فتح المجيد/القسم الثاني


فضل التوحيد

عدل

قوله : (باب بيان فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب)

باب خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا (قلت) ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره هذا . وما يجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف، أي وبيان الذي يكفره من الذنوب، ويجوز أن تكون مصدرية، أي وتكفيره الذنوب، وهذا الثانى أظهر .

قوله : وقول الله تعالى : '6 : 82' "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون" قال ابن جرير : حدثنى المثنى - وساق بسنده - عن الربيع ابن أنس قال : الإيمان الإخلاص لله وحده ) .

وقال ابن كثير في الآية : أى هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده ولم يشركوا به شيئًا هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والاخرة . وقال زيد بن أسلم وابن إسحاق : هذا من الله على فصل القضاء بين إبراهيم وقومه .

وعن ابن مسعود : (لما نزلت هذه الآية قالوا : فأينا لم يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله : ليس بذلكم، ألم تسمعوا إلى قول لقمان : "إن الشرك لظلم عظيم" ) .

وساقه البخارى بسنده فقال "حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنى إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال : لما نزلت : "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم" قلنا : يا رسول الله، أينا لا يظلم نفسه ؟ قال : ليس كما تقولون، لم يلبسوا إيمانهم بظلم، بشرك . أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه : " يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم " " .

ولأحمد بنحوه عن "عبد الله قال : ( لما نزلت "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم" شق ذلك على أصحاب رسول الله فقالوا يا رسول الله : فأينا لا يظلم نفسه ؟ قال : إنه ليس الذى تعنون . ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح : " يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم " إنما هو الشرك) " . وعن عمر أنه فسره بالذنب . فيكون المعنى : الأمن من كل عذاب . وقال الحسن والكلبي : أولئك لهم الأمن، في الآخرة، وهم مهتدون في الدنيا .

قال شيخ الإسلام : والذى شق عليهم أنهم ظنوا أن الظالم المشروط عدمه هو ظلم العبد نفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه، فبين لهم النبي ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله، فلا يحصل الأمن وإلاهتداء إلا لمن يلبس إيمانه بهذا الظلم، فإن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والاهتداء، كما كان من أهل الاصطفاء في قوله : '35 : 32' "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير" وهذا لا ينفى أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه بذنب إذا لم يتب كما قال تعالى : '99 : 7، 8' " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " وقد " سأل أبو بكر الصديق رضى الله عنه النبي فقال : يا رسول الله، أينا لم يعمل سوءًا ؟ فقال : يا أبا بكر ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ أليس يصيبك اللأواء ؟ فذلك ما تجزون به" فبين أن المؤمن إذا مات دخل الجنة قد يجزى بسيئاته في الدنيا بالمصائب . فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة : الشرك، وظلم العباد . وظلمه لنفسه بما دون الشرك . كان له الأمن التام والاهتداء التام . ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمن والاهتداء المطلق . بمعنى أنه لابد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى : وقد هداه الله إلى الصراط المستقيم الذى تكون عاقبته فيه إلى الجنة . ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه وليس مراد النبي بقوله إنما هو الشرك أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام . فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف، لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام اللذين يكونون بهما مهتدين إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، من غير عذاب يحصل لهم . بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط، ومعهم أصل نعمة الله عليهم ولابد لهم من دخول الجنة . وقوله إنما هو الشرك إن أراد الأكبر، فمقصوده أن من لم يكن من أهله فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة . وإن كان مراده جنس الشرك . يقال ظلم العبد نفسه، كبخله لحب المال ببعض الواجب - هو شرك أصغر . وحبه ما يبغضه الله تعالى حتى يقدم هواه على محبة الله الشرك أصغر ونحو ذلك . فهذا فاته من الأمن والاهتداء بحسبه . ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الشرك بهذا الاعتبار ملخصًا .

وقال ابن القيم رحمه الله : قوله : "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون" قال الصحابة : وأينا يا رسول الله لم يلبس إيمانه بظلم ؟ قال : ذلك الشرك . ألم تسمعوا قول العبد الصالح "إن الشرك لظلم عظيم" لما أشكل عليهم المراد بالظلم فظنوا أن ظلم النفس داخل فيه .

وأن من ظلم نفسه أى ظلم كان لم يكن آمنًا ولا مهتديًا . أجابهم صلوات الله وسلامه عليه بأن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك . وهذا والله هو الجواب، الذى يشفي العليل ويروي الغليل. فإن الظلم المطلق التام هو الشرك . الذى هو وضع العبادة في غير موضعها . والأمن والهدى المطلق : هما الأمن في الدنيا والآخرة.

والهدى إلى الصراط المستقيم . فالظلم المطلق التام رافع للأمن والاهتداء المطلق التام . ولا يمنع أن يكون الظلم مانعًا من مطلق الأمن ومطلق الهدى . فتأمله . فالمطلق للمطلق، والحصة للحصة ا هـ ملخصًا .


حديث عبادة من شهد أن لا إله إلا الله إلخ

وقوله ("عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله  : من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه . والجنة حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " . أخرجاه) .

عبادة بن الصامت بن قيس الأنصارى الخزرجى، أبو الوليد، أحد النقباء بدرى مشهور مات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله اثنتان وسبعون سنة، وقيل : عاش إلى خلافة معاوية رضى الله عنه .

قوله (من شهد أن لا إله إلا الله) أى من تكلم بها عارفًا لمعناها، عاملًا بمقتضاها، باطنًا وظاهرًا، فلابد في الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولها، كما قال الله تعالى : '7 4 : 19'"فاعلم أنه لا إله إلا الله" وقوله '43 : 86' "إلا من شهد بالحق وهم يعلمون" أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه : من البراءة من الشرك، وإخلاص القول والعمل : قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح - فغير نافع بالإجماع .

قال القرطبى في المفهم على صحيح مسلم : باب لا يكفى مجرد التلفظ بالشهادتين بل لابد من استيقان القلب - هذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة، القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كاف في الإيمان . وأحاديث هذا الباب تدل على فساده . بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها . ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح . وهو باطل قطعًا ا هـ .

وفى هذا الحديث ما يدل على هذا . وهو قوله : من شهد فإن الشهادة لا تصح إلا إذا كانت عن علم ويقين وإخلاص وصدق .

