله : ثم ينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل من السماء والأرض وهذا تمام الحديث . والآيات المذكورة في هذا الباب والأحاديث تقرر التوحيد الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن الملك العظيم الذي تصعق الأملاك من كلامه خوفًا منه ومهابة وترجف منه المخلوقات ، الكامل في ذاته وصفاته ، وعلمه وقدرته وملكه وعزه ، وغناه عن جميع خلقه ، وافتقارهم جميعًا إليه ، ونفوذ تصرفه وقدره فيهم لعلمه وحكمته ، لا يجوز شرعًا ولا عقلًا أن يجعل له شريك من خلقه في عبادته التي هي حقه عليهم ، فكيف يجعل المربوب ربًا ، والعبد معبودًا ؟ أين ذهبت عقول المشركين ؟ سبحان الله عما يشركون . وقال تعالى : ' 19 : 93 ، 94 ' " إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدًا " من أولهم إلى آخرهم تزجرهم عن ذلك الشرك وتنهاهم عن عبادة ما سوى الله . انتهى من شرح سنن ابن ماجه .

باب الشفاعة قوله : ( باب الشفاعة ) أي بيان ما أثبته القرآن منها وما نفاه . وحقيقة ما دل القرآن على إثباته . قوله : وقول الله عز وجل : ' 6 : 51 ' " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا " المخافة والتحذير منها . قوله : به قال ابن عباس بالقرآن " الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم " وهم المؤمنون وعن الفضيل بن عياض ليس كل خلقه عاتب ، إنما عاتب الذين يعقلون ، فقال : " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم " وهم المؤمنون أصحاب العقول الواعية . قوله : " ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع " قال الزجاج : موضع ليس نصب على الحال ، كأنه قال : متخلين من كل ولي وشفيع . والعامل فيه يخافون . قوله : لعلهم يتقون أي فيعملون في هذه الدار عملًا ينجيهم الله به من عذاب يوم القيامة . وقوله : ' 39 : 44 ' " قل لله الشفاعة جميعًا " وقبلها " أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون " وهذه كقوله تعالى : ' 10 : 18 ' " ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون " فبين تعالى في هذه الآيات وأمثالها أن وقوع الشفاعة على هذا الوجه منتف وممتنع ، وأن اتخاذهم شفعاء شرك ، يتنزه الرب تعالى عنه . وقد قال تعالى : ' 46 : 28 ' " فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانًا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون " فبين تعالى أن دعواهم أنهم يشفعون لهم بتأليههم . إن ذلك منهم إفك وافتراء . وقوله تعالى : " قل لله الشفاعة جميعًا " أي هو مالكها ، فليس لمن تطلب منه شئ منها ، وإنما تطلب ممن يملكها دون كل من سواه ، لأن ذلك عبادة وتأليه لا يصلح إلى لله . قال البيضاوي : لعله رد لما عسى أن يجيبوا به ، وهو أن الشفعاء أشخاص مقربون . وقوله تعالى : " له ملك السموات والأرض " تقرير لبطلان اتخاذ الشفعاء من دونه ، لأنه مالك الملك، فاندرج في ذلك ملك الشفاعة، فإذا كان هو مالكها بطل أن تطلب ممن لا يملكها ' 2 : 255 ' " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " ' 21 : 28 ' " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " . قال 'ابن جرير ' : نزلت لما قال الكفار : ما نعبد أوثاننا هذه إلى ليقربونا إلى الله زلفى قال الله تعالى : " له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون " . قال : وقوله ' 2 : 255 ' " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " قد تبين مما تقدم من الآيات أن الشفاعة التي نفاها القرآن هي التي تطلب من غير الله . وفي هذه الآية بيان أن الشفاعة إنما تقع في الدار الآخرة بإذنه ، كما قال تعالى : ' 20 : 109 ' " يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا " فبين أنه لا تقع لأحد إلا بشرطين : إذن الرب تعالى للشافع أن يشفع ، ورضاه عن المأذون بالشفاعة فيه ، وهو تعالى لا يرضى من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة إلا ما أريد به وجهه ، ولقى العبد به ربه مخلصًا غير شاك في ذلك ، كما دل على ذلك الحديث الصحيح . وسيأتي ذلك مقررًا أيضًا في كلام شيخ الإسلام رحمه الله . وقوله : ' 53 : 26 ' " وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئًا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى " قال ابن كثير رحمه الله " وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئًا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى " كقوله " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " " ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له " فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين ، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأنداد عند الله ، وهو لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها ، بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله ، وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه ؟ قال : ( وقوله تعالى : '34 : 22 ، 23 ' " قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له " .

قول ابن القيم رحمه الله في الشفاعة قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على هذه الآيات : وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها . فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له من النفع ، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريد عابده منه، فإن لم يكن مالكًا كان شريكًا للمالك ، فإن لم يكن شريكًا له كان معينًا له وظهيرًا ، فإن لم يكن معنيًا ولا ظهيرًا كان شفيعًا عنده . فنفى الله سبحانه المراتب الأربع نفيًا مرتبًا ، متنقلًا من الأعلى إلى الأدنى ، فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك ، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك ، وهي الشفاعة بإذنه . فكفى بهذه الآية نورًا وبرهانًا وتجريدًا للتوحيد ، وقطعًا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها . والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها ، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له ، ويظنونها في نوع وقوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثًا ، فهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن . ولعمر الله ، إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم ، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك . ثم قال : ومن أنواعه ـ أي الشرك ـ طلب الحوائج من الموتى والإستغاثة بهم ، وهذا أصل شرك العالم . فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا ، فضلًا عمن استغاث به وسأله أن يشفع له إلى الله . وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده . فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه ، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سببًا لإذنه ، فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه ، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سببًا لإذنه ، وإنما السبب كمال التوحيد ، فجاء هذا الشرك بسبب يمنع الإذن ، وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها . وهذه حالة كل مشرك ، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ، ومعاداة أهل التوحيد ، ونسبة أهله إلى التنقص بالأموات ، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك ، وأولياءه الموحدين بذمهم وعيبهم ومعاداتهم ، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص ، إذا ظنوا أنهم راضون منهم بهذا ، وأنهم أمروهم به ، وأنهم يوالونهم عليه ، وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان ، وما أكثر المستجيبين لهم ، وما نجى من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله ، وعادى المشركين في الله ، وتقرب بمقتهم إلى الله ، واتخذ الله وحده وليه وإلهه ومعبوده . فجرد حبه لله وخوفه لله ، ورجاءه لله ، وذله لله ، وتوكله على الله ، واستعانته بالله ، والتجاءه إلى الله ، واستغاثته بالله ، وقصده لله ، متبعًا لأمره متطلبًا لمرضاته ، إذا سأل سأل الله ، وإذا استعان استعان بالله ، وإذا عمل عمل لله . فهو لله وبالله ومع الله . انتهى كلامه رحمه الله تعالى . وهذا الذي ذكره هذا الإمام في معنى الآية هو حقيقة دين الإسلام ، كما قال تعالى : ' 4 : 125 ' " ومن أحسن دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفًا واتخذ الله إبراهيم خليلًا " . قوله : قال أبو العباس هذه كنية شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني إمام المسلمين رحمه الله .

نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون ، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه ، أو يكون عونًا لله . فلم يبق إلى الشفاعة . فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب ، كما قال تعالى : '21 : 28 ' " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن ، وأخبر النبي أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده ، لا يبدأ بالشفاعة أولًا . ثم يقال له : ارفع رأسك وقل يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع . وقال له أبو هريرة "من أسعد الناس بشفاعتك ؟ قال : من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه " فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله ، ولا تكون لمن أشرك بالله ، وحقيقتها : أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص ، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود . فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك ، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع ، وقد بين النبي أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص انتهى . من أسعد الناس بشفاعة رسول الله قوله : وقال أبو هريرة إلى آخره . هذا الحديث رواه البخاري والنسائي عن أبي هريرة ورواه أحمد وصححه ابن حبان وفيه " وشفاعتي لمن قال لا إله إلى الله مخلصًا ، يصدق قلبه لسانه ، ولسانه قلبه" وشاهده في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله " لكل نبي دعوة مستجابة ، فتجعل كل نبي دعوته ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة . فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئًا " . وقد ساق المصنف رحمه الله كلام شيخ الإسلام هنا ، فقام مقام الشرح والتفسير لما في هذا الباب من الآيات ، وهو كاف واف بتحقيق مع الإيجاز . والله أعلم . وقد عرف الإخلاص بتعريف حسن فقال : الإخلاص محبة الله وحده وإرادة وجهه . ا هـ . وقال ابن القيم رحمه الله في معنى حديث أبي هريرة : تأمل هذا الحديث كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته تجريد التوحيد ، عكس ما عند المشركين أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم ، فقلب النبي ما في زعمهم الكاذب ، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد ، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع ومن جهل المشرك اعتقاده أن من اتخذه وليًا أو شفيعًا أنه يشفع له وينفعه عند الله ، كما يكون خواص الولاة والملوك تنفع من والاهم ولم يعلموا أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه في الشفاعة ، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضى قوله وعمله ، كما قال في الفصل الأول ' 2 : 255 ' " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " وفي الفصل الثاني ' 21 : 28 ' " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " وبقى فصل ثالث ، وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله . فهذه ثلاثة فصول تقطع شجرة الشرك من قلب من عقلها ووعاها . ا هـ . وذكر أيضًا رحمه الله تعالى أن الشفاعة ستة أنواع : الأول : الشفاعة الكبرى التي يتأخر عنها أولو العزم عليهم الصلاة والسلام حتى تنتهي إليه فيقول : أنا لها وذلك حين يرغب الخلائق إلى الأنبياء ليشفعوا لهم إلى ربهم حتى يريحهم من مقامهم في الموقف . وهذه شفاعة يختص بها لا يشركه فيها أحد . الثاني : شفاعته لأهل الجنة في دخولها . وقد ذكرها أبو هريرة في حديثه الطويل المتفق عليه . الثالث : شفاعته لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار بذنوبهم ، فيشفع لهم أن لا يدخلوها . الرابع : شفاعته في العصاة من أهل التوحيد الذي يدخلون النار بذنوبهم . والأحاديث بها متواترة عن النبي . وقد أجمع عليها الصحابة وأهل السنة قاطبة وبدعوا من أنكرها ، وصاحوا به من كل جانب ونادوا عليه بالضلال . الخامس : شفاعته لقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفعة درجاتهم ، وهذه مما لم ينازع فيها أحد . وكلها مختصة بأهل الإخلاص الذين لم يتخذوا من دون الله وليًا ولا شفيعًا ، كما قال تعالى : ' 6 : 51 ' " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع " . السادس : شفاعته في بعض أهل الكفار من أهل النار حتى يخفف عذابه وهذه خاصة بأبي طالب وحده .

باب إنك لا تهدي من أحببت قوله : باب

قول الله تعالى : ' 28 : 56 ' " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين " . سبب نزول هذه الآية ، موت أبي طالب على ملة عبد المطلب ، كما سيأتي بيان ذلك في حديث الباب . قال ابن كثير رحمه الله تعالى : يقول تعالى لرسوله : إنك يا محمد لا تهدي من أحببت ، أي ليس إليك ذلك ، إنما عليك البلاغ والله يهدي من يشاء . وله الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة ، كما قال تعالى : ' 2 : 272 ' " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء " وقال تعالى : ' 12 : 103 ' " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " . قلت : والمنفى هنا هداية التوفيق والقبول ، فإن أمر ذلك إلى الله ، وهو القادر عليه . وأما الهداية المذكورة في قول الله تعالى: ' 42 : 52 ' " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " فإنها هداية الدلالة والبيان ، فهو المبين عن الله والدال على دينه وشرعه .

حديث ابن المسيب في وفاة أبي طالب وقوله : في الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال : " لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل ، فقال له : يا عم قل لا إله إلى الله ، كلمة أحاج بها عند الله . فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فأعاد عليه النبي ، فأعاد . فكان أخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب . وأبي أن يقول لا إله إلى الله . فقال النبي لأستغفرن لك مالم أنه عنك " . فأنزل الله عز وجل ' 9 : 113 ' " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " وأنزل الله في أبي طالب : " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " . قوله : في الصحيح أي في الصحيحين . وابن المسيب هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمر بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي ، أحد العلماء والفقهاء الكبار السبعة من التابعين. اتفق أهل الحديث على أن مراسيله أصح المراسيل. وقال ابن المديني : لا أعلم في التابعين أوسع علمًا منه . مات بعد التسعين وقد ناهز الثمانين . وأبو المسيب صحابي ، بقى إلى خلافة عثمان رضي الله عنه ، وكذلك جده حزن ، صحابي استشهد باليمامة . قوله : لما حضرت أبا طالب الوفاة أي علاماتها ومقدماتها . قوله : جاء رسول الله يحتمل أن يكون المسيب حضر مع الإثنين فإنهما من بني مخزوم ، وهو أيضًا مخزومي ، وكان الثلاثة إذ ذاك كفارًا ، فقتل أبو جهل على كفره وأسلم الآخران . قوله : يا عم منادي مضاف يجوز فيه إثبات الياء وحذفها ، حذفت الياء هنا ، وبقيت الكسرة دليلًا عليها . قوله : قل لا إله إلا الله أمره أن يقولها لعلم أبي طالب بما دلت عليه من نفى الشرك بالله وإخلاص العبادة له وحده ، فإن من قالها عن علم ويقين فقد برىء من الشرك والمشركين ودخل في الإسلام . لأنهم يعلمون ما دلت عليه ، وفي ذلك الوقت لم يكن بمكة إلا مسلم أو كافر . فلا يقولها إلا من ترك الشرك وبرىء منه . ولما هاجر النبي وأصحابه إلى المدينة كان فيها المسلمون الموحدون والمنافقون الذين يقولونها بألسنتهم وهم يعرفون معناها ، لكن لا يعتقدونها ، لما في قلوبهم من العداوة والشك والريب ، فهم مع المسلمين بظاهر الأعمال دون الباطن ، وفيها اليهود ، وقد أقرهم رسول الله لما هاجر ، ووادعهم بأن لا يظاهروا عليه عدوًا كما هو مذكور في كتب الحديث والسير . قوله : كلمة قال القرطبي : بالنصب على أنه بدل من لا إله إلى الله ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف . قوله : أحاج لك بها عند الله هو بتشديد الجيم من المحاجة ، والمراد بها بيان الحجة بها لو قالها في تلك الحال . وفيه دليل على أن الأعمال بالخواتيم ، لأنه لو قالها في تلك الحال معتقدًا ما دلت عليه مطابقة من النفي والإثبات لنفعته . قوله : فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب ذكراه الحجة الملعونة التي يحتج بها المشركون على المرسلين ، كقول فرعون لموسى : ' 20 : 51 ' " فما بال القرون الأولى " وكقوله تعالى : ' 43 : 23 ' " وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون " . قوله : فأعاد النبي فأعادا فيه معرفتهما لمعنى لا إله إلا الله لأنهما عرفا أن أبا طالب لو قالها لبرىء من ملة عبد المطلب . فإن ملة عبد المطلب هي الشرك بالله في إلهيته . وأما الربوبية فقد أقروا بها كما تقدم . وقد قال عبد المطلب لأبرهة : أنا رب الإبل ، والبيت له رب يمنعه منك وهذه المقالة منهما عند قول النبي لعمه : قل لا إله إلى الله استكبارًا عن العمل بمدلولها . كما قال الله تعالى عنهما وعن أمثالهما من أولئك المشركين : ' 37 : 35 ، 36 ' " إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون * ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون " فرد عليهم بقوله : ' 37 : 37 ' " بل جاء بالحق وصدق المرسلين " فبين تعالى أن استكبارهم عن قوله لا إله إلا الله لدلالتها على نفي عبادتهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله . فإن دلالة هذه الكلمة على نفي ذلك دلالة تضمن ، ودلالتها عليه وعلى الإخلاص دلالة مطابقة . ومن حكمة الرب تعالى في عدم هداية أبي طالب إلى الإسلام ليبين لعباده أن ذلك إليه ، وهو القادر عليه دون من سواه ، فلو كان عند النبي ـ الذي هو أفضل خلقه ـ من هداية القلوب وتفريج الكروب ، ومغفرة الذنوب ، والنجاة من العذاب ، ونحو ذلك شئ ، لكان أحق الناس بذلك وأولاهم به عمه الذي كان يحوطه ويحميه وينصره ويؤويه ، فسبحان من بهرت حكمته العقول ، وأرشد العباد إلى ما يدلهم على معرفته وتوحيده ، وإخلاص العمل له وتجريده . قوله : فكان آخر ما قال الأحسن فيه الرفع على أنه اسم كان وجملة هو وما بعدها الخبر . قوله : هو على ملة عبد المطلب الظاهر أن أبا طالب قال : أنا فغيره الراوى استقباحًا للفظ المذكور ، وهو من التصرفات الحسنة ، قاله الحافظ . قوله : وأبى أن يقول لا إله إلا الله قال الحافظ : هذا تأكيد من الراوى في نفي وقوع ذلك من أبي طالب . قال المصنف رحمه الله : وفيه الرد على من زعم إسلام عبد الطلب وأسلافه ومضرة أصحاب السوء على الإنسان ، ومضرة تعظيم الأسلاف . أي إذا زاد على المشروع ، بحيث تجعل أقوالهم حجة يرجع إليها عند التنازع . قوله : فقال النبي لأستغفرن لك ما لم أنه عنك قال النووي : وفيه جواز الحلف من غير استحلاف . وكان الحلف هنا لتأكيد العزم على الاستغفار تطييبًا لنفس أبي طالب . وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة بقليل . قال ابن فارس : مات أبو طالب ولرسول الله تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يومًا . وتوفيت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بعد موت أبي طالب بثمانية أيام . قوله : " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى " الآية أي ما ينبغي لهم ذلك . وهو خبر بمعنى النهي ، والظاهر أن هذه الآية نزلت في أبي طالب . فإن الإتيان بالفاء المفيدة للترتيب في قوله : فأنزل الله بعد قوله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك يفيد ذلك . وقد ذكر العلماء لنزول الآية الثانية فواضح في قصة أبي طالب . وأما نزول الآية التي قبلها ففيه نظر ، ويظهر أن المراد أن الآية المتعلقة بالإستغفار نزلت بعد أبي طالب بمدة ، وهي عامة في حقه وحق غيره ، ويوضح ذلك ما يأتي في التفسير ، فأنزل الله بعد ذلك : " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " الآية . ونزل في أبي طالب : " إنك لا تهدي من أحببت " كله ظاهر في أنه مات على غير الإسلام . ويضعف ما ذكره السهيلي أنه روى في بعض كتب 'المسعودى ' أنه أسلم ، لأن مثل ذلك لا يعارض ما في الصحيح . انتهى . وفيه تحريم الإستغفار للمشركين وموالاتهم ومحبتهم ، لأنه إذا حرم الاستغفار لهم فموالتهم ومحبتهم أولى .

باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم إلخ قوله : باب ( ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينم هو الغلو في الصالحين ) قوله : تركهم بالجر عطفًا على المضاف إليه . وأراد المصنف رحمه الله تعالى بيان ما يؤول إله الغلو في الصالحين من الشرك بالله في الإلهية الذي هو أعظم ذنب عصى الله به ، وهو ينافي التوحيد الذي دلت عليه كلمة الإخلاص : شهادة أن لا إله إلى الله . قوله وقول الله عز وجل ' 4 : 171 ' " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه " الغلو هو الإفراط في التعظيم بالقول والاعتقاد ، أي لا ترفعوا المخلوق عن منزلته التي أنزله الله فتنزلوه المنزلة التي لا تنبغي إلا لله . والخطاب ـ وإن كان لأهل الكتاب ـ فإنه عام يتناول جميع الأمة ، تحذيرًا لهم أن يفعلوا بنبيهم فعل النصارى في عيسى ، واليهود في العزير كما قال تعالى : ' 57 : 16 ' " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون " ولهذا قال النبي " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم " ويأتي . فكل من دعا نبيًا أو وليًا من دون الله فقد اتخذ إلهًا ، وضاهأ النصارى في شركهم ، وضاهأ اليهود في تفريطهم . فإن النصارى غلوا في عيسى عليه السلام ، واليهود عادوه وسبوه وتنقصوه . فالنصارى أفرطوا ، واليهود فرطوا . وقال تعالى : ' 5 : 57 ' " ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام " ففي هذه الآية وأمثالها الرد على اليهود والنصارى . قال شيخ الإسلام رحمه الله : ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى ، وغلا في الدين فإفراط فيه أو تفريط فقد شابههم. قال: وعلى رضى الله عنه حرق الغالية من الرافضة ، فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة فقذفهم فيها . واتفق الصحابة على قتلهم. لكن ابن عباس مذهبه أن يقتلوا بالسفق من غير تحريق . وهو قول أكثر العلماء .

معنى " وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا " إلخ قوله في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى ' 71 : 23 ' " وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا " قال : هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم : أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم ، ففعلوا ، ولم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك ونسى العلم عبدت قوله وفي الصحيح أي صحيح البخاري . وهذا الأثر اختصره المصنف . ولفظ ما في البخاري : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد . أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل . وأما سواع فكانت لهذيل . وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبنى غطيف بالجرف عند سبأ . وأما يعوق فكانت لهمدان . وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع : أسماء رجال صالحين في قوم نوح ... إلى آخره . وروى عكرمة والضحاك وابن إسحاق نحو هذا . قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد قال حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد ابن قيس أن يغوث ويعوق ونسرًا كانوا قومًا صالحين من بني آدم ، وكان لهم أتباع يقتدون بهم . فلما ماتوا قال أصحابهم : لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة ، فصوروهم ، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال : إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر . فعبدوهم . قوله : أن انصبوا هو بكسر الصاد المهملة . قوله : أنصابًا جمع نصب ، والمراد به هنا الأصنام المصورة على صور أولئك الصالحين التي نصبوها في مجالسهم ، وسموها بأسمائهم . وفي سياق حديث ابن عباس ما يدل على أن الأصنام تسمى أوثانًا . فاسم الوثن يتناول كل معبود من دون الله ، سواء كان ذلك المعبود قبرًا أو مشهدًا ، أو صورة أو غير ذلك . قوله : حتى إذا هلك أولئك أي الذين صوروا تلك الأصنام . قوله : ونسى العلم ورواية البخاري وينسخ وللكشميهني ونسخ العلم أي درست آثاره بذهاب العلماء ، وعم الجهل حتى صاروا لا يميزون بين التوحيد والشرك فوقعوا في الشرك ظنًا منهم أنه ينفعهم عند الله . قوله : عبدت لما قال لهم إبليس : إن من كان قبلكم كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر ، هو الذي زين لهم عبادة الأصنام وأمرهم بها ، فصار هو معبودهم في الحقيقة . كما قال تعالى : ' 36 : 60 ـ 62 ' " ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم * ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون " وهذا يفيد الحذر من الغلو ووسائل الشرك ، وإن كان القصد بها حسنًا . فإن الشيطان أدخل أولئك في الشرك من باب الغلو في الصالحين والإفراط في محبتهم ، كما قد وقع مثل ذلك في هذه الأمة : أظهر لهم الغلو والبدع في قالب تعظيم الصالحين ومحبتهم ، ليوقعهم فيما هو أعظم من ذلك ، من عبادتهم لهم من دون الله وفي رواية أنهم قالوا : ما عظم أولنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله أي يرجون شفاعة أولئك الUالحين الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم وسموها بأسمائهم . ومن هنا يعلم أن اتخاذ الشفعاء ورجاء شفائهم بطلبها منهم : شرك بالله ، كما تقدم بيانه في الآيات المحكمات .

قال ابن القيم لما ماتوا عكفوا على قبورهم قوله : وقال ابن القيم رحمه الله : قال غير واحد من السلف : لما ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم ، ثم طال عليهم الأمد فعبدوا . قوله : وقال ابن القيم رحمه الله هو الإمام العلامة محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بابن قيم الجوزية . قال الحافظ السخاوي : العلامة الحجة المتقدم في سعة العلم ومعرفة الخلاف وقوة الجنان ، المجمع عليه بين الموافق والمخالف ، صاحب التصانيف السائرة والمحاسن الجمة . مات سنة إحدى وخمسين وسبعمائة . قوله : وقال غير واحد من السلف هو بمعنى ما ذكره البخاري وابن جرير إلا أنه ذكر عكوفهم على قبورهم قبل تصويرهم تماثيلهم . وذلك من وسائل الشرك بل هو الشرك ، لأن العكوف لله في المساجد عبادة . فإذا عكفوا على القبور صار عكوفهم تعظيمًا ومحبة : عبادة لها . قوله : ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم أي طال عليهم الزمان . وسبب تلك العبادة والموصل إليها هو ما جرى من الأولين من التعظيم بالعكوف على قبورهم ، ونصب صورهم في مجالسهم ، فصارت بذلك أوثانًا تعبد من دون الله ، كما ترجم به المصنف رحمه الله تعالى . فإنهم تركوا بذلك دين الإسلام الذي كان أولئك عليه قبل حدوث وسائل هذا الشرك ، وكفروا بعبادة تلك الصور واتخذوهم شفعاء . وهذا أول شرك حدث في الأرض . قال القرطبي : وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بهم ويتذكروا أفعالهم الصالحة ، فيجتهدوا كاجتهادهم ، ويعبدوا الله عند قبورهم . ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم ، فوسوس لهم الشيطان أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها ا هـ . قال ابن القيم رحمه الله : وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور ويلقى إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين ، وأن الدعاء عندها مستجاب ، ثم ينقلها من هذه المرتبة إلى الدعاء بها ، والإقسام على الله بها ، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه . فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائه وعبادته ، وسؤاله الشفاعة من دون الله ، واتخاذ قبره وثنًا تعلق عليه القانديل والستور، ويطاف به ويستلم ويقبل ، ويحج إليه ويذبح عنده ، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته ، واتخاذه عيدًا ومنسكًا ، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم . وكل هذا مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله من تجديد التوحيد ، وأن لا يعبد إلا الله . فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل هذه الرتب العالية وحطهم عن منزلتهم ، وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر ، فغضب المشركون واشمأزت قلوبهم ، كما قال تعالى : ' 39 : 45 ' " وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون " وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام ، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين ، حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم ، ووالوا أهل الشرك وعظموهم ، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبي الله ذلك ' 8 : 34 ' " وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون " . اهـ كلام ابن القيم رحمه الله . وفي القصة فوائد ذكرها المصنف رحمه الله . ومنها : رد الشبه التي يسميها أهل الكلام عقليات ، ويدفعون بها ما جاء به الكتاب والسنة من توحيد الصفات ، وإثباتها على ما يليق بجلال الله وعظمته وكبريائه . ومنها : مضرة التقليد . ومنها : ضرورة الأمة إلى ما جاء به رسول الله علمًا وعملًا بما يدل عليه الكتاب والسنة فإن ضرورة العبد إلى ذلك فوق كل ضرورة . قوله : وعن عمر رضي الله عنه أن رسول الله قال " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم . إنما أعبد عبد ، فقولوا عبد الله ورسوله " أخرجاه . قوله عن عمر هو ابن الخطاب بن نفيل ـ بنون وفاء مصغرًا ـ العدوى أمير المؤمنين وأفضل الصحابة بعد الصديق رضي الله عنهم . ولي الخلافة عشر سنين ونصفا . فامتلأت الدنيا عدلًا ، وفتحت في أيامه ممالك كسرى وقيصر . واستهشد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين رضي الله عنه .

لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى قوله : لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم الإطراء مجاوزة الحد في المدح والكذب عليه . قاله أبو السعادات . وقال غيره : أي لا تمدحوني بالباطل ، ولا تجاوزوا الحد في مدحي . قوله : إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله أي لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام فادعوا فيه الإلهية . وإنما أنا عبد الله ورسوله ، فصفوني بذلك كما وصفني ربي ، فقولوا عبد الله ورسوله ، فأبى المشركون إلا مخالفة أمره وارتكاب نهيه ، وعظموه بما نهاهم عنه وحذرهم منه ، وناقضوه أعظم مناقضة ، وضاهوا النصارى في غلوهم وشركهم ، ووقعوا في المحذور ، وجرى منهم من الغلو والشرك شعرًا ونثرًا ما يطول عده ، وصنفوا فيه مصنفات . وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عن بعض أهل زمانه أنه جوز الاستغاثة بالرسول في كل ما يستغاث فيه بالله ، وصنف في ذلك مصنفًا رده شيخ الإسلام ، ورده موجود بحمد الله . ويقول : إنه يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلهما إلا الله . وذكر لهم أشياء من هذا النمط . نعوذ بالله من عمى البصيرة وقد اشتهر في نظم البوصيري قوله : يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم وما بعده من الأبيات التي مضمونها إخلاص الدعاء واللياذ والرجاء والاعتماد في أضيق الحالات ، وأعظم الاضطرار لغير الله ، فناقضوا الرسول بارتكاب ما نهى عنه أعظم مناقضة ، وشاقوا الله وروسوله أعظم مشاقة ، وذلك أن الشيطان أظهر لهم هذا الشرك العظيم في قالب محبة النبي وتعظيمه ، وأظهر لهم التوحيد والإخلاص الذي بعثه الله به في قالب تنقيصه ، وهؤلاء المشركون هم المتنقصون الناقصون ، أفرطوا في تعظيمه بها نهاهم عنه أشد النهي ، وفرطوا في متابعته ، فلم يعبأوا بأقواله وأفعاله ، ولا رضوا بحكمه ولا سلموا له . وإنما يحصل تعظيم الرسول بتعظيم أمره ونهيه ، والاهتداء بهديه ، واتباع سنته ، والدعوة إلى دينه الذي دعا إليه ونصرته ، وموالاة من عمل به ، ومعاداة من خالفه . فعكس أولئك المشركون ما أراد الله ورسوله علمًا وعملًا ، وارتكبوا ما نهى عنه ورسوله . فالله المستعان .

إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو قوله : وقال رسول الله " إياكم والغلو . فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو " . هذا الحديث ذكره المصنف بدون ذكر راويه . وقد رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عباس . وهذا لفظ رواية أحمد : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله غداة جمع : " هلم القط لي . فلقطت له حصيات هن حصى الحذف . فما وضعهن في يده قال : نعم بأمثال هؤلاء فارموا . وإياكم والغلو في الدين ، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين " . قال شيخ الإسلام : هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال وسبب هذا اللفظ العلم رمي الجمار ، وهو داخل فيه ، مثل الرمي بالحجارة الكبار ، بناء على أنه أبلغ من الصغار . ثم علله بما يقتضي مجانبة هدى من كان قبلنا إبعادًا عن الوقوع فيما هلكوا به ، فإن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك . قوله : ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله قال : هلك المتتطعون قالها ثلاثًا . قال الخطابي : المتنطع المتعمق في الشئ ، المتكلف البحث عن علي مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم ، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم . ومن التنطع : الامتناع من المباح مطلقًا ، كالذي يمتنع من أكل اللحم والخبز ، ومن لبس الكتان والقطن ، ولا يلبس إلا الصوف ، ويمتنع من نكاح النساء ، ويظن أن هذا من الزهد المستحب . قال الشيخ تقي الدين : فهذا جاهل ضال ، انتهى . وقال ابن القيم رحمه الله : قال الغزالي : والمتنطعون في البحث والاستقصاء . وقال أبو السعادات : هم المتعمقون الغالون في الكلام ، المتكلمون بأقصى حلوقهم . مأخوذ من النطع ، وهو الغار الأعلى من الفم ، ثم استعمل في كل متعمق قولًا وفعلًا . وقال النووي : فيه كراهة التقعر في الكلام بالتشدق وتكلف الفصاحة ، واستعمال وحشى اللغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم . قوله : قالها ثلاثًا أي قال هذه الكلمة ثلاث مرات ، مبالغة في التعليم والإبلاغ ، فقد بلغ البلاغ المبين . صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .

التغليظ على من عبد الله عند قبر صلاح قوله : باب ( ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح ، فكيف إذا عبده ؟ ) أي الرجل الصالح ، فإن عبادته هي الشرك الأكبر ، وعبادة الله عنده وسيلة إلى عبادته ، ووسائل الشرك محرمة . لأنها تؤدي إلى الشرك الأكبر وهو أعظم الذنوب .

حديث أم سلمة في كنسية الحبشة قوله : في الصحيح : عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور . فقال : " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح ، بنوا على قبره مسجدًا ، وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله " فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين : فتنة القبور وفتنة التماثيل . قوله : في الصحيح أي الصحيحين . قوله : أن أم سلمة هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية . تزوجها رسول الله بعد أبي سلمة سنة أربع ، وقيل : ثلاث ، وكانت قد هاجرت مع أبي سلمة إلى الحبشة ماتت سنة اثنتين وستين . قوله : ذكرت لرسول الله وفي الصحيحين أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا ذلك لرسول الله و الكنسية بفتح الكاف وكسر النون : معبد النصارى . قوله : أولئك بكسر الكاف خطاب للمرأة . قوله : إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح هذا ـ والله أعلم ـ شك من بعض رواة الحديث : هل قال النبي هذا أو هذا ؟ ففيه التحري في الرواية . وجواز الرواية بالمعنى . قوله : وصوروا فيه تلك الصور الإشارة إلى ما ذكرت أم سلمة وأم حبيبة من التصاوير التي في الكنسية . قوله : أولئك شرار الخلق عند الله وهذا يقتضى تحريم بناء المساجد على القبور ، وقد لعن من فعل ذلك كما سيأتي . قال البيضاوي  : لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيمًا لشأنهم ، ويجعلنها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها واتخذوها أوثانًا لعنهم النبي . قال القرطبي : وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بها ويتذكروا أعمالهم الصالحة ، فيجتهدوا كاجتهادهم ، ويعبدوا الله عند قبورهم ، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها . فحذر النبي عن مثل ذلك ، سدًا للذريعة المؤدية إلى ذلك . قوله : فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين : فتنة القبور وفتنة التماثيل هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ، ذكره المصنف رحمه الله تنبيهًا على ما وقع من شدة الفتنة بالقبور والتماثيل فإن فتنة بالقبور كالفتنة بالأصنام أو أشد . قال شيخ الإسلام رحمه الله : وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور لأنها هي التي أوقعت كثيرًا من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك . فإن النفوس قد أشركت بتماثيل الصالحين ، وتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب ونحو ذلك . فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر . ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون عندها ، ويخشعون ويخضعون ، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر ، ومنهم من يسجد لها ، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد ، فلأجل هذه المفسدة حسم النبي مادتها . حتى نهي عن الصلاة في المقبرة مطلقًا ، وإن لم يقصد المصلى بركة البقعة بصلاته ، كما يقصد بصلاته بركة المساجد ، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها ، لأنها أوقات يقصد فيها المشركون الصلاة للشمس ، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ما قصده المشركون ، سدًا للذريعة . وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركًا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ولرسوله ، والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن به الله ، فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين الرسول  : أن الصلاة عند القبور منهى عنها ، وأنه لعن من اتخذها مساجد ، فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك : الصلاة عندها واتخاذها مساجد ، وبناء المساجد عليها . وقد تواترت النصوص عن النبي بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه . وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة . وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك . وطائفة أطلقت الكراهة والذي ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم ، إحسانًا للظن بالعلماء ، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله لعن فاعله والنهي عنه . ا هـ كلامه رحمه الله تعالى .

