قواعد الأحكام في مصالح الأنام - الجزء الثالث2

​قواعد الأحكام في مصالح الأنام​ المؤلف العز بن عبد السلام


قَاعِدَةٌ فِي اخْتِلَافِ أَحْكَامِ التَّصَرُّفَاتِ لِاخْتِلَافِ مَصَالِحِهَا اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مَا يُحَصِّلُ مَقَاصِدَهُ وَيُوَفِّرُ مَصَالِحَهُ ؛ فَشَرَعَ فِي بَابِ مَا يُحَصِّلُ مَصَالِحَهُ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ ، فَإِنْ عَمَّتْ الْمَصْلَحَةُ جَمِيعَ التَّصَرُّفَاتِ شُرِعَتْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ ، وَإِنْ اخْتَصَّتْ بِبَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ شُرِعَتْ فِيمَا اخْتَصَّتْ بِهِ دُونَ مَا لَمْ تَخْتَصَّ بِهِ ، بَلْ قَدْ يُشْتَرَطُ فِي بَعْضِ الْأَبْوَابِ مَا يَكُونُ مُبْطَلًا فِي غَيْرِهِ نَظَرًا إلَى مَصْلَحَةِ الْبَابَيْنِ ، كَمَا يُشْتَرَطُ اسْتِقْصَاءُ أَوْصَافِ الْمَحْكُومِ لَهُ وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى عِزَّةِ وُجُودِهِ الْمُشَارِكِ فِي تِلْكَ الْأَوْصَافِ ، كَيْ لَا يَقَعَ الْحُكْمُ عَلَى مُبْهَمٍ . وَلَوْ وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي السَّلَمِ لَأَفْسَدَهُ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ إلَى تَعَذُّرِ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ ، وَلِذَلِكَ شُرِطَ التَّوْقِيتُ فِي الْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ ، وَلَوْ وَقَعَ التَّوْقِيتُ فِي النِّكَاحِ لَأَفْسَدَهُ لِمُنَافَاتِهِ لِمَقْصُودِهِ ، وَكَذَلِكَ شُرِطَ فِي الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ عَلَى الْمَنَافِعِ أَنْ يَكُونَ أَجَلُهَا مَعْلُومًا وَجُعِلَ أَجَلُ النِّكَاحِ مُقَدَّرًا لِعُمُرِ أَقْصَرِ الزَّوْجَيْنِ عُمُرًا . فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّرْعَ مَنَعَ مِنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ وَإِجَارَتِهِ وَهِبَتِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَرَرِ وَعَدَمِ الْحَاجَةِ ، وَجَوَّزَ عُقُودَ الْمَنَافِعِ مَعَ عَدَمِهَا إذْ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهَا حَالَ الْعَقْدِ ، وَلَا تَحْصُلُ مَنَافِعُهَا إلَّا كَذَلِكَ وَقَدْ جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إجَارَةَ الْمَنَافِعِ بِالْمَنَافِعِ ، وَإِنْ كَانَتَا مَعْدُومَتَيْنِ ، كَمَا جَوَّزَتْ الشَّرِيعَةُ عَقْدَ النِّكَاحِ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ ، وَهُوَ مُقَابَلَةُ مَنْفَعَةِ التَّعْلِيمِ بِمَنْفَعَةِ الْبُضْعِ ، وَالتَّقْدِيرُ زَوَّجْتُكهَا بِتَعْلِيمِ مَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ بِتَلْقِينِ مَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ ، وَكَمَا أَنْكَحَ شُعَيْبٌ ابْنَتَهُ مِنْ مُوسَى بِرَعْيِ عَشْرِ حِجَجٍ مُقَابِلَ مَنَافِعِ الْبُضْعِ بِالرَّعْيِ ، كَمَا قَابَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَافِعَ الْبُضْعِ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ .

وَكَذَلِكَ جَوَّزَ الشَّرْعُ الْقِرَاضَ عَلَى عَمَلٍ مَعْدُومٍ مَجْهُولٍ وَجُزْءٌ مِنْ الرِّبْحِ مَعْدُومٌ مَجْهُولٌ ، إذْ لَا تَحْصُلُ فَائِدَةُ الْقِرَاضِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ وَمَصْلَحَتُهُ غَالِبًا إلَّا كَذَلِكَ ، لَكِنَّهُ شَرَطَ فِي ذَلِكَ غَلَبَةَ الْوُجُودِ فِي الْعِوَضَيْنِ كَمَا شُرِطَ فِي الْإِجَارَةِ ، وَكَذَلِكَ جُوِّزَتْ الْمُسَاقَاةُ عَلَى ثَمَرٍ مَجْهُولٍ مَعْدُومٍ ، وَعَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ مَعْدُومٍ ، إذْ لَا حَاجَةَ إلَى جَهَالَةِ الْعَمَلِ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَإِذْ لَا حَاجَةَ إلَى جَهْلِ الْجُعْلِ فِي الْجَعَالَةِ ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي عِوَضِ الْمُسَاقَاةِ غَلَبَةُ الْوُجُودِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي عَمَلِ الْجَعَالَةِ لِتَعَذُّرِهِ . وَإِنْ كَانَتْ الثَّمَرَةُ مَوْجُودَةً جَازَتْ الْمُسَاقَاةُ عَلَى الْأَصَحِّ ، لِانْتِفَاءِ الْغَرْسِ وَمُوَافَقَةِ ذَلِكَ لِقَوَاعِد الْعُقُودِ . وَنَظِيرُ تَجْوِيزِ الْمُسَاقَاةِ عَلَى ثِمَارٍ مَجْهُولَةٍ مَعْدُومَةٍ بِأَعْمَالٍ مَعْلُومَةٍ : الْإِجَارَةُ عَلَى الرَّضَاعِ ؛ فَإِنَّ اللَّبَنَ فِيهِ مَعْدُومٌ مَجْهُولٌ كَالثِّمَارِ وَالْحُبُوبِ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْأُجْرَةُ فِي ذَلِكَ مَعْلُومَةٌ إذْ لَا حَاجَةَ أَنْ تَكُونَ مَجْهُولَةً كَمَا فِي عَمَلِ الْمُسَاقَاةِ ، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ شَرَطَ الْحَضَانَةَ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الرَّضَاعِ لِيَكُونَ الرَّضَاعُ تَابِعًا كَمَا يَتْبَعُ الْمَاءُ الْإِجَارَةَ عَلَى الْمُزَارَعَةِ ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنْ الرَّضَاعِ إنَّمَا هُوَ اللَّبَنُ دُونَ الْحَضَانَةِ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَلَّقَ إيتَاءَ الْأُجْرَةِ عَلَى مُجَرَّدِ الرَّضَاعِ بِقَوْلِهِ : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } . وَكَذَلِكَ دُخُولُ مِيَاهِ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ وَالْآبَارِ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى زَرْعِ الْحُبُوبِ أَوْ غَرْسِ الْأَشْجَارِ ، وَكَذَلِكَ دُخُولُ الْمِيَاهِ الْمَذْكُورَةِ فِي إجَارَةِ الْأَرْحِيَةِ وَالدِّيَارِ ، إذْ لَا يَتِمُّ مَقَاصِدُ هَذِهِ الْإِجَارَةِ إلَّا بِذَلِكَ ، لِأَنَّهُ فِي الدِّيَارِ يُكْمِلُ الِانْتِفَاعَ وَفِي الْأَرْحِيَةِ وَالْمَزَارِعِ وَالْمَغَارِسِ مُحَصِّلٌ لِأُصَلِّ الِانْتِفَاعِ . وَكَذَلِكَ جُوِّزَتْ الْجَعَالَةُ عَلَى عَمَلٍ مَجْهُولٍ مَعَ عَمَلٍ مَجْهُولٍ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ رَدِّ الضَّائِعِ لَا تَحْصُلُ فِي الْغَالِبِ إلَّا كَذَلِكَ ، وَشُرِطَ فِي الْجُعَلِ مَا شُرِطَ فِي الْأُجْرَةِ إذْ لَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى مُخَالَفَةِ الْأُصُولِ فِيهِ إلَّا مَسْأَلَةُ الْعِلْجِ وَهُوَ الْكَافِرُ الْغَلِيظُ الشَّدِيدُ إذَا دَلَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَوْرَاتِ حُصُونِ الْمُشْرِكِينَ يُجْعَلُ مِنْ مَالِ الْمُشْرِكِينَ ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ مَعَ أَنَّهُ مَجْهُولٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ وَلَا مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ لِمَاسِّ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ فِي إقَامَةِ مَصَالِحِ الْجَهَالَةِ .

وَكَذَلِكَ شُرِطَتْ الرُّؤْيَةُ فِي الْمَبِيعِ وَالْمَأْجُورِ وَالْمَوْهُوبِ دَفْعًا لِلْغَرَرِ ، وَلَمْ تُشْتَرَطْ فِي النِّكَاحِ مَعَ أَنَّ جَمَالَ الْمَرْأَةِ مِنْ أَكْمَلِ الْمَقَاصِدِ لِمَا فِي اشْتِرَاطِهَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى النِّسَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَإِرْغَامِ أَنْفِ النَّخْوَةِ وَالْحَيَاءِ . وَمَنْ أَجَازَ بَيْعَ الْغَائِبِ عَلَى الصِّفَةِ خَيَّرَهُ إذَا رَأَى الْمَبِيعَ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ وَلَا يَجْرِي مِثْلُهُ فِي النِّكَاحِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ عَلَى النِّسَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ وَصْفُ الْمَرْأَةِ كَمَا يُشْتَرَطُ وَصْفُ الْمَبِيعِ الْغَائِبِ لِمَا فِي وَصْفِهَا مَنٌّ وَالِابْتِذَالُ وَالِامْتِهَانُ مَعَ أَنَّ الزَّوْجَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُرْسِلَ إلَيْهَا مَنْ يُشَاهِدُهَا وَيُخْبِرُهُ بِأَوْصَافِهَا . وَقَدْ نَدَبَ الشَّارِعُ الْخَاطِبَ إلَى رُؤْيَتِهَا لِيَعْلَمَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَيَرْغَبُ فِي النِّكَاحِ وَيَكُونُ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ الْإِحْجَامِ أَوْ الْإِقْدَامِ وَإِنَّمَا جُوِّزَ ذَلِكَ لِيَرْجُوَ رَجَاءً ظَاهِرًا أَنْ يُجَابَ إلَى خِطْبَتِهِ دُونَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُجَابُ ، أَوْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُجَابُ ، وَإِنْ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فَفِي هَذَا احْتِمَالٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ النَّظَرَ لَا يُحْمَلُ إلَّا عِنْدَ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِالسَّبَبِ الْمُجَوِّزِ ، وَإِنْ عَجَزَ الرُّؤْيَةَ أَرْسَلَ إلَيْهَا مَنْ يُشَاهِدُهَا وَيُقَدِّمُ الرُّؤْيَةَ وَالْإِرْسَالَ عَلَى الْخِطْبَةِ ، كَيْ لَا يُشَاهِدَهَا بَعْدَ الْخِطْبَةِ فَلَا تُعْجِبُهُ فَيَتْرُكُهَا وَيَكْسِرُهَا وَيَكْسِرُ أَوْلِيَاءَهَا بِزُهْدِهِ فِيهِمْ . فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَا يُشْرَطْ الذَّوْقُ فِي الْمَذُوقَاتِ مَعَ كَوْنِهِ مَقْصُودًا ، وَهَلَّا شُرِطَ اخْتِبَارُ الدَّوَابِّ الْمُسْتَأْجَرَةِ بِالرُّكُوبِ وَالتَّسْيِيرِ . قُلْنَا لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْأَوْصَافِ الظَّاهِرَةِ مِنْ الْمَبِيعِ وَالْمَأْجُورِ تَدُلُّ عَلَى مَا يُظَنُّ مِنْ أَوْصَافِهِ دَلَالَةً ظَاهِرَةً ، فَاكْتَفَى بِرُؤْيَةِ مَا ظَهَرَ عَنْ مَعْرِفَةِ مَا بَطَنَ ، وَلَوْ شُرِطَ ذَوْقُ الْمَطْعُومِ لِتَلَفِ أَكْثَرِهِ بِذَوْقِ الذَّائِقِينَ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَذُوقُهُ فَلَا يُعْجِبُهُ ، أَوْ يَذُوقُهُ الْتِذَاذًا بِطَعْمِهِ مِنْ غَيْرِ رَغْبَةٍ فِي شِرَائِهِ .

وَكَذَلِكَ شُرِعَ فِي الْوَقْفِ مَا يَتِمُّ مَصَالِحُهُ كَتَمْلِيكِ الْمَعْدُومِ مِنْ الْمَنَافِعِ وَالْغَلَّاتِ لِمَوْجُودٍ مِنْهُمْ : كَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْحُجَّاجِ وَالْغُزَاةِ ، وَلِمَعْدُومٍ مِنْهُمْ : كَالْوَقْفِ عَلَى أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ بَعْدَ الْأَوْلَادِ وَكَالْوَقْفِ عَلَى مَنْ سَيُوجَدُ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ هَذِهِ الصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ إلَى يَوْمِ الْمَعَادِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَكَذَلِكَ إخْرَاجُ الْمَنَافِعِ إلَى غَيْرِ مَالِكٍ : كَالْوَقْفِ عَلَى بِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْمَسَاجِدِ وَمَصَالِحِهِمَا ، وَإِنَّمَا خُولِفَتْ الْقَوَاعِدُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمَنَافِعُ وَالْغَلَّاتُ وَهِيَ بَاقِيَةٌ إلَى يَوْمِ الدِّينِ ، فَلَمَّا عَظُمَتْ مُصْلِحَةٌ خُولِفَتْ الْقَوَاعِدُ فِي أَمْرِهِ تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَتِهِ .

وَمِنْ ذَلِكَ الْوَصَايَا خُولِفَتْ فِيهَا الْقَوَاعِدُ تَحْصِيلًا لِمَصَالِحِهَا نَظَرًا إلَى الْأَمْوَاتِ إذَا انْقَطَعَتْ حَسَنَاتُهُمْ لِافْتِقَارِهِمْ إلَى رَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ وَتَكْفِيرِ سَيِّئَاتِهِمْ بِحَسَنَاتِهِمْ فَجَازَ فِيهَا تَرَاخِي الْقَبُولِ عَنْ الْإِيجَابِ ، لِأَنَّ شَرْطَ الْقَبُولِ الِاتِّصَالُ بِالْإِيجَابِ فَإِنْ تَأَخَّرَ تَأَخُّرًا يُشْعِرُ بِالْإِضْرَابِ عَنْ الْقَبُولِ بَطَلَ سُلْطَانُ الْقَبُولِ لِأَنَّ الْإِيجَابَ مُوجِبٌ لِسُلْطَانِ الْقَبُولِ لِلْقَابِلِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يُعَدُّ فِيهَا مُجِيبًا لِلْمُوجِبِ غَيْرَ مُضْرِبٍ عَنْ جَوَابِهِ ، وَهَذَا مُعْتَبَرٌ بِاتِّصَالِ الْكَلَامِ حَتَّى لَوْ فَرَّقَ الْفَاتِحَةَ تَفْرِيقًا يُعَدُّ بِهِ مُضْرِبًا عَنْ الْقِرَاءَةِ انْقَطَعَ وَلَاءُ الْفَاتِحَةِ وَكَذَلِكَ اتِّصَالُ الِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ بِكَلَامِ الْمُسْتَثْنِي وَالشَّارِطِ ، وَإِذَا جَوَّزْنَا الْمُعَامَلَةَ بِالْكِتَابَةِ جَازَ أَنْ يَتَرَاخَى الْقَبُولُ بَعْدَ وُصُولِ الْخَبَرِ بِزَمَانٍ لَا يُعَدُّ بِالتَّأْخِيرِ فِي مِثْلِهِ مُضْرِبًا عَنْ الْإِيجَابِ . وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ تَحْصِيلًا لِمَقَاصِدِهَا وَكَذَلِكَ جَازَ فِيهَا أَيْضًا أَنْ يَتَرَاخَى الْقَبُولُ عَنْ بُلُوغِ الْخَبَرِ . وَكَذَلِكَ جَازَ فِيهَا أَنْ يُوصِيَ بِمَا لَا يَمْلِكُ حَالَ الْوَصِيَّةِ ، وَجَازَ فِيهَا أَيْضًا الْوَقْفُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ عَلَى الْأَصَحِّ مَعَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَرَى وَقْفَ الْعُقُودِ ، وَمِمَّا تَخْتَصُّ بِهِ الْوَصِيَّةُ أَنَّ إيجَابَهَا لَا يَبْطُلُ بِمُوجِبِهَا فَإِنَّهُ لَوْ بَطَلَ لَفَاتَ جَمِيعُ مَقَاصِدِهَا . ( فَائِدَةٌ ) إذَا مَاتَ الْمُوجِبُ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بَطَلَ إيجَابُهُ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ إذْ لَا يَتِمَّ مَقْصُودُهَا إلَّا كَذَلِكَ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعُقُودِ . وَكَذَلِكَ لَوْ أُغْمِيَ عَلَى الْمُوجِبِ أَوْ جُنَّ بَطَلَ إيجَابُهُ إلَّا فِي الْوَصَايَا فَإِنَّهَا لَمْ تَبْطُلْ بِالْمَوْتِ ، فَالْأَوْلَى أَنْ تَبْطُلَ بِمَا دُونَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَمِنْ ذَلِكَ جَوَازُ التَّصَرُّفَاتِ وَلُزُومُهَا ، وَالتَّصَرُّفَاتُ أَنْوَاعٌ . أَحَدُهَا : مَا لَا يَتِمُّ مَصَالِحُهُ وَمَقَاصِدُهُ إلَّا بِلُزُومِهِ مِنْ طَرَفَيْهِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْأَنْكِحَةِ وَالْأَوْقَافِ وَالضَّمَانِ وَالْهِبَاتِ . وَأَمَّا الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ فَلَوْ كَانَا جَائِزَيْنِ لَمَّا وَثَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِالِانْتِفَاعِ بِمَا صَارَ إلَيْهِ وَلَبَطَلَتْ فَائِدَةُ شَرْعِيَّتِهِمَا إذْ لَا يَأْمَنُ مِنْ فَسْخِ صَاحِبِهِ ، لَكِنْ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ عَلَى خِلَافِ قَاعِدَتِهِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَمَسُّ إلَيْهِ فَجَازَ مَعَ قَصْرِ مُدَّتِهِ ، وَقَدْ لَا يَتَحَقَّقُ الْعَاقِدُ فِي مُدَّةِ الْمَجْلِسِ أَنَّهُ غَابِنٌ أَوْ مَغْبُونٌ ، فَشُرِعَ خِيَارُ الشَّرْطِ مُقَدَّرًا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تَكْمِيلًا لِلْغَرَضِ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْخِيَارِ ، وَلَوْ شَرَطَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ خِيَارَ الْمَجْلِسِ لَسَقَطَ عَلَى الْمُخْتَارِ لِأَنَّ سُقُوطَهُ مُوَافِقٌ لِمَقَاصِدِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ مَا لَوْ شَرَطَ نَفْيَ الْمِلْكِ وَالْقَبْضِ لِأَنَّهُمَا مُرَاغِمَانِ لِمَقْصُودِ الْعَقْدِ . وَفِي ثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي الْإِجَارَةِ الْمُقَدَّرَةِ بِالْمُدَّةِ خِلَافٌ لِأَدَائِهِ إلَى تَفْوِيتِ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ لِأَسْبَابٍ تَغُضُّ مِنْ مَقَاصِدِ الْخِيَارِ كَخِيَارِ الْخَلَفِ وَخِيَارِ الْعَيْبِ وَخِيَارِ التَّدْلِيسِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ . وَأَمَّا النِّكَاحُ فَلَا تَحْصُلُ مَقَاصِدُهُ إلَّا بِلُزُومِهِ وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ مَجْلِسٍ وَلَا خِيَارُ شَرْطٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الزَّوْجَيْنِ فِي أَنْ يَرُدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَدَّ السِّلَعِ مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ فِي النِّكَاحِ أَنْ لَا يَقَعَ إلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ وَصِحَّةِ الرَّغْبَةِ ، وَلَا يُفْسَخُ إلَّا بِعُيُوبٍ خَمْسَةٍ قَادِحَةٍ فِي مَقَاصِدِهِ وَيَقَعُ بِالطَّلَاقِ عِنْدَ الْإِيلَاءِ . وَأَمَّا قَطْعُهُ بِالْإِعْسَارِ فَهَلْ هُوَ قَطْعُ فَسْخٍ أَوْ قَطْعُ طَلَاقٍ فِيهِ قَوْلَانِ ، وَقَدْ رَأَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنْ لَا يُفْسَخَ بِالْإِعْسَارِ ، لِأَنَّ الْيَسَارَ لَيْسَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ . وَأَمَّا الْأَوْقَافُ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهَا الَّذِي هُوَ جَرَيَانُ أَجْرِهَا فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ إلَّا بِلُزُومِهَا ، وَأَمَّا الضَّمَانُ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ إلَّا بِلُزُومِهِ وَلَا خِيَارَ فِيهِ فِي الْوَقْفِ بِحَالٍ . وَأَمَّا الْهِبَاتُ فَالْأَصْلُ فِيهَا اللُّزُومُ لِيَحْصُلَ الْمُتَّهَبُ عَلَى مَقَاصِدِهَا لَكِنْ شُرِعَ فِيهَا الْجَوَازُ إلَى الْإِقْبَاضِ نَظَرًا لِلْوَاهِبِ وَالْمُتَّهَبِ ، كَمَا شُرِعَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ فِي الْبَيْعِ ، فَإِنَّ الْوَاهِبَ قَدْ يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِي فَسْخِ الْهِبَةِ وَصَرْفِ الْمَوْهُوبِ فِيمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا ، وَقَدْ يَرَى الْمُتَّهَبُ أَنْ لَا يَتَحَمَّلَ مِنْهُ الْوَاهِبُ ، وَاسْتَثْنَى الشَّرْعُ رُجُوعَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ فِي الْهِبَاتِ بَعْدَ الْإِقْبَاضِ تَخْصِيصًا لِشَرَفِ الْوِلَادَةِ كَمَا أَوْجَبَ لِهَؤُلَاءِ مِنْ الْحُقُوقِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ لِغَيْرِهِمْ ، وَحَرَّمَ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَاتِ بَعْدَ لُزُومِهَا عَلَى سِوَاهُمْ حَتَّى شَبَّهَ الْعَائِدَ فِي هِبَتِهِ بِالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ زَجْرًا عَنْ الْعَوْدِ فِيهَا لِمَا فِيهِ مِنْ أَذِيَّةِ الْمُتَّهَبِ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ مَعَ تَحَمُّلِهِ ضَيْمَ مِنَّةِ الْأَجَانِبِ .

النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ التَّصَرُّفَاتِ : مَا يَكُونُ مَصْلَحَتُهُ فِي جَوَازِهِ مِنْ طَرَفَيْهِ كَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْجَعَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْقِرَاضِ وَالْعَوَارِيّ وَالْوَدَائِعِ . أَمَّا الْوَكَالَةُ فَلَوْ لَزِمَتْ مِنْ جَانِبِ الْوَكِيلِ لَأَدَّى إلَى أَنْ يَزْهَدَ الْوُكَلَاءُ فِي الْوَكَالَةِ خَوْفَ لُزُومِهَا فَيَتَعَطَّلُ عَلَيْهَا هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْبِرِّ ، وَلَوْ لَزِمَتْ مِنْ جَانِبِ الْمُوَكِّلِ لَتَضَرَّرَ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى الِانْتِفَاعِ بِمَا وُكِّلَ فِيهِ لِجِهَاتٍ أُخَرَ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللُّبْسِ أَوْ الْعِتْقِ أَوْ السُّكْنَى أَوْ الْوَقْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ الْمُتَعَلِّقِ بِالْأَمْوَاتِ ، وَالشَّرِكَةُ وَكَالَةٌ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَالتَّعْلِيلُ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَإِنْ لَزِمَتْ فَقَدْ فَاتَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَقْصُودَانِ الْمَذْكُورَانِ . وَأَمَّا الْجَعَالَةُ فَلَوْ لَزِمَتْ لَكَانَ فِي لُزُومِهَا مِنْ الضَّرَرِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْوَكَالَةِ . وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ فَلَوْ لَزِمَتْ لَزَهِدَ النَّاسُ فِي الْوَصَايَا . وَأَمَّا الْقِرَاضُ فَلَوْ لَزِمَ عَلَى التَّأْبِيدِ عَظُمَ الضَّرَرُ فِيهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَفَاتَتْ الْأَغْرَاضُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْوَكَالَةِ ، وَإِنْ لَزِمَ إلَى مُدَّةٍ لَا يَحْصُلُ فِيهَا الرِّبْحُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْعَقْدِ ، فَإِنْ قِيلَ هَلَّا لَزِمَ إلَى مُدَّةٍ يَحْصُلُ فِيهَا الْأَرْبَاحُ غَالِبًا ، قُلْنَا لَيْسَ لِتِلْكَ الْأَرْبَاحِ ضَابِطٌ يُعْتَمَدُ عَلَى مِثْلِهِ . أَمَّا الْعَوَارِيّ فَلَوْ لَزِمَتْ لَزَهِدَ النَّاسُ فِيهَا ، فَإِنَّ الْمُعِيرَ قَدْ يَحْتَاجُ إلَيْهَا لِمَا مِنْ الْأَغْرَاضِ وَالْمُسْتَعِيرَ قَدْ يَزْهَدُ فِيهَا دَفْعًا لِمِنَّةِ الْمُعِيرِ . وَأَمَّا الْوَدَائِعُ فَلَوْ لَزِمَتْ لِتَضَرُّرِ الْمُودِعِ وَالْمُسْتَوْدَعِ ، وَلَزَهِدَ الْمُسْتَوْدَعُونَ فِي قَبُولِ الْوَدَائِعِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ فَأَلْحَقهُمَا عَلَى قَوْلٍ بِالْإِجَارَاتِ ، وَأَلْحَقهُمَا عَلَى قَوْلٍ بِالْجَعَالَاتِ .

النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ : مَا تَكُونُ مَصْلَحَتُهُ فِي جَوَازِهِ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ وَلُزُومُهُ مِنْ الطَّرَفِ الْآخَرِ كَالرَّهْنِ وَالْكِتَابَةِ وَعَقْدِ الْجِزْيَةِ ، وَإِجَارَةِ الْمُشْرِكِ الْمُسْتَجِيرِ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى . وَأَمَّا الرَّهْنُ فَإِنَّ مَقْصُودَهُ التَّوَثُّقُ وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِلُزُومِهِ عَلَى الرَّاهِنِ وَهُوَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمُرْتَهِنِ فَلَهُ إسْقَاطُ تَوَثُّقِهِ بِهِ كَمَا تَسْقُطُ وَثِيقَةُ الضَّمَانِ بِإِبْرَاءِ الضَّامِنِ وَهُوَ مُحْسِنٌ بِإِسْقَاطِهِمَا . وَأَمَّا الْكِتَابَةُ فَمَقْصُودُهَا الْأَعْظَمُ حُصُولُ الْعِتْقِ فَلَوْ جَازَتْ مِنْ قِبَلِ السَّيِّدِ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى أَنْ يَفْسَخَهَا مَتَى شَاءَ بَعْدَ أَنْ يَكْدَحَ الْعَبْدُ فِي تَحْصِيلِ مُعْظَمِ النُّجُومِ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْكِتَابَةِ ، وَجَازَتْ مِنْ قِبَلِ الْعَبْدِ إذْ لَا يَلْزَمُهُ السَّعْيُ فِي تَحْصِيلِ حُرِّيَّتِهِ . وَأَمَّا عَقْدُ الْجِزْيَةِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ مِنْ جِهَةِ الْكَافِرِينَ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ تَحْصِيلًا لِمَصَالِحِهِ وَلَوْ جَازَ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ لَامْتَنَعَ الْكَافِرُونَ مِنْهُ لِعَدَمِ الثِّقَةِ بِهِ لَكِنْ يَجُوزُ فَسْخُهُ بِأَسْبَابٍ تَطْرَأُ مِنْهُمْ وَذَلِكَ غَيْرُ مُنْفَرِدٍ مِنْ الدُّخُولِ فِيهِ . وَأَمَّا إجَارَةُ الْمُشْرِكِ الْمُسْتَجِيرِ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَجِيرِينَ لَازِمَةٌ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ إذْ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهَا إلَّا بِلُزُومِهَا مِنْ قِبَلِنَا فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تَلْزَمْ لَفَاتَ مَقْصُودُهَا وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْمُسْتَجِيرِ لِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَالدُّخُولِ فِيهِ بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ لِمَ مَنَعْتُمْ الزِّيَادَةَ عَلَى الْعُشْرِ فِي أَمْوَالِ الْكُفَّارِ وَقُلْتُمْ لَا تُؤْخَذُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ؟ قُلْنَا لِأَنَّا لَوْ خَالَفْنَا ذَلِكَ لَزَهِدُوا فِي التِّجَارَةِ إلَى بِلَادِنَا وَانْقَطَعَ ارْتِفَاقُ الْمُسْلِمِينَ بِالْعُشُورِ وَبِمَا يَجْلِبُونَهُ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَالْأَقْوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .

فَائِدَةٌ ) الْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْعُقُوبَاتِ لَازِمٌ لَا يَقْبَلُ الْجَوَازَ . وَكَذَلِكَ الْإِبْرَاءُ عَنْ الدُّيُونِ . وَأَمَّا الْوِلَايَاتُ فَإِنْ تَعَيَّنَ الْمُتَوَلِّي وَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فَإِنَّهَا لَازِمَةٌ فِي حَقِّهِ لَا يَقْبَلُ الْعَزْلَ وَلَا الِانْعِزَالَ إلَى أَنْ يُوجَدَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فَيَنْفُذُ الْعَزْلُ وَالِانْعِزَالُ ، فَلَوْ عَزَلَ الْإِمَامُ أَوْ الْحَاكِمُ أَنْفُسَهُمَا وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ لَمْ يَنْفُذْ عَزْلُهُمَا أَنْفُسَهُمَا لِوُجُوبِ الْمُضِيِّ عَلَيْهِمَا . وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ إذَا لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا يَوْثُقُ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ عَزْلُ نَفْسِهِ وَلَوْ نَفَذَ عَزْلُ نَفْسِهِ لَصَارَ الْمَالُ بِيَدِهِ أَمَانَةً شَرْعِيَّةً ، إذْ لَا يَجُوزُ تَسْلِيمُهُ إلَى الظَّلَمَةِ وَالْفَجَرَةِ ، لِأَنَّ التَّسَلُّمَ إلَى الظَّلَمَةِ وَالْفَجَرَةِ كَالْإِلْقَاءِ فِي مَضْيَعَةٍ .

( فَائِدَةٌ ) الْقِسْمَةُ الْمُجْبَرُ عَلَيْهَا لَازِمَةٌ إذْ لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهَا إلَّا بِلُزُومِهَا وَكَذَلِكَ قِسْمَةُ التَّرَاضِي لَازِمَةٌ سَوَاءٌ جُعِلَتْ بَيْعًا أَمْ إقْرَارًا لِأَنَّ مَقْصُودَهَا زَوَالُ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ لِمَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ امْتِنَاعِ الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ إلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ ، إذْ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَكْلُ مَا يُؤْكَلُ وَلَا شُرْبُ مَا يُشْرَبُ ، وَلَا رُكُوبُ مَا يُرْكَبُ ، وَلَا لُبْسُ مَا يُلْبَسُ ، وَلَا سُكْنَى مَا يُسْكَنُ إلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ ، وَكَذَلِكَ التَّصَدُّقُ وَالْهَدِيَّةُ وَالْإِيدَاعُ وَالضِّيَافَةُ لَا يَرْتَفِعُ هَذَا الْحَجْرُ إلَّا بِلُزُومِ الْقِسْمَةِ .

فَائِدَةٌ فِي اخْتِلَافِ مَصَالِحِ الْأَرْكَان وَالشَّرَائِطِ كُلُّ تَصَرُّفٍ جَالِبٍ لِمَصْلَحَةٍ أَوْ دَارِئٍ لِمَفْسَدَةٍ فَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ مِنْ الْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ مَا يُحَصِّلُ تِلْكَ الْمَصَالِحَ الْمَقْصُودَةَ الْجَلْبِ بِشَرْعِهِ ، أَوْ يُدْرِئُ الْمَفَاسِدَ الْمَقْصُودَةَ الدَّرْءِ بِوَضْعِهِ ، فَإِنْ اشْتَرَكَتْ لِلتَّصَرُّفَاتِ فِي مَصَالِحِ الشَّرَائِطِ وَالْأَرْكَانِ كَانَتْ تِلْكَ الشَّرَائِطُ وَالْأَرْكَانُ مَشْرُوعَةً فِي جَمِيعِهَا ، وَإِنْ اخْتَصَّ بَعْضُ التَّصَرُّفَاتِ بِشَيْءٍ مِنْ الشُّرُوطِ أَوْ الْأَرْكَانِ اخْتَصَّ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ بِهِمَا . وَقَدْ يُشْتَرَطُ فِي أَحَدِ التَّصَرُّفَيْنِ مَا يَكُونُ مُفْسِدًا فِي التَّصَرُّفِ الْآخَرِ لِتَقَارُبِهِمَا فِي جَلْبِ مَصَالِحِهِمَا وَدَرْءِ مَفَاسِدِهِمَا : فَالْإِيمَانُ شَرْطٌ فِي كُلِّ عِبَادَةٍ ، وَالطَّهَارَةُ شَرْطٌ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَطَوَافٍ ، وَكَذَلِكَ السُّتْرَةُ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي حَجٍّ وَلَا صَوْمٍ وَلَا زَكَاةٍ وَلَا قِرَاءَةٍ وَلَا ذِكْرِ اللَّهِ وَلَا تَعْرِيفٍ وَلَا سَعْيٍ وَلَا اعْتِكَافٍ وَلَا رَمْيٍ ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ : كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ الْوُجُودُ وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَانْتِفَاءُ الْأَغْرَارِ السَّهْلَةِ الِاجْتِنَابِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي قِرَاضٍ وَلَا بَيْعٍ وَلَا مُسَاقَاةٍ وَلَا مُزَارَعَةٍ وَلَا جَعَالَةٍ وَلَا إجَارَةٍ وَلَا إرْضَاعٍ وَلَا فِي مِيَاهِ الْعُيُونِ وَالْآبَارِ وَالْجَدَاوِلِ وَالْأَنْهَارِ التَّابِعَةِ لِلْإِجَارَةِ عَلَى الْمُزَارَعَةِ وَغَرْسِ الْأَشْجَارِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ شُرِطَ لَفَاتَتْ مَصَالِحُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَمَقَاصِدُهَا وَلَا يُخْشَى مَا فِي فَوَاتِ هَذِهِ الْمَصَالِحِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ وَالْإِضْرَارِ ، وَلَا سِيَّمَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّضَاعِ وَمِيَاهِ الْآبَارِ وَالْأَنْهَارِ . وَيُشْتَرَطُ فِي الْوَكَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ الَّذِي يُوَكِّلُ فِيهِ إذْ لَا يَمْلِكُ الْفَرْعَ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ الْأَصْلُ وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إذْنُ الْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ وَإِذْنُ الْأَعْمَى فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَإِذْنُ الْمُضَارِبِ لِلْعَامِلِ فِي التَّصَرُّفِ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ الَّتِي لَا يَمْلِكُهَا الْمَالِكُ وَلَا الْعَامِلُ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ مُنِعَ لَفَاتَتْ مَصَالِحُ التَّزْوِيجِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي حَقِّ الْعُمْيَانِ ، وَكَذَلِكَ أَرْبَاحُ الْقِرَاضِ . وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَصَالِحَ الَّتِي خُولِفَتْ الْقَوَاعِدُ لِأَجَلِهَا : مِنْهَا مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَمِنْهَا مَا تَمَسُّ إلَيْهِ الْحَاجَةُ الْمُتَأَكِّدَةُ . وَلَوْ شَهِدَ الْوَصِيُّ لِيَتِيمٍ بِحَقٍّ يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْوَصِيُّ لَمْ تَقْبَلْ شَهَادَتُهُ لِجَرِّهَا إلَيْهِ جَوَازَ التَّصَرُّفِ فِيمَا شَهِدَ بِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَكَمَ الْحَاكِمُ لِمُوَكِّلِهِ أَوْ لِوَلَدِهِ الطِّفْلَ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ ، وَلَوْ حَكَمَ لِلْأَيْتَامِ بِحَقٍّ لَنَفَذَ حُكْمُهُ فِي مَحَلِّ تَصَرُّفِهِ عَلَى الْأَصَحِّ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي الْحُكْمِ لِلْغَائِبِ وَعَلَى الْغَائِبِ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِهِ بِحَيْثُ يَعِزُّ وُجُودُ مِثْلِهِ وَنَظِيرِهِ دَفْعًا لِلْإِبْهَامِ عَنْ الْأَحْكَامِ ، فَإِنَّ الْإِبْهَامَ فِي الْمَحْكُومِ بِهِ وَالْمَحْكُومِ لَهُ وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ مُبْطِلٌ لِلدَّعَاوَى وَالشَّهَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ ، وَلَوْ وُصِفَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ بِمَا يَعِزُّ وُجُودُهُ لَبَطَلَ السَّلَمُ لِمُنَافَاةِ عِزَّةِ الْوُجُودِ لِلْمَقْصُودِ مِنْ السَّلَمِ . وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ الْإِطْلَاقِ فِي الْمُضَارَبَةِ لِمُنَافَاةِ التَّأْجِيلِ لِمَقْصُودِهَا ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي النِّكَاحِ لِمُنَافَاتِهِ لِمَقْصُودِهِ ، وَلَا يَشْتَرِطُ التَّأْقِيتُ فِي الْمُضَارَبَةِ ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ ، وَلَوْ شُرِطَ فِي النِّكَاحِ لَأَبْطَلَهُ لِمُنَافَاتِهِ لِمَقَاصِدِ النِّكَاحِ . فَأَحْكَامُ الْإِلَهِ كُلُّهَا مَضْبُوطَةٌ بِالْحُكْمِ مُحَالَةٌ عَلَى الْأَسْبَابِ وَالشَّرَائِطِ الَّتِي شَرَعَهَا ، كَمَا أَنَّ تَدْبِيرَهُ وَتَصَرُّفَهُ فِي خَلْقِهِ مَشْرُوطٌ بِالْحِكَمِ الْمُبِينَةِ الْمَخْلُوقَةِ مَعَ كَوْنِهِ الْفَاعِلَ لِلْأَسْبَابِ عَلَى الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ ، وَلَوْ شَاءَ لَاقْتَطَعَ الْأَسْبَابَ عَنْ الْمُسَبِّبَاتِ وَدَلَّ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّلَازُمِ ، فَكَمَا شَرَعَ لِلتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ وَالْكَرَاهَةِ وَالنَّدْبِ لِلْإِيجَابِ أَسْبَابًا وَشُرُوطًا ، وَكَذَلِكَ وَضَعَ لِتَدْبِيرِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِي خَلْقِهِ أَسْبَابًا ، وَشُرُوطًا فَجَعَلَ لِلْجُوعِ أَسْبَابًا ، وَلِلشِّبَعِ أَسْبَابًا ، وَلِلسَّقَمِ أَسْبَابًا وَلِلْمَوْتِ أَسْبَابًا ، وَالْحَيَاةِ أَسْبَابًا ، وَلِلْغِنَى أَسْبَابًا ، وَلِلْقُرْبِ أَسْبَابًا ، وَلِلْبُعْدِ أَسْبَابًا ، وَلِلْعِزِّ أَسْبَابًا ، وَلِلذُّلِّ أَسْبَابًا ، وَلِلضَّحِكِ أَسْبَابًا ، وَلِلْبُكَاءِ أَسْبَابًا ، وَلِلنَّشَاطِ أَسْبَابًا ، وَلِلْكَسَلِ أَسْبَابًا ، وَلِلْحَرَكَاتِ أَسْبَابًا ، وَلِلنُّصْحِ أَسْبَابًا ، وَلِلْغِشِّ أَسْبَابًا ، وَلِلصِّدْقِ أَسْبَابًا ، وَلِلسَّعَادَةِ أَسْبَابًا ، وَلِلشَّقَاوَةِ أَسْبَابًا وَلِلْغُمُومِ أَسْبَابًا ، وَلِلذَّاتِ أَسْبَابًا ، وَلِلْآلَامِ أَسْبَابًا ، وَلِلصِّحَّةِ أَسْبَابًا ، وَلِلْخَوْفِ أَسْبَابًا ، وَلِلْغَضَبِ أَسْبَابًا ، وَلِلْأَمْنِ أَسْبَابًا ، وَلِلرَّاحَاتِ أَسْبَابًا ، وَلِلنَّصَبِ أَسْبَابًا ، وَلِلْعِرْفَانِ أَسْبَابًا ، وَلِلِاعْتِقَادَاتِ الصَّحِيحَةِ أَسْبَابًا ، وَلِلْفَاسِدَةِ أَسْبَابًا ، وَلِلشَّكِّ أَسْبَابًا ، وَلِلْيَقِينِ أَسْبَابًا ، وَلِلظُّنُونِ أَسْبَابًا ، وَلِلْأَوْهَامِ أَسْبَابًا . كُلُّ ذَلِكَ قَدْ نَصَبَهُ الْإِلَهُ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ وَهُوَ الْمُنْفَرِدُ بِخَلْقِ الْأَسْبَابِ وَمُسَبِّبَاتِهَا ، فَلَا يُوجَدُ سَبَبٌ مُسَبِّبًا إذْ لَا مَوْجُودَ غَيْرَهُ ، وَلَا مُدَبِّرَ إلَّا هُوَ ، يَحْكُمُ بِمَا يَشَاءُ وَيَفْعَلُ مَا يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ تَعُودُ إلَيْهِ ، وَلَا نَفْعَ يَحْصُلُ لَهُ ، وَهُوَ بَعْدَ خَلْقِ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهَا لَا يُفِيدُهُ شَيْءٌ غِنًى وَلَا عِزًّا وَلَا شَرَفًا ، بَلْ هُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ مِنْ أَوْصَافِ الْجَلَالِ ، وَنُعُوتِ الْكَمَالِ ، وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْأَكْوَانِ .

قَاعِدَةٌ فِيمَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَالْقِصَاصَ يَجِبُ الضَّمَانُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : الْيَدُ وَالْمُبَاشَرَةُ ، وَالتَّسَبُّبُ ، وَالشَّرْطُ . فَأَمَّا الْيَدُ فَالْغُصُوبُ وَالْأَيْدِي الضَّامِنَةُ مِنْ غَيْرِ غَصْبٍ ، وَأَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فَهِيَ إيجَادُ عِلَّةِ الْهَلَاكِ ، وَتَنْقَسِمُ إلَى الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ وَالْمُتَوَسِّطِ : فَأَمَّا الْقَوِيُّ فَكَالذَّبْحِ وَالْإِحْرَاقِ وَالْإِغْرَاقِ وَإِيجَادِ السَّمُومِ الْمُذَفَّفَةِ وَالْحَبْسِ مَعَ الْمَنْعِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ . وَأَمَّا الضَّعِيفُ فَظَنُّ الْمَغْرُورِ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ إذَا أَحْبَلَهَا ظَانًّا أَنَّهَا حُرَّةٌ يَضْمَنُ مَا فَاتَ مِنْ حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ بِظَنِّهِ فَتَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ عِنْدَ الْوِلَادَةِ يَرْجِعُ بِهَا عَلَى مَنْ غَرَّهُ لِأَنَّهُ تَسَبُّبٌ غَارُّهُ هَهُنَا أَقْوَى مِنْ مُبَاشَرَتِهِ بِظَنِّهِ ، وَتَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ حَالَ وِلَادَتِهِ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْقَوَاعِدِ فِي كَوْنِ الْمُتْلِفِ إنَّمَا يَضْمَنُ بِقِيمَتِهِ حَالَ إتْلَافِهِ دُونَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا ، وَإِنَّمَا خَرَجَ هَذَا عَنْ الْقَاعِدَةِ ، إذْ لَا قِيمَةَ لَهُ يَوْمَ الْإِحْبَالِ فَإِنَّهُ نُطْفَةٌ قَذِرَةٌ لَكِنَّهُ كَانَتْ أَجْزَاؤُهُ دَمَ أَمَةٍ ، وَإِنْ كَانَ تَكَوُّنُهُ حَيَوَانًا بِالْقُوَى الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِي رَحِمِ أُمِّهِ صَارَ كَالثَّمَرَةِ الْمَخْلُوقَةِ مِنْ الشَّجَرِ كَسْبًا مِنْ أَكْسَابِ أُمِّهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا صَلُحَ وَصَارَ حَيَوَانًا بِالْقُوَى الَّتِي فِي رَحِمِهَا فَيُشْبِهُ مَا صَنَعَتْهُ بِيَدِهَا ، فَذَلِكَ قَدْرُ الْإِتْلَافِ مُتَأَخِّرًا إلَى حِينِ الْوَضْعِ ، وَكَأَنَّهُ رَقِيقٌ فَوَّتَ حُرِّيَّتَهُ حَالَ الْوَضْعِ ، وَلِهَذَا جَعَلَ الْوَلَدَ تَابِعًا لِأُمِّهِ فِي الْمِلْكِ وَالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَأَمَّا الْمُتَوَسِّطُ فَكَالْجِرَاحَاتِ السَّارِيَةِ ، وَقَدْ تَتَرَدَّدَ صُوَرٌ بَيْنَ الضَّعِيفِ وَالْمُتَوَسِّطِ كَغَرْزِ الْإِبْرَةِ فَيُخْتَلَفُ فِيهَا . وَأَمَّا التَّسَبُّبُ فَإِيجَادُ عِلَّةِ الْمُبَاشَرَةِ وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إلَى قَوِيٍّ وَضَعِيفٍ وَمُرَدَّدٌ بَيْنَهُمَا وَلَهُ أَمْثِلَةٌ . أَحَدُهَا : الْإِكْرَاهُ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ وَالضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ لِأَنَّهُ مُلْجِئٌ الْمُكْرَهَ إلَى الْمُبَاشَرَةِ ، فَإِنَّ طَبْعَهُ يَحْثُهُ عَلَى دَرْءِ الْمَكْرُوهِ عَنْهُ ، وَقَدْ جَعَلَ الْمُكْرَهَ شَرِيكًا لِلتَّسَبُّبِ الَّذِي هُوَ الْمُكْرَهُ لِتَوَلُّدِ مُبَاشَرَتِهِ عَنْ الْإِكْرَاهِ . الثَّانِي : إذَا شَهِدَ بِالزِّنَا عَلَى إنْسَانٍ فَقُتِلَ بِشَهَادَتِهِ أَوْ رُجِمَ فِي الْحَدِّ بِشَهَادَتِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ وَالْقِصَاصُ لِأَنَّ الشَّاهِدَ وَلَّدَ فِي الْحَاكِمِ وَفِي وَلِيِّ الدَّمِ الدَّاعِيَةَ إلَى الْقَتْلِ ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ يَخَافُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَإِنْ تَرَكَ الْحُكْمَ ، وَمِنْ عَارِ الدُّنْيَا إذْ يُنْسَبَ إلَى الْفُسُوقِ وَالْجَوْرِ ، وَكَذَلِكَ الْوَلِيُّ وَلَّدَ فِيهِ الشَّاهِدُ دَاعِيَةً طَبِيعِيَّةً تَحُثُّهُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ ، وَالْوَازِعُ الشَّرْعِيُّ دُونَ الْوَازِعِ الطَّبْعِيِّ . وَالثَّالِثُ إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْقَتْلِ جَائِرًا فِي حُكْمِهِ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ ، لِأَنَّهُ وَلَّدَ فِي الْوَلِيِّ دَاعِيَةَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ ، وَلَوْ أَمَرَ السُّلْطَانُ الْعَادِلُ الْعَالِمُ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ بِقَتْلِ رَجُلٍ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَتَلَهُ الْجَلَّادُ جَاهِلًا بِذَلِكَ فَإِنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ الْجَلَّادِ ، وَإِنْ كَانَ الْجَلَّادُ مُخْتَارًا غَيْرَ مُلْجِئٍ ، لِأَنَّهُ وَلَّدَ فِيهِ دَاعِيَةَ الْقَتْلِ ، إذْ الْغَالِبُ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ لَا يَكُونَ إلَّا بِحَقٍّ ، فَالْجَلَّادُ وَإِنْ كَانَ مُخْتَارًا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَلَا قِصَاصَ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُطِيعٌ لِلَّهِ . وَكَذَلِكَ لَا إثْمَ عَلَى الْحَاكِمِ إذَا لَمْ يَعْلَمُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ فَإِنَّهُ أَثِمَ إذْ لَيْسَ عَلَى الْحَاكِمِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِشَهَادَةِ الزُّورِ بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ فَإِنَّهُ أَثِمَ إذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْدِيَ نَفْسَهُ الْمَظْلُومَةَ بِنَفْسٍ مَعْصُومَةٍ إذْ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ ، فَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ جَائِرًا ظَالِمًا لَمْ يَجُزْ لِلْجَلَّادِ امْتِثَالُ أَمْرِهِ إلَّا إذَا عَلِمَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ غَالِبٌ فِي أَمْرِهِ بِالْقَطْعِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعُقُوبَاتِ ، لِأَنَّهُ بِمَثَابَةِ فَاسِقٍ مِنْ الرَّعِيَّةِ أَكْرَهَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ ، وَإِنْ أَكْرَهَ الْإِمَامُ عَلَى الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُكْرِهِينَ وَإِنْ لَمْ يُكْرِهْ وَلَكِنْ عَهْدٌ مِنْهُ أَنَّهُ يَسْطُو بِمَنْ خَالَفَهُ سَطْوَةً يَكُونُ مِثْلُهَا لَوْ هَدَّدَ بِهَا إكْرَاهًا فَفِي إلْحَاقِهِ بِالْإِكْرَاهِ خِلَافٌ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إكْرَاهٌ إذَا أَثَارَ خَوْفًا كَالْخَوْفِ الَّذِي يُثِيرُهُ التَّهْدِيدُ . وَأَمَّا الشَّرْطُ فَفِي إيجَادِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْإِتْلَافُ وَلَيْسَ بِمُبَاشَرَةٍ وَلَا تَسَبُّبٍ كَالْمُمْسِكِ مَعَ الْمُبَاشِرِ أَوْ الْمُتَسَبِّبِ لِأَنَّهُ لَمْ يُصْدَرْ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْقَتْلِ وَإِنَّمَا هُوَ مُمْكِنٌ لِلْقَاتِلِ مِنْ الْقَتْلِ ، وَقَدْ خَالَفَنَا مَالِكٌ فِي ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي صِيَانَةِ الدِّمَاءِ . وَاسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَتِيلٍ قَتَلَهُ جَمَاعَةٌ : لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتهمْ بِهِ ، وَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا الْأَثَرِ وَنَحْنُ قَائِلُونَ بِمُوجِبِهِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَوْ تَمَالَأَ عَلَى قَتْلِهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلَهُمْ بِهِ ، وَالتَّمَالُؤُ عَلَى الْقَتْلِ إنَّمَا يَكُونُ بِالِاشْتِرَاكِ فِيهِ ، وَالْمُمْسِكُ وَإِنْ كَانَ ذَنْبُهُ عَظِيمًا فَمَا كُلُّ ذَنْبٍ يَصْلُحُ لِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَقَدْ يَتَرَدَّدُ فِي أَسْبَابٍ مِنْهَا تَقْدِيمُ الطَّعَامِ الْمَسْمُومِ إلَى الضَّيْفِ إذَا أَكَلَهُ فَمَاتَ بِسُمِّهِ فَهَذَا التَّقْدِيمُ لَا إلْجَاءَ فِيهِ ، لِأَنَّ الضَّيْفَ مُخْتَارٌ فِي الْأَكْلِ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَيْهِ وَدَاعِيَّةُ الْأَكْلِ مَخْلُوقَةٌ فِيهِ غَيْرُ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْمُضِيفِ ، فَلِهَذَا اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا . وَكَذَلِكَ لَوْ ضَيَّفَ إنْسَانًا بِطَعَامٍ مَغْصُوبٍ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ وَالْآكِلِ وَلَا رُجُوعَ لِلْآكِلِ عَلَى الْأَصَحِّ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْجِئٍ وَقَدْ وَقَعَ التَّرَدُّدُ فِي مَسَائِلَ دَائِرَةٍ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالسَّبَبِ كَشُهُودِي الْإِحْصَانِ مَعَ شُهُودِي الزِّنَا ، وَقَدْ حَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْإِتْلَافَ يَقَعُ بِالظُّنُونِ وَالْأَيْدِي وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ ، وَيَجْرِي الضَّمَانُ فِي عَمْدِهَا وَخَطَئِهَا لِأَنَّهُ مِنْ الْجَوَابِرِ ، وَلَا تَجْرِي الْعُقُوبَةُ وَالْقِصَاصُ إلَّا فِي عَمْدِهَا لِأَنَّهُمَا مِنْ الزَّوَاجِرِ . أَمَّا الْعَمْدُ فَلَا بُدَّ مِنْ قِصَاصٍ ، أَحَدُهُمَا الْقَصْدُ إلَى الْفِعْلِ وَالثَّانِي الْقَصْدُ إلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمَقْصُودُ إلَيْهِ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ التَّلَفُ قَطْعًا كَالذَّبْحِ أَوْ غَالِبًا كَالْقَطْعِ وَالْجَرْحِ ، وَإِذَا تَحَقَّقَتْ هَذِهِ الْأَرْكَانُ الثَّلَاثَةُ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا مُوجِبًا لِلْعُقُوبَةِ الشَّرْعِيَّةِ . وَإِذَا وُجِدَ الْقَصْدُ إلَى الْفِعْلِ وَإِلَى الشَّخْصِ ، وَكَانَ الْفِعْلُ مِمَّا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا فَهَذَا الْقَتْلُ يُقَالُ لَهُ عَمْدُ الْخَطَأِ لِأَنَّ فِيهِ عَمْدَيْنِ : أَحَدُهُمَا إلَى الْفِعْلِ ، وَالثَّانِي إلَى الشَّخْصِ ، وَجُعِلَ خَطَأً بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفِعْلِ الَّذِي لَا يَقْتُلُ غَالِبًا ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا شِبْهُ الْعَمْدِ ، لِأَنَّهُ أَشْبَهَ الْعَمْدَ فِي الْقَصْدَيْنِ ، وَقَدْ يَقَعُ الْخَطَأُ بَعْدَ فَوَاتِ الْقَصْدَيْنِ لِمَنْ زَلِقَ فَوَقَعَ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ ، أَوْ عَلَى مَالٍ فَأَتْلَفَهُ .

( فَائِدَةٌ ) إذَا شَهِدَ اثْنَانِ بِالزُّورِ عَلَى تَصَرُّفٍ ثُمَّ رَجَعَا ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ ، كَالْوَقْفِ وَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ لَزِمَهُمَا الضَّمَانُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ ، كَالْأَمْلَاكِ وَالْأَقَارِيرِ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْأَصَحِّ ، فَإِنْ تَمَكَّنَ الْمُوقَفُ عَلَيْهِ مِنْ الْوَقْفِ وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ مِنْ الْعَبْدِ ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ مِنْ الْمَرْأَةِ لِعَدَمِ مَنْ يَعْرِفُ الشَّهَادَةَ بِذَلِكَ يَسْقُطُ الضَّمَانُ لِرُجُوعِ الْحُقُوقِ إلَى مُسْتَحِقِّهَا .

قَاعِدَةٌ فِيمَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ وَمَنْ تَجُوزُ طَاعَتُهُ وَمَنْ لَا تَجُوزُ طَاعَتُهُ لَا طَاعَةَ لِأَحَدِ الْمَخْلُوقَيْنِ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي طَاعَتِهِ كَالرُّسُلِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ وَالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالسَّادَاتِ وَالْأَزْوَاجِ وَالْمُسْتَأْجَرِينَ فِي الْإِجَارَاتِ عَلَى الْأَعْمَالِ وَالصِّنَاعَاتِ ، وَلَا طَاعَةَ لِأَحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الْمُوبِقَةِ فِي الدَّارَيْنِ أَوْ فِي أَحَدِهِمَا ، فَمَنْ أَمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ لَهُ ، إلَّا أَنْ يُكْرِهَ إنْسَانًا عَلَى أَمْرٍ يُبِيحُهُ الْإِكْرَاهُ فَلَا إثْمَ عَلَى مُطِيعِهِ ، وَقَدْ تَجِبُ طَاعَتُهُ لَا لِكَوْنِهِ آمِرًا بَلْ لِدَفْعِ مَفْسَدَةِ مَا يُهَدِّدُهُ بِهِ مِنْ قَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ أَوْ جِنَايَةٍ عَلَى بُضْعٍ ، وَلَوْ أَمَرَ الْإِمَامُ أَوْ الْحَاكِمُ إنْسَانًا بِمَا يَعْتَقِدُ الْآمِرُ حِلَّهُ وَالْمَأْمُورُ تَحْرِيمَهُ فَهَلْ لَهُ فِعْلُهُ نَظَرًا إلَى رَأْيِ الْآمِرِ أَوْ يَمْتَنِعُ نَظَرًا إلَى رَأْيِ الْمَأْمُورِ ، فِيهِ خِلَافٌ ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ فِيمَا لَا يَنْقَضِ حُكْمُ الْآمِرِ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْقَضِ حُكْمُهُ بِهِ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ ، وَكَذَلِكَ لَا طَاعَةَ لِجَهَلَةِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ إلَّا فِيمَا يَعْلَمُ الْمَأْمُورُ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الشَّرْعِ . وَتَفَرَّدَ الْإِلَهُ بِالطَّاعَةِ لِاخْتِصَاصِهِ بِنِعَمِ الْإِنْشَاءِ وَالْإِبْقَاءِ وَالتَّغْذِيَةِ وَالْإِصْلَاحِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ ، فَمَا مِنْ خَيْرٍ إلَّا هُوَ جَالِبُهُ ، وَمَا مِنْ ضَيْرٍ إلَّا هُوَ سَالِبُهُ ، وَلَيْسَ بَعْضُ الْعِبَادِ بِأَنْ يَكُونَ مُطَاعًا بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ ، إذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ إنْعَامٌ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْته فِي حَقِّ الْإِلَهِ ، وَكَذَلِكَ لَا حُكْمَ إلَّا لَهُ فَأَحْكَامُهُ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ وَالِاسْتِدْلَالَات الْمُعْتَبَرَةِ ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَحْسِنَ وَلَا أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَصْلَحَةً مُرْسَلَةً ، وَلَا أَنْ يُقَلِّدَ أَحَدًا لَمْ يُؤْمَرْ بِتَقْلِيدِهِ : كَالْمُجْتَهِدِ فِي تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ أَوْ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ، وَيَرُدُّ عَلَى مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إنْ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ } . وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْعَامَّةُ فَإِنَّ وَظِيفَتَهُمْ التَّقْلِيدُ لِعَجْزِهِمْ عَنْ التَّوَصُّلِ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ بِالِاجْتِهَادِ ، بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إلَى الْحُكْمِ ، وَمَنْ قَلَّدَ إمَامًا مِنْ الْأَئِمَّةِ ثُمَّ أَرَادَ تَقْلِيدَ غَيْرِهِ فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟ فِيهِ خِلَافٌ ، وَالْمُخْتَارُ التَّفْصِيلُ ، فَإِنْ كَانَ الْمَذْهَبُ الَّذِي أَرَادَ الِانْتِقَالَ إلَيْهِ مِمَّا يُنْقَضُ فِيهِ الْحُكْمُ ؛ فَلَيْسَ لَهُ الِانْتِقَالُ إلَى حُكْمٍ يَجِبُ نَقْضُهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَجِبْ نَقْضُهُ إلَّا لِبُطْلَانِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَأْخَذَانِ مُتَقَارِبَيْنِ جَازَ التَّقْلِيدُ وَالِانْتِقَالُ لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ إلَى أَنْ ظَهَرَتْ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ يُقَلِّدُونَ مَنْ اتَّفَقَ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ يُعْتَبَرُ إنْكَارُهُ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا لَأَنْكَرُوهُ وَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ تَقْلِيدُ الْأَفْضَلِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَوْلَى ، لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ تَقْلِيدُهُ لَمَا قَلَّدَ النَّاسُ الْفَاضِلَ وَالْمَفْضُولَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ، بَلْ كَانُوا مُسْتَرْسِلِينَ فِي تَقْلِيدِ الْفَاضِلِ وَالْأَفْضَلِ وَلَمْ يَكُنْ الْأَفْضَلُ يَدْعُو الْكُلَّ إلَى تَقْلِيدِ نَفْسِهِ ، وَلَا الْمَفْضُولُ يَمْنَعُ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ وُجُودِ الْفَاضِلِ وَهَذَا مِمَّا لَا يَرْتَابُ فِيهِ عَاقِلٌ . وَمِنْ الْعَجَبِ الْعَجِيبِ أَنَّ الْفُقَهَاءَ الْمُقَلِّدِينَ يَقِفُ أَحَدُهُمْ عَلَى ضَعْفِ مَأْخَذِ إمَامِهِ بِحَيْثُ لَا يَجِدُ لِضَعْفِهِ مَدْفَعًا وَمَعَ هَذَا يُقَلِّدُهُ فِيهِ ، وَيَتْرُكُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ لِمَذْهَبِهِ جُمُودًا عَلَى تَقْلِيدِ إمَامِهِ ، بَلْ يَتَحَلَّلُ لِدَفْعِ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَيَتَأَوَّلُهُمَا بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةِ الْبَاطِلَةِ نِضَالًا عَنْ مُقَلِّدِهِ ، وَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَجَالِسِ فَإِذَا ذُكِرَ لِأَحَدِهِمْ فِي خِلَافٍ مَا وَظَنَّ نَفْسَهُ عَلَيْهِ تَعَجَّبَ غَايَةَ التَّعَجُّبِ مِنْ اسْتِرْوَاحٍ إلَى دَلِيلٍ بَلْ لِمَا أَلِفَه مِنْ تَقْلِيدِ إمَامِهِ حَتَّى ظَنَّ أَنَّ الْحَقَّ مُنْحَصِرٌ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ أَوْلَى مِنْ تَعَجُّبِهِ مِنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ ، فَالْبَحْثُ مَعَ هَؤُلَاءِ ضَائِعٌ مُفْضٍ إلَى التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ يُجْدِيهَا ، وَمَا رَأَيْت أَحَدًا رَجَعَ عَنْ مَذْهَبِ إمَامِهِ إذَا ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ فِي غَيْرِهِ بَلْ يَصِيرُ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِضَعْفِهِ وَبُعْدِهِ ، فَالْأَوْلَى تَرْكُ الْبَحْثِ مَعَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ إذَا عَجَزَ أَحَدُهُمْ عَنْ تَمْشِيَةِ مَذْهَبِ إمَامِهِ قَالَ لَعَلَّ إمَامِي وَقَفَ عَلَى دَلِيلٍ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ وَلَمْ أَهْتَدِ إلَيْهِ ، وَلَمْ يَعْلَمْ الْمِسْكِينُ أَنَّ هَذَا مُقَابَلٌ بِمِثْلِهِ وَيَفْضُلُ لِخَصْمِهِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ وَالْبُرْهَانِ اللَّائِحِ ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَكْثَرَ مَنْ أَعْمَى التَّقْلِيدُ بَصَرَهُ حَتَّى حَمَلَهُ عَلَى مِثْلِ مَا ذُكِرَ ، وَفَّقَنَا اللَّهُ لِاتِّبَاعِ الْحَقِّ أَيْنَ مَا كَانَ وَعَلَى لِسَانِ مَنْ ظَهَرَ ، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ مُنَاظَرَةِ السَّلَفِ وَمُشَاوَرَتِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ وَمُسَارَعَتِهِمْ إلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ إذَا ظَهَرَ عَلَى لِسَانِ الْخَصْمِ ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : مَا نَاظَرْت أَحَدًا إلَّا قُلْت اللَّهُمَّ أَجْرِ الْحَقَّ عَلَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مَعِي اتَّبَعَنِي وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مَعَهُ اتَّبَعْته . ( فَائِدَةٌ ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَقْلِيدِ الْحَاكِمِ الْمُجْتَهِدِ لِمُجْتَهِدٍ آخَرَ فَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ أَنَّهُمْ أَصَابُوا الْحَقَّ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مُجْتَهِدٍ وَمُجْتَهِدٍ فَإِذَا جَازَ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى ظَنِّهِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الشَّرْعِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ الْمُعْتَمِدِ عَلَى أَدِلَّةِ الشَّرْعِ ، وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمُقَلِّدُ أَنْبَلَ وَأَفْضَلَ فِي مَعْرِفَةِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَقَالُوا ثِقَةٌ بِمَا يَجِدُهُ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ وَمِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ أَقْوَى مِمَّا يَسْتَفِيدُهُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ هُوَ أَفْضَلُ الْجَمَاعَةِ ، وَخَيَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي تَقْلِيدِ مَنْ شَاءَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى حَقٍّ وَصَوَابٍ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ مُتَّجَهٌ إذَا قُلْنَا كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ .

قَاعِدَةٌ فِي الشُّبُهَاتِ الدَّارِئَةِ لِلْحُدُودِ الشُّبُهَاتُ دَارِئَةٌ لِلْحُدُودِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ : إحْدَاهَا فِي الْفَاعِلِ وَهُوَ ظَنُّ حِلِّ الْوَطْءِ إذَا وَطِئَ امْرَأَةً يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ أَوْ مَمْلُوكَتَهُ الثَّانِيَةُ : شُبْهَةٌ فِي الْمَوْطُوءَةِ كَوَطْءِ الشُّرَكَاءِ الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَكَةَ ، الثَّالِثَةُ : فِي السَّبَبِ الْمُبِيحِ لِلْوَطْءِ كَالنِّكَاحِ الْمُخْتَلَفِ فِي صِحَّتِهِ . فَأَمَّا الشُّبْهَةُ الْأُولَى فَدَرَأَتْ عَنْ الْوَاطِئِ الْحَدَّ لِأَنَّهُ غَيْرُ آثِمٍ ، وَالنَّسَبُ لَاحِقٌ بِهِ ، وَالْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ ، وَالْمَهْرُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ فَدَرَأَتْ الْحَدَّ لِأَنَّ مَا فِيهَا مِنْ مِلْكِهِ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ ، وَمَا فِيهَا مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ ، فَلَا تَكُونُ الْمَفْسَدَةُ فِيهِ كَمَفْسَدَةِ الزِّنَا الْمَحْضِ ، بَلْ لَوْ أَكَلَ الْإِنْسَانُ رَغِيفًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَمْ يَأْثَمْ بِأَكْلِ نَصِيبِهِ مِثْلَ إثْمِهِ بِأَكْلِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ بَلْ يَأْثَمُ بِهِ إثْمَ الْوَسَائِلِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ الْجَانِي بِغَيْرِ إذْنِ شُرَكَائِهِ أَثِمَ وَلَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ ، وَلَا يَأْثَمُ إثْمَ مَنْ قَتَلَ مَنْ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي قَتْلِهِ . وَكَذَلِكَ الْوَسَائِلُ إلَى الْمَصَالِحِ لَا يُثَابُ عَلَيْهَا مِثْلَ ثَوَابِ الْمَصَالِحِ ، فَإِنَّ صَلَاةَ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ مِنْ صَلَاتَيْنِ لَزِمَهُ أَدَاؤُهُمَا ، وَلَا يُثَابُ عَلَى الْوَسِيلَةِ مِنْهُمَا مِثْلَ ثَوَابِ الْوَاجِبَةِ مِنْهُمَا ، وَلِذَلِكَ فَعَلَهُمَا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ عَلَى الْأَصَحِّ . وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ فَلَيْسَ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ هُوَ الشُّبْهَةُ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى خِلَافِ عَطَاءٍ فِي إبَاحَةِ الْجَوَازِ ، وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ التَّعَارُضُ بَيْنَ أَدِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ ، فَإِنَّ الْحَلَالَ مَا قَامَ دَلِيلُ تَحْلِيلِهِ ، وَالْحَرَامَ مَا قَامَ دَلِيلُ تَحْرِيمِهِ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ، كَمَا أَنَّ مِلْكَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ يَقْتَضِي التَّحْلِيلَ وَمِلْكَ الْآخَرِ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ ، وَإِنَّمَا غَلَبَ دَرْءُ الْحُدُودِ مَعَ تَحَقُّقِ الشُّبْهَةِ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْعُظْمَى فِي اسْتِيفَاءِ الْإِنْسَانِ لِعِبَادَةِ الدَّيَّانِ ، وَالْحُدُودُ أَسْبَابٌ مُحْظِرَةٌ فَلَا تَثْبُتُ إلَّا عِنْدَ كَمَالِ الْمَفْسَدَةِ وَتَمَحُّضِهَا ، وَخَالَفَ الظَّاهِرَةَ فِي شُبْهَةٍ لَا تَدْفَعُ التَّحْرِيمَ كَوَطْءِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ الزِّنَا عِبَارَةٌ عَنْ الْوَطْءِ الْمُحَرَّمِ ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا لِأَنَّ الْعَرَبَ وَصَفُوا اسْمَ الزِّنَا لِمَنْ وَطِئَ بُضْعًا لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ ، وَاسْتِعْمَالُ الزِّنَا فِي وَطْءٍ يُمْلَكُ بَعْضُهُ يَكُونُ تَجَوُّزًا أَوْ اشْتِرَاكًا وَكِلَاهُمَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ، وَمِثْلُ دَرْءِ الْحَدِّ بِوَطْءِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ دَرْءُ الْقَطْعِ بِسَرِقَةِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ .

قَاعِدَةٌ مِنْ الْمُسْتَثْنَيَاتِ مِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِعِبَادِهِ السَّعْيَ فِي تَحْصِيلِ مَصَالِحَ عَاجِلَةٍ وَآجِلَةٍ تَجْمَعُ كُلُّ قَاعِدَةٍ مِنْهَا عِلَّةً وَاحِدَةً ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهَا مَا فِي مُلَابَسَتِهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ أَوْ مَفْسَدَةٌ تَرْبَى عَلَى تِلْكَ الْمَصَالِحِ ، وَكَذَلِكَ شَرَعَ لَهُمْ السَّعْيَ فِي دَرْءِ مَفَاسِدَ فِي الدَّارَيْنِ أَوْ فِي أَحَدِهِمَا تَجْمَعُ كُلُّ قَاعِدَةٍ مِنْهَا عِلَّةً وَاحِدَةً ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهَا مَا فِي اجْتِنَابِهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ أَوْ مَصْلَحَةٌ تَرْبَى عَلَى تِلْكَ الْمَفَاسِدِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ رَحْمَةٌ بِعِبَادِهِ وَنَظَرٌ لَهُمْ وَرِفْقٌ ، وَيُعَبَّرُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَا خَالَفَ الْقِيَاسَ ، وَذَلِكَ جَارٍ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَاوَضَاتِ وَسَائِرِ التَّصَدُّقَاتِ . أَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ فَلَهُ أَمْثِلَةٌ : أَحَدُهَا تَغَيُّرُ أَحَدِ أَوْصَافِ الْمَاءِ بِشَيْءٍ سَالِبٍ لِطَهُورِيَّتِهِ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا يَشُقُّ حِفْظُ الْمَاءِ مِنْهُ .

الْمِثَالُ الثَّانِي : تَلَاقِي النَّجَاسَةِ وَالْمَاءِ الْقَلِيلِ مُوجِبٌ لِنَجَاسَتِهِ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ غُسَالَةَ النَّجَاسَةِ مَا دَامَتْ عَلَى الْمَحَلِّ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تُسْتَثْنَ مَا ظَهَرَ مَحَلُّ نَجَسٍ إلَّا بِقُلَّتَيْنِ ، فَإِذَا انْفَصَلَ فَالْأَصَحُّ بَقَاءُ طَهَارَتِهِ .

الْمِثَالُ الثَّالِثُ : اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِي الْحَدَثِ سَالِبٌ لِطُهُورَتِهِ إذَا انْفَصَلَ عَلَى الْأَصَحِّ يَسْلُبُهَا مَا دَامَ عَلَى الْمَحَلِّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي النَّجَاسَةِ ، وَقَالُوا لَوْ انْغَمَسَ الْجُنُبُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ نَاوِيًا رَفْعَ الْحَدَثِ لَمْ يَسْلُبْ طَهُورِيَّتَهُ حَتَّى يَنْفَصِلَ عَنْهُ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إذَا طَهُرَ جَسَدُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ تُسْلَبَ طَهُورِيَّتُهُ وَإِنْ لَمْ يَنْفَصِلْ ، إذْ لَا حَاجَةَ إلَى الْحُكْمِ بِبَقَاءِ طَهُورِيَّتِهِ بَعْدَ تَطْهِيرِ الْمَحَلِّ . وَلَوْ قِيلَ إنَّمَا طَهُرَ الْجَسَدُ مِنْ الْحَدَثِ بِالْمِقْدَارِ الَّذِي لَاقَاهُ مِنْ الْمَاءِ دُونَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَكَانَ لَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ إلَّا لِلْقَدْرِ الْمُطَهِّرِ ثُمَّ يُنْسَبُ بِالْمِقْدَارِ الْمُطَهِّرِ إلَى بَقِيَّةِ الْمَاءِ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُغَيِّرُهُ لَوْ خَالَفَهُ زَالَتْ طَهُورِيَّتُهُ ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُخَالِفُهُ فَلَا وَجْهَ لِزَوَالِ طَهُورِيَّتِهِ لِمَا كَانَ بَعِيدًا .

الْمِثَالُ الرَّابِعُ : اسْتِعْمَالُ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ عَلَى النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ لَكِنَّهُ يُبَاحُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَفَقْدِ الْآنِيَةِ الْمُبَاحَةِ .

الْمِثَالُ الْخَامِسُ : إيقَاعُ الطَّهَارَةِ عَلَى غَيْرِ مَحَلِّ الْحَدَثِ أَوْ مَا اتَّصَلَ بِمَحَلِّ الْحَدَثِ عَبَثٌ لَكِنَّهُ جَازَ عَلَى الْخِفَافِ وَالْعَصَائِبِ وَالْجَبَائِرِ لِمَسِّ الْحَاجَةِ إلَى لُبْسِ الْخُفِّ ، وَلِلضَّرُورَةِ إلَى وَضْعِ الْعَصَائِبِ وَالْجَبَائِرِ كَيْ لَا يَعْتَادَ الْمُكَلَّفُ تَرْكَ الْمَسْحِ فَيَثْقُلَا عَلَيْهِ عِنْدَ إمْكَانِهِمَا الْغَسْلُ .

الْمِثَالُ السَّادِسُ : الصَّلَاةُ مَعَ الْحَدَثِ مَحْظُورَةٌ لَكِنَّهَا جَازَتْ لِلتَّيَمُّمِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ شَرْعًا وَحِسًّا عِنْدَ الْأَمْرَاضِ الَّتِي يُخْشَى مِنْهَا عَلَى النُّفُوسِ وَالْأَعْضَاءِ أَوْ الْمَشَاقِّ الشَّدِيدَةِ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ إقَامَةً لِمَصَالِحِ الصَّلَاةِ الَّتِي لَا تُدَانِيهَا مَصَالِحُ الطَّهَارَةِ .

الْمِثَالُ السَّابِعُ : الْحَدَثُ مَانِعٌ مِنْ ابْتِدَاءِ الطَّهَارَةِ قَاطِعٌ لِأَحْكَامِهَا بَعْدَ انْعِقَادِهَا لَكِنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ فِي حَقِّ الْمُسْتَحَاضَةِ وَمَنْ عُذْرُهُ دَائِمٌ كَسَلَسِ الْبَوْلِ وَسَلَسِ الْمَذْيِ وَذَرَبِ الْمَعِدَةِ ، لِأَنَّ مَا يَفُوتُ مِنْ مَصَالِحِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَشَرَائِطهَا أَعْظَمُ مِمَّا يَفُوتُ مِنْ مَصَالِحِ الطَّهَارَةِ .

الْمِثَالُ الثَّامِنُ : الْجَمَادَاتُ كُلُّهَا طَاهِرَةٌ لِأَنَّ أَوْصَافَهَا مُسْتَطَابَةٌ غَيْرُ مُسْتَقْذَرَةٍ وَاسْتُثْنِيَ مِنْهَا الْخَمْرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ تَغْلِيظًا لِأَمْرِهَا ، وَالْحَيَوَانَاتُ كُلُّهَا طَاهِرَةٌ وَاسْتُثْنِيَ مِنْهَا الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَفُرُوعُهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَغْلِيظًا لِأَمْرِهِمَا وَتَنْفِيرًا مِنْ مُخَالَطَتِهِمَا ، لِأَنَّ الْكَلْبَ يُرَوِّعُ الضَّيْفَ وَابْنَ السَّبِيلِ ، وَالْخِنْزِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْهُ لِوُجُوبِ قَتْلِهِ بِكُلِّ حَالٍ ، وَلَا يَجُوزُ اقْتِنَاءُ الْكِلَابِ إلَّا لِحَاجَةٍ مَاسَةٍ كَحِفْظِ الزَّرْعِ وَالْمَوَاشِي وَاكْتِسَابِ الصَّيُودِ .

الْمِثَالُ التَّاسِعُ : الْمَيْتَاتُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مَظِنَّةُ الْعِيَافَةِ وَالِاسْتِقْذَارِ ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ الْآدَمِيُّ لِكَرَامَتِهِ وَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ ، وَمَا يَسْتَحِيلُ مِنْ الطَّعَامِ كَدُودِ الْخَلِّ وَالتُّفَّاحِ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ إذَا ذُكِّيَ الْحَيَوَانُ فَوُجِدَ فِي جَوْفِهِ جَنِينٌ مَيِّتٌ وَلَوْ وُجِدَ حَيًّا فَقَصَّرَ فِي ذَبْحِهِ حَتَّى مَاتَ نَجِسَ وَحَرُمَ ، وَاخْتُلِفَ فِي مَيْتَةِ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ . الْمِثَالُ الْعَاشِرُ : الْأَصْلُ فِي الطِّهَارَاتِ أَنْ يَتْبَعَ الْأَوْصَافَ الْمُسْتَطَابَةَ ، وَفِي النَّجَاسَةِ أَنْ يَتْبَعَ الْأَوْصَافَ الْمُسْتَخْبَثَةَ . وَكَذَلِكَ إذَا صَارَ الْعَصِيرُ خَمْرًا تَنَجَّسَ لِلِاسْتِخْبَاثِ الشَّرْعِيِّ . وَكَذَلِكَ إذَا صَارَ خَلًّا لِلتَّطَيُّبِ الشَّرْعِيِّ وَالْحِسِّيِّ وَكَذَلِكَ أَلْبَانُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ لَمَّا تَبَدَّلَتْ أَوْصَافُهَا إلَى الِاسْتِطَابَةِ طَهُرَتْ فَكَذَا الْمُخَاطُ وَالْبُصَاقُ وَالدَّمْعُ وَالْعَرَقُ وَاللُّعَابُ ، وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ الْمَخْلُوقُ مِنْ النَّجَاسَاتِ ، وَكَذَلِكَ الثِّمَارُ الْمَسْقِيَّةُ بِالْمِيَاهِ النَّجِسَةِ طَاهِرَةٌ مُحَلَّلَةٌ لِاسْتِحَالَتِهَا إلَى صِفَاتٍ مُسْتَطَابَةٍ . وَكَذَلِكَ بَيْضُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ وَالْمِسْكُ وَالْإِنْفَحَة وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي رَمَادِ النَّجَاسَاتِ فَمِنْ طُهْرِهِ اُسْتُدِلَّ بِتَبْدِيلِ أَوْصَافِهِ الْمُسْتَخْبَثَةِ بِالْأَوْصَافِ الْمُسْتَطَابَةِ ، وَكَمَا تُطَهَّرُ النَّجَاسَاتُ بِاسْتِحَالَةِ أَوْصَافِهَا فَكَذَلِكَ تُطَهَّرُ الْأَعْيَانُ الَّتِي أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ ، وَإِذَا دُبِغَ الْجِلْدُ فَلَا بُدَّ مِنْ إزَالَةِ فَضَلَاتِهِ وَتَغَيُّرِ صِفَاتِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْإِزَالَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِحَالَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هِرٌّ مُرَكَّبٌ مِنْهُمَا .

الْمِثَالُ الْحَادِيَ عَشَرَ : الْمَقْصُودُ بِالتَّطَهُّرِ مِنْ الْأَحْدَاثِ وَالْأَخْبَاثِ ، تَعْظِيمُ الْإِلَهِ وَإِجْلَالِهِ مِنْ أَنْ يُنَاجَى أَوْ يُتْلَى كِتَابُهُ أَوْ يُمْكَثَ فِي بُيُوتِهِ مَعَ وُجُودِ الْأَحْدَاثِ وَالْأَخْبَاثِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمُسْتَثْنَى مِنْ الْأَحْدَاثِ . وَأَمَّا الْمُسْتَثْنَى مِنْ الْأَخْبَاثِ فَكُلُّ نَجَاسَةٍ يَعُمُّ الِابْتِلَاءُ بِهَا كَفَضْلَةِ الِاسْتِجْمَارِ وَدَمِ الْبَرَاغِيثِ وَالْبَثَرَاتِ وَطِينِ الشَّارِعِ الْمَحْكُومِ بِنَجَاسَتِهِ فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ وَلَا يُعْفَى عَنْ كَثِيرِهِ لِنُدْرَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَلِيلِهِ وَلِتَفَاحُشِهِ وَإِذَا كَانَتْ الْخَرَّاجَةُ نَضَّاخَةً فَحُكْمُهَا حُكْمُ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ وَأَمَّا تَفَاحُشُ كَثْرَتِهِ كَالنَّجَاسَةِ تَعُمُّ جَمِيعَ الْجَسَدِ وَالْمُصَلَّى فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهَا فِي الصَّلَاةِ إذَا لَمْ يَجِدْ مَا يُزِيلُهَا وَلَمْ يُمْكِنْهُ التَّحَوُّلُ عَنْهَا ، لِأَنَّ مَصْلَحَةَ مَا يَفُوتُ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَشَرَائِطِهَا أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ مَا يَفُوتُ مِنْ طَهَارَةِ الْأَخْبَاثِ .

الْمِثَالُ الثَّانِي عَشَرَ : سَتْرُ الْعَوْرَاتِ وَالسَّوْآت وَاجِبٌ وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْمُرُوآت وَأَجْمَلِ الْعَادَاتِ وَلَا سِيَّمَا فِي النِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ ، لَكِنَّهُ يَجُوزُ لِلضَّرُورَاتِ وَالْحَاجَاتِ . أَمَّا الْحَاجَاتُ فَكَنَظَرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ إلَى صَاحِبِهِ ، وَكَذَلِكَ نَظَرُ الْمَالِكِ إلَى أَمَتِهِ الَّتِي تَحِلُّ لَهُ وَنَظَرُهَا إلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ نَظَرُ الشُّهُودِ لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَاتِ ، وَنَظَرُ الْأَطِبَّاءِ لِحَاجَةِ الْمُدَاوَاةِ ، وَالنَّظَرُ إلَى الزَّوْجَةِ الْمَرْغُوبِ فِي نِكَاحِهَا قَبْلَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا إنْ كَانَتْ مِمَّنْ تُرْجَى إجَابَتُهَا . وَكَذَلِكَ يَجُوزُ النَّظَرُ لِإِقَامَةِ شَعَائِرِ الدِّينِ كَالْخِتَانِ وَإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الزُّنَاةِ ، وَإِذَا تَحَقَّقَ النَّاظِرُ إلَى الزَّانِيَيْنِ مِنْ إيلَاجِ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ حَرُمَ عَلَيْهِ النَّظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ ، إذْ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَفَ الشَّاهِدُ عَلَى الْعَيْبِ أَوْ الطَّبِيبُ عَلَى الدَّاءِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ . لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِذَلِكَ ، لِأَنَّ مَا أُحِلَّ إلَّا لِضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَيُزَالُ بِزَوَالِهَا . وَأَمَّا الضَّرُورَاتُ فَكَقَطْعِ السِّلَعِ الْمُهْلِكَاتِ وَمُدَاوَاةِ الْجِرَاحَاتِ الْمُتْلِفَاتِ ، وَيُشْتَرَطُ فِي النَّظَرِ إلَى السَّوْآت لِقُبْحِهَا مِنْ شِدَّةِ الْحَاجَةِ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِي النَّظَرِ إلَى سَائِرِ الْعَوْرَاتِ ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي النَّظَرِ إلَى سَوْأَةِ النِّسَاءِ مِنْ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِي النَّظَرِ إلَى سَوْأَةِ الرِّجَالِ ، لِمَا فِي النَّظَرِ إلَى سَوْآتِهِنَّ مِنْ خَوْفِ الِافْتِتَانِ ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ النَّظَرُ إلَى مَا قَارَبَ الرُّكْبَتَيْنِ مِنْ الْفَخِذَيْنِ كَالنَّظَرِ إلَى الْأَلْيَتَيْنِ .

