قاعدة في الأموال السلطانية

​قاعدة في الأموال السلطانية​ المؤلف ابن تيمية


فصل: الأموال السلطانية والأموال العقدية من وقف ونذور ووصية ونحو ذلك، الأصل في ذلك مبني على شيئين:

أحدهما: أن يعمل المسلم بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المؤمنين نصا واستنباطا ويعلم الواقع من ذلك في الولاة والرعية؛ ليعلم الحق من الباطل؛ ويعلم مراتب الحق ومراتب الباطل ليستعمل الحق بحسب الإمكان ويدع الباطل بحسب الإمكان، ويرجح عند التعارض أحق الحقين ويدع أبطل الباطلين.

فنقول: إن الأموال المشتركة السلطانية الشرعية ثلاثة: الفيء والمغانم والصدقة، وإذا صنف العلماء كتب الأموال ككتاب " الأموال " لأبي عبيد، ولحميد بن زنجويه، و " الأموال " للخلال من جوابات أحمد، وغير ذلك فهذه هي الأموال التي يتكلمون فيها، وكذلك من العلماء من يجمع الكلام فيها في الكتب المصنفة في ربع الأموال، كما في " المختصر " للمزني و " مختصر " الخرقيوغيرهما، كتاب قسم الفيء والغنانم والصدقة، يذكرونه قبل قسم الوصايا والفرائض، بعد قسم الوقوف ومنهم من يذكر قسم الصدقة في كتاب الزكاة، وقسم المغانم والفيء والجهاد، وكما هي طريقة كثير من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم، ومنهم من يذكر الخراج والفيء في كتاب الإمارة كما فعل أبو داود في السنن في كتاب الخراج والإمارة.

وهذه الأموال الثلاثة ثابتة مستخرجها ومصروفها بكتاب الله وسنة رسوله، وأكثرها مجتمع عليه وفيها مواضع متنازع فيها بين العلماء، فإن الله فرض الزكاة في الأموال وذكر أهلها في كتابه بقوله: { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } والنبي قد بين من ذلك ما أجمله الكتاب بما سنه من نصب الزكاة وفرائضها وفسر من مواضعها، وعمل به خلفاؤه من بعده، وكذلك المغانم قد أحلها الله بكتابه وسنة رسوله وقسمها رسول الله وخلفاؤه الراشدون، وهي المال المأخوذ من الكفار بالقتال، وما أخذ من المرتدين والخارجين عن شريعة الإسلام فتفصيله ليس هذا موضع ذكره، ويسمى أيضا فيئا وأنفالا.

وكذلك الفيء الخاص: وهو ما أخذ من الكفار بغير قتال، ذكره الله في سورة الحشر، وجرى قسمه في سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين على الوجه الذي جرى عليه، ويلتحق به الأموال المشتركة التي لم تؤخذ من الكفار كالمواريث التي لا وارث لها، والأموال الضائعة التي لا يعلم لها مستحق معين، ونحو ذلك من الأموال المشتركة.

ثم خلفاء الرسول أهل العدل من العلماء والأمراء الجامعين بين العلم والإمارة مع العدل ـ كالخلفاء الراشدين ـ قد يجتهدون في كثير من هذه الأموال قبضا وصرفا، كما يجتهدون في الأحكام والولايات والأعمال والعقوبات، واجتهادهم سائغ، والأموال المأخوذة بمثل هذا الاجتهاد سائغة، وإن اعتقد الرجل تحريم بعض ذلك فليس له أن ينكر على الإمام المجتهد في ذلك، ولا على من أخذ باجتهاده، كما لا ينكر على ما أعطاه الحاكم بحكمه في الفرائض والوقوف ونحو ذلك، ولكن هل يباح له بالحكم ما اعتقد تحريمه قبل الحكم؟ على روايتين.

وكذلك يخرج في القسم، فإن قسم الإمام المال يجب عليه قسمه هو كحكمه، وأما قسمته لغير ذلك فهي بمنزلة فعل الحاكم، كتزويج الأيامى وبيع أموال اليتامى، وهل فعل الحاكم حكم فلا يسوغ نقضه ؟ أم هو كفعل غيره فيجوز نقضه حتى ينفذه أو غيره من الحكام؟ فيها وجهان.