حديث عائشة : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد قوله : ولهما عنها ـ أي عن عائشة رضي الله عنها ـ قالت : " لما نزل برسول الله طفق يطرح خميصة له على وجهه ، فإذا اغتم بها كشفها فقال ـ وهو كذلك ـ : لعن الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، يحذر ما صنعوا . ولولا ذلك أبرز قبره ، غير أنه خشى أن يتخذ مسجدًا " أخرجاه . قوله : ولهما أي البخاري ومسلم . وهو يغنى عن قوله في آخره أخرجاه . قوله : لما نزل هو بضم النون وكسر الزاي . أي نزل به ملك الموت والملائكة الكرام عليهم السلام . قوله : طفق بكسر الفاء وفتحها ، والكسر أفصح . وبه جاء القرآن ، ومعناه جعل . قوله : خميصة بفتح المعجمة والصاد المهملة . كساء له أعلام . قوله : فإذا اغتم بها كشفها أي عن وجهه . قوله : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يبين أن من فعل مثل ذلك حل عليه من اللعنة ما حل على اليهود والنصارى . قوله : يحذر ما صنعوا الظاهر أن هذا كلام عائشة رضي الله عنها لأنها فهمت من قول النبي ذلك تحذير أمته من هذا الصنيع الذي كانت تفعله اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم ، فإنه من الغلو في الأنبياء ، ومن أعظم الوسائل إلى الشرك . ومن غربة الإسلام أن هذا الذي لعن رسول الله فاعليه ـ تحذيرًا لأمته أن يفعلوه معه ومع الصالحين من أمته ـ قد فعله الخلق الكثير من متأخري هذه الأمة ، واعتقدوه قربة من القربات ، وهو من أعظم السيئات والمنكرات ، وما شعروا أن ذلك محادة لله ورسوله . قال القرطبي في معنى الحديث : وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام . انتهى . إذ لا فرق بين عبادة القبر ومن فيه وعبادة الصنم ، وتأمل قول الله تعالى عن نبيه يوسف ابن يعقوب حيث قال : ' 12 : 28 ' " واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء " نكرة في سياق النفي تعم كل شرك . قوله : ولولا ذلك أي ما كان يحذر من اتخاذ قبر النبي مسجدًا لأبرز قبره وجعل مع قبور الصحابة الذين كانت قبورهم في البقيع . قوله : غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا روى بفتح الخاء وضمها ، فعلى الفتح يكون هو الذي خشي ذلك ، وأمرهم أن يدفنوه في المكان الذي قبض فيه . وعلى رواية الضم يحتمل أن يكون الصحابة هم الذين خافوا أن يقع ذلك من بعض الأمة ، فلم يبرزوا قبره ، خشية أن يقع ذلك من بعض الأمة غلوًا وتعظيمًا بما أبدى وأعاد من النهي والتحذير منه ولعن فاعله . قال القرطبي : ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي فأعلوا حيطان تربته وسدوا المداخل إليها ، وجعلوها محدقة بقبره ، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين ، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال حتى لا يمكنوا أحد من استقبال قبره انتهى .

حديث في النهي عن اتخاذ القبور مساجد قوله : ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال : سمعت النبي قبل أن يموت بخمس ، وهو يقول : " إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل . فإن الله قد اتخذني خليلًا ، كما اتخذ إبراهيم خليلًا ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا ، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم عن ذلك " . قوله : عن جندب بن عبد الله أي ابن سفيان البجلي ، وينسب إلى جده ، صحابي مشهور . مات بعد الستين . قوله : أني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل أي أمتنع عما لا يجوز لي أن أفعله . والخلة فوق المحبة والخليل هو المحبوب غاية الحب ، مشتق من الخلة ـ بفتح الخاء ـ وهي تخلل المودة في القلب ، كما قال الشاعر : قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمى الخليل خليلًا هذا هو الصحيح في معناها كما ذكره شيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير وغيرهم رحمهم الله تعالى . قال القرطبي : وإنما كان ذلك لأن قلبه قد امتلأ من محبة الله وتعظيمه ومعرفته فلا يسع خلة غيره . قوله : فإن الله قد اتخذني خليلًا فيه بيان أن الخلة فوق المحبة . قال ابن القيم رحمه الله : وأما ما يظنه بعض الغالطين من أن المحبة أكمل من الخلة ، وأن إبراهيم خليل الله ، ومحمد حبيب الله ـ فمن جهلهم ، فإن المحبة عامة ، والخلة خاصة وهي نهاية المحبة . وقد أخبر النبي أن الله قد اتخذه خليلًا ونفى أن يكون له خليل غير ربه ، مع إخباره بحبه لعائشة ولأبيها ، ولعمر بن الخطاب ، ومعاذ بن جبل وغيرهم رضي الله عنهم . وأيضًا فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب الصابرين ، وخلته خاصة بالخليلين . قوله : ولو كنت متخذًا خليلًا لا تخذت أبا بكر خليلًا فيه بيان أن الصديق أفضل الصحابة . وفيه الرد على الرافضة وعلى الجهمية وهما شر أهل البدع ، وأخرجهم بعض السلف من الثنتين والسبعين فرقة . وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور ، وهم أول من بنى عليها المساجد . قاله المصنف رحمه الله ، وهو كما قال بلا ريب . وفيه إشارة إلى خلافة أبي بكر ، لأن من كانت محبته لشخص أشد كان أولى به من غيره . وقد استخلفه على الصلاة بالناس ، وغضب لما قيل يصلي بهم عمر وذلك في مرضه الذي توفى فيه . واسم أبي بكر : عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة الصديق الأكبر ، خليفة رسول الله وأفضل الصحابة بإجماع من يعتد بقوله من أهل العلم . مات في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة ، وله ثلاث وستون سنة رضي الله عنه . قوله : ألا حرف استفتاح ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ... الحديث قال الخلخالي : وإنكار النبي صنيعهم هذا مخرج على وجهين : أحدهما : أنهم يسجدون لقبور الأنبياء تعظيمًا . الثاني : أنهم يجوزون الصلاة في مدافن الأنبياء والتوجه إليها حالة الصلاة ، نظرًا منهم بذلك إلى عبادة الله والمبالغة في تعظيم الأنبياء . والأول : هو الشرك الجلي . والثاني : الخلفي ، فلذلك استحقوا اللعن . قوله : فقد نهى عنه في آخر حياته أي كما في حديث جندب . وهذا من كلام شيخ الإسلام . وكذا ما بعده . قوله : ثم إنه لعن ، وهو في السياق من فعله كما في حديث عائشة . قلت : فكيف يسوع بعد هذا التغليظ من سيد المرسلين أن تعظم القبور ويبنى عليها ويصلى عندها وإليها ؟ هذا أعظم مشاقة ومحادة لله تعالى ولرسوله لو كانوا يعقلون . قوله : الصلاة عندها من ذلك ، وإن لم يبن مسجد أي من اتخاذها مساجد الملعون فاعله . وهذا يقتضي تحريم الصلاة عند القبور وإليها . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا " الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام " رواه أحمد وأهل السنن وصححه ابن حبان والحاكم . قال ابن القيم رحمه الله : وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه وفهم عن رسول الله مقاصده ، جزم جزمًا لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغته ـ صيغة لا تفعلوا وصيغة أني أنهاكم عن ذلك ـ ليس لأجل النجاسة ، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة لمن عصاه ، وارتكب ما عنه نهاه ، واتبع هواه ، ولم يخش ربه ومولاه ، وقل نصيبه أو عدم من لا إله إلا الله فإن هذا وأمثاله من النبي صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه ، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه ، فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكابًا لنهيه ، وغرهم الشيطان بأن هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين ، وكلما كنتم لها أشد تعظيمًا وأشد فيهم غلوا كنتم بقربهم أسعد ، ومن أعدائهم أبعد ، ولعمر الله ، من هذا الباب دخل الشيطان على عباد يعوق ويغوث ونسرا ، ودخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة ، فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم ، فهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم . قال الشارح رحمه الله تعالى : وممن علل بخوف الفتنة بالشرك : الإمام الشافعي ، وأبو بكر الأثرم ، وأبو محمد المقدسي . وشيخ الإسلام وغيرهم رحمهم الله . وهو الحق الذي لا ريب فيه . قوله : فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدًا أي لما علموا من تشديده في ذلك وتغليظه النهي عنه ، ولعن من فعله. قوله : وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدًا أي وإن لم يبن مسجد ، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدًا ، يعني وإن لم يقصد بذلك ، كما إذا عرض لمن أراد أن يصلي فأوقع الصلاة في ذلك الموضع الذي حانت الصلاة عنده من غير أن يقصد ذلك الموضع بخصوصه ، فصار بفعل الصلاة فيه مسجدًا . قوله : كما قال " جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا " أي فسمى الأرض مسجدًا ، تجوز الصلاة في كل بقعة منها إلا ما استثنى من المواضع التي لا تجوز الصلاة فيها ، كالمقبرة ونحوها . قال البغوي في شرح السنة : أراد أن أهل الكتاب لم تبح لهم الصلاة إلا في بيعهم وكنائسهم ، فأباح الله لهذه الأمة الصلاة حيث كانوا ، تخفيفًا عليهم وتيسيرًا ، ثم خص من جميع المواضع : الحمام والمقبرة والمكان النجس . انتهى .

حديث ابن مسعود : إن من شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد قوله : ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود مرفوعًا " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ، والذين يتخذون القبور مساجد " ورواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه . قوله : إن من شرار الناس بكسر الشين جمع شرير . قوله : من تدركهم الساعة وهم أحياء أي مقدمتها ، كخروج الدابة ، وطلوع الشمس في مغربها . وبعد ذلك ينفخ في الصور نفخة الفزع . قوله : والذين يتخذون القبور مساجد معطوف على خبر إن في محل نصب على نية تكرار العامل ، أي وإن من شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد أي بالصلاة عندها وإليها ، وبناء المساجد عليها ، وتقدم في الأحاديث الصحيحة أن هذا من عمل اليهود والنصارى وأن النبي لعنهم على ذلك ، تحذيرًا للأمة أن يفعلوا مع نبيهم وصالحيهم مثل اليهود والنصارى . فما رفع أكثرهم بذلك رأسًا ، بل اعتقدوا أن هذا الأمر قربة لله تعالى ، وهو مما يبعدهم عن الله ويطردهم عن رحمته ومغفرته . والعجب أن أكثر من يدعى العلم ممن هو من هذه الأمة لا ينكرون ذلك ، بل ربما استحسنوه ورغبوا في فعله ، فلقد اشتدت غربة الإسلام وعاد المعروف منكرًا والمنكر معروفًا ، والسنة بدعة والبدعة سنة ، تنشأ على هذا الصغير وهرم عليه الكبير . قال شيخ الإسلام : أما بناء المساجد على القبور فقد صرح عام الطوائف بالنهي عنه ، متابعة للأحاديث الصحيحة . وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريمه ، ثم ذكر الأحاديث في ذلك إلى أن قال وهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين ، أو الملوك وغيرهم تتعين إزالتها بهدم أو غيره . هذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء المعرفين . وقال ابن القيم رحمه الله : يجب هدم القباب التي بنيت على القبور ، لأنها أسست على معصية الرسول ، وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنية ، منهم ابن الجميزي والظهير التزميني وغيرهما . وقال القاضي ابن كج : ولا يجوز أن تجصص القبور ، ولا أن يبنى عليها قباب ، ولا غير قباب ، والوصية بها باطلة . وقال الأذرعي : وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية وانفاق الأموال الكثيرة ، فلا ريب في تحريمه . وقال القرطبي في حديث جابر رضي الله عنه نهى أن يجصص القبر أو يينى عليه وبظاهر هذا الحديث قال مالك ، وكره البناء والجص على القبور . وقد أجازه غيره ، وهذا الحديث حجة عليه . وقال ابن رشد : كره مالك البناء على القبر وجعل البلاطة المكتوبة ، وهو من بدع أهل الطول ، أحدثوه إرادة الفخر والمباهاة والسمعة ، وهو مما لا اختلاف عليه . وقال الزيلغي في شرح الكنز : ويكره أن يبني على القبر . وذكر قاضي خان : أنه لا يجصص القبر ولا يبني عليه . لما روى عن النبي أنه نهى عن التجصيص وللبناء فوق القبر . والمراد بالكراهة ـ عند الحنفية رحمهم الله ـ كراهة التحريم . وقد ذكر ذلك ابن نجيم في شرح الكنز . وقال الشافعي رحمه الله : أكره أن يعظم مخلوق ، حتى يجعل قبره مسجدًا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس . وكلام الشافعي رحمه الله يبين أن مرده بالكراهة كراهة التحريم . قال الشارح رحمه الله تعالى : وجزم النووي رحمه الله في شرح المهذب بتحريم البناء مطلقًا ، وذكر في شرح مسلم نحوه أيضًا. وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة إمام الحنابلة صاحب المصنفات الكبار كالمغنى ، والكافى وغيرهما رحمه الله تعالى : ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور . لأن النبي قال : " لعن الله اليهود والنصارى ... " الحديث وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام : تعظيم الأموات واتخاذ صورهم ، والتمسح بها والصلاة عندها ، انتهى . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وأما المقبرة فلا فرق فيها بين الجديدة والعتقية ، انقلبت تربتها أو لم تنقلب . ولا فرق بين أن يكون بينه وبين الأرض حائل أو لا ، لعموم الاسم وعموم العلة ، ولأن النبي لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، ومعلوم أن قبور الأنبياء لا تنجس . وبالجملة فمن علل النهي عن الصلاة في المقبرة بنجاسة التربة خاصة فهو بعيد عن مقصود النبي ، ثم لا يخلو أن يكون القبر قد بنى عليه مسجد ، فلا يصلي في هذا المكان سواء صلى خلف القبر أو أمامه بغير خلاف في المذهب : لأن النبي قال " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك " وخص قبور الأنبياء لأن عكوف الناس على قبورهم أعظم ، واتخاذها مساجد أشد ، وكذلك إن لم يكن عليه بنى مسجد ، فهذا قد ارتكب حقيقة المفسدة التي كان النهي عن الصلاة عند القبور من أجلها ، فإن كل مكان صلى فيه يسمى مسجدًا، كما قال " جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا " وإن كان موضع قبر أو قبرين . وقال بعض أصحابنا : لا يمنع الصلاة فيها لأنه لا يتناولها اسم المقبرة ، وليس في كلام أحمد ولا بعض أصحابه هذا الفرق ، بل عموم كلامهم يقتضى منع الصلاة عند كل قبر . وقد تقدم عن علي رضي الله عنه أنه قال : لا أصلي في حمام ولا عند قبر . فعلى هذا ينبغي أن يكون النهي متناولًا لحريم القبر وفنائه ، ولا تجوز الصلاة في مسجد بني في مقبرة ، سواء كان له حيطان تحجز بينه وبين القبور أو كان مكشوفًا . قال في رواية الأثرم : إذا كان المسجد بين القبور لا يصلى فيه الفريضة ، وإن كان بينها وبين المسجد حاجز فرخص أن يصلي فيه على الجنائز ولا يصلى فيه على غير الجنائز . وذكر حديث أبي مرثد عن النبي  : لا تصلوا على القبور وقال: إسناده جيد ، انتهى . ولو تتبعنا كلام العلماء في ذلك لا حتمل عدة أوراق . فتبين بهذا أن العلماء رحمهم الله بينوا أن علة النهي ما يؤدي إليه ذلك : من الغلو فيها وعبادتها من دون الله كما هو الواقع والله المستعان . وقد حدث بعد الأئمة الذين يعتد بقولهم أناس كثر في أبواب العلم بالله اضطرابهم ، وغلظ عن معرفة ما بعث الله به رسوله من الهدى والعلم حجابهم فقيدوا نصوص الكتاب والسنة بقيود أوهنت الانقياد وغيروا بها ما قصده الرسول بالنهي وأراد . فقال لتنجسها بصديد الموتى ، وهذا كله باطل من وجوه : منها : أنه من القول على الله بلا علم . وهو حرام بنص الكتاب . ومنها : أن ما قالوه لا يقتضى لعن فاعله والتغليظ عليه ، وما المانع له أن يقول : صلى في بقعة نجسة فعليه لعنة الله . ويلزم على ما قاله هؤلاء أن النبي لم يبين العلة ، وأحال الأمة في بيانها على من يجيء بعده وبعد القرون المفضلة والأئمة ، وهذا باطل قطعًا وعقلًا وشرعًا ، لا يلزم عليه من أن الرسول عجز عن البيان أو قصر في البلاغ ، وهذا من أبطل الباطل . فإن النبي بلغ البلاغ المبين ، وقدرته في البيان فوق قدرة كل أحد ، فإذا بطل اللازم بطل الملزوم . ويقال أيضًا : هذا اللعن والتغليظ الشديد إنما هو فيمن اتخذ قبور الأنبياء مساجد ، وجاء في بعض النصوص ما يعم الأنبياء وغيرهم ، فلو كانت هذه هي العلة لكانت منتفية في قبور الأنبياء ، لكون أجسادهم طرية لا يكون لها صديد يمنع من الصلاة عند قبورهم ، فإذا كان النهي عن اتخاذ المساجد عند القبور يتناول قبور الأنبياء بالنص ، علم أن العلة ما ذكره هؤلاء العلماء الذين قد نقلت أقوالهم ، والحمد لله على ظهور الحجة وبيان المحجة . والحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .

الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا إلخ قوله : باب ( ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانًا تعبد من دون الله )

اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد

روى مالك في الموطأ أن رسول الله قال : " اللهم لا تجعل قبرى وثنًا يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " . هذا الحديث رواه مالك مرسلًا عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار : أن رسول الله قال ... الحديث . ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم به ، ولم يذكر عطاء ، ورواه البزار عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا . وله شاهد عند الإمام أحمد بسنده عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رفعه : اللهم لا تجعل قبري وثنًا ، لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد . قوله : روى مالك في الموطأ هو الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي ، أبو عبدالله المدني . إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة وأحد المتقنين للحديث ، حتى قال البخاري : أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر ، مات سنة تسع وسبعين ومائة . وكان مولده سنة ثلاث وتسعين . وقيل أربع وتسعين . وقال الواقدي : بلغ تسعين سنة . قوله : اللهم لا تجعل قبرى وثنًا يعيد قد استجاب الله دعاءه كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى : فأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجداران حتى غدت أرجاؤه بدعائه في عزة وحماية وصيان ودل الحديث على أن قبر النبي لو عبد لكان وثنًا ، لكن حماه الله تعالى بما حال بينه وبين الناس فلا يوصل إليه . ودل الحديث على أن الوثن هو ما يباشره العابد من القبور والتوابيت التي عليها . وقد عظمت الفتنة بالقبور لتعظيمها وعبادتها ، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كيف أنتم إذا مستكم فتنة يهرم فيها الكبير ، وينشأ فيها الصغير . تجرى على الناس يتخذونها سنة ، إذا غيرت قيل : غيرت السنة انتهى . ولخوف الفتنة نهى عن عمر تتبع آثار النبي . قال ابن وضاح : سمعت عيسى بن يونس يقول : أمر عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها ، فخاف عليهم الفتنة . وقال المعرور بن سويد : صليت مع عمر بن الخطاب بطريق مكة صلاة الصبح . ثم رأى الناس يذهبون مذاهب ، فقال : أين يذهب هؤلاء ؟ فقيل : يا أمير المؤمنين ، مسجد صلى فيه النبي فهم يصلون فيه ، فقال : إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا ، كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعًا ، فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل . ومن لا فليمض ولا يتعمدها .