الْمِثَالُ الثَّالِثَ عَشَرَ : يَجِبُ التَّوَجُّهُ فِي الصَّلَوَاتِ إلَى أَفْضَلِ الْجِهَاتِ لَكِنَّهُ جَازَ تَرْكُهُ فِي نَوَافِلِ الْأَسْفَارِ تَحْصِيلًا لِمَصَالِحَ ، وَجَعَلَ صَوْبَ السَّفَرِ بَدَلًا مِنْ الْقِبْلَةِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ ، كَمَا جُعِلَتْ جِهَةُ مُحَارَبَةِ الْكُفَّارِ بَدَلًا مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهَا وَحَثَّتْ الضَّرُورَةُ عَلَيْهَا .

الْمِثَالُ الرَّابِعَ عَشَرَ : تَنْقِيصُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ مَمْنُوعٌ وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ الْفَاتِحَةُ وَقِيَامُهَا فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ جَبْرًا لَهَا بِشَرَفِ الِاقْتِدَاءِ .

الْمِثَالُ الْخَامِسَ عَشَرَ : الزِّيَادَةُ عَلَى قَعَدَاتِ الصَّلَاةِ وَسَجَدَاتِهَا مُبْطِلٌ لَهَا إلَّا فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي إذَا اقْتَدَى بِالْإِمَامِ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ الرُّكُوعِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِسَجْدَتَيْنِ وَقَعْدَةٍ بَيْنَهُمَا ، وَلَوْ أَدْرَكَ ذَلِكَ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ لَزَادَ عَلَى ذَلِكَ أَرْكَانَ التَّشَهُّدَ وَتَطْوِيلَ الْقُعُودِ ، وَلَوْ قَرَأَ الْمَسْبُوقُ بَعْضَ الْفَاتِحَةِ فَرَجَعَ الْإِمَامُ قَبْلَ إتْمَامِهِ فَالْمُخْتَارُ إلْحَاقُهُ بِالْمَسْبُوقِ بِجَمِيعِ قِرَاءَةِ الْقِيَامِ .

الْمِثَالُ السَّادِسَ عَشَرَ : مُسَاوَقَةُ الْإِمَامِ الْمَأْمُومَ فِي أَرْكَان الصَّلَاةِ جَائِزَةٌ إلَّا فِي الْإِحْرَامِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إذْ بِهِ الِانْعِقَادُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْأَفْضَلُ أَنْ يُسَاوِقَ فِيهِ لِيَكُونَ مُقْتَدِيًا مِنْ أَوَّلِ الصَّلَاةِ إلَى آخِرِهَا .

الْمِثَالُ السَّابِعَ عَشَرَ : مُخَالَفَةُ الْمُؤْتَمِّ الْإِمَامَ بِالْمُسَابَقَةِ إلَى الْأَرْكَانِ إنْ كَثُرَتْ أَفْسَدَتْ الصَّلَاةَ إلَّا مَعَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ فَمُسَابَقَتُهُ بِرُكْنَيْنِ مُبْطِلَةٌ مَعَ الْعَمْدِ ، وَفِي الْمُسَابَقَةِ بِرُكْنٍ وَاحِدٍ خِلَافٌ ، وَلَوْ سَابَقَ إلَى الْأَرْكَانِ وَاجْتَمَعَ مَعَ الْإِمَامِ فِي كُلِّ رُكْنٍ مِنْهَا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ . وَالتَّخَلُّفُ كَالتَّقَدُّمِ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ فِي صَلَاةِ عُسْفَانَ . وَفِي التَّأَخُّرِ بِأَوَائِلِ الْأَرْكَانِ ، وَإِذَا شَرَعَ الْإِمَامُ فِي الِانْتِقَالِ إلَى رُكْنٍ مِنْ الْأَرْكَانِ فَالسُّنَّةُ أَنْ لَا يُتَابِعَهُ الْمَأْمُومُ حَتَّى يُلَابِسَ الرُّكْنَ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يَشْرَعُ فِي مُتَابَعَتِهِ ، وَالِانْتِظَارُ فِي قَوْمَاتِ الصَّلَاةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَفِي الِانْتِظَارِ فِي الرُّكُوعِ قَوْلَانِ . .

الْمِثَالُ الثَّامِنَ عَشَرَ : الْفِعْلُ الْكَثِيرُ الْمُتَوَالِي مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ إلَّا فِي حَالِ النِّسْيَانِ وَفِي حَالِ الْتِحَامِ الْقِتَالِ .

الْمِثَالُ التَّاسِعَ عَشَرَ : التَّخَلُّفُ بِأَرْكَانٍ كَثِيرَةٍ وَالِانْتِظَارُ فِي الْقِيَامِ مَمْنُوعٌ إلَّا فِي التَّخَلُّفِ لِلْحِرَاسَةِ فِي صَلَاةِ عُسْفَانَ ، وَفِي الِانْتِظَارِ فِي صَلَاةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ تَقْدِيمًا لِمَصَالِحِ الْجِهَادِ عَلَى مَصَالِحِ الِاقْتِدَاءِ وَعَلَى التَّحْقِيقِ هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ مَصَالِحِ الِاقْتِدَاءِ وَمَصَالِحِ الْجِهَادِ ، فَإِنَّ الْحِرَاسَةَ وَالِانْتِظَارَ ضَرْبٌ مِنْ الْجِهَادِ ، وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ فِي صَلَاةِ شِدَّةِ الْخَوْفِ بَيْنَ الْجِهَادِ وَبَيْنَ الْإِتْيَانِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَرْكَانِ .

الْمِثَالُ الْعِشْرُونَ : لُبْسُ الذَّهَبِ وَالتَّحَلِّي بِهِ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَحَاجَةٍ مَاسَّةٍ ، وَكَذَلِكَ الْفِضَّةُ إلَّا الْخَاتَمَ وَآلَاتِ الْحَرْبِ ، وَكَذَلِكَ الْحَرِيرُ لَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ إلَّا لِضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ مَاسَّةٍ . وَيَجُوزُ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالتَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلنِّسَاءِ تَحْبِيبًا لَهُنَّ إلَى الرِّجَالِ ، فَإِنَّ حُبَّهُنَّ حَاثٌّ عَلَى إيلَادِهِنَّ مَنْ يُبَاهِي بِهِ الرَّسُولُ الْأَنْبِيَاءَ وَيَنْتَفِعُ بِهِ الْوَالِدُ إنْ عَاشَ بِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَوْلَادِ وَالْأَحْفَادِ ، وَإِنْ مَاتَ كَانَ فَرْطًا لِأَبَوَيْهِ وَأَجْرًا وَذُخْرًا وَوِقَايَةً مِنْ النَّارِ بِحَيْثُ لَا تُصِيبُهُ إلَّا تَحِلَّةُ الْقَسَمِ .

الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : تَجْلِيلُ الدَّوَابِّ بِالْجُلُودِ النَّجِسَةِ جَائِزٌ إلَّا جِلْدَ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ .

الْمِثَالُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ : الصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَمْوَاتِ لِافْتِقَارِهِمْ إلَى رَفْعِ وَتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ إلَّا الْأَطْفَالَ لَا يُدْعَى لَهُمْ بِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ ، لَكِنْ يُدْعَى لَهُمْ بِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ لِافْتِقَارِهِمْ إلَيْهَا ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا يَدْعُو لِصَبِيٍّ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ : أَنْ يُعِيذَهُ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَلَيْسَ هَذَا بِبَعِيدٍ إذْ يَجُوزُ أَنْ يُبْتَلَى فِي قَبْرِهِ كَمَا يُبْتَلَى فِي الدُّنْيَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَنْبٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا رَأْيًا مِنْ أَنَسٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَ ذَاكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا يُصَلَّى عَلَى الشُّهَدَاءِ فَإِنَّهُمْ قَدْ غُفِرَتْ لَهُمْ الزَّلَّاتُ لِأَنَّ أَوَّلَ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِ الشَّهِيدِ يُكَفَّرُ بِهَا كُلُّ ذَنْبٍ إلَّا الدَّيْنَ . فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا صُلِّيَ عَلَيْهِمْ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ كَمَا صُلِّيَ عَلَى الْأَطْفَالِ ؟ قُلْنَا : لَوْ صُلِّيَ عَلَيْهِمْ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُمْ قَدْ اسْتَغْنَوْا عَنْ الشَّفَاعَاتِ ، فَتُرِكَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ تَرْغِيبًا لِلنَّاسِ فِي الْجِهَادِ . فَإِنْ قِيلَ : لِمَ تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَدِينِ مَعَ افْتِقَارِهِ إلَيْهَا قُلْنَا ؟ تَرَكَهَا تَنْفِيرًا مِنْ الدُّيُونِ ، لِمَا فِي الْعَجْزِ عَنْ أَدَائِهَا مِنْ مَضَرَّةِ أَرْبَابِهَا ، وَلِأَنَّ الْمَدِينَ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَقَدْ سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَثْرَةِ اسْتِعَاذَتِهِ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ فَقَالَ : { إنَّ الرَّجُلَ إذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ } . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ صَلَّى الصَّحَابَةُ عَلَى سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مَعَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ؟ قُلْنَا : كَمَا أُمِرُوا بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ أُمِرُوا بِمِثْلِ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ . فَإِنْ قِيلَ : الدُّعَاءُ شَفَاعَةٌ لِلْمَدْعُوِّ لَهُ فَكَيْفَ يُشَفَّعُ ؟ قُلْنَا لَيْسَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ شَفَاعَةً لَهُ ، وَلَكِنْ قَدْ أَمَرَنَا بِأَنْ نُكَافِئَ مَنْ أَسْدَى إلَيْنَا الْمَعْرُوفَ وَإِنْ عَجَزْنَا عَنْ مُكَافَأَتِهِ أَنْ نَدْعُوَ لَهُ بَدَلًا مِنْ مُكَافَأَتِهِ ، وَلَا مَعْرُوفَ أَكْمَلَ مِمَّا أَسَدَاهُ إلَيْنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَحْنُ نَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُكَافِئَهُ عَنَّا لِعَجْزِنَا عَنْ مُكَافَأَتِهِ .

الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ : تَكْفِينُ الْأَمْوَاتِ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُعْتَادَةِ - إكْرَامًا لَهُمْ - وَاجِبٌ . وَكَذَلِكَ تَطَهُّرُهُمْ مِنْ النَّجَاسَاتِ ، اُسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ الشُّهَدَاءُ فَإِنَّهُمْ يُدْفَنُونَ فِي ثِيَابِهِمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ لِيَقْدَمُوا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْعَطْفَ عَلَيْهِمْ وَالرَّحْمَةَ لَهُمْ ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا نَاضَلَ عَنْ سَيِّدِهِ فَقُتِلَ لِأَجْلِ مُنَاضَلَتِهِ ثُمَّ أُحْضِرَ إلَيْهِ مَلْفُوفًا فِي ثِيَابِهِ مُخَضَّبًا بِدِمَائِهِ فَإِنَّهُ يَعْطِفُ عَلَيْهِ وَيَرْحَمُهُ وَيَوَدُّ مُكَافَأَتَهُ عَلَى صَنِيعَتِهِ ، لِأَنَّهُ بَذَلَ فِي طَاعَتِهِ أَنْفَسَ الْأَشْيَاءِ عِنْدَهُ وَأَحَبَّهَا إلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَى عَبْدَهُ مُجَنْدَلًا بِالْفَلَاةِ تَأْكُلُهُ السِّبَاعُ وَالطَّيْرُ لَكَانَ عَطْفُهُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ ، وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قُتِلَ بِأُحُدٍ : لَوْلَا أَنْ تَكُونَ سُنَّةً لَتَرَكْته حَتَّى يُحْشَرَ مِنْ بُطُونِ السِّبَاعِ وَحَوَاصِلِ الطَّيْرِ } وَكَذَلِكَ يُحْشَرُ الشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجِرَاحَاتِهِمْ تَنْعَبُ دَمًا ، وَيُقَارِبُ هَذَا الْمَعْنَى الْمُحْرِمُ إذَا مَاتَ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا .

الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : الْحَوْلُ مُعْتَبَرٌ فِي زَكَاةِ النَّعَمِ وَالنَّقْدَيْنِ إلَّا فِي النِّتَاجِ كَمَا أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي زَكَاةِ التِّجَارَةِ إلَّا فِي الْأَرْبَاحِ لِأَنَّهُمَا نَشْئًا عَنْ النِّصَابِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ فَتَبِعَاهُ فِي الْحَوْلِ . الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ : إذَا نَقَصَ الْمَالُ عَنْ النِّصَابِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ لَمْ يَنْعَقِدْ الْحَوْلُ ، وَإِنْ نَقَصَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ انْقَطَعَ الْحَوْلُ إلَّا فِي زَكَاةِ التِّجَارَةِ عَلَى قَوْلٍ مُعْتَبَرٍ وَفِيهِ إشْكَالٌ . الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ : إذَا قُلْنَا بِمِلْكِ الْفُقَرَاءِ الزَّكَاةَ بِحَوْلِ الْحَوْلِ فَنَفَقَةُ نَصِيبِهِمْ عَلَى الْمُزَكِّي ، وَهَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ إيجَابِ نَفَقَةِ الْمِلْكِ عَلَى الْمَالِكِ ، وَلِلْمَالِكِ إبْدَالُ مَا مَلَكُوهُ مِنْ الزَّكَاةِ بِمِثْلِهِ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ ، وَهَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ ، لَكِنَّهُ جَازَ رِفْقًا بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فِيمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ ، إذْ لَا يَجُوزُ إبْدَالُهُ إلَّا بِمِثْلِهِ وَأَفْضَلَ مِنْهُ .

الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : إذَا بَدَّلَ الْمَالِكُ النِّصَابَ الزَّكَوِيَّ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ انْقَطَعَ الْحَوْلُ إلَّا فِي زَكَاةِ التِّجَارَةِ ، فَإِنَّ قِيمَةَ الْعُرُوضِ فِيهَا تُبَدَّلُ بِالْقِيمَةِ الْقَائِمَةِ بِأَثْمَانِهَا وَلَا يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ بِذَلِكَ تَقْدِيرًا لِاسْتِمْرَارِهَا كَيْ لَا يَتَضَرَّرَ الْفُقَرَاءُ بِذَلِكَ .

الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ : جُبْرَانُ الْأَسْنَانِ مُسْتَثْنًى مِنْ قِيَاسِ الْجُبْرَانِ فَإِنَّ إبْدَالَهَا يَتَقَدَّرُ بِقِيمَتِهَا مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ ، وَإِنَّمَا اُسْتُثْنِيَ ذَلِكَ لِعُسْرِ إحْضَارِ الْمُقَوِّمِينَ إلَى أَهْلِ الْبَوَادِي ، وَلَمْ يَجِبْ فِيهَا ذَهَبٌ لِعِزَّتِهِ فِي الْبَوَادِي ، وَالتَّقْدِيرُ بِالْخَرْصِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِأَنَّ الْخَطَأَ يُكْثِرُ فِيهِ ، بِخِلَافِ الْمِيزَانِ وَالزَّرْعِ وَالْكَيْلِ وَالتَّقْوِيمِ ، وَأَضْبَطُ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ الْوَزْنُ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ فِيمَا بَيْنَ الْوَزْنَيْنِ ، وَأَبْعَدُهَا الْخَرْصُ ، لَكِنَّهُ جَازَ فِي الزَّكَاةِ وَالْمُسَاقَاةِ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ الْعَامَّةِ ، فَإِنَّ الرُّطَبَ وَالْعِنَبَ إذَا بَدَا صَلَاحُهُمَا وَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِمَا خُرِصَ عَلَى الْمَالِكِينَ وَضَمِنُوا مِقْدَارَ الزَّكَاةِ بِالْخَرْصِ ، لِأَنَّهُمْ لَوْ مَنَعُوا مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالْأَكْلِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لَتَضَرَّرَ الْمُلَّاكُ وَالنَّاسُ بِمَنْعِهِمْ مِنْ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَيْبَسَ وَيُقَدَّرَ بِالْمِكْيَالِ ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْخَرْصِ فِي الْمُسَاقَاةِ لِئَلَّا يَمْتَنِعَ عَلَى الشُّرَكَاءِ الْأَكْلُ وَالتَّصَرُّفُ ، وَإِذَا امْتَنَعَ عَلَيْهِمْ امْتَنَعَ عَلَى كَافَّةِ النَّاسِ وَذَلِكَ حَزْرٌ عَامٌّ دُونَ عُمُومِ ضَرَرِ الزَّكَاةِ ، فَإِنَّ الشَّرِيكَيْنِ هَهُنَا يَتَصَرَّفَانِ فِيهِ بِالرِّضَا وَإِنْ لَمْ يُخْرَصْ ، وَالْفُقَرَاءُ يَتَعَذَّرُ رِضَاهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَعَيَّنُونَ .

الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ أَمْثِلَةِ مُسْتَثْنَيَاتِ الْعِبَادَاتِ : لَا زَكَاةَ فِيمَا نَقَصَ مِنْ النَّعَمِ عَنْ النِّصَابِ إلَّا فِي الْخُلْطَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَوْ تَخَالَطَ أَرْبَعُونَ رَجُلًا بِأَرْبَعِينَ شَاةً أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا بِأَرْبَعِينَ شَاةً لَأَوْجَبَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الزَّكَاةَ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ شَاةً أَوْ نِصْفَ شَاةٍ مَعَ كَوْنِهِ مَالًا نَزْرًا لَا يَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا اُعْتُبِرَتْ النُّصُبُ لِيَكُونَ الْمَالُ مُحْتَمِلًا لِلْمُوَاسَاةِ فَهَلَّا أَوْجَبْتُمْ الزَّكَاةَ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ مِنْ الْجَوَاهِرِ وَالْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ وَالْبِغَالِ وَالْقُرَى وَالْبَسَاتِينِ وَالدُّورِ وَالدَّكَاكِينِ مَا يُسَاوِي مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ لِاحْتِمَالِ مَالِهِ لِلْمُوَاسَاةِ ؟ وَكَيْفَ لَا يَجِبُ عَلَى هَذَا الزَّكَاةُ وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الضَّعِيفِ ذِي الْعِيَالِ فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ أَوْ فِي جُزْءٍ مِنْ بَعِيرٍ فِي صُورَةِ الْخُلْطَةِ ؟ قُلْت إنْ اشْتَمَلَتْ قُرَاهُ وَبَسَاتِينُهُ عَلَى الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ مِنْ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ وَالزَّرْعِ كَانَتْ زَكَاتُهَا مُجْزِيَةً عَنْ زَكَاةِ رِقَابِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَالٌ زَكَوِيٌّ ، فَإِنَّ ثِمَارَ بَسَاتِينِهَا تُبَاعُ بِالنُّقُودِ فِي الْغَالِبِ ، وَكَذَلِكَ تُؤَجَّرُ أَرَاضِيهَا بِالنُّقُودِ فِي الْغَالِبِ فَإِنْ بَقِيَتْ نَقُودُهَا حَتَّى حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ قَامَتْ زَكَاةُ النُّقُودِ مَقَامَ زَكَاةِ رِقَابِهَا ، وَإِنْ اتَّجَرَ فِي نَقُدْهَا قَامَتْ زَكَاةُ التِّجَارَةِ مَقَامَ زَكَاةِ النَّقْدِ ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي إيجَارِ الدُّورِ وَالدَّكَاكِينِ . وَكَذَلِكَ الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي زَكَاةِ الْخَيْلِ . وَأَمَّا الْجَوَاهِرُ فِي الْغَالِبِ أَنَّهَا لَا تُقْتَنَى بَلْ يُتَّجَرُ فِيهَا وَلَا يَدَّخِرُهَا إلَّا الْقَلِيلُ مِنْ النَّاسِ ، وَأَمَّا اقْتِنَاءُ الْمُلُوكِ لَهَا ، فَإِنْ كَانَتْ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا زَكَاةَ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَالْمُلُوكُ فُقَرَاءُ وَلَيْسُوا بِأَغْنِيَاءَ بِسَبَبِ مَا حَازُوهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنْفُسِهِمْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا ، وَلَا زَكَاةَ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ إذْ لَا يَتَعَيَّنُ مُسْتَحِقُّوهُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا اشْتَرَوْهُ لِأَنْفُسِهِمْ : فَإِنْ اشْتَرَوْهُ بِعَيْنِ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ لَمْ يَمْلِكُوهُ ، وَإِنْ اشْتَرَوْا فِي ذِمَّتِهِمْ وَنَقَدُوا ثَمَنَهُ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ كَانَتْ أَثْمَانُهُ دَيْنًا عَلَيْهِمْ . وَفِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى الْمَدِينِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ خَالَفَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْجَوَاهِرِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنْ الْبِحَارِ .

الْمِثَالُ الثَّلَاثُونَ : لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ ، وَتَثْبُتُ أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ بِخَبَرِ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ ، وَلَا يَثْبُتُ شَوَّالٌ إلَّا بِعَدْلَيْنِ عَلَى الْمَذْهَبِ ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ رَمَضَانُ بِعَدْلٍ وَاحِدٍ ، لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَبْعُدُ فِي الْعَادَةِ الْكَذِبُ فِيهِ فَيَصِيرُ كَالْإِخْبَارِ عَنْ الشَّرْعِيَّاتِ وَاحْتِيَاطًا لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ ، بِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا نَادِرًا ، فَلَا تُخَالَفُ قَوَاعِدُ النِّيَّاتِ لِأَجْلِهِ مَعَ نُدْرَتِهِ .

الْمِثَالُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ : لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ كَالْعِرْفَانِ وَالْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّمْجِيدِ وَالْأَذَانِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، لِأَنَّ الْغَرَضَ بِهَا تَعْظِيمُ الْإِلَهِ ، وَلَيْسَ الْمُنِيبُ مُعْظَمًا بِتَعْظِيمِ النِّيَابَةِ ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي حَقِّ الْعَاجِزِينَ إمَّا بِالْمَوْتِ أَوْ بِالْهَرَمِ أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ ، وَلَمْ يُسْتَثْنَ مِنْ الصَّلَاةِ إلَّا رَكْعَتَا الطَّوَافِ فِي نُسُكِ النِّيَابَةِ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلنُّسُكِ ، وَقَدْ يَجُوزُ بِالتَّبَعِيَّةِ مَا لَا يَجُوزُ بِالْأَصَالَةِ ، وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَقَدْ أُلْحِقَ الِاعْتِكَافُ بِالصِّيَامِ ، وَفِيهِ بُعْدٌ إذْ لَا نَصَّ فِيهِ ، وَلَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ .

الْمِثَالُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ : مَنْ نَوَى التَّنَفُّلَ بِعِبَادَةٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ لَمْ يَنْقَلِبْ تَنَفُّلُهُ فَرْضًا إلَّا فِي النُّسُكَيْنِ .

الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ : مَنْ اسْتَنَابَ فِي عَمَلٍ يَقْبَلُ النِّيَابَةَ فَعَمَلُهُ نَاوِيًا بِهِ مُسْتَنِيبَهُ وَقَعَ لِمُسْتَنِيبِهِ إلَّا فِي النُّسُكَيْنِ فَإِنَّ الضَّرُورَةَ الْمُسْتَأْخِرَة فِي النُّسُكَيْنِ عَلَى الذِّمَّةِ إذَا نَوَى النُّسُكَيْنِ أَوْ أَحَدَهُمَا عَنْ مُسْتَنِيبِهِ .

الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ : إبْهَامُ النِّيَّةِ بَيْنَ عِبَادَتَيْنِ بَدَنِيَّتَيْنِ لَا تَصِحُّ إلَّا فِي النُّسُكَيْنِ . فَإِنَّ إبْهَامَهُ الْإِحْرَامَ يَصِحُّ ثُمَّ يَصْرِفُهُ الْمُحْرِمُ إلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ النُّسُكَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا ، وَيَصِحُّ إبْهَامُ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ ، فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِمَا الْمَالِيَّةُ كَالدُّيُونِ .

الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ : مَنْ عَلَّقَ إحْرَامَهُ بِالْعِبَادَةِ عَلَى إحْرَامِ غَيْرِهِ مِثْلُ أَنْ قَالَ صَلَّيْت صَلَاةً كَصَلَاةِ فُلَانٍ لَمْ يَصِحَّ إلَّا فِي النُّسُكَيْنِ ، فَإِذَا عَلَّقَ إحْرَامَهُ عَلَى مَا أَحْرَمَ بِهِ غَيْرُهُ فَإِنَّ إحْرَامَهُ يَنْعَقِدُ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ غَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ شَاعِرٍ بِهِ .

الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ : خُرُوجُ وَقْتِ الْعِبَادَةِ الْمُقَدَّرُ يَجْعَلُهَا قَضَاءً خَطَأً كَانَ خُرُوجُهُ أَمْ عَمْدًا إلَّا فِي جَمْعِ التَّأْخِيرِ ، وَفِي غَلَطِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَإِنَّهَا تَكُونُ أَدَاءً : أَمَّا فِي الْجَمْعِ فَلِعُذْرِ السَّفَرِ . وَأَمَّا فِي الْعِيدِ فَلِرُتْبَةِ فَوَاتِ الْأَدَاءِ ، وَأَمَّا فِي الْحَجِّ فَلِلضَّرَرِ الْعَامِّ مَعَ فَوَاتِ رُتْبَةِ الْأَدَاءِ . الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ : مَنْ أَفْسَدَ الْعِبَادَةَ بَطَلَ انْعِقَادُهَا وَوَصْفُهَا إلَّا فِي النُّسُكَيْنِ إذَا أَفْسَدَهُمَا بِالْجِمَاعِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ وَصْفُهُمَا وَهُوَ الصِّحَّةُ وَلَا يَبْطُلُ انْعِقَادُهُمَا ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا كَانَ يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِهِ قَبْلَ الْإِفْسَادِ ، وَلَيْسَ إمْسَاكُ الصَّائِمِ إذَا أَفْسَدَ صَوْمَهُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ مَفْسَدَةَ النُّسُكِ مُسْتَمِرَّةٌ فِي عِبَادَةٍ يَلْزَمُهُ كَفَّارَاتُ مَحْظُورَاتِهَا إذَا ارْتَكَبَهَا ، وَلَوْ جَامَعَ الْمُمْسِكُ فِي رَمَضَانَ بَعْدَ الْإِفْسَادِ لَمَا لَزِمَهُ كَفَّارَةُ جِمَاعِهِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي صَوْمٍ مُنْعَقِدٍ إنَّمَا هُوَ مُتَشَبِّهٌ بِالصَّائِمِينَ .

الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ : فَوَاتُ الْعِبَادَاتِ مُوجِبٌ لِقَضَائِهَا غَيْرُ نَاقِلٍ لِعِبَادَةٍ أُخْرَى إلَّا الْحَجَّ ، فَإِنَّ مَنْ فَاتَهُ لَزِمَهُ الْإِتْيَانُ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ ثُمَّ الْقَضَاءِ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ .

الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ : لَيْسَ لِلْعِبَادَاتِ كُلِّهَا إلَّا تَحْلِيلٌ وَاحِدٌ ، أَمَّا الصَّلَاةُ فَيَخْرُجُ مِنْهَا بِالتَّسْلِيمِ . وَأَمَّا الصَّوْمُ فَلَا يَتَوَقَّفُ خُرُوجُهُ مِنْهُ عَلَى فِعْلِهِ وَلَا عَلَى اخْتِيَارِهِ بَلْ يَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ النَّهَارِ ، وَأَمَّا الِاعْتِكَافُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ تَارَةً بِانْتِهَاءِ مُدَّتِهِ كَالصَّوْمِ وَتَارَةً بِالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ عُذْرٍ ، بِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ خُرُوجَ أَحَدِهِمَا بِالتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ ، وَالثَّانِي بِالتَّحَلُّلِ الثَّانِي .

الْمِثَالُ الْأَرْبَعُونَ : تَرْتَفِعُ أَحْكَامُ الْعِبَادَاتِ بِمَوْتِ الْعَابِدِ إلَّا فِي النُّسُكَيْنِ فَإِنَّ الْمُحْرِمَ إذَا مَاتَ لَمْ يَجُزْ تَخْمِيرُ رَأْسِهِ وَلَا سَتْرُ بَدَنِهِ بِالْمَخِيطِ وَلَا تَطْيِيبُهُ وَلَيْسَ هَذَا اسْتِثْنَاءً عَلَى الْحَقِيقَةِ ، فَإِنَّ تَكْلِيفَهُ قَدْ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ تَكْلِيفٌ لِمَنْ يَتَوَلَّاهُ مِنْ الْأَحْيَاءِ . وَفِي ارْتِفَاعِ الْإِحْدَادِ بِمَوْتِ الْمُعْتَدَّةِ خِلَافٌ .

الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ : الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إلَّا رُكُوبَ الْهَدْيِ الْمَنْذُورِ لِلْفُقَرَاءِ ، وَدَرْءِ الْفَاضِلِ عَنْ وَلَدِهِ ، وَكَذَلِكَ قَدْرُ الزَّكَاةِ مِنْ النَّعَمِ فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ جَائِزٌ ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مِلْكًا لِلْفُقَرَاءِ .

الْمِثَالُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ : مَنْ نَذَرَ قُرْبَةً لَزِمَهُ الْقِيَامُ بِمَا نَذَرَ إلَّا نَذْرَ اللَّجَاجِ فَإِنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْمُلْتَزِمَ بِالنَّذْرِ حَاثًّا عَلَى الْفِعْلِ أَوْ زَاجِرًا عَنْهُ أَشْبَهَ الْيَمِينَ فَيَتَخَيَّرُ عَلَى قَوْلٍ بَيْنَ الْقِيَامِ بِمَا نَذَرَهُ ، وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ ، وَتَتَعَيَّنُ الْكَفَّارَةُ عَلَى قَوْلٍ آخَرَ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ } .

الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ : مَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا فَحَجَّ رَاكِبًا أَوْ أَنْ يَحُجَّ رَاكِبًا فَحَجَّ مَاشِيًا فَقَدْ بَنَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ هُوَ الْمَشْيُ أَوْ الرُّكُوبُ وَبَرَّأَهُ بِالْأَفْضَلِ مِنْهُمَا ، وَقَالَ آخَرُونَ لَا يَبْرَأُ مِنْ الْفَاضِلِ مِنْهُمَا عَنْ الْمَفْضُولِ ، لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ لِأَنَّ الْمَشْيَ لَا يُجَانِسُ الرُّكُوبَ .

وَأَمَّا مَا خَالَفَ الْقِيَاسَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ فَلَهُ أَمْثِلَةٌ : أَحَدُهَا : أَنَّ الرِّضَا شَرْطٌ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ إلَّا أَنْ يَتَعَدَّدَ رِضَا الْمُتَصَرِّفِ وَالْعَامِلِ وَرِضَا نَائِبِهِمَا فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَتَصَرَّفُ فِيمَا لَزِمَهُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الْقَابِلَةِ لِلنِّيَابَةِ مَعَ غَيْبَتِهِ أَوْ امْتِنَاعِهِ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُمْ إيصَالًا لِلْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَنَفْعًا لِلْمُمْتَنِعِ بِبَرَاءَتِهِ مِنْ الْحَقِّ ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأُسَيْفِعِ جُهَيْنَةَ ، وَلَا بُدَّ لِهَذَا الرِّضَا مِنْ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْإِنْسَانُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْعَفْوِ وَالْإِبْرَاءِ ، أَمَّا مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ : كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَإِنْ لَمْ يَقُمْ مَقَامَ اللَّفْظِ عُرْفٌ تَعَيَّنَ اللَّفْظُ ، إلَّا فِيمَنْ خَرِسَ لِسَانُهُ وَتَعَذَّرَ بَيَانُهُ فَإِنَّ إشَارَتَهُ تَقُومُ مَقَامَ لَفْظِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ ، إذْ لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ وَلَا خَلَاصَ مِنْهُ . وَفِي إقَامَةِ الْكِتَابَةِ مَقَامَ اللَّفْظِ فِي حَقِّ النَّاطِقِ اخْتِلَافٌ ، وَإِنْ حَصَلَ عُرْفٌ دَالٌّ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ كَالْمُعَاطَاةِ فِي مُحَقَّرَاتِ الْبِيَاعَاتِ وَاسْتِعْمَالِ الصُّنَّاعِ ، وَتَقْدِيمِ الطَّعَامِ إلَى الضَّيْفَانِ ، فَفِي إقَامَةِ الْعُرْفِ مَقَامَ اللَّفْظِ خِلَافٌ ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الرِّضَا عَلَى الْمَقْصُودِ ، فَإِنْ حَصَلَ الْعِلْمُ أَوْ الِاعْتِقَادُ أَوْ ظَنٌّ قَوِيٌّ يَرْبَى عَلَى الظَّنِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أُقِيمَ ذَلِكَ مَقَامَ اللَّفْظِ لِقُوَّةِ دَلَالَةِ الْعُرْفِ وَإِطْرَادِهِ ، وَكَذَلِكَ كَدُخُولِ الْحَمَّامَاتِ وَالْقَيَاسِيرِ وَالْحَانَاتِ وَدُورِ الْقُضَاةِ وَالْوِلَايَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي اطَّرَدَتْ الْعَادَةُ فِيهَا بِالْجُلُوسِ لِلْخُصُومَاتِ وَالْحُكُومَاتِ وَقَدْ ذَكَرْنَا لِذَلِكَ نَظَائِرَ ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ عُرْفٌ وَلَا كِتَابَةٌ تَعَيَّنَ اللَّفْظُ كَمَا فِي الْأَنْكِحَةِ . فَإِنْ قِيلَ هَلْ يَسْتَقِلُّ أَحَدٌ بِالتَّمَلُّكِ وَالتَّمْلِيكِ ، وَهَلْ يَقُومُ أَحَدٌ مَقَامَ اثْنَيْنِ أَمْ لَا ؟ قُلْنَا : نَعَمْ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ . أَحَدُهَا : الْأَبُ يَسْتَقِلُّ بِبَيْعِ مَالِ ابْنِهِ مِنْ نَفْسِهِ وَبِبَيْعِ مَالِ نَفْسِهِ مِنْ ابْنِهِ . وَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ وَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ يَسْتَقِلُّ بِتَمْلِيكِ مَالِ ابْنِهِ مِنْ نَفْسِهِ وَبِتَمْلِيكِ مَالِ ابْنِهِ لِنَفْسِهِ ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ هَلْ يُفْتَقَرُ إلَى إيجَابٍ وَقَبُولٍ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا نَعَمْ لِيَأْتِيَ بِصُورَةِ الْعَقْدِ ، وَالثَّانِي لَا ، لِتَحَقُّقِ الرِّضَا فَإِذَا أَتَى بِأَحَدِ شِقَّيْ الْعَقْدِ أَتَى بِمَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَكَذَلِكَ الْجَدُّ لِقُوَّةِ الْوِلَايَةِ ، وَإِنْ زَوَّجَ الْجَدُّ بِنْتَ ابْنِهِ ابْنَ ابْنِهِ فَفِيهِ خِلَافٌ ، مَأْخَذُهُ إنْ تَوَلِّيَ الْأَبِ لِطَرَفَيْ الْبَيْعِ كَانَ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ أَوْ لِقُوَّةِ الْوِلَايَةِ . الْمِثَالُ الثَّانِي : اسْتِقْلَالُ الشَّفِيعِ بِأَخْذِ الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ بِهِ بِبَذْلِ الثَّمَنِ وَهَذَا اسْتِقْلَالٌ بِالتَّمَلُّكِ وَالتَّمْلِيكِ . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : إذَا ظَفِرَ الْإِنْسَانُ بِجِنْسِ حَقِّهِ بِمَالٍ مَنْ ظَلَمَهُ فَإِنَّهُ يَسْتَقِلُّ بِأَخْذِهِ ، فَإِنَّ الشَّارِعَ أَقَامَهُ مَقَامَ الْقَابِضِ وَالْمُقْبِضِ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ ، وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ جَازَ لَهُ أَخْذُهُ وَبَيْعُهُ ثُمَّ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مِنْ ثَمَنِهِ ، فَقَدْ قَامَ فِي قَبْضِهِ مَقَامَ قَابِضٍ وَمُقْبِضٍ ، وَقَامَ فِي بَيْعِهِ مَقَامَ وَكِيلٍ وَمُوَكِّلٍ ، وَقَامَ فِي أَخْذِ حَقِّهِ مَقَامَ قَابِضٍ وَمِقْبَضٍ فَهَذِهِ ثَلَاثُ تَصَرُّفَاتٍ أَقَامَهُ الشَّرْعُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مَقَامَ اثْنَيْنِ . الْمِثَالُ الرَّابِعُ : الْمُضْطَرُّ فِي الْمَخْمَصَةِ إذَا وَجَدَ طَعَامَ أَجْنَبِيٍّ أَكَلَهُ بِقِيمَتِهِ ، وَقَدْ أَقَامَهُ الشَّرْعُ مَقَامَ مُقْرِضٍ وَمُقْتَرِضٍ لِضَرُورَتِهِ . الْمِثَالُ الْخَامِسُ : اسْتِقْلَالُ الْمُلْتَقِطِ بِتَمْلِيكِ اللُّقَطَةِ إقَامَةً لَهُ مَقَامَ مُقْتَرِضٍ وَمُقْرِضٍ . الْمِثَالُ السَّادِسُ : اسْتِقْلَالُ الْقَاتِلِ بِمِلْكِ سَلَبَ الْقَتِيلِ ، وَاسْتِقْلَالُ السَّارِقِ بِمِلْكِ مَا سَرَقَهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ ، إذْ لَا حُرْمَةَ لِأَمْوَالِهِمْ حَتَّى يُشْتَرَطَ فِيهَا رِضَاهُمْ . وَكَذَلِكَ اسْتِقْلَالُ الْجُنْدِ بِتَمْلِيكِ الْغَنِيمَةِ ، وَكَذَلِكَ اسْتِقْلَالُهُمْ بِأَكْلِ أَقْوَاتِهِمْ مِنْ مَالِ الْغَنِيمَةِ وَعَلَفِ دَوَابِّهِمْ مَا دَامُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ . الْمِثَالُ السَّابِعُ : اسْتِقْلَالُ كُلِّ فَاسِخٍ بِاسْتِرْدَادِ مَا بَذَلَهُ وَبِتَمْلِيكِ مَا اسْتَبْدَلَهُ . الْمِثَالُ الثَّامِنُ : اسْتِقْلَالُ الْإِمَامِ بِإِرْقَاقِ رِجَالِ الْمُشْرِكِينَ .

الْمِثَالُ الثَّانِي : مِنْ أَمْثِلَةِ مَا خَالَفَ الْقِيَاسَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ : الرِّضَا بِالْمَجْهُولِ وَالْإِبْرَاءُ مِنْ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحَّانِ ، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَجُّهُ الرِّضَا وَالْإِبْرَاءِ مَعَ الْجَهَالَةِ بِالرِّضَا وَالْمُبَرَّأِ مِنْهُ ، كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ تَوَجُّهُ الْإِرَادَةِ إلَّا إلَى مَعْلُومٍ أَوْ مَظْنُونٍ : فَمَنْ أَبْرَأُ مِمَّا لَا يُعْلَمُ جِنْسُهُ أَوْ قَدْرُهُ بَرِئَ الْمُبَرَّأُ مِنْ الْقَدْرِ الْمَعْلُومِ مِنْهُ وَلَا يَبْرَأُ مِنْ الْمَجْهُولِ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَمَنْ بَرَّأَهُ مِنْ الْمَجْهُولِ كَانَ هَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ قَاعِدَةِ الرِّضَا ، وَلِأَجْلِ قَاعِدَةِ اعْتِبَارِ نَهْيِ الشَّرْعِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ إلَى مَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازَ مِنْهُ مَشَقَّةً عَظِيمَةً وَإِلَى مَا لَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ إلَّا مَشَقَّةً خَفِيفَةً وَإِلَى مَا بَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ مِنْ الْمَشَاقِّ عَفَا الشَّرْعُ عَنْ بَيْعِ مَا اشْتَدَّتْ مَشَقَّتُهُ : كَالْبُنْدُقِ وَالْفُسْتُقِ وَالْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ وَالْبَيْضِ وَأَسَاسِ الدَّارِ الْمَدْفُونِ فِي الْأَرْضِ وَبَاطِنِ الصَّبْرِ مِنْ الطَّعَامِ ، وَبَاطِنِ مَا فِي الْأَوَانِي مِنْ الْمَائِعَاتِ ، وَاجْتَزَأَ فِيهِ بِالرِّضَا فِيمَا عَلِمَهُ الْمُكَلَّفُ مِنْ الْأَوْصَافِ وَلَمْ يُشْتَرَطْ الرِّضَا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ . وَأَمَّا مَا خَفَّتْ مَشَقَّتُهُ : كَبَيْعِ عَبْدٍ مِنْ عَبْدَيْنِ ، وَثَوْبٍ مِنْ ثَوْبَيْنِ ، وَكَبَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَهَذَا لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ مَعَهُ إذْ لَا يَعْسُرُ اجْتِنَابُهُ . وَأَمَّا مَا يَقَعُ بَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ : كَبَيْعِ الْغَائِبِ وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فِي قِشْرَيْهِمَا وَالْمِسْكِ فِي فَأْرَتِهِ وَالْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا وَاللَّبَنِ فِي ضَرْعِهِ فَهَذَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، فَكُلَّمَا خَفَّتْ الْمَشَقَّةُ فِي اجْتِنَابِهِ كَانَ أَوْلَى بِأَنْ لَا يُحْتَمَلَ فِي الْعَقْدِ لِاضْطِرَابِ الرِّضَا فِيهِ ، وَكُلَّمَا عَظُمَتْ الْمَشَقَّةُ فِي اجْتِنَابِهِ كَانَ أَوْلَى بِأَنْ لَا يُحْتَمَلَ فِي الْعَقْدِ لِاطِّرَادِ الرِّضَا فِيهِ وَكُلَّمَا عَظُمَتْ الْمَشَقَّةُ فِي احْتِمَالِهِ كَانَ أَوْلَى بِتَحَمُّلِهِ . وَالْغَرَرُ تَارَةً يَكُونُ فِي الصِّفَاتِ : كَبَيْعِ الْغَائِبِ الْمُسْتَقْصَى الْأَوْصَافِ فَإِنَّ الْغَرَرَ بَاقٍ فِيهِ لِأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ ذَكَرَهَا مُرَدَّدَةٌ بَيْنَ الرُّتْبَةِ الْعُلْيَا وَالرُّتْبَةِ الدُّنْيَا وَالرُّتَبُ الْمُتَوَسِّطَاتُ بَيْنَ ذَلِكَ ، وَتَتَفَاوَتُ الْقِيَمُ بِتَفَاوُتِ هَذِهِ الصِّفَاتِ ، وَتَارَةً يَكُونُ الْغَرَرُ فِي تَعْيِينِ الْمَبِيعِ كَبَيْعِ عَبْدٍ مِنْ عَبْدَيْنِ فَهَذَا غَرَرٌ لَا حَاجَةَ إلَى تَحَمُّلِهِ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ بَيْعُ صَاعٍ مِنْ صُبْرَةٍ مَجْهُولَةِ الصِّيعَانِ فَإِنَّهُ عَلَى غَرَرٍ مِنْ تَعَيُّنِ الصَّاعِ مُشْبِهٌ مَا لَوْ أَشَارَ إلَى صَاعَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ فَقَالَ بِعْتُك أَحَدَ هَذَيْنِ الصَّاعَيْنِ ، وَإِلَّا أَنَّ فِي بَيْعِ صَاعٍ مِنْ صَاعَيْنِ غَرَرٌ لَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ إذْ لَا يُمْكِنُهُ إيقَاعُ الْمَبِيعِ عَلَى عَيْنِ أَحَدِ الصَّاعَيْنِ ، وَلَا يُمْكِنُ إيقَاعُ الْبَيْعِ عَلَى صَاعٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الصُّبْرَةِ ، وَلَوْ شُرِطَ فَصْلُ الصَّاعِ مِنْ الصُّبْرَةِ ، لَوْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا لَأَدَّى إلَى مَشَقَّةٍ ظَاهِرَةٍ فِي فَصْلِهِ مِنْ الصُّبْرَةِ ، وَقَدْ لَا يَنْفَعُ الْبَيْعُ بَعْدَ فَصْلِهِ أَوْ يُتَّفَقُ ثُمَّ يُفْسَخُ الْبَيْعُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ فَيُؤَدِّي إلَى مَشَقَّةٍ فِي الْفَصْلِ وَإِلَى مَشَقَّةٍ فِي الرَّدِّ إلَى الصُّبْرَةِ ، فَإِنْ قِيلَ لَوْ بَاعَ صُبْرَةً مَجْهُولَةَ الصِّيعَانِ وَاسْتَثْنَى مِنْهَا صَاعًا فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْبَيْعُ ؟ قُلْنَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْمَبِيعَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِالْكَيْلِ وَلَا بِتَخْمِينِ الْعِيَانِ ، فَإِنَّ الْعِيَانَ لَا يُخَمِّنُ الْمَقَادِيرَ إلَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ التَّقْدِيرُ الْحَقِيقِيُّ وَالتَّخْمِينِيُّ فِي هَذِهِ الصَّفْقَةِ حُكِمَ بِبُطْلَانِهَا ، لِأَنَّ الْجَهْلَ بِتَقْدِيرِهَا وَتَخْمِينِهَا غَرَرٌ لَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ ، وَرُبَّمَا وَقَعَ الْغَرَرُ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ عَلَيْهِ مَعَ تَحَقُّقِ وُجُودِهِ كَالْفَرَسِ الْعَاثِرِ وَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْجَمَلِ الشَّارِدِ فَهَذَا غَرَرٌ عَظِيمٌ فِي الْمَقْصُودِ وَأَوْصَافِهِ . وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْجَمَلِ لِأَنَّهُ مَجْهُولُ الْمَالِيَّةِ إذْ لَا ثِقَةَ بِحَيَاتِهِ وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ وَلَا بِبَقَائِهِ وَسَلَامَتِهِ ، وَلِأَنَّ الْجَمَلَ يَتَزَايَدُ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ تَزَايُدًا لَا ضَبْطَ لَهُ ، فَيُشْبِهُ مَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا وَشَرَطَ نَفَقَتَهُ عَلَى الْبَائِعِ فِي مُدَّةٍ مَجْهُولَةٍ ، وَرُبَّمَا وَقَعَ الْغَرَرُ فِي سَلَامَةِ الْمَبِيعِ كَبَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَلَهُ عِلَّتَانِ : إحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَا ثِقَةَ بِسَلَامَتِهِ لِكَثْرَةِ الْحَوَائِجِ ، وَالثَّانِيَةُ اغْتِذَاؤُهُ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ بِمَا يَمْتَصُّهُ وَيَجْتَذِبُهُ مِنْ شَجَرَاتِهِ إلَى أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ . فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ جَازَ بَيْعُهُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ مَعَ أَنَّهُ يَمْتَدُّ بِمَا يَمُصُّهُ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ إلَى أَوَانِ جِذَاذِهِ ؟ قُلْنَا : هَذَا نَزْرٌ يَسِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ مَعَ مَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى أَكْلِهِ وَبَيْعِهِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لَتَعَذَّرَ عَلَى النَّاسِ أَكْلُ الثِّمَارِ الرَّطْبَةِ ، وَذَلِكَ ضَرَرٌ عَامٌّ لَمْ تَرِدْ الشَّرِيعَةُ بِمِثْلِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ الْغَرَرُ فِي مِقْدَارِ الْمَبِيعِ : كَمَا لَوْ بَاعَ صُبْرَةً عَلَى أَرْضٍ غَيْرِ مُسْتَوِيَةٍ فَقَدْ نَزَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَيْعِ الْغَائِبِ وَجَعَلَ الْجَهْلَ بِالْمِقْدَارِ كَالْجَهْلِ بِالْوَصْفِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْطَلَ الْعَقْدَ هَهُنَا لِعِظَمِ الْغَرَرِ فَإِنَّ الْجَهْلَ بِالْوَصْفِ وَالْمَوْصُوفِ أَعْظَمُ مِنْ الْجَهْلِ بِالْوَصْفِ عَلَى حِيَالِهِ .

الْمِثَالُ الثَّالِثُ : الْإِقْبَاضُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَقْبُوضِ ، فَإِنْ كَانَ عَقَارًا فَتَخْلِيَتُهُ مِنْ التَّمَكُّنِ مِنْ أَخْذِهِ قَبْضٌ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا أَوْ مَوْزُونًا فَقَبَضَهُ بِكَيْلِهِ أَوْ وَزْنِهِ ثُمَّ نَقَلَهُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ فَالْأَصَحُّ أَنَّ قَبْضَهُ بِنَقْلِهِ إلَى مَوْضِعٍ عَامٍّ أَوْ مَوْضِعٍ يَخْتَصُّ بِهِ الْمُشْتَرِي ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ الثِّمَارُ عَلَى الْأَشْجَارِ فَإِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ قَبْضَهَا بِتَخْلِيَتِهَا لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْحَاجَةِ الْعَامَّةِ إلَى بَيْعِهِ لِيَأْكُلَهَا النَّاسُ رَطْبَةً .

الْمِثَالُ الرَّابِعُ : إذَا شُرِطَ فِي الْبَيْعِ قَطْعُ الْمِلْكِ بَطَلَ الْبَيْعُ إلَّا إذَا شُرِطَ قَطْعُهُ بِالْعِتْقِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ عَلَى الْأَصَحِّ لِشِدَّةِ اهْتِمَامِ الشَّرْعِ بِالْعِتْقِ ، وَلِذَلِكَ كَمُلَ مُبْعِضُهُ وَسَرَاهُ إلَى أَنْصِبَاءِ الشُّرَكَاءِ ، وَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْبَيْعِ حُصُولُ ثَمَرَاتِ الْعِتْقِ لِلْمُشْتَرِي فِي الدُّنْيَا بِالْوَلَاءِ ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْإِعْتَاقِ مِنْ النَّارِ ، وَيَكُونُ الثَّوَابُ ثَوَابَ التَّسَبُّبِ إلَى مِثْلِ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ فَإِنَّهُ تَسَبُّبٌ إلَى تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الْحُرِّيَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِلَى تَحْصِيلِ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي مِنْ النَّارِ ، وَلَوْ شُرِطَ قَطْعُ الْمِلْكِ بِالْوَقْفِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْوَقْفَ قُرْبَةٌ كَالْعِتْقِ ، وَلِأَنَّ مَا يَحْصُلُ مِنْ فِعْلِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَرْبَى عَلَى مَصْلَحَةِ الْعِتْقِ ، وَالثَّانِي لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَكْمُلْ مُبْعِضُهُ وَلَمْ يُسْرُهُ إلَى أَنْصِبَاءِ الشُّرَكَاءِ .

الْمِثَالُ الْخَامِسُ : لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ إلَّا مَا تَنَاوَلَهُ الِاسْمُ ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ ، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ . أَحَدُهَا : يُثَابُ الْعَبْدُ لِلْعُرْفِ فِي ذَلِكَ ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْعُرْفَ دَالٌّ عَلَى إطْلَاقِهِ وَالْمُسَامَحَةِ بِهِ لَا عَلَى تَمْلِيكِهِ . الْمِثَالُ الثَّانِي : إذَا قَالَ بِعْت هَذِهِ الْأَرْضَ أَوْ هَذِهِ السَّاحَةَ أَوْ رَهَنْتُكَهَا وَفِيهَا بِنَاءٌ أَوْ غِرَاسٌ ، فَفِي دُخُولِهِمَا فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ اخْتِلَافٌ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَدْخُلَا لِأَنَّ الِاسْمَ لَا يَتَنَاوَلُهُمَا . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : مِفْتَاحُ الدَّارِ وَفِي دُخُولِهِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ اخْتِلَافٌ . الْمِثَالُ الرَّابِعُ : حَجَرُ الرَّحَا إذَا كَانَ الْأَسْفَلُ مِنْهُمَا مَبْنِيًّا وَفِي دُخُولِهِمَا فِي الْبَيْعِ مَذَاهِبُ . ثَالِثُهُمَا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ ، وَلَوْ بَاعَ نَخْلًا عَلَيْهَا طَلْعٌ مُؤَبَّرٌ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّ اسْمَ النَّخْلَةِ لَا يَتَنَاوَلُهُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُؤَبَّرٍ فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ لِخُرُوجِهِ عَنْ اسْمِ النَّخْلَةِ ، لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ نَقَلَهُ إلَى الْمُشْتَرِي مَعَ خُرُوجِهِ عَنْ اسْمِ النَّخْلَةِ لِاسْتِتَارِهِ ، كَمَا نَقَلَ حَمْلَ الْجَارِيَةِ وَالْبَهِيمَةِ إلَى الْمُشْتَرِي لِاسْتِتَارِهِمَا ، وَعَمَلًا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ } ، وَمَفْهُومُ هَذَا أَنَّ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مَا كَانَ مَدْفُونًا فِي الْأَرْضِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْكُنُوزِ وَالْأَحْطَابِ وَالْأَخْشَابِ لِأَنَّهُ لَيْسَ جُزْءًا مِنْهَا وَلَا دَاخِلًا فِي اسْمِهَا وَلَا مُتَّصِلًا بِهَا اتِّصَالَ الْأَبْنِيَةِ . فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ فِيمَنْ اشْتَرَى دَارًا أَوْ أَرْضًا فَوَجَدَ فِيهَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ قُلْنَا : يُنْظَرُ فِيمَا وَجَدَهُ . فَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مَنْ كَانَتْ الدَّارُ تَحْتَ يَدِهِ هُوَ الدَّافِنُ أَخْبَرَهُ بِهِ ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ دَافِنُهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ لِاشْتِمَالِ يَدِهِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الدَّافِنُ لَهُ سَأَلَ مَنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الدَّافِنُ لَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ وَيَئِسَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ كَانَ ذَلِكَ مَالًا ضَائِعًا يَصْرِفُهُ الْوَاجِدُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ إنْ لَمْ يَجِدْ إمَامًا عَادِلًا ، وَإِنْ وَجَدَ إمَامًا عَادِلًا صَرَفَهُ إلَيْهِ .

الْمِثَالُ السَّادِسُ : مِنْ أَمْثِلَةِ مَا خَالَفَ الْقِيَاسَ فِي الْمُعَارِضَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ . مَنْ جَمَعَ فِي التَّصَرُّفِ بَيْنَ مَا يَصِحُّ وَمَا لَا يَصِحُّ بَطَلَ تَصَرُّفُهُ فِيمَا لَا يَصِحُّ ، وَفِيمَا يَصِحُّ خِلَافٌ ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ أَمْثِلَةٌ أَحَدُهَا : إذَا أَوْصَى بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَقُلْنَا بِبُطْلَانِ وَصِيَّتِهِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ مِنْ الثُّلُثِ وَلَا يَخْرُجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا . الْمِثَالُ الثَّانِي : إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَأَجْنَبِيَّةٍ أَنْتُمَا طَالِقَانِ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ وَلَا تَطْلُقُ الْأَجْنَبِيَّةُ . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ وَأَجْنَبِيٍّ أَنْتُمَا حُرَّانِ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ عَبْدُهُ دُونَ الْأَجْنَبِيِّ .

الْمِثَالُ السَّابِعُ : إذَا بَاعَ عَيْنَيْنِ ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا فَأَرَادَ أَنْ يُفْرِدَهُمَا بِالرَّدِّ قَبْلَ تَلَفِ إحْدَاهُمَا أَوْ بَعْدَ تَلَفِهَا فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ فِيهِ خِلَافٌ ، فَإِنْ قُلْنَا يَرُدُّ قَوَّمَ التَّالِفَ وَالْبَاقِي بِمَا يَخُصُّهُمَا مِنْ الثَّمَنِ وَرَدَّ الْبَاقِيَ مَعَ قِيمَةِ التَّالِفِ ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ الْمُصَرَّاةُ فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا وَيَرُدُّ بَدَلَ قِيمَةِ اللَّبَنِ صَاعًا مِنْ التَّمْرِ ، لِأَنَّ اللَّبَنَ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْبَيْعُ قَدْ اخْتَلَطَ بِمَا حَدَثَ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي مِنْ اللَّبَنِ بِحَيْثُ لَا يُعْرَفُ قَدْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَقَدَّرَ الشَّافِعِيُّ الْبَدَلَ قَطْعًا لِلنِّزَاعِ وَالْخِصَامِ وَجَعَلَهُ مِنْ التَّمْرِ لِمُشَارَكَتِهِ اللَّبَنَ فِي كَوْنِهِ قُوتًا .

الْمِثَالُ الثَّامِنُ : لَا يُبَاعُ الْمَالُ الرِّبَوِيُّ الْمَكِيلُ إلَّا بِالْكَيْلِ وَلَا يُبَاعُ رَطْبُهُ بِيَابِسِهِ إلَّا فِي الْعَرَايَا ، فَإِنَّ الشَّرْعَ قَدَّرَهُ بِالْخَرْصِ ، وَقَدْ جَوَّزَ بَيْعَ رَطْبِهِ بِيَابِسِهِ فِي دُونِ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ .

الْمِثَالُ التَّاسِعُ : لَا تَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ عَلَى مَا جُهِلَتْ أَوْصَافُهُ لِاخْتِلَافِ رُتَبِ الْأَوْصَافِ فِي النَّفَاسَةِ وَالْخَسَاسَةِ وَزِيَادَةِ الْمَالِيَّةِ وَنُقْصَانِهَا بِسَبَبِ ذَلِكَ ، وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ السَّلَمَ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَتَرَكَ كُلَّ وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهِ عَلَى أَدْنَى رُتَبِهِ وَلَمْ يَسْمَحْ بِالزِّيَادَةِ عَلَى أَدْنَى الْأَوْصَافِ إذْ لَا ضَابِطَ لَهَا . وَكَذَلِكَ جَوَّزَ الشَّارِعُ شَرْطَ الصِّفَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَغْرَاضُ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ ، إذْ لَا يُمْكِنُ مُشَاهَدَتُهَا مَعَ مَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا ، وَتَرَكَ كُلَّ وَصْفٍ مِنْهَا عَلَى أَدْنَى رُتَبِهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي السَّلَمِ ، فَإِذَا شُرِطَ فِي الْعَبْدِ أَنَّهُ كَاتِبٌ أَوْ حَاسِبٌ أَوْ رَامٍ أَوْ بَانٍ أَوْ نَجَّارٌ أَوْ قَصَّارٌ ، حُمِلَ عَلَى أَقَلِّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ كَاتِبٌ أَوْ حَاسِبٌ وَرَامٍ وَبَانٍ وَنَجَّارٌ وَقَصَّارٌ .

الْمِثَالُ الْعَاشِرُ : الْحُلُولُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْمُعَامَلَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ وَالْقَبْضُ فِي الْعِوَضَيْنِ شَرْطٌ فِي اسْتِمْرَارِ الْعَقْدِ ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ الْقَرْضُ الْوَاقِعُ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .

الْمِثَالُ الْحَادِيَ عَشَرَ : الْمَيِّتُ لَا يَمْلِكُ لِانْتِفَاءِ حَاجَتِهِ إلَى الْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ يَمْلِكُ فِي الْمَوْتَةِ الْأُولَى فِي الْإِرْثِ عَنْ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ لِأَنَّهُ صَائِرٌ إلَى الِاحْتِيَاجِ إلَى الْمِلْكِ فَثَبَتَ لَهُ الْمِلْكُ بِالْإِرْثِ دَفْعًا لِمَا سَيَصِيرُ إلَيْهِ مِنْ الْحَاجَاتِ . وَأَمَّا الْمَوْتَةُ الثَّانِيَةُ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ وَلَا أَوْصَى بِشَيْءٍ انْقَطَعَ مِلْكُهُ بِمَوْتِهِ لِانْتِفَاءِ الْحَاجَةِ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ أَوْصَى بِشَيْءٍ فَهَلْ يَبْقَى مِلْكُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ وَتَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ أَوْ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إلَى وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَتَتَعَلَّقُ الدُّيُونُ بِهِ ، أَوْ يَكُونُ مَوْقُوفًا فَإِنْ بَرِئَ مِنْ الدُّيُونِ وَرُدَّتْ الْوَصَايَا تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ مَلَكُوهُ ، وَإِنْ أُدِّيَتْ الدُّيُونُ وَقُبِلَتْ الْوَصَايَا تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهُ ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ ، فَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُمْ يَمْلِكُوهُ كَانَ تَصَرُّفُهُمْ فِيهِ كَتَصَرُّفِ السَّيِّدِ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ الْجَانِي ، وَكَتَصَرُّفِ الرَّاهِنِ فِي الْمَرْهُونِ فِيهِ خِلَافٌ يَجْرِي مِثْلُهُ فِي تَعْلِيقِ حَقِّ الزَّكَاةِ بِمِقْدَارِهَا مِنْ النِّصَابِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ التَّعَلُّقُ بِالتَّرِكَةِ كَتَعَلُّقِ الرَّهْنِ نَظَرًا لِلْمَيِّتِ فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِمَالِهِ مِنْ وَرَثَتِهِ ، فَكَانَ الْحَجْرُ عَلَى وَرَثَتِهِ أَقْرَبَ إلَى أَدَاءِ دُيُونِهِ وَتَنْفِيذِ وَصَايَاهُ . وَالتَّوَثُّقُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْأَعْيَانِ أَقْسَامٌ . مِنْهَا التَّوَثُّقُ فِي الزَّكَاةِ ، وَمِنْهَا التَّوَثُّقُ فِي حَبْسِ الْمَبِيعِ عَلَى قَوْلٍ ، وَمِنْهَا تَوَثُّقُ جِنَايَةِ الْعَبْدِ ، وَمِنْهَا تَوَثُّقُ الرَّهْنِ ، وَمِنْهَا تَوَثُّقُ الْبَائِعِ بِالْبَيْعِ فِي صُورَةِ الْفَلَسِ ، وَمِنْهَا تَوَثُّقُ الْغُرَمَاءِ بِالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ ، وَمِنْهَا التَّوَثُّقُ بِالْحَجْرِ عَلَى الْبَائِعِ إذَا أَوْجَبْنَا الْبُدَاءَةَ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَهَذَا حَجْرٌ بَعِيدٌ ، وَمِنْهَا التَّوَثُّقُ بِضَمَانِ الدُّيُونِ وَضَمَانِ الْوُجُوهِ وَضَمَانِ إحْضَارِ مَا يَجِبُ إحْضَارُهُ مِنْ الْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ وَضَمَانِ الْعُهْدَةِ ، وَمِنْهَا التَّوَثُّقُ لِلصَّدَاقِ ، وَمِنْهَا التَّوَثُّقُ لِلْبُضْعِ ، وَمِنْهَا التَّوَثُّقُ بِحَبْسِ الْجُنَاةِ إلَى حُضُورِ الْغُيَّبِ وَإِفَاقَةِ الْمَجَانِين وَبُلُوغِ الصِّبْيَانِ . وَمِنْهَا التَّوَثُّقُ بِحَبْسِ مَنْ يُحْبَسُ عَلَى الْحُقُوقِ ، وَمِنْهَا التَّوَثُّقُ بِالْإِشْهَادِ الْوَاجِبِ عَلَى أَدَاءِ الدُّيُونِ ، وَمِنْهَا التَّوَثُّقُ بِالْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْعَيْنِ إذَا شَهِدَ بِهَا شَاهِدَانِ مَسْتُورَانِ . وَكَذَلِكَ حَبْسُ الْمُدَّعِي إذَا شَهِدَ عَلَيْهِ مَسْتُورَانِ بِالدَّيْنِ أَوْ بِشَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِبَدَنِهِ ، كَالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ وَالتَّعْزِيرِ ، أَوْ بِالرِّقِّ وَالزَّوْجِيَّةِ إلَى أَنْ تُزَكِّيَ الْبَيِّنَةُ أَوْ يَخْرُجَ مَعَ حَدِّ الْحَاكِمِ فِي الْمُسَارَعَةِ إلَى اسْتِزْكَاءِ الْمَسْتُورِينَ .

الْمِثَالُ الثَّانِي عَشَرَ : لَا يَجُوزُ تَوْكِيلُ الْإِنْسَانِ وَلَا إذْنُهُ فِيمَا سَيَمْلِكُهُ إذْ لَا يَنْفُذُ فِيمَا لَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَيْهِ إلَّا فِي الْمُضَارَبَةِ ، فَإِنَّ إذْنَ الْمَالِكِ فِي بَيْعِ مَا سَيَمْلِكُهُ مِنْ الْعُرُوضِ نَافِذٌ إذْ لَا تَتِمُّ مَصَالِحُ هَذَا الْعَقْدِ إلَّا بِذَلِكَ ، إذْ لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ وَلَا خَلَاصَ مِنْهُ .

الْمِثَالُ الثَّالِثَ عَشَرَ : مَنْ لَا يَمْلِكُ تَصَرُّفًا لَا يَمْلِكُ الْإِذْنَ فِيهِ وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا لَا تَمْلِكُ النِّكَاحَ وَتَمْلِكُ الْإِذْنَ فِيهِ . وَكَذَلِكَ الْأَعْمَى لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ عَلَى الْعَيْنِ وَيَمْلِكُ الْإِذْنَ فِيهِمَا . وَأَمَّا إيجَارَةُ نَفْسِهِ وَشِرَاؤُهَا مِنْ سَيِّدِهَا وَكِتَابَتِهِ عَلَيْهَا فَجَائِزٌ لِعِلْمِهِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَمَنْ لَا يَمْلِكُ الْإِنْشَاءَ لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِمَا لَا يَمْلِكُهُ مِنْ الْإِنْشَاءَاتِ وَقَدْ اُسْتُثْنِيَ مِنْهُ الْمَرْأَةُ لَا تَمْلِكُ إنْشَاءَ النِّكَاحِ وَتَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ وَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ مَجْهُولُ الْحُرِّيَّةِ إنْشَاءَ الرِّقِّ عَلَى نَفْسِهِ وَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ وَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِمَّا لَا يَمْلِكُهُ ، الْإِنْسَانُ وَيَصِحُّ مِمَّا مَلَكَهُ وَإِنْ وُجِدَ سَبَبُ مِلْكِهِ وَوُجُوبُهُ وَلَمْ يَمْلِكْ فَفِي صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ مِنْهُ قَوْلَانِ ، وَوَجْهُ الصِّحَّةِ تَقْدِيرُ الْمِلْكِ وَالْوُجُوبُ عِنْدَ التَّسَبُّبِ ، وَحُكْمُ الضَّمَانِ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْإِبْرَاءِ .

الْمِثَالُ الرَّابِعَ عَشَرَ : لَا يَجْتَمِعُ الْعِوَضَانِ ، إنَّمَا جُوِّزَتْ لِمَصَالِحِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا ، وَكَذَلِكَ لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَى الطَّاعَاتِ كَالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ ، لِأَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ لَاجْتَمَعَ الْأَجْرُ وَالْأُجْرَةُ لِوَاحِدٍ ، وَإِنَّمَا جَازَتْ الْإِجَارَةُ فِي الْأَذَانِ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مُقَابِلَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مُجَرَّدِ الْإِعْلَامِ بِدُخُولِ الْأَوْقَاتِ وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْأَذْكَارِ الَّتِي يَخْتَصُّ أَجْرُهَا بِالْمُؤْذِنِ . وَأَمَّا الْمُسَابَقَةُ وَالنِّضَالُ فَإِنَّ الْغَالِبَ فِيهِمَا يَفُوزُ بِالْغَلَبِ وَأَخْذِ السَّبْقِ ، لِأَنَّ الْحُصُولَ عَلَيْهَا حَاثٌّ عَلَى تَعَلُّمِ أَسْبَابِ الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ تِلْوُ الْإِيمَانِ ، فَإِنْ كَانَ السَّبْقُ مِنْ وَاحِدٍ جَازَ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُتَسَابِقَيْنِ وَالْمُتَنَاضَلِينَ فَلَا بُدَّ مِنْ إدْخَالِ مُحَلَّلٍ بَيْنَهُمَا تَمْيِيزًا لِصُورَةِ الْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ عَنْ صُورَةِ الْقِمَارِ ، كَمَا شُرِطَ فِي النِّكَاحِ الْوَلِيُّ وَالشُّهُودُ تَمْيِيزًا لِصُورَةِ النِّكَاحِ عَنْ صُورَةِ السِّفَاحِ .

الْمِثَالُ الْخَامِسَ عَشَرَ : إيجَارُ الْمَأْجُورِ بَعْدَ قَبْضِهِ جَائِزٌ مِنْ أَنَّ الْمَنَافِعَ لَمْ تُقْبَضْ ، وَلَكِنْ أَقَامَ الشَّرْعُ قَبْضَ مَحَلِّهَا مَقَامَ قَبْضِهَا فِي نَفْسِهَا لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ ، وَلَوْ تَلِفَتْ الْعَيْنُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ لَانْفَسَخَ الْعَقْدُ فِيمَا بَقِيَ لِفَوَاتِ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ .

الْمِثَالُ السَّادِسَ عَشَرَ : إيجَارُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْضَ السَّوَادِ بِأُجْرَةٍ مُؤَبَّدَةٍ مَعْدُومَةٍ مَجْهُولَةِ الْمِقْدَارِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ الْمُؤَبَّدَةِ ، وَلَوْ أَجَّرَهَا ذُرِّيَّةُ مُسْتَأْجَرِيهَا بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْأَصَحِّ إذْ يَجُوزُ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مَا لَا يَجُوزُ لِلْخَاصَّةِ ، وَقَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ثَمَنٌ ، وَهُوَ أَيْضًا خَارِجٌ عَنْ الْقِيَاسِ ، وَلَكِنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَبْعَدُ مِنْ الْقِيَاسِ ، لِأَنَّ الْجَهَالَةَ وَاقِعَةٌ فِي الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ شُرَيْحٍ تَخْتَصُّ الْجَهَالَةُ بِالثَّمَنِ دُونَ الْمُثَمَّنِ ، لَكِنَّهُ خَالَفَ النَّقْلَ فِي أَنَّ عُمَرَ أَخْرَجَهَا مِنْ الْكُفَّارِ . وَالْإِجَارَةُ لَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ ، وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إشْكَالٌ مِنْ جِهَةِ حُكْمِهِ بِالْوَقْفِ عَلَى أَرْبَابِ الْأَيْدِي بِمُجَرَّدِ الرِّوَايَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ قَامَتْ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَا إقْرَارٍ مِنْ ذِي الْيَدِ ، فَإِنَّ الْأَيْدِيَ لَا تَزَالُ فِي الشَّرْعِ بِمُجَرَّدِ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ ، وَإِنَّمَا تَزَالُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِإِقْرَارٍ ، وَمِثْلُ هَذَا الْإِشْكَالِ وَارِدٌ عَنْ مَالِكٍ فِي أَرَاضِي مِصْرَ .

الْمِثَالُ السَّابِعَ عَشَرَ : لَا يَجُوزُ تَقْطِيعُ الْمَنَافِعِ فِي الْإِجَارَةِ إلَّا عِنْدَ مَسِيسِ الْحَاجَةِ ، فَإِذَا اسْتَأْجَرَ لِبَعْضِ الْأَعْمَالِ يَوْمًا خَرَجَتْ أَوْقَاتُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالصَّلَاةِ وَقَضَاءِ الْحَاجَاتِ عَنْ ذَلِكَ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى هَذَا التَّقْطِيعِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِلْخِدْمَةِ أَوْ لِبَعْضِ الْأَعْمَالِ شَهْرًا أَوْ سَنَةً أَوْ جُمُعَةً خَرَجَتْ هَذِهِ الْأَوْقَاتُ مَعَ اللَّيَالِي عَنْ الِاسْتِحْقَاقِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ مُنِعَ لَأَدَّى إلَى ضَرَرٍ عَظِيمٍ . وَلَوْ قَالَ اسْتَأْجَرْتُك مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى الظُّهْرِ وَمِنْ الْعَصْرِ إلَى الْمَغْرِبِ لَمَا صَحَّتْ الْإِجَارَةُ ، إذْ لَا حَاجَةَ إلَى التَّقْطِيعِ ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِئْجَارُ لِلْحَمْلِ وَالنَّقْلِ وَالرُّكُوبِ تَنْقَطِعُ فِيهِ الْمَنَافِعُ فِي الْمَرَاحِلِ وَالْمَنَازِلِ الْخَارِجَةِ عَنْ الِاسْتِحْقَاقِ وَمُطَّرِدِ الْعَادَاتِ . وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْإِجَارَةَ فِي الْحَالِ وَعَلَى الْحَوْلِ الْقَابِلِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَكُونُ فِي حَالِ الْعَقْدِ إلَّا مَعْدُومَةً ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَنَافِعِ الْمُتَعَقِّبَةِ الْعَقْدَ وَبَيْنَ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَقْبَلَةِ ، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجْعَلُ الْمَنَافِعَ الْمُسْتَقْبَلَةَ لِلْعَقْدِ الْمُتَّحِدِ تَابِعَةً لِمَا يَتَعَقَّبُ الْعَقْدَ مِنْ الْمَنَافِعِ ، وَيَجُوزُ فِي التَّابِعِ مَا لَا يَجُوزُ فِي الْمَتْبُوعِ ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْقَلِيلَ يَتْبَعُ الْكَثِيرَ فِي الْعُقُودِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ تَابِعًا لِأَقَلِّهِ فَلَوْ أَجَّرَهُ عَشْرَ سِنِينَ لَكَانَ مَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ مَقْصُودِ الْعَقْدِ تَابِعًا لِمَا يَتَعَقَّبُ الْعَقْد مِنْ الْمَنْفَعَةِ التَّافِهَةِ . ( فَائِدَةٌ ) كُلُّ مَا يَثْبُتُ فِي الْعُرْفِ إذَا صَرَّحَ الْمُتَعَاقِدَانِ بِخِلَافِهِ بِمَا يُوَافِقُ مَقْصُودَ الْعَقْدِ صَحَّ فَلَوْ شَرَطَ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الْأَجِيرِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ النَّهَارَ بِالْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَيَقْطَعُ الْمَنْفَعَةَ لَزِمَهُ ذَلِكَ ، وَلَوْ أَدْخَلَ أَوْقَاتَ قَضَاءِ الْحَاجَاتِ فِي الْإِجَارَةِ مَعَ الْجَهْلِ بِحَالِ الْأَجِيرِ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ لَمْ يَصِحَّ ، وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ الرَّوَاتِبَ وَأَنْ يَقْتَصِرَ فِي الْفَرَائِضِ عَلَى الْأَرْكَانِ صَحَّ وَوَجَبَ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَوْقَاتَ إنَّمَا خَرَجَتْ عَنْ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْعُرْفِ الْقَائِمِ مَقَامَ الشَّرْطِ ، فَإِذَا صَرَّحَ بِخِلَافِ ذَلِكَ مِمَّا يُجَوِّزُهُ الشَّرْعُ وَيُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهِ جَازَ ، كَمَا لَوْ أَدْخَلَ بَعْضَ اللَّيْلِ فِي الْإِجَارَةِ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ ، وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ شَهْرًا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ بِحَيْثُ لَا يَنَامُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا فَاَلَّذِي أَرَاهُ بُطْلَانَ هَذِهِ الْإِجَارَةِ لِتَعَذُّرِ الْوَفَاءِ بِهِ ، فَإِنَّ النَّوْمَ يَغْلِبُ بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ الْأَجِيرُ مِنْ الْعَمَلِ ، فَكَانَ ذَلِكَ غَرَرًا لَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي لَيْلَةٍ أَوْ لَيْلَتَيْنِ .

الْمِثَالُ الثَّامِنَ عَشَرَ : أَكَلَ الْوَصِيُّ الْفَقِيرُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ بِالْمَعْرُوفِ إنْ جَعَلْنَاهُ قَرْضًا فَقَدْ اتَّحَدَ الْمُقْرِضُ وَالْمُقْتَرَضُ لِأَنَّهُ مُقْتَرِضٌ لِنَفْسِهِ وَمُقْرِضٌ عَنْ الْيَتِيمِ ، وَإِنْ لَمْ نَجْعَلْهُ قَرْضًا فَقَدْ قَبَضَ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ ، وَلَا يَأْخُذُ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِالْمَعْرُوفِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَيَّدَ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ .

الْمِثَالُ التَّاسِعَ عَشَرَ : الْمُخَالَطَةُ فِي الطَّعَامِ جَائِزَةٌ مِنْ الْمُطْلِقِينَ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُخَالِطِينَ بَاذِلٌ لِلْآخَرِينَ مَا يَأْكُلُونَهُ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا ، إذْ لَا يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ فِي الْإِبَاحَةِ ، فَإِنَّ الْمَنَائِحَ وَالْعَوَارِيَ وَثِمَارَ الْبَسَاتِينِ جَائِزَةٌ مَعَ الْجَهْلِ بِقَدْرِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْمُبَاحُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ مَا يَأْكُلُهُ الضَّيْفَانِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ . وَأَمَّا مُخَالَطَةُ الْأَوْصِيَاءِ وَأَوْلِيَاءِ الْيَتَامَى فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إبَاحَةً فِي مُقَابَلَةِ إبَاحَةٍ ، فَإِنَّ الْإِبَاحَةَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ هِيَ الَّتِي لَا مُقَابِلَ لَهَا ، بِخِلَافِ هَذِهِ الْإِبَاحَةِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُخَالَطَةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ وَمُخَالَطَةُ الْمُطْلِقِينَ مِنْ بَابِ الْمُعَاوَضَةِ ، فَيَكُونُ مَا يَأْكُلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ نَصِيبِ غَيْرِهِ فِي مُقَابَلَةِ مَا بَذَلَهُ مِنْ نَصِيبِ نَفْسِهِ ، وَإِنْ تَفَاوَتَ الْمُتَقَابِلَانِ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُخَالِطَ الْيَتِيمَ بِحَيْثُ يَقْطَعُ بِأَنَّهُ أَكَلَ مِنْ مَالِهِ أَكْثَرَ مِمَّا بَذَلَهُ ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ } أَيْ يَعْرِفُ الْمُفْسِدَ لِمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنْ تَفَاوُتِ الْمُقَابَلَةِ ، وَالْأَوْلَى بِالْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ أَنْ يُخَالِطَا الْيَتِيمَ بِمَا يَعْلَمَانِ أَنَّ الْيَتِيمَ يَأْكُلُ بِقَدْرِ مَالِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ . فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَتْ الْمُخَالَطَةُ مِنْ بَابِ الْمُقَابَلَةِ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى الرِّبَا لِلْجَهْلِ بِالْمُمَاثَلَةِ ، وَلِأَنَّ مُعْظَمَ الْأَطْعِمَةِ خَارِجٌ عَنْ حَالِ كَمَالِ الْمَأْكُولِ ، فَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا رُخْصَةٌ مِنْ الْمُسْتَثْنَيَاتِ لِلْحَاجَاتِ الْعَامَّةِ فَلَا يَتَقَاعَدُ عَنْ رُخْصَةِ الْعَرَايَا فِي الْجَهْلِ بِالْمُمَاثَلَةِ وَخُرُوجِ الرُّطَبِ عَنْ حَالِ الْكَمَالِ ، بَلْ لَوْ عُلِمَتْ الْمُفَاضَلَةُ هَهُنَا بَيْنَ الْمُخَالِطِينَ لَجَازَ فِي مُخَالَطَةِ غَيْرِ الْأَيْتَامِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَيْتَامِ ، إذَا كَانَ مَا يَأْكُلُ الْيَتِيمُ أَكْثَرَ مِنْ مَالِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ .

الْمِثَالُ الْعِشْرُونَ : لَا يَصِحُّ قَبْضُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِشَيْءٍ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالدُّيُونِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْبُوضُ لَهُمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ وَدَعَتْ إلَيْهِ الضَّرُورَةُ ، كَثِيَابِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَمَا يُدْفَعُ إلَيْهِمَا مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لِيَأْكُلَاهُ ، وَكَذَلِكَ إرْضَاعُ الصَّبِيِّ لِمَا اُسْتُؤْجِرَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى رَضَاعَةٍ فَلَا يَصِحُّ قَبْضُهَا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ . وَقَدْ أَجَازَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْخُلْعَ عَلَى الْإِرْضَاعِ وَمِنْ طَعَامِ الصَّبِيِّ عَشْرَ سِنِينَ إذَا وُصِفَ الطَّعَامُ بِصِفَاتِ السَّلَمِ ، فَإِنْ سَلَّمَتْ الطَّعَامَ إلَى الْوَلِيِّ ثُمَّ سَلَّمَهُ إلَيْهَا لِتُطْعِمَهُ الصَّبِيَّ بَرِئَتْ ذِمَّتُهَا ، وَإِنْ أَذِنَ لَهَا فِي إطْعَامِهِ إيَّاهُ فَهَذَا مِمَّا لَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ الْعَامَّةُ وَلَا الضَّرُورَةُ الْخَاصَّةُ إلَيْهِ ، فَلَا وَجْهَ لِمُخَالَفَةِ الْقَاعِدَةِ فِيهِ لِنُدْرَتِهِ وَسُهُولَةِ الِانْفِكَاكِ مِنْهُ وَالِانْفِصَالِ عَنْهُ . وَلَوْ قَالَ لِإِنْسَانٍ ادْفَعْ دَيْنِي عَلَيْك إلَى صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ أَلْقِهِ فَفَعَلَ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ الدَّيْنِ ، إذْ لَا بَرَاءَ مِنْهُ إلَّا بِقَبْضٍ صَحِيحٍ ، وَلَوْ وَثَبَ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ فَقَتَلَا قَاتِلَ أَبِيهِمَا فَفِي وُقُوعِهِ قِصَاصٌ خِلَافٌ ، لِأَنَّ الْغَرَضَ بِالْقِصَاصِ تَفْوِيتُ نَفْسِ الْجَانِي وَإِزَالَةُ حَيَاتِهِ بِسَبَبٍ مُضَمَّنٍ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ .

الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : لَوْ عَمَّ الْحَرَامُ الْأَرْضَ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِيهَا حَلَالٌ جَازَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ ، وَلَا يَقِفُ تَحْلِيلُ ذَلِكَ عَلَى الضَّرُورَاتِ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَيْهَا لَأَدَّى إلَى ضَعْفِ الْعِبَادِ وَاسْتِيلَاءِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَقْطَعُ النَّاسُ عَنْ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي تَقُومُ بِمَصَالِحِ الْأَنَامِ . قَالَ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا يُتَبَسَّطُ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ كَمَا يُتَبَسَّطُ فِي الْمَالِ الْحَلَالِ بَلْ يُقْتَصَرُ عَلَى مَا تَمَسُّ إلَيْهِ الْحَاجَةُ دُونَ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَشُرْبِ الْمُسْتَلَذَّاتِ وَلُبْسِ النَّاعِمَاتِ الَّتِي هِيَ بِمَنَازِلِ التَّتِمَّاتِ ، وَصُوَرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَجْهَلَ الْمُسْتَحِقِّينَ بِحَيْثُ يَتَوَقَّعُ أَنْ يَعْرِفَهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَلَوْ يَئِسْنَا مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ لَمَا تَصَوَّرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حِينَئِذٍ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ ، وَإِنَّمَا جَازَ تَنَاوُلُ ذَلِكَ قَبْلَ الْيَأْسِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ ، لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ كَالضَّرُورَةِ الْخَاصَّةِ ، وَلَوْ دَعَتْ ضَرُورَةُ وَاحِدٍ إلَى غَصْبِ أَمْوَالِ النَّاسِ لَجَازَ لَهُ ذَلِكَ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا خَافَ الْهَلَاكَ لِجُوعٍ أَوْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ ، وَإِذَا وَجَبَ هَذَا لِإِحْيَاءِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، فَمَا الظَّنُّ بِإِحْيَاءِ نُفُوسٍ ، مَعَ أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ قَدْ لَا يَكُونُ لَهَا قَدْرٌ عِنْدَ اللَّهِ ، وَلَا يَخْلُو الْعَالَمُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالصَّالِحِينَ ، بَلْ إقَامَةُ هَؤُلَاءِ أَرْجَحُ مِنْ دَفْعِ الضَّرُورَةِ عَنْ وَاحِدٍ قَدْ يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ ، وَقَدْ يَكُونُ عَدُوًّا لِلَّهِ ، وَقَدْ جَوَّزَ الشَّرْعُ أَكْلَ اللُّقَطَةِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ الضَّرُورَةَ . وَمَنْ تَتَبَّعَ مَقَاصِدَ الشَّرْعِ فِي جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ ، حَصَلَ لَهُ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ اعْتِقَادٌ أَوْ عِرْفَانٌ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَصْلَحَةَ لَا يَجُوزُ إهْمَالُهَا ، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ لَا يَجُوزُ قُرْبَانُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إجْمَاعٌ وَلَا نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ خَاصٌّ ، فَإِنَّ فَهْمَ نَفْسِ الشَّرْعِ يُوجِبُ ذَلِكَ . وَمِثْلُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ عَاشَرَ إنْسَانًا مِنْ الْفُضَلَاءِ الْحُكَمَاءِ الْعُقَلَاءِ وَفَهِمَ مَا يُؤْثِرُهُ وَيَكْرَهُهُ فِي كُلِّ وِرْدٍ وَصَدْرٍ ثُمَّ سَنَحَتْ لَهُ مَصْلَحَةٌ أَوْ مَفْسَدَةٌ لَمْ يَعْرِفْ قَوْلَهُ فَإِنَّهُ يَعْرِفُ بِمَجْمُوعِ مَا عَهِدَهُ مِنْ طَرِيقَتِهِ وَأَلِفَه مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ يُؤْثِرُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةَ وَيَكْرَهُ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ . وَلَوْ تَتَبَّعْنَا مَقَاصِدَ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَلِعِلْمِنَا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِكُلِّ خَيْرٍ دَقَّهُ وَجَلَّهُ ، وَزَجَرَ عَنْ كُلِّ شَرٍّ دَقَّهُ وَجَلَّهُ ، فَإِنَّ الْخَيْرَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ ، وَالشَّرَّ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَلْبِ الْمَفَاسِدِ وَدَرْءِ الْمَصَالِحِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْخَيْرِ الْخَالِصِ وَالشَّرِّ الْمَحْضِ . وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ إذَا لَمْ يَعْرِفْ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ وَشَرَّ الشَّرَّيْنِ أَوْ يَعْرِفْ تَرْجِيحَ الْمَصْلَحَةِ عَلَى الْمَفْسَدَةِ أَوْ تَرْجِيحَ الْمَفْسَدَةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ أَوْ جَهِلْنَا الْمَصْلَحَةَ وَالْمَفْسَدَةَ ، وَمِنْ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ مَا لَا يَعْرِفُ إلَّا كُلُّ ذِي فَهْمٍ سَلِيمٍ وَطَبْعٍ مُسْتَقِيمٍ يَعْرِفُ بِهِمَا دَقَّ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَجَلَّهُمَا ، وَأَرْجَحَهُمَا مِنْ مَرْجُوحِهِمَا ، وَتَفَاوَتَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ تَفَاوُتِهِمْ فِيمَا ذَكَرْته ، وَقَدْ يَغْفُلُ الْحَاذِقُ الْأَفْضَلُ عَنْ بَعْضِ مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْأَخْرَقُ الْمَفْضُولُ وَلَكِنَّهُ قَلِيلٌ . وَأَجْمَعُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ لِلْحَثِّ عَلَى الْمَصَالِحِ كُلِّهَا وَالزَّجْرِ عَنْ الْمَفَاسِدِ بِأَسْرِهَا قَوْله تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ، وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } فَإِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ لِلْعُمُومِ وَالِاسْتِغْرَاقِ ، فَلَا يَبْقَى مِنْ دَقِّ الْعَدْلِ وَجَلِّهِ شَيْءٌ إلَّا انْدَرَجَ فِي قَوْلِهِ { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } وَلَا يَبْقَى مِنْ دَقِّ الْإِحْسَانِ وَجَلِّهِ شَيْءٌ إلَّا انْدَرَجَ فِي أَمْرِهِ بِالْإِحْسَانِ ، وَالْعَدْلِ هُوَ التَّسْوِيَةُ وَالْإِنْصَافُ ، وَالْإِحْسَانُ : إمَّا جَلْبُ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعُ مَفْسَدَةٍ وَكَذَلِكَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ عَامَّةٌ مُسْتَغْرِقَةٌ لِأَنْوَاعِ الْفَوَاحِشِ وَلِمَا يُذْكَرُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ . وَأَفْرَدَ الْبَغْيَ - وَهُوَ ظُلْمُ النَّاسِ - بِالذِّكْرِ مَعَ انْدِرَاجِهِ فِي الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ ، فَإِنَّ الْعَرَبَ إذَا اهْتَمُّوا أَتَوْا بِمُسَمَّيَاتِ الْعَامِّ . وَلِهَذَا أَفْرَدَ الْبَغْيَ وَهُوَ الظُّلْمُ مَعَ انْدِرَاجِهِ فِي الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ ، كَمَا أَفْرَدَ إيتَاءَ ذِي الْقُرْبَى بِالذِّكْرِ مَعَ انْدِرَاجِهِ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ . ( فَائِدَةٌ ) الْإِحْسَانُ لَا يَخْلُو عَنْ جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ أَوْ عَنْهُمَا . وَتَارَةً يَكُونُ فِي الدُّنْيَا ، وَتَارَةً يَكُونُ فِي الْعُقْبَى : أَمَّا فِي الْعُقْبَى فَتَعْلِيمُ الْعِلْمِ وَالْفُتْيَا وَالْإِعَانَةِ عَلَى جَمِيعِ الطَّاعَاتِ وَعَلَى دَفْعِ الْمَعَاصِي وَالْمُخَالَفَاتِ ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ . وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَبِالْإِرْفَاقِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ الدُّنْيَوِيَّةِ ، وَكَذَلِكَ إسْقَاطُ الْحُقُوقِ وَالْعَفْوُ عَنْ الْمَظَالِمِ . قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْفَى عَنْ الظَّالِمِ كَيْ لَا يَجْتَرِئَ عَلَى الْمَظَالِمِ وَهُوَ بَعِيدٍ مِنْ الْقَوَاعِدِ ، لِأَنَّ الْغَالِبَ مِمَّنْ يُعْفَى عَنْهُ أَنَّهُ يَسْتَحِيَ وَيَرْتَدِعَ عَنْ الظُّلْمِ وَلَا سِيَّمَا عَنْ ظُلْمِ الْمُعَافَى وَقَدْ وَصَفَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِأَنَّهُ لَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ . وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ ، مَعَ أَنَّ الْجُرْأَةَ عَلَيْهِ أَقْبَحُ مِنْ كُلِّ جُرْأَةٍ ، وَلِأَنَّ الْعَفْوَ لَا يُؤَدِّي إلَى الْجُرْأَةِ غَالِبًا إذْ لَا يَعْفُو مِنْ النَّاسِ إلَّا الْقَلِيلُ ، وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ الْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَهُوَ عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ ، وَقَدْ رَغَّبَ فِي الْعَفْوِ بِقَوْلِهِ : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } وَقَالَ فِي الْقِصَاصِ : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } . قَالَ بَعْضُهُمْ لَوْ أَرْخَصَ بَعْضُ النَّاسِ فِي السِّعْرِ عَلَى النَّاسِ وَسَامَحَهُمْ فِي الْبَيْعِ وَسَاهَلَهُمْ فِي الثَّمَنِ مِنْ ذَلِكَ لِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ مِنْ كَسَادِ أَهْلِ سُوقِهِ ، وَهَذَا أَيْضًا بَعِيدٌ فَإِنَّ الَّذِينَ يُسَامِحُونَ مِنْ الْمُشْتَرِينَ أَكْثَرُ مِنْ الْكَاسِدِينَ مِنْ أَهْلِ السُّوقَةِ فَلَا تُرَجَّحُ مَصَالِحُ خَاصَّةٌ عَلَى مَصَالِحَ عَامَّةٍ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إذَا بَاعَ ، سَمْحًا إذَا اشْتَرَى ، سَمْحًا إذَا قَضَى ، سَمْحًا إذَا اقْتَضَى } .

الْمِثَالُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ : الْكِتَابَةُ وَهِيَ خَارِجَةٌ عَنْ الْقِيَاسِ ، فَإِنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ هِيَ بَيْعُ مِلْكِ السَّيِّدِ وَهُوَ الرَّقَبَةُ بِمَا يَمْلِكُهُ مِنْ اكْتِسَابِ الْعَبْدِ ، لَكِنَّ الشَّرْعَ قَدَّرَ الْأَكْسَابَ خَارِجَةً عَنْ مِلْكِ السَّيِّدِ . وَجَعَلَ الْأَعْمَالَ الْوَاقِعَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّيِّدِ كَالْمُعَامَلَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ السَّيِّدِ وَبَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ تَحْصِيلًا لِمَصَالِحِ الْعِتْقِ . وَلَكِنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مُشْكِلٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ شَرَطَ فِي الْكِتَابَةِ التَّنْجِيمَ بِنَجْمَيْنِ . وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى ثَمَنِ دِرْهَمٍ وَأَجَّلَهُ مَثَلًا بِشَهْرٍ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَعَ كَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَى تَحْصِيلِ الْعِتْقِ ، وَهَذَا لَا يُلَائِمُ أَوْضَاعَ الْعُقُودِ لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْعُقُودِ كَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ لِقُرْبِهِ إلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ ، وَقَدْ خُولِفَ فِي ذَلِكَ وَمُنِعَ أَيْضًا مِنْ الْكِتَابَةِ الْحَالَّةِ مَعَ كَوْنِهَا مُقْتَضِيَةً لِتَعْجِيلِ تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ ، وَقَدْ عُلِّلَ ذَلِكَ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ عَنْ النُّجُومِ الْحَالَّةِ ، وَقَدْ رُدَّ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ مِنْ الْمُفْلِسِ . وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْمَبِيعَ فَيَكُونُ مُوسِرًا بِهِ ، وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ ، فَإِنَّهُ لَوْ اشْتَرَى مَا يُسَاوِي دِرْهَمًا وَاحِدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ حَالَّةٍ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ مَعَ عَجْزِهِ عَنْ مُعْظَمِ الثَّمَنِ . وَكَذَلِكَ لَوْ تَبَايَعَ اثْنَانِ عَيْنًا غَائِبَةً وَالْمُشْتَرِي مُعْسِرٌ ، وَهُمَا فِي بَرِّيَّةٍ وَمَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ فِي الْحَالِ ، وَالْبَيْعُ مَعَ ذَلِكَ صَحِيحٌ .

الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ : اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَسَّمَ أَمْوَالَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَاتِ وَالضَّرُورَاتِ ، وَقَسَّمَ الْغَنَائِمَ أَيْضًا عَلَى قَدْرِ الْحَاجَاتِ : فَجَعَلَ لِلرَّاجِلِ سَهْمًا وَاحِدًا لِأَنَّ لَهُ حَاجَةً وَاحِدَةً ، وَجَعَلَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ لِأَنَّ لَهُ ثَلَاثَ حَاجَاتٍ : حَاجَةٌ لِنَفْسِهِ وَحَاجَةٌ لِلْفَرَسِ ، وَحَاجَةٌ لِسَائِسِ فَرَسِهِ . وَكَذَلِكَ مَوَارِيثُ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَاتِ : فَجَعَلَ لِلْإِنَاثِ مِنْ هَؤُلَاءِ سَهْمًا وَاحِدًا ، وَجَعَلَ لِلذَّكَرِ سَهْمَيْنِ ، لِأَنَّ لِلذَّكَرِ فِي الْغَالِبِ حَاجَةً لِنَفْسِهِ وَحَاجَةً لِزَوْجَتِهِ ، وَلِلْأُنْثَى فِي الْغَالِبِ حَاجَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهَا مَكْفُولَةٌ فِي الْغَالِبِ ، وَالرَّجُلُ كَافِلٌ فِي الْغَالِبِ ، لَكِنْ خُولِفَ هَذَا الْقِيَاسُ فِي الْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ : فَسَوَّى فِيهِمْ بَيْنَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ مِنْ جِهَةِ إدْلَائِهِمْ بِالْأُمِّ ، وَسَوَّى بَيْنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ : فَجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ مَعَ وُجُودِ الْأَوْلَادِ ، وَفَضْلِ الْأَبِ مَعَ الْأُمِّ مَعَ فَقْدِهِمْ ، وَقَدَّمَ الْأَبْنَاءَ عَلَى الْآبَاءِ فِي التَّعْصِيبِ لِأَنَّ الِابْنَ بِضْعَةٌ مِنْ الْأَبِ وَبَعْضٌ لَهُ ، فَكَانَ بَعْضُ الْمَيِّتِ أَحَقَّ بِمَالِهِ مِنْ أَبِيهِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ ، وَيُقَدَّمُ الْآبَاءُ عَلَى الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ ، لِأَنَّهُنَّ بِضْعَةٌ مِنْ الْأَمْوَاتِ ، لَكِنْ خُولِفَ الْقِيَاسُ فِيمَا إذَا مَاتَ عَنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَعَنْ مِائَةِ بِنْتٍ وَأُخْتٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَبَوَيْهِ ، فَإِنَّ الْأُخْتَ تَفُوزُ بِالثُّلُثِ وَهُوَ أَضْعَافُ مَا يَحْصُلُ لِلْبَنَاتِ مَعَ قُرْبِهِنَّ ، إذْ يَحْصُلُ لِكُلِّ بِنْتٍ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ ، وَيَحْصُلُ لِلْأُخْتِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا مَعَ كَوْنِ الْبِنْتِ بِضْعَةً لِلْمَيِّتِ وَبَعْضًا لَهُ ، وَالْأُخْتِ بِضْعَةً مِنْ الْجَدِّ مَعَ بُعْدِهِ ، وَهَذَا مُوغِلٌ فِي الْبُعْدِ عَنْ الْقِيَاسِ . وَكَذَلِكَ خُولِفَ الْقِيَاسُ فِي الْإِخْوَةِ مَعَ الْجَدِّ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُدْلِي بِالْأَبِ وَالْأَخِ أَوْلَى بِالْأَبِ الْمُدْلَى بِهِ ، وَالْجَدُّ لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَلِهَذَا جَعَلَ الشَّافِعِيُّ الْأَخَ فِي بَابِ الْوَلَاءِ مُقَدَّمًا عَلَى الْجَدِّ عَلَى قَوْلٍ ، لَكِنَّهُ بِضْعَةٌ مِنْ الْمُدْلَى بِهِ ، وَلَوْلَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ الْأَخَ لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْجَدِّ فِي الْإِرْثِ لَقَالَ بِتَقْدِيمِ الْأَخِ كَمَا قَالَ بِهِ فِي الْوَلَاءِ .

الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : الْأَحْدَاثُ الْمُطَلَّقُونَ مُسْتَقِلُّونَ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَنَافِعِ أَمْوَالِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا لِمَا فِي مُبَاشَرَتِهَا ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالْخَجَلِ وَالِاسْتِحْيَاءِ ، وَلَا سِيَّمَا فِي حَقِّ الْمُحْضَرَاتِ بِحَضْرَةِ شُهُودِ النِّكَاحِ ، وَكَذَلِكَ إجْبَارُ الْأَبِ الْبِكْرَ الْمُسْتَقِلَّةَ مُخَالِفٌ لِقَاعِدَةِ التَّصَرُّفِ فِي مَنَافِعِ الْحُرِّ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ ، لَكِنَّهُ جَازَ لِلْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ ، لِمَا فِيهِمْ مِنْ الِاسْتِصْلَاحِ وَتَحْصِيلِ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ .

الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْلُ الرَّجُلِ لِزَوْجَتِهِ إنْ أَعْطَيْتنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَفَعَلَتْ فَإِنَّهَا تَطْلُقُ : وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ إنْ حَمَلَ الْإِعْطَاءَ عَلَى الْإِقْبَاضِ مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ فَيَنْبَغِي أَنْ تَطْلُقَ وَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا كَمَا لَوْ قَالَ إنْ أَقْبَضْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ أَرَادَ إعْطَاءَ التَّمْلِيكِ فَكَيْفَ يَصِحُّ التَّمْلِيكُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ قَامَ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ عَلَى الْإِعْطَاءِ مِنْ الْإِيجَابِ ، قُلْنَا فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْإِيجَابُ بِالْفِعْلِ ، وَقَاعِدَةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعُقُودَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِالْأَفْعَالِ ، وَلَوْ قَالَ إنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَعْطَتْهُ أَلْفًا مِنْ غَيْرِ النَّقْدِ الْغَالِبِ ، وَقَعَ الطَّلَاقُ وَوَجَبَ الْإِبْدَالُ بِأَلْفٍ مِنْ الْغَالِبِ ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ إنْ عُلِّقَ عَلَى غَيْرِ الْغَالِبِ لَمْ يَجِبْ إبْدَالُهُ ، كَمَا لَوْ نُصَّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ عُلِّقَ عَلَى الْغَالِبِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ الْغَالِبِ ، لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يُوجَدْ .

الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ : لَا يَجُوزُ إسْقَاطُ شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ مَجَّانًا وَيُسْتَثْنَى بَعْدَ ذَلِكَ عَفْوُ الْوَلِيِّ الْمُجْبَرِ عَنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ لِمَا فِي الْمُسَامَحَةِ مِنْ وَلِيِّهَا .

الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : مَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا عَمْدًا بِغَيْرِ حَقٍّ لَزِمَهُ الضَّمَانُ جَبْرًا لِمَا فَاتَ مِنْ الْحَقِّ وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ صُوَرٌ . إحْدَاهَا : مَا أَتْلَفَهُ الْكُفَّارُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ فَإِنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ لِمَا فِي تَضْمِينِهِ مِنْ التَّنْفِيرِ عَنْ الْإِسْلَامِ ، وَإِتْلَافُهُمْ إيَّاهُ مُحَرَّمٌ لِأَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ . الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ : مَا يُتْلِفُهُ الْمُرْتَدُّونَ فِي حَالِ الْقِتَالِ ، وَفِي تَضَمُّنِهِ مَعَ تَحْرِيمِهِ اخْتِلَافٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّضْمِينَ مُنَفِّرٌ مِنْ الْإِسْلَامِ ، وَلَكِنَّ الرِّدَّةَ لَا تَعُمُّ عُمُومَ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ . الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ مَا يُتْلِفُهُ الْبُغَاةُ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فِي حَالِ الْقِتَالِ فَإِنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَهُ عَلَى قَوْلٍ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّنْفِيرِ عَنْ الطَّاعَةِ وَالْإِذْعَانِ ، وَعَلَى قَوْلٍ يَضْمَنُونَ لِانْحِطَاطِ رُتْبَةِ التَّنْفِيرِ عَنْ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَتَّصِفُ إتْلَافُهُمْ بِتَحْلِيلٍ وَلَا تَحْرِيمٍ وَلَا إبَاحَةٍ لِأَنَّهُ خَطَأٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ . الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ : مَا يُتْلِفُهُ الْعَبِيدُ عَلَى السَّادَةِ فَإِنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَهُ مَعَ تَحْرِيمِ إتْلَافِهِمْ وَفِي هَذَا إشْكَالٌ ، لِأَنَّ إيجَابَ مَا يُتْلِفُهُ الْعَبِيدُ فِي ذِمَّتِهِمْ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ شَرْعٌ وَلَا عَقْلٌ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ السَّادَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ لَا يَثْبُتُ لِلسَّيِّدِ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ عَبْدِهِ لَا وَجْهَ لَهُ . وَأَمَّا مَا يُتْلِفُهُ الْعَبْدُ عَلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ خِلَافًا لِأَهْلِ الظَّاهِرِ ، وَهَذَا مُشْكِلٌ مِنْ جِهَةٍ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَمْ يُتْلِفْ شَيْئًا وَلَا تَسَبَّبَ إلَى إتْلَافِهِ وَاَلَّذِي تَقْتَضِيهِ الْقَوَاعِدُ أَنْ يُبَثَّ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ ، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّمَا وَقَعَ التَّعَلُّقُ بِرَقَبَتِهِ ، لِتَفْرِيطِ السَّيِّدِ فِي حِفْظِهِ فَصَارَ كَالْبَهِيمَةِ إذَا قَصَّرَ صَاحِبُهَا فِي حِفْظِهَا فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا ، لِأَنَّ التَّعَلُّقَ بِالرَّقَبَةِ فِي عَبِيدِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ ثَابِتٌ مَعَ أَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِمْ تَقْصِيرٌ بِسَبَبٍ وَلَا مُبَاشَرَةٍ وَلَا شَرْطٍ ، وَالتَّقْصِيرُ فِي حِفْظِ الدَّابَّةِ لَا يَخْتَصُّ بِمَالِكِهَا بَلْ يَعُمُّ مَنْ قَصَّرَ فِي ضَبْطِهَا وَحِفْظِهَا مِنْ مَالِكٍ أَوْ غَالِبٍ أَوْ مُودِعٍ أَوْ مُسْتَعِيرٍ أَوْ مُسْتَأْجِرٍ . الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ : أَنَّ الْإِمَامَ وَالْحَاكِمَ إذَا أَتْلَفَا شَيْئًا مِنْ النُّفُوسِ أَوْ الْأَمْوَالِ فِي تَصَرُّفِهِمَا لِلْمَصَالِحِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ دُونَ الْحَاكِمِ وَالْإِمَامِ وَدُونَ عَوَاقِلِهِمَا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَصَرَّفَا لِلْمُسْلِمِينَ صَارَ كَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ هُمْ الْمُتْلِفُونَ وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَكْثُرُ فِي حَقِّهِمَا فَيَتَضَرَّرَانِ بِهِ وَيَتَضَرَّرُ عَوَاقِلُهُمَا . الصُّورَةُ السَّادِسَةُ : أَنَّ الْجَلَّادَ إذَا قَتَلَ بِالْحَدِّ أَوْ الْقِصَاصِ مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِشَيْءٍ مِنْ ضَمَانِ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُلْجِئٍ إلَى الْإِتْلَافِ ، وَمَنْ وَضَعَ يَدَهُ خَطَأً عَلَى مَالِ غَيْرِهِ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ إلَّا الْحُكَّامَ وَأُمَنَاءَ الْحُكَّامِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِعُهْدَةِ مَا بَاعُوهُ ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ شُرِطَ لَزَهِدَ النَّاسُ فِي الْبَيْعِ بِطَرِيقِ الْحُكْمِ وَنِيَابَةِ الْحُكْمِ .

الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ : إهْدَارُ الضَّمَانِ مَعَ التَّسَبُّبِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ تَارَةً بِالْمُبَاشَرَةِ ، وَتَارَةً بِالتَّسَبُّبِ وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ صُوَرٌ يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا وَتَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى التَّسَبُّبِ إلَيْهَا . إحْدَاهَا : إرْسَالُ الْبَهَائِمِ لِلرَّعْيِ بِالنَّهَارِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَا تُتْلِفُهُ لِمَا فِي تَضَمُّنِهِ مِنْ الضَّرَرِ الْعَامِّ . الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ : إذَا أَوْقَدَ فِي دَارِهِ نَارًا عَلَى الِاقْتِصَادِ الْمُعْتَادِ فَطَارَ مِنْهَا شَرَرٌ فَأَتْلَفَ شَيْئًا بِالْإِحْرَاقِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ . الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا سَقَى بُسْتَانَه عَلَى الِاقْتِصَادِ فِي مِثْلِهِ فَسَرَى إلَى جَارِهِ فَأَفْسَدَ لَهُ شَيْئًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ . الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا سَاقَ دَابَّتَهُ عَلَى الِاقْتِصَادِ فِي الْأَسْوَاقِ فَأَثَارَتْ غُبَارًا أَوْ شَيْئًا مِنْ الْأَوْحَالِ وَالْإِيذَاءِ فَأَفْسَدَ ذَلِكَ شَيْئًا فَلَا ضَمَانَ ، إلَّا أَنْ يَزِيدَ عَلَى الِاقْتِصَادِ فِي السُّوقِ . وَلَوْ سَاقَ فِي الْأَسْوَاقِ إبِلًا غَيْرَ مَقْطُورَةٍ أَوْ رَكِبَ دَابَّةً نَزِقَةً لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا كَبْحُ اللِّجَامِ لَزِمَهُ الضَّمَانُ لِخُرُوجِ ذَلِكَ عَنْ الْمُعْتَادِ ، وَلَوْ بَالَتْ أَوْ رَاثَتْ فِي الطَّرِيقِ فَتَلِفَ بِذَلِكَ إنْسَانٌ أَوْ غَيْرُهُ فَلَا ضَمَانَ ، وَإِنْ أَوْقَفَهَا فَزَادَ انْتِشَارُ بَوْلِهَا وَرَوْثِهَا بِسَبَبِ وَقْفِهَا فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا لَزِمَهُ الضَّمَانُ .

الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ الْأَصْلُ فِي الضَّمَانِ أَنْ يَضْمَنَ الْمِثْلِيَّ بِمِثْلِهِ ، وَالْمُتَقَوِّمَ بِقِيمَتِهِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْمِثْلُ رَجَعَ إلَى الْقِيمَةِ جَبْرًا لِلْمَالِيَّةِ ، وَلَوْ شَرِبَ الْمُضْطَرُّ مَاءً لِأَجْنَبِيٍّ لَهُ قِيمَةٌ خَطِيرَةٌ حَيْثُ شَرِبَهُ ضَمِنَهُ لِمُسْتَحِقِّهِ بِقِيمَتِهِ إذَا رَجَعَ إلَى الْمِصْرِ إذْ لَا قِيمَةَ لِمِثْلِهِ فِي الْأَمْصَارِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ قِيمَةٌ فَهِيَ خَسِيسَةٌ .

الْمِثَالُ الثَّلَاثُونَ : الذَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ تَقْلِيلًا لِمَا فِيهِ مِنْ الدَّمِ النَّجِسِ وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُقْدَرُ عَلَى ذَكَاتِهِ مِنْ الْوُحُوشِ وَالطُّيُورِ وَشَوَارِدِ الْأَنْعَامِ فَإِنَّ جَرْحَهَا يَقُومُ مَقَامَ ذَكَاتِهَا لِتَعَذُّرِ ذَكَاتِهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَقَطَ بَعِيرٌ فِي بِئْرٍ يَتَعَذَّرُ رَفْعُهُ مِنْهُ ، وَأَمْكَنَ طَعْنُهُ فِي بَعْضِ مَقَاتِلِهِ حَلَّ بِذَلِكَ ، وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : بُنِيَتْ الْأُصُولُ عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ إذَا ضَاقَتْ اتَّسَعَتْ يُرِيدُ ؛ بِالْأُصُولِ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ ، وَبِالِاتِّسَاعِ التَّرْخِيصَ الْخَارِجَ عَنْ الْأَقْيِسَةِ وَاطِّرَادِ الْقَوَاعِدِ ، وَعَبَّرَ بِالضِّيقِ عَنْ الْمَشَقَّةِ . ( فَائِدَةٌ ) إذَا سَقَطَ الصَّيْدُ وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ : فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ سَعَى إلَيْهِ عَدْوًا لَأَدْرَكَ ذَكَاتَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ حُرِّمَ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ حَلَّ وَإِنْ بَقِيَ عَلَى حَيَاةٍ مُسْتَقِرَّةٍ ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُجْهِدَ نَفْسَهُ لِيُدْرِكَ ذَكَاتَهُ ، بَلْ يَعْدُو إلَيْهِ عَدْوًا كَعَدْوِ الصَّيَّادِينَ .

الْمِثَالُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ : إذَا ظَهَرَ فِي نَصِيبِ أَحَدِ الْمُقْتَسِمِينَ حَقٌّ مُعَيَّنٌ لِإِنْسَانٍ كَبَيْتٍ مِنْ دَارٍ يَطْلُبُ الْقِسْمَةَ لِخُرُوجِهَا عَنْ حَقِيقَتِهَا ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَادُ مَا يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُقْتَسِمِينَ وَلَا يَحِقُّ لَهُ هَهُنَا ، وَلَوْ خَرَجَ ذَلِكَ فِي قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَعَسُرَ إبْطَالُهَا لِكَثْرَتِهِمْ لَمْ يُحْكَمْ بِبُطْلَانِهَا ، وَعُوِّضَ مَنْ وَقَعَ الْمُسْتَحَقُّ فِي نَصِيبِهِ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِمَا فِي نَقْضِ الْقِسْمَةِ مَعَ كَثْرَةِ الْجُنْدِ مِنْ الْعُسْرِ ، وَلَوْ كَانَ الْجُنْدُ قَلِيلًا كَعَشَرَةٍ مَثَلًا فَيَنْبَغِي أَنْ تَبْطُلَ الْقِسْمَةُ إذْ لَا عُسْرَ فِي إعَادَتِهَا .

الْمِثَالُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ : مَنْ مَلَكَ شَيْئًا ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ وَتَرَكَهُ لِغَيْرِهِ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ إلَّا الْغَنَائِمَ إذَا تَرَكَ حَقَّهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ حَقُّهُ وَيَبْطُلُ مِلْكُهُ ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْجِهَادِ الْأَعْظَمِ إنَّمَا هُوَ إعْلَاءُ كَلِمَةِ الدِّينِ ، وَمِلْكُ الْغَنَائِمِ تَابِعٌ لِذَلِكَ غَيْرُ مَقْصُودٍ ، فَإِذَا أَعْرَضَ عَنْهُ سَقَطَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ ، وَلِيَتَمَحَّصَ الْجِهَادُ لِنُصْرَةِ الدِّينِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .

الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ : لَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ الْإِنْسَانِ عَنْ مَنَافِعِهِ وَأَشْغَالِهِ وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ تَعْطِيلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا اسْتَدْعَاهُ الْحَاكِمُ بِطَلَبِ خَصْمِهِ لِإِحْضَارِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ ، وَكَذَلِكَ تَعْطِيلُ الشُّهُودِ إذَا اُسْتُحْضِرُوا لِمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهُ ، وَكَذَلِكَ اسْتِحْضَارُهُمْ لِمَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِالشَّهَادَةِ كَالنِّكَاحِ ، لِأَنَّهَا حُقُوقٌ وَاجِبَةٌ فَصَارَ كَتَعْطِيلِهِمْ فِيمَا لَا يُثْمِرُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ إلَّا بِالتَّعْلِيلِ : كَالْغَزَوَاتِ وَالْجُمُعَاتِ وَتَغْيِيرِ الْمُنْكَرَاتِ .

الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ : لَا يَسْتَوْفِي أَحَدٌ حَقَّ نَفْسِهِ بِالضَّرْبِ وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ إذَا اسْتَغْنَى مِنْ خِدْمَةِ السَّيِّدِ وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ وَلَمْ يَرْتَدِعَا بِالْوَعْظِ وَالْكَلَامِ ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ النَّاشِزَةُ عَلَى زَوْجِهَا ، وَهُوَ أَنْ يَضْرِبَهَا لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ ، وَالضَّرْبُ فِي هَذَا كُلِّهِ غَيْرُ مُبَرِّحٍ ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَضْرُوبِ فِي الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ .

الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ : مَنْ قَدَرَ عَلَى اسْتِيفَاءِ حَقٍّ لَهُ مَضْبُوطٍ مُعَيَّنٍ فَلَهُ اسْتِيفَاؤُهُ : كَانْتِزَاعِ الْمَغْصُوبِ مِنْ غَاصِبِهِ ، وَالْمَسْرُوقِ مِنْ سَارِقِهِ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْقِصَاصُ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِحَضْرَةِ الْإِمَامِ لِأَنَّ الِانْفِرَادَ بِاسْتِيفَائِهِ مُحَرِّكٌ لِلْفِتَنِ ، وَلَوْ انْفَرَدَ بِحَيْثُ لَا يَرَى فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْهُ ، وَلَا سِيَّمَا إذَا عَجَزَ عَنْ إثْبَاتِهِ . وَكَذَلِكَ لَا يُسْتَوْفَى حَدُّ الْقَذْفِ إلَّا بِحَضْرَةِ الْإِمَامِ ، وَلَا يَنْفَرِدُ مُسْتَحِقُّهُ بِاسْتِيفَائِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْبُوطٍ فِي شِدَّةِ وَقْعِهِ وَإِيلَامِهِ . وَكَذَلِكَ التَّعْزِيرُ لَا يُفَوَّضُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ إلَّا أَنْ يَضْبِطَهُ الْإِمَامُ بِالْحَبْسِ فِي مَكَان مَعْلُومٍ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ الْمُسْتَحِقُّ . وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَفْوِيضُ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ إلَى عَدُوِّ الْمَحْدُودِ وَالْمُعَزَّرِ : لِمَا يُخْشَى ذَلِكَ مِنْ مُجَاوَزَةِ الشَّرْعِ فِي شِدَّةِ الضَّرْبِ . وَكَذَلِكَ لَا يُفَوَّضُ إلَى الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ لِاتِّهَامِهِمْ فِي تَخْفِيفِهِ عَنْ الْقَدْرِ الْمَشْرُوعِ ، وَلَوْ فَوَّضَ الْإِمَامُ قَطْعَ السَّرِقَةِ إلَى السَّارِقِ ، أَوْ وَكَّلَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْجَانِيَ فِي قَطْعِ عُضْوِ الْقِصَاصِ فَوَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِاسْتِيفَائِهِ . وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ لِغَيْرِهِ أَزْجَرُ لَهُ كَمَا قَالَتْ الزَّبَّاءُ لَمَّا مَصَّتْ السُّمَّ مِنْ خَاتَمِهَا : بِيَدِي لَا بِيَدِك يَا عَمْرُو . وَلَوْ أَوْجَرَ رَجُلًا سُمًّا مُدَفَّفًا فَقَتَلَهُ فَأَمَرَهُ وَلِيُّ الْقِصَاصِ بِأَنْ يَشْرَبَ مِثْلَ ذَلِكَ السُّمِّ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَرَّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا نَظَائِرَ كَثِيرَةً لِمَا خَالَفَ الْقَوَاعِدَ وَالْأَقْيِسَةَ لِمَا فِيهِ مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ ، وَالشَّرِيعَةُ كُلُّهَا مَصَالِحُ مِنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ لِعِبَادِهِ فَيَا خَيْبَةَ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ نُصْحَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؟ ؟ ارْضَ لِمَنْ غَابَ عَنْك غَيْبَتَهُ فَذَاكَ ذَنْبٌ عِقَابُهُ فِيهِ وَكَفَى بِالْإِنْسَانِ شَرَفًا أَنْ يَتَزَيَّنَ بِطَاعَةِ مَوْلَاهُ فِيمَا أَمَرَهُ وَنَهَاهُ . وَكَفَى بِهِ شَرًّا أَنْ يُؤْثِرَ هَوَاهُ عَلَى طَاعَةِ مَوْلَاهُ { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا } { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } . فَصْلٌ فِي الْأَذْكَارِ يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَخْتَارُ مِنْ الْأَذْكَارِ أَفْضَلَهَا ، وَمِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ أَشْرَفَهَا ، وَيَأْتِي بِالْأَفْضَلِ فِي أَحْيَانِهِ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا . وَيَأْتِي بِالْمَفْضُولِ فِي وَقْتِهِ الَّذِي ضُرِبَ لَهُ ، وَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ الدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ كَمَا فِي ثَنَاءِ الْفَاتِحَةِ وَدُعَائِهَا ، وَكَذَلِكَ دُعَاءُ السُّجُودِ بَعْدَ التَّسْبِيحِ وَالثَّنَاءِ ، وَقَدْ نَهَى عَنْ بَعْضِ الْقُرْآنِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ، كَمَا نَهَى عَنْ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، وَعَنْ الثَّنَاءِ فِي الْقُعُودِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ ، وَعَنْ الصَّلَاةِ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ وَالْأَزْمَانِ ، وَعَنْ الصَّوْمِ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ . أَمَّا النَّهْيُ عَنْ الْعِبَادَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى الْمَلَالَةِ وَالسَّآمَةِ فَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إمَّا إلَى اسْتِثْقَالِهَا وَكَرَاهِيَتِهَا لِثِقَلِهَا ، أَوْ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَفْهَمَ أَقْوَالَهَا ، فَيَذْهَبُ إلَى أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِذَنْبِهِ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُلَابِسَهَا وَقَلْبُهُ سَاهٍ عَنْهَا ، وَلَا لَاهٍ عَنْ الْمَقْصُودِ مِنْهَا . فَإِنْ قِيلَ أَيُّمَا أَفْضَلُ قِرَاءَةُ تَبَّتْ أَمْ سُورَةِ الْكَافِرُونَ أَوْ الِاشْتِغَالِ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَهِيَ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ ، مَعَ أَنَّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ مُتَعَلِّقَةٌ بِاَللَّهِ وَهِيَ ثَنَاءٌ عَلَيْهِ ، وَتَبَّتْ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَبِي لَهَبٍ وَبِالْكُفَّارِ ، وَالْقَوْلُ يَشْرُفُ بِشَرَفِ مُتَعَلِّقِهِ . فَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ قَدْ تَكُونُ الْقِرَاءَةُ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضِ الْأَذْكَارِ كَالْقِرَاءَةِ فِي قِيَامِ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ تَكُونُ الْأَذْكَارُ أَفْضَلَ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي بَعْضِ الْأَطْوَارِ ، بَلْ تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ : كَالْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقُعُودِ ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ الثَّنَاءُ أَفْضَلَ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالْأَذْكَارِ فِي بَعْضِ الْأَطْوَارِ كَدُعَاءِ الْقُنُوتِ وَالدُّعَاءِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ . فَإِذَا كَانَ الْوَقْتُ قَابِلًا لِلْأَذْكَارِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ لَوْ أَتَى بِأَحَدِهِمَا لَمْ يُنْهَ عَنْهُ فَهَلْ تَكُونُ قِرَاءَةُ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْإِلَهِ أَوْلَى مِنْ الْأَذْكَارِ لِحُرْمَةِ الْقُرْآنِ ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ قِرَاءَتُهُ وَيَأْتِي مِنْ الْأَذْكَارِ بِمَا شَاءَ ، أَوْ تَكُونُ الْأَذْكَارُ لِتَعَلُّقِهَا بِالْإِلَهِ أَوْلَى مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ الْإِلَهِ ؟ فَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّ الْأَذْكَارَ أَوْلَى نَظَرًا إلَى شَرَفِ مُتَعَلِّقِهَا وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْكَلَامِ . وَأَمَّا مَا يَشْتَمِلُ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَذْكَارِ وَالثَّنَاءِ : كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ وَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى التَّمْجِيدِ وَالتَّحْمِيدِ وَالثَّنَاءِ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ الْأَذْكَارِ إلَّا أَنْ يَحْكِيَ بِالْأَذْكَارِ لَفْظَ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ فَحِينَئِذٍ الشَّرَفَانِ فَيَكُونُ أَفْضَلَ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَعَارِفَ وَالْعِبَادَاتِ مَقَاصِدُ وَوَسَائِلُ إلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ ، وَالنَّظَرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَعْلَى مَقَاصِدِ الْآخِرَةِ ، وَكَذَلِكَ رِضْوَانُهُ وَتَسْلِيمُهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ أَعْلَى الْمَقَاصِدِ ، وَالتَّسْلِيمُ فِي الدُّنْيَا وَسِيلَةٌ إلَى حُصُولِ السَّلَامَةِ ، وَكَذَلِكَ الشَّفَاعَاتُ وَالدَّعَوَاتُ وَالْخَوْفُ وَسِيلَةٌ إلَى الْكَفِّ عَنْ الْعِصْيَانِ ، وَالرَّجَاءُ وَسِيلَةٌ إلَى الطَّاعَاتِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِالرَّحْمَنِ ، وَالتَّوَكُّلُ مَقْصُودٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَوَسِيلَةٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَالْحُبُّ وَالْإِجْلَالُ مَقْصُودَانِ ، وَالْمَقْصُودُ وَسَائِلٌ إلَى كُلِّ مَطْلُوبٍ مِنْ الْوَسَائِلِ وَالْمَقَاصِدِ ، وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَسِيلَةٌ إلَى تَحْصِيلِ الِاغْتِذَاءِ وَالِارْتِوَاءِ وَالشِّفَاءِ ، وَالْحَيَاءُ وَسِيلَةٌ إلَى الْكَفِّ عَنْ الْقَبَائِحِ ، وَالْغَضَبُ وَسِيلَةٌ إلَى دَفْعِ الضَّيْمِ ، وَشَهْوَةُ الْجِمَاعِ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ ، وَهُوَ وَسِيلَةٌ إلَى كَثْرَةِ النَّسْلِ ، كَمَا أَنَّ شَهْوَةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَسِيلَةٌ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ اللَّذَيْنِ هُمَا وَسِيلَتَانِ إلَى الِاغْتِذَاءِ وَالِارْتِوَاءِ ، وَبَذْلُ الْمَالِ فِي الْقُرُبَاتِ وَسِيلَةٌ إلَى مَصَالِحِ الْمَبْذُولِ لَهُ الْعَاجِلَةِ ، وَإِلَى مَصَالِحِ الْبَاذِلِ الْآجِلَةِ ، وَإِنَّمَا فُضِّلَ الذِّكْرُ عَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ وَوَسِيلَةٌ إلَى حُصُولِ الْأَحْوَالِ النَّاشِئَةِ عَنْهُ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْهَا الِاسْتِقَامَةُ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ .

وَأَفْضَلُ الْأَذْكَارِ مَا صَدَرَ عَنْ اسْتِحْضَارِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ ، وَدُونَهُمَا ذِكْرُ الْإِنْعَامِ وَالْإِفْضَالِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى الْحُبِّ وَالشُّكْرِ ، وَذِكْرُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ اللَّذَيْنِ هُمَا وَسِيلَتَانِ إلَى تَرْكِ الْعِصْيَانِ لَيْسَا بِمَقْصُودَيْنِ إلَّا لِلْحَثِّ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْإِيمَانِ ، وَذِكْرُ الْجِنَانِ أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِ اللِّسَانِ لِأَنَّهُ مَنْشَأُ الْأَحْوَالِ ، وَقَدْ يَحْضُرُ ذِكْرُ الصِّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْأَحْوَالِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلَا تَكَلُّفِ اسْتِحْضَارٍ ، وَذَلِكَ غَالِبٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ ، وَغَلَبَتُهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَكْثَرُ مِنْهَا عَلَى الْأَوْلِيَاءِ ، وَلَمَّا عَسُرَ ذَلِكَ فِي حَقِّ عَامَّةِ الْخَلْقِ سَقَطَ عَنْهُمْ فِي الصَّلَاةِ وَفِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمْ لَمَا صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ وَلَا أُجِيبَتْ دَعَوَاتُهُمْ ، وَلَمَّا كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ أَعْظَمَ الْمَصَالِحِ اقْتَضَى عِظَمَ مَصَالِحِهِ أَنْ يَجِبَ ، لَكِنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَى أَعْظَمِ الْخَلْقِ سَقَطَ رِفْقًا بِهِمْ وَرَحْمَةً . وَأَمَّا مَنْ قَدَرَ وَتَمَكَّنَ مِنْهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ تَحْصِيلًا لِمَصَالِحِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ كَمَا يَسْقُطُ عَنْ غَيْرِهِ .

( فَائِدَةٌ ) الْأَذْكَارُ الْمَشْرُوعَةُ أَفْضَلُ مِنْ الْأَذْكَارِ الْمُخْتَرَعَةِ ، وَكَذَلِكَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الدَّعَوَاتِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْرُوعَةِ أَوْلَى مِنْ الدَّعَوَاتِ الْمَجْمُوعَاتِ وَإِنْ كَانَتْ جَائِزَةً . وَكَذَلِكَ التَّعْبِيرُ عَنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ بِمَا جَاءَ فِيهِ مِنْ الْكَلِمَاتِ أَوْلَى مِنْ التَّعْبِيرِ عَنْ ذَلِكَ بِالْمُرَاجَعَاتِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ الْبَيَانَ ، وَكَذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْإِلَهِ مِنْ الْمُرَادِفَاتِ إلَّا مَا أَطْلَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَوْصَى فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ . وَكَذَلِكَ لَا يُعَبَّرُ عَنْ طَاعَاتِهِ وَعِبَادَاتِهِ إلَّا بِمَا سَمَّاهَا بِهِ : كَالْفَجْرِ وَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالْجُمُعَاتِ ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَالِاعْتِكَافُ ، وَكَذَلِكَ لَا يُقَالُ حُظِرَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ، وَلَا يُقَالُ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبِيحَ وَالْمُبَاحَ لَهُ بَدَلَ قَوْلِهِ الْمُحَلِّلُ وَالْمُحَلَّلُ لَهُ ، بَلْ الْأَدَبُ التَّعْبِيرُ عَنْ الْمَعَانِي بِمَا عَبَّرَ الْعُظَمَاءُ عَنْهَا مُوَافَقَةً لَهُمْ وَإِجْلَالًا لَهُمْ ، وَكَذَلِكَ تَنْزِيهُ الْقُلُوبِ وَالْأَلْسِنَةِ الَّتِي جَرَى فِيهَا ذِكْرُ الْإِلَهِ عَنْ أَنْ يُذْكَرَ بِهَا سِوَاهُ إلَّا بِقَدْرِ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ وَتَحُثُّ الضَّرُورَةُ عَلَيْهِ .

فَصْلٌ فِي السُّؤَالِ يَشْرُفُ السُّؤَالُ بِشَرَفِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ : فَالسُّؤَالُ عَنْ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ سُؤَالٍ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } ثُمَّ السُّؤَالُ عَمَّا تَمَسُّ لِضَرُورَةٍ أَوْ الْحَاجَةِ إلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِهِ ، وَكَذَلِكَ السُّؤَالُ عَمَّا يُلَابِسُهُ الْمُكَلَّفُ مِنْ مَجْهُولِ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ ، ثُمَّ السُّؤَالُ عَنْ مَعْرِفَةِ مَصَالِحِ مَا يَعْزِمُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ الْمَصَالِحِ الْمُقَدَّمَةِ قَدَّمَ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمَصَالِحِ الْمُؤَخَّرَةِ أَخَّرَ ، وَإِنْ جَهِلَ أَهُوَ مِنْ الْمَصَالِحِ الْمُقَدَّمَةِ أَمْ الْمُؤَخَّرَةِ فَلَا يُقَدِّمُ حَتَّى يَعْلَمَ الْأَصْلَحَ مِنْ تَقْدِيمِهِ وَتَأْخِيرِهِ . وَأَمَّا سُؤَالُ الشَّيْءِ وَطَلَبُهُ : فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ مُحَرَّمًا فَسُؤَالُهُ حَرَامٌ ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا فَسُؤَالُهُ مَكْرُوهٌ ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَسُؤَالُهُ وَاجِبٌ ، وَإِنْ كَانَ مَنْدُوبًا فَسُؤَالُهُ نَدْبٌ ، وَأَمَّا طَلَبُ الْمُبَاحِ : فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَأَذَّى الْمَطْلُوبُ مِنْهُ بِبَذْلِهِ وَلَا رَدِّهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَالسُّؤَالِ عَنْ الطَّرِيقِ وَعَنْ اسْمِ الرَّفِيقِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَأَذَّى بِبَذْلِهِ الْمَسْئُولُ مِنْهُ وَيَخْجَلُ إذَا رَدَّهُ فَهَذَا مَكْرُوهٌ ، وَإِنْ كَانَ السَّائِلُ قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِهِ بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ مِنْ جِهَةِ أَنْ يَخْجَلَ الْمَسْئُولُ أَنْ يَرُدَّهُ فَيَتَأَذَّى بِمَشَقَّةِ الْخَجَلِ وَيَسْتَحِي إذَا مَنَعَهُ : إمَّا لِبُخْلِهِ ، وَإِمَّا لِحَاجَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ تَحْصِيلِهِ مَعَ مَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِسُؤَالِهِ ، كَمَا سَأَلَ مُوسَى وَالْخَضِرُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ الضِّيَافَةَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ لِئَامٍ فَلَمْ يُضَيِّفُوهُمَا . فَإِنْ قِيلَ قَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ قَبِيصَةَ : { إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ ، رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يَقْضِيَهَا ثُمَّ يَمْسِكَ ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ - أَوْ قَالَ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ - وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ : لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ - أَوْ قَالَ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ - فَمَا سِوَاهُنَّ يَا قَبِيصَةُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا } فَجَعَلَ مَا عَدَا ذَلِكَ سُحْتًا . قُلْنَا ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنْ يَسْأَلَ الزَّكَاةَ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لَهَا ، وَذَلِكَ مِنْ الطَّلَبِ الْمُحَرَّمِ ، وَقَدْ سَأَلَ جَمَاعَةٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ الرَّسُولُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، وَلَكِنْ يُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهَا وَقَائِعُ أَحْوَالٍ ، وَلَعَلَّ الرَّسُولُ وَالصَّحَابَةُ شَاهَدُوا مِنْ ضَعْفِ السُّؤَالِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مَا يُجَوِّزُ لَهُمْ السُّؤَالَ ، فَلَوْ كَانُوا مِمَّنْ تَظْهَرُ مِنْهُمْ الْقُدْرَةُ عَلَى كَسْبِ الْكِفَايَةِ لِصِحَّةِ أَجْسَامِهِمْ وَقُوَّةِ أَبْدَانِهِمْ وَلَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِ لَحَصَلَ الْغَرَضُ ، وَقَدْ يَسْأَلُ الْكَرِيمُ الْأَرْيَحِيُّ مَا هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فَيَتَأَذَّى بِمَنْعِهِ وَبَذْلِهِ ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكَرْمِ وَالْمُرُوآتِ ، وَكَيْفَ يُفْلِحُ مَنْ عَوَّدَ نَفْسَهُ السُّؤَالَ مَعَ مَا جَاءَ فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ وَالْإِنْكَارِ ، وَمِمَّا يُكْرَهُ السُّؤَالُ عَنْهُ سُؤَالُ مَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ مِنْ الْفُضُولِ . وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنْ عَوْرَاتِ النَّاسِ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَمُحَرَّمٌ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ : { وَلَا تَجَسَّسُوا } . وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْمُرُوآت لَيَعِزُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ الطُّرُقَاتِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ .

فَصْلٌ فِي الْبِدَعِ الْبِدْعَةُ فِعْلُ مَا لَمْ يُعْهَدْ فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إلَى : بِدْعَةٌ وَاجِبَةٌ ، وَبِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ ، وَبِدْعَةٌ مَنْدُوبَةٌ ، وَبِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ ، وَبِدْعَةٌ مُبَاحَةٌ ، وَالطَّرِيقُ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَنْ تُعْرَضَ الْبِدْعَةُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ : فَإِنْ دَخَلَتْ فِي قَوَاعِدِ الْإِيجَابِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي قَوَاعِدِ التَّحْرِيمِ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي قَوَاعِدِ الْمَنْدُوبِ فَهِيَ مَنْدُوبَةٌ ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي قَوَاعِدِ الْمَكْرُوهِ فَهِيَ مَكْرُوهَةٌ ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي قَوَاعِدِ الْمُبَاحِ فَهِيَ مُبَاحَةٌ ، وَلِلْبِدَعِ الْوَاجِبَةِ أَمْثِلَةٌ . أَحَدُهَا : الِاشْتِغَالُ بِعِلْمِ النَّحْوِ الَّذِي يُفْهَمُ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ لِأَنَّ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ وَلَا يَتَأَتَّى حِفْظُهَا إلَّا بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ . الْمِثَالُ الثَّانِي : حِفْظُ غَرِيبِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ اللُّغَةِ . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : تَدْوِينُ أُصُولِ الْفِقْهِ . الْمِثَالُ الرَّابِعُ : الْكَلَامُ فِي الْجُرْحِ وَالتَّعْدِيلِ لِتَمْيِيزِ الصَّحِيحِ مِنْ السَّقِيمِ ، وَقَدْ دَلَّتْ قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنَّ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِيمَا زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الْمُتَعَيَّنِ ، وَلَا يَتَأَتَّى حِفْظُ الشَّرِيعَةِ إلَّا بِمَا ذَكَرْنَاهُ .

وَلِلْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ أَمْثِلَةٌ . مِنْهَا : مَذْهَبُ الْقَدَرِيَّةِ ، وَمِنْهَا مَذْهَبُ الْجَبْرِيَّةِ ، وَمِنْهَا مَذْهَبُ الْمُرْجِئَةِ ، وَمِنْهَا مَذْهَبُ الْمُجَسِّمَةِ ، وَالرَّدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنْ الْبِدَعِ الْوَاجِبَةِ .

وَلِلْبِدَعِ الْمَنْدُوبَةِ أَمْثِلَةٌ . مِنْهَا : إحْدَاثُ الرُّبُطِ وَالْمَدَارِسِ وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ ، وَمِنْهَا كُلُّ إحْسَانٍ لَمْ يُعْهَدْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ ، وَمِنْهَا : صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ ، وَمِنْهَا الْكَلَامُ فِي دَقَائِقِ التَّصَوُّفِ ، وَمِنْهَا الْكَلَامُ فِي الْجَدَلِ فِي جَمْعِ الْمَحَافِلِ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَسَائِلِ إذَا قُصِدَ بِذَلِكَ وَجْهُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ .

وَلِلْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ أَمْثِلَةٌ . مِنْهَا : زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ ، وَمِنْهَا تَزْوِيقُ الْمَصَاحِفِ ، وَأَمَّا تَلْحِينُ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ تَتَغَيَّرُ أَلْفَاظُهُ عَنْ الْوَضْعِ الْعَرَبِيِّ ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ .

وَلِلْبِدَعِ الْمُبَاحَةِ أَمْثِلَةٌ . مِنْهَا : الْمُصَافَحَةُ عَقِيبَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ ، وَمِنْهَا التَّوَسُّعُ فِي اللَّذِيذِ مِنْ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ ، وَلُبْسِ الطَّيَالِسَةِ ، وَتَوْسِيعِ الْأَكْمَامِ . وَقَدْ يُخْتَلَفُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ ، فَيَجْعَلُهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ ، وَيَجْعَلُهُ آخَرُونَ مِنْ السُّنَنِ الْمَفْعُولَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا بَعْدَهُ ، وَذَلِكَ كَالِاسْتِعَاذَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْبَسْمَلَةِ .

فَصْلٌ فِي الِاقْتِصَادِ فِي الْمَصَالِحِ وَالْخُيُورِ . الِاقْتِصَادُ رُتْبَةٌ بَيْنَ رُتْبَتَيْنِ ، وَمَنْزِلَةٌ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ ، وَالْمَنَازِلُ ثَلَاثَةٌ : التَّقْصِيرُ فِي جَلْبِ الْمَصَالِحِ ، وَالْإِسْرَافِ فِي جَلْبِهَا ، وَالِاقْتِصَادُ بَيْنَهُمَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلْ يَدَك مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِك وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } وَقَالَ : { وَاَلَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } وَقَالَ حُذَيْفَةُ : الْحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ التَّقْصِيرَ سَيِّئَةٌ ، وَالْإِسْرَافَ سَيِّئَةٌ ، وَالْحَسَنَةَ مَا تَوَسَّطَ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالتَّقْصِيرِ ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا ، فَلَا يُكَلِّفُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ مِنْ الْخُيُورِ وَالطَّاعَاتِ إلَّا مَا يُطِيقُ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ وَلَا يُؤَدِّي إلَى الْمَلَالَةِ وَالسَّآمَةِ ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ : { لِيَصِلَ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا وَجَدَ كَسَلًا أَوْ فُتُورًا فَلْيَقْعُدْ - أَوْ قَالَ فَلْيَرْقُدْ } - وَمَنْ تَكَلَّفَ مِنْ الْعِبَادَةِ مَا لَا يُطِيقُهُ ، فَقَدْ تَسَبَّبَ إلَى تَبْغِيضِ عِبَادَةِ اللَّهِ ، وَمَنْ قَصَّرَ عَمَّا يُطِيقُهُ ، فَقَدْ ضَيَّعَ حَظَّهُ مِمَّا نَدَبَهُ اللَّهُ إلَيْهِ وَحَثَّهُ عَلَيْهِ ، قَدْ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّنَطُّعِ فِي الدِّينِ وَقَدْ هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ } ، { وَأَنْكَرَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الْتِزَامَهُ قِيَامَ اللَّيْلِ ، وَصِيَامَ النَّهَارِ ، وَاجْتِنَابَ النِّسَاءِ وَقَالَ لَهُ أَرَغِبْت عَنْ سُنَّتِي ؟ فَقَالَ : بَلْ سُنَّتَك أَبْغِي ، قَالَ : فَإِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَأَصْحَابَهُ عَمَّا عَزَمُوا عَلَيْهِ : مِنْ سَرْدِ الصَّوْمِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَالِاخْتِصَاءِ ، وَكَانُوا قَدْ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ الْفِطْرَ وَالنَّوْمَ ظَنًّا أَنَّهُ قُرْبَةً إلَى رَبِّهِمْ ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ غُلُوٌّ فِي الدِّينِ وَاعْتِدَاءٌ عَمَّا شَرَعَ فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } وَالتَّقْدِيرُ وَلَا تُحَرِّمُوا تَنَاوُلَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ وَالنِّكَاحِ وَلَا تَعْتَدُوا بِالِاخْتِصَاءِ ، إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُخْتَصِّينَ ، أَوْ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ بِالِاخْتِصَاءِ وَغَيْرِهِ ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَلَا تَعْتَدُوا بِمَا الْتَزَمْتُمُوهُ : أَيْ وَلَا تَعْتَدُوا الِاقْتِصَادَ إلَى السَّرَفِ ، وَإِنَّمَا عَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ تَحْبِيبًا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا يُحِبُّ مَنْ اعْتَدَى حُدُودَهُ ، وَمَا رَسَمَهُ مِنْ الِاقْتِصَادِ فِي أُمُورِ الدِّينِ . وَلِلِاقْتِصَادِ أَمْثِلَةٌ : فِي اسْتِعْمَالِ مِيَاهِ الطَّهَارَةِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ مِنْ الْمَاءِ إلَّا قَدْرُ الْإِسْبَاغِ ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ ذَلِكَ عَنْ الْمُدِّ فِي الْوُضُوءِ وَالصَّاعِ فِي الْغُسْلِ ، لِأَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ { كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ } ، وَلِلْمُتَوَضِّئِ وَالْمُغْتَسَلِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : إحْدَاهَا أَنْ يَكُونَ مُعْتَدِلَ الْخَلْقِ كَاعْتِدَالِ خَلْقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقْتَدِي بِهِ فِي اجْتِنَابِ التَّنْقِيصِ عَنْ الْمُدِّ وَالصَّاعِ . الْحَالُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ ضَئِيلًا لَطِيفَ الْخَلْقِ بِحَيْثُ يُعَادِلُ جَسَدُهُ بَعْضَ جَسَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مِنْ الْمَاءِ مَا تَكُونُ نِسْبَتُهُ إلَى جَسَدِهِ كَنِسْبَةِ الْمُدِّ وَالصَّاعِ إلَى جَسَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . الْحَالُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَكُونَ مُتَفَاحِشَ الْخَلْقِ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَعَظْمِ الْبَطْنِ وَفَخَامَةِ الْأَعْضَاءِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ عَنْ مِقْدَارٍ تَكُونُ نِسْبَتُهُ إلَى بَدَنِهِ كَنِسْبَةِ الْمُدِّ وَالصَّاعِ إلَى بَدَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مُفْرِدًا وَمُثَنِّيًا وَمُثَلِّثًا ، وَقَالَ وَهَذَا وُضُوئِي ، وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي ، وَوُضُوءُ خَلِيلِي إبْرَاهِيمَ ، فَمَنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ } . وَلَفْظُهُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : { أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الطُّهُورُ ؟ فَدَعَا بِمَاءٍ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا ، ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ، ثُمَّ أَدْخَلَ إصْبَعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ فِي أُذُنِهِ وَمَسَحَ إبْهَامَهُ عَلَى ظَاهِرِ أُذُنَيْهِ وَبِالسِّبَابَتَيْنِ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ، ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا الْوُضُوءُ ؛ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ - أَوْ ظَلَمَ وَأَسَاءَ } - وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ ؛ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ نَقَصَ عَنْ الْمَرَّةِ فَقَدْ أَسَاءَ وَمَنْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ فَإِنْ كَانَ قَاصِدًا لِلْقُرْبَةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ فَقَدْ أَسَاءَ لِتَقَرُّبِهِ إلَى الرَّبِّ بِمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ تَبَرُّدًا أَوْ تَنَظُّفًا بِالْمَاءِ الْحَارِّ أَوْ تَدَاوِيًا ، فَإِنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهَا فَقَدْ أَسَاءَ بِتَفْرِيقِ الْوُضُوءِ لَا بِمُجَرَّدِ الزِّيَادَةِ . وَمِنْهَا الِاقْتِصَادُ فِي الْمَوَاعِظِ : { كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَوَّلُ أَصْحَابُهُ بِالْمَوْعِظَةِ مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْهِمْ } ، وَالْمَوَاعِظُ إذَا كَثُرَتْ لَمْ تُؤْثِرْ فِي الْقُلُوبِ فَيَسْقُطُ بِالْإِكْثَارِ فَائِدَةُ الْوَعْظِ . وَمِنْهَا الِاقْتِصَادُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ السَّرَفِ فِيهِ ، وَقَالَ : { خُذُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ ، فَوَاَللَّهِ لَا يَسْأَمُ اللَّهُ حَتَّى تَسْأَمُوا } . وَمِنْهَا الِاقْتِصَادُ فِي الْعُقُوبَاتِ وَالْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ فَيُعَاقَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْجُنَاةِ عَلَى حَسَبِ قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ ، وَكَذَلِكَ رَجْمُ الزُّنَاةِ لَا يُرْجَمُ بِحَصَيَاتٍ وَلَا بِصَخَرَاتٍ وَإِنَّمَا يُضْرَبُ بِحَجَرٍ لَطِيفٍ يُرْجَمُ بِمِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ ، وَكَذَلِكَ الِاقْتِصَادُ فِي الضَّرْبِ لَا يُبَالَغُ فِيهِ إلَى سَفْحِ الدَّمِ ، وَلَا يُضْرَبُ ضَرْبًا لَا أَثَرَ لَهُ فِي الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ ، بَلْ يَكُونُ ضَرْبُهُ بَيْنَ ضَرْبَيْنِ ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ سَوْطُ الضَّرْبِ بَيْنَ سَوْطَيْنِ ، لَيْسَ بِحَدِيدٍ يَقْطَعُ الْجُلُودَ وَلَا بِبَالٍ لَا يُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ ، وَكَذَلِكَ الزَّمَنُ يَكُونُ بَيْنَ زَمَانَيْنِ كَزَمَنَيْ الرَّبِيعِ وَالْخَرِيفِ دُونَ زَمَنَيْ الْحَرِّ الشَّدِيدِ وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ ، وَهَذَا الِاقْتِصَادُ فِي الضَّرْبِ وَالسَّوْطُ جَارٍ فِي ضَرْبِ الرَّقِيقِ وَالصِّبْيَانِ وَالْبَهَائِمِ وَالنِّسْوَانِ عِنْدَ التَّأْدِيبِ وَالرِّيَاضَةِ وَالنُّشُوزِ . وَمِنْهَا الِاقْتِصَادُ فِي الدُّعَاءِ ، لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى أَدْعِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا اخْتِيَارُ الْأَدْعِيَةِ ، فَنُقِلَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَوَاتٌ مُخْتَصَرَاتٌ جَامِعَاتٌ ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِالتَّضَرُّعِ وَالْخُفْيَةِ فِي الدُّعَاءِ ، وَلَا يَحْضُرُ ذَلِكَ غَالِبًا إلَّا بِالتَّكَلُّفِ ، وَإِذَا أَطَالَ الدُّعَاءَ عَزَبَ التَّضَرُّعُ وَالْإِخْفَاءُ وَذَهَبَ أَدَبُ الدُّعَاءِ ، وَقَدْ اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَكُونَ دُعَاءُ التَّشَهُّدِ دُونَ قَدْرِ التَّشَهُّدِ . وَمِنْهَا الْجَهْرُ بِالْكَلَامِ لَا يُخَافِتُ فِيهِ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُهُ حَاضِرُوهُ ، وَلَا يَرْفَعُهُ فَوْقَ حَدِّ أَسْمَاعِهِمْ ، لِأَنَّ رَفْعَهُ فَوْقَ أَسْمَاعِهِمْ فُضُولٌ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ ، وَلِذَلِكَ شُرِعَ إخْفَاءُ الدُّعَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ الْخَفِيَّ كَمَا يَسْمَعُ الْجَلِيَّ ، فَرَفْعُ الصَّوْتِ فِي مُنَاجَاةِ الرَّبِّ فُضُولٌ لَا حَاجَة إلَيْهِ . وَمِنْهَا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ لَا يَتَجَاوَزُ فِيهِمَا حَدَّ الشِّبَعِ وَالرَّيِّ ، وَلَا يَقْتَصِرُ مِنْهُمَا عَلَى مَا يُضْعِفُهُ وَيُضْنِيهِ وَيُقْعِدُهُ عَنْ الْعِبَادَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } وَقَالَ : { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } . وَمِنْهَا إمْكَانُ السَّيْرِ إلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لَا تُزَادُ فِيهِ شِدَّةُ الْإِسْرَاعِ الْمُضْنِيَةِ لِلْأَجْسَادِ وَلَا التَّبَاطُؤُ الْخَارِجُ عَنْ الْمُعْتَادِ . وَمِنْهَا زِيَارَةُ الْإِخْوَانِ لَا يُكْثِرُ مِنْهَا بِحَيْثُ يَمَلُّونَهُ وَيَسْتَثْقِلُونَهُ ، وَلَا يَقِلُّ مِنْهَا بِحَيْثُ يَشْتَاقُونَهُ وَيَعْتِبُونَهُ . وَمِنْهَا مُخَالَطَةُ النِّسَاءِ لَا يُكْثِرُ بِحَيْثُ تَغْلِبُ عَلَيْهِ أَخْلَاقُهُنَّ ، وَلَا يُقَلِّلُهَا بِحَيْثُ يَتَأَذَّيْنَ بِذَلِكَ . وَمِنْهَا دِرَاسَةُ الْعُلُومِ لَا يُكْثِرُ مِنْهَا بِحَيْثُ يُؤَدِّي إلَى السَّآمَةِ وَالْكَرَاهَةِ ، وَلَا يُقَلِّلُهَا بِحَيْثُ يُعَدُّ مُقَصِّرًا فِيهَا . وَمِنْهَا السُّؤَالُ عَمَّا تَدْعُوَا الْحَاجَةُ إلَيْهِ إلَى السُّؤَالِ عَنْهُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا لَا يُكْثِرُ مِنْهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ مَاسَّةٍ . وَكَذَلِكَ الْمِزَاحُ وَالضَّحِكُ وَاللَّعِبُ . وَكَذَلِكَ الْمَدْحُ الْمُبَاحُ لَا يُكْثِرُ مِنْهُ وَلَا يَتَقَاعَدُ عَنْ الْيَسِيرِ مِنْهُ عِنْدَ مَسِيسِ الْحَاجَةِ تَرْغِيبًا لِلْمَمْدُوحِ فِي الْإِكْثَارِ مِمَّا مَدَحَ بِهِ أَوْ تَذْكِيرًا لَهُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ لِيَشْكُرَهَا وَلِيَذْكُرَهَا بِشَرْطِ الْأَمْنِ عَلَى الْمَمْدُوحِ مِنْ الْفِتْنَةِ . وَكَذَلِكَ الْهِجَاءُ الَّذِي تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ مِنْهُ إلَّا حَيْثُ أُمِرَ بِهِ فِي الشَّهَادَاتِ وَالرِّوَايَاتِ وَالْمَشُورَاتِ ، وَلَا تَكَادُ تَجِدُ مَدَّاحًا إلَّا رَذْلًا ، وَلَا هَجَّاءً إلَّا نَذْلًا ، إذْ الْأَغْلَبُ عَلَى الْمَدَّاحِينَ الْهَجَّائِينَ الْكَذِبُ وَالتَّغْرِيرُ ، وَمَدْحُك نَفْسَك أَقْبَحُ مِنْ مَدْحِك غَيْرِك ، فَإِنَّ غَلَطَ الْإِنْسَانِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَكْثَرُ مِنْ غَلَطِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، فَإِنَّ حُبَّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ ، وَلَا شَيْءَ أَحَبُّ إلَى الْإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ ، وَلِذَلِكَ يَرَى عُيُوبَ غَيْرِهِ وَلَا يَرَى عُيُوبَ نَفْسِهِ ، وَيَعْذُرُ بِهِ نَفْسَهُ بِمَا لَا يَعْذُرُ بِهِ غَيْرَهُ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى } وَقَالَ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } . مَبْحَثٌ قَدْ يَمْدَحُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ إذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ وَلَا يَمْدَحُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ إلَّا إذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ خَاطِبًا إلَى قَوْمٍ فَيُرَغِّبَهُمْ فِي نِكَاحِهِ ، أَوْ فَيُعَرِّفَ أَهْلِيَّتَهُ الْوِلَايَاتِ الشَّرْعِيَّةَ وَالْمَنَاصِبَ الدِّينِيَّةَ لِيَقُومَ بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنًا أَوْ كِفَايَةً كَقَوْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } وَقَدْ يَمْدَحُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ لِيُقْتَدَى بِهِ فِيمَا مَدَحَ بِهِ نَفْسَهُ كَقَوْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا تَعَنَّيْت مُنْذُ أَسْلَمْت ، وَلَا تَمَنَّيْت ، وَلَا مَسِسْت ذَكَرِي بِيَمِينِي مُنْذُ بَايَعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالْأَقْوِيَاءِ الَّذِينَ يَأْمَنُونَ التَّسْمِيعَ وَيُقْتَدَى بِأَمْثَالِهِمْ . وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالْأَوْلَى بِالْمَرْءِ أَنْ لَا يَأْتِيَ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ إلَّا بِمَا فِيهِ جَلْبُ مَصْلَحَةٍ عَاجِلَةٍ أَوْ آجِلَةٍ أَوْ دَرْءِ مُفْسِدَةٍ عَاجِلَةٍ أَوْ آجِلَةٍ ، مَعَ الِاقْتِصَادِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ ، فَلَا يَأْتِي فِي طَهَارَتِهِ إلَّا بِمَا يُكْمِلُ طَهَارَتَهُ ، لِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَيْهِ عَبَثٌ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ . وَكَذَلِكَ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ فِي الْكَلَامِ إلَّا بِمِقْدَارِ مَا يَبْلُغُ سَامِعِيهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي وَعْظٍ أَوْ زَجْرٍ ، { فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا خَطَبَ اشْتَدَّ غَضَبُهُ وَعَلَا صَوْتُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ ، وَكَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ تَذْكِيرًا لِلنَّاسِ بِهَا حَتَّى يُلَبُّوا } ، وَلِذَلِكَ شُرِعَ رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْأَذَانِ لِكَثْرَةِ السَّامِعِينَ وَخَفْضُهُ فِي الْإِقَامَةِ لِقِلَّةِ الْحَاضِرِينَ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ : { اُدْعُوَا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } أَنَّهُ إذَا سَمِعَ الدُّعَاءَ الْخَفِيَّ فَلَا حَاجَةَ إلَى رَفْعِ الصَّوْتِ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ : { إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَرَادَ الَّذِينَ يَعْتَدُونَ بِرَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ فِي الدُّعَاءِ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ لَمَّا رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ : { أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا دُونَ رُءُوسِ رِحَالِكُمْ } وَقَالَ آخَرُونَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ فِي الدُّعَاءِ وَلَا فِي غَيْرِهِ . وَنُقِلَ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَهَرَ فِي أَدْعِيَةٍ } وَلَكِنْ كَانَ جَهْرُهُ تَعْلِيمًا لِأَصْحَابِهِ دُونَ النَّوْعِ مِنْ الدُّعَاءِ ، وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَّا التَّعْلِيمُ فَيَكُونُ لِلْجَاهِرِ بِذَلِكَ أَجْرَانِ أَحَدُهُمَا : أَجْرُ الدُّعَاءِ . وَالثَّانِي : أَجْرُ التَّعْلِيمِ . وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ لَا يَنْبَغِي لَك أَنْ تَتَكَلَّمَ إلَّا بِمَا يَجُرُّ مَصْلَحَةً أَوْ يَدْرَأُ مَفْسَدَةً ، وَكَذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ } فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ فِي الْمِزَاحِ ؟ قُلْنَا : إنَّمَا يَجُوزُ الْمِزَاحُ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِرْوَاحِ إمَّا لِلْمَازِحِ أَوْ لِلْمَمْزُوحِ مَعَهُ وَإِمَّا لَهُمَا . وَأَمَّا الْمِزَاحُ الْمُؤْذِي الْمُغَيِّرُ لِلْقُلُوبِ الْمُوجِسُ لِلنُّفُوسِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ تَحْرِيمٍ أَوْ كَرَاهَةٍ ، وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْزَحُ جَبْرًا لِلْمَمْزُوحِ مَعَهُ وَإِينَاسًا وَبَسْطًا ، كَقَوْلِهِ لِأَخِي أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : { يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ } وَشَرْطُ الْمِزَاحِ الْمُبَاحِ أَنْ يَكُونَ بِالصِّدْقِ دُونَ الْكَذِبِ . وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ مِنْ أَخْذِ الْمَتَاعِ عَلَى سَبِيلِ الْمِزَاحِ فَهَذَا مَحْظُورٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْوِيعِ صَاحِبِ الْمَتَاعِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { لَا يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لَاعِبًا جَادًّا } جَعَلَهُ لَاعِبًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَخَذَهُ بِنِيَّةِ رَدِّهِ ، جَادًّا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ رَوَّعَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ بِفَقْدِ مَتَاعِهِ ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَلَا يَنْبَغِي لِعَاقِلٍ أَنْ يَخْطِرَ بِقَلْبِهِ وَلَا يَجْرِي عَلَى جَوَارِحِهِ إلَّا مَا يُوجِبُ صَلَاحًا أَوْ يَدْرَأُ فَسَادًا ، فَإِنْ سَنَحَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ فَلْيَدْرَأْ مَا اسْتَطَاعَ .

وَالطَّرِيقُ فِي إصْلَاحِ الْقُلُوبِ الَّتِي تَصْلُحُ الْأَجْسَادَ بِصَلَاحِهَا وَتَفْسُدُ بِفَسَادِهَا تَطْهِيرُهَا مِنْ كُلِّ مَا يُبَاعِدُ عَنْ اللَّهِ وَتَزْيِينُهَا بِكُلِّ مَا يُقَرِّبُ إلَيْهِ وَيُزْلِفُهُ لَدَيْهِ مِنْ الْأَحْوَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَحُسْنِ الْآمَالِ وَلُزُومِ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَالْإِصْغَاءِ إلَيْهِ وَالْمُثُولِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ مِنْ غَيْرِ أَدَاءً إلَى السَّآمَةِ وَالْمَلَالِ ، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ هِيَ الْمُلَقَّبَةُ بِعِلْمِ الْحَقِيقَةِ ، وَلَيْسَتْ الْحَقِيقَةُ خَارِجَةً عَنْ الشَّرِيعَةِ ، بَلْ الشَّرِيعَةُ طَافِحَةٌ بِإِصْلَاحِ الْقُلُوبِ بِالْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَالْعُزُومِ وَالنِّيَّاتِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ ، فَمَعْرِفَةُ أَحْكَامِ الظَّوَاهِرِ مَعْرِفَةٌ لِجُلِّ الشَّرْعِ ، وَمَعْرِفَةُ أَحْكَامِ الْبَوَاطِنِ مَعْرِفَةٌ لِدَقِّ الشَّرِيعَةِ ، وَلَا يُنْكِرُ شَيْئًا مِنْهُمَا إلَّا كَافِرٌ أَوْ فَاجِرٌ ، وَقَدْ يَتَشَبَّهُ بِالْقَوْمِ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ وَلَا يُقَارِبُهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ الصِّفَاتِ وَهُمْ شَرٌّ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ، وَلِأَنَّهُمْ يَقْطَعُونَ طُرُقَ الذَّاهِبِينَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ اعْتَمَدُوا عَلَى كَلِمَاتٍ قَبِيحَاتٍ يُطْلِقُونَهَا عَلَى اللَّهِ وَيُسِيئُونَ الْأَدَبَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَأَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْأَتْقِيَاءِ ، وَيَنْهَوْنَ مَنْ يَصْحَبُهُمْ عَنْ السَّمَاعِ مِنْ الْفُقَهَاءِ ، لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْفُقَهَاءَ يَنْهَوْنَ عَنْ صُحْبَتِهِمْ وَعَنْ سُلُوكِ طَرِيقِهِمْ .

وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُصُولَ أَنْوَاعٌ أَحَدُهَا . الْخَوْفُ وَهُوَ نَاشِئٌ عَنْ مَعْرِفَةِ شِدَّةِ الِانْتِقَامِ . النَّوْعُ الثَّانِي : الرَّجَاءُ وَهُوَ نَاشِئٌ عَنْ مَعْرِفَةِ الرَّحْمَةِ وَالْإِنْعَامِ . النَّوْعُ الثَّالِثُ : التَّوَكُّلُ وَهُوَ نَاشِئٌ عَنْ مَعْرِفَةِ تَفَرُّدِ الرَّبِّ بِالضُّرِّ وَالنَّفْعِ وَالْخَفْضِ وَالرَّفْعِ ، وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ ، وَالْإِعْزَازِ وَالْإِذْلَالِ ، وَالْإِكْثَارِ وَالْإِقْلَالِ . النَّوْعُ الرَّابِعُ : الْمَحَبَّةُ وَلَهَا سَبَبَانِ أَحَدُهُمَا : مَعْرِفَةُ إحْسَانِهِ وَعَنْهَا تَنْشَأُ مَحَبَّةِ الْإِنْعَامِ وَالْإِفْضَالِ ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهَا وَأَحْسَنَ إلَيْهَا فَمَا الظَّنُّ بِمَحَبَّةِ مَنْ الْإِنْعَامُ كُلُّهُ مِنْهُ وَالْإِحْسَانُ كُلُّهُ صَادِرٌ عَنْهُ . السَّبَبُ الثَّانِي : مَعْرِفَةُ جَمَالِهِ وَعَنْهَا تَنْشَأُ مَحَبَّةِ الْجَلَالِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحِبِّينَ أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ مَحَبَّةٍ إذْ لَا إفْضَالَ كَإِفْضَالِهِ ، وَلَا جَمَالَ كَجَمَالِهِ . النَّوْعُ الْخَامِسُ : الْحَيَاءُ وَهُوَ نَاشِئٌ عَنْ مَعْرِفَةِ نَظَرِهِ إلَيْنَا وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْنَا فَمَنْ حَضَرَتْهُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ اسْتَحْيَا مِنْ نَظَرِهِ إلَيْنَا وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْنَا ، فَلَمْ يَأْتِ إلَّا بِمَا يُقَرِّبُهُ إلَيْهِ وَيُزْلِفُهُ لَدَيْهِ ، وَلَا يَأْتِي بِمَا يُبْعِدُهُ مِنْهُ وَيُنَحِّيهِ عَنْهُ . النَّوْعُ السَّادِسُ وَالسَّابِعُ : الْمَهَابَةُ وَالْإِجْلَالُ وَمُنْشَؤُهُمَا مَعْرِفَةُ جَلَالِهِ وَكَمَالِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَهَابَتُهُ وَإِجْلَالُهُ ، أَعْظَمَ مِنْ كُلِّ مَهَابَةٍ وَإِجْلَالٍ إذْ لَا إجْلَالَ كَإِجْلَالِهِ وَلَا كَمَالٍ كَكَمَالِهِ . النَّوْعُ الثَّامِنُ : الْفَنَاءُ النَّاشِئُ عَنْ الِاسْتِغْرَاقِ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَحَقِيقَةُ الْفَنَاءِ غَفْلَةٌ وَغَيْبَةٌ ، وَفَرَاغُ الْقَلْبِ عَنْ الْأَكْوَانِ إلَّا عَنْ السَّبَبِ الْمُفْنِي ، فَمَنْ فَقَدَ مَعْرِفَةً مِنْ هَذِهِ الْمَعَارِفِ فَقَدْ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهَا مِنْ الْأَحْوَالِ ، وَمَا يُنَاسَبُ تِلْكَ الْأَحْوَالِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ ، وَمَنْ دَامَتْ مَعَارِفُهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ دَامَتْ لَهُ الْأَحْوَالُ النَّاشِئَةُ عَنْهَا وَالْمُسْتَفَادَةُ مِنْهَا ، وَتَتَفَاوَتُ رُتَبُ الْقَوْمِ بِتَفَاوُتِ دَوَامِ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَيْهَا ، وَكَذَلِكَ تَتَفَاوَتُ رُتَبُهُمْ بِشَرَفِ الْأَحْوَالِ النَّاشِئَةِ عَنْ الْمَعَارِفِ الْمَذْكُورَةِ ، فَمَرَاتِبُ الْخَائِفِينَ وَالرَّاجِينَ دُونَ مَرَاتِبِ الْمُحِبِّينَ لِتَعَلُّقِ أَسْبَابِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ بِالْمَخُوفِ مِنْ الشُّرُورِ ، وَالْمَرْجُوِّ مِنْ الْخُيُورِ وَتَتَعَلَّقُ الْمَحَبَّةُ بِالْإِلَهِ .