قال النووي : هذا حديث عظيم جليل الموقع، وهو أجمع - أو من أجمع - الأحاديث المشتملة على العقائد . فإنه جمع فيه ما يخرج من ملل الكفر على اختلاف عقائدههم وتباعدها . فاقتصر في هذه الأحرف على ما يباين جميعهم ا هـ .


معنى لا إله إلا الله

ومعنى لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله . وهو في غير موضع من القرآن، ويأتيك في قول البقاعى صريحا قوله (وحده) تأكيد للإثبات (لا شريك له) تأكيد للنفى . قال الحافظ : كما قال تعالى : '2 : 163'"وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" وقال : '21 : 25' " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " وقال : '7 : 65' "وإلى عاد أخاهم هودًا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره" فأجابوه ردًا عليه بقولهم : " أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا " وقال تعالى : '22 : 62' " ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير " .

فتضمن ذلك نفى الإلهية عما سوى الله، وهي العبادة . وإثباتها لله وحده لا شريك له، والقرآن من أوله إلى آخره يبين هذا ويقرره ويرشد إليه .

فالعبادة بجميع أنواعها إنما تصدر عن تأله القلب بالحب والخضوع والتذلل رغبًا ورهبًا، وهذا كله لا يستحقه إلا الله تعالى، كما تقدم في أدلة هذا الباب وما قبله . فمن صرف من ذلك شيئًا لغير الله فقد جعله لله ندًا، فلا ينفعه مع ذلك قول ولا عمل .

(ذكر كلام العلماء، في معنى لا إله إلا الله)

قد تقدم كلام ابن عباس، وقال الوزير أبو المظفر في الإفصاح : قوله : شهادة أن لا إله إلا الله يقتضى أن يكون الشاهد عالمًا بأنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى : "فاعلم أنه لا إله إلا الله" قال: واسم (الله) بعد (إلا) من حيث أنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه . قال : وجملة الفائدة في ذلك : أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله سبحانه كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله .

وقال ابن القيم في البدائع ردًا لقول من قال : إن المستثنى مخرج من المستثنى منه . قال ابن القيم : بل هو مخرج من المستثنى منه وحكمه، فلا يكون داخلًا في المستثنى، إذ لو كان كذلك لم يدخل الرجل في الإسلام بقوله : لا إله إلا الله لأنه لم يثبت الإلهية لله تعالى . وهذه أعظم كلمة تضمنت بالوضع نفى الإلهية عما سوى الله وإثباتها له بوصف الاختصاص . فدلالتها على إثبات إلهيته أعظم من دلالة قولنا : (الله إله) ولا يستريب أحد في هذا البتة . انتهى بمعناه .

وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره (لا إله إلا الله) أى لا معبود إلا هو . وقال الزمخشرى : الإله من أسماء الأجناس . كالرجل والفرس، يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق .

وقال شيخ الإسلام : الإله هو المعبود المطاع، فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذى يستحق أن يعبد . وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التى تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، قال : فإن الإله هو المحبوب المعبود الذى تألهه القلوب بحبها، وتخضع له وتذل له، وتخافه وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده، ولهذا كانت (لا إله إلا الله) أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداءه وأهل غضبه ونقمته، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله .

وقال ابن القيم : (الإله) هو الذى تألهه القلوب محبة وإجلالًا وإنابة، وإكرامًا وتعظيمًا وذلًا وخضوعًا وخوفًا ورجاء وتوكلًا .

وقال ابن رجب : (الإله) هو الذى يطاع فلا يعصى، هيبة له وإجلالًا، ومحبة وخوفًا ورجاء، وتوكلًا عليه، وسؤالًا منه ودعاء له، ولا يصلح هذا كله إلا الله عز وجل، فمن أشرك مخلوقًا في شئ من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحًا في إخلاصه في قول (لا إله إلا الله) وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب مافيه من ذلك .

وقال البقاعي : لا إله إلا الله، أى انتفاء عظيمًا أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علمًا إذا كان نافعًا، وإنما يكون نافعًا إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف .

وقال الطيبي : (الإله) فعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من أله إلهة أى عبد عبادة . قال الشارح : وهذا كثير في كلام العلماء وإجماع منهم .

فدلت (لا إله إلا الله) على نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى كائنًا ما كان، وإثبات الإلهية لله وحده دون كل ما سواه، وهذا هو التوحيد الذى دعت إليه الرسل ودل عليه القرآن من أوله إلى آخره، كما قال تعالى عن الجن : '72 : 1' " قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا " فلا إله إلا الله لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفيًا وإثباتًا، واعتقد ذلك وقبله وعمل به . وأما من قالها من غير علم واعتقاد وعمل، فقد تقدم في كلام العلماء أن هذا جهل صرف، فهى حجة عليه بلا ريب .

فقوله في الحديث وحده لا شريك له تأكيد وبيان لمضمون معناها . وقد أوضح الله ذلك وبينه في قصص الأنبياء والمرسلين في كتابه المبين، فما أجهل عباد القبور بحالهم ! وما أعظم ما وقعوا فيه من الشرك المنافى لكلمة الاخلاص لا إله إلا الله ! فإن مشركي العرب ونحوهم جحدوا لا إله إلا الله لفظًا ومعنى . وهؤلاء المشركون أقروا بها لفظًا وجحدوها معنى، فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله بأنواع العبادة، كالحب والتعظيم، والخوف والرجاء والتوكل والدعاء، وغير ذلك من أنواع العبادة . بل زاد شركهم على شرك العرب بمراتب، فإن أحدهم إذا وقع في شدة أخلص الدعاء لغير الله تعالى، ويعتقدون أنه أسرع فرجًا من الله، بخلاف حال المشركين الأولين، فإنهم يشركون في الرخاء، وأما في الشدائد فإنما يخلصون لله وحده، كما قال تعالى '29 : 65' " فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون " الآية . فبهذا يتبين أن مشركي أهل هذه الأزمان أجهل بالله وبتوحيده من مشركي العرب ومن قبلهم .


