فتح المجيد/القسم الخامس


باب من تبرك بشجرة ونحوهها قوله : ( باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما) كبقعة وقبر ونحو ذلك ، أي فهو مشرك . قوله : وقوله الله تعالى : '53 : 19 -23 ' " أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى " (الآيات) وكانت اللات لثقيف ، والعزى لقريش وبنى كنانة ، ومناة لبنى هلال . وقال ابن هشام : كانت لهذيل وخزاعة . فأما اللات فقرأ الجمهور بتخفيف التاء ، وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وحمدي وأبو صالح ورويس بتشديد التاء . فعلى الأولى قال الأعمش : سموا اللات من الإله ، والعزى من العزيز . قال ابن جرير : وكانوا قد اشتقوا اسمها من الله تعالى ، قالوا : اللات مؤنثة منه ، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا قال : وكذا العزى من العزيز . وقال ابن كثير : اللات كانت صخرة بيضاء منقوشة عليها بيت الطائف له أستار وسدنة وحوله فناء معظم عند أهل الطائف ، وهم ثقيف ومن تبعها يفتخرون به على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش ، قال ابن هشام : فبعث رسول الله المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار . وعلى الثانية قال ابن عباس : كان رجلًا يلت السويق للحاج ، فما مات عكفوا على قبره ذكره البخاري قال ابن عباس : كان يبيع السويق والسمن عند صخرة ويسلؤه عليها ، فلما مات ذلك الرجل عبدت ثقيف تلك الصخرة إعظامًا لصاحب السويق وعن مجاهد نحوه وقال : فلما مات عبدوه رواه سعيد بن منصور . وكذا روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم عبدوه وبنحو هذا قال جماعة من أهل العلم . قلت : لا منافاة بين القولين . فإنهم عبدوا الصخرة والقبر تأليهًا وتظيمًا . ولمثل هذا بنيت المشاهد والقباب على القبور واتخذت أوثانًا . وفيه بيان أن أهل الجاهلية كانوا يعبدون الصالحين والأصنام . وأما العزى فقال ابن جرير : كانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة ـ بين مكة والطائف ـ كانت قريش يعظمونها ... كما قال أبو سفيان يوم أحذ : لنا العزى ولاعزى لكم فقال رسول الله " قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم " وروى النسائي وابن مردوية عن أبي الطفيل قال : لما فتح رسول الله مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة ـ وكانت بها العزى ، وكانت على ثلاث سمرات ـ فقطع السمرات ، وهدم البيت الذي كان عليها. ثم أتى النبي فأخبره. فقال ارجع فإنك لم تصنع شيئًا ، فرجع خالد ، فلما أبصرته السدنة أمعنوا في الجبل وهم يقولون : يا عزى يا عزى ، فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها فعمها بالسيف فقتلها ثم رجع إلى رسول الله فأخبره . فقال : تلك العزى قلت : وكل هذا وما هو أعظم منه يقع في هذه الأزمنة عند ضرائح الأموات وفي المشاهد . وأما مناة فكانت بالمشلل عند قديد ، بين مكة والمدينة ، وكانت خزاعة والأوس والخزرج يعظمونها ويهلون منها للحج ، وأصل اشتقاقها : من إسم الله المنان ، وقيل : لكثرة ما يمنى ـ أي يراق ـ عندها من الدماء للتبرك بها . قال البخاري رحمه الله ، في حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها : إنها صنم بين مكة والمدينة قال ابن هشام : فبعث رسول الله عليًا فهدمها عام الفتح فمعنى الآية كما قال القرطبي : أن فيها حذفًا تقديره : أفرأيتم هذه الآلهة ، أنفعت أو ضرت ، حتى تكون شركاء لله تعالى ؟ وقوله : " ألكم الذكر وله الأنثى " قال ابن كثير : تجعلون له ولدًا وتجعلون ولده أنثى وتختارون لكم الذكور ؟ قوله : " تلك إذا قسمة ضيزى " أي جور وباطلة . فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورًا وسفهًا فتنزهون أنفسكم عن الإناث وتجعلونهن لله تعالى . وقوله : " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم " أي من تلقاء أنفسكم " ما أنزل الله بها من سلطان " أي من حجة " إن يتبعون إلا الظن " أي ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم " وما تهوى الأنفس " وإلا حظ أنفسهم في رياستهم وتعظيم آبائهم الأقدمين . قوله : " ولقد جاءهم من ربهم الهدى " قال ابن كثير : ولقد أرسل الله تعالى إليهم الرسل بالحق المنير والحجة القاطعة ، ومع هذا ما اتبعوا ما جاءوهم به ولا انقادوا له ا هـ . ومطابقة الآيات للترجمة من جهة أن عباد هذه الأوثان إنهم كانوا يعتقدون حصول البركة منها بتعظيمها ودعائها والاستعانة بها والاعتماد عليها في حصول ما يرجونه منها ويؤملونه ببركتها وشفاعتها وغير ذلك ، فالتبرك بقبور الصالحين كاللات ، وبالأشجار كالعزى ومناة من ضمن فعل أولئك المشركين مع تلك الأوثان ، فمن فعل مثل ذلك واعتقد في قبر أو حجر أو شجر فقد ضاهى عباد هذه الأوثان فيما كانوا يفعلونه معها من هذا الشرك ، على أن الواقع من هؤلاء المشركين مع معبوديهم أعظم مما وقع من أولئك . فالله المستعان .

