فتح المجيد/القسم العاشر



باب ما جاء في الرياء قوله : ( باب : ما جاء في الرياء ) أي من النهي والتحذير . قال الحافظ : هو مشتق من الرؤية . والمراد بها إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدون صاحبها . والفرق بينه وبين السمعة : أن الرياء لما يرى من العمل كالصلاة . والسمعة لما يسمع كالقراءة والوعظ والذكر ، ويدخل في ذلك التحدث بما عمله .

" قل إنما أنا بشر مثلكم " إلخ قوله : وقول الله تعالى : ' 18 : 110 ' " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد " أي ليس لي من الربوبية ولا من الإلهية شئ ، بل ذلك كله وحده لا شريك له أوحاه إلى " فمن كان يرجو لقاء ربه " أي يخافه " فليعمل عملًا صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا "، قوله أحدًا نكرة في سياق النهي تعم ، وهذا العموم يتناول الأنبياء والملائكة والصالحين والأولياء وغيرهم . قال شيخ الإسلام رحمه الله : أما اللقاء فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة ، وقالوا : لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى يوم القيامة ، وذكر الأدلة على ذلك . قال ابن القيم رحمه الله في الآية : أي كما أن الله واحد لا إله سواه ، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له ، فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية ، فالعمل الصالح : هو الخالص من الرياء المقيد بالسنة . وفي الآية دليل على أن أصل الدين الذي بعث الله به رسول الله والمرسلين قبله ، هو إفراده تعالى بأنواع العبادة ، كما قال تعالى : ' 21 : 25 ' " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " والمخالف لهذا الأصل من هذه الأمة أقسام : إما طاغوت ينازع الله في ربوبيته وإلهيته ، ويدعو الناس إلى عبادته ، أو طاغوت يدعو الناس إلى عبادة الأوثان ، أو مشرك يدعو غير الله ويتقرب إليه بأنواع العبادة أو بعضها ، أو شاك في التوحيد : أهو حق أم يجوز أن يجعل لله شريك في عبادته ؟ أو جاهل يعتقد أن الشرك دين يقرب إلى الله ، وهذا هو الغالب على أكثر العوام لجلهم وتقليدهم من قبلهم ، لما اشتدت غربة الدين ونسى العلم بدين المرسلين .

الله أغنى الشركاء عن الشرك قوله : وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا : " قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك . من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" رواه مسلم . قوله  : من عمل عملًا أشرك فيه غيري أي من قصد بعمله غيري من المخلوقين تركته وشركه . ولابن ماجه فأنا بريء وهو الذي أشرك قال الطيبي : الضمير المنصوب في قوله تركته يجوز أن يرجع إلى العمل .

أخوف النبي على أمته من الرياء قال ابن رجب رحمه الله : واعلم أن العمل لغير الله أقسام فتارة يكون رياء محضًا كحال المنافقين . كما قال تعالى : '4 :142 ' " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا " وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر عن مؤمن في فرض الصلاة أو التي يتعدى نفعها ، فإن الإخلاص فيها عزيز ، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط ، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة . وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء ، فإن شاركه من أضله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه ـ وذكر أحاديث تدل على ذلك منها : هذا الحديث وحديث شداد بن أوس مرفوعًا " من صلى يرائى فقد أشرك ، ومن صام يرائي فقد أشرك ، ومن تصدق يرائي فقد أشرك ، وإن الله عز وجل يقول : أنا خير قسم لمن أشرك بي ، فمن أشرك بي شيئًا فإن جدة عمله وقليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به . أنا عنه غني " رواه أحمد ، وذكر أحاديث في المعنى ثم قال : فإن خالط نية الجهاد مثلًا نية غير الرياء ، مثل أخذ أجرة الخدمة أو أخذ من الغنيمة أو التجارة نقص بذلك أجر جهاده ولم يبطل بالكلية . قال ابن رجب : وقال الإمام أحمد رحمه الله : التاجر والمستأجر والمكرى أجرهم على قدر ما يخلص من نياتهم في غزواتهم ، ولا يكون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره . وقال أيضًا فيمن يأخذ جعل الجهاد : إذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس كأنه خرج لدينه إن أعطى شيئًا أخذه . وروى عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : " إذا أجمع أحدكم على الغزو فعوضه الله رزقًا فلا بأس بذلك ، وأما إن أحدكم أعطى دراهم غزا وإن لم يعط لم يغز فلا خير في ذلك " . وروى عن مجاهد رحمه الله أنه قال في حج الجمال وحج الأجير ، وحج التاجر : هو تام لا ينقص من أجرهم شئ أي لأن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب . قال : وأما إن كان أصل العمل لله ثم طرأ عليه نية الرياء ، فإن كان خاطرًا ثم دفعه فلا يضره بغير خلاف ، وإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا فيجازى على أصل نيته ؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير ، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك ، وأنه يجازي بنيته الأولى ، وهو مروى عن الحسن وغيره . وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر عن النبي  : " أنه سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه ، فقال : تلك عاجل بشرى المؤمن " رواه مسلم . انتهى ملخصًا . قلت : وتمام هذا المقام يتبين في شرح حديث أبي سعيد إن شاء الله تعالى . قوله : وعن أبي سعيد مرفوعًا " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : الشرك الخفي : يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل " رواه أحمد . وروى ابن خزيمة في صحيحه عن محمود بن لبيد قال : " خرج عليه رسول الله فقال : أيها الناس ، إياكم وشرك السرائر ، قالوا يا رسول الله وما شرك السرائر ؟ قال : يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه . فذلك شرك السرائر " . قوله : عن أبي سعيد الخدري وتقدم . قوله : الشرك الخفي سماه خفيًا لأن صاحبه يظهر أن عمله لله وقد قصد به غيره ، أو شركه فيه بتزيين صلاته لأجله . وعن شداد بن أوس قال : كنا نعد الرياء على عهد رسول الله الشرك الأصغر رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص ، وابن جرير في التهذيب ، والطبراني والحاكم وصححه . قال ابن القيم : وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتصنع للخلق والحلف بغير الله ، وقول الرجل للرجل ماشاء الله وشئت ، وهذا من الله ومنك ، وأنا بالله وبك ، وما لي إلا الله وأنت ، وأنا متوكل على الله وعليك ، ولولا الله وأنت لم يكن كذا وكذا . وقد يكون هذا شرك أكبر بحسب حال قائله ومقصده ، انتهى . ولا خلاف أن الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله ، وكذلك المتابعة ، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله في قوله تعالى : ' 67 : 2 ' " ليبلوكم أيكم أحسن عملًا " قال : أيكم أخلصه ولم يكن صوابًا لم يقبل ، وإذا كان صوابًا لم يقبل ، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا ، فالخالص ما كان لله ، والصواب ما كان على السنة . وفي الحديث عن الفوائد : شفقة النبي على أمته ونصحه لهم ، وأن الرياء أخوف على الصالحين من فتنة الدجال . فإن كان النبي يخافه على سادات الأولياء مع قوة إيمانهم وعلمهم فغيرهم ممن هو دونهم بأضعاف أولى بالخوف من الشرك أصغره وأكبره .

باب من الشرك إرداة الإنسان بعمله الدنيا قوله : ( باب : من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا ) فإن قيل : فما الفرق بين هذه الترجمة وبين ترجمة الباب قبله ؟ قلت : بينهما عموم وخصوص مطلق ، يجتمعان في مادة ، وهو ما إذا أراد الإنسان بعمله التزين عند الناس والتصنع لهم والثناء ، فهذا رياء كما تقدم بيانه ، كحال المنافقين . وهو أيضًا إرادة الدنيا بالتصنع عند الناس ، وطلب المدحة منهم والإكرام . ويفارق الرياء بكونه عمل عملًا صالحًا ، أراد به عرضًا من الدنيا ، كمن يجاهد ليأخذ مالًا ، كما في الحديث " تعس عبد الدينار " أو يجاهد للمغنم أو غير ذلك من الأمور التي ذكرها شيخنا عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره من المفسرين في معنى قوله تعالى : ' 11 : 15 ' " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها " . وأراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة وما بعدها أن العمل لأجل الدنيا شرك ينافي كمال التوحيد الواجب ، ويحبط الأعمال ، وهو أعظم من الرياء ، لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته تلك على كثير من عمله ، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل ، ولا يسترسل معه ، والمؤمن يكون حذرًا من هذا وهذا . قال : وقوله تعالى : ' 11 : 15 ، 16 ' " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون " . قال ابن عباس رضي الله عنه : " من كان يريد الحياة الدنيا " أي ثوابها . وزينتها ، أي مالها . نوف ، أي نوفر لهم ثواب أعمالهم بالصحة والسرور في المال والأهل والولد : " وهم فيها لا يبخسون " لا ينقصون ، ثم نسختها : ' 17 : 18 ، 19 ' " من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد " الآيتين . رواه النحاس في ناسخه . قوله : ثم نسختها أي قيدتها . فلم تبق الآية على إطلاقها . وقال قتادة : من كانت الدنيا همه وطلبته ونيته جازاه الله بحسناته في الدنيا ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطي بها جزاء ، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة ذكره ابن جرير بسنده ، ثم ساق حديث أبي هريرة عن ابن المبارك عن حيوة ابن شريح قال : حدثني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان أن عقبة بن مسلم حدثه أن شفى بن ماتع الأصبحي حدثه : ( أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس ، فقال : من هذا ؟ فقالوا : أبو هريرة . قال : فدنوت منه حتى قعدت بين يديه ، وهو يحدث الناس . فما سكت وخلا قلت : أنشدك بحق وبحق لما حدثتني حديثًا سمعته من رسول الله عقلته وعلمته . قال : فقال أبو هريرة : أفعل ، لأحدثنك حديثًا حدثنيه رسول الله في هذا البيت ما فيه أحد غيري وغيره ثم نشغ أبو هريرة نشغة ، ثم أفاق فقال : لأحدثنك حديثًا حدثنيه رسول الله في هذا البيت ما فيه غيري أحد وغيره . ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى ، ثم مال خارًا على وجهه ، واشتد به طويلًا . ثم أفاق فقال : حدثني رسول الله  : " إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة نزل إلى القيامة ليقضي بينهم ، وكل أمة جاثية . فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ، ورجل قتل في سبيل الله ، ورجل كثير المال . فيقول الله تبارك وتعالى للقارىء : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟ قال : بلى يا رب . قال : فماذا عملت فيما علمت ؟ قال : كنت أقوم آناء الليل وآناء النهار . فيقول الله له : كذبت ، وتقول له الملائكة : كذبت ، ويقول الله له : بل أردت أن يقال فلان قارىء فقد قيل ذلك . ويؤتي بصاحب المال فيقول الله له : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد ؟ قال : بلى يا رب ، قال : فما عملت فيما آتيتك ؟ قال : كنت أصل الرحم وأتصدق ، فيقول الله له : كذبت ، وتقول له الملائكة : كذبت ، ويقول الله : بل أردت أن يقال فلان جواد ، فقد قيل ذلك . ويؤتي بالذي قتل في سبيل الله فيقال له : فبماذا قتلت ؟ فيقول : أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت ، فيقول الله له : كذبت ، وتقول له الملائكة : كذبت ، ويقول الله له : بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك . ثم ضرب رسول الله على ركبتي فقال : يا أبا هريرة ، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة " . وقد سئل شيخنا المصنف رحمه الله عن هذه الآية فأجاب بما حاصله : ذكر عن السلف فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم ولا يعرفون معناه . فمن ذلك : العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله : من صدقة وصلاة ، وصلة وإحسان إلى الناس ، وترك ظلم ، ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصًا لله ، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة ، إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته ، أو حفظ أهله وعياله ، أو إدامة النعمة عليهم ، ولا همة له في طلب الجنة والهرب من النار ، فهذا يعطي ثواب عمليه في الدنيا وليس له في الآخرة من نصيب . وهذا النوع ذكره ابن عباس . النوع الثاني : وهو أكبر من الأول وأخوف ، وهو الذي ذكره مجاهد في الآية : أنها نزلت فيه وهو أن يعمل أعمالًا صالحة ونيته رياء الناس ، لا طلب ثواب الآخرة . النوع الثالث : أن يعمل أعمالًا صالحة يقصد بها مالًا ، مثل أن يحج لمال يأخذه أو يهاجر لدنيا يصيبها ، أو امرأة يتزوجها ، أو يجاهد لأجل المغنم ، فقد ذكر أيضًا هذا النوع في تفسير هذه الآية ، كما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهله أو مكسبهم أو رياستهم ، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد ، كما هو واقع كثيرًا . النوع الرابع : أن يعمل بطاعة الله مخلصًا في ذلك لله وحده لا شريك له لكنه على عمل يكفره كفرًا يخرجه عن الإسلام ، مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله ، أو تصدقوا أو صاموا إبتغاء وجه الله والدار الآخرة ، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية ، إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة ؟ لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم ، فهذا النوع أيضًا قد ذكر في هذه الآية عن أنس بن مالك وغيره ، وكان السلف يخافون منها ، قال بعضهم : لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت لأن الله تعالى يقول : ' 5 : 27 ' " إنما يتقبل الله من المتقين " . ثم قال : بقي أن يقال : إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج إبتغاء وجه الله ، طالبًا ثواب الآخرة ، ثم بعد ذلك عمل أعمالًا قاصدًا بها الدنيا ، مثل أن يحج فرضه لله ، ثم يحج بعده لأجل الدنيا كما هو واقع ، فهو لما غلب عليه منهما . وقد قال بعضهم : القرآن كثيرًا ما يذكر أهل الجنة الخلص وأهل النار الخلص ، ويسكت عن صاحب الشائبتين ، وهو هذا وأمثاله ا هـ .

تعس عبد الدينار قوله : ( في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله  : " تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الخميصة ، تعس عبد الخميلة ، إن أعطى رضى ، وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس وإذا شك فلا انتقش . طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه ، مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في الساقة . إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع له " . قوله : في الصحيح أي صحيح البخاري . قوله : تعس هو بكسر العين ويجوز الفتح أي سقط ، والمراد هنا هلك . قاله الحافظ ، وقال في موضع آخر : وهو ضد سعد . أي شقي . قال أبو السعادات : يقال تعس يتعس إذا عثر وانكب لوجهه . وهو دعاء عليه بالهلاك . قوله : عبد الدينار هو المعروف من الذهب كالمثقال في الوزن . قوله : تعس عبد الدرهم وهو من الفضة ، قدره الفقهاء بالشعير وزنًا ، وعندنا منه درهم من ضرب بني أمية وهو زنة خمسين حبة شعير وخمسا حبة سماه عبدًا له ، لكونه هو المقصود بعمله ، فكل من توجه بقصده لغير الله فقد جعله شريكًا له في عبوديته كما هو حال الأكثر . قوله : تعس عبد الخميصة قال أبو السعادات : هي ثوب خز أو صوف معلم ، وقيل لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة، وتجمع على خمائص . والخميلة بفتح الخاء المعجمة وقال أبو السعادات : ذات الخمل ، ثياب لها خمل من أي شئ كان . قوله : تعس وانتكس قال الحافظ : هو بالمهملة ، أي عاوده المرض . وقال أبو السعادات : أي انقلب على رأسه . وهو دعاء عليه بالخيبة . قال الطيبي : فيه الترقي بالدعاء عليه . لأنه إذا تعس انكب على وجهه . وإذا انتكس انقلب على رأسه بعد أن سقط . قوله : وإذا شيك أي أصابته شوكة فلا انتقش أي فلا يقدر على إخراجها بالمنقاش قاله أبو السعادات . والمراد أن من كانت هذه حاله فإنه يستحق أن يدعى عليه بما يسوءه في العواقب ، ومن كانت هذه حاله فلا بد أن يجد أثر هذه الدعوات في الوقوع فيما يضره في عاجل دنياه وآجل أخراه . قال شيخ الإسلام رحمه الله : فسماه النبي عبد الدينار والدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة . وذكر فيه ما هو دعاء بلفظ الخبر وهو قوله : تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه ولم يفلح ، لكونه تعس وانتكس ، فلا نال المطلوب ، ولا خلص من المكروه ، وهذا حال من عبد المال . وقد وصف ذلك بأنه : إن أعطى رضى ، وإن منع سخط كما قال تعالى : ' 8 : 58 ' " ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون " فرضاؤهم لغير الله ، وسخطهم لغير الله ، وهكذا حال من كان متعلقًا منها برياسة أو صورة ونحو ذلك من أهواء نفسه ، إن حصل له رضى ، وإن لم يحصل له سخط ، فهذا عبد ما يهواه من ذلك وهو رقيق له ، إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته ، فما استرق القلب واستعبده فهو عبده ـ إلى أن قال : ـ وهكذا أيضًا طالب المال ، فإن ذلك يستعبده ويسترقه وهذه الأمور نوعان ، فمنها ما يحتاج إليه العبد ، كما يحتاج إلى طعامه وشرابه ومنكحه ومسكنه ونحو ذلك ، فهذا يطلب من الله ويرغب إليه فيه . فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه ، وبساطه الذي يجلس عليه من غير أن يستعبده فيكون هلوعًا . ومنها : ما لا يحتاج إليه العبد ، فهذا ينبغي أن لا يعلق قلبه بها ، فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبدًا لها ، وربما صار مستعبدًا متعمدًا على غير الله فيها ، فلا يبقى معه حقيقة العبودية لله ولا حقيقة التوكل عليه ، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله وشعبة من التوكل على غير الله ، وهذا من أحق الناس بقوله  : " تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الخميصة ، تعس عبد الخميلة " وهذا هو عبد لهذه الأمور ولو طلبها من الله ، فإن الله إذا أعطاه إياه رضى ، وإن منعه إياها سخط ، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله ويسخطه ما يسخط الله ويحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله ، ويوالى أولياء الله ويعادى أعداء الله فهذا الذي استكمل الإيمان ، انتهى ملخصًا . قوله : طوبى لعبد قال أبو السعادات : طوبى اسم الجنة ، وقيل : هي شجرة فيها ويؤيد هذا ما روى ابن وهب بسنده عن أبي سعيد قال : " قال رجل : يا رسول الله وما طوبى ؟ قال : شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها " ورواه الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى سمعت عبد الله بن لهيعة حدثنا دراج أبو السمح أن أبا الهيثم حدثه أبو سعيد الخدري عن رسول الله " إن رجلًا قال : يا رسول الله ، طوبى لمن رآك وآمن بك ، قال طوبى لمن رآني وآمن بي ، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني . قال له رجل : وما طوبى ؟ قال : شجرة في الجنة مسيرة مائة عام ، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها " وله شواهد في الصحيحين وغيرهما . وقد روى ابن جرير عن وهب بن منبه هاهنًا أثرًا غريبًا عجيبًا . قال وهب رحمه الله : إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها : زهرها رياط ، وورقها برود وقضبانها عنبر ، وبطحاؤها ياقوت ، وترابها كافور ، ووحلها مسك ، يخرج من أصلها أنهار الخمر واللبن والعسل ، وهي مجلس لأهل الجنة ، بينما هم في مجلسهم إذا أتتهم الملائكة من ربهم يقودون نجبًا مزمومة بسلاسل من ذهب ، وجوهها كالمصابيح من حسنها ، ووبرها كخز المرعزي من لينه ، عليها رحال ألواحها من ياقوت ، ودفوفها من ذهب وثيابها من سندس وإستبرق ، فينيخونها ويقولون : إن ربنا أرسل إليكم لتزوروه وتسلموا عليه قال : فيركبونها ، قال : فهي أسرع من الطائر ، وأوطأ من الفراش . خبا من غير مهنة ، يسير الراكب إلى جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه ، لا تصيب أذن راحلة منها أذن صاحبتها ، ولا برك راحلة برك صاحبتها ، حتى إن الشجرة لتنتحى عن طريقهم لئلا تفرق بين الرجل وأخيه . قال : فيأتون إلى الرحمن الرحيم فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه ، فإذا رأوه قالوا : اللهم أنت السلام ومنك السلام ، وحق لك الجلال والإكرام ، قال : فيقول تبارك وتعالى عند ذلك ، أنا السلام ومني السلام وعليكم حقت رحمتي ومحبتي ، مرحبًا بعبادي الذين خشوني بالغيب وأطاعوا أمري . قال فيقولون : ربنا إنا لم نعبدك حق عبادتك ، ولم نقدرك ، فائذن لنا بالسجود قدامك . قال : فيقول الله : إنها ليست بدار نصب ولا عبادة ، ولكنها دار ملك ونعيم ، وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة ، فسلوني ما شئتم ، بأن لكل رجل منكم أمنيته . فيسألونه ، حتى إن أقصرهم أمنية ليقول : ربي ، تنافس أهل الدنيا في دنياهم فتضايقوا فيها ، رب فآتني من كل شئ كانوا فيه من يوم خلقتها إلى أن انتهت الدنيا ، فيقول الله تعالى : لقد قصرت بك اليوم أمنيتك . ولقد سألت دون منزلتك . هذا لك منى وسأتحفك بمنزلتي لأن ليس في عطائي نكد ولا قصر يد . قال : ثم يقول : اعرضوا على عبادي ما لم تبلغ أمانيهم ولم يخطر على بال . قال : فيعرضون عليهم حتى تقصر بهم أمانيهم التي في أنفسهم ، فيكون فيما يعرضون عليهم براذين مقرنة على كل أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة . على كل سرير منها قبة من ذهب مفزعة . في كل قبة منها فرش من فرش الجنة مظاهرة . في كل قبة منها جاريتان من الحور العين . على كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة . وليس في الجنة لون إلا وهو فيهما . ولا ريح طيب إلا قد عبق بهما . ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة . حتى يظن من يراهما أنهما من دون القبة يرى مخهما من فوق سوقهما كالسلك الأبيض في يا قوته حمراء . يريان له من الفضل على صحابته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل . ويرى لهما مثل ذلك . ثم يدخل عليهما فيحييانه ويقبلانه ويعانقانه ويقولان له : والله ما ظننا أن الله يخلق مثلك . ثم يأمر الله تعالى الملائكة فيسيرون بهم صفًا في الجنة حتى ينتهي كل رجل منهم إلى منزلته التي أعدت له . وقد روى هذا الأثر ابن أبي حاتم بسنده عن وهب بن منبه وزاد : فانظروا إلى مواهب ربكم الذي وهب لكم ، فإذا بقباب في الرفيق الأعلى ، وغرف مبنية بالدر والمرجان أبوابها من ذهب وسررها من ياقوت ، وفرشها من سندس واستبرق ، ومنابرها من نور ، يفور من أبوابها وعراصها نور مثل شعاع الشمس ، عنده مثل الكوكب الدري في النهار المضيء ، وإذا بقصور شامخة في أعلى عليين من الياقوت يزهو نورها . فلولا أنه مسخر إذًا لالتمع الأبصار ، فما كان من تلك القصور من الياقوت الأبيض فهو مفروش بالحرير الأبيض ، وما كان منها من الياقوت الأخضر فهو مفروش بالسندس الأخضر ، وما كان منها من الياقوت الأصفر فهو مفروش بالأرجوان الأصفر ، مبوبة بالزمرد الأخضر والذهب الأحمر والفضة البيضاء ، قوائمها وأركانها من الجوهر ، وشرفها من قباب من لؤلؤ ، وبروجها غرف من المرجان . فلما انصرفوا إلى ما أعطاهم ربهم قربت لهم براذين من ياقوت أبيض منفوخ فيها الروح ، تحتها الولدان المخلدون ، بيد كل وليد منهم حكمة برذون من تلك البراذين ولجمها وأعنتها من فضة بيضاء منظومة بالدر والياقوت ، سرر موضونة مفروشة بالسندس والإستبرق ، فانطلقت بهم تلك البراذين تزف فينظرون رياض الجنة فلما انتهوا إلى منازلهم وجدوا الملائكة قعدوا على منابر من نور ينتظرونهم ليزوروهم ويصافحوهم ويهنئوهم كرامة ربهم ، فلما دخلوا قصورهم وجدوا فيها جميع ما تطاول به عليهم وما سألوا وما تمنوا ، وإذا على باب كل قصر من تلك القصور أربعة جنان جنتان ذواتًا أفنان وجنتان مدهامتان وفيهما عينان نضاختان ، وفيهما من كل فاكهة زوجان ، وحور مقصورات في الخيام ، فلما تبوءوا منازلهم واستقروا قرارهم قال لهم ربهم : " هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا قالوا نعم " وربنا . قال : هل رضيتم ثواب ربكم ؟ قالوا: ربنا رضينا فارض عنا ، قال: فبرضائي عنكم أحللتكم داري ونظرتم إلى وجهي ، فعند ذلك قالوا : " الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور * الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب " وهذا سياق غريب وأثر عجيب ولبعضه شواهد في الصحيحين . وقال خالد بن معدان : إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى ، ضروع كلها ، ترضع صبيان أهل الجنة ، وإن سقط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة يتقلب فيه حتى تقوم القيامة فيبعث ابن أربعين سنة رواه ابن أبي حاتم . قوله : أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أي في جهاد المشركين . قوله : أشعث مجرور بالفتحة لأنه اسم لا ينصرف للوصفية ووزن الفعل ، ورأسه مرفوع على الفاعلية ، وهو طائر الشعر ، شغله الجهاد في سبيل الله عن التنعم بالأدهان وتسريح الشعر . قوله : مغبرة قدماه هو بالجر صفة ثانية لعبد . قوله : إن كان في الحراسة كان في الحراسة هو بكسر الحاء أي حمى الجيش عن أن يهجم العدو عليهم . قوله : كان في الحراسة أي غير مقصر فيها ولا غافل ، وهذا اللفظ يستعمل في حق من قام بالأمر على وجه الكمال . قوله : وإن كان في الساقة كان في الساقة أي في مؤخرة الجيش ، يقلب نفسه في مصالح الجهاد ، فكل مقام يقوم فيه إن كان ليلًا أو نهارًا ، رغبة في ثواب الله وطلبًا لمرضاته ومحبة لطاعته . قال ابن الجوزي رحمه الله : وهو خامل الذكر لا يقصد السمو . وقال الخلخالي : المعنى ائتماره بما أمر ، وإقامته حيث أقيم . لا يفقد من مقامه ، وإنما ذكر الحراسة والساقة لأنهما أشد مشقة . انتهى . وفيه فضل الحراسة في سبيل الله . قوله : إن استأذن لم يؤذن له أي إن استأذن على الأمراء ونحوهم لم يؤذن له لأنه لا جاه له عندهم ولا منزلة . لأنه ليس من طلابها . وإنما يطلب ما عند الله لا يقصد بعمله سواه . قوله : وإن شفع بفتح أوله وثانية لم يشفع بفتح الفاء مشددة . يعني لو ألجأته الحال إلى أن يشفع في أمر يحبه الله ورسوله لم تقبل شفاعته عند الأمراء ونحوهم . وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا : " رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره " . وروى الإمام أحمد أيضًا عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير قال : قال عثمان رضي الله ـ وهو يخطب على منبره : " إني محدثكم حديثًا سمعته من رسول الله لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلا الظن بكم . سمعت رسول الله يقول : حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها " . وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك قال عبد الله بن محمد قاضي نصيبين حدثني محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة أنه أملى عليه عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس وواعده الخروج . وأنشدها معه إلى الفضيل بن عياض في سنة سبع وسبعين ومائة . قال : يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخصب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل فخيولهم يوم الصبيحة تتعب ريح العبير لكم ، ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي غبار خيل الليل في أنف امرىء ودخان نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب قال : فلقيت الفضيل بكتابه في المسجد الحرام فلما قرأه ذرفت عيناه فقال : صدق أبو عبد الرحمن ونصحني ، ثم قال : أنت ممن يكتب الحديث ؟ قلت : نعم قال لي : اكتب هذا الحديث ، وأملى على الفضيل بن عياض : حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة : "أن رجلًا قال : يا رسول الله علمني عملًا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله ، فقال : هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر ، وتصوم فلا تفطر ؟ فقال : يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك ، ثم قال النبي  : فو الذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت فضل المجاهدين في سبيل الله ، أما علمت أن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك حسنات ؟ " .

باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله قوله : ( باب : من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله ، فقد اتخذهم أربابًا من دون الله ) قول الله تعالى : ' 9 : 31 ' " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون" وتقديم تفسير هذا في أصل المصنف رحمه الله عند ذكر حديث عدي ابن حاتم رضي الله عنه . قوله : وقال ابن عباس رضي الله عنهما : " يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء . أقول : قال رسول الله وتقولون : قال أبو بكر وعمر ؟ " . قوله : يوشك بضم أوله وكسر الشين المعجمة أي يقرب ويسرع . وهذا القول من ابن عباس رضي الله عنهما جواب لمن قال : إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لا يريان التمتع بالعمرة إلى الحج، ويريان أن إفراد الحج أفضل : أو ما هو معنى هذا ، وكان ابن عباس يرى أن التمتع بالعمرة إلى الحج واجب ويقول : إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط فقد حل من عمرته شاء أم أبى" لحديث سراقة بن مالك حين أمرهم النبي أن يجعلوها عمرة ويحلوا إذا طافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة ، فقال سراقة : يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال : بل للأبد " والحديث في الصحيحين ، وحينئذ فلا عذر لمن استفى أن ينظر في مذاهب العلماء وما استدل به كل إمام ويأخذ من أقوالهم ما دل عليه الدليل إذا كان له ملكة يقتدر بها على ذلك . كما قال تعالى : ' 4 : 59 ' " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا " . وللبخاري ومسلم وغيرهما أن النبي قال : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدى لأحللت " هذا لفظ البخاري في حديث عائشة رضي الله عنها . ولفظه في حديث جابر : " افعلوا ما أمرتكم به فلولا أني سقت الهدى لفعلت مثل الذي أمرتكم " في عدة أحاديث تؤيد قول ابن عباس . وبالجملة فلهذا قال ابن عباس لما عارضوا الحديث برأي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء .... الحديث . وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى : ما منا إلا راد ومردود عليه ، إلا صاحب هذا القبر . وكلام الأئمة في هذا المعنى كثير . وما زال العلماء رحمهم الله يجتهدون في الوقائع فمن أصاب منهم فله أجران ، ومن أخطأ فله أجر ، كما في الحديث ، لكن إذا استبان لهم الدليل أخذوا به وتركوا اجتهادهم . وأما إذا لم يبلغهم الحديث أو لم يثبت عن النبي عندهم فيه حديث ، أو ثبت وله معارض أو مخصص ونحو ذلك فحينئذ يسوغ للإمام أن يجتهد . وفي عصر الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى إنما كان طلب الأحاديث ممن هي عنده باللقى والسماع ، ويسافر الرجل في طلب الحديث إلى الأمصار عدة سنين . ثم اعتنى الأئمة بالتصانيف ودونوا الأحاديث ورووها بأسانيدها ، وبينوا صحيحها من حسنها من ضعيفها . والفقهاء صنفوا في كل مذهب ، وذكروا حجج المجتهدين . فسهل الأمر على طالب العلم . وكل إمام يذكر الحكم بدليله عنده ، وفي كلام ابن عباس رضي الله عنهما ما يدل على أن من يبلغه الدليل فلم يأخذ به ـ تقليدًا لإمامه ـ فإنه يجب الإنكار عليه بالتغليظ لمخالفته الدليل . وقال الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عمر البزار ، حدثنا زياد بن أيوب ، حدثنا أبو عبيدة الحداد عن مالك بن دينار عن عكرمة ابن عباس قال : ليس منا أحد إلا يؤخذ من قوله ويدع غير النبي . وعلى هذا فيجب الإنكار على من ترك الدليل لقول أحد من العلماء كائنًا من كان ، ونصوص الأئمة على هذا ، وأنه لا يسوغ التقليد إلا في مسائل الاجتهاد التي لا دليل فيها يرجع إليه من كتاب ولا سنة ، فهذا هو الذي عناه بعض العلماء بقوله : لا إنكار في مسائل الإجتهاد . وأما من خالف الكتاب والسنة فيجب الرد عليه كما قال ابن عباس والشافعي ومالك وأحمد ، وذلك مجمع عليه ، كما تقدم في كلام الشافعي رحمه الله تعالى .

قول الإمام أحمد : عجبت لقوم عرفوا الإسناد ويذهبون إلى رأي سفيان إلخ قوله : وقال الإمام أحمد : عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ، ويذهبون إلى رأي سفيان . والله تعالى يقول : ' 24 : 63 ' " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " أتدرون ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك ، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شئ من الزيغ فيهلك . هذا الكلام من الإمام أحمد رحمه الله رواه عنه الفضل بن زياد وأبو طالب . قال الفضل عن أحمد : نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول في ثلاث وثلاثين موضعًا ، ثم جعل يتلو : " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة " الآية ، فذكر من قوله : الفتنة الشرك ـ إلى قوله ـ فيهلك . ثم جعل يتلو هذه الآية : ' 4 : 65 ' " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا " . وقال أبو طالب عن أحمد وقيل له : إن قومًا يدعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره ، فقال : أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره ، قال الله تعالى : " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة : الكفر . قال الله تعالى : ' 2 : 217 ' " والفتنة أكبر من القتل " فيدعون الحديث عن رسول الله وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي ذكر ذلك عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى . قوله : عرفوا الإسناد أي إسناد الحديث وصحته ، فإن صح إسناد الحديث فهو صحيح عند أهل الحديث وغيرهم من العلماء . وسفيان : هو الثوري الإمام الزاهد العابد الثقة الفقيه ، وكان له أصحاب يأخذون عنه ، ومذهبه مشهور يذكره العلماء رحمهم الله في الكتب التي يذكر فيها مذاهب الأئمة ، كالتمهيد لابن عبد البر ، والاستذكار له ، وكتاب الإشراف على مذاهب الأشراف لابن المنذر ، والمحلى لابن حزم ، والمغنى لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة الحنبلي . وغير هؤلاء . فقول الإمام أحمد رحمه الله : عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ... إلخ إنكار منه لذلك . وأنه يؤول إلى زيع القلوب الذي يكون به المرء كافرًا . وقد عمت البلوى بهذا المنكر خصوصًا ممن ينتسب إلى العلم ، نصبوا الحبائل في الصد عن الأخذ بالكتاب والسنة ، وصدوا عن متابعة الرسول وتعظيم أمره ونهيه ، فمن ذلك قولهم : لا يستدل بالكتاب والسنة إلا المجتهد . والاجتهاد قد انقطع ويقول : هذا الذي قلدته أعلم منك بالحديث وبناسخه ومنسوخه ، ونحو ذلك من الأقوال التي غايتها ترك متابعة الرسول الذي لا ينطق عن الهوى ، والاعتماد على قول من يجوز عليه الخطأ ، وغيره من الأئمة يخالفه ، ويمنع قوله بدليل ، فما من إمام إلا والذي معه بعض العلم لا كله . فالواجب على كل مكلف إذا بلغه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله وفهم معنى ذلك : أن ينتهي إليه ويعمل به ، وإن خالفه من خالفه ، كما قال تعالى : ' 7 : 3 ' " اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلًا ما تذكرون " وقال تعالى ' 29 : 51 ' " أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون " وقد تقدم حكاية الإجماع على ذلك ، وبيان أن المقلد ليس من أهل العلم ، وقد حكى أيضًا أبو عمر ابن عبد البر وغيره الإجماع على ذلك . قلت : ولا يخالف في ذلك إلا جهال المقلدة ، لجهلهم بالكتاب والسنة ، ورغبتهم عنها ، وهؤلاء وإن ظنوا أنهم قد اتبعوا الأئمة فإنهم في الحقيقة قد خالفوهم ، واتبعوا غير سبيلهم . كما قدمنا من قول مالك والشافعي وأحمد ، ولكن في كلام أحمد رحمه الله إشارة إلى أن التقليد قبل بلوغ الحجة لا يذم وإنما ينكر على من بلغته الحجة وخالفهم لقول إمام من الأئمة ، وذلك إنما ينشأ عن الإعراض عن تدبر كتاب الله وسنة رسوله والإقبال على كتب من تأخروا والإستغناء بها عن الوحيين ، وهذا يشبه ما وقع من أهل الكتاب الذي قال الله فيهم : ' 9 : 3 ' " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله " كما سيأتي بيان ذلك في حديث عدي بن حاتم ، فيجب على من نصح نفسه إذا قرأ كتب العلماء ونظر فيها وعرف أقوالهم أن يعرضها على ما في الكتاب والسنة ، فإن كل مجتهد من العلماء ومن تبعه وانتسب إلى مذهبه لا بد أن يذكر دليله ، والحق في المسألة واحد، والأئمة مثابون على اجتهادهم، فالمصنف يجعل النظر في كلامهم وتأمله طريقًا إلى معرفة المسائل واستحضارها ذهنًا وتمييزًا للصواب من الخطأ بالأدلة التي يذكرها المستدلون ، ويعرف بذلك من هو أسعد بالدليل من العلماء فيتبعه ، والأدلة على هذا الأصل في كتاب الله أكثر وفي السنة كذلك ، كما أخرج أبو داود بسنده عن أناس من أصحاب معاذ : " أن رسول الله لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال : كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ قال : أقضي بكتاب الله تعالى ، قال : فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال : فبسنة رسول الله قال فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله ؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو ، قال : فضرب رسول الله صدره وقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله" وساق بسنده عن الحارث بن عمر عن أناس من أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه : أن رسول الله لما بعثه إلى اليمن ـ بمعناه . والأئمة رحمهم الله لم يقصروا في البيان ، بل نهوا عن تقليدهم إذا استبانت السنة ، لعلمهم أن من العلم شيئًا لم يعلموه ، وقد يبلغ غيرهم ، وذلك كثير كما لا يخفى على من نظر في أقوال العلماء . قال أبو حنيفة رحمه الله : إذا جاء الحديث عن رسول الله فعلى الرأس والعين ، وإذا جاء عن الصحابة رضي الله عنهم فعلى الرأس والعين ، وإذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال . وقال : إذا قلت قولًا وكتاب الله يخالفه فاتركوا قولي لكتاب الله . قيل : إذا كان قول رسول الله يخالفه ؟ قال : اتركوا قولي لخبر الرسول . وقيل إذا كان قول الصحابة يخالفه ؟ قال : اتركوا قولي لصحابة . وقال الربيع : سمعت الشافعي رحمه الله يقول : إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله فخذوا سنة رسول الله ودعوا ما قلت . وقال : إذا صح الحديث بما يخالف قولي فاضربوا بقولي الحائط . وقال مالك : كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله . وتقدم له مثل ذلك ، فلا عذر لمقلد بعد هذا . ولو استقضينا كلام العلماء في هذا لخرج عما قصدناه من الاختصار ، وفيما ذكرناه كفاية لطالب الهدى . قوله : لعله إذا رد بعض قوله أي قول الرسول أي يقع في قلبه شئ من الزيغ فيهلك نبه رحمه الله أن رد قول الرسول سبب لزيغ القلب ، وذلك هو الهلاك في الدنيا والآخرة كما قال تعالى : ' 61 : 5 ' " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين " . قال شيخ الإسلام رحمه الله في معنى قول الله تعالى : ' 24 : 63 ' " فليحذر الذين يخالفون عن أمره " فإن كان المخالف لأمره قد حذر من الكفر والشرك ، أو من العذاب الأليم ، دل على أنه قد يكون مفضيًا إلى الكفر والعذاب الأليم ، ومعلوم أن إفضاءه إلى العذاب الأليم هو مجرد فعل المعصية ، فإفضاؤه إلى الكفر إنما هو لما يقترن به من الاستخفاف في حق الأمر ، كما فعل إبليس لعنه الله تعالى ا هـ . وقال أبو جعفر ابن جرير رحمه الله تعالى عن الضحاك : " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة " قال : يطبع على قلبه فلا يؤمن أن يظهر الكفر بلسانه فتضرب عنقه . قال أبو جعفر بن جرير : أدخلت عن لأن معنى الكلام فليحذر الذين يلوذون عن أمره ويدبرون عنه معرضين . قوله : أو يصيبهم في الدنيا عذاب من الله موجع على خلافهم أمر رسول الله .

اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله قوله : عن عدي بن حاتم رضي الله عنه : أنه سمع النبي يقرأهذه الآية : ' 9 : 31 ' " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم " الآية . فقلت : " إنا لسنا نعبدهم . قال : أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه ؟ فقلت : بلى ، قال : فتلك عبادتهم " رواه أحمد والترمذي وحسنه . هذا الحديث قد روى من طرق ، فرواه ابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني ، وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي . قوله : عن عدي بن حاتم أي الطائي المشهور . وحاتم هو ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج ـ بفتح الحاء ـ المشهور بالسخاء والكرم . قدم عدي على النبي في شعبان سنة تسع من الهجرة . فأسلم وعاش مائة وعشرين سنة . وفي الحديث دليل على أن طاعة الأحبار والرهبان في معصية الله عبادة لهم من دون الله ، ومن الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله لقوله تعالى في آخر الآية : " وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون " ونظير ذلك في قوله تعالى : ' 6 : 121 ' " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون " وهذا قد وقع فيه كثير من الناس مع من قلدوهم ، لعدم إعتبارهم الدليل إذا خالف المقلد ، وهو من هذا الشرك . ومنهم من يغلو في ذلك ويعتقد أن الأخذ بالدليل والحالة هذه يكره ، أو يحرم ، فعظمت الفتنة . ويقول : هم أعلم منا بالأدلة . ولا يأخذ بالدليل إلا المجتهد ، وربما تفوهوا بذم من يعمل بالدليل ، ولا ريب أن هذا من غربة الإسلام كما قال شيخنا رحمه الله في المسائل : فتغيرت الأحوال ، وآلت إلى هذه الغاية فصارت عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال ، ويسمونها ولاية ، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه . ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من ليس من الصالحين ، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين . وأما طاعة الأمراء ومتابعتهم فيما يخالف ما شرعه الله ورسوله فقد عمت بها البلوى قديمًا وحديثًا في أكثر الولاة بعد الخلفاء الراشدين وهلم جرا . وقد قال تعالى : ' 28 : 50 ' " فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين " . وعن زياد بن حدير قال : قال لي عمر رضي الله عنه : " هل تعرف ما يهدم الإسلام ؟ قلت : لا ، قال : يهدمه زلة العالم ، وجدال المنافق بالقرآن ، وحكم الأئمة المضلين " رواه الدارمى . جعلنا الله وإياكم من الذين يهدون بالحق وبه يعدلون .

باب " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا " إلخ قوله : باب قول الله تعالى : ' 4 : 60 ' " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " الآيات . قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى : والآية ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل ، وهو المراد بالطاغوت ههنا . وتقدم ما ذكره ابن القيم رحمه الله في حده للطاغوت ، وأنه كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع ، فكل من حاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله فقد حاكم إلى الطاغوت الذي أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يكفروا به ، فإن التحاكم ليس إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله ومن كان يحكم بهما ، فمن تحاكم إلى غيرهما فقد تجاوز به حده ، وخرج عما شرعه الله ورسوله وأنزله منزلة لا يستحقها . وكذلك من عبد شيئًا دون الله فإنما عبد الطاغوت ، فإن كان المعبود صالحًا صارت عبادة العابد له راجعة إلى الشيطان الذي أمره بها ، كما قال تعالى : ' 10 : 28 ـ 30 ' " يوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون * فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين * هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون " وكقوله : ' 34 : 40 ـ 41 ' " ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون " وإن كان ممن يدعو إلى عبادة نفسه أو كان شجرًا أو حجرًا أو قبرًا وغير ذلك مما يتخذه المشركون أصنامًا على صور الصالحين والملائكة وغير ذلك ، فهي من الطاغوت الذي أمر الله تعالى عباده أن يكفروا بعبادته ، ويتبرأوا منه ، ومن عبادة كل معبود سوى الله كائنًا من كان ، وهذا كله من عمل الشيطان وتسويله ، فهو الذي دعا إلى كل باطل وزينة لمن فعل ، وهذا ينافي التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله . فالتوحيد: هو الكفر بكل طاغوت عبده العابدون من دون الله ، كما قال تعالى : ' 60 : 4 ' " قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده " وكل من عبد غير الله فقد جاوز به حده وأعطاه من العبادة ما لا يستحقه . قال الإمام مالك رحمه الله الطاغوت ما عبد من دون الله . وكذلك من دعا إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد ترك ما جاء به الرسول ورغب عنه ، وجعل لله شريكًا في الطاعة وخالف ما جاء به رسول الله فيما أمره الله تعالى به في قوله : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك " وقوله تعالى : ' 4 : 65 ' " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا " فمن خالف ما أمر الله به ورسوله بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله ، أو طلب ذلك أتباعًا لما يهواه ويريده فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان في عنقه . وإن زعم أنه مؤمن ، فإن الله تعالى أنكر على من أراد ذلك ، وأكذبهم في زعمهم الإيمان لما في ضمن قوله : " يزعمون " من نفى إيمانهم ، فإن " يزعمون " إنما يقال غالبًا لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب لمخالفته لموجبها وعمله بما ينافيها، يحقق هذا قوله: " وقد أمروا أن يكفروا به " لأن الكفر بالطاغوت ركن التوحيد ، كما في آية البقرة فإن لم يحصل هذا الركن لم يكن موحدًا والتوحيد هو أساس الإيمان الذي تصلح به جميع الأعمال وتفسد بعدمه . كما أن ذلك بين في قوله تعالى : ' 2 : 256 ' " فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى " الآية . وذلك أن التحاكم إلى الطاغوت إيمان به . وقوله : " ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالًا بعيدًا " يبين تعالى في هذه الآية أن التحاكم إلى الطاغوت مما يأمر به الشيطان ويزينه لمن أطاعه : ويبين أن ذلك مما أضل به الشيطان من أضله ، وأكده بالمصدر ، ووصفه بالبعد . فدل على أن ذلك من أعظم الضلال وأبعده عن الهدى . ففي هذه الآية أربعة أمور . الأول : أنه إرادة الشيطان : الثاني : إنه ضلال . الثالث : تأكيده بالمصدر . الرابع : وصفه بالبعد عن سبيل الحق والهدى . فسبحان الله ما أعظم هذا القرآن وما أبلغه ، وما أدله على أنه كلام رب العالمين ، أوحاه إلى رسوله الكريم ، وبلغه عبده الصادق الأمين . صلوات الله وسلامه عليه . قوله : " وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودًا " بين تعالى أن هذه صفة المنافقين ، وأن من فعل ذلك أو طلبه ، وإن زعم أنه مؤمن فإنه في غاية البعد عن الإيمان . قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى : هذا دليل على أن من دعى إلى تحكيم الكتاب والسنة فأبى أنه من المنافقين . قوله : " ويصدون " لازم وهو بمعنى يعرضون ، لأن مصدره صدودًا فما أكثر من اتصف بهذا الوصف ، خصوصًا ممن يدعى العلم ، فإنهم صدوا عما توجبه الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله إلى أقوال من يخطىء كثيرًا ممن ينتسب إلى الأئمة الأربعة في تقليدهم من لا يجوز تقليده ، واعتمادهم على قول من لا يجوز الاعتماد على قوله ، ويجعلون قوله المخالف لنص الكتاب والسنة وقواعد الشريعة هو المعتمد عندهم الذي لا تصح الفتوى إلا به . فصار المتبع للرسول بين أولئك غريبًا ، كما تقدم التنبيه على هذا في الباب الذي قبل هذا . فتدبر هذه الآيات وما بعدها يتبين لك ما وقع فيه غالب الناس من الإعراض عن الحق وترك العمل به في أكثر الوقائع . والله المستعان .

" وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض " إلخ قوله : ' 2 : 11 ' " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون " قال أبو العالية في الآية : يعني لا تعصوا في الأرض . لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض ، لأن صلاح الأرض والسماء إنما هو بطاعة الله ورسوله . وقد أخبر تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام في قوله تعالى : ' 12 : 70 ـ 72 ' " ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون" ـ إلى قوله ـ "قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين " فدلت الآية على أن كل معصية فساد في الأرض . ومناسبة الآية للترجمة : أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعمال المنافقين وهو الفساد في الأرض . وفي الآية : التنبيه على عدم الإغترار بأقوال أهل الأهواء وإن زخرفوها بالدعوى . وفيها التحذير من الاغترار بالرأي ما لم يقم على صحة دليل من كتاب الله وسنة رسوله فما أكثر من يصدق بالكذب ويكذب بالصدق إذا جاءه ، وهذا من الفساد في الأرض ويترتب عليه من الفساد أمور كثيرة ، تخرج صاحبها عن الحق وتدخله في الباطل . نسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة . فتدبر تجد ذلك في حال الأكثر إلا من عصمه الله ومن عليه بقوة داعي الإيمان ، وأعطاه عقلًا كاملًا عند ورود الشهوات ، وبصرًا نافذًا عند ورود الشبهات ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . قوله : ' 7 : 56 ' " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها " قال أبو بكر بن عياش في الآية : إن الله بعث محمدًا إلى أهل الأرض وهم فساد ، فأصلحهم الله بمحمد فمن دعا إلى خلاف ما جاء به محمد فهو من المفسدين في الأرض . وقال ابن القيم رحمه الله : قال أكثر المفسرين : لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله لها ببعث الرسل ، وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله ، فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في الأرض ، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره ، فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ، ومطاع متبع غير رسول الله ، هو أعظم فساد في الأرض ، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المطاع ، والدعوة له لا لغيره ، والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلا ، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول . فإذا أمر بمعصية وخلاف شريعته فلا سمع ولا طاعة . ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة إلى غير الله ورسوله. ا هـ . ووجه مطابقة هذه الآية للترجمة : أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعظم ما يفسد الأرض من المعاصي ، فلا صلاح لها إلا بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله ، وهو سبيل المؤمنين ، كما قال تعالى : ' 4 : 15 ' " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " . قوله : ( وقول الله تعالى : ' 5 : 50 ' " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون " . قال ابن كثير رحمه الله : ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المشتمل على كل خير ، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله ، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات والضلالات كما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة عن جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وفيها كثير من الأحكام أخذها عن مجرد نظرة وهواه. فصارت في بنيه شرعًا يقدمونها على الحكم بالكتاب والسنة ، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله ، فلا يحكم بسواه في قليل ولا كثير . قوله : " ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون " استفهام إنكار أي لا حكم أحسن من حكمه تعالى . وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس له في الطرف الآخر مشارك ، أي ومن أعدل من الله حكمًا لمن عقل عن الله شرعه وآمن وأيقن أنه تعالى أحكم الحاكمين ، وأرحم بعباده من الوالدة بولدها ، العليم بمصالح عباده القادر على كل شئ ، الحكم في أقواله وأفعاله وشره وقدره ؟ . وفي الآية ، التحذير من حكم الجاهلية وإختياره على حكم الله ورسوله ، فمن فعل ذلك فقد أعرض عن الأحسن ، وهو الحق ، إلى ضده من الباطل .

لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به قوله : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله قال : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به " قال النووي : حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح . هذا الحديث رواه الشيخ أبو الفتح نضر بن إبراهيم المقدسي الشافعي في كتاب : الحجة على تارك الحجة بإسناد صحيح كما قاله المصنف رحمه الله عن النووي . ورواه الطبراني وأبو بكر بن عاصم، والحافظ أبو نعيم في الأربعين التي شرط لها أن تكون في صحيح الأخبار ، وشاهده في القرآن قوله تعالى : ' 4 : 65 ' " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم " الآية . وقوله : ' 33 : 36 ' " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " وقوله : ' 28 : 50 ' " فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم " ونحو هذه الآيات . قوله : لا يؤمن أحدكم أي لا يكون من أهل كمال الإيمان الواجب الذي وعد الله أهله عليه بدخول الجنة والنجاة من النار . وقد يكون في درجة أهل الإساءة والمعاصي من أهل الإسلام . قوله : حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به . الهوى بالقصر ، أي ما يهواه وتحبه نفسه وتميل إليه ، فإن كان الذي تحبه وتميل إليه نفسه ويعمل به تابعًا لما جاء به رسول الله لا يخرج عنه إلى ما يخالفه . فهذه صفة أهل الإيمان المطلق ، وإن كان بخلاف ذلك أو في بعض أحواله أو أكثرها انتفى عنه من الإيمان كماله الواجب ، كما في حديث أبي هريرة : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن " يعني أنه بالمعصية ينتفي عنه كمال الإيمان الواجب وينزل عنه في درجة الإسلام وينقص إيمانه ، فلا يطلق عليه الإيمان إلا بقيد المعصية ، أو الفسوق ، فيقال : مؤمن عاص ، أو يقال : مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته ، فيكون معه مطلق الإيمان الذي لا يصح إسلامه إلا به . كما قال تعالى : ' 5 : 92 ' " فتحرير رقبة مؤمنة " والأدلة على ما عليه سلف الأمة وأئمتها : أن الإيمان قول وعمل ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية : من كتاب الله تعالى وسنة رسوله أكثر من أن تحصى ، فمن ذلك قوله تعالى : ' 2 : 143 ' " وما كان الله ليضيع إيمانكم " أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة ، وقول النبي لوفد عبد القيس : " آمركم بالإيمان بالله وحده ، أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ شهادة أن لا إله إلا الله " الحديث ، وهو في الصحيحين والسنن . والدليل على أن الإيمان يزيد قوله تعالى : '74 : 31 ' " ويزداد الذين آمنوا إيمانًا " الآية . وقوله : ' 9 : 124 ' " فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا " الآية . خلافًا لمن قال : إن الإيمان هو القول ، وهم المرجئة ، ومن قال : إن الإيمان هو التصديق كالأشاعرة . ومن المعلوم عقلًا وشرعًا أن نية الحق تصديق ، والعمل به تصديق وقول الحق تصديق وليس مع أهل البدع ما ينافي قول أهل السنة والجماعة ولله الحمد والمنة . قال الله تعالى : ' 2 : 177 ' " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر" ـ إلى قوله ـ "أولئك الذين صدقوا " أي فيما عملوا به في هذه الآية من الأعمال الظاهرة والباطنة . وشاهده في كلام العرب قولهم : حملة صادقة . وقد سمي الله تعالى الهوى المخالف لما جاء به الرسول إلهًا ، فقال تعالى: ' 25 : 43 ' " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه " قال بعض المفسرين : لا يهوى شيئًا إلا ركبه . قال ابن رجب رحمه الله : أما معنى الحديث : فهو أن الإنسان لا يكون مؤمنًا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول من الأوامر والنواهي وغيرها . فيجب ما أمر به ويكره ما نهى عنه ، وقد ورد القرآن مثل هذا المعنى في غير موضع ، وذم سبحانه من كره ما أحبه الله أو أحب ما كرهه الله كما قال تعالى : ' 47 : 28 ' " ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم " فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الإتيان بما أوجب عليه منه ، فإن زادت المحبة حتى أتى بما ندب إليه منه كان ذلك فضلًا ، وأن يكره ما يكرهه الله كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه ، فإن زادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كراهه تنزيهًا كان ذلك فضلًا . فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب ذلك له أن يحب بقلبه ما يحب الله ورسوله ويكره ما يكرهه الله ورسوله ، فيرضي ما يرضي الله ورسوله ، ويسخط ما يسخط الله ورسوله ، ويعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض ، فإن عمل بجوارحه شيئًا يخالف ذلك ، بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله وترك ما يحبه الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه ، دل ذلك على نقص محبته الواجبة ، فعليه أن يتوب من ذلك ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة التي هي ركن العبادة إذا كملت فجميع المعاصي تنشأ عن تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله . وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه ، فقال تعالى : ' 28 : 50 ' " فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله " وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع . ولهذا سمي أهلها أهل الأهواء ، وكذلك المعاصي إنما تنشأ من تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يحبه ، وكذلك حب الأشخاص : الواجب فيه أن يكون تبعًا لما جاء به الرسول ، فيجب على المؤمن محبة ما يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عمومًا ، ولهذا كان من علامات وجود حلاوة الإيمان : أن يحب المرء لا يحبه إلا لله فتحرم موالاة أعداء الله ومن يكرهه الله عمومًا ، وبهذا يكون الدين كله لله . ومن أحب لله وأبغض لله ، وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان ، ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصًا في إيمانه الواجب . فتجب التوبة من ذلك : انتهى ملخصًا . ومناسبة الحديث للترجمة : بيان الفرق بين أهل الإيمان وأهل النفاق والمعاصي في أقوالهم وأفعالهم وإرادتهم . قوله : وقال الشعبي هو عامر بن شراحيل الكوفي ، عالم أهل زمانه ، وكان حافظًا علامة ذا فنون . كان يقول : ما كتبت سوداء في بيضاء ، وأدرك خلقًا كثيرًا من الصحابة وعاش بضعًا وثمانين سنة . قال الذهبي . وفيما قاله الشعبي ما يبين أن المنافق يكون أشد كراهة لحكم الله ورسوله من اليهود والنصارى . ويكون أشد عداوة منهم لأهل الإيمان . كما هو الواقع في هذه الأزمنة وقبلها من إعانة العدو على المسلمين . وحرصهم على إطفاء نور الإسلام والإيمان : ومن تدبر ما في التاريخ وما وقع منهم من الوقائع عرف أن هذا حال المنافقين قديمًا وحديثًا ، وقد حذر الله نبيه من طاعتهم والقرب منهم ، وحضه على جهادهم في مواضع من كتابه ، قال تعالى : ' 66 : 9 ' " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم " الآية . وفي قصة عمر رضي الله عنه وقتله المنافق الذي طلب التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي دليل على قتل من أظهر الكفر والنفاق ، وكان كعب بن الأشرف هذا شديد العداوة للنبي والأذى له والإظهار لعداوته فانتقض به عهده . وحل به قتله . وروى مسلم في صحيحه عن عمر : سمعت جابرًا يقول : : قال رسول الله  : " من لكعب ابن الأشرف ؟ فإنه قد آذى الله ورسوله ، قال محمد بن سلمة : يا رسول الله ، أتحب أن أقتله ؟ قال : نعم . قال : ائذن لي فلأقل ، قال : قل ، فأتاه فقال له ، وذكر ما بينهما وقال : إن هذا الرجل قد أراد صدقة وقد عنانا . فما سمعه قال : وأنا أيضًا والله لتملنه ، قال : إنا قد اتبعناه الآن ، ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شئ يصير أمره، قال : وقد أردت أن تسلفني سلفًا ، قال : فما ترهنني ؟ قال : ما تريد . قال : ترهنني نسائكم ؟ قالت : أنت أجمل العرب ، أنرهنك نسائنا ؟ قال : ترهنوني أولادكم ؟ قال : يسب ابن أحدنا فيقال : رهن في وسقين من تمر . ولكن نرهنك اللأمة ـ يعني السلاح ـ قال : فنعم : وواعده أن يأتيه بالحارث وأبي عبس بن جبر وعباد بن بشر . قال : فجاءوا فدعوه ليلًا فنزل إليهم ـ قال سفيان قال غير عمرو : قالت له أمرأته : إني أسمع صوتًا كأنه صوت دم ، قال : إنما هذا محمد بن مسلمة ورضيعه وأبو نائلة إن الكريم لو دعى إلى طعنة ليلًا لأجاب ، قال محمد إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه ، فإذا استمكنت منه فدونكم قال : فلما نزل وهو متوشح . فقالوا : نجد منك ريح الطيب ، قال : نعم ، تحتى فلانة أعطر نساء العرب ، قال : فتأذن لي أن أشتم منه ؟ قال : نعم فشم ، فتناول فشم ، ثم قال : أتأذن لي أن أعود ؟ قال : فاستمكن من رأسه . ثم قال : دونكم . قال : فقتلوه " . وفي قصة عمر : بيان أن المنافق المغموض بالنفاق إذا أظهر نفاقه قتل ، كما في الصحيحين وغيرهما : أن النبي إنما ترك قتل من أظهر نفاقه منهم تأليفًا للناس ، فإنه قال : " لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه " فصلوات الله وسلامه عليه .