وجد المسلمين دانيال في تستر لما فتحوها وفي مغازي ابن إسحاق من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار . حدثنا أبو العالية قال : لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرًا عليه رجل ميت ، عند رأسه مصحف . فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر ، فدعا له كعبًا فنسخه بالعربية ، فأنا أول رجل قرأه من العرب ، قرأته مثل ما أقرأ القرآن . فقلت لأبي العالية : ما كان فيه ؟. قال : سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد . قلت : فماذا صنعتم بالرجل ؟ قال : حفرنا له بالنهار ثلاثة عشرة قبرًا متفرقة . فلما كان الليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه عن الناس لا ينبشونه . قلت : وما يرجون منه ؟ قال : كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون . فقلت : من كنتم تظنون الرجل ؟ قال : رجل يقال له دانيال . فقلت : منذ كم وجدتموه مات ؟ قال : منذ ثلاثمائة سنة . قلت : ما كان تغير منه شئ ؟ قال : لا ، إلا شعيرات من قفاه ، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض . قال ابن القيم رحمه الله : ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم من تعمية قبره لئلا يفتتن به ، ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به ، ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيف ولعبدوه من دون الله . قال شيخ الإسلام رحمه الله : وهو إنكار منهم لذلك ، فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها ـ ولم يستحب الشارع قصدها ـ فهو من المنكرات ، وبعضه أشد من بعض ، سواء قصدها ليصلي عندها أو ليدعو عندها ، أو ليقرأ عندها أو ليذكر الله عندها ، أو لينسك عندها بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التى لم يشرع تخصيصها به لا نوعًا ولا عينًا ، إلا أن ذلك قد يجوز بحكم الاتفاق لا لقصد الدعاء فيها ، كمن يزورها ويسلم عليها ، ويسأل الله العافية له وللموتى ، كما جاءت به السنة . وأما تحرى الدعاء عندها بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه فى غيره ، فهذا هو المنهى عنه . انتهى ملخصًا . قوله : اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم فيه تحريم البناء على القبور ، وتحريم الصلاة عندها ، وأن ذلك من الكبائر . وفى القرى للطبرى من أصحاب مالك عن مالك أنه كره أن يقول : زرت قبر النبي ، وعلل ذلك بقوله  : " اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد " الحديث . كره إضافة هذا اللفظ إلى القبر ، لئلا يقع التشبه بفعل أولئك ، سدًا للذريعة . قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : ومالك قد أدرك التابعين ، وهم أعلم الناس بهذه المسألة ، فدل ذلك على أنه لم يكن معروفًا عندهم ألفاظ زيارة قبر النبي ـ إلى أن قال ـ وقد ذكروا أسباب كراهته لأن يقول : زرت قبر النبي لأن هذا اللفظ قد صار كثير من الناس يريد به الزيارة البدعية ، وهو قصد الميت لسؤاله ودعائه ، والرغبة إليه في قضاء الحوائج ، ونحو ذلك مما يفعله كثير من الناس ، فهم يعنون بلفظ الزيارة مثل هذا . وهذا ليس بمشروع باتفاق الأئمة . وكره مالك أن يتكلم بلفظ مجمل يدل على معنى فاسد ، بخلاف الصلاة والسلام عليه ، فإن ذلك مما أمر الله به . أما لفظ الزيارة في عموم القبور فلا يفهم منها مثل هذا المعنى . ألا ترى إلى قوله : فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة مع زيارته لقبر أمه . فإن هذا يتناول قبور الكفار . فلا يفهم من ذلك زيارة الميت لدعائه وسؤاله والاستغاثة به ، ونحو ذلك مما يفعله أهل الشرك والبدع ، بخلاف ما إذا كان المزور معظمًا في الدين كالأنبياء والصالحين ، فإنه كثيرًا ما يعني بزيارة قبورهم هذه الزيارة البدعية الشركية، فلهذا كره مالك ذلك في مثل هذا ، وإن لم يكره ذلك في موضع آخر ليس فيه هذه المفسدة . ا هـ . وفيه : أن النبي لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه . ذكره المصنف رحمه الله تعالى .

اللات والعزى قوله : ولا بن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد " أفرأيتم اللات والعزى " قال : كان يلت لهم السويق ، فمات فعكفوا على قبره ، كذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس قال : كان يلت السويق للحاج . قوله : ولابن جرير هو الإمام الحافظ محمد بن جرير بن يزيد الطبري ، صاحب التفسير والتاريخ والأحكام وغيرها . قال ابن خزيمة : لا أعلم على الأرض أعلم من محمد بن جرير وكان من المجتهدين لا يقلد أحدًا . وله أصحاب يتفقهون على مذهبه ويأخذون بأقواله . ولد سنة أربع وعشرين ومائتين ، ومات ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة . قوله : عن سفيان الظاهر : أنه سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي ثقة حافظ فقيه إمام عابد كان مجتهدًا ، وله أتباع يتفقهون على مذهبه . مات سنة إحدى وستين ومائة ، وله أربع وستون سنة . قوله : عن منصور هو ابن المعتمر بن عبد الله السلمي ثقة ثبت فقيه . مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة . قوله : عن مجاهد هو ابن جبر ـ بالجيم الواحدة ـ أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي ، ثقة إمام في التفسير ، أخذ عن ابن عباس وغيره رضي الله عنهم . مات سنة أربع ومائة ، قاله يحيى القطان ، وقال ابن حبان : مات سنة اثنتين أو ثلاث ومائة وهو ساجد ، ولد سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر رضي الله عنه . قوله : كان يلت السويق لهم فمات فعكفوا على قبره في رواية : فيطعم من يمر من الناس . فلما مات عبدوه ، وقالوا : هو اللات رواه سعيد بن منصور . ومناسبته للترجمة : أنهم غلوا فيه لصلاحه حتى عبدوه وصار قبره وثنًا من أوثان المشركين . قوله : وكذا قال أبو الجوزاء هو أوس بن عبد الله الربعي ، فتح الراء والباء ، مات سنة ثلاث وثمانين . قال البخاري : حدثنا مسلم وهو ابن إبراهيم . حدثنا أبو الأشهب حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس قال : كان اللات رجلًا يلت سويق الحجاج . قال ابن خزيمة : وكذا العزى ، وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة ، بين مكة والطائف ، كانت قريش يعظمونها ، كما قال أبو سفيان يوم أحد : لنا العزى ولا عزى لكم .

لعن الله زوارات القبور إلخ قوله : وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " لعن رسول الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج " رواه أهل السنن . قلت : وفي الباب حديث عن أبي هريرة وحديث حسان بن ثابت . فأما حديث أبي هريرة فرواه أحمد والترمذي وصححه . وحديث حسان أخرجه ابن ماجه من رواية عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه قال : " لعن رسول الله زوارات القبور " . وحديث ابن عباس هذا في إسناده أبو صالح مولى أم هانيء ، وقد ضعفه بعضهم ووثقة بعضهم . قال على بن المديني ، عن يحيى القطان : لم أر أحدًا من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هاني . وما سمعت أحدًا من الناس يقول فيه شيئًا ، ولم يتركه شعبة ولا زائدة ولا عبد الله بن عثمان . قال ابن معين : ليس به بأس ولهذا أخرجه ابن السكن في صحيحه . انتهى من الذهب الإبريز عن الحافظ المزي . قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : وقد جاء عن النبي من طريقين : فعن أبي هريرة رضي الله عنه : " أن رسول الله لعن زوارات القبور " وذكر حديث ابن عباس . ثم قال : ورجال هذا ليس رجال هذا . فلم يأخذه أحدهما عن الآخر . وليس في الإسنادين من يتهم بالكذب . ومثل هذا حجة بلا ريب . وهذا من أجود الحسن الذي شرطه الترمذي ، فإنه جعل الحسن ما تعددت طرقه ولم يكن فيه متهم ، ولم يكن شاذًا ، أي مخالفًا لما ثبت بنقل الثقات وهذا الحديث تعددت طرقه وليس فيها متهم ولا خالفه أحد من الثقات ، هذا لو كان عن صاحب واحد ، فكيف إذا كان رواه عن صاحب وذاك عن آخر ؟ فهذا كله يبين أن الحديث في الأصل معروف . والذين رخصوا في الزيارة اعتمدوا على ما روى عن عائشة رضي الله عنها أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن وقالت : لو شهدتك ما زرتك وهذا يدل على أن الزيارة ليست مستحبة للنساء كما تستحب الرجال . إذ لو كان كذلك لا ستحبت زيارته سواء شهدته أم لا . قلت : فعلى هذا لا حجة فيه لمن قال بالرخصة . وهذا السياق لحديث عائشة رواه الترمذي من رواية عبد الله بن أبي مليكة عنها ، وهو يخالف سياق الأثرم له عن عبد الله بن أبي مليكة أيضًا : أن عائشة رضي الله عنها أقبلت ذات يوم من المقابر . فقلت لها : يا أم المؤمنين ، أليس نهى رسول الله عن زيارة القبور ؟ قالت : نعم نهى عن زيارة القبور ، ثم أمر بزيارتها . فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا وقال : ولا حجة في حديث عائشة فإن المحتج عليها احتج بالنهي العام ، فدفعت ذلك بأن النهي منسوخ ، ولم يذكر لها المحتج النهي الخاص بالنساء الذي فيه لعنهن على الزيارة . يبين ذلك قولها قد أمر بزيارتها فهذا يبين أنه أمر بها أمرًا يقتضي الاستحباب ، والاستحباب إنما هو ثابت للرجال خاصة . ولو كانت تعتقد أن النساء مأمورات بزيارة القبور لكانت تفعل ذلك كما يفعله الرجال ولم تقل لأخيها لما زرتك واللعن صريح في التحريم ، والخطاب بالإذن في قوله فزوروها لم يتناول النساء فلا يدخلن في الحكم الناسخ ، والعام إذا عرف أنه بعد الخاص لم يكن ناسخًا له عند جمهور العلماء، وهو مذهب الشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه ، وهو المعروف عند أصحابه ، فكيف إذا لم يعلم أن هذا العام بعد الخاص ؟ إذ قد يكون قوله : لعن الله زوارات القبور بعد إذنه للرجال في الزيارة . يدل على ذلك أنه قرنه بالمتخذين عليها المساجد والسرج . ومعلوم أن اتخاذ المساجد والسرج المنهي عنها محكم ، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة وكذلك الآخر . والصحيح : أن النساء لم يدخلن في الإذن في زيارة القبور لعدة أوجه : أحدها : أن قوله فزوروها صيغة تذكير . وإنما يتناول النساء أيضًا على سبيل التغليب . لكن هذا فيه قولان ، قيل : إنه يحتاج إلى دليل منفصل ، وحينئذ فيحتاج تناول ذلك للنساء إلى دليل منفصل ، وقيل أنه يحتمل على ذلك عند الإطلاق . وعلى هذا فيكون دخول النساء بطريق العموم الضعيف ، والعام لا يعارض الأدلة الخاصة ولا ينسخها عند جمهور العلماء ، ولو كان النساء داخلات في هذا الخطاب لا ستحب لهن زيارة القبور . وما علمنا أحدًا من الأئمة استحب لهن زيارة القبور ، ولا كان النساء على عهد النبي وخلفائه الراشدين يخرجن إلى زيارة القبور . ومنها : أن النبي علل الإذن للرجال بأن ذلك " يذكر الموت ، ويرقق القلب ، وتدمع العين " هكذا في مسند أحمد . ومعلوم أن المرأة إذا فتح بالها هذا الباب أخرجها إلى الجزع والندب والنياحة ، لما فيها من الضعف وقلة الصبر . وإذا كانت زيارة النساء مظنة وسببًا للأمور المحرمة فإنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك ، ولا التمييز بين نوع ونوع ، ومن أصول الشريعة : أن الحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها . فيحرم هذا الباب سدًا للذريعة ، كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة ، وكما حرم الخلوة بالأجنبية وغير ذلك . وليس في ذلك من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة . فإنه ليس في ذلك إلى دعاؤها للميت وذلك ممكن في بيتها . ومن العلماء من يقول : التشييع كذلك ، ويحتج بقوله " ارجعن مأزورات غير مأجورات ، فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت " ، وقوله لفاطمة : " أما إنك لو بلغت معهم الكدى لم تدخلي الجنة " ويؤيده ما ثبت في الصحيحين من أنه نهى النساء عن اتباع الجنائز ومعلوم أن قوله  : " من صلى على جنازة فله قيراط ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان " وهو أدل على العموم من صيغة التذكير . فإن لفظ من يتناول الرجال والنساء باتفاق الناس ، وقد علم بالأحاديث الصحيحة أن هذا العموم لم يتناول النساء لنهي النبي لهن عن اتباع الجنائز ، فإذا لم يدخلن في هذا العموم فكذلك في ذلك بطريق الأولى . انتهى ملخصًا . قلت : ويكون الإذن في زيارة القبور مخصوصًا للرجال ، خص بقوله : لعن الله زوارات القبور .... الحديث فيكون من العام المخصوص . وعندما استدل به القائلون بالنسخ أجوبة أيضًا . منها : أن ما ذكروه عن عائشة وفاطمة رضي الله عنهما معارض مما ورد عنهما في هذا الباب فلا يثبت به نسخ . ومنها : أن قول الصحابي وفعله ليس حجة على الحديث بلا نزاع ، وأما تعليمه عائشة كيف تقول إذا زارت القبور ونحو ذلك ، فلا يدل على نسخ ما دلت عليه الأحاديث الثلاثة من لعن زائرات القبور ، لاحتمال أن يكون ذلك قبل هذا النهي الأكيد والوعيد الشديد والله أعلم . قال محمد بن اسماعيل الصنعاني رحمه الله في كتابه تطهير الاعتقاد  : فإن هذه القباب والمشاهد التي صارت أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد ، وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام وخراب بنيانه : غالب ـ بل كل ـ من يعمرها هم الملوك والسلاطين والرؤساء والولاة ، إما على قريب لهم أو على من يحسنون الظن فيه من فاضل أو عالم أو صوفي أو فقير أو شيخ أو كبير ، ويزوره الناس الذي يعرفونه زيارة الأموات من دون توسل به ولا هتف بإسمه ، بل يدعون له ويستغفرون حتى ينقرض من يعرفه أو أكثرهم ، فيأتي من بعدهم فيجد قبرًا قد شيد عليه البناء ، وسرجت عليه الشموع ، وفرش بالفراش الفاخر ، وأرخيب عليه الستور ، وألقيت عليه الأوراد والزهور ، فيعتقد أن ذلك لنفع أو دفع ضر ، وتأتيه السدنة يكذبون على الميت بأنه فعل وفعل ، وأنزل بفلان الضر النفع . حتى يغرسوا في جبلته كل باطل ، والأمر ما ثبت في الأحاديث النبوية من لعن من أسرج على القبور وكتب عليها وبنى عليها . وأحاديث ذلك واسعة معروفة فإن ذلك في نفسه منهى عنه . ثم هو ذريعة إلى مفسدة عظيمة . انتهى . ومنه تعلم مطابقة الحديث للترجمة والله أعلم . قوله : والمتخذين عليها المساجد تقدم شرحه في الباب قبله . قوله : السرج قال أبو محمد المقدسي : لو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله ، لأن فيه تضييعًا للمال في غير فائدة ، وإفراطًا في تعظيم القبور أشبه بتعظيم الأصنام . وقال ابن القيم رحمه الله : اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها من الكبائر . قوله : رواه أهل السنن يعني أن أبا داود والترمذي وابن ماجه فقط ولم يروه النسائي .

باب ما جاء في حماية المصطفى إلخ قوله : باب ( ما جاء في حماية المصطفى وسده كل طريق يوصل إلى الشرك ) الجناب : هو الجانب . والمراد حمايته عما يقر منه أو يخالطه من الشرك وأسبابه . قوله : : وقول الله تعالى : ' 9 : 128 ، 129 ' " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم * فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم " . قال ابن كثير رحمه الله : يقول الله تعالى ممتنًا على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولًا من أنفسهم أي من جنسهم وعلى لغتهم كما قال إبراهيم عليه السلام : ' 2 : 129 ' " ربنا وابعث فيهم رسولًا منهم " وقال تعالى : ' 3 : 164 ' " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم " وقال تعالى : " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " أي منكم ، كما قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ، والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى : إن الله بعث فينا رسولًا منا نعرف نسبه وصفته ، ومدخله ومخرجه ، وصدقه وأمانته وذكر الحديث . قال أبو سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه في قوله تعالى :" لقد جاءكم رسول من أنفسكم" قال : لم يصبه شئ في ولادة الجاهلية . وقوله : " عزيز عليه ما عنتم " أي يعز عليه الشئ الذي يعنت أمته ويشق عليها ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه أنه قال : " بعثت بالحنيفية السمحة " وفي الصحيح  : " إن هذا الدين يسر" وشريعته كلها سمحة سهلة كاملة ، ميسيرة على من يسرها الله عليه . قوله : حريص عليكم أي على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والآخروي إليكم . وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : تركنا رسول الله وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علمًا أخرجه الطبراني ، قال : وقال رسول الله  : " ما بقى شئ يقر من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بينته لكم " . وقوله : " بالمؤمنين رؤوف رحيم " كما قال تعالى : ' 16 : 215 ، 216 ، 217 ' " واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون * وتوكل على العزيز الرحيم " وهكذا أمره تعالى في هذه الآية الكريمة وهي قوله : " فإن تولوا " أي عما جئتم به من الشريعة العظيمة المطهرة الكاملة " حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم " . قلت : فاقتضت هذه الأوصاف التي وصف بها رسول الله في حق أمته أن أنذرهم وحذرهم الشرك الذي هو أعظم الذنوب ، وبين لهم ذرائعه الموصلة إليه ، وأبلغ في نهيهم عنها ومن ذلك تعظيم القبور والغلو فيها ، والصلاة عندها وإليها ، ونحو ذلك مما يوصل إلى عبادتها ، كما تقدم ، وكما سيأتي في أحاديث الباب .