ثم إذا قلنا: هو حرام عليه، فليس حراما على غيره، ويحل له ـ إذا أخذه غيره بتأويل ـ أن يأخذه منه بابتياع واتهاب ونحو ذلك من العقود، هذا هو الصواب؛ فإن ما قبضه المسلم بالتأويل أولى بالإباحة مما يقبضه الكفار من أهل الحرب والذمة بالتأويل. وإذا كان الكفار فيما يعتقدون حله إذا أسلموا لو تحاكموا إلينا بعد القبض حكمنا بالاستحقاق لمن هو في يده، وحللناه لمن قبضه من المسلمين منه بمعاوضة، وحللناه بعد إسلامه؛ فالمسلم فيما هو متأول في حكمه باجتهاد وتقليد إذا قبضه أولى أن تحل معاملته فيه، وأن يكون مباحا له إذا رجع بعد ذلك عن القول الذي اعتقده أولا، وأن يحكم له به بعد القبض كما لو حكم له به حاكم، وقد ذكرت هذه المسألة في غير هذا الموضع وذكرت فيها روايتين أصحهما ذلك؛ بناءا على أن حكم الإيجاب والتحريم لا يثبت في حق المكلف إلا بعد بلوغ الخطاب، وأنه لا، يجب عليه قضاء ما تركه من الواجبات بتأويل، ولا رد ما قبضه من المحرمات بتأويل، كالكفار بعد الإسلام و أولى فإن المسلم في ذلك أعذر، وتنفير الكفار عن الإسلام كتنفير أهل التأويل عن الرجوع إلى الحق والتوبة من ذلك الخطأ، وهذا في الأنكحة والمعاوضات والمقاسمات، وكذلك ما أتلفه أهل البغي [على أهل العدل من النفوس والأموال، لا يجب عليهم ضمانه في ظاهر المذهب ] الموافق لقول جمهور العلماء وهو قول أبي حنيفة والشافعي في أحد قوليه، كما أ جمع عليه السلف من الصحابة والتابعين قال الزهري: ( وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله متوافرون فأجمعوا: أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر)؛ وذلك لأنهم متأولون وإن كان ما فعلوه حراما في نفس الأمر، وفي أهل الردة أيضا، روايتان أصحهما أنهم لا يضمنون كأهل الحرب، كما أشار به عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أبي بكر رضي الله عنه لما قال لأهل الردة: ( تدوا قتلانا ولا ندي قتلاكم، فقال عمر: لا؛ لأنهم قوم قتلوا في سبيل الله واستشهدوا )، دل على ذلك كتاب الله في عفوه عن الخطأ وسنة رسول الله في قصة أسامة بن زيد وقصة عمار بن ياسر وعدي بن حاتم وأبي ذر، وغير ذلك، فما قبضه المسلم بعقد متأولا فيه ملكه، ولو تحاكم اثنان في عقد اعتقدا صحته بعد القبض فينبغي للحاكم أن يقرهما على ذلك التقابض، ويجوز معاملة المسلم فيما قبضه بهذا الوجه ولهذا أمر أحمد لمن يعامل السلطان في وقته أن يكون بينه وبينه آخر، وكلما بعد كان أجود؛ لأن المباشر لهم قد يستحل من المعاملة باجتهاد أو تقليد ما لا يستحله المستفتي، فإذا قبضه المباشر بتأويله حل للمستفتي حينئذ. ونظير هذا قول عمر في الخمر والخنزير: " [ ولوهم بيعها وخذوا أثمانها ولا تبيعوها أنتم فإن المسلم لا يحل له بيع الخمر والخنزير ] ويحل له قبض ثمن ذلك ممن باعه" بتأويله في دينه، فالمسلم الذي قبض بتأويل أولى، فهذا مأخذ لقول أحمد، وله مأخذ ثان: أن الظالم إذا باع المغصوب فالمشتري قبض عوض ماله، والأموال التي بأيديهم مجهولة الملك، فالعوض فيها كالمعوض، فالمستفتي قبض ممن قبض عوض ماله ولم يقبض ممن قبض نفس مال الغير، ولهذه القاعدة فروع في جواباتي في الفتاوى.

وما قبضه الإمام من الحقوق ـ الزكوات والخراج وغير ذلك ـ بتأويل من اجتهاد أو تقليد، وجبت طاعته فيه كما يجب طاعة الحاكم في الحكم المتنازع فيه، فإذا طلب أخذ القيمة، أو أخذ ما فضل عن الفرائض ونحو ذلك أطيع في ذلك وتبرأ ذمة المسلم بما يدفعه من ذلك.