حديث أبي واقد الليثي في ذات أنواط قوله : عن أبي واقد الليثي قال : " خرجنا مع رسول الله إلى حنين ، ونحن حدثاء عهد بكفر ، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم ، يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة ، فقلنا يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال رسول الله  : الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى " اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون " لتركبن سنن من كان قبلكم " رواه الترمذي وصححه . أبو واقد إسمه الحارث بن عوف ، وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة قاله الترمذي وقد رواه أحمد وأبو يعلى وابن أبي شيبة والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني بنحوه . قوله : عن أبي واقد قد تقدم ذكر إسمه في قول الترمذي وهو صحابي مشهور مات سنة ثمان وستين وثمانون سنة . قوله : خرجنا مع رسول الله إلى حنين وفي حديث عمرو بن عوف وهو عند ابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني . قال غزونا مع رسول الله يوم الفتح ، ونحن ألف ونيف حتى إذا كنا بين حنين والطائف ـ الحديث. قوله : ونحن حدثاء عهد بكفر أي قريب عهدنا بالكفر ، ففيه دليل على أن غيرهم ممن تقدم إسلامه من الصحابة لا يجهل هذا وأن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قبله لا يأمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة . ذكره المصنف رحمه الله . قول : وللمشركين سدرة يعكفون عندها العكوف هو الإقامة على الشئ في المكان ، ومنه قول الخليل عليه السلام : '21 : 52' " ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " وكان عكوف المشركين عند تلك السدرة تبركًا بها وتعظيمًا لها وفي حديث عمرو كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط وكانت تعبد من دون الله . قوله : وينوطون بها أسلحتهم أي يعلقونها عليها للبركة . قلت : ففي هذا بيان أن عبادتهم لها بالتعظيم والعكوف والتبرك ، وبهذه الأمور الثلاثة عبدت الأشجار ونحوها . قوله : فقلنا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط قال أبو السعادات : سألوه أن يجعل لهم مثلها فنهاهم عن ذلك . وأنواط جمع نوط وهو مصدر سمى بها المنوط . ظنوا أن هذا أمر محبوب عند الله وقصدوا التقرب به ، وإلا فهم أجل قدرًا من أن يقصدوا مخالفة النبي . قوله : فقال رسول الله الله أكبر وفي رواية سبحان الله والمراد تعظيم الله تعالى وتنزييه عن هذا الشرك بأي نوع كان ، مما لا يجوز أن يطلب أو يقصد به غير الله وكان النبي يستعمل التكبير والتسبيح في حال التعجب تعظيمًا لله وتنزيهًا له إذا سمع من أحد ما لا يليق بالله مما فيه هضم للربوبية أو الإلهية . قوله : إنها السنن بضم السين أي الطرق . قوله : قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى " اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة " شبه مقالتهم هذه بقول بني إسرائيل ، بجامع أن كلًا طلب أن يجعل له ما يألهه ويعبده من دون الله ، وإن اختلف اللفظان . فالمعنى واحد ، فتغيير الاسم لا يغير الحقيقة . ففيه الخوف من الشرك ، وأن الإنسان قد يستحسن شيئًا يظن أنه يقربه إلى الله ، وهو أبعد ما يبعده من رحمته ويقرهب من سخطه ، ولا يعرف هذا على الحقيقة إلى من عرف ما وقع في هذه الأزمان من كثير من العلماء والعباد مع أرباب القبور ، من الغلو فيها وصرف جل العبادة لها ، ويحسبون أنهم على شئ وهو الذنب الذي لا يغفره الله . قال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل الشافعي المعروف بابن أبي شامة في كتاب البدع والحوادث : ومن هذا القسم أيضًا ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وإسراج