لا تجعلوا قبري عيدًا وصلوا على حيث كنتم قوله : وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله " لا تجعلوا بيوتكم قبورًا ولا تجعلوا قبرى عيدًا ، وصلوا فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم " رواه أبو داود بإسناد حسن . رواته ثقات . قوله : لا تجعلوا بيوتكم قبورًا قال شيخ الإسلام : أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة ، فتكون بمنزلة القبور ، فأمر بتحري العبادة في البيوت ونهى عن تحريهما عند القبور ، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم من هذه الأمة . وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعًا : " اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا " وفي صحيح مسلم عن ابن عمر مرفوعًا : " لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه " . قوله : ولا تجعلوا قبرى عيدًا قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد ، عائدًا إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك . وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان ، مأخوذ من المعاودة والاعتياد . فإذا كان اسمًا للمكان فهو المكان الذي يقصد فيه الاجتماع وانتيابه للعبادة وغيرها ، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيدًا للحنفاء ومثابة ، كما جعل أيام العيد فيها عيدًا . وكان للمشركين أعياد زمنية ومكانية . فلما جاء الله بالإسلام أبطلها وعوض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام منى ، كما عوضهم من أعياد المشركين المكانية بالكعبة ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر . قوله : وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم . قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم ، فلا حاجة لكم إلى اتخاذه عيدًا . قوله : لا تجعلوا بيوتكم قبورًا تقدم كلام شيخ الإسلام في معنى الحديث قبله ا هـ . قوله : وعن علي بن الحسين رضي الله عنه : " أنه رأى رجلًا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي فيدخل فيها فيدعو ، فنهاه وقال : ألا أحدثكم حديثًا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله ؟ قال : لا تتخذوا قبري عيدًا ، ولا بيوتكم قبورًا ، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم " رواه في المختار . هذا الحديث والذي قبله جيدان حسنا الإسنادين . أما الأول : فرواه أبو داود وغيره من حديث عبد الله بن نافع الصائغ قال : أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فذكره ، ورواته ثقات مشاهير ، لكن عبد الله بن نافع قال فيه أبو حاتم : ليس بالحافظ ، تعرف وتنكر . وقال ابن معين : هو ثقة وقال أبو زرعة : لا بأس به . قال شيخ الإسلام رحمه الله : ومثل هذا إذا كان لحديث شواهد علم أنه محفوظ ، وهذا له شواهد متعددة . وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي : هو حديث حسن جيد الإسناد ، وله شواهد يرتقى بها إلى درجة الصحة . وأما الحديث الثاني : فرواه أبو يعلى والقاضي إسماعيل والحافظ الضياء محمد بن عبد الواحد المقدسي في المختارة . قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدنية وأهل البيت الذين لهم من رسول الله قرب النسب وقرب الدار ، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم ، فكانوا له أضبط . ا هـ . وقال سعيد بن منصور في سننه ، حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهل قال : رآني الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عند القبر ، فناداني ، وهو في بيت فاطمة رضي الله عنها يتعشى ، فقال : هلم إلى العشاء . فقلت : لا أريده . فقال : ما لي رأيتك عند القبر ؟ فقلت : سلمت على النبي . فقال : إذا دخلت المسجد فسلم . ثم قال : إن رسول الله قال : " لا تتخذوا قبري عيدًا ، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر ، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم ، لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، ما أنتم وبني بالأندلس إلا سواء " . وقال سعيد أيضًا : حدثنا حبان بن علي ، حدثنا محمد عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال : قال رسول الله " لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا ، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني " . قال شيخ الإسلام : فهذان المرسلان من هذين الموجين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث لا سيما وقد احتج به من أرسله . وذلك يقتضي ثبوته عنده هذا لو لم يرو من وجوه مسندة غير هذين ، فكيف وقد تقدم مسندًا . قوله : على بن الحسين أي ابن علي بن أبي طالب ، المعروف بزين العابدين رضي الله عنه ، أفضل التابعين من أهل بيته وأعلمهم . قال الزهري : ما رأيت قرشيًا أفضل منه . مات سنة ثلاث وتسعين على الصحيح . وأبوه الحسين سبط رسول الله وريحانته ، حفظ عن النبي واستشهد يوم عاشوراء سنة إحدى وستين وله ست وخمسون سنة رضي الله عنه . قوله : أنه رأى رجلًا يجيء إلى فرجة بضم الفاء وسكون الراء ، وهي الكوة في الجدار والخوخة ونحوهما . قوله : فيدخل فيها فيدعو فنهاه هذا يدل على النهي عن قصد القبور والمشاهد لأجل الدعاء والصلاة عندها . قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : ما علمت أحدًا رخص فيه ، لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدًا ويدل أيضًا على أن قصد القبر للسلام إذا دخل المسجد ليصلي منهى عنه ، لأن ذلك لم يشرع ، وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل الإنسان المسجد أن يأتي قبر النبي لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك ، قال : ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها وكان الصحابة والتابعون رضي الله عنهم يأتون إلى مسجد النبي فيصلون ، فإذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا ، ولم يكونوا يأتون القبر للسلام ، لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل ، وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك ، أو للصلاة والدعاء فلم يشرعه لهم ، بل نهاهم عنه في قوله " لا تتخذوا قبري عيدًا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني " فبين أن الصلاة تصل إليه من بعد وكذلك السلام ، ولعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد . وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب ، إذا كانت عائشة رضي الله عنها فيها ، وبعد ذلك إلى أن بنى الحائط الآخر ، وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون عليه ، لا للسلام ولا للصلاة ، ولا للدعاء لأنفسهم ولا لغيرهم ، ولا لسؤال عن حديث أو علم ، ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلامًا أو سلامًا فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم ، وبين لهم الأحاديث ، أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج ، كما طمع الشيطان في غيرهم فأضلهم عند قبره وقبر غيره ، حتى ظنوا أن صاحب القبر يأمرهم وينهاهم ويفتيهم ويحدثهم في الظاهر ، وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجًا من القبر ، ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت تكلمهم ، وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبي ليلة المعراج . والمقصود : أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يعتادون والسلام عليه عند قبره كما يفعله من بعدهم من الخلوف ، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج فيسلم عليه إذا قد من سفر . كما كان ابن عمر يفعله . قال عبيد الله بن عمر عن نافع كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي فقال : السلام عليك يا رسول الله . السلام عليك يا أبا بكر . السلام عليك يا أبتاه ثم ينصرف قال عبيد الله ما نعلم أحدًا من أصحاب النبي فعل ذلك إلا ابن عمر وهذا يدل على أنه لا يقف عند القبر للدعاء إذا سلم كما يفعله كثير . قال شيخ الإسلام رحمه الله : لأن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة ، فكان بدعة محضة . وفي المبسوط : قال مالك : لا أرى أن يقف عند قبر النبي ولكن يسلم ويمضى . ونص أحمد أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره . وبالجملة فقد اتفق الأئمة على أنه إذا دعا لا يستقبل القبر ، وتنازعوا : هل يستقبله عند السلام عليه أم لا ؟ وفي الحديث دليل على منع شد الرحال إلى قبره وإلى غيره من القبور والمشاهد ، لأن ذلك من اتخاذها أعيادًا . بل من أعظم أسباب الإشراك بأصحابها . وهذه هي المسألة التي أفتى بها شيخ الإسلام رحمه الله ـ أعني من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين ـ ونقل فيها اختلاف العلماء ، فمن مبيح لذلك . كالغزالي وأبي محمد المقدسي . ومن مانع لذلك ، كابن بطة وابن عقيل ، وأبي محمد الجويني ، والقاضي عياض . وهو قول الجمهور ، نص عليه مالك ولم يخالفه أحد من الأئمة ، وهو الصواب . لما في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي قال : " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى " فدخل في النهي شدها لزيارة القبور والمشاهد ، فإما أن يكون نهيًا ، وإما أن يكون نفيًا . وجاء في رواية بصيغة النهي ، فتعين أن يكون للنهي ، ولهذا فهم منه الصحابة رضي الله عنهم المنع ـ كما في الموطأ والمسند والسنن ـ عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري أنه قال لأبي هريرة ـ وقد أقبل من الطور ـ : لو أدركت قبل أن تخرج إليه لما خرجت : سمعت رسول الله يقول: " لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى " وروى الإمام أحمد وعمر بن شبة في أخبار المدينة بإسناد جيد عن قزعة قال : أتيت ابن عمر فقلت : إني أريد الطور . فقال : إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجد المدينة ، والمسجد الأقصى . فدع عنك الطور ولا تأته فابن عمر وبصرة بن أبي بصرة جعلًا الطور مما نهي عن شد الرحال إليه . لأن اللفظ الذي ذكراه فيه النهي عن شدها إلى غير الثلاثة مما يقصد به القربة ، فعلم أن المستنى منه عام في المساجد وغيرها ، وأن النهي ليس خاصًا بالمساجد ، ولهذا نهيا عن شدها إلى الطور مستدلين بهذا الحديث . والطور إنما يسافر من يسافر إليه لفضيلة البقعة . فإن الله سماه الوادي المقدس ، والبقعة المباركة وكلم كليمه موسى عليه السلام هناك ، وهذا هو الذي عليه الأئمة الأربعة وجمهور العلماء ، ومن أراد بسط القول في ذلك والجواب عما يعارضه فعليه بما كتبه شيخ الإسلام مجيبًا لابن الاخنائي فيما أعترض به على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة وأخذ به العلماء وقياس الأولى . لأن المفسدة في ذلك ظاهرة . وأما النهي عن زيارة غير المساجد الثلاثة فغاية ما فيها : أنها لا مصلحة في ذلك توجب شد الرحال ، ولا مزية تدعو إليه . وقد بسط القول في ذلك الحافظ محمد بن عبد الهادي في كتاب الصارم المنكي في رده السبكي ، وذكر فيه علل الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي وذكر هو وشيخ الإسلام رحمهما الله تعالى أنه لا يصح منها حديث عن النبي ولا عن أحد من أصحابه ، مع أنها لا تدل على محل النزاع . إذ ليس فيها إلا مطلق الزيارة ، وذلك لا ينكره أحد بدون شد الرحال ، فيحمل على الزيارة الشرعية التي ليس فيها شرك ولا بدعة . قوله : رواه في المختارة المختارة : كتاب جمع فيه مؤلفه الأحاديث الجياد الزائدة عن الصحيحين . ومؤلفه : هو أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ ضياء الدين الحنبلي أحد الأعلام . قال الذهبي : أفنى عمره في هذا الشأن مع الدين المتين ، والورع والفضيلة التامة والإتقان . فالله يرحمه ويرضى عنه . وقال شيخ الإسلام : تصحيحه في مختاراته خير من تصحيح الحاكم بلا ريب . مات سنة ثلاث وأربعين وستمائة . ما جاء في أن بعض هذه الأمة يعبدون الأوثان قوله : باب ( ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان ) وقول الله تعالى : ' 4 : 51 ' " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت " .

الوثن يطلق على ما قصد بنوع من أنواع العبادة من دون الله من القبور والمشاهد وغيرها لقول الخليل عليه السلام : ' 22 : 17 ' " إنما تعبدون من دون الله أوثانًا وتخلقون إفكًا " ومع قوله : ' 21 : 17 ' " قالوا نعبد أصنامًا فنظل لها عاكفين " وقوله : ' 37 : 95 ' " أتعبدون ما تنحتون " فبذلك يعلم أن الوثن يطلق على الأصنام وغيرها مما عبد من دون الله ، كما تقدم في الحديث . قول اليهود : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا قوله : " يؤمنون بالجبت والطاغوت " روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم : أنتم أهل الكتاب وأهل العلم ، فأخبرونا عنا وعن محمد . فقالوا : ما أنتم وما محمد ؟ فقالوا : نحن نصل الأرحام ، وننحر الكوماء ، ونسقي الماء على اللبن ، ونفك العناة ، ونسقي الحجيج ، ومحمد صنبور ، قطع أرحامنا ، واتبعه سراق الحجيج من غفار . فنحن خير أم هو ؟ فقالوا : أنتم خيرًا وأهدى سبيلًا فأنزل الله تعالى : " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا " وفي مسند أحمد عن ابن عباس نحوه.

معنى ( عبد الطاغوت ) وقال الذين غلبوا على أمرهم إلخ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجبت السحر ، والطاغوت الشيطان وكذلك قول ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وغيرهم . وعن ابن عباس وعكرمة وأبي مالك الجبت الشيطان ـ زاد ابن عباس : بالحبشية وعن ابن عباس أيضًا : الجبت الشرك وعنه الجبت الأصنام وعنه الجبت : حيى بن أخطب وعن الشعبي الجبت الكاهن وعن مجاهد : الجبت كعب بن الأشرف قال الجوهري الجبت كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك . قال المصنف رحمه الله تعالى : وفيه معرفة الإيمان بالجبت والطاغوت في هذا الموضع هل هو اعتقاد قلب ، أو هو موافقة أصحابها ، مع بغضها ومعرفة بطلانها ؟ . قوله : وقوله تعالى : ' 5 : 60 ' " قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت " . يقول تعالى لنبيه محمد  : قل يا محمد هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا ؟ وهم أنتم أيها المتصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله : من لعنه الله أي أبعده من رحمته وغضب عليه أي غضبًا لا يرضى بعده أبدًا " وجعل منهم القردة والخنازير " وقد قال الثوري عن علقمة بن مرثد عن المغيرة بن عبد الله اليشكري عن المعرور بن سويد أن ابن مسعود رضي الله عنه قال " سئل رسول الله عن القردة والخنازير ، أهي مما مسخ الله ؟ فقال : إن الله لم يهلك قومًا ـ أو قال لم يمسخ قومًا ـ فجعل لهم نسلًا ولا عقبًا ، وإنما القردة والخنازير كانت قبل ذلك " رواه مسلم . قال البغوي في تفسيره قل يا محمد هل أنبئكم أخبركم بشر من ذلك الذي ذكرتم ، يعني قولهم : لم نر أهل دين أقل حظًا في الدنيا والآخرة منكم ، ولا دينًا شرًا من دينكم ، فذكر الجواب بلفظ الإبتداء وإن لم يكن الإبتداء شرًا ، لقوله تعالى : ' 22 : 72 ' " قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار " . وقوله : مثوبة ثوابًا وجزاء ، نصب على التفسير عند الله ، من لعنه الله أي هو من لعنه الله وغضب عليه يعني اليهود " وجعل منهم القردة والخنازير " فالقردة أصحاب السبت ، والخنازير كفار مائدة عيسى . وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن المسخين كلاهما من أصحاب السبت ، فشبابهم مسخوا قردة وشيوخهم مسخوا خنازير .

وعبد الطاغوت أي وجعل منهم من عبد الطاغوت ، أي أطاع الشيطان فيما سول له ، وقرأ ابن مسعود عبدوا الطاغوت وقرأ حمزة و عبد بضم الباء ، و الطاغوت بجر التاء أراد العبد . وهما لغتان : عبد بسكون الباء ، وعبد بضمنها ، مثل سبع وسبع وقرأ الحسن وعبد الطاغوت على الواحد . وفي تفسير الطبرسي : قرأ حمزة وحده وعبد الطاغوت بضم الياء وجر التاء ، والباقون وعبد الطاغوت بنصب الباء وفتح التاء . وقرأ ابن عباس وابن مسعود وإبراهيم المخعي والأعمش وأبان بن تغلب وعبد الطاغوت بضمن العين والباء وفتح الدال وخفض التاء ، قال : وحجة حمزة في قراءته وعبد الطاغوت أنه يحمله على ما عمل فيه جعل كأنه : وجعل منهم عبد الطاغوت . ومعنى جعل خلق . كقوله وجعل الظلمات والنور وليس عبد لفظ جمع لأنه ليس من أبنية الجموع شئ على هذا البناء ، ولكنه واحد يراد به الكثرة ، ألا ترى أن في الأسماء المفردة المضافة إلى المعارف ما لفظه الأفراد ومعناه الجمع ، كما في قوله تعالى : " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " ولأن بناء فعل يراد به المبالغة والكثرة نحو يقظ ودنس ، وكأن تقديره : أنه ذهب في عبادة الطاغوت كل مذهب . وأما من فتح فقال وعبد الطاغوت فإنه عطفه على بناء المضي الذي في الصلة وهو قوله لعنه الله وأفرد الضمير في عبد وإن كان المعنى فيه الكثرة ، لأن الكلام محمول على لفظه دون معناه ، وفاعله ضمير من كما أن فاعل الأمثلة المعطوف عليها ضمير من فأفرد لحمل ذلك جميعًا على اللفظ . وأما قوله : عبد الطاغوت فهو جمع عبد . وقال أحمد بن يحيى : عبد جمع عابد ، كبازل وبزل ، وشارف وشرف ، وكذلك عبد جمع عابد . ومثله عباد وعباد . ا هـ . وقال شيخ الإسلام في قوله وعبد الطاغوت الصواب أنه معطوف على ماقبله من الأفعال ، أي من لعنه وغضب عليه ، ومن جعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت . قال : والأفعال المتقدمة الفاعل فيها اسم الله ، مظهرًا أو مضمرًا . وهنا الفاعل اسم من عبد الطاغوت . وهو الضمير في عبد ولم يعد سبحانه من لأنه جعل هذه الأفعال صفة لصنف واحد وهم اليهود . قوله : أولئك شر مكانًا مما تظنون بنا وأضل عن سواء السبيل وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر له مشارك كقوله تعالى : ' 25 : 24 ' " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا " قاله العماد ابن كثير في تفسيره ، وهو ظاهر . قوله : وقول الله تعالى : ' 18 : 21 ' " قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدًا " والمراد أنهم فعلوا مع الفتية بعد موتهم ما يذم فاعله . لأن النبي قال : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد أراد تحذير أمته أن يفعلوا كفعلهم .