وهل يجزئه ذلك إذا كان يعتقد أنه لا يجزئه لو فعله؟

الصواب أنه يجزئه كما ذكر أصحابنا في الخلطة أنه لو أخذ القيمة أو الكبير عن الصغير، فإنه يرجع أحد الخليطين على الآخر بذلك، وإطلاقهم يقتضي أنه يجزيء.

ونظير هذا من مسائل العبادات البدنية، الصلاة فإن المأموم يجب عليه متابعة الإمام فيما يسوغ فيه الاجتهاد، وإن كان المأموم لا يراه؛ كما لو قنت الإمام في الفجر، أو زاد في تكبيرة الجنازة إلى سبع؛ لكن لو أخل في الصلاة بركن أو شرط في مذهب المأموم دون مذهبه فهذه فيها الخلاف، وهو يشبه إجزاء إخراج الزكاة من بعض الوجوه، لكن إن كان الإمام لا يطلب منه الزكاة وإنما هو بذلها له فقبضها الإمام باجتهاده فهذا نظير صلاته خلفه، وإن كان الإمام يطلب منه الزكاة بحيث يجب طاعته، فهذا نظير أن يصلي خلفه ما لا يمكنه فعله خلف غيره، كالجمعة والعيدين ونحوهما، ولهذا إذا قلنا لا تصح الصلاة خلف الفاسق؛ فإنه يجب فعل هذه الصلوات خلفه، وفي الإعادة روايتان فالأمر بفعل الصلاة خلفه وبالإعادة يشبه الأمر بإيتاء الزكاة وبالإعادة.

[ومع هذا فمذهب أهل السنة المأثور عن الصحابة أنه يجزئ دفع الزكاة] إلى الإمام الذي يجور في قسمها، فإجراؤها مع أخذها بالاجتهاد، أولى وإن كان رب المال لا يجزئه صرفها في غير المصارف، لكن المأثور عن الصحابة الأمر بدفع الزكاة إليهم وبالصلاة خلفهم.

والمفسدة في الزكاة أشد،فإذا ساغ ذلك فهذا أسوغ.

والسلف لم يأمروا من صلى خلفهم بإعادة ولا من دفع الزكاة إليهم بإعادة، ولهذا قال أحمد في رسالته في " السنة " : ( أن من أعاد الجمعة فهو مبتدع)، لكن المسألتان واحدة، فالمتفق عليه حجة على المختلف فيه، وتخرج في صورة الوفاق ما في صورة النزاع، فإن طائفة من السلف ذهبوا إلى أنه لا يدفع إليهم الزكاة كعبيد بن عمير، وغيره، وكان عمر بن الخطاب وهو أمير المؤمنين رضي الله عنه الذي انتشرت الرعية في زمنه وكثرت الأموال فعدل فيها صادقا بارا راشدا تابعا للحق فوضع الخراج على ما فتحه عنوة كأرض السواد ونحوها، ووضع ديوان العطاء للمقاتلة وللذرية، وكان عثمان بن حنيف، على الخراج،[ وزيد بن ثابت ـ فيما أظن ـ على ديوان العطاء وما زالت هذه التسمية معروفة : " ديوان الخراج " ] وهو المستخرج من الأموال السلطانية، و " ديوان العطاء " كديوان الجيش وديوان النفقات ونحو ذلك.

ولولاة الأمور من الملوك ودولهم في ذلك عادات واصطلاحات، بعضها مشروع وبعضها مجتهد فيه وبعضها محرم، كما للقضاة والعلماء والمشايخ منهم من هو من أهل العلم والعدل كأهل السنة فيتبعون النص تارة والاجتهاد أخرى، ومنهم أهل جهل وظلم كأهل البدع المشهورة من ذوي المقالات والعبادات، وذوي الجهل والجور من القضاة والولاة.

وكانت سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ما في غاية الاستقامة والسداد، بحيث لم يمكن الخوارج أن يطعنوا فيهما، فضلا عن أهل السنة، وأما عثمان وعلي رضي الله عنهما فهما من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين وسيرتهما سرة العمل والعدل والهدى والرشاد والصدق والبر؛ لكن فيها نوع مجتهد فيه، والمجتهد فيه إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر وخطؤه مغفور له، فاجتهد الخلفاء أعظم وأعظم.

وأما عثمان فحصل منه اجتهاد في بعض قسم المال والتخصيص به، وفي بعض العقوبات هو فيها رضي الله عنه مجتهد والعلماء منهم من يرى رأيه ومنهم من لا يراه.