مواضع مخصوصة في كل بلد ، يحكى لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدًا ممن شهر بالصلاح والولاية ، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم لفرائض الله تعالى وسننه ، ويظنون أنهم متقربون بذلك ، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها ، وهي من عيون وشجر وحائط وحجر . وفي مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحمى خارج باب توما والعمود المخلق داخل باب الصغير ، والشجرة الملعونة خارج باب النصر نفس قارعة الطريق سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها ، فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث . انتهى . وذكر ابن القيم رحمه الله نحو ما ذكره أبو شامة ، ثم قال : فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله ولو كانت ما كانت ، ويقولون : إن هذا الحجر وهذه الشجرة وهذه العين تقبل النذر ، أي تقبل العبادة من دون الله ، فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له ، وسيأتي ما يتعلق بهذا الباب عند قوله  : " اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد" . وفي هذه الجملة من الفوائد : أن ما يفعله من يعتقد في الأشجار والقبور والأحجار من التبرك بها العكوف عندها والذبح لها هو الشرك ، ولا يغتر بالعوام والطغام ، ولا يستبعد كون الشرك بالله تعالى يقع في هذه الأمة ، فإذا كان بعض الصحابة ظنوا ذلك حسنًا وطلبوه من النبي حتى بين لهم أن ذلك كقول بني إسرائيل : ' 7 : 138 ' " اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة " فكيف لا يخفى على من دونهم في العلم والفضل بأضعاف مضاعفة مع غلبة الجهل وبعد العهد بآثار النبوة ؟ ! بل خفى عليهم عظائم الشرك في الإلهية والربوبية ، فأكبروا فعله واتخذوه قربة . وفيها أن الاعتبار في الأحكام بالمعاني لا بالأسماء ، ولهذا جعل النبي طلبتهم كطلبة بني إسرائيل ، ولم يلتفت إلى كوفهم سموها ذات أنواط . فالمشرك مشرك وإن سمى شركه ما سماه . كمن يسمى دعاء الأموات والذبح والنذر لهم ونحو ذلك تعظيمًا ومحبة ، فإن ذلك هو الشرك ، وإن سماه ما سماه . وقس على ذلك .

لتركبن سنن من قبلكم قوله :لتركبن سنن من كان قبلكم بضم الموحدة وضم السين أي طرقهم ومناهجهم وقد يجوز فتح السين على الإفراد أي طريقهم. وهذا خبر صحيح . والواقع من كثير من هذه الأمة يشهد له . وفيه علم من أعلام النبوة من حيث إنه وقع كما أخبر به . وفي الحديث : النهى عن التشبه بأهل الجاهلية وأهل الكتاب فيما كانوا يفعلونه ، إلا ما دل الدليل على أنه من شريعة محمد . قال المصنف رحمه الله : وفيه التنبيه على مسائل القبر ، أما : من ربك ؟ فواضح. وأما : من نبيك ؟ فمن إخباره أنباء الغيب. وأما : ما دينك ؟ فمن قولهم اجعل لنا إلهًا إلخ . وفيه : أن الشرك لا بد أن يقع في هذه الأمة خلافًا لمن ادعى خلاف ذلك ، وفيه الغضب عند التعليم ، وإن ما ذم الله به اليهود والنصارى فإنه قال لنا لنحذره قاله المصنف رحمه الله . وأما ما ادعاه بعض المتأخرين من أنه يجوز التبرك بآثار الصالحين فممنوع من وجوه : منها : أن السابقين الأولين من الصحابة ومن بعدهم لم يكونوا يفعلون ذلك مع غير النبي ، لا فى حياته ولا بعد موته . ولو كان خيرًا لسبقونا إليه ، وأفضل الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم . وقد شهد لهم رسول الله فيمن شهد له بالجنة ، وما فعله أحد من الصحابة والتابعين مع أحد من هؤلاء السادة ، ولا فعله التابعون مع ساداتهم في العلم والدين وأهل الأسوة . فلا يجوز أن يقاس على رسول الله أحد من الأمة ، وللنبي في حال الحياة خصائص كثيرة لا يصلح أن يشاركه فيها غيره . ومنها : أن في المنع عن ذلك سدًا لذريعة الشرك كما لا يخفى .