لتتبعن سنن من كان قبلكم قوله : عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله قال : " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله : اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ " أخرجاه وهذا سياق مسلم . قوله : سنن بفتح المهملة أي طريق من كان قبلكم . قال المهلب : فتح أولى . قوله : حذو القذة بالقذة بنصب حذو على المصدر . والقذة بضم القاف واحدة القذذ وموريش السهم . أي لتتبعن طريقهم في كل ما فعلوه ، وتشبهوهم في ذلك كما تشبه قذة السهم القذة الآخرى . وبهذا تظهر مناسبة الآيات للترجمة . وقد وقع كما أخبر ، وهو علم من أعلام النبوة . قوله : حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه وفي حديث آخر حتى لو كان فيهم من يأتي أمة علانية لكان في أمتي من يفعل ذلك أراد أن أمته لا تدع شيئًا مما كان يفعله اليهود والنصارى إلى فعلته كله لا تترك منه شيئًا ولهذا قال سفيان بن عيينة : من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى . ا هـ . قلت : فما أكثر الفريقين ، لكن من رحمة الله تعالى ونعمته أن جعل هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة كما في حديث ثوبان الآتي قريبًا . قوله : قالوا يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال فمن ؟ هو برفع اليهود خبر مبتدأ محذوف ، أي أهم اليهود والنصارى الذين نتبع سننهم ؟ ويجوز النصب بفعل محذوف تقديره : تعني . قوله : قال فمن ؟ استفهام إنكاري . أي فمن هم غير أولئك ؟

حديث ثوبان : إن الله زوى لي الأرض إلخ قوله : ولمسلم عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله قال : " إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها . وأعطيت الكنزين : الأحمر ، والأبيض . وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة ، وأن لا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ، وإن ربي قال : يا محمد ، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ، وإن أعطيتك لأمتك أن لا أهلكها بسنة بعامة . وأن لا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من بإقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ، ويسبى بعضهم بعضًا " ورواه البرقاني في صحيحه وزاد " وإنما أخاف على أمتى الأئمة المضلين . وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي ، بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتى الأوثان . وأنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون ، كلهم يزعم أنه نبي ، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى " . هذا الحديث رواه أبو داود في سننه وابن ماجه بالزيادة التي ذكرها المصنف . قوله : عن ثوبان هو مولى النبي صحبه . ولازمه . ونزل بعده الشام ومات بحمص سنة أربع وخمسين . قوله : زوى لي الأرض قال التوربشتى : زويت الشئ جمعته وقبضته ، يريد تقريب البعيد منها حتى اطلع عليه إطلاعه على القريب . وحاصله أنه طوى له الأرض وجعلها مجموعة كهيئة كف في مرآة ينظره . قال الطيبي : أي جمعها ، حتى بصرت ما تملكه أمتي من أقصى المشارق والمغارب منها . قوله : وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها قال القرطبي : هذا الخبر وجد مخبره كما قال ، وكان ذلك من دلائل نبوته ، وذلك أن ملك أمته اتسع إلى أن بلغ أقصى طنجة ـ بالنون والجيم ـ الذي هو منتهى عمارة المغرب ، إلى أقصى المشرق مما هو وراء خراسان والنهر ، وكثير من بلاد السند والهند والصغد ، ولم يتسع ذلك الاتساع من جهة الجنوب والشمال . وذلك لم يذكر عليه السلام أنه أريه ولا أخبر أن ملك أمته يبلغه . قوله : زوى لي منها يحتمل أن يكون مبينًا للفاعل ، وأن يكون مبنيًا للمفعول . قوله : وأعطيت الكنزين : الأحمر والأبيض قال القرطبي : عني به كنز كسرى ، وهو ملك الفرس ، وكنز قيصر وهو ملك الروم وقصورهما وبلادهما . وقد قال  : " والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله " وعبر بالأحمر عن كنز قيصر لأن الغالب عندهم كالذهب ، وبالأبيض عن كنز كسرى لأن الغالب عندهم كان الجوهر والفضة . ووجد ذلك في خلافة عمر . فإنه سيق إليه تاج كسرى وحليته وما كان في بيوت أمواله ، وجميع ما حوته مملكته على سعتها وعظمتها ، وكذلك فعل الله بقيصر والأبيض والأحمر منصوبان على البدل . قوله : وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة هكذا ثبت في أصل المصنف رحمه الله بعامة بالباء وهي رواية صحيحة في صحيح مسلم وفي بعضها بحذفها . قال القرطبي : وكأنها زائدة لأن عامة : صفة السنة ، والسنة الجدب الذي يكون به الهلاك العام ، ويسمى الجدب والقحط : سنة . يجمع على سنين ، كما قال تعالى : ' 7 : 130 ' " ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين " أي الجدب المتوالى . قوله : من سوى أنفسهم أي من غيرهم من الكفار من إهلاك بعضهم بعضًا ، وسبى بعضهم بعضًا ، كما هو مبسوط في التاريخ فيما قيل . وفي زماننا هذا ، نسأل الله العفو والعافية . قوله : فيستبيح بيضتهم قال الجوهري : بيضة كل شئ جوزته . وبيضة القوم ساحتهم ، وعلى هذا فيكون معنى الحديث : إن الله تعالى لا يسلط العدو على كافة المسلمين حتى يستبيح جميع ما حازوه من البلاد والأرض ، ولو اجتمع عليهم من بأقطار الأرض وهي جوانبها . وقيل : بيضتهم معظمهم وجماعتهم ، وإن قلوا . قوله : حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ، ويسبى بعضهم بعضًا والظاهر أن حتى عاطفة ، أو تكون لانتهاء الغاية ، أي إن أمر الأمة ينتهي إلى أن يكون بعضهم يهلك بعضًا . وقد سلط بعهضم على بعض كما هو الواقع ، وذلك لكثرة اختلافهم وتفرقهم . قوله : وإن ربي قال : يا محمد ، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد قال بعضهم : أي إذا حكمت حكمًا مبرمًا نافذًا فإنه لا يرد بشئ، ولا يقدر أحد على رده ، كما قال النبي ولا راد لما قضيت . قوله : رواه البرقاني في صحيحه هو الحافظ الكبير أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي الشافعي . ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة ومات سنة خمس وعشرين وأربعمائة . قال الخطيب : كان ثبتًا ورعًا ، لم نر في شيوخنا أثبت منه ، عارفًا بالفقه كثير التصانيف . صنف مسندًا ضمنه ما أشتمل عليه الصحيحان . وجمع حديث الثوري وحديث شعبة وطائفة . وهذا الحديث رواه أبو داود بتمامه بسنده إلى أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله " إن الله ـ أو قال إن ربي ـ زوى لي الأرض فأريت مشارق الأرض ومغاربها ، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها. وأعطيت الكنزين : الأحمر والأبيض . وإني سألت لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة ولا يسلط عليهم عدوًا سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم . وأن ربي قال لي : يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ، ولا أهلكهم بسنة عامة ، ولا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم . وإن ربي قال لي : يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ، ولا أهلكهم بسنة عامة ، ولا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها ـ أو قال : بأقطارها ـ حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ، وحتى يكون بعضهم يسبى بعضًا . وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين . وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة . ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل أمتي بالمشركين ، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي ، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ـ قال ابن عيسى : ظاهرين ثم اتفقا لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى ". وروى أبو داود أيضًا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي أنه قال : " تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين ، أو ست وثلاثين ، أو سبع وثلاثين ، فإن يهلكوا فسبيل من هلك ، وإن يقم لهم دينهم يقم سبعين عامًا قلت : أمما بقى أو مما مضى ؟ قال : مما مضى " . وروى في سننه أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله  :" يتقارب الزمان وينقص العلم ، وتظهر الفتن ، ويلقى الشح ، ويكثر الهرج ، قيل : يا رسول الله أيه هو ؟ قال : القتل القتل " . قوله : وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين أي الأمراء والعلماء والعباد فيحكمون فيهم بغير علم فيضلونهم ، كما قال تعالى : ' 33 : 67 ' " وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا " وكان بعض هؤلاء يقول لأصحابه : من كان له حاجة فليأت إلى قبري فإني أقضيها له ولا خير في رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب ، ونحو هذا . وهذا هو الضلال البعيد، يدعو أصحابه إلى أن يعبدوه من دون الله ويسألوه ما لا يقدر عليه من قضاء حاجاتهم وتفريج كرباتها ، وقد قال تعالى : ' 22 : 12 ، 13 ' " يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد * يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير " وقال تعالى : ' 25 : 3 ' " واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا ولا يملكون موتًا ولا حياة ولا نشورًا " وقال تعالى : ' 29 : 17 ' " فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون " وأمثال هذا في القرآن كثير ، يبين الله تعالى به الهدى من الضلال . ومن هذا الضرب : من يدعى أنه يصل مع الله إلى حال تسقط فيها عنه التكاليف ، ويدعى أن الأولياء يدعون ويستغاث بهم في حياتهم ومماتهم ، وأنهم ينفعون ويضرون ويدبرون الأمور على سبيل الكرامة ، وأنه يطلع على اللوح المحفوظ ، يعلم أسرار الناس وما في ضمائرهم ، ويجوز بناء المساجد على قبور الأنبياء والصالحين وإيقادها بالسرج ونحو ذلك من الغلو والإفراط والعبادة لغير الله . فما أكثر هذا الهذيان والكفر والمحادة لله ولكتابه ولرسوله .

إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين وقوله  : " وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين " أتى بإنما التي قد تأتي للحصر بيانًا لشدة خوفه على أمته من أئمة الضلال ، وما وقع في خلد النبي من ذلك إلا لما أطلعه الله عليه من غيبه أنه سيقع نظير ما في الحديث قبله من قوله : " لتتبعن سنن من كان قبلكم ... " الحديث . وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله  : " إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون " رواه أبو داود الطيالسي . وعن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله قال : " إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين " رواه الدارمى . وقد بين الله تعالى في كتابه صراطه المستقيم الذي هو سبيل المؤمنين . فكل من أحدث حدثًا ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله فهو ملعون وحدثه مردود ، كما قال  : " من أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلًا " وقال : " من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد " وقال : " كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " وهذه أحاديث صحيحة . ومدار أصول الدين وأحكامه على هذه الأحاديث ونحوها . وقد بين الله تعالى هذا الأصل في مواضع من كتابه العزيز كما قال تعالى : ' 7 : 3 ' " اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلًا ما تذكرون " وقال تعالى : ' 45 : 18 ' " ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون " ونظائرها في القرآن كثير . وعن زياد بن حدير قال : قال لي عمر رضي الله عنه : هل تعرف ما يهدم الإسلام ؟ قلت : لا ، قال يهدمه زلة العالم ، وجدال المنافق بالكتاب ، وحكم الأئمة المضلين رواه الدارمى . وقال يزيد بن عمير : كان معاذ بن جبل رضي الله عنه لا يجلس مجلسًا للذكر إلى ويقول : الله حكم قسط : هلك المرتابون ـ وفيه : فاحذروا زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق . قلت لمعاذ : وما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة ، والمنافق قد يقول كلمة الحق ؟ فقال : اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقول : ما هذه : ولا يثنيك ذلك عنه ، فإنه لعله أن يراجع الحق ، وتلق الحق إذا سمعته ، فإن على الحق نورًا رواه أبو داود وغيره . قوله : وإذا وقع السيف لم يرفع إلى يوم القيامة وكذلك وقع . فإن السيف لما وقع بقتل عثمان رضي الله عنه لم يرفع ، وكذلك يكون إلى يوم القيامة ، ولكن قد يكثر تارة ويقل أخرى ، ويكون في جهة ويرتفع عن أخرى . قوله : ولا تقوم بالساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين الحي واحد الأحياء وهي القبائل : وفي رواية أبي داود حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين والمعنى : أنهم يكونون معهم ويرتدون برغبتهم عن أهل الإسلام ويلحقون بأهل الشرك . وقوله : حتى تعبد فئام من أمتى الأوثان الفئام بكسر الفاء مهموز الجماعات الكبيرة ، قاله أبو السعادات . وفي رواية أبي داود : حتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان . وهذا هو شاهد الترجمة ، ففيه الرد على من قال بخلافه من عباد القبور الجاحدين لما يقع منهم من الشرك بالله بعبادتهم الأوثان . وذلك لجهلهم بحقيقة التوحيد وما يناقضه من الشرك والتنديد ، فالتوحيد هو أعظم مطلوب والشرك هو أعظم الذنوب . وفي معنى هذا الحديث : ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا : " لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة قال : وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية " وروى ابن حبان عن معمر قال : إن عليه الآن بيتًا مبنيًا مغلقًا . قال العلامة ابن القيم رحمه الله في قصة هدم اللات ، لما أسلمت ثقيف : فيه أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يومًا واحدًا ، وكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور ، والتي اتخذت أوثانًا تعبد من دون الله ، والأحجار التي تقصد للتبرك والنذر لا يجوز إبقاء شئ منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالتها ، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة، أو أعظم شركًا عندها وبها . فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم ، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة ، وغلب الشرك على أكثر النفوس ، لظهور الجهل وخفاء العلم ، وصار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا ، والسنة بدعة والبدعة سنة ، وطمست الأعلام ، واشتدت غربة الإسلام ، وقل العلماء ، وغلب السفهاء ، وتفاقم الأمر ، واشتد البأس ، وظهر الفساد ، في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ، ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين ، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين ا هـ ملخصًا . قلت : فإذا كان هذا في القرن السابع وقبله ، فما بعده أعظم فسادًا كما هو الواقع .

سيكون في أمتي كذابون ثلاثة وقوله : وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي قال القرطبي : وقد جاء عددهم معينًا في حديث حذيفة قال : قال رسول الله  : " يكون في أمتي كذابون دجالون سبع وعشرون ، منهم أربع نسوة " أخرجه أبو نعيم . وقال : هذا حديث غريب . انتهى . وحديث ثوبان أصح من هذا . قال القاضي عياض : عد من تنبأ من زمن رسول الله إلى الآن ممن اشتهر بذلك وعرف وأتبعه جماعة على ضلالة . فوجد هذا العدد فيهم ، ومن طالع كتب الأخبار والتواريخ عرف صحة هذا . وقال الحافظ : وقد ظهر مصداق ذلك في زمن رسول الله ، فخرج مسيلمة الكذاب باليمامة ، والأسود العنسي باليمن ، وفي خلافة أبي بكر : طليحة بن خويلد في بني أسد بن خزيمة ، وسجاح في بني تميم ، وقتل الأسود قبل أن يموت النبي ، وقتل مسيلمة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه ، قتله وحشي قاتل حمزة يوم أحد ، وشاركه في قتل مسيلمة يوم اليمامة رجل من الأنصار ، وتاب طليحة ومات على الإسلام في زمن عمر رضي الله عنه. ونقل أن سجاح تابت أيضًا. ثم خرج المختار بن أبي عبيد الثقفي وغلب على الكوفة في أول خلافة الزبير . وأظهر محبة أهل البيت ودعا الناس إلى طلب قتلة الحسين ، فتتبعهم فقتل كثيرًا ممن باشر ذلك ، وأعان عليه . فأحبه الناس ، ثم ادعى النبوة وزعم أن جبريلًا عليه السلام يأتيه . ومنهم الحرث الكذاب ، خرج في خلافة عبد الملك بن مروان فقتل . وخرج في خلافة بني العباس جماعة . وليس المراد بالحديث من ادعى النبوة مطلقًا . فإنهم لا يصحون كثرة لكون غالبهم تنشأ دعوته عن جنون أو سوداء . وإنما المراد من قامت له شوكة وبدأ له شبهة كمن وصفنا . وقد أهلك الله تعالى من وقع له منهم ذلك وبقي منهم من يلحقه بأصحابه وآخرهم الدجال الأكبر . قوله : وأنا خاتم النبيين قال الحسن . الخاتم الذي ختم به يعني أنه آخر النبيين ، كما قال تعالى :' 33 : 40 ' " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين " وإنما ينزل عيسى ابن مريم في آخر الزمان حاكمًا بشريعة محمد مصليًا إلى قبلته . فهو كأحد من أمته ، بل هو أفضل هذه الأمة . قال النبي  : " والذي نفسي بيده لينزلن فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا . فليكسرن الصليب ، وليقتلن الخنزير ، وليضعن الجزية " .