وعلي رضي الله عنه حصل منه اجتهاد في محاربة أهل القبلة، والعلماء منهم من يرى رأيه ومنهم من لا يراه، وبكل حال فإمامتهما ثابتة، ومنزلتهما من الأمة منزلتهما؛ لكن أهل البدع الخوارج الذين خرجوا على عثمان وعلى علي جعلوا آرائهم وأهواءهم حاكمة على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخلفاء الراشدين؛ فاستحلوا بذلك الفتنة وسفك الدماء وغير ذلك من المنكرات.

وأما من بعد الخلفاء الراشدين، فلهم في تفاصيل قبض الأموال وصرفها طرق متنوعة:

(القسم الأول): منها ما هو حق منصوص موافق للكتاب والسنة والخلفاء الراشدين.

(القسم الثاني): ومنها ما هو اجتهاد يسوغ بين العلماء، وقد يسقط الوجوب بأعذار ويباح المحظور بأسباب، وليس هذا موضع تفصيل ذلك.

(القسم الثالث): ومنها ما هو اجتهاد لكن صدوره بسبب العدوان من المجتهد وتقصير منه شاب الرأي فيه الهوى، فاجتمعت فيه حسنة وسيئة وهذا النوع كثير جدا.

(القسم الرابع): ومنه ما هو معصية محضة لا شبهة فيه، بترك واجب أو فعل محرم.

وهذه الأنواع الأربعة موجودة في عامة تصرفاتهم من: الحكم والقسم والعقوبات وغير ذلك، إما أن يوافق سنة الخلفاء، أو لا يوافق.

والذي لا يوافق: إما أن يكون معذورا فيه كعذر العلماء المجتهدين أو لا يكون كذلك،

والذي لا يكون معذورا فيه عذرا شرعيا:

إما أن يكون فيه شبهة واجتهاد مع التقصير والعدوان.

أو لا يكون فيه شبهة ولا تأويل.

ولم أعلم أن في الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية وظفوا على الناس وظائف تؤخذ منهم غير الوظائف التي هي مشروعة في الأصل، وإن كان التغيير قد وقع في أنواعها وصفاتها ومصارفها، نعم كان السواد مخارجه عليه الخراج العمري، فلما كان في دولة المنصور – فيما أظن – نقله إلى المقاسمة ودخل المقاسمة بعدل المخارجة، كما فعل النبي بخيبر، وهذا من الاجتهادات السائغة، وأما استئثار ولاة الأمور بالأموال والمحاباة بها، فهذا قديم؛ بل قال النبي للأنصار: " إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ". وقد أخبر النبي بحال الأمراء من بعده في غير حديث، وكان الخلفاء المطاعين في أمر الحرب والقتال وأمر الخراج والأموال، ولهم عمال ونواب على الحروب، وعمال ونواب على الأموال، ويسمون هذه ولاية الحرب وهذه ولاية الخراج، ووزراؤهم الكبار ينوبون عنهم في الأمرين إلى أثناء الدولة العباسية بعد المئة الثالثة، فإنه ضعف أمر خلافة بني العباس وأمر وزرائهم، بأسباب جرت وضيعت بعض الأموال، وعصى عليهم قوم من النواب بتفريط جرى في الرجال والأموال، فذكر ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة فيما علمته من التاريخ: أنه في سنة أربع وعشرين وثلاثمائة فوض الراضي الخليفة الإمارة ورئاسة الجيش وأعمال الخراج وتدبير شأن المملكة إلى مقدم اسمه محمد بن رائق، وجعله أمير الأمراء وأمر بأن يخطب له على سائر منابر المملكة، ولم يكن قبل ذلك شيء من ذلك.

قال: وبطل قبل ذلك أمر الوزارة ولم يكن الوزير ينظر في شيء من النواحي ولا الدواوين، ولا كان له اسم غير اسم الوزارة فقط، وأن يحضر في أيام المواكب دار السلطان بسواد وسيف ومنطقة، ويقف ساكنا، وصار ابن رائق وكاتبه ينظران فيما كان الوزراء ينظرون فيه، وكذلك كل من تقلد الإمارة بعد ابن رائق، وصارت أموال النواحي تحمل إلى خزائن الأمراء فيأمرون وينفقون منها ويطلقون لنفقات السلطان ما يريدون، وبطلت بيوت الأموال، ثم إنه بعد ذلك حدثت دولة بني بوية، الأعاجم وغلبوا على الخلافة، وازداد الأمر عما كان عليه وبقوا قريبا من مئة عام إلى بعد المئة الرابعة بنحو من ثلاثين سنة أو نحوها، حدثت دولة السلاجقة الأتراك، وغلبوا على الخلافة أيضا وكان أحيانا تقوى دولة بني العباس بحسن تدبير وزرائهم كما جرى في وزارة ابن هبيرة، بما يفعلونه من العدل وإتباع الشريعة، وينهضون به من الجهاد، وكان ملوك النواحي يعطونهم السكة والخطبة وطاعة يسيرة تشبه قبول الشفاعة، فأما الولايات وإمارة الحروب وجباية الأموال وانفاقها، فكانوا خارجين فيه على أمر الخلفاء، وكانت سيرة الملوك تختلف: فمنهم العدل المتبع للشريعة ذي القوة والأمانة المقيم للجهاد والعدل كنور الدين محمود بن زنكي، بالشام والجزية ومصر، ومنهم الملك المسلم المعظم لأمر الله ورسوله كصلاح الدين، ومنهم غير ذلك أقسام يطول شرحها.

وهكذا هم في وضع الوظائف، فمن الملوك والوزراء من يسرف فيها وضعا وجباية، ومنهم من يستن بما فعل قبله ويجري على العادة، فيجري هو والذي قبله على القسم الرابع، ومنهم من يجتهد في ذلك اجتهادا ملكيا يشبه القسم الثالث، ومنهم من يقصد اتباع الشريعة وإسقاط ما يخالفها كما فعل نور الدين لما أسقط الكلف السلطانية المخالفة للشريعة التي كانت توجد بالشام ومصر والجزيرة وكانت أموالا عظيمة جدا وزاد الله البركات وفتح البلاد وقمع العدو بسبب عدله وإحسانه.

ثم هذه الوظائف السلطانية التي ليس لها أصل في سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين ولا ذكرها أهل العلم المصنفون للشريعة في كتب الفقه من الحديث والرأي هي حرام عند المسلمين، حتى ذكر ابن حزم إجماع المسلمين على ذلك فقال، ومع هذا فبعض من وضع بعضها، وضعه بتأويل واجتهاد علمي ديني، واتفق على ذلك الفتوى والرأي من بعض علماء ذلك الوقت، ووزرائه، فإنه لما قامت دولة السلاجقة ونصروا الخلافة العباسية وأعادوا الخليفة القائم إلى بغداد بعد أن كان أمراء مصر من أهل البدع أولئك الروافض قد قهروه وأخرجوه من بغداد، وأظهروا شعار البدع في بلاد الإسلام وهي التي تسمى فتنة البساسيري، في نصف المئة الخامسة حدثت أمور: منها بناء المدارس والخوانق، ووقف الوقوف عليها وهي المدارس النظاميات بالعراق وغيره، والرباطات كرباط شيخ الشيوخ وغير ذلك، ومنها ذهاب الدولة الأموية من المغرب وانتقال الأمر إلى ملوك الطوائف.

وصنف أبو المعالي الجويني، كتابا للنظام سماه غياث الأمم في التياث الظلم وذكر فيه قاعدة في وضع الوظائف عند الحاجة إليها للجهاد، فإن الجهاد بالنفوس والأموال واجب، بل هو من أعظم واجبات الدين، ولا يمكن حصول الجهاد إلا بأموال تقام بها الجيوش، إذ أكثر الناس لو تركوا باختيارهم لما جاهدوا بأنفسهم ولا بأموالهم، وإن ترك جمع الأموال وتحصيلها حتى يحدث فتق عظيم في عدو أو خارجي كان تفريطا وتضييعا، فالرأي أن تجمع الأموال ويرصد للحاجة.

وطريق ذلك أن توظف وظائف راتبة لا يحصل بها ضرر، ويحصل بها المصلحة المطلوبة، من إقامة الجهاد، والوظائف الراتبة لابد أن تكون على الأمور العادية فتارة وظفوها على المعاوضات والأملاك مثل أن يضعوا على البائع والمشتري في الدواب والحبوب والثمار وسائر الأطعمة والثياب مقدارا إما على مقدار المبيع وإما على مقدار الثمن، ويضعوا على الجعالات والإجارات، ويضعوا على العقار من جنس الخراج الشرعي، وكان ما وضعوه تارة يشبه الزكاة المشروعة من كونه يوجد في العام على مقدار، وتارة يشبه الخراج الشرعي، وتارة يشبه ما يؤخد من تجار أهل الذمة والحرب.

ومنهم من يعتدي فيضع على أثمان الخمور ومهور البغايا ونحو ذلك مما أصله محرم بإجماع المسلمين، ومنهم من يضع على أجور المغاني من الرجال والنساء فإن الأثمان والأجور تارة تكون حلالا في نفسها، وإنما المحرم الظلم فيها كغالب الأثمان والأجور، وتارة تكون في نفسها حراما كأثمان الخمور ومهور البغايا، وكان بعد موت الملك العادل، بالشام قد وضعه ابنه، ذلك على دار الخمر والفواحش فبقي غير ممنوع من جهة سلطان لما له عليه من الوظيفة وكان ذلك سنة خمس عشرة وست مئة وفي ذلك الوقت ظهرت دولة المغل جنكسخان، بأرض المشرق واستولى على أرض الإسلام، وظهرت النصارى بمصر في مملكة الأفرون، وظهرت بدع في العلماء والعباد كبحوث ابن الخطيب، وجست، العميدي، وتصوف ابن العربي وخرقة اليونسية وبعض الأحمدية والعدوية، وغير ذلك وحقيقة الأمر في ذلك أن هذا من القسم الثالث أو الرابع فإن هذا إذا صدر باجتهاد، فهو في الأصل مشوب بهوى ومقرون بتقصير أوعدوان، وإن التقصير أو العدوان صادر أيضا من أكثر الرعية، فإن كثيرا منهم أو أكثرهم لو تركوا لما أدوا الواجبات التي عليهم من الزكوات الواجبة والنفقات والواجبة والجهاد الواجب بالأنفس والأموال، كما أنه صادر من كثير من الولاة أو أكثرهم بما يقضونه من الأموال بغير حق ويصرفونه في غير مصرفه، ويتركون أيضا ما يجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فجمع هذه الأموال وصرفها هي من مسائل الفتن، مثل الحروب الواقعة بين الأمراء بآراء وأهواء، وهي مشتملة على طاعات ومعاصي وحسنات وسيئات، وأمور مجتهد فيها تارة بهوى وتارة بغير هوى اجتهادا اعتقاديا أو عمليا، نظير الطرائق والمذاهب من الاعتقادات والفتاوى والأحكام وأنواع الزهادات والعبادات والأخلاق، وما في ذلك من مسائل النزاع بين أهل العلم والدين في الأصول والفرع والعبادات والأحوال، فإنها أيضا مشتملة على حسنات وسيئات وطاعات ومعاصي وأمور مجتهد فيها، تارة بهوى وتارة بغير هوى اجتهادا اعتقاديا أو عمليا.

فالواجب أن ما شهد الدليل الشرعي بوجوبه أو تحريمه أو إباحته عمل به، ثم يعامل الرجال والأموال بما توجبه الشريعة فيعفى عما عفت عنه، وأن تضمن ترك واجب أو فعل محرم، ويثنى على ما أثنت عليه وإن كان فيه سيئات ومفاسد مرجوحة.

وهذه المشتبهات في الأقوال والأعمال والأموال داخلة في الحديث الذي هو أحد مباني الإسلام حديث النعمان بن المشهور في الصحاح عن النبي أنه قال: الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن ترك الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب فإنه ضمن هذا الحديث الأكل والشرب من الطيبات والعمل الصالح، كما أمر به في قوله : { كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم } إذ أمر به المرسلين والمؤمنين كما في حديث أبي هريرة المخرج في صحيح مسلم، وذكر فعل المعروف وترك المنكر الذي هو صلاح القلب والجسد والحلال والحرام كما قال تعالى { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبآئث } وذكر أن الشبهات لا يعلمها كثير من الناس فدل ذلك على أن من الناس من يعلمها فمن تبينت له الشبهات لم يبق في حقه شبهة، و من لم تتبين له فهي في حقة شبهة، إذ التبين والاشتباه من الأمور النسبية فقد يكون الذي متبينا لشخص، مشتبها على الآخر.

وبين أن الحزم ترك الشبهات والشبهات قد تكون في المأمور به وقد تكون في المنهي عنه فالحزم في ذلك الفعل وفي هذا الترك فإذا شك في الأمر هل هو واجب أو محرم ؟ فهنا هو المشكل جدا كما في الاعتقادات فلا يحكم بوجوبه إلا بدليل و لا نحرمه إلا بدليل فقد لا يكون واجبا ولا محرما وإن كان اعتقادا إذ ليس كل اعتقاد مطلق أوجبه الله على الخلق بل الاعتقاد إما صواب وإما خطأ وليس كل خطأ حرمه الله بل قد عفا الله عن أشياء لم يوجبها ولم يحرمها والله أعلم.