معنى محمد رسول الله

وقوله : (وأن محمدًا عبده ورسوله) أي وشهد بذلك، وهو معطوف على ما قبله على نية تكرار العامل، ومعنى العبد هنا المملوك العابد، أي أنه مملوك لله تعالى . والعبودية الخاصة وصفه، كما قال تعالى : '39 : 26' "أليس الله بكاف عبده" فأعلى مراتب العبد العبودية الخاصة والرسالة فالنبي أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين . وأما الربوبية والإلهية فهما حق الله تعالى، لا يشركه في شئ منهما ملك مقرب ولا نبى مرسل . وقوله : عبده ورسوله أتى بهاتين الصفتين وجمعهما دفعًا للإفراط والتفريط، فإن كثيرًا ممن يدعى أنه من أمته أفرط بالغلو قولًا وعملًا، وفرط بترك متابعته، واعتمد على الآراء المخالفة لما جاء به، وتعسف في تأويل أخباره وأحكامه، بصرفها عن مدلولها والصدوف عن الانقياد لها مع إطراحها فإن شهادة أن محمدًا رسول الله تقتضى الإيمان به وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، وأن يعظم أمره ونهيه، ولا يقدم عليه قول أحد كائنًا من كان . والواقع اليوم وقبله - ممن يتنسب إلى العلم من القضاة والمفتين - خلاف ذلك، والله المستعان . وروى الدارمى في مسنده عن "عبد الله بن سلام رضى الله عنه أنه كان يقول : إنا لنجد صفة رسول الله  : إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميته المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزى بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويتجاوز، ولن أقبضه حتى يقيم الملة المتعوجة بأن يشهد أن لا إله إلا الله، يفتح به أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا " قال عطاء بن يسار : وأخبرنى أبو واقد الليثى أنه سمع كعبًا يقول مثل ما قال ابن سلام .


معنى أن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته

قوله : (وأن عيسى عبد الله ورسوله) أى خلافًا لما يعتقده النصارى أنه الله أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة . تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا '23 : 91'"ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله" فلا بد أن يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله على علم ويقين بأنه مملوك لله، خلقه من أنثى بلا ذكر، كما قال تعالى : '3 : 59'"إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" فليس ربًا ولا إلهًا . سبحان الله عما يشركون . قال تعالى '19 : 29 - 36'" فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا * قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا * ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم " وقال : '4 : 172'"لن يستنكف المسيح أن يكون عبدًا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعًا " ويشهد المؤمن أيضًا ببطلان قول أعدائه اليهود : أنه ولد بغى، لعنهم الله تعالى . فلا يصح إسلام أحد علم ما كانوا يقولونه حتى يبرأ من قول الطائفتين جميعًا في عيسى عليه السلام، ويعتقد ما قاله الله تعالى فيه : أنه عبد الله ورسوله .

قوله : (وكلمته) إنما سمى عيسى عليه السلام كلمة لوجوده بقوله تعالى : كن كما قاله السلف من المفسرين . قال الإمام أحمد في الرد على الجهمية بالكلمة التى ألقاها إلى مريم حين قال له كن فكان عيسى بكن وليس عيسى هو كن ولكن بكن كان . فكن من الله تعالى قول، وليس كن مخلوقًا، وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى انتهى .

قوله : (ألقاها إلى مريم) قال ابن كثير : خلقه بالكلمة التى أرسل بها جبريل إلى مريم فنفخ فيها من روحه بأمر ربه عز وجل : فكان عيسى بإذن الله عز وجل، فهو ناشىء عن الكلمة التي قال له كن فكان والروح التى أرسل بها : هو جبريل عليه السلام .

وقوله : (وروح منه) قال أبى بن كعب : عيسى روح من الأرواح التى خلقها الله تعالى واستنطقها بقوله : '7 : 271' "ألست بربكم قالوا بلى" بعثه الله إلى مريم فدخل فيها رواه عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، وابن جرير وابن أبى حاتم وغيرهم . قال الحافظ : ووصفه بأنه منه، فالمعنى أنه كائن منه، كما في قوله تعالى'45 : 12'" وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه " فالمعنى أنه كائن منه، كما أن معنى الأية الأخرى أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه أي أنه مكون ذلك وموجده بقدرته وحكمته .

قال شيخ الإسلام : المضاف إلى الله تعالى إذا كان معنى لا يقوم بنفسه ولا بغيره من المخلوقات وجب أن يكون صفة لله تعالى قائمة به، وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب . وإذا كان المضاف عينًا قائمة بنفسها كعيسى وجبريل عليهما السلام وأرواح بني آدم امتنع أن تكون صفة لله تعالى، لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره .

لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين :

أحدهما : أن تضاف إليه لكونه خلقها وأبدعها، فهذا شامل لجميع المخلوقات، كقولهم : سماء الله، وأرض الله . فجميع المخلوقين عبيد الله، وجميع المال مال الله .

الوجه الثانى : أن يضاف إليه لما خصه به من معنى يحبه ويأمر به ويرضاه، كما خص البيت العتيق بعبادة فيه لا تكون في غيره. وكما يقال في مال الخمس والفىء : هو مال الله ورسوله . ومن هذا الوجه : فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره . فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه ودينه، وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه . ا . هـ ملخصًا .

قوله : (والجنة حق والنار حق) أى وشهد أن الجنة التى أخبر بها الله تعالى في كتابه أنه أعدها للمتقين حق، أى ثابتة لا شك فيها، وشهد أن النار التى أخبر بها تعالى في كتابه أنه أعدها للكافرين حق كذلك ثابتة، كما قال تعالى : '57 :1' " سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " وقال تعالى : '2 : 24'" فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين " وفى الآيتين ونظائرهما دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، خلافا للمبتدعة . وفيهما الإيمان بالمعاد .

وقوله : (أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) هذه الجملة جواب الشرط وفى رواية : أدخله الله من أى أبواب الجنة الثمانية شاء . قال الحافظ : معنى قوله : على ما كان من العمل أى من صلاح أو فساد، لأن أهل التوحيد لابد لهم من دخول الجنة، ويحتمل أن يكون معنى قوله : على ما كان من العمل أن يدخله الجنه على حسب أعمال كل منهم في الدرجات .

قال القاضى عياض : ما ورد في حديث عبادة يكون مخصوصًا لمن قال ما ذكره وقرن بالشهادتين حقيقة الإيمان والتوحيد الذي ورد في حديثه فيكون له من الأجر ما يرجح على سيئاته ويوجب له المغفرة والرحمة ودخول الجنة لأول وهلة .