الطائفة المنصورة أهل الحق قوله : ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم قال يزيد بن هرون ، وأحمد بن حنبل : إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم ؟ . قال ابن المبارك وعلى بن المديني ، وأحمد بن سنان والبخاري وغيرهم إنهم أهل الحديث وعن ابن المديني رواية هم العرب واستدل برواية من روى ، هم أهل الغرب . وفسر الغرب بالدلو العظيمة ، لأن العرب هم الذين يستقون بها . قال النووي  : يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين ما بين شجاع وبصير بالحرب ، وفقيه ومحدث ومفسر ، وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وزاهد وعابد ، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد ، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد ، وافتراقهم في أقطار الأرض ، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد وأن يكونوا في بعض دون بعض منه ، ويجوز إخلاء الأرض من بعضهم أولًا بأول إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد ، فإذا انقرضوا جاء أمر الله . ا هـ ملخصًا مع زيادة فيه . قاله الحافظ . قال القرطبي : وفيه دليل على أن الإجماع حجة لأن الأمة اجتمعت فقد دخل فيهم الطائفة المنصورة . قال المصنف رحمه الله : وفي الآية العظيمة : أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم . وفيه البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية . قتل : واحتج به الإمام أحمد على أن الإجتهاد لا ينقطع ما دامت هذه الطائفة موجودة . قوله : حتى يأتي أمر الله الظاهر أن المراد به ما روى من قبض من بقي من المؤمنين بالريح الطيبة ، ووقوع الآيات العظام ، ثم لا يبقى إلا شرار الناس ، كما روى الحاكم أن عبد الله بن عمر قال : لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق ، هم شر أهل الجاهلية فقال عقبة بن عامر لعبد الله : اعلم ما تقول ، وأما أنا فسمعت النبي يقول : لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك قال عبد الله : ويبعث الله ريحًا ريحها المسك ، ومسها مس الحرير فلا تترك أحدًا في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته ، ثم يبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة وفي صحيح مسلم : لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله . وعلى هذا فالمراد بقوله في حديث عقبة وما أشبهه حتى تأتيهم الساعة ساعتهم وهي وقت موتهم بهبوب الريح . ذكره الحافظ . وقد اختلف في محل هذه الطائفة ، فقال ابن بطال : إنها تكون في بيت المقدس ، كما رواه الطبراني من حديث أبي أمامة قيل: يا رسول الله ، أين هم ؟ قال : بيت المقدس وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه : هم بالشام وفي كلام الطبري ما يدل على أنه لا يجب أن تكون في الشام أو في بيت المقدس دائمًا ، بل قد تكون في موضع آخر في بعض الأزمنة . قلت : ويشهد له الواقع وحال أهل الشام وأهل بيت المقدس ، فإنهم من أزمنة طويلة لا يعرف فيهم من قام بهذا الأمر بعد شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه وأصحابه في القرن السابع وأول الثامن ، فإنهم كانوا في زمانهم على الحق يدعون إليه ، ويناظرون عليه ، ويجاهدون فيه . وقد يجيء من أمثالهم بعد بالشام من يقوم مقامهم بالدعوة إلى الحق والتمسك بالسنة . والله على كل شئ قدير . ومما يؤيد هذا أن أهل الحق والسنة في زمن الأئمة الأربعة وتوافر العلماء في ذلك الزمان وقبله وبعده لم يكونوا في محل واحد ، بل هم في غالب الأمصار في الشام منهم الأئمة ، وفي الحجار وفي مصر ، وفي العراق واليمن ، وكلهم على الحق يناضلون ، ويجاهدون أهل البدع ، ولهم المصنفات التي صارت أعلامًا لأهل السنة ، وحجة على كل مبتدع . فعلى هذا ، فهذه الطائفة قد تجتمع وقد تتفرق ، وقد تكون في الشام ، وقد تكون في غيره ، فإن حديث أبي أمامة ، وقول معاذ ، لا يفيد حصرها بالشام وإنما يفيد أنها تكون في الشام في مصر بعض الأزمنة لا في كلها . وكل جملة من هذا الحديث علم من أعلام النبوة ، فإن كل ما أخبر به النبي في هذا الحديث وقع كما أخبر . وقوله : تبارك وتعالى قال ابن القيم : البركة نوعان : أحدهما : بركة هي فعلة والفعل منها بارك ، ويتعدى بنفسه تارة وبأداة على تارة ، وبأداة في تارة، والمفعول منها مبارك. وهو ما جعل منها كذلك ، فكان مباركًا بجعله تعالى . والنوع الثاني : بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة ، والفعل منها تبارك ، ولهذا لا يقال لغيره ذلك ، ولا يصلح إلا له عز وجل ، فهو سبحانه المتبارك ، وعبده ورسوله المبارك ، كما قال المسيح عليه السلام : ' 19 : 30 ' " وجعلني مباركا أين ما كنت " فمن يبارك الله فيه وعليه فهو المبارك . وأما صفة تبارك فمختصة به ، كما أطلقه على نفسه في قوله : ' 7 : 54 ' " تبارك الله رب العالمين " ' 76 : 1 ' " تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير " أفلا تراها كيف اطردت في القرآن جارية عليه مختصة به ، لا تطلق على غيره ؟ وجاءت على بناء السعة والمبالغة ، كتعالى وتعاظم ونحوه ، فجاء بناء تبارك على بناء تعالى الذي هو دال على كمال العلو ونهايته ، فكذلك تبارك دال على كمال بركته وعظمته وسعتها . وهذا معنى قول من قال من السلف تبارك تعاظم . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : جاء بكل بركة .

ما هو الجبت والطاغوت قوله : قال عمر رضي الله عنه : الجبت : السحر . والطاغوت : الشيطان هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم وغيره . قوله : وقال جابر : الطواغيت كهان كان ينزل عليهم الشيطان ، في كل حي واحد هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم بنحوه مطولًا عن وهب بن منبه قال : سألت جابر بن عبد الله عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها ، فقال : إن في جهينة واحدًا ، وفي أسلم واحدًا ، وفي هلال واحدًا ، وفي كل حي واحدًا ، وهم كهان كانت تنزل عليهم الشياطين . قوله : قال جابر هو عبد الله بن حرام الأنصاري . قوله : الطواغيت كهان أراد أن الكهان من الطواغيت : فهو من إفراد المعنى . قوله : كان ينزل عليهم الشيطان أراد الجنس لا الشيطان الذي هو إبليس خاصة ، بل تنزل عليهم الشياطين ويخاطبونهم ويخبرونهم بما يسترقون من السمع ، فيصدقون مرة ويكذبون مائة . قوله : في كل حي واحد الحي واحد الأحياء ، وهم القبائل ، أي في كل قبيلة كاهن يتحاكمون إليه ويسألونه عن الغيب ، وكذلك كان الأمر قبل مبعث النبي فأبطل الله ذلك بالإسلام وحرست السماء بكثرة الشهب .

السبع الموبقات قوله : وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله  : " اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا : يا رسول الله وما هن ؟ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " . كذا أورده المصنف غير معزو . وقد رواه البخاري ومسلم . قوله : اجتنبوا أي ابعدوا ، وهو أبلغ من قوله : دعوا واتركوا ، لأن النهي عن القربان أبلغ ، كقوله : ' 6 : 141 ' " ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن " . قوله : الموبقات بموحدة وقاف . أي المهلكات. وسميت هذه موبقات لأنها تهلك فاعلها في الدنيا بما يترتب عليها من العقوبات، وفي الآخرة من العذاب . وفي حديث ابن عمر عند البخاري في الآدب المفرد والطبري في التفسير ، وعبد الرزاق مرفوعًا وموقوفًا قال : الكبائر تسع ـ وذكر السبع المذكورة ـ وزاد : والإلحاد في الحرم ، وعوق الوالدين ولابن أبي حاتم عن علي قال : الكبائر ـ فذكر السبع ـ إلا مال اليتيم ، وزاد ـ العقوق ، والتعرب بعد الهجرة ، وفراق : الجماعة ونكث الصفقة . قال الحافظ : ويحتاج عندي هذا الجواب عن الحكمة في الاقتصار على سبع . ويجاب : بأن مفهوم العدد ليس بحجة وهو ضعيف ، أو بأنه أعلم أو لا بالمذكورات. ثم أعلم بما زاد ، فيجب الأخذ بالزائد ، أو أن الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة إلى السائل . وقد أخرج الطبراني وإسماعيل القاضي عن ابن عباس أنه قيل له : الكبائر سبع قال : هن أكثر من سبع وسبع وفي رواية هي إلى سبعين أقرب وفي رواية : إلى السبعمائة . قوله : قال الشرك بالله هو أن يجعل لله ندًا يدعوه ويرجوه ، ويخافه كما يخاف الله ، بدأ به لأنه أعظم ذنب عصى الله به ، كما في الصحيحين عن ابن مسعود " سألت النبي أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال : أن تجعل لله ندًا وهو خلقك ، ..." الحديث ، وأخرج الترمذي بسنده عن صفوان بن عسال قال : قال يهودي لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا النبي ، فقال له صاحبه : لا تقل نبي ، إنه لو سمعك لكان له أربع أعين ، فأتيا رسول الله فسألاه عن تسع آيات بينات ، فقال النبي  : " لا تشركوا بالله شيئًا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله ، ولا تسحروا ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تقذفوا محصنة ، ولا تولوا للفرار يوم الزحف ، وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت . فقبلا يديه ورجليه . وقالا : نشهد أنك نبي ..." الحديث . وقال : حسن صحيح . قوله : السحر تقدم معناه . وهذا وجه مناسبة الحديث للترجمة . وقوله : وقتل النفس التي حرم الله أي حرم قتلها . وهي نفس المسلم المعصوم . قوله : إلا بالحق أي بأن تفعل ما يوجب قتلها . كالشرك والنفس بالنفس ، والزاني بعد الإحصان ، وكذا قتل المعاهد ، كما في الحديث "من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة " . واختلف العلماء فيمن قتل مؤمنًا متعمدًا ، وهل له توبة أم لا ؟ فذهب ابن عباس وأبو هريرة وغيرهما إلى أنه لا توبة له ، استدلالًا بقوله تعالى : ' 4 : 93 ' " ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها " وقال ابن عباس نزلت هذه الآية وهي آخر ما نزل وما نسخها شئ وفي رواية : لقد نزلت في آخر ما نزل وما نسخها شئ حتى قبض رسول الله وما نزل وحي وروى في ذلك آثار تدل لما ذهب إليه هؤلاء ، كما عند الإمام أحمد والنسائي وابن المنذر عن معاوية : سمعت رسول الله يقول : " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا " . وذهب جمهور الأمة سلفًا وخلفًا إلى أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله ، فإن تاب وأناب عمل صالحًا بدل الله سيئاته حسنات ، كما قال تعالى : ' 25 : 68 ـ 71 ' " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا " الآيات . قوله : ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا قال أبو هريرة وغيره هذا جزاؤه إن جازاه . وقد روى عن ابن عباس ما يوافق قول الجمهور ، فروى عبد بن حميد والنحاس عن سعيد بن عبادة أن ابن عباس رضي الله عنه كان يقول : لمن قتل مؤمنًا توبة وكذلك ابن عمر رضي الله عنهما . وروى مرفوعًا " أن جزاءه جهنم إن جازاه " . قوله : وآكل الربا أي تناوله بأي وجه كان ، كما قال تعالى : ' 2 : 275 ـ 280 ' " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " الآيات . قال ابن دقيق العيد : وهو مجرب لسوء الخاتمة . نعوذ بالله من ذلك . قوله : وآكل مال اليتيم يعني التعدي فيه . وعبر بالأكل لأنه أعم وجوه الانتفاع ، كما قال تعالى : ' 4 : 10 7" إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا " . قوله : والتولي يوم الزحف أي الإدبار عن الكفار وقت التحام القتال ، وإنما يكون كبيرة إذا فر إلى غير فئة أو غير متحرف لقتال . كما قيد به في الآية . قوله : وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات وهو بفتح الصاد : المحفوظات من الزنا ، وبكسرها الحافظات فروجهن منه ، والمراد بالحرائر العفيفات ، والمراد رميهن بزنا أو لواط . والغافلات ، أي عن الفواحش وما رمين به . فهو كناية عن البريئات . لأن الغافل بريء عما بهت به . والمؤمنات ، أي بالله تعالى احترازًا من قذف الكافرات .

حد الساحر : ضربه بالسيف قوله : وعن جندب مرفوعًا " حد الساحر ضربه بالسيف " رواه الترمذي وقال : الصحيح أنه موقوف . قوله : عن جندب ظاهر صنيع الطبراني في الكبير أنه جندب بن عبد الله البجلي . لا جندب الخير الأزدي قاتل الساحر فإنه رواه في ترجمة جندب البجلي من طريق خالد العبد عن الحسن عن جندب عن النبي . وخالد العبد ضعيف . قال الحافظ : والصواب أنه غيره . وقد رواه ابن قانع والحسن بن سفيان من وجهين عن الحسن عن جندب الخير : أنه جاء إلى ساحر فضربه بالسيف حتى مات ، وقال : سمعت رسول الله يقول ـ فذكره وجندب الخير هو جندب بن كعب ، وقيل: جندب بن زهير ، وقيل : هما واحد ، كما قال ابن حبان : أبو عبد الله الأزدي الغامدي صحابي روى ابن السكن من حديث بريدة أن النبي قال : " يضرب ضربة واحدة فيكون أمة واحدة ". قوله : حد الساحر ضربه بالسيف وروى بالهاء وبالتاء ، وكلاهما صحيح . وبهذا الحديث أخذ مالك وأحمد وأبو حنيفة فقالوا : يقتل الساحر . وروى ذلك عن عمر ، وعثمان ، وابن عمر ، وحفصة ، وجندب بن عبد الله ، وجندب بن كعب ، وقيس ابن سعد ، وعمر بن عبد العزيز ، ولم ير الشافعي القتل عليه بمجرد السحر إلا إن عمل في سحره ما يبلغ الكفر . وبه قال ابن المنذر وهو رواية عن أحمد . والأول أولى للحديث ولأثر عمر ، وعمل به الناس في خلافته من غير نكير . قال : وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال : كتب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة . قال فقتلنا ثلاث سواحر . هذا الأثر رواه البخاري كما قال المصنف رحمه الله ، لكن لم يذكر قتل السواحر . قوله : عن بجالة بفتح الموحدة بعدها جيم ، ابن عبدة بفتحتين ، التميمي العنبري بصرى ثقة . قوله : كتب إلينا عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة وظاهره أنه يقتل من غير استتابة . وهو كذلك على المشهور عن أحمد ، وبه قال مالك ، لأن علم السحر لا يزول بالتوبة . وعن أحمد يستتاب ، فإن تاب قبلت توبته ، وبه قال الشافعي لأن ذنبه لا يزيد عن الشرك ، والمشرك يستتاب وتقبل توبته ولذلك صح إيمان سحرة فرعون وتوبتهم . قوله : وصح عن حفصة أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت . هذا الأثر وراه مالك في الموطأ . وحفصة هي أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب تزوجها النبي بعد خينس بن حذافة وماتت سنة خمس وأربعين . قوله : وكذلك صح عن جندب أشار المصنف بهذا إلى قتلة الساحر كما رواه البخاري في تاريخه عن أبي عثمان النهدي قال : كان عند الوليد رجل يلعب فذبح إنسانًا وأبان رأسه فعجبنا ، فأعاد رأسه فجاء جندب الأزدى فقتله ورواه البيهقي في الدلائل مطولًا . وفيه فأمر به الوليد فسجن فذكر القصة بتمامها ولها طرق كثيرة . قوله : قال أحمد عن ثلاث من أصحاب النبي أحمد هو الإمام ابن محمد بن حنبل . قوله : عن ثلاثة أي صح قتل الساحر عن ثلاثة ، أو جاء قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي ، يعني عمر ، وحفصة ، وجندبًا . والله أعلم .

باب بيان شيء من أنواع السحر قوله : باب ( بيان شئ من أنواع السحر ) قلت : ذكر الشارح رحمه الله تعالى ها هنا شيئًا من الخوارق وكرامات الأولياء وذكر ما اغتر به كثير من الناس من الأحوال الشيطانية التي غرت كثيرًا من العوام والجهال ، وظنوا أنها تدل على ولاية من جرت على يديه ممن هو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن ثم قال : ولشيخ الإسلام كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان فراجعه . انتهى . قال رحمه الله تعالى قال أحمد : حدثنا محمد بن جعفر . حدثنا عوف عن حيان ابن العلاء ، حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه أنه سمع النبي قال : " إن العيافة ، والطرق ، والطيرة من الجبت " قال عوف : العيافة زجر الطير ، والطرق الخط يخط في الأرض ، والجبت : قال الحسن رنة الشيطان إسناده جيد . ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه  : المسند منه . قوله : قال أحمد هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل . ومحمد بن جعفر هو المشهور بغندر الهذلي البصري ، ثقة مشهور ، مات سنة ست ومائتين . وعوف هو ابن أبي جميلة ـ بفتح الجيم ـ العبدي البصري ، المعروف بعوف الأعرابي ، ثقة مات سنة ست أو سبع وأربعين ، وله ست وثمانون سنة . وحيان بن العلاء هو بالتحتية ، ويقال حيان بن مخارق ، أبو العلاء البصري ، مقبول . وقطن ، بفتحتين أبو سهل البصري صدوق . قوله : عن أبيه هو قبيصة ـ بفتح أوله ـ ابن مخارق ـ بضم الميم ـ أبو عبد الله الهلالي . صحابي ، نزل البصرة . قوله : إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت قال عوف : العيافة زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها ، وهو من عادات العرب ، وكثير من أشعارهم ، يقال : عاف يعيف عيفًا ، إذا زجر وحدس وظن . قوله : والطرق الخط يخط الأرض كذا فسره عوف ، وهو كذلك . وقال أبو السعادات : هو الضرب بالحصى الذي يفعله النساء . وأما الطيرة فيأتي الكلام عليها في بابها إن شاء الله تعالى . قوله : من الجبت أي السحر . قال القاضي : والجبت في الأصل الفضل الذي لا خير فيه ، ثم استعير لما يعبد من دون الله ، وللساحر والسحر . قوله : قال الحسن : رنة الشيطان قلت : ذكر إبراهيم بن محمد بن مفلح أن في تفسير بقي بن مخلد أن إبليس رن أربع رنات : رنة حين لعن ، ورنة حين أهبط ، ورنة حين ولد رسول الله ، ورنة حين نزلت فاتحة الكتاب . قال سعيد بن جيير : لما لعن الله تعالى إبليس تغيرت صورته عن صورة الملائكة ، ورن رنة ، فكل رنة منها في الدنيا إلى يوم القيامة . رواه ابن أبي حاتم . وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما فتح رسول الله مكة رن إبليس رنة اجتمعت إليه جنوده . رواه الحافظ الضياء في المختارة  : الرنين الصوت . وقد رن يرن رنينًا ، وبهذا يظهر معنى قول الحسن رحمه الله تعالى . قوله : ولأبي داود وابن حبان في صحيحه : المسند منه ولم يذكر التفسير الذي فسره به عوف . وقد رواه أبو داود بالتفسير المذكور بدون كلام الحسن .