ثُمَّ الْمَحَبَّةُ النَّاشِئَةُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْجَمَالِ أَفْضَلُ مِنْ الْمَحَبَّةِ النَّاشِئَةِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْإِنْعَامِ وَالْإِفْضَالِ ، لِأَنَّ مَحَبَّةَ الْجَمَالِ نَشَأَتْ عَنْ جَمَالِ الْإِلَهِ ، وَمَحَبَّةَ الْإِنْعَامِ وَالْإِفْضَالِ نَشَأَتْ عَمَّا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ إنْعَامِهِ وَإِفْضَالِهِ ، وَالتَّعْظِيمُ وَالْإِجْلَالُ أَفْضَلُ مِنْ الْكُلِّ ، لِأَنَّهُمَا نَشَآ عَنْ مَعْرِفَةِ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ فَنَشَآ عَنْ جَلَالِ اللَّهِ وَكَمَالِهِ وَتَعَلُّقَاتِهِ فَلَهُمَا شَرَفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ اثْنَيْنِ ، وَمَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى أَوْصَافٍ غَيْرِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ ، فَنَشَأَتْ عَنْهَا أَحْوَالٌ تُنَاسِبُهَا غَيْرَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَا يُمْكِنُهُمْ الْعِبَارَةُ عَنْهَا ، إذْ لَمْ تُوضَعْ عِبَارَةٌ عَلَيْهَا وَلَا الْإِشَارَةُ إلَيْهَا ، فَإِنَّ دَلَالَةَ الْإِشَارَةِ دُونَ دَلَالَةِ الْعِبَارَةِ ، فَإِنَّ لِلْأَكَابِرِ عُلُومًا خَارِجَةً عَنْ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ النَّظَرِيِّ وَهُمْ فِيهَا مُتَفَاوِتُونَ وَلِحُضُورِ هَذِهِ الْمَعَارِفِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُلُوبِ رُتِّبَ أَعْلَاهَا أَنْ تَبْدَأَ الْقُلُوبُ مِنْ غَيْرِ سَعْيٍ فِي اسْتِحْضَارِهَا وَاكْتِسَابِهَا ، فَيَصْدُرُ عَنْهَا الْأَحْوَالُ النَّاشِئَةُ لَهَا ، ثُمَّ تَدُومُ بِدَوَامِهَا وَتَنْقَطِعُ بِانْقِطَاعِهَا ، وَهَذَا ثَابِتٌ لِلنَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ فِي أَغْلِبْ الْأَحْوَالِ وَالْقَلِيلِ مِنْ الْأَبْدَالِ . الرُّتْبَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا الْعَبْدُ بِاسْتِجْلَابِهَا وَاسْتِذْكَارِهَا حَتَّى تَحْضُرَ وَيَنْشَأَ عَنْهَا أَحْوَالُهَا اللَّائِقَةُ بِهَا وَيَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي ذَلِكَ : فَمِنْهُمْ مَنْ تَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَعَارِفُ ، فَتَسْتَمِرُّ بِهِ الْأَحْوَالُ النَّاشِئَةُ عَنْهَا ، وَهَذَا دَأْبُ الْأَوْلِيَاءِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَنْقَطِعُ عَنْهُمْ هَذِهِ الْمَعَارِفُ وَالْأَحْوَالُ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ اسْتِحْضَارِهَا وَهَذَا حَالُ مِثْلِنَا وَأَمْثَالِنَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقَعُ انْقِطَاعُهَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الرُّتْبَتَيْنِ وَهُمْ يَتَفَاوَتُونَ فِي سُرْعَةِ الِانْقِطَاعِ وَبُطْئِهِ . الرُّتْبَةُ الثَّالِثَةُ : مَنْ لَا تَحْضُرُهُ هَذِهِ الْمَعَارِفُ وَالْأَحْوَالُ النَّاشِئَةُ عَنْهَا إلَّا بِسَبَبٍ خَارِجٍ ، وَلَهُمْ رُتَبٌ . أَحَدُهَا : مَنْ تَحْضُرُهُ الْمَعَارِفُ وَأَحْوَالُهَا عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ ، وَهَؤُلَاءِ أَفْضَلُ أَهْلِ السَّمَاعِ . الرُّتْبَةُ الثَّانِيَةُ : مَنْ تَحْضُرُهُ الْمَعَارِفُ وَالْأَحْوَالُ عِنْدَ سَمَاعِ الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ ، وَهَؤُلَاءِ فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ . الرُّتْبَةُ الثَّالِثَةُ : مَنْ تَحْضُرُهُ هَذِهِ الْمَعَارِفُ وَالْأَحْوَالُ عِنْدَ سَمَاعِ الْحِدَاءِ وَالنَّشِيدِ ، وَهَذَا فِي الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ لِارْتِيَاحِ النُّفُوسِ وَالْتِذَاذِهَا بِسَمَاعِ الْمُتَّزِنِ مِنْ الْأَشْعَارِ وَالنَّشِيدِ ، وَفِي هَذَا نَقْصٌ مِنْ جِهَةِ مَا فِيهِ مِنْ حَظِّ النَّفْسِ . الرُّتْبَةُ الرَّابِعَةُ : مَنْ تَحْضُرُهُ هَذِهِ الْمَعَارِفُ وَالْأَحْوَالِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَيْهَا عِنْدَ سَمَاعِ الْمُطْرِبَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِي تَحْلِيلِهَا كَسَمَاعِ الدُّفِّ وَالشَّبَّابَاتِ ، فَهَذَا إنْ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ فَهُوَ مُسِيءٌ بِسَمَاعِهِ مُحْسِنٌ بِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ ، وَإِنْ اعْتَقَدَ إبَاحَتَهَا تَقْلِيدًا لِمَنْ قَالَ بِهَا مِنْ الْعُلَمَاءِ فَهُوَ تَارِكٌ لِلْوَرَعِ بِاسْتِمَاعِهَا مُحْسِنٌ بِمَا حَضَرَهُ مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ النَّاشِئَةِ عَنْهَا . الرُّتْبَةُ الْخَامِسَةُ : مَنْ تَحْضُرُهُ هَذِهِ الْمَعَارِفُ وَالْأَحْوَالُ عِنْدَ سَمَاعِ الْمُطْرِبَاتِ الْمُحَرَّمَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَسَمَاعِ الْأَوْتَارِ وَالْمِزْمَارِ فَهَذَا مُرْتَكِبٌ لِمُحَرَّمٍ مُلْتَذُّ النَّفْسِ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ ، فَإِنْ حَضَرَهُ مَعْرِفَةٌ وَحَالٌ تُنَاسِبُ تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ ، كَانَ مَازِجًا لِلْخَيْرِ بِالشَّرِّ ، وَالنَّفْعِ بِالضُّرِّ ، مُرْتَكِبًا لِحَسَنَاتٍ وَسَيِّئَاتٍ وَلَعَلَّ حَسَنَاتِهِ لَا تَفِي بِسَيِّئَاتِهِ فَإِنْ انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ نَظَرٌ إلَى مُطْرِبٍ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ ، فَقَدْ زَادَتْ شِقْوَتُهُ وَمَعْصِيَتُهُ . فَهَذِهِ رُتَبُ مَنْ تَحْضُرُهُمْ الْمَعَارِفُ وَالْأَحْوَالُ بِسَبَبِ مَا يَسْتَمِعُونَهُ ، فَالْمُسْتَمِعُونَ بِالْقُرْآنِ أَفْضَلُ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ سَبَبَهُمْ أَفْضَلُ الْأَسْبَابِ ، وَيَلِيهِمْ مَنْ يَسْتَمِعُ الْوَعْظَ وَالتَّذْكِيرَ إذْ لَيْسَ فِيهِ غَرَضٌ لِلنُّفُوسِ حَاصِلٌ مِنْ الْأَوْزَانِ ، وَيَلِيهِمْ مَنْ يَسْتَمِعُ الْحِدَاءَ وَالْأَشْعَارَ ، لِمَا فِيهِ مِنْ حَظِّ النُّفُوسِ بِلَذَّةِ سَمَاعِ مَوْزُونِ الْكَلَامِ ، فَإِنَّهُ يَلْتَذُّ بِهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ ، وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ، وَلَيْسَ لَذَّةُ النُّفُوسِ بِذَلِكَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فِي شَيْءٍ ، وَيَلِيهِمْ مَنْ يَسْمَعُ الْمُطْرِبَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِي تَحْرِيمِهَا لِلِاخْتِلَافِ فِي قُبْحِ سَبَبِهِ ، وَيَلِيهِمْ مَنْ يَسْمَعُ مَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى تَحْرِيمِهِ ، لِأَنَّهُ أَسْوَأُ حَالًا مِمَّنْ تَقَدَّمَهُ .

وَعَلَى الْجُمْلَةِ : فَالسَّمَاعُ بِالْحِدَاءِ وَنَشِيدِ الْأَشْعَارِ بِدْعَةٌ لَا بَأْسَ بِسَمَاعِ بَعْضِهَا . وَأَمَّا سَمَاعُ الْمُطْرِبَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ فَغَلَطٌ مِنْ الْجَهَلَةِ الْمُتَشَيِّعِينَ الْمُتَشَبِّهِينَ الْمُجْتَرِئِينَ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قُرْبَةً كَمَا زَعَمُوهُ لَمَا أَهْمَلَ الْأَنْبِيَاءُ أَنْ يَفْعَلُوهُ وَيُعَرِّفُوهُ لِأَتْبَاعِهِمْ وَأَشْيَاعِهِمْ ، وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا مِنْ أَكَابِرِ الْأَوْلِيَاءِ ، وَلَا أَشَارَ إلَيْهِ كِتَابٌ مِنْ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ السَّمَاءِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا } وَلَوْ كَانَ السَّمَاعُ بِالْمَلَاهِي الْمُطْرِبَاتِ مِنْ الدِّينِ ، لَبَيَّنَهُ رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا تَرَكْت شَيْئًا يُقَرِّبُكُمْ مِنْ النَّارِ وَيُبَاعِدُكُمْ عَنْ الْجَنَّةِ إلَّا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ } .

وَاعْلَمْ أَنَّ السَّمَاعَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السَّامِعِينَ وَالْمَسْمُوعِ مِنْهُمْ ، وَهُمْ أَقْسَامٌ . أَحَدُهَا الْعَارِفُونَ بِاَللَّهِ ، وَيَخْتَلِفُ سَمَاعُهُمْ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فَمَنْ غَلَبَ ، عَلَيْهِ الْخَوْفُ أَثَّرَ فِيهِ السَّمَاعُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَخْلُوقَاتِ وَظَهَرَتْ آثَارُهُ عَلَيْهِ مِنْ الْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ وَتَغْيِيرِ اللَّوْنِ . وَالْخَوْفُ عَلَى أَقْسَامٍ أَحَدُهَا : خَوْفُ الْعِقَابِ ، وَالثَّانِي خَوْفُ فَوَاتِ الثَّوَابِ ، وَالثَّالِثُ خَوْفُ فَوَاتِ الْحَظِّ مِنْ الْأُنْسِ وَالْقُرْبِ بِالْمَلِكِ الْوَهَّابِ ، وَهَذَا مِنْ أَفْضَلِ الْخَائِفِينَ وَأَفْضَلِ السَّامِعِينَ ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يَتَصَنَّعُ فِي السَّمَاعِ ، وَلَا يُصْدَرُ عَنْهُ إلَّا مَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ آثَارِ الْخَوْفِ لِأَنَّ الْخَوْفَ وَازِعٌ عَنْ التَّصَنُّعِ وَالرِّيَاءِ ، وَهَذَا إذَا سَمِعَ الْقُرْآنُ كَانَ تَأْثِيرُهُ فِيهِ أَشَدَّ مِنْ تَأْثِيرِ النَّشِيدِ وَالْغِنَاءِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الرَّجَاءُ فَهَذَا يُؤَثِّرُ فِيهِ السَّمَاعُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمُطْمِعَاتِ وَالْمُرْجِيَاتِ ؛ فَإِنْ كَانَ رَجَاؤُهُ لِلْأُنْسِ وَالْقُرْبِ كَانَ سَمَاعُهُ أَفْضَلَ سَمَاعِ الرَّاجِينَ ، وَإِنْ كَانَ رَجَاؤُهُ لِلثَّوَابِ فَهَذَا فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ ، وَتَأْثِيرُ السَّمَاعِ فِي الْأَوَّلِ أَشَدُّ مِنْ تَأْثِيرِهِ فِي الثَّانِي . الْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْحُبُّ وَهُوَ قِسْمَانِ : أَحَدُهُمَا مَنْ أَحَبَّ اللَّهُ لِإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِ فَهَذَا يُؤَثِّرُ فِيهِ سَمَاعُ الْإِنْعَامِ وَالْإِفْضَالِ وَالْإِحْسَانِ وَالْإِكْرَامِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ اللَّهِ لِشَرَفِ ذَاتِهِ وَكَمَالِ صِفَاتِهِ فَهَذَا يُؤَثِّرُ فِيهِ ذِكْرُ شَرَفِ الذَّاتِ وَكَمَالِ الصِّفَاتِ ، وَيَشْتَدُّ تَأْثِيرُهُ فِيهِ عِنْدَ ذَكَرِ الْإِقْصَاءِ وَالْإِبْعَادِ ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ ، لِأَنَّ سَبَبَ حُبِّهِ أَفْضَلُ الْأَسْبَابِ . الْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ التَّعْظِيمُ وَالْإِجْلَالُ فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ إذْ لَا حَظَّ لَهُ فِي سَمَاعِهِ لِنَفْسِهِ ، فَإِنَّ النَّفْسَ تَتَضَاءَلُ وَتَتَصَاغَرُ لِلتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ ، فَلَا حَظَّ لِنَفْسِهِ فِي هَذَا السَّمَاعِ بِخِلَافِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْأَقْسَامِ فَإِنَّهُمْ وَاقِفُونَ مَعَ رَبِّهِمْ مِنْ وَجْهٍ ، وَمَعَ أَنْفُسِهِمْ مِنْ وَجْهٍ أَوْ وُجُوهٍ وَشَتَّانَ بَيْنَ مَا خَلَصَ لِلَّهِ ، وَبَيْنَ مَا شَارَكَتْهُ فِيهِ النُّفُوسُ ، فَإِنَّ الْمُحِبَّ مُلْتَذٌّ بِجَمَالِ مَحْبُوبِهِ وَهُوَ حَظُّ نَفْسِهِ ، وَالْهَائِبُ لَيْسَ كَذَلِكَ . وَتَخْتَلِفُ أَحْوَالُ هَؤُلَاءِ فِي الْمَسْمُوعِ مِنْهُ ، فَالسَّمَاعُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ ، أَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنْ السَّمَاعِ مِنْ الْجَهَلَةِ الْأَغْبِيَاءِ ، وَالسَّمَاعُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنْ السَّمَاعِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالسَّمَاعُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ أَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنْ السَّمَاعِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ كَلَامَ الْمَهِيبِ أَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي الْهَائِبِ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ ، كَمَا أَنَّ كَلَامَ الْحَبِيبِ أَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي الْمُحِبِّ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ . وَلِهَذَا لَمْ يَشْتَغِلْ الْأَنْبِيَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ وَأَصْحَابُهُمْ بِسَمَاعِ الْمَلَاهِي وَالْغِنَاءِ وَاقْتَصَرُوا عَلَى كَلَامِ رَبِّهِمْ لِشِدَّةِ تَأْثِيرِهِ فِي أَحْوَالِهِمْ ، وَلَقَدْ غَلِطَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي سَمَاعِ النَّشِيدِ وَطَيِّبِ نَغَمَاتِ الْغِنَاءِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَصْوَاتَ الْمَلَاهِي وَطَيِّبِ النَّشِيدِ وَطَيِّبِ نَغَمَاتِ الْغِنَاءِ فِيهَا حَظٌّ لِلنُّفُوسِ ، وَإِذَا سَمِعَ أَحَدُهُمْ شَيْئًا مِمَّا يُحَرِّكُ الْتَذَّتْ نَفْسُهُ بِأَصْوَاتِ الْمَلَاهِي وَنَغَمَاتِ الْغِنَاءِ وَذَكَّرَهُ النَّشِيدُ وَالْغِنَاءُ بِمَا يَقْتَضِيهِ حَالُهُ : مِنْ الْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَتَثُورُ فِيهِ تِلْكَ الْأَحْوَالُ فَتَلْتَذُّ النُّفُوسُ مِنْ وَجْهِ مُؤَثِّرِهِ ، وَيُؤَثِّرُ السَّمَاعُ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْغِنَاءُ مِنْ الْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَيَحْصُلُ الْأَمْرَانِ : لَذَّةُ نَفْسِهِ ، وَالتَّعَلُّقُ بِأَوْصَافِ رَبِّهِ فَيَظُنُّ أَنَّ الْكُلَّ مُتَعَلِّقٍ بِاَللَّهِ وَهُوَ غَالِطٌ . الْقِسْمُ الْخَامِسُ : مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ هَوًى مُبَاحٌ ، كَمَنْ يَعْشَقُ زَوْجَتَهُ وَأُسْرِيَّتَهُ فَهَذَا يُهَيِّجُهُ السَّمَاعُ وَيُؤَثِّرُ فِيهِ آثَارَ الشَّوْقِ وَخَوْفَ الْفِرَاقِ وَرَجَاءَ التَّلَاقِ فَيَطْرَبُ لِذَلِكَ ، فَسَمَاعُ هَذَا لَا بَأْسَ بِهِ . الْقِسْمُ السَّادِسُ : مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ هَوًى مُحَرَّمٌ ، كَهَوَى الْمُرْدِ وَمَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ النِّسَاءِ ، فَهَذَا يُهَيِّجُهُ السَّمَاعُ إلَى السَّعْيِ فِي الْحَرَامِ وَمَا أَدَّى إلَى الْحَرَامِ فَهُوَ حَرَامٌ . الْقِسْمُ السَّابِعُ : مَنْ قَالَ لِأَحَدٍ : فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْتُمُوهُ فِي الْأَقْسَامِ السِّتَّةِ فَمَا حُكْمُ السَّمَاعِ فِي حَقِّي ؟ قُلْنَا هُوَ مَكْرُوهٌ ، مِنْ وَجْهِ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْعَامَّةِ إنَّمَا هُوَ الْأَهْوَاءُ الْفَاسِدَةُ ، فَرُبَّمَا هَاجَهُ السَّمَاعُ عَلَى صُورَةٍ مُحَرَّمَةٍ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا وَيَمِيلُ إلَيْهَا وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّا لَا نَتَحَقَّقُ السَّبَبَ الْمُحَرِّمَ ، وَقَدْ يَحْضُرُ السَّمَاعَ قَوْمٌ مِنْ الْفَجَرَةِ فَيَبْكُونَ وَيَنْزَعِجُونَ لِأَسْبَابٍ خَبِيثَةٍ انْطَوَوْا عَلَيْهَا وَيُرَاءُونَ الْحَاضِرِينَ بِأَنَّ سَمَاعَهُمْ لِلْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَقْسَامِ السِّتَّةِ وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ وَبَيْنَ إيهَامِ كَوْنِهِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ ، وَقَدْ يَحْضُرُ السَّمَاعَ قَوْمٌ قَدْ فَقَدُوا أَهَالِيَهُمْ وَمَنْ يَعِزُّ عَلَيْهِمْ وَيَذْكُرُ الْمُنْشِدُ فِرَاقَ الْأَحِبَّةِ وَعَدَمَ الْأُنْسِ بِهِمْ فَيَبْكِي أَحَدُهُمْ وَيُوهِمُ الْحَاضِرِينَ أَنَّ بُكَاءَهُ لِأَجْلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَهَذَا مِرَاءٌ بِأَمْرٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ . وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَدَبِ السَّمَاعِ أَنْ يُشَبِّهَ غَلَبَ الْمَحَبَّةِ بِالسُّكْرِ مِنْ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ سُوءُ أَدَبٍ ، لِأَنَّ الْخَمْرَ أُمُّ الْخَبَائِثِ فَلَا يُشَبِّهُ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ بِمَا أَبْغَضَهُ وَقَضَى بِخُبْثِهِ وَنَجَاسَتِهِ ، لِأَنَّ تَشْبِيهَ النَّفِيسِ بِالْخَسِيسِ سُوءُ أَدَبٍ لَا شَكَّ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ التَّشْبِيهُ بِالْخَصْرِ وَالرِّدْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ التَّشْبِيهَاتِ الْمُسْتَقْبَحَاتِ . وَلَقَدْ كَرِهَ بَعْضُهُمْ : أَنْتُمْ رُوحِي وَمَعَكُمْ رَاحَتِي ، وَبَعْضُهُمْ : فَأَنْتَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ ، لِأَنَّهُ شَبَّهَ مَا لَا شَبِيهَ لَهُ بِرُوحِهِ الْخَسِيسَةِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ اللَّذَيْنِ لَا قَدْرَ لَهُمَا . وَلَهُمْ أَلْفَاظٌ يُطْلِقُونَهَا يَسْتَعْظِمُهَا سَامِعُهَا مِنْهَا : التَّجَلِّي وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ ، وَكَذَلِكَ الْمُشَاهَدَةُ ، وَمِنْهَا الذَّوْقُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ وِجْدَانِ لَذَّةِ الْأَحْوَالِ وَوَقْعِ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ ، وَمِنْهَا : الْحِجَابُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْجَهْلِ وَالْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ ، وَمِنْهَا : قَوْلُهُمْ قَالَ لِي رَبِّي ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَوْلِ بِلِسَانِ الْحَالِ دُونَ لِسَانِ الْمَقَالِ . كَمَا قَالَتْ الْعَرَبُ : امْتَلَأَ الْحَوْضُ ، وَقَالَ قُطْنِيٌّ ، كَذَلِكَ قَوْلُهُ : إذَا قَالَتْ الْإِشْبَاعُ لِلْبَطْنِ أُلْحِقَ . وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ الْقَلْبُ بَيْتُ الرَّبِّ ، وَمَعْنَاهُ الْقَلْبُ بَيْتُ مَعْرِفَةِ الرَّبِّ ، شَبَّهُوا حُلُولَ الْمَعَارِفِ بِالْقُلُوبِ بِحُلُولِ الْأَشْخَاصِ فِي الْبُيُوتِ ، وَمِنْهَا : الْبَيْتُوتَةُ عِنْدَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي } تَجَوُّزٌ بِالْمَبِيتِ عَنْ التَّقَرُّبِ ، وَبِالْإِطْعَامِ وَالسَّقْيِ عَنْ التَّقْوِيَةِ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مِنْ السُّرُورِ وَالتَّقْرِيبِ ، وَمِنْهَا الْقُرْبُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِتَقْرِيبِ الْإِلَهِ ، وَمِنْهَا الْبُعْدُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْإِبْعَادِ ، وَمِنْهَا الْمُجَالَسَةُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ لَذَّةٍ يَخْلُقُهَا الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُجَانِسَةٍ لِلَذَّةِ الْأُنْسِ وَبِمُجَالَسَةِ الْأَكَابِرِ .

وَأَمَّا الرَّقْصُ وَالتَّصْفِيقُ فَخِفَّةٌ وَرُعُونَةٌ مُشْبِهَةٌ لِرُعُونَةِ الْإِنَاثِ لَا يَفْعَلُهَا إلَّا رَاعِنٌ أَوْ مُتَصَنِّعٌ كَذَّابٌ وَكَيْفَ يَتَأَتَّى الرَّقْصُ الْمُتَّزِنُ بِأَوْزَانِ الْغِنَاءِ مِمَّنْ طَاشَ لُبُّهُ وَذَهَبَ قَلْبُهُ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ . وَإِنَّمَا اسْتَحْوَذَ الشَّيْطَانُ عَلَى قَوْمٍ يَظُنُّونَ أَنَّ طَرَبَهُمْ عِنْدَ السَّمَاعِ إنَّمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَقَدْ مَانُوا فِيمَا قَالُوا وَكَذَبُوا فِيمَا ادَّعَوْا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْمُطْرِبَاتِ وَجَدُوا لَذَّتَيْنِ اثْنَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا لَذَّةُ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذِي الْجَلَالِ . وَالثَّانِيَةُ : لَذَّةُ الْأَصْوَاتِ وَالنَّغَمَاتِ وَالْكَلِمَاتِ الْمَوْزُونَاتِ الْمُوجِبَاتِ لِلذَّاتِ النَّفْسِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ الدِّينِ وَلَا مُتَعَلِّقَةً بِأُمُورِ الدِّينِ ، فَلَمَّا عَظُمَتْ عِنْدَهُمْ اللَّذَّتَانِ غَلِطُوا فَظَنُّوا أَنَّ مَجْمُوعَ اللَّذَّةِ إنَّمَا حَصَلَ بِالْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِمْ حُصُولُ لَذَّاتِ النُّفُوسِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ الدِّينِ بِشَيْءٍ . وَقَدْ حَرَّمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ التَّصْفِيقَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ } { وَلَعَنَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ ، وَالْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ } ، وَمَنْ هَابَ الْإِلَهَ وَأَدْرَكَ شَيْئًا مِنْ تَعْظِيمِهِ لَمْ يُتَصَوَّرَ مِنْهُ رَقْصٌ وَلَا تَصْفِيقٌ ، وَلَا يَصْدُرُ التَّصْفِيقُ وَالرَّقْصُ إلَّا مِنْ غَبِيٍّ جَاهِلٍ ، وَلَا يَصْدُرَانِ مِنْ عَاقِلٍ فَاضِلٍ ، وَيَدُلُّ عَلَى جَهَالَةِ فَاعِلِهِمَا أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَرِدْ بِهِمَا فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ ، وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدُ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا مُعْتَبَرٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْجَهَلَةُ السُّفَهَاءُ الَّذِينَ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِمْ الْحَقَائِقُ بِالْأَهْوَاءِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } وَقَدْ مَضَى السَّلَفُ وَأَفَاضِلُ الْخَلَفِ وَلَمْ يُلَابِسُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ غَرَضٌ مِنْ أَغْرَاضِ نَفْسِهِ وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ إلَى رَبِّهِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَا فَعَلَ ذَلِكَ إلَّا لِكَوْنِهِ قُرْبَةً فَبِئْسَ مَا صَنَعَ لِإِيهَامِهِ أَنَّ هَذَا مِنْ الطَّاعَاتِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَقْبَحِ الرَّعُونَاتِ .

وَأَمَّا الرَّقْصُ وَالتَّصْفِيقُ فَخِفَّةٌ وَرُعُونَةٌ مُشْبِهَةٌ لِرُعُونَةِ الْإِنَاثِ لَا يَفْعَلُهَا إلَّا رَاعِنٌ أَوْ مُتَصَنِّعٌ كَذَّابٌ وَكَيْفَ يَتَأَتَّى الرَّقْصُ الْمُتَّزِنُ بِأَوْزَانِ الْغِنَاءِ مِمَّنْ طَاشَ لُبُّهُ وَذَهَبَ قَلْبُهُ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ . وَإِنَّمَا اسْتَحْوَذَ الشَّيْطَانُ عَلَى قَوْمٍ يَظُنُّونَ أَنَّ طَرَبَهُمْ عِنْدَ السَّمَاعِ إنَّمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَقَدْ مَانُوا فِيمَا قَالُوا وَكَذَبُوا فِيمَا ادَّعَوْا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْمُطْرِبَاتِ وَجَدُوا لَذَّتَيْنِ اثْنَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا لَذَّةُ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذِي الْجَلَالِ . وَالثَّانِيَةُ : لَذَّةُ الْأَصْوَاتِ وَالنَّغَمَاتِ وَالْكَلِمَاتِ الْمَوْزُونَاتِ الْمُوجِبَاتِ لِلذَّاتِ النَّفْسِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ الدِّينِ وَلَا مُتَعَلِّقَةً بِأُمُورِ الدِّينِ ، فَلَمَّا عَظُمَتْ عِنْدَهُمْ اللَّذَّتَانِ غَلِطُوا فَظَنُّوا أَنَّ مَجْمُوعَ اللَّذَّةِ إنَّمَا حَصَلَ بِالْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِمْ حُصُولُ لَذَّاتِ النُّفُوسِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ الدِّينِ بِشَيْءٍ . وَقَدْ حَرَّمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ التَّصْفِيقَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ } { وَلَعَنَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ ، وَالْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ } ، وَمَنْ هَابَ الْإِلَهَ وَأَدْرَكَ شَيْئًا مِنْ تَعْظِيمِهِ لَمْ يُتَصَوَّرَ مِنْهُ رَقْصٌ وَلَا تَصْفِيقٌ ، وَلَا يَصْدُرُ التَّصْفِيقُ وَالرَّقْصُ إلَّا مِنْ غَبِيٍّ جَاهِلٍ ، وَلَا يَصْدُرَانِ مِنْ عَاقِلٍ فَاضِلٍ ، وَيَدُلُّ عَلَى جَهَالَةِ فَاعِلِهِمَا أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَرِدْ بِهِمَا فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ ، وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدُ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا مُعْتَبَرٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْجَهَلَةُ السُّفَهَاءُ الَّذِينَ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِمْ الْحَقَائِقُ بِالْأَهْوَاءِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } وَقَدْ مَضَى السَّلَفُ وَأَفَاضِلُ الْخَلَفِ وَلَمْ يُلَابِسُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ غَرَضٌ مِنْ أَغْرَاضِ نَفْسِهِ وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ إلَى رَبِّهِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَا فَعَلَ ذَلِكَ إلَّا لِكَوْنِهِ قُرْبَةً فَبِئْسَ مَا صَنَعَ لِإِيهَامِهِ أَنَّ هَذَا مِنْ الطَّاعَاتِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَقْبَحِ الرَّعُونَاتِ .

( فَائِدَةٌ ) اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ السَّمَاعُ الْمَحْمُودُ إلَّا عِنْدَ ذِكْرِ الصِّفَاتِ حَالَ يَخْتَصُّ بِهَا ، فَمَنْ ذَكَرَ صِفَةَ الرَّحْمَةِ أَوْ ذُكِّرَ بِهَا كَانَتْ حَالُهُ حَالَةَ الرَّاجِينَ ، وَسَمَاعُهُ سَمَاعَ الرَّاجِينَ ، وَمَنْ ذَكَرَ شِدَّةَ النِّقْمَةِ أَوْ ذُكِّرَ بِهَا كَانَتْ حَالُهُ حَالَ الْخَائِفِينَ ، وَسَمَاعُهُ سَمَاعَ الْخَائِفِينَ ، وَمَنْ حَالُهُ حَالُ الْمَحَبَّةِ إذَا ذَكَرَ حَالَ الْمَحْبُوبِ أَوْ ذُكِّرَ بِهِ كَانَتْ حَالُهُ حَالَ الْمُحِبِّينَ ، وَسَمَاعُهُ سَمَاعَ الْمُحِبِّينَ ، وَمَنْ كَانَتْ حَالُهُ حَالَ الْمُعَظِّمِينَ الْهَائِبِينَ فَذَكَرَ الْعَظَمَةَ أَوْ ذُكِّرَ بِهَا كَانَتْ حَالُهُ حَالَ الْمُعَظِّمِينَ ، وَسَمَاعُهُ سَمَاعَ الْهَائِبِينَ الْمُعَظِّمِينَ ، وَمَنْ كَانَتْ حَالُهُ حَالَ التَّوَكُّلِ فَذَكَرَ تَفَرُّدَ الرَّبِّ بِالضُّرِّ وَالنَّفْعِ ، وَالْخَفْضِ وَالرَّفْعِ ، وَالتَّقَرُّبِ وَالْإِبْعَادِ ، وَالْإِشْقَاءِ وَالْإِسْعَادِ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ أَوْ ذُكِّرَ بِهِ فِي السَّمَاعِ كَانَتْ حَالُهُ حَالَ الْمُتَوَكِّلِينَ الْمُفَوِّضِينَ ، وَسَمَاعُهُ سَمَاعَهُمْ ، وَقَدْ يَنْتَقِلُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي السَّمَاعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَيَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ التَّذْكِيرِ ، وَقَدْ يَغْلِبُ الْحَالُ عَلَى بَعْضِهِمْ بِحَيْثُ لَا يُصْغِي إلَى مَا يَقُولُهُ الْمُنْشِدُ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ لِغَلَبَةِ حَالِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ .

وَمِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ : الْخُضُوعُ وَالْخُشُوعُ . وَكِلَاهُمَا ذُلٌّ فِي الْقُلُوبِ وَالرِّضَا وَالصَّبْرُ وَالتَّوْبَةُ وَالزُّهْدُ فَأَمَّا الرِّضَا : فَهُوَ سُكُونُ النَّفْسِ إلَى سَابِقِ الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ عَلَى الْقَاضِي بِمَا قَضَى ، وَأَمَّا الصَّبْرُ فَهُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَنْ الْجَزَعِ ، وَالرِّضَا جُزْءٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ سُكُونٌ بِمَا جَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَرْضَى بِالْمَقْضِيِّ بِهِ إلَّا إذَا كَانَ الْمَقْضِيُّ بِهِ خَيْرًا ، فَإِنْ كَانَ الْمُقْضَى بِهِ مَعْصِيَةً فَلْيَرْضَ بِالْقَضَاءِ وَلْيَكْرَهْ الْمَقْضِيَّ بِهِ ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ حُكْمُ اللَّهِ وَالْمَقْضِيَّ هُوَ الْمَحْكُومُ بِهِ . وَهَذَا كَالْمَرِيضِ إذَا وَصَفَ الطَّبِيبُ الدَّوَاءَ الْمُرَّ أَوْ قَطَعَ الْيَدَ الْمُتَآكِلَةَ فَإِنَّهُ يَرْضَى لِوَصْفِ الطَّبِيبِ وَقَضَائِهِ وَإِنْ كَرِهَ الْمَقْضِيَّ بِهِ مِنْ مَرَارَةِ الدَّوَاءِ وَأَلَمِ الْقَطْعِ .

وَأَمَّا التَّوْبَةُ فَأَقْسَامٌ : أَحَدُهَا : التَّوْبَةُ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ . الْقِسْمُ الثَّانِي : التَّوْبَةُ مِنْ ارْتِكَابِ الْمَكْرُوهَاتِ . الْقِسْمُ الثَّالِثُ : التَّوْبَةُ مِنْ الشُّبُهَاتِ . الْقِسْمُ الرَّابِعُ : التَّوْبَةُ مِنْ مُلَابَسَةِ الْمُبَاحَاتِ إلَّا مَا تَدْعُو إلَيْهِ الضَّرُورَاتُ أَوْ تَمَسُّ إلَيْهِ الْحَاجَاتُ . الْقِسْمُ الْخَامِسُ : التَّوْبَةُ مِنْ رُؤْيَةِ التَّوْبَةِ وَرُؤْيَةِ جَمِيعِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى ذِي الْجَلَالِ وَمَعْنَى ذَلِكَ تَرْكُ الِاعْتِمَادِ وَالِاسْتِنَادِ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ ، إذْ لَا يُنْجِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ صَاحِبَهُ ؛ فَإِنَّهُ لَا اعْتِمَادَ فِي النَّجَاةِ إلَّا عَلَى ذِي الْجَلَالِ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَنْ يُنْجِيَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ قَالُوا : وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ } .

وَأَمَّا الزُّهْدُ فَأَقْسَامٌ : أَحَدُهَا : الزُّهْدُ فِي الْحَرَامِ . الْقِسْمُ الثَّانِي : الزُّهْدُ فِي الْمَكْرُوهَاتِ . الْقِسْمُ الثَّالِثُ : الزُّهْدُ فِي الشُّبُهَاتِ . الْقِسْمُ الرَّابِعُ : الزُّهْدُ فِي الْمُبَاحَاتِ إلَّا مَا تَدْعُو إلَيْهِ الضَّرُورَاتُ أَوْ تَمَسُّ إلَيْهِ الْحَاجَاتُ . الْقِسْمُ الْخَامِسُ : الزُّهْدُ فِي رُؤْيَةِ الزُّهْدِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّوْبَةِ وَالزُّهْدِ وَإِنْ كَانَا مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ : أَنَّ التَّوْبَةَ ذَاتُ أَرْكَانٍ ثَلَاثَةٍ : أَحَدُهَا : النَّدَمُ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ الطَّاعَاتِ . وَالرُّكْنُ الثَّانِي : الْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إلَى تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ . الرُّكْنُ الثَّالِثُ : الْإِقْلَاعُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ الْمَتُوبِ عَنْهَا فِي الْحَالِ . وَيَتَحَقَّقُ الزُّهْدُ بِقَطْعِ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ ، وَلَيْسَ الزُّهْدُ عِبَارَةً عَنْ خُلُوِّ الْيَدِ مِنْ الْمَالِ ، وَإِنَّمَا الزُّهْدُ خُلُوُّ الْقَلْبِ عَنْ التَّعَلُّقِ بِهِ ، فَلَيْسَ الْغِنَى بِمُنَافٍ لِلزُّهْدِ .

فَإِنْ قِيلَ أَيُّمَا أَفْضَلُ حَالُ الْأَغْنِيَاءِ أَمْ حَالُ الْفُقَرَاءِ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ النَّاسَ أَقْسَامٌ : أَحَدُهَا : مَنْ يَسْتَقِيمُ عَلَى الْغِنَى وَتَفْسُدُ أَحْوَالُهُ بِالْفَقْرِ ، فَلَا خِلَافَ أَنَّ غِنَى هَذَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ فَقْرِهِ . الْقِسْمُ الثَّانِي : مَنْ يَسْتَقِيمُ عَلَى الْفَقْرِ وَيُفْسِدُهُ الْغِنَى وَيَحْمِلُهُ عَلَى الطُّغْيَانِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ هَذَا فَقْرُهُ خَيْرٌ مِنْ غِنَاهُ . الْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَنْ إذَا افْتَقَرَ قَامَ بِجَمِيعِ وَظَائِفِ الْفَقْرِ كَالرِّضَا وَالصَّبْرِ ، وَإِنْ اسْتَغْنَى قَامَ بِجَمِيعِ وَظَائِفِ الْغِنَى مِنْ الْبَذْلِ وَالْإِحْسَانِ وَشُكْرِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ ، فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي أَيِّ حَالَيْ هَذَا أَفْضَلُ فَذَهَبَ قَوْمٌ : إلَى أَنَّ الْفَقْرَ لِهَذَا أَفْضَلُ . وَقَالَ آخَرُونَ : غِنَاهُ أَفْضَلُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ ، لِاسْتِعَاذَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مِنْ الْفَقْرِ ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى فَقْرِ النَّفْسِ لِأَنَّهُ خِلَافٌ لِلظَّاهِرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِهَؤُلَاءِ لِأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَغْلِبُ أَحْوَالِهِ الْفَقْرَ إلَى أَنْ أَغْنَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِحُصُونِ خَيْبَرَ وَفَدَكَ وَالْعَوَالِي وَأَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ . وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ لَا يَأْتِي عَلَيْهِمْ يَوْمٌ إلَّا كَانَ أَفْضَلَ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ ، فَإِنَّ مَنْ اسْتَوَى يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ وَمَنْ كَانَ أَمْسُهُ خَيْرًا مِنْ يَوْمِهِ فَهُوَ مَلْعُونٌ أَيْ مَطْرُودٌ مَغْبُونٌ ، وَقَدْ خُتِمَ آخِرُ أَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بِالْغِنَى وَلَمْ يُخْرِجْهُ غِنَاهُ عَمَّا كَانَ يَتَعَاطَاهُ فِي أَيَّامِ فَقْرِهِ مِنْ الْبَذْلِ وَالْإِيثَارِ وَالتَّقَلُّلِ حَتَّى أَنَّهُ مَاتَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ عَلَى آصُعٍ مِنْ شَعِيرٍ ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ : { ابْنَ آدَمَ إنَّك إنْ تَبْذُلْ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَك وَإِنْ تُمْسِكْهُ شَرٌّ لَك } أَرَادَ بِالْفَضْلِ مَا فَضَلَ عَنْ الْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ كَمَا فَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَمَنْ سَلَكَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ هَذَا الطَّرِيقَ فَبَذَلَ الْفَضْلَ كُلَّهُ مُقْتَصِرًا عَلَى عَيْشٍ مِثْلِ عَيْشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا امْتِرَاءَ بِأَنَّ غِنَى هَذَا خَيْرٌ مِنْ فَقْرِهِ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ { أَتَى فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ ذَوُو الْأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ يُعْتِقُونَ وَلَا نَجِدُ مَا نُعْتِقُ ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَجِدُ مَا نَتَصَدَّقُ ، وَيُنْفِقُونَ وَلَا نَجِدُ مَا نُنْفِقُ ؟ فَقَالَ أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ أَدْرَكْتُمْ بِهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَفُتُّمْ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ ؟ قَالُوا بَلَى ، قَالَ : تُسَبِّحُونَ اللَّهَ تَعَالَى وَتَحْمَدُونَهُ وَتُكَبِّرُونَهُ عَلَى إثْرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً فَلَمَّا صَنَعُوا ذَلِكَ سَمِعَ الْأَغْنِيَاءُ بِذَلِكَ فَقَالُوا مِثْلَ مَا قَالُوا ، فَذَهَبَ الْفُقَرَاءُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا مِثْلَ مَا قُلْنَا ؟ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } . وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { اطَّلَعْت عَلَى الْجَنَّةِ فَرَأَيْت أَكْثَرَهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْت عَلَى النَّارِ فَرَأَيْت أَكْثَرَهَا النِّسَاءَ } فَإِنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ مِنْ أَحْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ ، إذْ لَا يَتَّصِفُ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنْ يَعِيشَ عَيْشَ الْفُقَرَاءِ وَيَتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا فَضَلَ مِنْ عَيْشِهِ مُقَدِّمًا فَضْلَ الْبَذْلِ فَأَفْضَلَهُ ، إلَّا الشُّذُوذُ النَّادِرُونَ الَّذِينَ لَا يَكَادُونَ يُوجَدُونَ ، الصَّابِرُونَ عَلَى الْفَقْرِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ، وَالرَّاضُونَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ الْقَلِيلِ . وَيُحَقِّقُ هَذَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَبْلَ الْغِنَى قَائِمًا بِوَظَائِفِ الْفُقَرَاءِ فَلَمَّا أَغْنَاهُ اللَّهُ قَامَ بِوَظَائِفِ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ ، فَكَانَ غَنِيًّا فَقِيرًا صَبُورًا شَكُورًا رَاضِيًا بِعَيْشِ الْفُقَرَاءِ جَوَادًا بِأَفْضَلِ جُودِ الْأَغْنِيَاءِ .

وَمِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ احْتِقَارُ مَا حَقَّرَهُ اللَّهُ مِنْ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا ، وَتَعْظِيمُ مَا عَظَّمَهُ اللَّهُ مِنْ الْفَقْرِ وَالذُّلِّ وَالْمَسْكَنَةِ وَالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ وَالْغُرْبَةِ وَعَدَمِ الْجَاهِ وَالْمَالِ : لِأَنَّ الْغِنَى بِالْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ أَفْضَلُ وَأَلَذُّ مِنْ الْغِنَى بِالْجَاهِ وَالْأَمْوَالِ ، وَالْبَذْلُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالْفَقْرُ غِنًى ، وَالْغُرْبَةُ لِأَجَلِهِ اسْتِيطَانٌ . لِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ عِنْدَ سَيِّدِهِ فَهُوَ فِي أَفْضَلِ الْأَوْطَانِ ، وَإِنْ عَظُمَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ فَأَعْظِمْ بِهِ مِنْ خُسْرَانٍ . وَمِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ أَنْ نُكْثِرَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِقُلُوبِنَا فَإِنَّهُ مِنْ الْمُثْمِرِ لِلْأَحْوَالِ عِنْدَ ذِي الْجَلَالِ مِنْ ذِكْرِ اللِّسَانِ ، وَأَنْ نَخْتَارَ مِنْ الْمَعَارِفِ أَفْضَلَهَا فَأَفْضَلَهَا ، وَمِنْ الْأَحْوَالِ أَكْمَلَهَا فَأَكْمَلَهَا ، وَأَنْ نَحْفَظَ الْأَوْقَاتِ فَلَا نَصْرِفُ شَيْئًا إلَّا فِي أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ اللَّائِقَةِ بِتِلْكَ الْأَوْقَاتِ ، فَقَدْ يَكُونُ الِاشْتِغَالُ بِالْمَفْضُولِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالْفَاضِلِ فِي غَيْرِهَا كَالِاشْتِغَالِ بِالدُّعَاءِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالذِّكْرِ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ كَالدُّعَاءِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فَالِاشْتِغَالُ بِهِ أَفْضَلُ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالتَّسْبِيحِ وَالثَّنَاءِ ، كَذَلِكَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقُعُودِ فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِكُلِّ وَقْتٍ طَاعَةً هِيَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا فِيهِ ، وَإِنَّمَا يَشْتَغِلُ بِالْأَفْضَلِ فَالْأَفْضَلِ إذَا كَانَ صَالِحًا لَهُمَا جَمِيعًا ، وَالْهِدَايَةُ لِأَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَقْوَالِ فِي أَوْقَاتِهَا الْمَضْرُوبَةِ لَهَا أَفْضَلُ مَا مَنَّ بِهِ الْإِلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .

فَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ الْفَضَائِلِ الْفَضَائِلُ بِالْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَمَا يَتْبَعُهُمَا مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ ، وَلَقَدْ نَالَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلَ مَنَالٍ ، فَوَرِثَ عَنْهُمْ الْعَارِفُونَ بَعْضَ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ ، وَوَرِثَ عَنْهُمْ الْعَارِفُونَ التَّقَرُّبَ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ ، وَوَرِثَ عَنْهُمْ الْفُقَهَاءُ التَّقَرُّبَ بِمَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْجَوَارِحِ وَالْأَبْدَانِ ، وَوَرِثَ عَنْهُمْ أَهْلُ الطَّرِيقَةِ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْبَوَاطِنِ ، وَوَرِثَ عَنْهُمْ الزُّهَّادُ التَّرْكَ وَالْإِقْلَالَ ، وَاخْتَصَّ الْأَنْبِيَاءُ بِمَعَارِفَ لَا تُدْرَكُ بِنَظَرِ الْعُقُولِ لَا بِضَرُورَتِهَا ، وَاخْتَصُّوا بِالْأَحْوَالِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْمَعَارِفِ ، وَلَعَلَّ بَعْضَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَبْدَالِ وَرِثُوا أَشْيَاءَ مِنْ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ اخْتَصَّ الْأَنْبِيَاءُ بِالْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ ، وَشَارَكَهُمْ الْأَوْلِيَاءُ فِي بَعْضِ الْكَرَامَاتِ . وَالْمَعَارِفُ وَالْأَحْوَالُ غَيْرُ الْكَرَامَاتِ وَخَرْقِ الْعَادَاتِ ، لِتَعَلُّقِ الْمَعَارِفِ بِاَللَّهِ وَتَعَلُّقِ الْكَرَامَاتِ بِخَرْقِ الْعَادَاتِ فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ . وَفُرِّقَ فِيمَا تَعَلَّقَ بِرَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ . وَفِيمَا تَعَلَّقَ بِفَكِّ اطِّرَادِ الْعَادَاتِ مِنْ النَّظَرِ إلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ وَمَالِكِ الرِّقَابِ مِنْ النَّظَرِ إلَى مَنْ هُوَ سِتْرٌ وَحِجَابٌ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَبَيْنَ الْمَلِكِ الْوَهَّابِ ، وَكَفَى بِالْغَفْلَةِ عَنْ اللَّهِ عِقَابًا . ارْضَ لِمَنْ غَابَ عَنْك غَيْبَتَهُ فَذَاكَ ذَنْبٌ عِقَابُهُ فِيهِ وَفَّقَنَا اللَّهُ لِلْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَالْإِصْغَاءِ ، إلَيْهِ ، وَلَمَّا لَمْ يُدَانِ الْأَنْبِيَاءَ أَحَدٌ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ ، لَمْ يُدَانِهِمْ فِي أَدَائِهَا أَحَدٌ ، لِأَنَّ رَكْعَةً مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ رَكَعَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ غَيْرِهِمْ لِكَمَالِهَا فِي الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ آدَابِهَا : مِنْ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إلَى رَبِّهِمْ ، وَكَذَلِكَ قِيَامُ لَيْلَةٍ مِنْهُمْ أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِ لَيَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْ غَيْرِهِمْ لِمَا فِي عِبَادَاتِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ كَمَالِ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَمَا فِي عِبَادَةِ غَيْرِهِمْ مِنْ النَّقْصِ وَالْإِخْلَالِ ، وَكَذَلِكَ أَحْوَالُهُمْ وَمَعَارِفُهُمْ فِي حُضُورِهِمْ بِغَيْرِ اسْتِحْضَارٍ وَدَوَامُهَا عَلَى مَرِّ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ .

فَصْلٌ فِي تَعْرِيفِ مَا يَظْهَرُ مِنْ مَعَارِفِ الْأَوْلِيَاءِ وَأَحْوَالِهِمْ لِلْأَحْوَالِ آثَارٌ تَظْهَرُ عَلَى الْجَوَارِحِ وَالْأَبْدَانِ ، فَإِذَا أَرَدْت مَعْرِفَةَ مَرَاتِبِ الرِّجَالِ فَانْظُرْ إلَى مَا يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْآثَارِ ، وَيَغْلِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ ، فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ آثَارُ الْخَوْفِ كَالْبُكَاءِ وَالِاقْشِعْرَارِ عِنْدَ ذِكْرِ الْوَعِيدِ فَهُوَ مِنْ الْخَائِفِينَ ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ السُّرُورُ وَالِاسْتِبْشَارُ عِنْدَ ذِكْرِ الْوَعْدِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ الرَّاجِينَ وَمَنْ غَلَبَا عَلَيْهِ عِنْدَ ذِكْرِهِمَا فَهُوَ مِنْ الْخَائِفِينَ الرَّاجِينَ ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْهَشَاشَةُ وَالْبَشَاشَةُ عِنْدَ ذِكْرِ الْجَمَالِ فَهُوَ مِنْ الْمُحِبِّينَ ، الرَّاجِينَ ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الِانْقِبَاضُ وَالذُّلُّ عِنْدَ ذِكْرِ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ فَهُوَ مِنْ الْهَائِبِينَ الْمُعَظِّمِينَ ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الِانْقِطَاعُ عَنْ الْأَسْبَابِ عِنْدَ نُزُولِ النَّوَازِلِ وَحُلُولِ الْمَصَائِبِ فَهُوَ مِنْ الْمُتَوَكِّلِينَ ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ هَؤُلَاءِ أَفْضَلُ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ فَهُوَ الْأَفْضَلُ ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ فَهُوَ الْأَسْفَلُ ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ مَحَبَّةُ الْإِجْلَالِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ غَلَبَ عَلَيْهِ مَحَبَّةُ الْإِنْعَامِ وَالْإِفْضَالِ ، وَغَلَبَةُ الْخَوْفِ خَيْرٌ مِنْ غَلَبَةِ الرَّجَاءِ . وَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ يَتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ فِي مَظَانِّهَا وَعِنْدَ تَحَقُّقِ أَسْبَابِهَا وَقَدْ يَغْلِبُ الْحَالُ عَلَى الضَّعِيفِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ فَيَفْقِدُ لُبَّهُ لِعَظَمَةِ رَبِّهِ ، وَقَدْ يَضْحَكُ أَحَدُهُمْ طَمَعًا فِي قُرْبِ رَبِّهِ وَإِسْعَادِهِ ، وَيَبْكِي أَحَدُهُمْ خَوْفًا مِنْ طَرْدِهِ وَإِبْعَادِهِ . فَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ إذَا ذَكَّرَ نَفْسَهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فِي خَلْوَةٍ نَشَأَ عَنْ تَذَكُّرِهِ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ ، فَسُبْحَانَ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ وَأَحْسَنَ إلَيْهِمْ بِمَا وَصَلُوا إلَيْهِ وَقَدِمُوا عَلَيْهِ ، فَإِذَا غَلَبَ الْحَالُ عَلَى أَحَدِهِمْ خَرَجَ عَنْ الْإِدْرَاكِ وَالْإِحْسَاسِ ، فَلَوْ ضُرِبَ وَجْهُ أَحَدِهِمْ بِالسَّيْفِ لَمَا أَحَسَّ بِهِ ، وَقَدْ كَانَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ فِي الزَّمَنِ الْقَدِيمِ لَيُنْشَرُ بِالْمَنَاشِرِ فَلَا يُبَالِي بِذَلِكَ ، وَلِمِثْلِ هَذِهِ لَمَّا تَهَدَّدَ فِرْعَوْنُ السَّحَرَةَ بِالْقَطْعِ وَالصَّلْبِ قَالُوا : لَا ضَيْرَ ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ حَالَاتِهِمْ اقْتَضَتْ ذَلِكَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ صَبْرًا عَلَى الْبَلَاءِ فِي ذَاتِ اللَّهِ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ : رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ .

فَصْلٌ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ النَّاسِ مُعْظَمُ النَّاسِ خَاسِرُونَ ، وَأَقَلُّهُمْ رَابِحُونَ ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ فِي خُسْرِهِ وَرِبْحِهِ فَلْيَعْرِضْ نَفْسَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنْ وَافَقَهُمَا فَهُوَ الرَّابِحُ إنْ صَدَقَ ظَنُّهُ فِي مُوَافَقَتِهِمَا ، وَإِنْ كَذَبَ ظَنُّهُ فَيَا حَسْرَةً عَلَيْهِ ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ بِخُسْرَانِ الْخَاسِرِينَ وَرِبْحِ الرَّابِحِينَ ، وَأَقْسَمَ بِالْعَصْرِ إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إلَّا مَنْ اجْتَمَعَ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْصَافٍ : أَحَدُهَا : الْإِيمَانُ . وَالثَّانِي : الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَالثَّالِثُ : التَّوَاصِي بِالْحَقِّ . وَالرَّابِعُ : التَّوَاصِي بِالصَّبْرِ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا إذَا اجْتَمَعُوا لَمْ يَفْتَرِقُوا حَتَّى يَقْرَءُوهَا ، وَاخْتُلِفَ فِي الْعَصْرِ فَقِيلَ : هِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى ، صَلَاةُ الْعَصْرِ ، وَقِيلَ : الْعَصْرُ آخِرُ النَّهَارِ ، وَقِيلَ : الْعَصْرُ الدَّهْرُ ، وَاخْتُلِفَ فِي الصَّالِحَاتِ فَقِيلَ : هِيَ الْفَرَائِضُ ، وَقِيلَ هِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ ، وَاخْتُلِفَ فِي الْحَقِّ فَقِيلَ : هُوَ اللَّهُ ، وَالتَّقْدِيرُ تَوَاصَوْا بِطَاعَةِ الْحَقِّ وَقِيلَ : الْإِسْلَامُ ، وَقِيلَ الْقُرْآنُ وَالتَّقْدِيرُ تَوَاصَوْا بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ : { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } وَقَوْلِهِ : { اتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } وَأَمَّا الصَّبْرُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الصَّبْرُ عَلَى الطَّاعَاتِ فَيَدْخُلُ الصَّبْرُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَعَلَى الطَّاعَةِ ، وَيُحْتَمَلُ الصَّبْرُ عَلَى الْمَصَائِبِ وَالْبَلِيَّاتِ ، وَيُحْتَمَلُ عَلَى الْبَلِيَّاتِ وَالطَّاعَاتِ ، وَعَنْ الْمَعَاصِي وَالْمُخَالَفَاتِ وَاجْتِمَاعُ هَذِهِ الْخِصَالِ فِي الْإِنْسَانِ عَزِيزٌ نَادِرٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ جَامِعٌ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي أَقْسَمَ اللَّهُ عَلَى خُسْرَانِ مَنْ خَرَجَ عَنْهَا وَبَعُدَ مِنْهَا مَعَ عِلْمِهِ بِقُبْحِ أَقْوَالِهِ وَسُوءِ أَعْمَالِهِ ، فَكَمْ مِنْ عَاصٍ يَظُنُّ أَنَّهُ مُطِيعٌ ، وَمِنْ بَعِيدٍ يَظُنُّ أَنَّهُ قَرِيبٌ ، وَمِنْ مُخَالِفٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُوَافِقٌ ، وَمِنْ مُنْتَهِكٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُتَنَسِّكٌ ، وَمِنْ مُدْبِرٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُقْبِلٌ ، وَمِنْ هَارِبٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ طَالِبٌ ، وَمِنْ جَاهِلٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ عَارِفٌ ، وَمِنْ آمِنٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ خَائِفٌ ، وَمِنْ مُرَاءٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُخْلِصٌ ، وَمِنْ ضَالٍّ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُهْتَدٍ ، وَمِنْ عَمٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُبْصِرٌ ، وَمِنْ رَاغِبٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ زَاهِدٌ ؟ ، وَكَمْ مِنْ عَمَلٍ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْمُرَائِي وَهُوَ وَبَالٌ عَلَيْهِ ؟ ، وَكَمْ مِنْ طَاعَةٍ يَهْلِكُ بِهَا الْمُتَسَمِّعُ وَهِيَ مَرْدُودَةٌ إلَيْهِ ؟ ، وَالشَّرْعُ مِيزَانٌ يُوزَنُ بِهِ الرِّجَالُ ، وَبِهِ يُتَيَقَّنُ الرِّبْحُ مِنْ الْخُسْرَانِ ، فَمَنْ رَجَحَ فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ ، وَتَخْتَلِفُ مَرَاتِبُ الرُّجْحَانِ ، وَمَنْ نَقَصَ فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ فَأُولَئِكَ أَهْلُ الْخُسْرَانِ ، وَتَتَفَاوَتُ خِفَّتُهُمْ فِي الْمِيزَانِ ، وَأَخَسُّهَا مَرَاتِبُ الْكَفَّارَةِ ، وَلَا تَزَالُ الْمَرَاتِبُ تَتَنَاقَصُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى مَنْزِلَةِ مُرْتَكِبِ أَصْغَرِ الصَّغَائِرِ ، فَإِذَا رَأَيْت إنْسَانًا يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَيَمْشِي عَلَى الْمَاءِ أَوْ يُخْبِرُ بِالْمَغِيبَاتِ ، وَيُخَالِفُ الشَّرْعَ بِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ بِغَيْرِ سَبَبٍ مُحَلِّلٍ ، أَوْ يَتْرُكُ الْوَاجِبَاتِ بِغَيْرِ سَبَبٍ مُجَوِّزٍ ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ شَيْطَانٌ نَصَبَهُ اللَّهُ فِتْنَةً لِلْجَهَلَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِبَعِيدٍ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي وَصَفَهَا اللَّهُ لِلضَّلَالِ ، فَإِنَّ الدَّجَّالَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فِتْنَةً لِأَهْلِ الضَّلَالِ ، وَكَذَلِكَ يَأْتِي الْخَرِبَةَ فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ ، وَكَذَلِكَ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ فَنَارُهُ جَنَّةٌ ، وَجَنَّتُهُ نَارٌ ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَأْكُلُ الْحَيَّاتِ وَيَدْخُلُ النِّيرَانَ فَإِنَّهُ مُرْتَكِبٌ الْحَرَامَ بِأَكْلِ الْحَيَّاتِ ، وَفَاتِنُ النَّاسِ بِدُخُولِ النِّيرَانِ لِيَقْتَدُوا بِهِ فِي ضَلَالَتِهِ وَيُتَابِعُوهُ عَلَى جَهَالَتِهِ .

فَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ الْحَادِثَاتِ عَلَى بَعْضِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَجْسَامِ الْأَجْسَامُ كُلُّهَا مُتَسَاوِيَةٌ مِنْ جِهَةِ ذَوَاتِهَا ، وَإِنَّمَا يُفَضَّلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِصِفَاتِهَا وَأَعْرَاضِهَا وَأَنْسَابِهَا إلَى الْأَوْصَافِ الشَّرِيفَةِ وَالْأَفْعَالِ النَّفِيسَةِ . وَالْفَضَائِلُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا فَضَائِلُ الْجَمَادَاتِ كَفَضْلِ الْجَوْهَرِ عَلَى الذَّهَبِ وَفَضْلِ الذَّهَبِ عَلَى الْفِضَّةِ ، وَفَضْلِ الْفِضَّةِ عَلَى الْحَدِيدِ ، وَفَضْلِ الْأَنْوَارِ عَلَى الظُّلُمَاتِ ، وَفَضْلِ الشَّفَّافِ عَلَى غَيْرِ الشَّفَّافِ ، وَفَضْلِ اللَّطِيفِ عَلَى الْكَثِيفِ ، وَالنَّيِّرِ عَلَى الْمُظْلِمِ ، وَالْحَسَنِ عَلَى الْقَبِيحِ . الضَّرْبُ الثَّانِي فَضَائِلُ الْخَيْرَاتِ وَهِيَ أَقْسَامٌ : أَحَدُهَا : حُسْنُ الصُّورَةِ . وَالثَّانِي : قُوَى الْأَجْسَامِ ، كَالْقُوَى الْحَادِثَةِ وَالْمُمْسِكَةِ وَالدَّافِعَةِ وَالْغَاذِيَةِ ، وَالْقُوَى عَلَى الْجِهَادِ وَالْقِتَالِ وَحَمْلِ الْأَعْبَاءِ وَالْأَثْقَالِ . الثَّالِثُ : الصِّفَاتُ الدَّاعِيَةُ إلَى الْخُيُورِ ، وَالْوَازِعَةِ عَنْ الشُّرُورِ : كَالْغَيْرَةِ وَالنَّخْوَةِ وَالْحَيَاءِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْحِلْمِ وَالْأَنَاةِ وَالسَّخَاءِ . الرَّابِعُ : الْعُقُولُ . الْخَامِسُ : الْحَوَاسُّ . السَّادِسُ : الْعُلُومُ الْمُكْتَسَبَةُ وَهِيَ أَقْسَامٌ : أَحَدُهَا : مَعْرِفَةُ وُجُودِ الْإِلَهِ وَصِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ . الثَّانِي : مَعْرِفَةُ إرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَتَنْبِيهِ الْأَنْبِيَاءِ . الثَّالِثُ : مَعْرِفَةُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ وَأَسْبَابِهَا وَشَرَائِعِهَا وَتَوَابِعِهَا . السَّابِعُ : الْأَحْوَالُ النَّاشِئَةُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعَارِفِ . الثَّامِنُ : الْقِيَامُ بِطَاعَةِ اللَّهِ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ . التَّاسِعُ : مَا رَتَّبَهُ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَالطَّاعَاتِ مِنْ لَذَّاتِ الْآخِرَةِ وَأَفْرَاحِهَا بِالنَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ : كَلَذَّةِ الْأَمْنِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ ، وَالْأُنْسِ بِقُرْبِهِ وَجِوَارِهِ ، وَسَمَاعِهِ وَكَلَامِهِ ، وَتَبْشِيرِهِ بِالرِّضَا الدَّائِمِ ، وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ مَعَ الْخَلَاصِ مِنْ عَذَابِهِ الْأَلِيمِ . فَهَذِهِ فَضَائِلُ بَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ اتَّصَفَ بِأَفْضَلِهَا كَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْبَرِيَّةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَمَعْرِفَةَ صِفَاتِهِ وَلَذَّاتِ رِضَاهُ وَالنَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ أَفْضَلُ مِمَّا عَدَاهُنَّ ، وَأَفْضَلُ الْمَلَائِكَةِ مَنْ قَامَ بِهِ أَفْضَلُ هَذِهِ الصِّفَاتِ ، فَإِنْ تَسَاوَى اثْنَانِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فِي ذَلِكَ لَمْ يُفَضَّلْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَإِنْ فُضِّلَ الْبَشَرُ عَلَى الْمَلَكِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ ، وَإِنْ فُضِّلَ الْمَلَكُ عَلَى الْبَشَرِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ ، وَالْفَضْلُ مُنْحَصِرٌ فِي أَوْصَافِ الْكَمَالِ ، وَالْكَمَالُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْمَعَارِفِ وَالطَّاعَاتِ وَالْأَحْوَالِ . أَمَّا بِالْأَفْرَاحِ وَاللَّذَّاتِ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ إلَى أَجْسَادِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ بِمَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ . وَأَحْسَنُ إلَى أَرْوَاحِهِمْ بِالْمَعَارِفِ الْكَامِلَةِ وَالْأَحْوَالِ الْمُتَوَالِيَةِ ، وَأَذَاقَهُمْ لَذَّةَ النَّظَرِ إلَيْهِ وَسُرُورِ رِضَاهُ عَنْهُمْ وَكَرَامَةِ تَسْلِيمِهِ عَلَيْهِمْ فَمِنْ أَيْنَ لِلْمَلَائِكَةِ مِثْلُ هَذَا ؟

وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَجْسَادَ مَسَاكِنُ الْأَرْوَاحِ وَلِلسَّاكِنِ وَالْمُسْكَنِ أَحْوَالٌ : إحْدَاهَا : أَنْ يَكُونَ السَّاكِنُ أَشْرَفَ مِنْ الْمُسْكَنِ . الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الْمُسْكَنُ أَشْرَفَ مِنْ السَّاكِنِ الثَّالِثُ : يَتَسَاوَيَا فِي الشَّرَفِ فَلَا يُفَضَّلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَإِذَا كَانَ الشَّرَفُ لِلسَّاكِنِ فَلَا مُبَالَاةَ بِخَسَاسَةِ الْمُسْكَنِ ، وَإِذَا كَانَ الشَّرَفُ لِلْمُسْكَنِ فَلَا يَتَشَرَّفُ بِهِ السَّاكِنُ وَالْأَجْسَادُ مَسَاكِنُ الْأَرْوَاحِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّفْضِيلِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْبَشَرِ وَالْمَلَكِ : فَإِنْ فَاضَلَ بَيْنَهُمَا مُفَضِّلٌ مِنْ جِهَةِ تَفَاوُتِ الْأَجْسَادِ الَّتِي هِيَ مَسَاكِنُ الْأَرْوَاحِ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ وَأَشْرَفُ مِنْ أَجْسَادِ الْبَشَرِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ الْأَخْلَاطِ الْمُسْتَقْذَرَةِ ، وَإِنْ فَاضَلَ بَيْنَ أَرْوَاحِ الْبَشَرِ وَأَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ إلَى الْأَجْسَادِ ، فَأَرْوَاحُ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ أَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ ، لِأَنَّهُمْ فُضِّلُوا عَلَيْهِمْ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا الْإِرْسَالُ وَرُسُلُ الْمَلَائِكَةِ قَلِيلٌ ، وَلِأَنَّ رَسُولَ الْمَلَائِكَةِ يَأْتِي إلَى نَبِيٍّ وَاحِدٍ ، وَرَسُولَ الْأُمَمِ يَأْتِي إلَى أُمَمٍ وَإِلَى أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ فَيَهْدِيهِمْ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ تَبْلِيغِهِ ، وَمِثْلُ أَجْرِ كُلِّ مَنْ اهْتَدَى عَلَى يَدَيْهِ ، وَلَيْسَ مِثْلَ هَذَا الْمَلَكُ . الثَّانِي : الْقِيَامُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . الثَّالِثُ : الصَّبْرُ عَلَى الْمَصَائِبِ الدُّنْيَا وَمِحَنِهَا وَاَللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ . الرَّابِعُ : الرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ وَحُلْوِهِ . الْخَامِسُ : نَفْعُ الْعِبَادِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَكَارِهِ ، وَلَيْسَ لِلْمَلَائِكَةِ شَيْءٌ مِثْلُ هَذَا السَّادِسُ : مَا أَعَدَّهُ فِي الْآخِرَةِ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِثْلُ هَذَا لِلْمَلَائِكَةِ . السَّابِعُ : مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ النَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ كَالْأُنْسِ وَالرِّضَا وَالنَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ ، وَلَيْسَ لِلْمَلَائِكَةِ مِثْلُ هَذَا . فَإِنْ قِيلَ الْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ، وَالْأَنْبِيَاءُ يَفْتُرُونَ وَيَنَامُونَ ؟ قُلْت إذَا فَتَرَتْ الْأَنْبِيَاءُ عَنْ التَّسْبِيحِ فَقَدْ يَأْتُونَ فِي حَالِ فُتُورِهِمْ مِنْ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَمِنْ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ التَّسْبِيحِ ، وَالنَّوْمُ مُخْتَصٌّ بِأَجْسَادِهِمْ ، وَقُلُوبُهُمْ مُتَيَقِّظَةٌ غَيْرُ نَائِمَةٍ وَسَيُسَاوُونَهُمْ فِي الْآخِرَةِ فِي إلْهَامِ التَّسْبِيحِ كَمَا يُلْهِمُونَ النَّفْسَ . الْوَجْهُ الثَّامِنُ : وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ عَرَّفَهُ مِنْ أَسْمَاءِ كُلِّ شَيْءٍ وَمَنَافِعِهِ مَا لَا يَعْرِفُونَ . الْوَجْهُ التَّاسِعُ : وَهُوَ أَيْضًا مُخْتَصٌّ بِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَسْجُودَ لَهُ أَفْضَلُ وَأَشْرَفُ مِنْ السَّاجِدِينَ . وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَمَا يُفَضِّلُ الْمَلَائِكَةَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ إلَّا هِجَامٌ يُبْنَى التَّفْضِيلُ عَلَى خَيَالَاتِ تَوَهَّمَهَا ، وَأَوْهَامٌ فَاسِدَةٌ اعْتَمَدَهَا وَلَمْ يَتَقَرَّرْ بِالْخَيَالَاتِ وَالتَّوَهُّمَاتِ مِنْ أُمُورٍ يَعْلَمُ اللَّهُ خِلَافَهَا ، بَلْ قَدْ يَرَى الْإِنْسَانُ اثْنَيْنِ فَيَظُنُّ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَفْضَلُ مِنْ الْآخَرِ ، لِمَا يَرَى مِنْ طَاعَتِهِ الظَّاهِرَةِ ، وَالْآخَرُ أَفْضَلُ مِنْهُ بِدَرَجَاتٍ كَثِيرَةٍ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ ، وَالْقَلِيلُ مِنْ أَعْمَالِ الْأَعْرَفِ خَيْرٌ مِنْ الْكَثِيرِ مِنْ أَعْمَالِ الْعَارِفِ ، وَأَيْنَ الثَّنَاءُ مِنْ الْمُسْتَحْضِرِينَ لِأَوْصَافِ الْجَلَالِ وَتَعَرُّفِ الْكَمَالِ مِنْ ثَنَاءِ الْمُسَبِّحِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ الْغَافِلِينَ بِقُلُوبِهِمْ . لَيْسَ التَّكَحُّلُ فِي الْعَيْنَيْنِ كَالْكُحْلِ لَيْسَ اسْتِجْلَابُ الْأَحْوَالِ بِاسْتِذْكَارِهَا الْمَعَارِفَ كَمَنْ تَحْضُرُهُ الْمَعَارِفُ بِغَيْرِ سَعْيٍ وَلَا اكْتِسَابٍ ، وَلَا عِبْرَةَ بِفَضْلِ أَجْسَادِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى أَجْسَادِ الْأَنْبِيَاءِ ، لِأَنَّ الْأَجْسَادَ مَسَاكِنُ وَلَا شَرَفَ بِالْمَسَاكِنِ ، وَإِنَّمَا الشَّرَفُ بِالْأَوْصَافِ الْقَائِمَةِ بِالسَّاكِنِ ، وَالِاعْتِبَارُ إنَّمَا هُوَ بِالسَّاكِنِينَ دُونَ الْمَسَاكِنِ ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ قَدْ سَكَنُوا بُطُونَ أُمَّهَاتِهِمْ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ أُمَّهَاتِهِمْ . نَفْسُ عِصَامٍ سَوَّدَتْ عِصَامًا فَرُوحُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلُ مِنْ جَسَدِ مَرْيَمَ ، وَكَذَلِكَ رُوحُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلُ مِنْ جَسَدِ أُمِّهِ . وَأَمَّا مَنْ كَفَرَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُؤْمِنَاتِ فَهُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ، وَمَسَاكِنُهُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ ، فَإِذَا حَمَلَتْ مُؤْمِنَةٌ بِكَافِرٍ كَانَ جَسَدُهَا خَيْرًا مِنْ رُوحِهِ ، إذْ قَامَ بِرُوحِهِ أَخَسُّ الصِّفَاتِ وَهُوَ الْكُفْرُ بِرَبِّ الْأَرْضِينَ وَالسَّمَوَاتِ . فَإِنْ قِيلَ أَيْنَ مَحَلُّ الْأَرْوَاحِ مِنْ الْأَجْسَادِ ؟ قُلْنَا فِي كُلِّ جَسَدٍ رُوحَانِ : إحْدَاهُمَا : رُوحُ الْيَقَظَةِ ، وَهِيَ الرُّوحُ الَّتِي أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ فِي الْجَسَدِ كَانَ الْإِنْسَانُ مُسْتَيْقِظًا ، فَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ الْجَسَدِ نَامَ الْإِنْسَانُ وَرَأَتْ تِلْكَ الرُّوحُ الْمَنَامَاتِ إذَا فَارَقَتْ الْجَسَدَ ، فَإِنْ رَأَتْهَا فِي السَّمَوَاتِ صَحَّتْ الرُّؤْيَا فَلَا سَبِيلَ لِلشَّيَاطِينِ إلَى السَّمَوَاتِ ، وَإِنْ رَأَتْهَا دُونَ السَّمَاءِ كَانَ مِنْ إلْقَاءِ الشَّيَاطِينِ وَتَحْرِيفِهِمْ ، فَإِذَا رَجَعَتْ هَذِهِ الرُّوحُ إلَى الْإِنْسَانِ يَسْتَيْقِظُ الْإِنْسَانُ كَمَا كَانَ . الرُّوحُ الثَّانِيَةُ : رُوحُ الْحَيَاةِ وَهِيَ الرُّوحُ الَّتِي أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ فِي الْجَسَدِ كَانَ حَيًّا ، فَإِذَا فَارَقَتْهُ مَاتَ الْجَسَدُ فَإِذَا رَجَعَتْ إلَيْهِ حَيِيَ . وَهَاتَانِ الرُّوحَانِ فِي بَاطِنِ الْإِنْسَانِ لَا يَعْرِفُ بَاطِنَ مُقِرِّهِمَا إلَّا مَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ ، فَهُمَا كَجَنِينَيْنِ فِي بَطْنِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي بَطْنِ الْإِنْسَانِ رُوحٌ ثَالِثَةٌ وَهِيَ رُوحُ الشَّيْطَانِ وَمَقَرُّهَا الصُّدُورُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ } وَجَاءَ فِي [ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّ الْمُتَثَائِبَ إذَا قَالَ هاه هاه ضَحِكَ الشَّيْطَانُ فِي جَوْفِهِ } وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { إنَّ لِلْمَلَكِ لَمَّةٌ وَإِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةٌ } وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ : الَّذِي يُظْهِرُ أَنَّ الرُّوحَ بِقُرْبِ الْقَلْبِ ، وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الرُّوحُ فِي الْقَلْبِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَحْضُرَ الْمَلَكُ فِي بَاطِنِ الْإِنْسَانِ حَيْثُ يَحِلُّ الرُّوحَانِ ، وَيَحْضُرُ الشَّيْطَانُ . وَيَجُوزُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْأَرْوَاحِ أَنْ تَكُونَ جَوْهَرًا فَرْدًا يَقُومُ بِهِ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ الْخَسِيسَةِ وَالنَّفِيسَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ جِسْمًا لَطِيفًا حَيًّا سَمِيعًا بَصِيرًا عَلِيمًا قَدِيرًا مُرِيدًا مُتَكَلِّمًا ، فَتَكُونُ حَيَوَانًا كَامِلًا فِي دَاخِلِ حَيَوَانٍ نَاقِصٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَرْوَاحُ كُلُّهَا نُورَانِيَّةً لَطِيفَةً شَفَّافَةً ، وَيَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ ذَلِكَ بِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةِ ، دُونَ أَرْوَاحِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ . فَإِنْ قِيلَ : إذَا أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَةِ دَحْيَةَ فَأَيْنَ تَكُونُ رُوحُهُ ؟ فِي الْجَسَدِ الَّذِي يَتَشَبَّهُ بِجَسَدِ دَحْيَةَ ، أَمْ فِي الْجَسَدِ الَّذِي خُلِقَ عَلَيْهِ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ ؟ فَإِنْ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْأَعْظَمِ فَمَا الَّذِي أَتَى إلَى الرَّسُولِ جِبْرِيلُ لَا مِنْ جِهَةِ رُوحِهِ وَلَا مِنْ جِهَةِ جَسَدِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْمُشَبَّهِ دِحْيَةُ فَهَلْ يَمُوتُ الْجَسَدُ الَّذِي لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ كَمَا تَمُوتُ الْأَجْسَادُ إذَا فَارَقَتْهَا الْأَرْوَاحُ أَمْ يَبْقَى حَيًّا خَالِيًا مِنْ الرُّوحِ الْمُنْتَقِلَةِ مِنْ الْجَسَدِ الْمُشَبَّهِ بِجَسَدِ دَحْيَةَ ؟ قُلْت : لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ انْتِقَالُهَا مِنْ الْجَسَدِ الْأَوَّلِ غَيْرَ مُوجِبٍ لِمَوْتِهِ ، لِأَنَّ مَوْتَ الْأَجْسَادِ بِمُفَارَقَةِ الْأَرْوَاحِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَقْلًا ، وَإِنَّمَا هُوَ بِعِبَادَةٍ مُطَّرِدَةٍ أَجْرَاهَا اللَّهُ فِي أَرْوَاحِ بَنِي آدَمَ فَيَبْقَى ذَلِكَ الْجَسَدُ حَيًّا لَا يُنْقِصُ مَعَارِفَهُ وَلَا طَاعَتَهُ شَيْءٌ ، وَيَكُونُ انْتِقَالُ رُوحِهِ إلَى الْجَسَدِ الثَّانِي كَانْتِقَالِ أَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ إلَى أَجْوَافِ الطُّيُورِ الْخُضْرِ ، تَأْكُلُ تِلْكَ الطُّيُورِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَتَشْرَبُ مِنْ أَنْهَارِهَا وَتَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : الْأَرْوَاحُ بَاقِيَةٌ فِي الْقُبُورِ ، وَلِذَلِكَ سَلَّمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَنَا بِالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِمْ ، وَقَالَ : { سَلَامٌ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ } وَأَهْلُ الدَّارِ فِي عُرْفِ النَّاسِ مَنْ سَكَنَ الدَّارَ أَوْ كَانَ بِفِنَائِهَا ، وَقَدْ أَمَرَنَا بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَمَرَّ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ : { إنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ فِي الْقُبُورِ دُونَ أَفْنِيَتِهَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ . وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمُؤْمِنِ : { وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَيُمْلَأُ عَلَيْهِ خَضِرًا إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } وَقِيلَ إنَّ الْأَنْبِيَاءَ تُرْفَعُ أَجْسَادُهُمْ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ ، وَزَعَمَتْ طَائِفَةٌ أَنَّ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ بِبِئْرٍ بِالْيَمَنِ وَظَاهِرُ السُّنَّةِ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ بِالتَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَقَالَ : { لَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْت اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْمَوْتَى فِي قُبُورِهِمْ } وَالْأَرْوَاحُ كُلُّهَا تَنْتَقِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى أَجْسَادٍ غَيْرِ أَجْسَادِهَا ، لِأَنَّ ضِرْسَ الْكَافِرِ مِثْلُ أُحُدٍ ، وَغِلَظَ جَسَدِهِ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَمَقْعَدَهُ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ، وَأَجْسَادُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى هَيْئَةِ جَسَدِ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ ( فَمَا الدِّيَارُ الدِّيَارُ وَلَا الْخِيَامُ الْخِيَامُ ) .

( فَائِدَةٌ ) إنْ قِيلَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ النُّبُوَّةُ أَمْ الْإِرْسَالُ ؟ فَنَقُولُ النُّبُوَّةُ أَفْضَلُ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ إخْبَارٌ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ مِنْ صِفَاتِ الْجَمَالِ وَنُعُوتِ الْكَمَالِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِاَللَّهِ مِنْ طَرَفَيْهَا ، وَالْإِرْسَالُ دُونَهَا ، أَمْرٌ بِالْإِبْلَاغِ إلَى الْعِبَادِ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِاَللَّهِ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ وَبِالْعِبَادِ مِنْ الطَّرَفِ الْآخَرِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْ طَرَفَيْهِ أَفْضَلُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ ، وَالنُّبُوَّةُ سَابِقَةٌ عَلَى الْإِرْسَالِ فَإِنَّ قَوْلَ اللَّهِ لِمُوسَى : { إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِهِ : { اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى } فَجَمِيعُ مَا تَحَدَّثَ بِهِ قَبْلَ قَوْلِهِ : اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ نُبُوَّةٌ ، وَمَا أَمَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ التَّبْلِيغِ فَهُوَ إرْسَالٌ . وَالْحَاصِلُ أَنَّ النُّبُوَّةَ رَاجِعَةٌ إلَى التَّعْرِيفِ بِالْإِلَهِ وَبِمَا يَجِبُ لَهُ ، وَالْإِرْسَالَ إلَى أَمْرِ الرَّسُولِ بِأَنْ يُبَلِّغَ عَنْهُ إلَى عِبَادِهِ أَوْ إلَى بَعْضِ عِبَادِهِ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ ، وَكَذَلِكَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَا قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } إلَى قَوْلِهِ : { إلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى } كَانَ هَذَا نُبُوَّةً ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ الرِّسَالَةِ حِينَ جَاءَ جِبْرِيلُ : بِ { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ } .

( فَائِدَةٌ ) : إذَا اسْتَوَى اثْنَانِ فِي حَالِ مِنْ الْأَحْوَالِ فَهُمَا فِي التَّفَضُّلِ سِيَّانِ ، وَإِنْ تَفَاوَتَا فِي ذَلِكَ بِطُولِ الزَّمَانِ وَقِصَرِهِ كَانَ مَنْ طَالَ زَمَانُهُ أَفْضَلَ مِمَّنْ قَصُرَ زَمَانُهُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْحَالِ ، فَإِنْ تَفَاوَتَا فِي الْأَحْوَالِ : فَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ أَشْرَفَ وَأَطْوَلَ زَمَانًا ، فَلَا شَكَّ أَنَّ صَاحِبَهَا أَشْرَفُ وَأَفْضَلُ ، مِثَالُهُ الْخَائِفُ مَعَ الْهَائِبِ ، فَإِنَّ الْهَيْبَةَ أَفْضَلُ مِنْ الْخَوْفِ ، فَإِذَا طَالَ زَمَانُ الْهَيْبَةِ وَقَصُرَ زَمَنُ الْخَوْفِ فَقَدْ فَضَلَتْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ اثْنَيْنِ ، وَإِنْ اسْتَوَى الزَّمَانُ كَانَ الْهَائِبُ أَفْضَلَ وَكَذَلِكَ إنْ قَصُرَ زَمَانُ الْهَيْبَةِ عَنْ زَمَنِ الْخَوْفِ كَانَ الْهَيْبَةُ أَفْضَلَ لِعُلُوِّ رُتْبَتِهَا وَشَرَفِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ وَزْنَ دِينَارٍ مِنْ الْجَوْهَرِ أَفْضَلُ مِنْ الدِّينَارِ ، وَالدِّينَارُ أَفْضَلُ مِنْ الدِّرْهَمَيْنِ وَالْعَشَرَةِ لِشَرَفِ وَصْفِهِ عَلَى وَصْفِ الْفِضَّةِ ، وَالدِّرْهَمُ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ النُّحَاسِ لِشَرَفِ وَصْفِهِ ، وَبِهَذَا الْمِيزَانِ يُعْرَفُ تَفَاوُتُ الرِّجَالِ وَكَذَلِكَ تُعْرَفُ مَرَاتِبُ الطَّائِعِينَ بِمُلَابَسَةِ بَعْضِهِمْ لِأَفْضَلِ الطَّاعَاتِ وَبِمُلَابَسَةِ الْآخَرِينَ لِأَدْنَى الطَّاعَاتِ وَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الطَّاعَاتِ لَمْ يَجُزْ التَّفَضُّلُ فِي بَابِ الطَّاعَاتِ ، وَإِنْ كَثُرَتْ طَاعَاتُ أَحَدِهِمْ وَقَلَّتْ مَعَارِفُ الْآخَرِ وَأَحْوَالُهُ يُقَدَّمُ شَرَفُ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ عَلَى شَرَفِ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { مَا سَبَقَكُمْ أَبُو بَكْرٍ بِصَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ وَلَكِنْ بِأَمْرٍ وَقَرَ فِي صَدْرِهِ } وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا اسْتَعْظَمَ بَعْضُهُمْ طَاعَاتِهِ : { إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَعْلَمَكُمْ بِاَللَّهِ وَأَشَدَّكُمْ لَهُ خَشْيَةً } لِفَضْلِ الْمَعْرِفَةِ وَشِدَّةِ الْخَشْيَةِ عَلَى كَثْرَةِ الْأَعْمَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .


(تم)