حديث عتبان بن مالك : أن الله حرم على النار

(قال : ولهما في حديث عتبان فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) .

قوله : (ولهما) أي البخاري ومسلم في صحيحيهما بكماله . وهذا طرف من حديث طويل أخرجه الشيخان .

وعتبان بكسر المهملة بعدها مثناة فوقية ثم موحدة، ابن مالك بن عمرو بن العجلان الأنصاري، من بنى سالم بن عوف، صحابي مشهور، مات في خلافة معاوية .

وأخرج البخاري في صحيحه بسنده "عن قتادة قال : حدثنا أنس بن مالك أن النبي ومعاذ رديفه على الرحل قال : يا معاذ، قال : لبيك يا رسول الله وسعديك . قال : يا معاذ، قال لبيك يا رسول الله وسعديك . قال : يا معاذ، قال : لبيك يا رسول الله وسعديك - ثلاثًا - قال : ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صدقًا من قلبه إلا حرمه الله تعالى على النار، قال : يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا ؟ قال : إذًا يتكلوا، فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا " . وساق بسند آخر : "حدثنا معتمر قال : سمعت أبي، قال : سمعت أنسًا قال : ذكر لي أن النبي قال لمعاذ ابن جبل : من لقى الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة . قال : ألا أبشر الناس ؟ قال : لا، إنى أخاف أن يتكلوا " .

قلت : فتبين بهذا السياق معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأنها تتضمن ترك الشرك لمن قالها بصدق ويقين وإخلاص .

قال شيخ الإسلام وغيره : في هذا الحديث ونحوه أنها فيمن قالها ومات عليها، كما جاءت مقيدة بقوله : خالصًا من قلبه غير شاك فيها بصدق ويقين فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى جملة، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصًا من قلبه دخل الجنة، لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحًا، فإذا مات على تلك الحال نال ذلك فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة" وتواترت بأن كثيرًا ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها، وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم، فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون لله، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله، ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص، وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليدًا أو عادة، ولم تخالط حلاوة الإيمان بشاشة قلبه . وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء، كما في الحديث "سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته" وغالب أعمال هؤلاء إنما هى تقليد واقتداء بأمثالهم، وهم من أقرب الناس من قوله تعالى : '43 : 23' "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون" .

وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصرًا على ذنب أصلًا، فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شئ، فإذًا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما أمر الله . وهذا هو الذي يحرم على النار وإن كانت له ذنوب قبل ذلك، فإن هذا الإيمان وهذا الإخلاص، وهذه التوبة وهذه المحبة وهذا اليقين، لا تترك له ذنبًا إلا محي عنه كما يمحو الليل النهار، فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر، فهذا غير مصر على ذنب أصلًا، فيغفر له ويحرم على النار، وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك، فهذه الحسنة لا يقاومها شئ من السيئات فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة فيحرم على النار، ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه، وهذا بخلاف من رجحت سيئاته بحسناته ومات مصرًا على ذلك، فإنه يستوجب النار . وإن قال لا إله إلا الله وخلص بها من الشرك الأكبر ولكنه لم يمت على ذلك، بل أتى بعدها بسيئات رجحت على حسنة توحيده، فإنه في حال قولها كان مخلصًا لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك بخلاف المخلص المستيقن، فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته ولا يكون مصرًا على سيئات، فإن مات على ذلك دخل الجنة .

وإنما يخاف على المخلص أن يأتى بسيئة راجحة فيضعف إيمانه فلا يقولها بإخلاص ويقين مانع من جميع السيئات، ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر، فإن سلم من الأكبر بقي معه من الأصغر فيضيف إلى ذلك سيئات تنضم إلى هذا الشرك فيرجح جانب السيئات فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين، فيضعف قول لا إله إلا الله، فيمتنع الإخلاص بالقلب، فيصير المتكلم بها كالهاذى أو النائم، أو من يحسن صوته بالآية من القرآن من غير ذوق طعم وحلاوة، فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين، بل يأتون بعدها بسيئات تنقض ذلك بل يقولونها من غير يقين وصدق ويحيون على ذلك، ويموتون على ذلك، ولهم سيئات كثيرة تمنعهم من دخول الجنة . فإذا كثرت الذنوب ثقل على اللسان قولها وقسا القلب عن قولها، وكره العمل الصالح وثقل عليه سماع القرآن، واستبشر بذكر غير الله، واطمأن إلى الباطل، واستحلى الرفث، ومخالطة أهل الغفلة، وكره مخالطة أهل الحق، فمثل هذا إذا قالها قال بلسانه ما ليس في قلبه، وبفيه ما لا يصدقه عمله .

قال الحسن : ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال . فمن قال خيرًا وعمل خيرًا قبل منه، ومن قال خيرًا وعمل شرًا لم يقبل منه .

وقال بكر بن عبد الله المزنى : ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بشئ وقر في قلبه .

فمن قال : لا إله إلا الله ولم يقم بموجبها بل اكتسب مع ذلك ذنوبًا، وكان صادقًا في قولها موقنًا بها، لكن له ذنوب أضعفت صدقه ويقينه، وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملي، فرجحت هذه السيئات على هذه الحسنة، ومات مصرًا على الذنوب، بخلاف من يقولها بيقين وصدق، فإنه إما أن لا يكون مصرًا على سيئة أصلًا، ويكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته. والذين يدخلون النار ممن يقولها : إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التام المنافيين للسيئات أو لرجحانها، أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم، ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم، ثم لم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين تام، لأن الذنوب قد أضعفت ذلك الصدق واليقين من قلوبهم، فقولها من مثل هؤلاء لا يقوي على محو السيئات فترجح سيئاتهم على حسناتهم . انتهى ملخصًا .

وقد ذكر هذا كثير من العلماء كابن القيم وابن رجب وغيرهم .

قلت : وبما قرره شيخ الاسلام تجتمع الأحاديث .

قال : وفي الحديث دليل على أنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد وبالعكس، وفي تحريم النار على أهل التوحيد الكامل وفيه إن العمل لا ينفع إلا إذا كان خالصًا لوجه الله تعالى على ما شرعه على لسان رسوله .

(تنبيه) قال القرطبي في تذكرته : قوله في الحديث من إيمان أي من أعمال الإيمان التي هي من أعمال الجوارح، فيكون فيه دلالة على أن الأعمال الصالحة من الإيمان، والدليل على أنه أراد بالإيمان ما قلناه، ولم يرد مجرد الإيمان الذي هو التوحيد ونفي الشركاء والإخلاص بقول لا إله إلا الله ما في الحديث نفسه من قوله أخرجوا - ثم بعد ذلك يقبض سبحانه قبضة فيخرج قومًا لم يعملوا خيرًا قط يريد بذلك التوحيد المجرد من الأعمال ا هـ ملخصًا من شرح سنن ابن ماجة .

قال المصنف رحمه الله ("وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله قال : قال موسى عليه السلام : يا رب علمني شيئًا أذكرك وأدعوك به، قال : قل يا موسى لا إله إلا الله . قال : كل عبادك يقولون هذا، قال : يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله رواه ابن حبان والحاكم وصححه") .

أبو سعيد : اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل وأبوه كذلك، استصغر أبو سعيد بأحد وشهد ما بعدها، مات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين وقيل سنة أربع وستين .

قوله (أذكرك) أي أثني عليك به (وأدعوك) أي اسألك به .

قوله (قل يا موسى لا إله إلا الله) فيه أن الذاكر بها يقولها كلها، ولا يقتصر على لفظ الجلالة، ولا على هو كما يفعله غلاة جهال المتصوفة، فإن ذلك بدعة وضلال .

قوله : (كل عبادك يقولون هذا) ثبت بخط المصنف بالجمع، والذى في الأصول يقول بالإفراد مراعاة للفظة كل وهو في المسند من حديث عبد الله بن عمر بلفظ الجمع كما ذكره المصنف على معنى كل ومعنى قوله كل عبادك يقولون هذا أي إنما أريد شيئًا تخصني به من بين عموم عبادك، وفى رواية بعد قوله كل عبادك يقولون هذا - قل لا إله إلا الله، قال لا إله إلا أنت يارب، إنما أريد شيئًا تخصنى به .

ولما كان بالناس - بل بالعالم كله - من الضرورة إلى لا إله إلا الله ما لا نهاية له، كانت من أكثر الأذكار وجودًا، وأيسرها حصولًا، وأعظمها معنى . والعوام والجهال يعدلون عنها إلى الدعوات المبتدعة التى ليست في الكتاب ولا في السنة .

قوله (وعامرهن غيري) هو بالنصب عطف على السموات، أي لو أن السموات السبع ومن فيهن من العمار غير الله تعالى، والأرضين السبع ومن فيهن، وضعوا في كفة الميزان ولا إله إلا الله في الكفة الأخرى، مالت بهن لا إله إلا الله .

وروى الإمام أحمد عن "عبد الله بن عمرو عن النبي أن نوحًا عليه السلام قال لابنه عند موته : آمرك بلا إله إلا الله، فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ولا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة لقصمتهن لا إله إلا الله " .

قوله : (في كفة) هو بكسر الكاف وتشديد الفاء، أي كفة الميزان .

قوله : (مالت بهن) أي رجحت . وذلك لما اشتملت عليه من نفي الشرك، وتوحيد الله الذي هو أفضل الأعمال . وأساس الملة والدين، فمن قالها بإخلاص ويقين، وعمل بمقتضاها ولوازمها وحقوقها، واستقام على ذلك، فهذه الحسنة لا يوازنها شئ، كما قال الله تعالى : '46 : 13' "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون" .

ودل الحديث على أن لا إله إلا الله أفضل الذكر . كحديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا : خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلى : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير رواه أحمد والترمذي، وعنه أيضا مرفوعًا يصاح برجل من أمتى على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلًا، كل سجل منها مد البصر ثم يقال : أتنكر من هذا شيئا ؟ أظلمك كتبتى الحافظون فيقول : لا يارب . فيقال : أفلك عذر أو حسنة ؟ فيهاب الرجل فيقول : لا، فيقال : بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله . فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال : إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة رواه الترمذي وحسنه .

والنسائى وابن حبان والحاكم . وقال : صحيح على شرط مسلم، وقال الذهبي في تلخيصه : صحيح .

قال ابن القيم رحمه الله : فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض . قال : وتأمل حديث البطاقة التى توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلًا كل سجل منها مدى البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب . ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة وكثير منهم يدخل النار بذنوبه .

قوله : (رواه ابن حبان والحاكم) ابن حبان اسمه محمد بن حبان - بكسر المهملة وتشديد الموحدة - ابن أحمد بن حبان بن معاذ، أبو حاتم التميمي البستي الحافظ صاحب التصانيف : كالصحيح، والتاريخ، والضعفاء، والثقات وغير ذلك . قال الحاكم : كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ، ومن عقلاء الرجال . مات سنة أربع وخمسين وثلاثمائة بمدينة بست - بضم الموحدة وسكون المهملة .

وأما الحاكم فاسمه محمد بن عبد الله بن محمد النيسابورى أبوعبد الله الحافظ ويعرف بابن البيع ولد سنة إحدى وعشرين وثلثمائة، وصنف التصانيف، كالمستدرك وتاريخ نيسابور وغيرهما، ومات سنة خمس وأربعمائة .


علو الله على عرشه


حديث : لو أتيتني بقراب الأرض خطايا

قال المصنف رحمه الله (وللترمذي - وحسنه - "عن أنس : سمعت رسول الله يقول : قال الله تعالى يا بن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة") .

ذكر المصنف رحمه الله الجملة الأخيرة من الحديث، وقد رواه الترمذي بتمامه فقال : "عن أنس قال سمعت رسول الله يقول : قال الله تبارك وتعالى : يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالى يا بن آدم، إنك لو أتيتني - الحديث ".

الترمذي : اسمه محمد بن عيسى بن سورة - بفتح المهملة - بن موسى بن الضحاك السلمي أبو عيسى، صاحب الجامع وأحد الحفاظ، كان ضرير البصر، روى عن قتيبة وهناد والبخاري وخلق . مات سنة تسع وسبعين ومائتين .

وأنس : هو ابن مالك بن النضر الأنصاري الخزرج]، خادم رسول الله خدمه عشر سنين، وقال له : اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة مات سنة اثنتين وقيل : ثلاث وتسعين، وقد جاوز المائة .

والحديث قد رواه الإمام أحمد من حديث أبي ذر بمعناه، وهذا لفظه "ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي جعلت له مثلها مغفرة" ورواه مسلم، وأخرجه الطبرانى من حديث ابن عباس عن النبي .

قوله : (لو أتيتني بقراب الأرض) بضم القاف : وقيل بكسرها والضم أشهر وهو ملؤها أو ما يقارب ملئها .

قوله : (ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا) شرط ثقيل في الوعد بحصول المغفرة، وهو السلامة من الشرك : كثيره وقليله، صغيره وكبيره . ولا يسلم من ذلك إلا من سلم الله تعالى، وذلك هو القلب السليم كما قال تعالى : '26 : 89' " يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم " .

قال ابن رجب : من جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة -إلى أن قال - فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه، وقام بشروطه بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت، أعقب ذلك مغفرة ما قد سلف من الذنوب كلها ومنعه من دخول النار بالكلية . فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل ما سوى الله : محبة وتعظيمًا، وإجلالًا ومهابة وخشية وتوكلًا، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها، وإن كانت مثل زبد البحر ا هـ ملخصًا .

قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في معنى الحديث : ويعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك . فلو لقى الموحد الذي لم يشرك بالله شيئًا ألبته ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده . فإن التوحيد الخالص الذى لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب، لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه، وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة والدافع لها قوى . ا هـ .

وفى هذا الحديث : كثرة ثواب التوحيد، وسعة كرم الله وجوده ورحمته والرد على الخوارج الذين يكفرون المسلم بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بالمنزلة بين المنزلتين، وهي الفسوق، ويقولون ليس بمؤمن ولا كافر، ويخلد في النار . والصواب قول أهل السنه : أنه لا يسلب عنه اسم الإيمان، ولا يعطاه على الإطلاق، بل يقال هو مؤمن عاص، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته . وعلى هذا يدل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة . و"عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : لما أسرى برسول الله انتهي به إلى سدرة المنتهى، فأعطي ثلاثًا : أعطى الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئًا : المقحمات " رواه مسلم .

قال ابن كثير في تفسيره : وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والنسائى "عن أنس ابن مالك قال : قرأ رسول الله صلى الله عليبه وسلم هذه الآية '74 : 56' "هو أهل التقوى وأهل المغفرة" وقال : قال ربكم : أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله، فمن اتقى أن يجعل معي إلهًا كان أهلًا أن أغفر له " .

قال المصنف رحمه الله : (تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة فإنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان تبين لك معنى قوله : لا إله إلا الله وتبين لك خطأ المغرورين .

وفيه أن الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله والتنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيرًا ممن يقولها يخف ميزانه . وفيه إثبات الصفات خلافًا للمعطلة . وفيه أنك إذا عرفت حديث أنس وقوله في "حديث عتبان إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغى بذلك وجه الله " تبينت لك أن ترك الشرك في قولها باللسان فقط .


من حقق التوحيد دخل الجنة

عدل

قوله : (باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب) أي ولا عذاب .

(قلت) تحقيقه تخليصه وتصفيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصى .


معنى أن إبراهيم كان أمة

قال الله تعالى : '16 : 120' "إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين" وصف إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات التي هي الغاية في تحقيق التوحيد .

الأولى : أنه كان أمة، أي قدوة وإمامًا معلمًا للخير . وما ذاك إلا لتكميله مقام الصبر واليقين الذين تنال بهما الإمامة في الدين .

الثانية : قوله قانتًا قال شيخ الإسلام : القنوت دوام الطاعة، والمصلي إذا أطال قيامه أو ركوعه أو سجوده فهو قانت . قال تعالى : '39 : 9' "أمن هو قانت آناء الليل ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه" ا هـ . ملخصًا .

الثالثة : أنه كان حنيفًا (قلت) قال العلامة ابن القيم الحنيف المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه ا . هـ .

الرابعة : أنه كان من المشركين، أي لصحة إخلاصه وكمال صدقه، وبعده عن الشرك .

قلت : يوضح هذا قوله تعالى : '60 : 4' "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه" أي على دينه من إخوانه المرسلين، قاله ابن جرير رحمه الله تعالى : " إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء " وذكر تعالى عن خليله عليه السلام أنه قال لأبيه آزر : '19 : 48، 49' " وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا * فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا " فهذا هو تحقيق التوحيد . وهو البراءة من الشرك وأهله واعتزالهم، والكفر بهم وعداوتهم وبغضهم . فالله المستعان .

قال المصنف رحمه الله في هذه الآية : "إن إبراهيم كان أمة" لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين (قانتًا لله) لا للملوك ولا للتجار المترفين (حنيفًا) لا يميل يمينًا ولا شمالًا، كفعل العلماء المفتونين (ولم يك من المشركين) خلافا لمن كثر سوادهم وزعم أنه من المسلمين . أ هـ .

وقد روى ابن أبى حاتم عن ابن عباس في قوله : "إن إبراهيم كان أمة" على الإسلام . ولم يك في زمانه أحد على الإسلام غيره.

قلت : ولا منافاة بين هذا وبين ما تقدم : من أنه كان إمامًا يقتدى به في الخير .

قال : (وقوله تعالى : '23 : 57 - 59' " إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون * والذين هم بآيات ربهم يؤمنون * والذين هم بربهم لا يشركون " .

وصف المؤمنين السابقين إلى الجنة فأثنى عليهم بالصفات التى أعظمها : أنهم بربهم لا يشركون . ولما كان المرء قد يعرض له ما يقدح في إسلامه : من شرك جلي أو خفي، نفى ذلك عنهم، وهذا هو تحقيق التوحيد، الذي حسنت بهم أعمالهم وكملت ونفعتهم .

قلت : قوله حسنت وكملت هذا باعتبار سلامتهم من الشرك الأصغر، وأما الشرك الأكبر فلا يقال في تركه ذلك، فتدبر . ولو قال الشارح : صحت لكان أقوم .

قال ابن كثير : "والذين هم بربهم لا يشركون" أي لا يعبدون مع الله غيره، بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا وأنه لا نظير له .


من يدخل الجنة بغير حساب

قال المصنف : ("عن حصين بن عبد الله بن عبد الرحمن قال : كنت عند سعيد بن جبير فقال : أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة ؟ فقلت : أنا، ثم قلت : أما إني لم أكن في صلاتي ولكني لدغت، قال : فما صنعت ؟ قلت : ارتقيت . قال : فما حملك على ذلك ؟ قلت : حديث حدثناه الشعبي، قال : وما حدثكم ؟ قلت : حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال : لا رقية إلا من عين أو حمة . قال : قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي أنه قال : عرضت على الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد . إذ رفع لى سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل : هذا موسى وقومه، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي : هذه أمتك ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب . ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم : فلعلهم اللذين صحبوا رسول الله صلى اله عليه وسلم وقال بعضهم : فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام، فلم يشركوا بالله شيئًا، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله فأخبروه، فقال : هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون . فقام عكاشة بن محصن فقال : يا رسول الله ادع الله أن يجعلنى منهم . قال : أنت منهم ثم قام رجل آخر فقال : ادع الله أن يجعلني منهم . فقال : سبقك بها عكاشة ") .

هكذا أورده المصنف غير معزو، وقد رواه البخارى مختصرًا ومطولًا، ومسلم، واللفظ له، والترمذي والنسائي .

قوله : عن (حصين بن عبد الرحمن) هو السلمي، أبو الهذيل الكوفى . ثقة، مات سنة ست وثلاثين ومائة، وله ثلاث وتسعون سنة .

وسعيد بن جبير : هو الإمام الفقيه من جلة أصحاب ابن عباس، روايته عن عائشة وأبى موسى مرسلة . وهو كوفى مولى لبني أسد، قتل بين يدى الحجاج سنة خمس وتسعين ولم يكمل الخمسين .

قوله : (انقض) هو بالقاف والضاد المعجمة أى سقط . والبارحة هى أقرب ليله مضت . قال أبو العباس ثعلب : يقال قبل الزوال : رأيت الليلة، وبعد الزوال : رأيت البارحة، وكذا قال غيره، وهى مشتقة من برح إذا زال .

قال : (أما إني لم أكن في صلاة) قال في مغنى اللبيب : أما بالفتح والتخفيف على وجهين : أحدهما أن تكون حرف استفتاح بمنزلة ألا فإذا وقعت أن بعدها كسرت . الثانى أن تكون بمعنى حقًا أو أحق . وقال آخرون : هى كلمتان الهمزة للاستفهام، ما اسم بمعنى شئ، أى أذلك الشئ حق، فالمعنى أحق هذا ؟ وهو الصواب وما نصب على الظرفية، وهذه تفتح أن بعدها . انتهى .

والأنسب هنا هو الوجه الأول والقائل هو حصين، خاف أن يظن الحاضرون أنه رآه وهو يصلي، فنفى عن نفسه إبهام العبادة، وهذا يدل على فضل السلف وحرصهم على الإخلاص وبعدهم على الرياء والتزين بما ليس فيهم .

وقوله (ولكني لدغت) بضم أوله وكسر ثانيه، قال أهل اللغة : يقال لدغته العقرب وذوات السموم، إذا أصابته بسمها، وذلك بأن تأبره بشوكتها .

قوله : (قلت وارتقيت) لفظ مسلم استرتقيت أي طلبت من يرقيني .

قوله (فما حملك على ذلك) فيه طلب الحجة على صحة المذهب .

وقوله (حديث حدثناه الشعبي) اسمه : عامر بن شراحيل الهمداني ولد في خلافة عمر، وهو من ثقات التابعين وفقهائهم مات سنة ثلاث ومائة .

قوله : (عن بريدة) بضم أوله وفتح ثانيه تصغير بردة . ابن الحصيب - بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين - ابن الحارث الأسلمى، صحابى شهير . مات سنة ثلاث وستين . قاله ابن سعد .

قوله : (لا رقية إلا من عين أو حمة) وقد رواه أحمد وابن ماجة عنه مرفوعًا . ورواه أحمد وأبو داود والترمذى عن عمران بن حصين به مرفوعًا قال الهيثمى : رجال أحمد ثقات .

والعين هى إصابة العائن غيره بعينه . والحمة - بضم المهملة وتخفيف الميم - سم العقرب وشبهها . قال الخطابى : ومعنى الحديث: لا رقية أشفى وأولى من رقية العين والحمة . وقد رقى النبي ورقي .

قوله : (قد أحسن من انتهى إلى ما سمع) أى من أخذ بما بلغه من العلم وعمل به فقد أحسن بخلاف من يعمل بجهل، أو لا يعمل بما يعلم فإنه مسىء آثم . وفيه فضيلة علم السلف وحسن أدبهم .

قوله : (ولكن حدثنا ابن عباس) هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي . دعا له فقال : "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل " فكان كذلك . مات بالطائف سنة ثمان وستين .

قال المصنف رحمه الله : (وفيه عمق علم السلف لقوله : قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ولكن كذا وكذا . فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثانى) .

قوله : (عرضت على الأمم) وفى الترمذي والنسائي من رواية عبثر بن القاسم عن حصين بن عبد الرحمن أن ذلك كان ليلة الإسراء قال الحافظ : فإن كان ذلك محفوظًا كان فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء، وأنه وقع بالمدينة أيضًا (قلت) وفي هذا نظر .

قوله : (فرأيت النبي ومعه الرهط) والذي في صحيح مسلم الرهيط بالتصغير لا غير، وهم الجماعة دون العشرة، قاله النووي.

قوله : (والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد) فيه الرد على من احتج بالكثرة .

قوله : (إذ رفع لي سواد عظيم) المراد هنا الشخص الذى يرى من بعيد .

قوله : (فظننت أنهم أمتى) لأن الأشخاص التى ترى في الأفق لا يدرك منها إلا الصورة وفى صحيح مسلم ولكن انظر إلى الأفق ولم يذكره المصنف، فلعله سقط في الأصل الذى نقل الحديث منه . والله أعلم .

قوله : (فقيل له : هذا موسى وقومه) أي موسى بن عمران كليم الرحمن، وقومه : أتباعه على دينه من بنى إسرائيل .

قوله : (فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لى هذه أمتك ومعهم سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) أي لتحقيقهم التوحيد، وفى رواية ابن فضيل ويدخل الجنة من هؤلاء من أمتك سبعون ألفًا و"فى حديث أبي هريرة في الصحيحين أنهم تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر " وروى الإمام أحمد والبيهقي في "حديث أبى هريرةفاستزدت ربى فزادنى مع كل ألف سبعين ألفًا" قال الحافظ : وسنده جيد .

قوله : (ثم نهض) أي قام، قوله : (فخاض الناس في أولئك) خاض بالخاء والضاد المعجمتين وفى هذا إباحة المناظرة والمباحثة في نصوص الشرع على وجه الاستفادة وبيان الحق، وفيه عمق علم السلف لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل، وفيه حرصهم على الخير، ذكره المصنف .

قوله : (فقال هم الذين لا يسترقون) هكذا ثبت في الصحيحين وهو كذلك في حديث ابن مسعود في مسند أحمد . وفى رواية لمسلم ولا يرقون قال شيخ الإسلام ابن تيمية : هذه الزيادة وهم من الراوي، لم يقل النبي ولا يرقون وقد "قال النبي وقد سئل على الرقى : من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه" . و"قال : لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا" قال : وأيضًا فقد "رقى جبريل النبي " و"رقى النبي أصحابه" قال والفرق بين الراقي والمسترقي : أن المسترقى سائل مستعط ملتفت إلى غير الله بقلب، والراقى محسن . قال : وإنما المراد وصف السبعين ألفًا بتمام التوكل، فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم . وكذا قال ابن القيم .

قوله : (ولا يكتوون) أي لا يسألون غيرهم أن يكويهم كما لا يسألون غيرهم أن يرقيهم، استسلامًا للقضاء، وتلذذًا بالبلاء .

قلت : والظاهر أن قوله لا يكتوون أعم من أن يسألوا ذلك أو يفعل ذلك باختيارهم . أما الكي في نفسه فجائز، كما في الصحيح "عن جابر بن عبد الله أن النبي بعث إلى أبى بن كعب طبيبًا فقطع له عرقًا وكواه" .

وفى صحيح البخارى "عن أنس أنه كوى من ذات الجنب والنبي حى" وروى الترمذى وغيره "عن أنس أن النبي كوى أسعد بن زرارة من الشوكة" .

وفي صحيح البخارى "عن ابن عباس مرفوعًا الشفاء في ثلاث : شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى أمتى عن الكى وفى لفظ :وما أحب أن أكتوى" .

قال ابن القيم رحمه الله : قد تضمنت أحاديث الكى أربعة أنواع (أحدها) فعله . (والثانى) عدم محبته . (والثالث) الثناء على من تركه . (والرابع) النهي عنه . ولا تعارض بينها بحمد الله، فإن فعله يدل على جوازه، وعدم محبته له لا يدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهة .

قوله : (ولا يتطيرون) أي لا يتشاءمون بالطيور ونحوها . وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الطيرة وما يتعلق بها في بابها .

قوله : (وعلى ربهم يتوكلون) ذكر الأصل الجامع الذى تنوعت عنه هذه الأفعال والخصال وهو التوكل على الله، وصدق الالتجاء إليه، والاعتماد بالقلب عليه، الذي هو نهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف : من المحبة والرجاء والخوف، والرضا به ربًا وإلهًا، والرضا بقضائه .

واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلًا، فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري، لا انفكاك لأحد عنه، بل نفس التوكل : مباشرة لأعظم الأسباب كما قال تعالى : '65 : 3' "ومن يتوكل على الله فهو حسبه" أي كافيه وإنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها، توكلًا على الله تعالى، كالاكتواء والاسترقاء، فتركهم له لكونه سببًا مكروهًا، لا سيما والمريض يتشبث -فيما يظنه سببًا لشفائه - بخيط العنكبوت .

وأما مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهة فيه، فغير قادح في التوكل، فلا يكون تركه مشروعًا، لما في الصحيحين "عن أبي هريرة مرفوعًا ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله" . "وعن أسامة بن شريك قال : كنت عند النبي وجاءت الأعراب، فقالوا يا رسول الله أنتداوى ؟ قال : نعم . يا عباد الله تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء، غير داء واحد . قالوا : وما هو ؟ قال : الهرم" رواه أحمد .

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : وقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها، والأمر بالتداوى، وأنه لا ينافى التوكل، كما لا ينافيه دفع ألم الجوع والعطش، والحر والبرد : بأضدادها بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التى نصبها الله تعالى مقتضية لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة . ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجز ينافى التوكل الذى حقيقته اعتماد القلب على الله تعالى في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه . ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلًا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلًا ولا توكله عجزًا .

وقد اختلف العلماء في التداوى هل هو مباح، وتركه أفضل، أو مستحب أو واجب ؟

فالمشهور عند أحمد : الأول لهذا الحديث وما في معناه، والمشهور عند الشافعية الثاني، حتى ذكر النووى في شرح مسلم : أنه مذهبهم ومذهب جمهور السلف وعامة الخلف، واختاره الوزير أبو الظفر . قال : ومذهب أبي حنيفة أنه مؤكد حتى يدانى به الوجوب . قال : ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه فإنه قال : لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه .

وقان شيخ الاسلام : ليس بواجب عند جماهير الأئمة وإنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد .

فقوله : (فقام عكاشة بن محصن) هو بضم العين وتشديد الكاف، ومحصن بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين ابن حرثان - بضبم المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة - الأسدي : من بني أسد بن خزيمة . كان من السابقين إلى الإسلام ومن أجمل الرجال، هاجر وشهد بدرًا وقاتل فيها، واستشهد في قتال الردة مع خالد بن الوليد بيد طليحة الأسدي سنة اثنتى عشرة، ثم أسلم طليحة بعد ذلك وجاهد الفرس يوم القادسية مع سعيد بن أبي وقاص، واستشهد في وقعة الجسر المشهورة .

قوله : (فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال أنت منهم) وللبخاري في رواية : فقال اللهم اجعله منهم وفيه : طلب الدعاء من الفاضل .

قوله : (ثم قام رجل آخر) ذكر مبهمًا ولا حاجة بنا إلى البحث عن اسمه .

قوله : (فقال سبقك بها عكاشة) قال القرطبي : لم يكن عند الثانى من الأحوال ما كان عند عكاشة، فلذلك لم يجبه، إذ لو أجابه لجاز أن يقلب ذلك كل من كان حاضرًا فيتسلسل الأمر، فسد الباب بقوله ذلك ا هـ .