من اقتبس شعبة من النجوم قوله : وعن أبي عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله  : " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر ، زاد ما زاد " رواه أبو داود بإسناد صحيح وكذا صححه النووي والذهبي ورواه أحمد وابن ماجه . قوله : من اقتبس قال أبو السعادات : قبست العلم واقتبسته إذا علمته ا هـ . قوله : شعبة أي طائفة من النجوم علم . والشعبة الطائفة . ومنه الحديث " الحياة شعبة من الإيمان " أي جزء منه . قوله : فقد اقتبس شعبة من السحر المحرم تعلمه . قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : فقد صرح رسول الله بأن علم النجوم من السحر ، وقال تعالى : ' 20 : 69 ' " ولا يفلح الساحر حيث أتى " . قوله : زاد ما زاد من تعلم علم النجوم زاد في الإثم الحاصل بزيادة الاقتباس من شعبه ، فإن ما يعتقده في النجوم من التأثير باطل ، كما أن تأثير السحر باطل .

من سحر فقد أشرك قوله : وللنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر . ومن سحر فقد أشرك . ومن تعلق شيئًا وكل إليه " هذا حديث ذكره المصنف من حديث أبي هريرة وعزاه للنسائي . وقد رواه النسائي مرفوعًا وحسنه ابن مفلح . قوله : وللنسائي هو الإمام الحافظ أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار أبو عبد الرحمن صاحب السنن وغيرها . وروى عن محمد بن المثنى وابن بشار وقتيبة وخلق ، وكان إليه المنتهي في العلم بعلل الحديث ، مات سنة ثلاث وثلثمائة ، وله ثمان وثمانون سنة رحمه الله تعالى . قوله : من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر اعلم أن السحرة إذا أرادوا عمل السحر عقدوا الخيوط ونفثوا على كل عقدة ، حتى ينعقد ما يريدون من السحر ، قال الله تعالى : " ومن شر النفاثات في العقد " يعني السواحر اللاتي يفعلن ذلك ، والنفث هو النفخ مع الريق ، وهو دون التفل . والنفث فعل الساحر ، فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده المسحور ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة نفخ في تلك العقيدة نفخًا معه ريق . فيخرج من نفسه الخبيثة نفس ممازج للشر والأذى مقارن للريق الممارج لذلك ، وقد يتساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور فيصيبه بإذن الله الكونى القدرى لا الشرعي ، قاله ابن القيم رحمه الله تعالى . قوله : ومن سحر فقد أشرك نص في أن الساحر مشرك ، إذا لا يتأتى السحر بدون الشرك كما حكاه الحافظ عن بعضهم . قوله : ومن تعلق شيئًا وكل إليه أي من تعلق قلبه شيئًا : بحيث يعتمد عليه ويرجوه وكله الله إلى ذلك الشئ . فمن تعلق على ربه وإلهه وسيده ومولاه رب كل شئ ومليكه ، كفاه ووقاه وحفظه وتولاه . فنعم المولى ونعم النصير . قال تعالى: ' 39 : 36 ' " أليس الله بكاف عبده " ومن تعلق على السحرة والشياطين وغيرهم من المخلوقين وكله الله إلى من تعلق فهلك . ومن تأمل ذلك في أحوال الخلق ونظر بعين البصيرة رآى ذلك عيانًا ، وهذا من جوامع الكلم . والله أعلم . قال : وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال : " ألا هل أنبئكم ما العضه ؟ هي النميمة ، القالة بين الناس " رواه مسلم . قوله : ألا هل أنبئكم أخبركم و العضه بفتح المهملة وسكون المعجمة ، قال أبو السعادات : هكذا يروي في كتب الحديث . والذي في كتب الغريب ألا أنبئكم ما العضه بكسر العين وفتح الضاد . قال الزمخشري : أصلها العضهة فعلة من العضة وهو البهت . فحذفت لامه ، كما حذفت من السنة والشفة ، وتجمع على عضين ثمن فسره بقوله : هي النميمة القالة بين فأطلق عليها العضه لأنها لا تنفك من الكذب والبهتان غالبًا . ذكره القرطبي . وذكر ابن عبد البر عن يحيى بن أبي كثير قال : يفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة . وقال أبو الخطاب في عيون المسائل : ومن السحر السعي بالنميمة والإفساد بين الناس . قال في الفروع : ووجهه أن يقصد الأذى بكلامه وعمله على وجه المكر والحيلة ، أشبه السحر ، وهذا يعرف بالعرف والعادة أنه يؤثر وينتج ما يعمله السحر ، أو أكثر فيعطى حكمه تسوية بين المتماثلين أو المتقاربين . لكن يقال : الساحر إنما يكفر لوصف السحر وهو أمر خاص ودليله خاص ، وهذا ليس بساحر . وإنما يؤثر عمله ما يؤثره فيعطي حكمه إلا فيما اختص به من الكفر وعدم قبول التوبة . انتهى ملخصًا . وبه يظهر مطابقة الحديث للترجمة . وهو يدل على تحريم النميمة ، وهو مجمع عليه قال ابن حزم رحمه الله : اتفقوا على تحريم الغيبة والنميمة في غير النصيحة الواجبة . وفيه دليل على أنها من الكبائر . قوله :القالة بين الناس قال أبو السعادات : أي كثرة القول وإيقاع الخصومة بين الناس ومنه الحديث : "فشت القالة بين الناس".

إن من البيان لسحرًا قال : ولهما عن ابن عمر أن رسول الله قال : " إن من البيان لسحر " البيان البلاغة والفصاحة . قال صعصعة بن صوحان : صدق نبي الله ، فإن الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق ، فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وقال ابن عبد البر تأوله طائفة على الذم . لأن السحر مذموم ، وذهب أكثر أهل العلم وجماعة أهل الأدب إلى أنه على المدح . لأن الله تعالى مدح البيان . قال : وقد قال عمر بن عبد العزيز لرجل سأله عن حاجة فأحسن المسألة فأعجبه قوله . قال : هذا ولله السحر الحلال انتهى . والأول أصح والمراد به البيان الذي فيه تمويه على السامع وتلبيس ، كما قال بعضهم : في زخرف القول تزيين لباطله والحق قد يعتريه سوء تعبير مأخوذ من قول الشاعر : تقول : هذا مجاج النحل ، تمدحه وإن تشأ قلت : ذا قيء الزنابير مدحًا وذمًا ، وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير قوله : إن من البيان لسحرًا هذا من التشبيه البليغ ، لكون ذلك يعمل عمل السحر ، فيجعل الحق في قالب الباطل ، والباطل في قالب الحق . فيستميل به قلوب الجهال ، حتى يقبلوا الباطل وينكروا الحق ، ونسأل الله الثبات والاستقامة على الهدى . وأما البيان الذي يوضح الحق ويقرره ، ويبطل الباطل ويبينه . فهذا هو الممدوح . وهكذا حال الرسل وأتباعهم ، ولهذا علت مراتبهم في الفضائل وعظمت حسناتهم . وبالجملة فالبيان لا يحمد إلا إذا لم يخرج إلى حد الإسهاب والإطناب ، وتغطية الحق ، وتحسين الباطل . فإذا خرج إلى هذا فهو مذموم . وعلى هذا تدل الأحاديث كحديث الباب وحديث " إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها " رواه أحمد وأبو داود .

باب ما جاء في الكهانة قوله : ( باب ما جاء في الكهان ونحوهم )

الكاهن هو الذي يأخذ عن مسترق السمع ، وكانوا قبل المبعث كثيرًا . وأما بعد المبعث فإنهم قليل . لأن الله تعالى حرس السماء بالشهب . وأكثر ما يقع في هذه الأمة ما يخبر به الجن أولياءهم من الإنس عن الأشياء الغائبة بما يقع في الأرض من الأخبار ، فيظنه الجاهل كشفًا وكرامة ، وقد اغتر بذلك كثير من الناس يظنون المخبر لهم بذلك عن الجن وليًا لله . وهو من أولياء الشيطان ، كما قال تعالى : ' 6 : 128 ' " ويوم يحشرهم جميعًا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم " . من أتى عرافًا فصدقه لا تقبل له صلاة قوله : روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي عن النبي قال : " من أتى عرافًا فسأله عن شئ ، فصدقه بما يقول ، لم تقبل له صلاة أربعين يومًا " . قوله : عن بعض أزواج النبي هي حفصة ، ذكره أبو مسعود الثقفي . لأنه ذكر هذا الحديث في الأطراف في مسندها . قوله : من أتى عرافًا سيأتي بيان العراف إن شاء الله تعالى . وظاهر هذا الحديث أن الوعيد مرتب على مجيئه وسؤاله ، سواء صدقه أو شك في خبره . فإن في بعض روايات الصحيح "من أتى عرافًا فسأله عن شئ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة " . قوله : لم تقبل له صلاة إذا كانت هذه حال السائل ، فكيف بالمسئول ؟ قال النووي وغيره : معناه أنه لا ثواب له فيها ، وإن كانت مجزئة بسقوط الفرض عنه ، ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث ، فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة . ا هـ ملخصًا . وفي الحديث النهي عن إتيان الكاهن ونحوه . قال القرطبي : يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم من يتعاطى شيئًا من ذلك من الأسواق وينكر عليهم أشد النكير ، وعلى من يجيء إليهم ، ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور ولا بكثرة من يجيء إليهم من ينتسب إلى العلم ، فإنهم غير راسخين في العلم بل من الجهال بما في إتيانهم من المحذور .

من أتى كاهنًا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد قال : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : " من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " رواه أبو داود . وفي رواية أبي داود أو أتى امرأة ـ قال مسدد : امرأته حائضًا ـ أو أتى امرأة . قال مسدد : امرأته في دبرها ـ فقد بريء مما أنزل على محمد فناقل هذا الحديث من السنن حذف منه هذه الجملة واقتصر على ما يناسب الترجمة . قال : وللأربعة والحاكم ـ وقال صحيح على شرطهما عن النبي من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد . هكذا بيض المصنف لاسم الراوي . وقد رواه أحمد والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة مرفوعًا . قوله : من أتى كاهنًا قال بعضهم لا تعارض بين هذا وبين حديث من أتى عرافًا فسأله عن شئ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة هذا على قول من يقول هو كفر دون كفر ، أما على قول من يقول بظاهر الحديث فيسأل عن وجه الجمع بين الحديثين . وظاهر الحديث أن يكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان . وكان غالب الكهان قبل النبوة إنما كانوا يأخذون عن الشياطين . قوله :فقد كفر بما أنزل على محمد قال القرطبي : المراد بالمنزل الكتاب والسنة . ا هـ . وهل الكفر في هذا الموضع كفر دون كفر ، فلا ينقل عن الملة ، أم يتوقف فيه ، فلا يقال يخرج عن الملة ولا يخرج ؟ وهذا أشهر الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى . قال : ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله مرفوعًا . أبو يعلى اسمه أحمد بن علي بن المثنى الموصلى الإمام صاحب التصانيف كالمسند وغيره . روى عن يحيى بن معين وأبى بكر بن أبي شيبة وخلق . وكان من الأئمة الحفاظ ، مات سنة سبع وثلاثمائة ، وهذا الأثر رواه البزار أيضًا ولفظه : من أتى كاهنًا أو ساحرًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد وفيه دليل على كفر الكاهن والساحر لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر ، والمصدق لهما يعتقد ذلك ويرضى به وذلك كفر أيضًا .

التحذير من الطيرة . والكهانة والسحر قال :وعن عمران بن حصين رضي الله عنه مرفوعًا " ليس منا من تطير أو تطير له ، أو تكهن أو تكهن له ، أو سحر أو سحر له. ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " رواه البزار بإسناد جيد ، ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله : ومن أتى كاهنًا .... الحديث . قوله : ليس منا فيه وعيد شديد يدل على أن هذه الأمور من الكبائر وتقدم أن الكهانة والسحر كفر . قوله : من تطير أي فعل الطيرة أو تطير له أي قبل قول المتطير له وتابعه كذا معنى أو تكهن أو تكهن له كالذي يأتي الكاهن ويصدقه ويتابعه ، وكذلك من عمل الساحر له السحر . فكل من تلقى هذه الأمور عمن تعاطاها فقد بريء منه رسول الله لكونها إما شركًا ، كالطيرة ، أو كفرًا كالكهانة والسحر ، فمن رضي بذلك وتابع عليه فهو كالفاعل لقبوله الباطل واتباعه . قوله : رواه البزار هو أحمد بن عمر بن عبد الخالق ، أبو بكر البزار البصري صاحب المسند الكبير . وروى عن ابن بشار وابن المثنى وخلق ، مات سنة اثنتين وتسعين ومائتين . قوله : قال البغوي إلى آخره البغوي ـ بفتحتين ـ هو الحسين بن مسعود الفراء الشافعي ، صاحب التصانيف وعالم أهل خراسان ، كان ثقة ، فقيهًا زاهدًا ، مات في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة رحمه الله تعالى .

من هو الكاهن والعراف قوله : العراف : الذي يدعى معرفة الأمور ظاهرة : أن العراف هو الذي يخبر عن الوقائع كالسرقة وسارقها والضالة ومكانها . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : إن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ، كالحارز الذي يدعى علم الغيب أو يدعى الكشف . وقال أيضًا : والمنجم يدخل في اسم العراف ، وعند بعضهم هو معناه . وقال أيضًا : والمنجم يدخل في اسم الكاهن عند الخطابي وغيره من العلماء ، وحكى ذلك عن العرب . وعند آخرين هو من جنس الكاهن ، وأسوء حالًا منه ، فيلحق به من جهة المعنى . وقال الإمام أحمد : العرافة طرف من السحر . والساحر أخبث . وقال أبو السعادات : العراف المنجم ، والحارز الذي يدعى علم الغيب ، وقد استأثر الله تعالى به . وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : من اشتهر بإحسان الزجر عندهم سموه عائفًا ، وعرافًا . والمقصود من هذا : معرفة أن من يدعى معرفة علم الشئ من المغيبات فهو إما داخل في اسم الكاهن ، وإما مشارك له في المعنى فيلحق به . وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف . ومنه ما هو من الشياطين ويكون بالفأل والزجر والطيرة والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة والسحر ، ونحو هذا من علوم الجاهلية ، ونعنى بالجاهلية كل من ليس من أتباع الرسل عليهم السلام ، كالفلاسفة والكهان والمنجمين ، وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي ، فإن هذا علوم لقوم ليس لهم علم بما جاءت به الرسل صلى الله عليهم وسلم ، وكل هذه الأمور تسمى صاحبها كاهنًا أو عرافًا أو في معناهما ، فمن أتاهم فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد . وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه ، وادعوا أنهم أولياء وأن ذلك كرامة . ولا ريب أن من ادعى الولاية ، واستدل بإخباره ببعض المغيبات فهو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن ، إن الكرامة أمر يجريه الله على يد عبده المؤمن التقى ، إما بدعاء أو أعمال صالحة لا صنع للولي فيها ، ولا قدرة له عليها ، بخلاف من يدعى أنه ولي ويقول للناس : اعلموا أني أعلم المغيبات ، فإن هذه الأمور قد تحصل بما ذكرنا من الأسباب ، وإن كانت أسبابًا محرمة كاذبة في الغالب ، ولهذا قال النبي في وصف الكهان : فيكذبون معها مائة كذبة فبين أنهم يصدقون مرة ويكذبون مائة ، وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يدعى الولاية تزكية النفس المنهي عنها بقوله : ' 53 : 32 ' " فلا تزكوا أنفسكم " وليس هذا من شأن الأولياء ، فإن شأنهم الإزراء على نفوسهم وعيبهم لها ، وخوفهم من ربهم ، فكيف يأتون الناس ويقولون : اعرفوا أننا أولياء ، وأنا نعلم الغيب ؟ وفي ضمن ذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق واقتناص الدنيا بهذه الأمور. وحسبك بحال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ، وهم سادات الأولياء ، أفكان عندهم من هذه الدعاوى والشطحات شئ ؟ لا والله بل كان أحدهم لا يملك نفسه من البكاء إذا قرآ القرآن ، كالصديق رضي الله عنه ، وكان عمر رضي اله عنه يسمع نشيجه من وراء الصفوف يبكي في صلاته ، وكان يمر بالآية في ورده من الليل فيمرض منها ليالي يعودونه ، وكان تميم الداري يتقلب على فراشه ولا يستطيع النوم إلا قليلًا خوفًا من النار ثم يقوم إلى صلاته . ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكره الله تعالى في صفاتهم في سورة الرعد والمؤمنين والفرقان والذاريات والطور فالمتصفون بتلك الصفات هم الأولياء الأصفياء ، لا أهل الدعوى والكذب ومنازعة رب العالمين فيما اختص به من الكبرياء والعظمة وعلم الغيب ، بل مجرد دعواه علم الغيب كفر . فكيف يكون المدعى لذلك وليًا لله ؟ ولقد عظم الضرر واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذين ورثوا هذه العلوم عن المشركين ، ولبسوا بها على خفافيش القلوب : نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة . قوله :وقال ابن عباس في قوم يكتبون أبا جاد إلى آخره هذا الأثر رواه الطبراني عن ابن عباس مرفوعًا . وإسناده ضعيف . ولفظه " رب معلم حروف أبي جاد دارس في النجوم ليس له عند الله خلاق يوم القيامة " ورواه حمد بن زنجويه عنه بلفظ رب ناظر في النجوم ومتعلم حروف أبي جاد ليس له عند الله خلاق . قوله : ما أرى بجوز فتح الهمزة بمعنى : لا أعلم . ويجوز ضمها بمعنى : لا أظن وكتابه أبي جاد وتعلمها لمن يدعى بها علم الغيب هو الذي يسمى علم الحرف ، وهو الذي جاء في الوعيد ، فأما تعلمها للتهجي وحساب الحمل فلا بأس به . قوله : وينظرون في النجوم أي يعتقدون أن لها تأثيرًا كما سيأتي في باب التنجيم . وفيه من الفوائد عدم الاغترار بما يؤتاه أهل الباطل من معارفهم وعلومهم كما قال تعالى : ' 40 : 83 ' " فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون " .