فضل علم السلف على الخلف



بسم الله الرحمن الرحيم


فضل علم السلف على الخلف

بسم الله الرحمن الرحيم

قال المؤلف رحمه الله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيراً.

معنى العلم

أما بعد فهذه كلمات مختصرة في معنى العلم وانقسامه إلى علم نافع. وعلم غير نافع. والتنبيه على فضل علم السلف على علم الخلف فنقول وبالله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.

قد ذكر الله تعالى في كتابه العلم تارة في مقام المدح وهو العلم النافع. وتارة في مقام الذم وهو العلم الذي لا ينفع. فأما الأول فمثل قوله تعالى {قُل هَل يَستَوي الَّذينَ يَعلَمونَ وَالَّذينَ لا يَعلَمون}

وقوله {شَهِدَ اللَهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلّا هُوَ وَالمَلائِكَة وَأُولوا العِلمَ قائِماً بِالقِسط} وقوله {وَقُل رَبِّ زِدني عِلماً}

وقوله {إِنَّما يَخشى اللَهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ}

وما قص سبحانه من قصة آدم وتعليمه الأسماء. وعرضهم على الملائكة وقولهم {سُبحانَكَ لا عِلمَ لَنا إِلّا ما عَلَّمتَنا إِنَّكَ أَنتَ العَليمُ الحَكيم}.

وما قصه سبحانه وتعالى من قصة موسى عليه السلام وقوله للخضر {هَل أَتَّبِعُكَ عَلى أَن تُعَلِمَني مِمّا عُلِّمتَ رُشدا} فهذا هو العلم النافع .

وقد أخبر عن قوم أنهم أوتوا علماً ولم ينفعهم علمهم. فهذا علم نافع في نفسه لكن صاحبه لم ينتفع به. قال تعالى {مَثَلُ الَّذينَ حُمِّلوا التَوراةَ ثُمَّ لَم يَحمِلوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحمِلُ أَسفارا} وقال {وَاِتلُ عَلَيهِم نَبَأَ الَّذي آتَيناهُ آياتِنا فَاِنسَلَخَ مِنها فَأَتبَعَهُ الشَيطانُ فَكانَ مِنَ الغاوينَ وَلَو شِئنا لَرَفَعناهُ بِها وَلَكِنَّهُ أَخلَدَ إِلى الأَرضِ وَإِتَّبَعَ هَواهُ} وقال تعالى {فَخَلَفَ مِن بَعدَهُم خَلفَ وَرِثوا الكِتابَ يَأخُذونَ عَرَضَ هذا الأَدنى وَيَقولونَ سَيُغفَرُ لَنا وَإِن يَأتِهِم عَرَضٌ مِثلُهُ يَأخُذوهُ أَلَم يُؤخَذ عَلَيهِم ميثاقُ الكِتابِ أَلّا يَقولوا عَلى اللَهِ إِلّا الحَقَّ وَدَرَسوا ما فيهِ وَالدارُ الآخِرَةُ خَيرٌ لِلَّذينَ يَتَّقون} الآية وقال {وَأَضَلَّهُ اللَهُ عَلى عِلمٍ} على تأويل من تأول الآية على علم عند من أضله الله.

وأما العلم الذي ذكره الله تعالى على جهة الذم له. فقوله في السحر {وَيَتَعَلَّمونَ ما يَضُرُّهُم وَلا يَنفَعُهُم وَلَقَد عَلِموا لَمَنِ اِشتَراهُ مالَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ} وقوله {فَلَمّا جاءَتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّناتِ فَرِحوا بِما عِندَهُم مِنَ العِلمِ وَحاقَ بِهِم ما كانوا بِهِ يَستَهزِئون}

وقوله تعالى {يَعلَمونَ ظاهِراً مِنَ الحَياةِ الدُنيا وَهُم عَن الآخِرَةِ هُم غافِلون}.

ولذلك جاءت السنة بتقسيم العلم إلى نافع وإلى غير نافع. والاستعاذة من العلم الذي لا ينفع. وسؤال العلم النافع ففي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن النبي كان يقول :اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها . وخرجه أهل السنن من وجوه متعددة عن النبي .

وفي بعضها ومن دعاء لا يسمع.

وفي بعضها أعوذ بك من هؤلاء الأربع وخرج النسائي من حديث جابر أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يقول اللهم إني أسألك علماً نافعاً وأعوذ بك من علم لا ينفع

وخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي كان يقول اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علماً

وخرج النسائي من حديث أنس أن النبي كان يدعو اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وارزقني علماً تنفعني به

وخرج أبو نعيم من حديث أنس أن النبي كان يقول اللهم إنّا نسألك إيماناً دائماً فرب إيمان غير دائم وأسألك علماً نافعاً فرب علم غير نافع

وخرج أبو داود من حديث بُريدة عن النبي قال إنَّ منَ البيان سحراً وإن من العلم جهلاً وإن صعصعة بن صوحان فسر قوله إن من العلم جهلاً أن يتكلف العالم إلى علمه مالا يعلم فيجهله ذلك.

ويُفسر أيضا بأن العلم الذي يضر ولا ينفع جهل. لأن الجهل به خير من العلم به. فإذا كان الجهل به خيراً منه فهو شر من الجهل. وهذا كالسحر وغيره من العلوم المضرة في الدين أو في الدنيا.

وقد روي عن النبي تفسير بعض العلوم التي لا تنفع. ففي مراسيل أبي داود عن زيد بن أسلم قال قيل يا رسول الله ما أعلمَ فلانا قال بم قالوا بأنساب الناس قال علم لا ينفع وجهالة لا تضر

وخرجه أبو نعيم في كتاب رياض المتعلمين من حديث بقية عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة مرفوعا وفيه إنَّهم قالوا أعلم الناس بأنساب العرب وأعلم الناس بالشعر وبما اختلفت فيه العرب وزاد في آخره العلم ثلاثة ما خلاهن فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة وهذا الإسناد لا يصح وبقية دَلَّسهُ عن غير ثقة .

وآخر الحديث خرجه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا العلم ثلاثة ما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وفيه ضعف مشهور.

وقد ورد الأمر بأن يُتعلم من الأنساب ما توصل به الأرحام من حديث أبي هريرة عن النبي قال تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم أخرجه الإمام احمد والترمذي. وخرجه حميد بن زنجويه من طريق آخر عن أبي هريرة مرفوعا تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ثم انتهوا. وتعلموا من العربية ما تعرفون به كتاب الله ثم انتهوا. وتعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا وفي إسناد روايته ابن لُهَيعة

وخرج أيضاً من رواية نعيم بن أبي هند قال قال عمر: تعلموا من النجوم ما تهتدون به في بركم وبحركم ثم امسكوا وتعلموا من النسبة ما تصلون به أرحامكم وتعلموا ما يحل لكم من النساء ويحرم عليكم ثم انتهوا وروى مسعر عن محمد ابن عبد الله قال قال عمر بن الخطاب تعلموا من النجوم ما تعرفون به القبلة والطريق .

وكان النخعي لا يرى بأساً أن يتعلم الرجل من النجوم ما يهتدي به ورخص في تعلم منازل القمر أحمد وإسحق ويتعلم من أسماء النجوم ما يهتدي به: وكره قتادة تعلم منازل القمر: ولم يرخص ابن عيينه فيه ذكره حرب عنهما. وقال طاوس رب ناظر في النجوم ومتعلم حروف أبي جاد ليس له عند الله خلاق خرجه حرب. وخرجه حميد بن زنجويه من رواية طاوس عن ابن عباس. وهذا محمول على علم التأثير لا علم التسيير فان علم التأثير باطل محرم وفيه ورد الحديث المرفوع ومن اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر .

خرجه أبو داود من حديث ابن عباس مرفوعا وخرج أيضاً من حديث قبيصة مرفوعاً العيافة والطِيَرة والطرق من الجبت.. والعيافة زجر الطير: والطرق الخط في الأرض.

فعلم تأثير النجوم باطل محرم. والعمل بمقتضاه كالتقرب إلى النجوم وتقريب القرابين لها كفر وأما علم التسيير فإذا تعلم منه ما يحتاج إليه للإهتداء ومعرفة القبلة والطرق كان جائزاً عند الجمهور وما زاد عليه فلا حاجة إليه وهو يشغل عما هو أهم منه.

وربما أدى التدقيق فيه إلى إساءة الظن بمحاريب المسلمين في أمصارهم كما وقع ذلك كثيراً من أهل هذا العلم قديماً وحديثاً وذلك يفضي إلى اعتقاد خطأ الصحابة والتابعين في صلاتهم في كثير من الأمصار وهو باطل.

وقد أنكر الأمام أحمد الاستدلال بالجدي وقال إنما ورد ما بين المشرق والمغرب قبلة: يعني لم يرد اعتبار الجدي ونحوه من النجوم. وقد أنكر ابن مسعود على كعب قوله أن الفلك تدور وأنكر ذلك مالك وغيره وأنكر الإمام أحمد على المنجمين قولهم أن الزوال يختلف في البلدان. وقد يكون إنكارهم أو إنكار بعضهم لذلك لأن الرسل لم تتكلم في هذا وإن كان أهله يقطعون به وإن كان الاشتغال به ربما أدى إلى فساد عريض.

وقد اعترض بعض من كان يعرف هذا على حديث النزول ثلث الليل الآخر وقال ثلث الليل يختلف باختلاف البلدان فلا يمكن أن يكون النزول في وقت معين. ومعلوم بالضرورة من دين الإسلام قبح هذا الاعتراض.

وأن الرسول أو خلفاءه الراشدين لو سمعوا من يعترض به لما ناظروه بل بادروا إلى عقوبته وإلحاقه بزمرة المخالفين المنافقين المكذبين.

وكذلك التوسع في علم الأنساب هو مما لا يحتاج إليه: وقد سبق عن عمر وغيره النهي عنه مع أن طائفة من الصحابة والتابعين كانوا يعرفونه ويعتنون به. وكذلك التوسع في علم العربية لغة ونحواً هو مما يشغل عن العلم الأهم والوقوف معه يحرم علماً نافعاً. وقد كره القاسم بن مخيمرة علم النحو وقال أوله شغل وآخره بغي. وأراد به التوسع فيه ولذلك كره أحمد التوسع في معرفة اللغة وغريبها وأنكر على أبي عبيدة توسعه في ذلك وقال هو يشغل عما هو أهم منه. ولهذا يقال أن العربية في الكلام كالملح في الطعام يعني أنه يؤخذ منها ما يصلح الكلام كما يؤخذ من الملح ما يصلح الطعام وما زاد على ذلك فإنه يفسده وكذلك علم الحساب يحتاج منه إلى ما يعرف به حساب ما يقع من قسمة الفرائض والوصايا. والأموال التي تقسم بين المستحقين لها والزائد على ذلك مما لا ينتفع به إلا في مجرد رياضة الأذهان وصقالها لا حاجة إليه ويشغل عما هو أهم منه وأما ما أحدث بعد الصحابة من العلوم التي توسع فيها أهلها وسموها علوما وظنوا أن من لم يكن عالماً بها فهو جاهل أو ضال فكلها بدعة وهي من محدثات الأمور المنهي عنها. فمن ذلك ما أحدثته المعتزلة من الكلام في القدر وضرب الأمثال للَّه. وقد ورد النهي عن الخوض في القدر وفي صحيحي ابن حبان والحاكم عن ابن عباس مرفوعاً لا يزال أمر هذه الأمة موافيا ومقاربا ما لم يتكلموا في الولدان والقدر

وقد روي موقوفا ورجح بعضهم وقفه وخرج البيهقي من حديث ابن مسعود مرفوعاً إذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكر النجوم فأمسكوا

وقد روي من وجوه متعددة في أسانيدها مقال وروي عن ابن عباس أنه قال لميمون بن مهران إياك والنظر في النجوم فإنها تدعو إلى الكهانة والقدر فإنه يدعو إلى الزندقة وإياك وشتم أحد من أصحاب محمد فَيُكِبَّكَ اللَه في النار على وجهك وخرجه أبو نعيم مرفوعاً ولا يصح رفعه والنهي عن الخوض في القدر يكون على وجوه منها ضرب كتاب اللَه بعضه ببعض فينزع المثبت للقدر بآية والنافي له بأخرى. ويقع التجادل في ذلك. وهذا قد روي أنه وقع في عهد النبي وأن النبي غضب من ذلك ونهى عنه وهذا من جملة الاختلاف في القرآن والمراء فيه وقد نهي عن ذلك.

ومنها الخوض في القدر إثباتاً ونفياً بالأقيسة العقلية: كقول القدرية لو قدر وقضى ثم عذب كان ظالماً. وقول من خالفهم إن اللَه جبر العباد على أفعالهم ونحو ذلك.

ومنها الخوض في سر القدر. وقد ورد النهي عنه عن علي وغيره من السلف فإن العباد لا يطلعون على حقيقة ذلك. ومن ذلك أعني محدثات الأمور ما أحدثه المعتزلة ومن حذا حذوهم من الكلام في ذات الله تعالى وصفاته بأدلة العقول وهو أشد خطراً من الكلام في القدر لأن الكلام في القدر كلام في أفعاله وهذا كلام في ذاته وصفاته.

وينقسم هؤلاء إلى قسمين أحدهما من نفى كثيراً مما ورد به الكتاب والسنة من ذلك لاستلزامه عنده للتشبيه بالمخلوقين كقول المعتزلة لو رؤي لكان جسما لأنه لا يرى إلا في جهة: وقولهم لو كان له كلام يسمع لكان جسما ووافقهم من نفى الاستواء فنفوه لهذه الشبهة: وهذا طريق المعتزلة والجهمية وقد اتفق السلف على تبديعهم وتضليلهم وقد سلك سبيلهم في بعض الأمور كثير ممن انتسب إلى السنة والحديث من المتأخرين.

والثاني من رام إثبات ذلك بأدلة العقول التي لم يرد بها الأثر ورد على أولئك مقالتهم كما هي طريقة مقاتل بن سليمان ومن تابعه كنوح بن أبي مريم وتابعهم طائفة من المحدثين قديماً وحديثاً. وهو أيضاً مسلك الكرامية فمنهم من أثبت لإثبات هذه الصفات الجسم إما لفظا وإما معنى. ومنهم من أثبت للَّه صفات لم يأت بها الكتاب والسنة كالحركة وغير ذلك مما هي عنده لازم الصفات الثابتة.

وقد أنكر السلف على مقاتل قوله في رده على جهم بأدلة العقل وبالغوا في الطعن عليه. ومنهم من استحل قتله، منهم مكي بن إبراهيم شيخ البخاري وغيره.

والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تفسير لها ولا تكييف ولا تمثيل: ولا يصح من أحد منهم خلاف ذلك البتة خصوصاً الإمام أحمد ولا خوض في معانيها ولا ضرب مثل من الأمثال لها : وإن كان بعض من كان قريباً من زمن الإمام أحمد فيهم من فعل شيئاً من ذلك اتباعاً لطريقة مقاتل فلا يقتدى به في ذلك إنما الإقتداء بأئمة الإسلام كابن المبارك. ومالك. والثوري والأوزاعي. والشافعي. وأحمد. واسحق. وأبي عبيد. ونحوهم.

وكل هؤلاء لا يوجد في كلامهم شيء من جنس كلام المتكلمين فضلا عن كلام الفلاسفة: ولم يدخل ذلك في كلام من سلم من قدح وجرح وقد قال أبوزرعة الرازي كل من كان عنده علم فلم يصن علمه واحتاج في نشره إلى شيء من الكلام فلستم منه.

ومن ذلك أعني محدثات العلوم ما أحدثه فقهاء أهل الرأي من ضوابط وقواعد عقلية ورد فروع الفقه إليها. وسواء أخالفت السنن أم وافقتها طرداً لتلك القواعد المقررة وإن كان أصلها مما تأولوه على نصوص الكتاب والسنة لكن بتأويلات يخالفهم غيرهم فيها وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام على من أنكروه من فقهاء أهل الرأي بالحجاز والعراق: وبالغوا في ذمه وإنكاره.

فأما الأئمة وفقهاء أهل الحديث فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان إذا كان معمولا به عند الصحابة: ومن بعدهم: أو عند طائفة منهم فأما ما اتفق على تركه فلا يجوز العمل به لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يعمل به قال عمر بن عبد العزيز خذوا من الرأي ما يوافق من كان قبلكم فإنهم كانوا أعلم منكم.

فأما ما خالف عمل أهل المدينة من الحديث فهذا كان مالك يرى الأخذ بعمل أهل المدينة الأكثرون أخذوا بالحديث.

ومما أنكره أئمة السلف الجدال والخصام والمراء في مسائل الحلال والحرام أيضاً ولم يكن ذلك طريقة أئمة الإسلام: وإنما أحدث ذلك بعدهم كما أحدثه فقهاء العراقين في مسائل الخلاف بين الشافعية والحنفية وصنفوا كتب الخلاف ووسعوا البحث والجدال فيها وكل ذلك محدث ل أصل له وصار ذلك علمهم حتى شغلهم ذلك عن العلم النافع.

وقد أنكر ذلك السلف وورد في الحديث المرفوع في السنن ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل ثم قرأ {ما ضَرَبوهُ لَكَ إِلّا جَدَلاً بَل هُم قَومٌ خَصِمون } وقال بعض السلف إذا أراد الله بعبد شراً أغلق عنه باب العمل وفتح له باب الجدل.

وقال مالك أدركت أهل هذه البلدة وإنهم ليكرهون هذا الإكثار الذي فيه الناس اليوم: يريد المسائل وكان يعيب كثرة الكلام والفتيا ويقول يتكلم أحدهم كأنه جمل مغتلم يقول هو كذا هو كذا بهدر في كلامه وكان يكره الجواب في كثرة المسائل ويقول قال اللَهُ عز وجل {وَيَسأَلونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِن أَمرِ رَبّي} فلم يأته في ذلك جواب. وقيل له الرجل يكون عالماً بالسنن يجادل عنها قال لا ولكن يخبر بالسنة فان قبل منه وإلا سكت: وقال المراء والجدال في العلم يذهب بنور العلم وقال المراء في العلم يُقسي القلب ويورث الضعن: وكان يقول في المسائل التي يسئل عنها كثيراً لا أدري: وكان الإمام أحمد يسلك سبيله في ذلك.

وقد ورد النهي عن كثرة المسائل وعن أغلوطات المسائل وعن المسائل قبل وقوع الحوادث وفي ذلك ما يطول ذكره: ومع هذا ففي كلام السلف والأئمة كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق التنبيه على مأخذ الفقه ومدارك الأحكام بكلام وجيز مختصر يفهم به المقصود من غير إطالة ولا إسهاب: وفي كلامهم من رد الأقوال المخالفة للسنة بألطف إشارة وأحسن عبارة بحيث يغني ذلك من فهمه عن إطالة المتكلمين في ذلك بعدهم بل ربما لم يتضمن تطويل كلام من بعدهم من الصواب في ذلك ما تضمنه كلام السلف والأئمة مع اختصاره وإيجازه فما سكت من سكت من كثرة الخصام والجدال من سلف الأمة جهلا ولا عجزاً ولكن سكتوا عن علم وخشية للَّه. وما تكلم من تكلم وتوسع من توسع بعدهم لاختصاصه بعلم دونهم ولكن حباً للكلام وقلة ورع كما قال الحسن وسمع قوما يتجادلون هؤلاء قوم ملوا العبادة وخف عليهم القول وقل ورعهم فتكلموا.

وقال مهدي بن ميمون سمعت محمد بن سيرين وما رآه رجل ففطن له فقال إني أعلم ما يريد إني لو أردت أن أماريك كنت عالماً بأبواب المراء: وفي رواية قال أنا أعلم بالمراء منك ولكني لا أماريك وقال إبراهيم النخعي ما خاصمت قط وقال عبد الكريم الحوري ما خاصم ورع قط وقال جعفر بن محمد إياكم والخصومات في الدين فإنها تشغل القلب. وتورث النفاق.

وكان عمر بن عبد العزيز يقول إذا سمعت المراء فاقصر وقال من جعل دينه عرضاً للخصومات أكثر الثقل وقال أن السابقين عن علم وقفوا وببصرنا قد كفوا وكانوا هم أقوى على البحث لو بحثوا وكلام السلف في هذا المعنى كثير جداً.

وقد فتن كثير من المتأخرين بهذا فظنوا أن من كثر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم ممن ليس كذلك. وهذا جهل محض. وانظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهم كأبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وابن مسعود وزيد بن ثابت كيف كانوا. كلامهم أقل من كلام ابن عباس وهم أعلم منه وكذلك كلام التابعين أكثر من كلام الصحابة والصحابة أعلم منهم وكذلك تابعوا التابعين كلامهم أكثر من كلام التابعين والتابعون أعلم منهم. فليس العلم بكثرة الرواية ولا بكثرة المقال ولكنه نور يقذف في القلب يفهم به العبد الحق ويميز به بينه وبين الباطل ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد.

وقد كان النبي صلي الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصاراً ولهذا ورد النهي عن كثرة الكلام والتوسع في القيل والقال وقد قال النبي أن اللَه لم يبعث نبيا إلا مبلغاً وأن تشقيق الكلام من الشيطان يعني أن النبي إنما يتكلم بما يحصل به البلاغ. وأما كثرة القول وتشقيق الكلام فإنه مذموم. وكانت خطب النبي قصداً. وكان يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه وقال أن من البيان سحراً وإنما قاله في ذم ذلك لا مدحاً له كما ظن ذلك من ظنه ومن تأمل سياق ألفاظ الحديث قطع بذلك وفي الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً أن اللَه ليبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها وفي المعنى أحاديث كثيرة مرفوعة وموقوفة على عمر وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم من الصحابة فيجب أن يعتقد أنه ليس كل من كثر بسطة للقول وكلامه في العلم كان أعلم ممن ليس كذلك.

وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين انه أعلم ممن تقدم. فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله. ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين. وهذا يلزم منه ما قبله لأن هؤلاء الفقهاء المشهورين المتبوعين أكثر قولا ممن كان قبلهم فإذا كان من بعدهم أعلم منهم لاتساع قوله كان أعلم ممن كان أقل منهم قولا بطريق الأولى. كالثوري والأوزاعي والليث. وابن المبارك. وطبقتهم. وممن قبلهم من التابعين والصحابة أيضاً.

فإن هؤلاء كلهم أقل كلاماً ممن جاء بعدهم وهذا تنقص عظيم بالسلف الصالح وإساءة ظن بهم ونسبته لهم إلى الجهل وقصور العلم ولا حول ولا قوة إلا باللَه ولقد صدق ابن مسعود في قوله في الصحابة أنهم أبر الأمة قلوباً. وأعمقها علوماً. وأقلها تكلفاً. وروي نحوه عن ابن عمر أيضاً. وفي هذا إشارة إلى أن من بعدهم أقل علوماً وأكثر تكلفاً.

وقال ابن مسعوداً أيضاً إنكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه كثير خطباؤه فمن كثر علمه وقل قوله فهو الممدوح ومن كان بالعكس فهو مذموم. وقد شهد النبي لأهل اليمن بالإيمان والفقه. وأهل اليمن أقل الناس كلاماً وتوسعاً في العلوم لكن علمهم علم نافع في قلوبهم ويعبرون بألسنتهم عن القدر المحتاج إليه من ذلك. وهذا هو الفقه والعلم النافع فأفضل العلوم في تفسير القرآن ومعاني الحديث والكلام في الحلال والحرام ما كان مأثوراً عن الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى أن ينتهي إلى أئمة الإسلام المشهورين المقتدى بهم الذين سميناهم فيما سبق.

فضبط ما روي عنه في ذلك أفضل العلوم مع تفهمه وتعقله والتفقه فيه وما حدث بعدهم من التوسع لا خير في كثير منه إلا أن يكون شرحاً لكلام يتعلق من كلامهم وأما ما كان مخالفاً لكلامهم فأكثره باطل أو لا منفعة فيه. وفي كلامهم في ذلك كفاية وزيادة فلا يوجد في كلام من بعدهم من حق إلا وهو في كلامهم موجود بأوجز لفظ وأخصر عبارة ولا يوجد في كلام من بعدهم من باطل إلا وفي كلامهم ما يبين بطلانه لمن فهمه وتأمله ويوجد في كلامهم من المعاني البديعة والمآخذ الدقيقة مالا يهتدى إليه من بعدهم ولا يلم يه.

فمن لم يأخذ العلم من كلامهم فاته ذلك الخير كله مع ما يقع في كثير من الباطل متابعة لمن تأخر عنهم. ويحتاج من أراد جمع كلامهم إلى معرفة صحيحة من سقيمه وذلك بمعرفة الجرح والتعديل والعلل فمن لم يعرف ذلك فهو غير واثق بما ينقله من ذلك ويلتبس عليه حقه بباطله. ولا يثق بما عنده من ذلك كما يرى من قل علمه بذلك لا يثق بما يروى عن النبي ولا عن السلف لجهله بصحيحه من سقيمه فهو لجهله يجوز أن يكون كله باطلا لعدم معرفته بما يعرف به صحيح ذلك وسقيمه.

قال الأوزاعي العلم ما جاء به أصحاب محمد فما كان غير ذلك فليس بعلم: وكذا قال الإمام أحمد وقال في التابعين أنت مخير يعنى مخيرا في كتابته وتركه: وقد كان الزُهري يكتب ذلك وخالفه صالح بن كيسان ثم ندم على تركه كلام التابعين.

وفي زماننا يتعين كتابة كلام أئمة السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد: وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة وحدث من انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم وهو أشد مخالفة لها لشذوذه عن الأئمة وانفراده عنهم بفهم يفهمه أو يأخذ مالم يأخذ به الأئمة من قبله.

فأما الدخول مع ذلك في كلام المتكلمين أو الفلاسفة فشر محض وقل من دخل في شيء من ذلك إلا وتلطخ ببعض أوضارهم كما قال أحمد لا يخلو من نظر في الكلام من أن يتجهم: وكان هو وغيره من أئمة السلف يحذرون من أهل الكلام وأن ذبوا عن السنة. وأما ما يوجد في كلام من أحب الكلام المحدث واتبع أهله من ذم من لا يتوسع في الخصومات والجدال ونسبته إلى الجهل أو إلى الحشو أو إلى أنه غير عارف باللَه أو غير عارف بدينه فكل ذلك من خطوات الشيطان نعوذ باللَه منه. ومما أحدث من العلوم الكلام في العلوم الباطنة من المعارف وأعمال القلوب وتوابع ذلك بمجرد الرأي والذوق أو الكشف وفيه خطر عظيم: وقد أنكره أعيان الأئمة كالإمام أحمد وغيره: وكان أبو سليمان يقول أنه لتَمُرُّ بي النكتةُ من نُكَتِ القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة.

وقال الجنيد علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة من لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في علمنا هذا: وقد اتسع الخرق في هذا الباب ودخل فيه قوم إلى أنواع الزندقة والنفاق ودعوى أن أولياء اللَه أفضل من الأنبياء. أو أنهم مستغنون عنهم وإلى التنقص بما جاءت به الرسل من الشرائع: وإلى دعوى الحلول والاتحاد أو القول بوحدة الوجود. وغير ذلك من أصول الكفر والفسوق والعصيان كدعوى الإباحة. وحل محظورات الشرائع. وأدخلوا في هذا الطريق أشياء كثيرة ليست من الدين في شيء. فبعضها زعموا أنه يحصل به ترقيق القلوب كالغناء والرقص. وبعضها زعموا أنه يراد لرياضة النفوس لعشق الصور المحرمة ونظرها. وبعضها زعموا أنه لكسر النفوس والتواضع كشهرة اللباس وغير ذلك مما لم تأت به الشريعة. وبعضه يصد عن ذكر اللَه وعن الصلاة كالغناء والنظر إلى المحرم. وشابهوا بذلك الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً.

فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث. وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام. والزهد. والرقائق. والمعارف. وغير ذلك والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أولا. ثم الاجتهاد على الوقوف في معانيه وتفهمه ثانياً. وفي ذلك كفاية لمن عقل. وشغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل.

ومن وقف على هذا وأخلص القصد فيه لوجه الله عز وجل واستعان عليه أعانه وهداه ووفقه وسدده وفهمه وألهمه. وحينئذ يثمر له هذا العلم ثمرته الخاصة به وهي خشية اللَه كما قال عز وجل {إِنَّما يَخشى اللَهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ} قال ابن مسعود وغيره كفى بخشية اللَه علما وكفى بالاغترار باللَه جهلا وقال بعض السلف ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم الخشية. وقال بعضهم من خشي اللَهَ فهو عالم ومن عصاه فهو جاهل وكلامهم في هذا المعنى كثير جداً.

وسبب ذلك أن هذا العلم النافع يدل على أمرين أحدهما على معرفة اللَه وما يستحقه من الأسماء الحسنى والصفات العلى والأفعال الباهرة. وذلك يستلزم إجلاله وإعظامه وخشيته ومهابته ومحبته ورجاءه والتوكل عليه والرضى بقضائه والصبر على بلائه والأمر الثاني المعرفة بما يحبه ويرضاه وما يكرهه ويسخطه من الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال فيوجب ذلك لمن علمه المسارعة إلى ما فيه محبة اللَه ورضاه والتباعد عما يكرهه ويسخطه: فإذا أثمر العلم لصاحبه هذا فهو علم نافع فمتى كان العلم نافعاً ووقر في القلب فقد خشع القلب للَّه وانكسر له. وذل هيبة وإجلالا وخشية ومحبة وتعظيما. ومتى خشع القبل للَّه وذل وانكسر له قنعت النفس بيسير الحلال من الدنيا وشبعت به فأوجب لها ذلك القناعة والزهد في الدنيا. وكل ما هو فان لا يبقى من المال والجاه وفضول العيش الذي ينقص به حظ صاحبه عند اللَه من نعيم الآخرة وإن كان كريماً على اللَه كما قال ذلك ابن عمر وغيره من السلف وروي مرفوعا. وأوجب ذلك أن يكون بين العبد وبين ربه عز وجل معرفة خاصة. فإن سأله أعطاه وإن دعاه أجابه كما قال في الحديث الإلهي ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه إلى قوله فلئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه

وفي رواية ولئن دعاني لأجيبنه وفي وصيته لابن عباس احفظ اللَه يحفظك احفظ اللَه تجده أمامك تعرف إلى اللَه في الرخاء يعرفك في الشدة .

فالشأن في أن العبد يكون بينه وبين ربه معرفة خاصة بقلبه بحيث يجده قريباً منه يستأنس به في خلوته ويجد حلاوة ذكره ودعائه ومناجاته وخدمته. ولا يجد ذلك إلا من أطاعه في سره وعلانيته. كما قيل لوهيب بن الورد يجد حلاوة الطاعة من عصى قال لا ولا من هم. ومتى وجد العبد هذا فقد عرف ربه وصار بينه وبينه معرفة خاصة. فإذا سأله أعطاه. وإذا دعاه أجابه كما قالت شغوانة لفضيل والعبد لا يزال يقع في شدائد وكرب في الدنيا. وفي البرزخ. وفي الموقف فإذا كان بينه وبين ربه معرفة خاصة كفاه اللَه ذلك كله وهذا هو المشار إليه في وصية ابن عباس بقوله تعرف إلى اللَه في الرخاء يعرفك في الشدة وقيل لمعروف ما الذي هيجك إلى الانقطاع وذكر له الموت والقبر والموقف والجنة والنار. فقال إن ملكا هذا كله بيده كانت بينك وبينه معرفة كفاك هذا كله. فالعلم النافع ما عرف بين العبد وربه ودل عليه حتى عرف ربه ووحده وأنس به واستحى من قربه. وعبده كأنه يراه.

ولهذا قالت طائفة من الصحابة إن أول علم يرفع من الناس الخشوع وقال ابن مسعود إن أقواماً يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع وقال الحسن العلم علمان فعلم على اللسان فذلك حجة اللَه على ابن آدم. وعلم في القلب فذلك العلم النافع وكان السلف يقولون أن العلماء ثلاثة. عالم باللَه عالم بأمر اللَه. وعالم باللَه ليس بعالم بأمره. وعالم بأمر اللَه ليس بعالم باللَه وأكملهم الأول وهو الذي يخشى الله ويعرف أحكامه.

فالشأن كله في أن العبد يستدل بالعلم على ربه فيعرفه فإذا عرف ربه فقد وجده منه قريباً ومتى وجده منه قريباً قربه إليه وأجاب دعاءه كما في الأثر الإسرائيلي }ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء{ وكان ذو النون يردد هذه الأبيات بالليل.

اُطلُبوا لِأَنفُسِكُم ... مِثلَ ما وَجَدتُ أَنا

قَد وَجَدتُ لِي سَكَناً ... لَيسَ في هَواهُ عَنا

إِن بَعُدتُ قَرَّبَني ... أَو قَرُبتُ مِنهُ دَنا

وكان الإمام أحمد رحمه اللَه يقول عن معروف معه أصل العلم خشية اللَه: فأصل العلم باللَه الذي يوجب خشيته ومحبته والقرب منه والأنس به والشوق إليه. ثم يتلوه العلم بأحكام اللَه وما يحبه ويرضاه من العبد من قول أو عمل أو حال أو اعتقاد: فمن تحقق بهذين العلمين كان علمه علماً نافعاً وحصل له العلم النافع والقلب الخاشع والنفس القانعة والدعاء المسموع.

ومن فاته هذا العلم النافع وقع في الأربع التي استعاذ منها النبي صلي الله عليه وسلم وصار علمه وبالا وحجة عليه فلم ينتفع به لأنه لم يخشع قلبه لربه. ولم تشبع نفسه من الدنيا بل ازداد عليها حرصاً ولها طلباً. ولم يسمع دعاؤه لعدم امتثاله لأوامر ربه. وعدم اجتنابه لما يسخطه ويكرهه.

هذا إن كان علمه علماً يمكن الانتفاع به وهو المتلقى عن الكتاب والسنة. فإن كان متلقى من غير ذلك فهو غير نافع في نفسه ولا يمكن الانتفاع به بل ضره أكثر من نفعه. وعلامة هذا العلم الذي لا ينفع أن يكسب صاحبه الزهو والفخر والخيلاء وطلب العلو والرفعة في الدنيا. والمنافسة فيها. وطلب مباهاة العلماء ومماراة السفهاء وصرف وجوه الناس إليه وقد ورد عن النبي }إن من طلب العلم لذلك فالنار النار وربما ادعى بعض أصحاب هذه العلوم معرفة الله وطلبه والأعراض عما سواه وليس غرضهم بذلك إلا طلب التقدم في قلوب الناس من الملوك وغرهم وإحسان ظنهم بهم وكثرة اتباعهم. والتعظم بذلك على الناس.

وعلامة ذلك إظهار دعوى الولاية كما كان يدعيه أهل الكتاب. وكما ادعاه القرامطة والباطنية ونحوهم. وهذا بخلاف ما كان عليه السلف من احتقار نفوسهم وازدرائها باطناً وظاهراً وقال عمرو من قال إنه عالم فهو جاهل ومن قال إنه مؤمن فهو كافر ومن قال هو في الجنة فهو في النار.

ومن علامات ذلك عدم قبول الحق والانقياد إليه والتكبر على من يقول الحق خصوصاً إن كان دونهم في أعين الناس. والإصرار على الباطل خشية تفرق قلوب الناس عنهم بإظهار الرجوع إلى الحق وربما أظهروا بألسنتهم ذم أنفسهم واحتقارها على رؤوس الأشهاد ليعتقد الناس فيهم أنهم عند أنفسهم متواضعون فيمدحون بذلك وهو من دقائق أبواب الرياء كما نبه عليه التابعون فمن بعدهم من العلماء ويظهر منهم من قبول المدح واستجلابه مما ينافي الصدق والإخلاص فإن الصادق يخاف النفاق على نفسه ويخشى على نفسه من سوء الخاتمة فهو في شغل شاغل عن قبول المدح واستحسانه.

فلهذا كان من علامات أهل العلم النافع أنهم لا يرون لأنفسهم حالا ولا مقاما ويكرهون بقلوبهم التزكية والمدح ولا يتكبرون على أحد قال الحسن إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بدينه المواظب على عبادة ربه وفي رواية عنه قال الذي لا يحسد من فوقه ولا يسخر ممن دونه ولا يأخذ على علم علَّمَه اللَه أجراً وهذا الكلام الأخير قد روي معناه عن ابن عمر من قوله وأهل العلم النافع كلما ازدادوا في هذا العلم ازدادوا تواضعاً للَّه وخشية وانكساراً وذلا.

قال بعض السلف ينبغي للعالم أن يضع التراب على رأسه تواضعاً لربه فانه كلما ازداد علماً بربه ومعرفة به ازداد منه خشية ومحبة وازداد له ذلا وانكساراً ومن علامات العلم النافع أنه يدل صاحبه على الهرب من الدنيا وأعظمها الرئاسة والشهرة والمدح فالتباعد عن ذلك والاجتهاد في مجانبته من علامات العلم النافع. فإذا وقع شيء من ذلك من غير قصد واختيار كان صاحبه في خوف شديد من عاقبته بحيث أنه يخشى أن يكون مكراً واستدراجاً كما كان الإمام أحمد يخاف ذلك على نفسه عند اشتهار اسمه وبعد صيته.

ومن علامات العلم النافع أن صاحبه لا يدعى العلم ولا يفخر به على أحد ولا ينسب غيره إلى الجهل إلا من خالف السنة وأهلها فإنه يتكلم فيه غضباً للَّه لا غضباً لنفسه ولا قصداً لرفعتها على أحد.

وأما من علمه غير نافع فليس له شغل سوى التكبر بعلمه على الناس وإظهار فضل علمه عليهم ونسبتهم إلى الجهل وتَنَقُّصهم ليرتفع بذلك عليهم وهذا من أقبح الخصال وأرداها.

وربما نسب من كان قبله من العلماء إلى الجهل والغفلة والسهو فيوجب له حب نفسه وحب ظهورها إحسان ظنه بها وإساءة ظنه بمن سلف وأهل العلم النافع على ضد هذا يسيؤون الظن بأنفسهم ويحسنون الظن بمن سلف من العلماء ويقرون بقلوبهم وأنفسهم بفضل من سلف عليهم وبعجزهم عن بلوغ مراتبهم والوصول إليها أو مقاربتها وما أحسن قول أبي حنيفة وقد سئل عن علقمة والأسود أيهما أفضل. فقال واللَه ما نحن بأهل أن نذكرهم فكيف نفضل بينهم وكان ابن المبارك إذا ذكر أخلاق من سلف ينشد.

لا تُعرِض بِذِكرِنا مَع ذِكرِهِم ... لَيسَ الصَحيحُ إِذا مَشى كَالمُقعَدِ

ومن علمه غير نافع إذا رأى لنفسه فضلا على من تقدمه في المقال وتشقق الكلام ظن لنفسه عليهم فضلا في العلوم أو الدرجة عند اللَه لفضل خص به عمن سبق فاحتقر من تقدمه واجترأ عليه بقلة العلم ولا يعلم المسكين أن قلة كلام من سلف إنما كان ورعا وخشية للَّه ولو أراد الكلام وإطالته لما عجز عن ذلك. كما قال ابن عباس لقوم سمعهم يتمارون في الدين أما علمتم إن للَّه عباداً أسكتهم خشية اللَّه من غير عي ولا بكم. وأنهم لهم العلماء والفصحاء والطلقاء والنبلاء العلماء بأيام اللَه غير أنهم إذا تذكروا عظمة اللَه طاشت عقولهم وانكسرت قلوبهم وانقطعت ألسنتهم حتى إذا استفاقوا من ذلك يسارعون إلى اللَه بالأعمال الزاكية يعدون أنفسهم من المفرطين وأنهم لأكياس أقوياء ومع الظالمين والخاطئين وأنهم لأبرار برآء إلا أنهم لا يستكثرون له الكثير ولا يرضون له بالقليل ولا يدلون عليه بالأعمال هم حيث ما لقيتهم مهتمون مشفقون وجلون خائفون خرجه أبو نعيم وغيره وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي إمامة عن النبي قال الحياء والعيُّ شعبتان من الإيمان والبذاء والبيان شعبتان من النفاق وحسنه الترمذي.

وخرجه الحاكم وصححه وخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي البيان من الله والعي من الشيطان وليس البيان بكثرة الكلام ولكن البيان الفصل في الحق وليس العي قلة الكلام ولكن من سفه الحق . وفي مراسيل محمد بن كعب القرظي عن النبي قال ثلاث ينقص بهن العبد في الدنيا ويزداد بهن في الآخرة ما هو أعظم من ذلك. الرحم والحياء وعي اللسان قال عون بن عبد اللَه ثلاث من الإيمان الحياء والعفاف والعي عي اللسان لا عي القلب ولا عي العمل وهن مما يزددن في الآخرة وينقصن في الدنيا وما يزددن في الآخرة أكبر مما ينقصن من الدنيا وروي هذا مرفوعا من وجه ضعيف.

وقال بعض السلف إن كان الرجل ليجلس إلى القوم فيرون أن به عيا وما به من عي إنه لفقيه مسلم: فمن عرف قدر السلف عرف أن سكوتهم عما سكتوا عنه من ضروب الكلام وكثرة الجدال والخصام والزيادة في البيان على مقدار الحاجة لم يكن عياً ولا جهلا ولا قصوراً وإنما كان ورعا وخشية للَّه واشتغالا عما لا ينفع بما ينفع. وسواء في ذلك كلامهم في أصول الدين وفروعه. وفي تفسير القرآن والحديث. وفي الزهد والرقائق. والحكم والمواعظ. وغير ذلك مما تكلموا فيه فمن سلك سبيلهم فقد اهتدى ومن سلك غير سبيلهم ودخل في كثرة السؤال والبحث والجدال والقيل والقال. فإن اعترف لهم بالفضل. وعلى نفسه بالنقص كان حاله قريباً وقد قال إياس بن معاوية ما من أحد لا يعرف عيب نفسه إلا وهو أحمق قيل له فما عيبك قال كثرة الكلام وإن ادعى لنفسه الفضل ولمن سبقه النقص والجهل فقد ضل ضلالا مبيناً وخسر خسراناً عظيما.

وفي الجملة ففي هذه الأزمان الفاسدة إما أن يرضى الإنسان لنفسه أن يكون عالماً عند اللَه ولا يرضى إلا بأن يكون عند أهل الزمان عالماً. فإن رضي بالأول فليكتف بعلم اللَه فيه. ومن كان بينه وبين اللَه معرفة اكتفى بمعرفة اللَه إياه: ومن لم يرض إلا بأن يكون عالماً عند الناس دخل في قوله }من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده من النار .

قال وهيب بن الورد رب عالم يقول له الناس عالم وهو معدود عند اللَه من الجاهلين وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي إن أول من تسعر به النار ثلاثة أحدهم من قرأ القرآن وتعلم العلم ليقال هو قارىء وهو عالم ويقال له قد قيل ذلك ثم أمر به فيسحب على وجهه حتى ألقي في النار فإن لم تقنع نفسه بذلك حتى تصل إلى درجة الحكم بين الناس حيث كان أهل الزمان لا يعظمون من لم يكن كذلك ولا يلتفتون إليه فقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير وانتقل من درجة العلماء إلى درجة الظلمة.

ولهذا قال بعض السلف لما أريد على القضاء فأباه إنما تعلمت العلم لأحشر به مع الأنبياء لا مع الملوك فإن العلماء يحشرون مع الأنبياء والقضاة يحشرون مع الملوك ولا بد للمؤمن من صبر قليل حتى يصل به إلى راحة طويلة فإن جزع ولم يصبر فهو كما قال ابن المبارك من صبر فما أقل ما يصبر ومن جزع فما أقل ما يتمتع: وكان الإمام الشافعي رحمه اللَه ينشد:

يا نَفسُ ما هِيَ إِلّا صَبرُ أَيّامِ ... كَأَنَّ مُدَّتَها أَضغاثُ أَحلامِ

يا نَفسُ جوزي عَنِ الدُنيا مُبادِرَةً ... وَخَلِّ عَنها فَإِنَّ العَيشَ قُدامي

فنسأل اللَه تعالى علماً نافعاً ونعوذ به من علم لا ينفع. ومن قلب لا يخشع. ومن نفس لا تشبع: ومن دعاء لا يسمع: اللهم إنّا نعوذ بك من هؤلاء الأربع الحمد لله رب العالمين و على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

}فصل{ ليتدبر ما ذم اللَه به أهل الكتاب من قسوة القلوب بعد إيتائهم الكتاب ومشاهدتهم الآيات كإحياء القتيل المضروب ببعض البقرة. ثم نهينا عن التشبه بهم في ذلك. فقيل لنا {أَلَم يَأنِ لِلَّذينَ آمَنوا أَن تَخشَعَ قلوبُهُم لِذِكرِ اللَهِ وَما نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكونوا كَالَّذينَ أوتوا الكِتابَ مِن قَبلُ فَطالَ عَلَيهِمُ الأَمدُ فَقَسَت قلوبُهُم وَكَثيرٌ مِنهمُ فاسِقون} وبين في موضع أخر سبب قسوة قلوبهم. فقال سبحانه {فَبِما نَقضِهِم ميثاقَهُم وَجَعَلنا قُلوبَهُم قاسِيَة} فأخبر أن قسوة قلوبهم كان عقوبة لهم على نقضهم ميثاق اللَه وهو مخالفتهم لأمره وارتكابهم لنهيه بعد أن أخذ عليهم مواثيق اللَه وعهوده أن لا يفعلوا ذلك ثم قال تعالى {يُحَرِّفونَ الكَلِمَ عَنِ مَواضِعِه وَنَسوا حَظّاً مِمّا ذُكِّروا بِهِ}.

فذكر أن قسوة قلوبهم أوجبت لهم خصلتين مذمومتين إحداهما تحريف الكلم من بعد مواضعه والثانية نسيانهم حظاً مما ذكروا به. والمراد تركهم وإهمالهم نصيباً مما ذكروا به من الحكمة. والموعظة الحسنة. فنسوا ذلك وتركوا العمل به وأهملوه.

وهذان الأمران موجودان في الذين فسدوا من علمائنا لمشابهتهم لأهل الكتاب: أحدهما تحريف فإن من تفقه لغير العمل يقسو قلبه فلا يشتغل بالعمل بل بتحريف الكلم وصرف ألفاظ الكتاب والسنة عن مواضعها. والتلطف في ذلك بأنواع الحيل اللطيفة من حملها على مجازات اللغة المستبعدة ونحو ذلك. والطعن في ألفاظ السنن حيث لم يمكنهم الطعن في ألفاظ الكتاب. ويذمون من تمسك بالنصوص وأجراها على ما يفهم منها ويسمونه جاهلا أو حسوداً.

وهذا يوجد في المتكلمين في أصول الديانات وفي فقهاء الرأي. وفي صوفية الفلاسفة والمتكلمين والثاني نسيان حظ مما ذكروا به من العلم النافع فلا تتعظ قلوبهم بل يذمون من تعلم ما يبكيه وبرق به قلبه ويسمونه قاصاً.

ونقل أهل الرأي في كتبهم عن بعض شيوخهم أن ثمرات العلوم تدل على شرفها فمن اشتغل بالتفسير فغايته أن يقص على الناس ويذكرهم ومن اشتغل برأيهم وعلمهم فإنه يفتي ويقضي ويحكم ويدرس وهؤلاء لهم نصيب من الذين {يَعلَمونَ ظاهِراً مِنَ الحَياةِ الدُنيا وَهُم عَنِ الآخِرَةِ غافِلونَ} والحامل لهم على هذا شدة محبتهم للدنيا وعلوها ولو أنهم زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة ونصحوا أنفسهم وعباد اللَه لتمسكوا بما أنزل اللَه على رسوله. وألزموا الناس بذلك. فكان الناس حينئذ أكثرهم لا يخرجون عن التقوى فكان يكفيهم ما في نصوص الكتاب والسنة ومن خرج منهم عنهما كان قليلا. فكان الله يقيض من يفهم من معاني النصوص ما يرد بها لخارج عنها إلى الرجوع إليها ويستغني بذلك عما ولدوه من الفروع الباطنة. والحيل المحرمة التي بسببها فتحت أبواب الرياء وغيره من المحرمات واستحلت محارم اللَه بأدنى الحيل كما فعل أهل الكتاب {وَهَدى اللَهُ الَّذينَ آمَنوا لِما اِختَلَفوا فيهِ مِن الحَقِّ بِإِذنِهِ وَاللَهُ يَهدي مِن يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُستَقيم} وصلى اللَه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين وحسبنا اللَه ونعم الوكيل.